موسوعة الشفاء للإعجاز العلمي فى القران والسنه .. بالإضافه الى اخر المقالات المنشوره - الصفحة 74 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3943 - عددالزوار : 386364 )           »          عرش الشيطان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          أسلحة الداعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 66 - عددالزوار : 16164 )           »          لماذا يرفضون تطبيق الشريعة؟! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          واحة الفرقان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 15 - عددالزوار : 3118 )           »          الأيادي البيضاء .. حملة مشبوهة وحلقة جديدة من حلقات علمنة المرأة المسلمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          التوبـة سبيــل الفــلاح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          حقيقة العلاج بالطاقة بين العلم والقرآن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          طرق تساعد على تنمية ذكاء الطفل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 98 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > الملتقى العلمي والثقافي

الملتقى العلمي والثقافي قسم يختص بكل النظريات والدراسات الاعجازية والثقافية والعلمية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #731  
قديم 07-07-2008, 04:17 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

من أسرار الإعجاز البياني في القرآن الذين كفروا بربهم أعمالهم كسراب


بقلم الأستاذ محمد إسماعيل عتوك
باحث لغوي في الإعجاز البياني
للقرآن الكريم ومدرس للغة العربية

﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾(النور:39- 40)
في هاتين الآيتين الكريمتين مثَّل الله تعالى لأعمال الذين كفروا بتمثيلين، شبه أعمالهم في الأول بسراب بقيعة، يحسبه الظمآن ماء، وشبهها في الثاني بظلمات في بحر لجيٍّ. ومناسبتهما لمَا قبلهما أن الله تعالى ذكر- فيما تقدَّم من آيات- حال المؤمنين الذين نوَّر قلوبهم وعقولهم بنوره، الذي تجلَّى في السموات والأرض، وتبلور في بيوته، التي أذن أن ترفع، ويذكر فيها اسمه، فعبدوا ربهم مخلصين له الدين، وعمَروا بيوته بالذكر والتسبيح، لا يشغلهم عن إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة شاغل، ولا يصرفهم عن ذلك صارف، يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار، فلا تثبت على شيء من الهول والكرب والاضطراب، يعلقون رجاءهم بثواب الله، الذي وعدهم. ويحقق الله تعالى وعده، فيجزيهم ثواب أعمالهم مضاعفًا، ويزيدهم من فضله ما لم يكن يخطر لهم ببال؛ وذلك قوله تعالى:﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ *رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ *لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَاب (النور:36-38).
وفي مقابل ذلك ذكرالله تعالىحال الكافرين، الذين أعرضوا عن نوره سبحانه، وأغلقوا دونه بصائرهم وأبصارهم، وآثروا الظلمة على النور، والضلال على الهدى، فمثَّل لهم ولأعمالهم بهذين التمثيلين الحافلين بالحياة والحركة. يقتضي الأول منهما أن أعمالهم، التي يحسبونها نافعة لهم في آخرتهم؛ إنما هي أعمال باطلة مخيبة لهم في العاقبة، ومهلكة لهم، ولا يجيئهم منها إلا البلاء وسوء المنقلب. ويقتضي الثاني منهما حالها في الدنيا من أنها في الغاية من الضلال والغمة، التي مآلها ما ذكر من تناهي الظلمات في قوله:﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ ﴾.
1- أما التمثيل الأول فهو قوله تعالى:﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾(النور:39).
وهو تمثيل يصوِّر أعمال الذين كفروا في بطلانها، وعدم انتفاع أصحابها بها، حينما يكونون في أشد الحاجة إلى ذلك النفع، بصورة سراب بقيعة، يحسبه الظمآن ماء، فيتعلق به قلبه، ويسعى إليه حثيثًا لاهثًا. وكلما بلغ به سعيه مرحلة، وجده يتحرك أمامه، ويفلت من بين يديه.. وهكذا إلى أن تتقطع أنفاسه، وتخور قواه. وبعد هذا الجهد المتواصل، والمعاناة الشاقة يصل إلى حيث كان يخيل إليه أنه ماء، فلم يجده شيئًا؛ فتتضاعف لذلك حسرته، ويشتد يأسه وقنوطه، وتغلي مراجل غيظه وظمئه. وليس هذا وحسب؛ بل إنه يجد نفسه فجأة أمام هول رهيب، يمسك بتلابيبه، ويقوده إلى حتفه وهلاكه. كذلك الكافر يحسب أن أعماله في دنياه نافعةً له في آخرته، فإذا كان يوم القيامة، وقدم على ربه، لا يجد لها أثرًا من ثواب، أو تخفيف عذاب.
وقوله تعالى:﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَاب بِقِيعَةٍ ﴾ ظاهره العموم، فيندرج فيه عبدة الأصنام من الأمم السابقة والأمم اللاحقة، وأهل الكتاب من النصارى الذين عبدوا المسيح، واليهود الذين عبدوا عُزَيْرًا، واتخذوا أحبارهم أربابًا من دون الله تعالى، والمجوس الذين عبدوا النار، والمانَوِيَّة الذين عبدوا النور.. وغيرهم. وهو جملة استئنافية، والموصول وصلته مبتدأ، خبره جملة ﴿ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَاب ﴾ من المشبه والمشبه به.
وكان نظم الكلام يقتضي أن يقال:﴿وَأَعْمَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا أ كَسَرَاب بِقِيعَةٍ . ولو قيل ذلك، لكان بليغًا، لما فيه من الإيجاز.. ولكن تعبير القرآن أبلغ؛ لأن الحكم على هذه الأعمال بأنها باطلة فاسدة، ليس لكونها كذلك في ذاتها؛ ولكن لكونها أعمال أولئك الذين كفروا.. فلا شيء يبطل العمل، ويجعله فاسدًا عديم النفع مثل الكفر، ولا شيء يبقي عليه، ويجعله مثمرًا نافعًا مثل الإيمان، وهذا ما يشير إليه تعالى بقوله:﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ *وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ *ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ﴾(محمد:1-3).
وقوله تعالى:﴿أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾. أي: جعلها ضالة. أي: ضائعة محبطة بالكفر، لا ثواب لها، ولا جزاء. ونظير ذلك قوله تعالى:﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ *ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴾(محمد:8- 9).أي: لأجل ذلك أحبط الله تعالى أعمالهم، التي لو كانوا عملوها مع الإيمان، لأثابهم عليها.
وعليه تكون الحالة المشبهة، وهي:﴿ أَعْمَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾،مركَّبة من محسوس ومعقول، والحالة المشبه بها، وهي:﴿سَرَابٌ بِقِيعَةٍ ﴾، حالة محسوسة. أي داخلة تحت إدراك الحواس.
والسراب: ظاهرة ضوئية سببُها انعكاس الشعاع من الأرض عندما تشتد حرارة الشمس، فيظنه الإنسان ماء يجري ويتلألأ على وجه الأرض. واشترط الفرَّاء فيه اللصوقَ بالأرض. وقيل: هو ما ترقرق من الهواء في الهجير في فيافي الأرض المنبسطة، وأوهم الناظر إليه على البعد أنه ماء سارب. أي: جار. وسُمِّيَ بذلك؛ لأنه ينسرب كالماء في مرأى العين، وما هو إلا وَهْمٌ، لا حقيقة له. ولهذا قيل: السراب فيما لا حقيقة له؛ كالشراب فيما له حقيقة. قال الشاعر:
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم *** كلمع سراب في الفلا متألق
وقوله تعالى:﴿أَعْمَالُهُمْ كَسَرَاب ﴾بالتنكير، ينبىء عن سراب ضئيل تافه، بخلاف ما لو جيء به معرَّفًا. ووراء ذلك ما وراءه من تعلق نفس الظمآن بالأمل، ولو كان ضعيفًا تافهًا. واستعمال الكاف، دون غيرها من أدوات التشبيه، يجعل هذه الأعمال- في حقيقتها وصورتها- في مرتبة أدنى من مرتبة السراب- في حقيقته وصورته- ووراء ذلك ما وراءه من إزراء لها، واستخفاف بأصحابها؛ ونحو ذلك تشبيه أعمال مثل الذين كفروا بربهم بالرماد في قوله تعالى:
﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ ﴾(إبراهيم 18).
وصورة السراب، الذي يحسبه الظمآن ماء، وإن كانت تشترك في الموضع مع صورة الرماد، الذي تعصف به الريح في المثل السابق، إلا أنها تختلف عنها اختلافًا دقيقًا ومهمًّا؛ وذلك في المغزى، ولب الغرض، وبيان ذلك:
أن صورة السراب تهتم بتصوير اللهفة، والحاجة الماسَّة إلى الانتفاع بهذه الأعمال، ثم الخيبة والمفاجأة بخديعة الأمل، وأنه ما كان إلا وهمًا؛ ولهذا كانت عناصرها: الظمآن، والسراب. وهذان اللفظان هما- كما ترى- لهما دلالة قوية على هذا المغزى؛ بل إن لفظ السراب يكاد يكون رمزًا حيَّا في هذا الباب.
أما صورة الرماد فإنها تهتم ببيان عدم النفع لهذه الأعمال، وأنها تصير بددًا، من غير أن تركز على معنى اللهفة والتعلق، الذي ركزت عليه صورة السراب؛ ولهذا كانت عناصرها: الرماد، والريح، واليوم العاصف. وكلها- كما ترى- تؤكد معنى الضياع، الذي يعقبه الهلاك، إضافة إلى ما ينطوي عليه لفظ الرماد من معنى الاحتراق، والخفة، وقلة الشأن.
أما القيعة فهي الأرض القفر المستوية، التي لا تنبت الشجر. وقيل: هي جمع قاع، وقيعان؛ كجيرة وجار وجيران. وقيل: القيعة مفرد؛ وهو بمعنى القاع..ولما كان السراب هو ما ترقرق من الهواء في الهجير في فيافي الأرض المنبسطة؛ وكأنه ملتصق بها، جيء بالباء الدالة على الإلصاق في قوله تعالى:﴿بقيعة ﴾ للتعبير عن هذا المعنى. ولو قيل: كسراب في قيعة، لدل ذلك على أن القيعة كالظرف للسراب، وأن السراب داخل القيعة، وهو ليس كذلك؛ ولهذا اشترط الفرَّاء في السراب أن يكون ملتصقًا بالأرض.
وفي قوله تعالى:﴿ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء ﴾ إشارة إلى خداع النفس بعد خداع البصر بهذا السراب؛ فإن لهفة الظمآن، وحرارة شوقه إلى الماء تغطي على عقله، فيحسب السراب ماء. مثله في ذلك مثل الخائف المذعور في سواد الليل ووحشته، يمثِّل له الوهم أشباحًا تطلع عليه من كل أفق، تريد الانقضاض عليه، والفتك به. ولهذا اختار سبحانه للتعبير عن هذا المعنى﴿ يَحْسَبُهُ ﴾، دون{ يظنُّه }. وجيء به على صيغة المضارع؛ ليفيد معنى التجدُّد والاستمرار.
ويظهر لنا سر اختيار الفعل{ يحسَب }، دون الفعل{يظن }، إذا علمنا هذا الفرق الدقيق بينهما في المعنى؛ وهو: أنَّ يحسِب من الحِسبان بكسر الحاء. والحِسبانُ هو أن يحكم الحاسِبُ لأحد النقيضين من غير أن يخطر الآخر بباله، فيحسِبه ويعقد عليه الأصبع، ويكون بعَرَض أن يعتريه فيه شك. أما يظنُّ فهو من الظنِّ. والظنُّ هو أن يخطر النقيضان ببال الظانِّ، فيُغلِّب أحدهما على الآخر.
وهذا الظمآن عندما رأى السراب حَسِبَه ماء، ولم يخطر بباله أبدًا أنه نقيض الماء، فعقد عليه العزم، وراح يلهث وراءه. لقد خدعه هذا السراب الكاذب؛ كما خدع أولئك الذين كفروا أعمالهم الباطلة، فرأَوْها حسنة، وحسِبوها نافعة، وكان ذلك سبب شقائهم وضلالهم وضياعهم. والله تعالى يقول:﴿ أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ﴾.
ولو قيل:{ يحسَبه الرائي ماء }، بدلاً من قوله تعالى:﴿ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء ﴾، ثم يظهر أنه على خلاف ما قدَّر، لكان بليغًا؛ ولكن أبلغ منه لفظ القرآن؛ لأن الظمآن أشد حرصًا على الماء، من الرائي، وقلبُه أكثرُ تعلقًا به منه.. ثم إن لفظ الظمآن بما ينطوي عليه من معنى المبالغة، وبما يوحي به من معنى اللهفة والتحرُّق وشدة الحاجة، ثم شدة الإعياء والخيبة، يكسب الصورة ثراء وخصوبة، ويعطيها بعدًا وعمقًا، يجعلها أقدر على التعبير والإيحاء.
وقوله تعالى:﴿ حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ﴾ يعني: حتى إذا جاء الظمآن ما حسِبه ماء- وهو السراب- وعلَّق به رجاءه، لم يجده شيئًا أصلاً، لا محققًا، ولا متوهَّمًا؛ كما كان يراه قبل المجيء. وهو جملة شرطيَّة مؤلفة من عبارتين: الأولى شرطية:﴿ حَتَّى إِذَا جَاءهُ ﴾. والثانية جوابية:﴿ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ﴾. أما العبارة الشرطية فقد أشارت بدخول﴿ حَتَّى ﴾على﴿ إِذَا ﴾إلى نهاية رحلة شاقة، ومعاناة طويلة، أجهده فيها الظمأ، وحفزه إليها الأمل، وأفادت باستعمال﴿إِذَا ﴾أن الشرط قد تحقق في نهاية هذه الرحلة.
وأما العبارة الجوابية فقد جيء فيها بلفظ ﴿ شَيْئاً ﴾مفعولاً به ثانيًا لقوله:﴿لَمْ يَجِدْهُ ﴾؛ ليفيد معنى العدم. وكان يمكن أن يقال:{ لم يجده ماء }؛ ولكن لفظ﴿شَيْئاً ﴾ جعله عدمًا محضًا. فتأمل هذا الشرط الذي ربط هذا العدم المحض بذلك السعي الدءوب، وهذا هو الخسران المبين!وصدق الله سبحانه؛ إذ يقول:
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا*الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا*أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا*ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا ﴾ (الكهف:103-105)
تأمل بعد ذلك هذه الهاء في قوله تعالى:﴿ لَمْ يَجِدْهُ ﴾، وكان يمكن أن يقال:{لم يجد شيئًا }؛ ولكن ذكر الهاء نصَّ على الأمل المنشود، وصيَّره عدمًا، وفي ذلك إبراز للمغزى، وخيبة الأمل. وشيء آخر في ذكر هذه الهاء، وهو تهيئة الكلام لما بعده؛ لأنه لو قيل:{حتى إذا جاءه، لم يجد شيئًا }، لكان ذلك متناقضًا مع قوله:﴿ وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ ﴾.
ثم إن قوله تعالى:﴿ حَتَّى إِذَا جَاءهُ ﴾يدلُّ على شىء موجود، واقع عليه المجيء، وأن قوله تعالى:﴿لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ﴾مناقض له؛ لأنه يدلُّ على عدم وجود شىء، يقع عليه المجيء. وقد أجيب عن ذلك بأجوبة أظهرها قول من قال: إن السراب يرى من بعيد بسبب الكثافة كأنه ضباب وهباء، وإذا اقترب منه الرائي، رقَّ وانتثر وصار كالهواء.
أما قوله تعالى:﴿ وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ﴾فالمراد به: أنه وجد مقدور الله تعالى عليه من هلاك بالظمأ عند موضع السراب، فأعطاه ما كتب له من ذلك وافيًا كاملاً؛ وهو المحسوب له. وقيل: وجد الله بالمرصاد فوفَّاه حسابه. أي: جزاء عمله. قال امرؤ القيس:
فولى مدبرًا يهوي حثيثًا *** وأيقن أنه لاقى حسابا
وقيل: وجد وعد الله بالجزاء على عمله. وقيل: وجد أمر الله عنده حشره. والمعنى متقارب.
﴿ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾. أي: معجَّل حسابه، لا يؤخره عن أحد؛ وذلك لأنه سبحانه عالم بجميع المعلومات، فلا يشقُّ عليه الحساب. وقال بعض المتكلمين: معناه: لا يشغله محاسبة واحد عن آخر؛ كنحن. ولو كان يتكلم بآلة- كما يقول المشبهة- لما صح ذلك.. وبذلك يكون الكلام مطابقًا للذين كفروا وأعمالهم، من حيث إنهم حسبوها نافعة لهم، فلم تنفعهم، وحصل لهم الهلاك بإثر ما حوسبوا.
2- وأما التمثيل الثاني فهو قوله تعالى:﴿ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾(النور:39).
وهو تمثيل آخر يصوِّر أعمال الذين كفروا في الدنيا من حيث خلوها عن نور الحق بصورة ظلمات متراكبة من لجج البحر والأمواج والسحاب، بعد أن صُوِّرت في التمثيل الأول بصورة السراب الخادع.
وقيل في الفرق بين التمثيلين: أن التمثيل الأول فيما يؤول إليه أعمالهم في الآخرة، وهذا التمثيل فيما هم عليه في حال الدنيا. قال أبو حيان في البحر:”وبدأ بالتشبيه الأول؛ لأنه آكد في الإخبار، لما فيه من ذكر ما يؤول إليه أمرهم من العقاب الدائم، والعذاب السرمدي، ثم أتبعه بهذا التمثيل، الذي نبَّهَهم على ما هي أعمالهم عليه؛ لعلهم يرجعون إلى الإيمان، ويفكرون في نور الله، الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم“.
والظاهر أن التشبيه في التمثيلين لأعمالهم. وزعم الجرجاني أن الآية الأولى في ذكر أعمالهم، والثانية في ذكر كفرهم. ونسق الكفر على أعمالهم؛ لأن الكفر أيضًا من أعمالهم. ودليل ذلك قوله تعالى:﴿ اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ ﴾(البقرة:257). أي: يخرجهم من الكفر إلى الإيمان.
وقال أبو علي الفارسي: التقدير: أو كذي ظلمات. قال: ودل على هذا المضاف قوله تعالى:﴿إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ ﴾؛ فالكناية تعود إلى المضاف المحذوف. فالتشبيه وقع عند الجرجاني لكفر الكافر، وعند أبي علي للكافر، لا للأعمال. وكلاهما خلاف الظاهر.
أما﴿ أَوْ ﴾ فقيل: هي للتخيير؛ فإن أعمالهم لكونها لاغية، لا منفعة لها كالسراب، ولكونها خالية عن نور الحق كالظلمات المتراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب. وقيل: هي للتنويع؛ فإن أعمالهم إن كانت حسنة فهي كالسراب، وإن كانت قبيحة فهي كالظلمات. وقيل: هي للتقسيم باعتبار وقتين؛ فإنها كالظلمات في الدنيا، وكالسراب في الآخرة. وقيل: هي للإباحة، على تقدير: إن شئت مثل بالسراب، وإن شئت مثل بالظلمات.
واختار الكرماني كون ﴿ أَوْ ﴾للتخيير، على تقدير: شبه أعمال الكفار بأيهما شئت. واختار أبو السعود كونها للتنويع، على تقدير: إِثْرَ ما مثِّلت أعمالهم، التي كانوا يعتمدون عليها أقوى اعتماد، ويفتخرون بها في كل واد وناد، بما ذكر من حال السراب مع زيادة حساب وعقاب، مثِّلت أعمالهم القبيحة، التي ليس فيها شائبة خيرية، يغتر بها المغترون، بظلمات كائنة في بحر لجي.
واختار ابن عاشور كونها للتخيير؛ لأن شأن ﴿ أَوْ ﴾- كما قال- إذا جاءت في عطف التشبيهات أن تدل على تخيير السامع أن يشبه بما قبلها، وبما بعدها. واختار طنطاوي كونها للتقسيم.
و﴿ أَوْ ﴾- عند أهل التحقيق من علماء اللغة-موضوعة لأحد الشيئين المذكورين معها. فدل وجودها عاطفة بين التمثيلين على أن أعمال الذين كفروا كسراب، أو كظلمات. فإنها لا تخلو من أحد المثلين.أما ما ذكروه من دلالتها على الإباحة، أو التخيير، أو التنويع، أو التقسيم، فإن ذلك يستفاد من السياق، لا من﴿ أَوْ ﴾نفسها.
والظاهر أنه عطِف بـ﴿ أَوْ ﴾هنا؛ لأنه قُصِد التنويع. ويفهم من السياق في المثلين أن التنويع ليس لتنوع الأعمال؛ وإنما هو لتنوع الأحوال الداعية إلى تشبيهها مرة بالسراب الكاذب، ومرة أخرى بالظلمات الكثيفة. حكى الشوكاني في(فتح القدير) عن الزجاج قوله:أعلَمَ الله سبحانه أن أعمال الكفار، إن مثلت بما يُوجَد، فمثلها كمثل السراب، وإن مثلت بما يُرَى، فهي كهذه الظلمات التي وصف .
أما تشبيهها بالسراب فيكون لمن سكن الجزيرة العربية، أو جاورها. وفي هذا التشبيه يتجلىسطح الصحراء العربية المنبسط، والخداع الوهمي للسراب.. ذلك الخداع، الذي لا يدركه إلا أبناء البيئة الصحراوية.
وأما تشبيهها بالظلمات الكثيفة فيكون لمن لا يعرف شيئًا عن البيئة الصحراوية وأسرارها؛ لأنه يترجم- على عكس الأول- عن صورة، لا علاقة لهابالوسط الجغرافي للقرآن الكريم؛ بل لا علاقة لها بالمستوى العقلي، أو المعارف البحرية في العصر الجاهلي؛ وإنما هي في مجموعها منتزعة من بعض البلدان الشمالية التي يغشاها الضباب الكثيف، وتحيط بها مياه البحار والمحيطات من كل جانب. هذا ما يشير إليه تشبيه الأعمال بالظلمات الكثيفة في أعماق البحار نتيجة لتراكب الأمواج والسحاب. وذلك يستلزم من القائل أن يكون على معرفة علمية بالظواهر الخاصة بقاع البحار، وهي معرفة، لم تُتَحْ للبشرية، إلا بعد معرفة جغرافية المحيطات، ودراسة البصريات الطبيعية.
يتبــــــــــــــــــــــع
  #732  
قديم 07-07-2008, 04:20 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبـــع موضوع ..... من أسرار الإعجاز البياني في القرآن الذين كفروا بربهم أعمالهم كسراب






وغني عن البيان أن نقول: إن العصر القرآني كان يجهل كلية تراكب الأمواج، وظاهرة امتصاص الضوء، واختفائه على عمق معين في الماء. وعلى ذلك فما كان لنا أن ننسب هذا القول إلى عبقرية صنعتها الصحراء، ولا إلى ذات إنسانية صاغتها بيئة قاريَّة؛ كالتي عاش فيها محمد عليه الصلاة والسلام.. وهذا إعجاز جاء به القرآن الكريم إلى جانب إعجازاته الكثيرة.
﴿ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ﴾
و﴿بَحْرٍ لُّجِّيٍّ ﴾منسوب إلى اللجَُّّة؛ وهو الذي لا يكاد يدرك قعره. ولُجَّة البحر: تردُّد أمواجه. قال تعالى:﴿قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً ﴾(النمل:44).والجمع: لجج.تقول العرب‏: إلتجَّ البحر‏. أي‏:‏ تلاطمت أمواجه.‏
و﴿يَغْشَاهُ مَوْجٌ ﴾. أي: يستره ويغطيه. قال تعالى:﴿وإذا غشيهم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾(لقمان:32). أي: علاهم موج كالجبال. ومثله قوله تعالى:﴿فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ﴾(طه:78). والموج في البحر ما يعلو من غوارب الماء.
و﴿مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ﴾. أي: من فوق ذلك الموج، الذي يغشى البحر اللجي موج آخر، ومن فوق هذا الموج الآخر سحاب. والسحاب هو الغيم، كان فيه ماء، أو لم يكن. ولهذا يقال: سحاب جَهَامٌ. أي: لا ما فيه. ويقال عكسه: سحاب ثِقال. قال تعالى:﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ﴾(الرعد:12).أي: المحمل بالمطر. وقد يذكَّر لفظه، ويراد به الظلُّ والظلمة؛ كما في هذه الآية:﴿ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ﴾.
وقرأ جمهور السبعة:﴿سَحَابٌ ﴾، بالرفع والتنوين، و﴿ظُلُمَاتٌ ﴾، بالرفع على معنى: هي ظلماتٌ. وقرأ ابن كثير في رواية قنبل:﴿سَحَابٌ ﴾، بالرفع والتنوين، و﴿ظُلُمَاتٍ﴾، بالخفض على البدل من﴿ظُلُمَاتٍ ﴾ الأولى. وقرأ ابن محيصن والبزي:﴿سَحَابُ ظُلُمَاتٍ ﴾، بإضافة سحاب إلى ظلمات. ووجه الإضافة أن السحاب يرتفع وقت هذه الظلمات، فأضيف إليها لهذه الملابسة.
ويرى العلماء أن أسباب وجود هذه الظلمات في البحار اللجيَّة ترجع في الحقيقة إلى سببين رئيسين:
أما السبب الأول فهو العمق. فإن الجزء المرئي من أشعة الشمس، الذي ينفذ إلى كتل الماء في البحار والمحيطات،يتعرض لعمليات كثيرة من الانكسار‏,‏ والتحلل إلى الأطياف المختلفة، والامتصاص بواسطة كل من جزيئات الماء‏,‏ وجزيئات الأملاح المذابة فيه‏,‏ وبواسطة المواد الصلبة العالقة به‏,‏ وبما يحيا فيه من مختلف صور الأحياء‏,‏ وبما تفرزه تلك الأحياء من مواد عضوية‏؛ ولذلك يضعف الضوء المار في الماء بالتدريج مع العمق‏.‏
والطيف الأحمر هو أول ما يمتص من أطياف الضوء الأبيض. ويتم امتصاصه بالكامل على عمق، لا يكاد يتجاوز العشرين مترًا‏.‏فلو أن غواصًا جرح، وهو يغوص في ماء البحر، فإن الدم، الذي يخرج منه يكون أسودًا؛ لأن اللون الأحمر ينعدم تمامًا، ويصبح هناك ظلمة اللون الأحمر.ويليه الطيف البرتقالي، الذي يتم امتصاصه على عمق ثلاثين مترًا. ثم يليه الطيف الأصفر، الذي يتم امتصاصه زرق اللون، لتشتت هذا الطيف من أطياف الضوء الأبيض في المائتي متر العليا من تلك الكتل المائية‏.‏
وبذلك فإن معظم موجات الضوء المرئي تمتص على عمق مائة متر تقريبًا من مستوي سطح الماء في البحار والمحيطات‏,‏ ويستمر1% منها إلى عمق‏ مائة وخمسين مترًا‏,‏ و‏0,01%‏ إلى عمق‏ مائتيْ مترٍ في الماء الصافي الخالي من العوالق‏.‏
وعلى الرغم من السرعة الفائقة للضوء,‏ فإنه لا يستطيع أن يستمر في ماء البحار والمحيطات لعمق يزيد على الألف متر‏,‏ فبعد مائتي متر من أسطح تلك الأوساط المائية يبدأ الإظلام شبه الكامل؛ حيث لا ينفذ بعد هذا العمق سوى أقل من‏0,01%‏ من ضوء الشمس‏,‏ ويظل هذا القدر الضئيل من الضوء المرئي يتعرض للانكسار والتشتت والامتصاص حتى يتلاشى تمامًا على عمق، لا يكاد يصل إلي كيلومتر واحد تحت مستوى سطح البحر‏؛‏ حيث لا يبقى من أشعة الشمس الساقطة على ذلك السطح سوى واحد من عشرة تريليون جزء منها‏.‏ ثم تغرق أعماق تلك البحار والمحيطات بعد ذلك في ظلام دامس‏.‏
وأما السبب الثاني فهو الحواجز من الموج الداخلي، والموج الخارجي، والسحاب. فهذه كلها حواجز، تمنع مرور الشعاع الضوئي إلى الأسفل.
والموج الداخلي هو الذي يعلو البحر اللجِّي ويغطيه، ويعكس معظم ما بقي من الأشعة الشمسيةالساقطة على أسطح البحار والمحيطات‏,‏ ويحول دون الوصول إلى أعماقها. وبذلك يكون السبب الرئيس في إحداث الإظلام التام فوق قيعان البحار اللجية.ويتكون هذا الموج الداخلي عند الحدود الفاصلة بين كل كتلتين مائيتين مختلفتين في الكثافة‏. ويبدأ تكونه على عمق أربعين مترًا تقريبًا من مستوى سطح الماء في المحيطات؛ حيث تبدأ صفات الماء فجأة في التغير من حيث كثافتها ودرجة حرارتها‏,‏ وقد تتكرر على أعماق أخرى، كلما تكرر التباين بين كتل الماء في الكثافة‏.‏
ومن فوق هذا الموج الداخلي موج آخر، يسمَّى بالموج السطحي، الذي يعدُّ أحد العوائق أمام مرور الأشعة الشمسية. وبذلك يعد أحد الأسباب في إحداث ظلمة تلك الأعماق‏,‏ بالإضافة إلى تحلل تلك الأشعة إلي أطيافها، وامتصاصها بالتدريج في الماء‏.‏
ومن فوق هذا الموج السطحي يأتي السحاب، الذي يمتص حوالي‏ تسعة عشر جزءًا بالمائة من الأشعة الشمسية المارة من خلاله. ويحجب بالانعكاس والتشتيت نحو‏ ثلاثين جزءًا بالمائة منها‏‏,‏ فيحدث قدرًا من الظلمة النسبية، التي تحتاجها الحياة على سطح الأرض‏.‏وبذلك تجتمع ظلمة الموج الداخلي، وظلمة الموج السطحي، وظلمة السحاب مع ظلمات الأطياف السبعة، التي يحدثها امتصاص الماء لتلك الأطياف.
والله سبحانه عندما يصف هذه الظلمات، ينسبها إلى عمق البحر اللجي:﴿كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ﴾.
ثم يقول سبحانه:﴿ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ﴾؛ وكأنه يقول لنا: هذه الظلمات الكثيفة المتراكبة سببها الأعماق، وسببها الحواجز. ومن المعروف أنلفظ﴿ ظُلُمَاتٌ ﴾من جموع القلة. وجمع القلة من ثلاثة إلى عشرة. فأنت تقول: ظلمة، وظلمتان، وثلاث ظلمات إلى عشر ظلمات. والظلمات التي تتحدث عنها الآية الكريمة هي عشر ظلمات: سبع منها للألوان، وثلاث للحواجز(الأمواج الداخلية، والأمواج السطحية، والسحاب).
ثم عقب سبحانه على ذلك بقوله:﴿ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ﴾مبالغة في بيان شدة هذه الظلمات. والمعنى: إذا أخرج من ابتليَ بهذه الظلمات يده من كمِّه، لم يكد يراها. وجاز إضمار الفاعل- هنا- من غير أن يتقدم ذكره، لدلالة المعنى عليه دلالة واضحة.وكذا تقدير ضمير يرجع إلى ظلمات. واحتيج إليه؛ لأن الجملة في موضع الصفة لظلمات، ولا بد لها من رابط. وقيل: ضمير الفاعل عائد على اسم الفاعل المفهوم من الفعل. أي: إذا أخرج المخرج فيها يده، لم يكد يراها.
واختلف علماء اللغة والتفسير في قوله تعالى:﴿لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ﴾؛ هل يقتضي أن هذا الرجل المقدر في هذه الأحوال، إذا أخرج يده من كمِّه، لم يرها البتة. أو رآها بعد عسر وشدة ؟ فقالت فرقة: لم يرها البتة؛ وذلك أن { كاد } معناها: قارب؛ فكأنه قال:﴿ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ ﴾، لم يقارب رؤيتها. وهذا يقتضي نفي الرؤية جملة. وقالت فرقة: بل رآها بعد عسر وشدة، وكاد أن لا يراها. ووجه ذلك: أن { كاد }، إذا صحبها حرف النفي، وجب الفعل الذي بعدها. وإذا لم يصحبها، انتفى ذلك الفعل.
وهذا القول يكون لازمًا، إذا كان حرف النفي بعد { كاد } داخلاً على الفعل، الذي بعدها. تقول: كاد زيد يقوم، فالقيام منفي. فإذا قلت: كاد زيد أن لا يقوم، فالقيام واجب واقع. وتقول: كاد النعام يطير. فهذا يقتضي نفي الطيران عنه. فإذا قلت: كاد النعام أن لا يطير، وجب الطيران له.
أما إذا كان حرف النفي مع { كاد }، فالأمر محتمل، مرة يوجب الفعل، ومرة ينفيه. تقول: المريض لا يكاد يسكن. فهذا كلام صحيح، تضمن نفي السكون. وتقول: رجل متكلم لا يكاد يسكن. فهذا كلام صحيح، يتضمن إيجاب السكون بعد جهد. ويشهد لذلك قوله تعالى:﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ﴾(الزخرف:52). أي: لا يكاد يظهر كلامه للثغته بالجمرة. التي تناولها في صغره.وقول تأبط شرًّا:
فأُبْتُ إلى فَهْمٍ، وما كِدْتُ آيِبًا *** وكم مثلها فارقتها وهي تصفر
يقول: رجعت إلى قبيلتي فَهْمٍ، وكدت لا أرجع؛ لأنني شافهت التلَفَ.
ومما يحمل على الاحتمالين قوله تعالى:﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ﴾(البقرة:71). أي: وما كادوا يذبحون. فكنَّى عن الذبح بالفعل؛ لأن الفعل يكنَى به عن كل فعل. والنفي مع { كاد }- هنا- يتضمن وجوب الذبح بعد جهد، ويتضمن نفيه البتة. وبيان ذلك أن جملة:﴿وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ﴾تحتمل الحال والاستئناف. والأول أظهر إشارة إلى أن مماطلتهم قارنت أول أزمنة الذبح.. وعلى الاستئناف يصح اختلاف الزمنين: زمان نفي المقاربة، وزمان الذبح؛ إذ المعنى: وما قاربوا ذبحها قبل ذلك. أي: وقع الذبح بعد أن نفى مقاربته. فالمعنى: أنهم تعسروا في ذبحها، ثم ذبحوها بعد ذلك. قيل: والسبب الذي لأجله ما كادوا يذبحون هو: إمَّا غلاء ثمنها، وإمَّا خوف فضيحة القاتل، وإمَّا قلة انقياد وتعنت على الأنبياء- عليهم السلام- على ما عهد منهم.
ونحو ذلك قوله تعالى في هذه الآية:﴿لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ﴾،فإنه نفيٌ مع ﴿ يَكَدْ ﴾يتضمن- في أحد التأويلين- نفي الرؤية. ويتضمن- في الاحتمال الآخر وجوب الرؤية بعد عسر وشدة؛ فإن الكائن في ظلمات البحر اللجي،التي ما زال فيها شيء من ضوء، لا يرى يده إلا بصعوبة. لكن إذا غاص إلى الأعماق، التي تغرق في الظلام الشديد، ومد يده أمام عينيه، فإنه لا يراها أبداً. ولهذا، ونحوه قال سيبويه رحمه الله: إن أفعال المقاربة لها نحو آخر. بمعنى: أنها دقيقة التصرف. أما قول ابن الأنباري وغيره ممن اعتقد زيادة ﴿ يَكَدْ ﴾، وأن المعنى: لم يرها، فليس بصحيح.
ثم يختم الله تبارك وتعالى الآية الكريمةبهذه الحقيقة المعنوية الكبرى، فيقول سبحانه:﴿ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ﴾.ثم تفاجئنا البحوث العلمية أخيرًا بواقع مادي ملموس لهذه الحقيقة المعنوية‏,‏ فقد كان العلماء إلى عهد قريب جدًا لا يتصورون إمكانية وجود حياة في أغوار المحيطات العميقة‏,‏ للظلمة التامة فيها‏,‏ وللبرودة الشديدة لمائها‏,‏ وللضغوط الهائلة الواقعة عليها، وللملوحة المرتفعة أحيانا لذلك الماء‏؛ ولكن بعد تطوير غوَّاصات خاصة لدراسة تلك الأعماق، فوجيء دارسو الأحياء البحرية بوجود بلايين الكائنات الحيَّة، التي تنتشر في تلك الظلمة الحالكة، وقد زودها خالقها بوسائل إنارة ذاتية في صميم بنائها الجسدي تعرف باسم الإنارة الحيوية.‏
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا‏:‏ من غير الله الخالق يمكنه أن يعطي كل نوع من أنواع تلك الأحياء البحرية العميقة‏,‏ هذا النور الذاتي؟ وهنا يتضح البعد المادي الملموس لهذا النص القرآني المعجز‏,‏ كما يتضح بعده المعنوي الرفيع‏:‏﴿ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ﴾.
فمن لم ينوِّر الله تعالى قلبه بنوره، الذي أضاء الوجود كله، ويهديه إليه، فهو باق في ظلمات الجهل والغيِّ والضلال، لا يهتدي أبدًا. وكيف يهتدي، وهو لا يملك شيئًا من النور، الذي هو سبب الهداية ؟
ولتأكيد هذا المعنى جيء بعد﴿مَا ﴾النافية بـ﴿ مِن ﴾، التي يدل وجودها على استغراق النفي وشموله لكل جزء من أجزاء النور. ولو قيل:﴿فَمَا لَهُ نُّورٍ ﴾، بدون ﴿ مِن ﴾، ما أفاد هذا المعنى، الذي دل عليه وجودها.
نسأل الله تعالى أن ينوِّر بصائرنا وأبصارنا بنور وجه، الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
لمراسلة المؤلف : [email protected]
  #733  
قديم 07-07-2008, 04:21 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

من أسرار البيان في أمثال القرآن: مثل المنافقين

بقلم الأستاذ محمد إسماعيل عتوك
باحث لغوي في الإعجاز البياني
للقرآن الكريم ومدرس للغة العربية

قال الله تعالى:﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ *صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ *أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدير ﴾ (البقرة:17- 20)
لمَّا أخبر الله تعالى في أوائل سورة البقرة عن أحوال المنافقين مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع القرآن الكريم، وبيَّن حقيقة مواقفهم منهما، وكشف عن مكنون صدورهم، وفضح نفاقهم، أراد سبحانه وتعالى أن يكشفَ عن تلك الأحوال، والمواقف كشفًا تامًّا، ويبرزَها في معرض المحسوس المشاهد؛ فأتبعها بضرب هذين المثلين، زيادة في التوضيح والتقرير، ومبالغة في البيان.
وهما مثلان لكلِّ من آتاه الله ضربًا من الهدى، فأضاعه ولم يتوصلْ به إلى نعيم الأبد، فبقيَ متحيِّرًا متحسِّرًا، يخبط في ظلمات الجهل والضلال. ويدخل في عمومه هؤلاء المنافقون؛ فإنهم أضاعوا ما نطقت به ألسنتهم من الحق، باستبطان الكفر وإظهاره حين خلَوا إلى شياطينهم، وكانوا غالبًا من أحبار اليهود، الذينكانوا يجدون في هؤلاء المنافقين أداة لتمزيق الصف الإسلامي وتفتيته؛ كما أنهؤلاءكانوا يجدون فيهم سندًا لهم وملاذًا.
﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ *أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِين (البقرة:14-16).
هؤلاء المنافقون، الذين اشترَوا الضلالة بالهدى، والكفر بالإيمان، فخسروا كلتا الطلبتين؛ كأغفل ما يكون المتجرون، وفشلوا في تحقيق مآربهم الخبيثة، وأهدافهم الدنيئة، وحرموا أنفسهم من السعادة، التي رسم الله تعالى لهم طريقها، ثمغادروا دنياهم، وهم صفر اليدين من كل خير، مثقلون بأنواع الذنوب والآثام، كانوا- وما زالوا- أشدَّ خطرًا على الإسلام من الكافرين، الذين﴿خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ (البقرة:7).
ولهذا جاءت آيات الله تعالى تنبِّه على صفاتهم، وتفضح نفاقهم، وتكشف عن حقيقتهم، وتحذر من خطرهم على المسلمين وعلىالكافرين؛ لئلا يغترَّ المؤمنون بظاهر أمرهم، فيقع لذلك فساد عريض من عدم الاحترازمنهم، ومن اعتقاد إيمانهم، وهم كفار في نفس الأمر. وهذا- كما قال ابن كثير- من المحذورات الكبار أن يظَن لأهل الفجور خير، فقال تعالى:﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾(البقرة:8). أي: يقولون ذلك قولاً ليس وراءه شيء آخر، فكذبهم الله تعالى، ثم شرع يعدد صفاتهم، ويفضح نفاقهم، ويكشف عن زيغهم، وفساد قلوبهم، ويرد عليهم أقوالهم؛ وهم الذين حذّر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم منهم، بقوله سبحانه:﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ(المنافقون:4).
هؤلاءالمنافقون هم الذين ضرب الله تعالى لهم هذين المثلين، اللذين يصوران حقيقة أحوالهم،ويكشفان عن مكنون صدورهم، ويفضحان نفاقهم،ويرسمان ما كان يتولَّد في نفوسهم عند سماعهم القرآن من قلق واضطراب، وذعر وخوف، وحسرة وحيرة، وتيه وضلال، نتيجة كذبهم، وخداعهم، وتعاليهم، واستهزائهم، وتآمرهم.
والمنافقون الذين ضُرِب لهم هذان المثلان هم قسم واحد خلافًا لمن ذهب إلى أنهم قسمان، وأن المثل الأول منهما مضروب للقسم الأول، وهم الذين آمنوا، ثم كفروا، وأن الثاني مضروب للقسم الثاني، وهم الذين لا يزالون على نفاقهم، مترددين بين الإيمان والكفر. وخلافًا لمن ذهب إلى أن المثل الأول يخصُّ طائفة الكافرين، الذين قال الله تعالى في حقهم:﴿خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وّلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾(البقرة:7). وأن المثل الثاني يخصُّ طائفة المنافقين، الذين قال الله تعالى في حقهم:﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾(البقرة:8)؛ لأنالمنافقين، وإن كانوا- على ما قيل- قسمين: أئمة، وسادة مردوا على النفاق، وأتباع لهم كالبهائم والأنعام، فإن الأوصاف، التي ذكرت في الآيات السابقة من سورة البقرة هي أوصاف رءوس النفاق، لا أوصاف أتباعهم، وإن كانت تشملهم جميعًا؛ وهم المشار إليهم بقوله تعالى:
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِين (البقرة:14).
المثل الأول:مثل المنافقين مع رسول الله(x)
﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ* صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴾(البقرة:17- 18)
وهو مثل يصور حقيقة المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومواقفهم منه بصورة طائفة من الناس مع الذي استوقد نارًا في ليلة شديدة الظلمة. فلما حصل لهم نور من ضوء تلك النار، ذهب الله بنورهم، وتركهم يخبطون في ظلمات بعضها فوق بعض؛ لأنهم آثروا الظلمة على النور، والضلالة على الهدى.. كذلك كان حال المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجمهور المفسرين على القول إن مثل المنافقين، ومثل الذي استوقد نارًا معناه: صفتهم العجيبة كصفته. وذهب الزمخشري إلى أن المعنى: حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد نارًا.وهذا القول يرجع إلى القول الأول. وذهب ابن عطية إلى أن المعنى: أن الذي يتحصل في نفس الناظر في أمرهم كمثل الذي يتحصل في نفس الناظر في أمر المستوقد.
ولكن ظاهر لفظ المثل يقتضي أن يكون للمنافقين مَثَلٌ مطابق لهم في تمام أحوالهم، وأن يكون للذي استوقد نارًا مَثَلٌ مطابق له في تمام أحواله. وكلاهما معنى معلوم موجود في الذهن، الأول معقول، والثاني محسوس. وما بينهما وجه شبه، دلت عليه كاف التشبيه؛ وكأنه قيل: هذا المثل كهذا المثل. أي هذا المثل يشبه هذا المثل في بعض أحواله وصفاته.
ولو لم يكن في الكلام هذه الكاف، لكان بين المثلين تماثلٌ، أو تطابق في تمام الأحوال والصفات؛ لأن التقدير- حينئذ- يكون: مَثلهم مَثلُ الذي استوقد نارًا. ولكن وجود الكاف حصَّن المعنى من هذا التأويل، الذي ذهب إليه بعض النحاة والمفسرين، حين حكموا على هذه الكاف بالزيادة.
وننظر فيما بين المثلين من وجه شبَه:
فنرى في المثل الأول- وهو المشبه- أن المنافقين كانوا في زمرة الكافرين، ثم إنهم أعلنوا إيمانهم للنبي صلى الله عليه وسلم، واتخذوا هذا الإيمان، جُنـَّة يتَّقون بها يد المؤمنين إذا هي علَت على الكافرين، وأنزلتهمعلى حكمهم، وذريعة يتوصَّلون بها إلى ما قد يفيءُ الله على المؤمنين من خير؛ فكان أن فضح الله نفاقهم، وجاءت آياته، تنزع عنهم هذا الثوب، الذي ستروا به هذا النفاق.
ونرى في المثل الثاني- وهو المشبه به- أن الذي استوقد نارًا كان واحدًا في جماعة، في ليل شديد الظلمة، فاستوقد نارًا. أي: طلب أن توقد له. ولما أوقدت النار، وأضاءت ما حوله، واجتمع القوم على ضوئها، الذي بدَّد بنوره ظلام الليل الحالك، ذهب الله تعالى بنور طائفة مخصوصة منهم، فلم يرَوا ما حولهم، ولم يعرفوا وجه الطريق الذي يسلكون، فركبتهم الحَيْرة، وقيَّدهم العمى والضلال. كذلك كان حال المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن كثير:وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا، ثم كفروا؛ كما أخبر تعالى عنهم في غير هذا الموضع، والله أعلم. وقد حكى هذا الذي قلناه الرازي في تفسيره عن السدي، ثم قال: والتشبيه ههنا في غاية الصحة؛ لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولاً نورًا، ثم بنفاقهم ثانيًا أبطلوا ذلك، فوقعوا في حيرة عظيمة؛ فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين .
وأضاف ابن كثير قائلاً:وزعم ابن جرير الطبري أن المضروب لهم المثل- ههنا- لم يؤمنوا في وقت من الأوقات، واحتج بقوله تعالى:﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾(البقرة:8).
والصواب: أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك، ثم سلبوه، وطبع على قلوبهم. ولم يستحضر ابن جرير هذه الآية- ههنا- وهي قوله تعالى:﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴾(المنافقون:3)؛فلهذا وجَّه هذا المثل بأنهم استضاءوا بما أظهروه من كلمة الإيمان. أي: في الدنيا، ثم أعقبهم ظلمات يوم القيامة.
يتبـــــــــــــــــــع
  #734  
قديم 07-07-2008, 04:23 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبـــع موضوع .... من أسرار البيان في أمثال القرآن: مثل المنافقين

ونقرأ قوله تعالى:﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾،فنجد فيه لمحة، من لمحات الإعجاز البياني، نجدها في هذا التخالف بين أجزاء الصورة، في المشبه به؛ حيث كان الظاهر أن يقال:﴿مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارًا. فلما أضاءت ما حولهم، ذهب الله بنورهم ﴾.
أو يقال:﴿مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا. فلما أضاءت ما حوله، ذهب الله بنوره ﴾.
وبذلك يتم التطابق بين أجزاء الصورة.
ولكن جاء النظم المعجز في الآية الكريمة على خلاف هذا الظاهر. وللنحاة والمفسرين، في تفسير ذلك والتعليل له، أقوالٌ أشهرُها: أن﴿الَّذِي ﴾- هنا-مفرد في اللفظ، ومعناه على الجمع؛ ولذلك قال تعالى:﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾، فحمِل أول الكلام على الواحد، وآخره على الجمع. والتقدير: مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارًا، فلما أضاءت ما حولهم، ذهبالله بنورهم.
وقيل: إنما وُحِّد ﴿الَّذِي ﴾، وما بعده؛ لأن المستوقد كان واحدًا من جماعة، تولّى الإيقاد لهم، فلما ذهب الضوءُ، رجع عليهم جميعًا.
وذهب بعضهم إلى القول بأن جواب ﴿فلَمَّا ﴾محذوفللإيجاز، تقديره: خمدت، أو طفئت. وأن قوله تعالى:﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾كلام مستأنف، راجع إلى بيان حال الممثل.
ولكن هذا كله ممَّا يفسد المعنى؛ حيث يَقضي بهذا الحكم على مستوقد النار، فيذهب بنوره، الذي رفعه لهداية الناس؛ وحيث يقع هذا الحكم على غير المنافقين، من طالبي الهدى عنده. والصورة، التي رسمتها الآية الكريمة، تأخذ المنافقين وحدهم بجرمهم، فتحرمهم الإفادة من هذا النور، الذي ملأ الوجود من حولهم، ثم لا تحرم المهتدين ما أفادوا منهدى.
وجاء في حاشية الكشاف عن جواب﴿فَلَمَّا ﴾قول ابن المنير:فالظاهر أن يجعل﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾جواب﴿ فَلَمَّا ﴾، إلا أن فيه مانعًا لفظيًّا، هو توحيد الضمير في﴿اسْتَوْقَدَ﴾و﴿ حَوْلَهُ﴾، وجمعه في﴿ بِنُورِهِمْ﴾. ومعنويَّا، وهو أن المستوقد لم يفعل ما يستحق به إذهاب النور، بخلاف المنافق؛ فجَعْلُهُ جوابًا يحتاج إلى تأويل .
وتأويله ليس على ما تقدم من أقوال؛ وإنما تأويلهعلى ما ذكرنا أن هذا﴿الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ﴾كان واحدًا في جماعة معه، استدعى إيقاد النار. أي: طلبه، وسعى في تحصيله، فلما أوقِدت له النار وأضاءت ما حوله واجتمع القوم على ضوئها، ذهب الله بنور طائفة مخصوصة منهم.
كذلك كان شأن المنافقين وحالهم، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المبعوث هدًى ورحمة للعالمين، كذبٌ ونفاق وخداعٌ وإفساد واستهزاء، فكان أن وقعوا في ضلالتهم، التي اشتروها بالهدى، وخبطوا في مستنقع الحيرة، التي أدهشتهم؛ولهذا كذبهم الله تعالى بادعائهم الإيمان، وذمَّهم بأنهم دخلوا في الإيمان، ثم خرجوا منه بقوله الله تعالى:
﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ*اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴾(المنافقون:1-3).
وبذلك يكون الغرض من هذا التمثيل: تشبيه مثلالمنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثلالقوم مع الذي استوقد نارًا، وما حصل لهم من إذهاب نورهم؛ لأنهم آثروا الظلمة على النور.
وتقدير الكلام: مثل المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كمثل قوم اجتمعوا مع غيرهم على ضوء نار، استوقدها رجل منهم. فلما أضاءت ما حوله وحصل لهم نور من ضوء هذه النار، ذهب الله بنورهم، وتركهم في ظلمات لا يبصرون. فحذف من المشبه ما أثبت نظيره في المشبه به، وحذف من المشبه به ما أثبتنظيره في المشبه. وقد طوي ذكركل منهما اعتمادًا على أن الأفهام الصحيحة، تستخرج ما بين المشبه، والمشبه به من المطابقة برد الكلام إلى أصله على أيسر وجه وأتمه. وهذا من ألطف أنواع البديع وأبدعها.
وبهذا الفهم لمعنى الآية الكريمة يكون قوله تعالى:﴿الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ﴾مثلاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكون قوله تعالى:﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾مثلاً للمنافقين.ويدل على ذلك ما رواه الشيخان في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله:إنما مَثلي ومَثل أمتي؛ كمَثل رجلاستوقد نارًا. فجعلت الدوابُّ، وهذه الفراش، يقعْن فيها. فأنا آخذٌ بحِجْزكم، وأنتمتُقحَمون فيها.
وفي رواية أخرى:إنما مَثلي ومَثل الناس؛ كمَثل رجل استوقدنارًا. فلما أضاءت ما حوله، جعل الفراش، وهذه الدواب، التي تقع في النار، يقعنفيها، فجعل ينزعهن ويغلبنه، فيقتحمن فيها.. فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تقحمونفيها.
فمثَّل- عليه الصلاة والسلام- نفسه برجل استوقد نارًا، ومثل الناس، الذين لم ينتفعوا بضوء النار بالفراش والدوابِّ، التي تقع في النار.
فليس بعد هذا البيان لمدَّع أن يدَّعي أن الذي استوقد نارًا مثلٌ للمنافق، وأن ناره، التي استوقدها خمدت. وكيف يكون منافقًا من أضاء بناره الوجود من حوله، ثم يُؤخَذبجرم المنافقين؟ وكيف يحكم على ناره، التي استوقدها لهداية الناس بالخمود والانطفاء.. هذه النار، التي أوقدها الله تعالى؛ ليهتدي بنور ضوئها كل موجود في هذا الوجود؟!
ونقرأ قوله تعالى:﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾، فنجد لمحة أخرى، من لمحات الإعجاز البياني؛ حيث كان الظاهر أن يقال:{أذهب الله نورَهم }، وكذا قرأ اليمانيُّ. أو يقال:{ذهب الله بنارهم، أو بضوئهم }.
ولكنَّ الله تعالى، لم يقل هذا، ولا ذاك؛ وإنما قال:﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾، فأسند سبحانه الذهاب إليه حقيقة، لا مجازًا، واختار النور، على النار وضوئها.
أما إسناد الذهاب إليه سبحانه فللدِّلالة على المبالغة؛ ولذلك عُدِّيَ الفعل بالباء، دون الهمزة، لما فيها من معنى الاستصحاب والاستمساك.. وبيان ذلك:
أنه إذا قيل: ذهب الشيءُ، فمعناه: مضى إلى رجعة، أو غير رجعة؛ قوله تعالى:﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾(الصافات:99). وقوله تعالى:﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ﴾(هود:74).
وإذا قيل: أذهبَ فلانٌ الشيءَ، فمعناه: أزاله من الوجود، وجعله ذاهبًا؛ ومنه قوله تعالى:﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾(إبراهيم:19).
فإذا قيل: ذهبَ فلانٌ بالشيء، يُفهَمُ منه: أنه استصحبه معه، وأمسكه عن الرجوع إلى الحالة الأولى، التي كان عليها؛ وكأنه التصق به التصاقًا. وليس كذلك: أذهبه؛ ومنه قوله تعالى في يوسف عليه السلام:﴿فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ ﴾(يوسف:15).
فثبت بذلك: أنَّ{ذهب بالشيءِ }أبلغ من {أذهب الشيءَ}، وأصلهما جميعًا: الذهاب، الذيهو المُضِيُّ. وكلاهما متعدٍّ إلى المفعول: الأول بنفسه، والثاني بوساطة الباء؛ ولهذا لا يجوز القول بزيادة هذه الباء، وأن المعنى معها، وبدونها سواء.
وأما اختيار النور على النار وضوئهافلأنه المراد من استيقاد النار؛ إذ هو أعظم منافعها، ولكونه الأنسب بحال المنافقين، الذين حُرموا الانتفاع والإضاءة، بما جاء من عند الله، ممَّا سمَّاه الله نورًا في قوله:﴿َقدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ﴾(المائدة:15)؛ فكأنَّ الله عزَّ شأنه أمسك عنهم النور، وحرمهم الانتفاع به، ولم يسمِّه سبحانه ضوءًا، أو نارًا؛ لتتأتَّى هذه الإشارة.
والنار جَوهرٌ، لطيفٌ، نيِّرٌ، واشتقاقها من نار ينور، إذا نفر؛ لأن فيها حركة واضطرابًا،وتنكيرها للتفخيم. ومن أخصِّ أوصافها: الإحراقُ والإضاءةُ.والإضاءة: فرط الإنارة. يقال: ضاءت النار، وأضاءت، وأضاءها غيرُها، وما انتشر منها يسمى: ضوءًا. والفرق بينه، وبين النور: أن الضوء ما يكون للشيء لذاته؛ كما للشمس. والنور ما يكون من غيره؛ كما للقمر. ومصداق ذلك قوله تعالى:﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً ﴾(يونس:5)
هذا وقد اشتهر في العرف أن الضوء، ينتشر من المضيء إلى مقابلاته، فيجعلها مستضيئة؛ ولهذا قال تعالى:﴿فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾، فأضاف النور إلى المنافقين، الذين اجتمعوا على ضوء هذه النار، مع المجتمعين. فلو قيل: ذهب الله بضوئهم، أفاد ذلك أن لهؤلاء المنافقين ضوءًا؛ كما أن للنار والشمس ضوءًا. وهذا باطل. فهم مستضيئون، لا مضيئون. وما انعكس عليهم من ضوء النار، نتيجة استضاءتهم به هو نورهم، الذي أمسكه الله تعالى عنهم، وحرمهم من الانتفاع به. ولو قيل: ذهب الله بنارهم، لفُهِم منه أن النار هي نارهم، وأنهم هم الذين أوقدوها. وهذا خلاف المراد.
وقوله تعالى:﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ﴾ عطفٌ على قوله:﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾.ويُستفاد منه التأكيد والتقرير، لانتفاء النور عنهم بالكليَّة،تِبْعًا لما فيهمن ذكر الظلمة المنافية للنور، ثم إيرادِ ما يدل على أنها ظلمة، لا يتراءى فيها شبحان. والقصد من هذا التأكيد والتقرير زيادة إيضاح الحالة، التي صاروا إليها.
أما قوله تعالى:﴿وَتَرَكَهُمْ ﴾فهوإشارة إلى تحقيرهموعدم المبالاة بهم، لما فيه من معنى الطرح للمتروك. و﴿ظُلُمَاتٍ ﴾ جمع: ظلمة. والظلمة هي عدم النور. وقيل: هي عرض ينافي النور. واشتقاقها من قولهم: ما ظلمك أن تفعل كذا: أي ما منعك وشغلك؛ لأنها تسدّ البصر وتمنع الرؤية. وقرأ الحسن:﴿ظُلْمَاتٍ ﴾،بسكون اللام.وجمعها وتنكيرها، لقصد بيان شدتها؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم:” الظلم ظلمات يوم القيامة“؛ فإن الكثرة، لما كانت في العرف سبب القوة، أطلقوها على مطلق القوة، وإن لم يكن ثمَّة تعدد، ولا كثرة.
ومن اللطائف البديعة أن{ الظلمة }حيثما وقعت في القرآن، وقعت مجموعة، وأن{النور }حيثما وقع، وقع مفردًا.ولعل السبب هو أن الظلمة، وإن قلَّت، تستكثر. وأن النور، وإن كثُر، يُستقلّ ما لم يضرَّ. وأيضًا فكثيرًا ما يشار بهما إلى نحْو الكفر والإيمان. والقليل من الكفر كثيرٌ، والكثير من الإيمان قليلٌ، فلا ينبغي الركونُ إلى قليل من ذاك، ولا الاكتفاء بكثير من هذا.
وفي ذلك تأكيد على أن الظلمات المذكورة هي ظلمة واحدة، لا متعددة؛ ولكنها لشدتها استعيرلها صيغة الجمع مبالغة.. والدليل على ذلك قراءة اليماني:﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَة ﴾، علىالتوحيد.
ومفعولقوله:﴿لَا يُبْصِرُونَ ﴾ محذوف لقصد عموم نفي المبصرات، فتنزل الفعل منزلة اللازم، ولا يقدَّر له مفعول؛ كأنه قيل: لا إحساس بصر لهم. وهذا ما أشار إليه الزمخشري بقوله:والمفعول الساقط من﴿لاَّ يُبْصِرُونَ ﴾من قبيل المتروك المُطرَح، الذي لا يلتفت إلى إخطاره بالبال، لا من قبيل المقدر المنوي، كأنَّ الفعل غير متعدٍّ أصلاً؛ نحو﴿ يَعْمَهُونَ ﴾في قوله تعالى:﴿ وَيَذَرُهُمْ فِيْ طُغْيَـٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾.
وفي نفي الفعل بـ﴿لا ﴾دلالة علىطول النفي وامتداده، واستحالة وقوع المنفي بها أبدًا. وفي إطلاق فعل الإبصار، دون تقييده بمفعول محدد دلالة على أنهم في عمًى تام، لا يبصرون شيئًا؛ ولهذا أتبِع بقوله تعالى:﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ.
يتبــــــــــع
  #735  
قديم 07-07-2008, 04:26 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبـــع موضوع .... من أسرار البيان في أمثال القرآن: مثل المنافقين




أما قوله تعالى:﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ﴾فقيل: مرفوع على الاستئناف، على أنه خبر واحد لمبتدأ محذوف، هو ضمير المنافقين. أو أخبار، وتؤول إلى عدم قبولهم الحق.أي: هم صم بكم عمي.


وإذا كان ظاهر اللفظ يوحي بأنهم متصفون بالصمم، والبكم، والعمى، فإن الله تعالى قد بيّن في موضع آخر أن معنى صممهم، وبكمهم، وعماهم هو عدم انتفاعهم بأسماعهم، وقلوبهم، وأبصارهم، فقال جلّ جلاله:


﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَـاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَـارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مّن شَيْء إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ ِبآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون﴾(الأحقاف:26).

فدل ذلك على أنهم، وإن كانوا سمعاء الآذان، فصحاء الألسن، بصراء الأعين، إلا أنهم لمَّا لم يصيخوا للحق، وأبت أن تنطق بسائره ألسنتهم، ولم يتلمحوا أدلة الهدى المنصوبة في الآفاق والأنفس، وصفوا بما وصفوا به من الصمم والبكم والعمى؛ كقوله:
صُم إذا سَمِعُوا خَيْراً ذُكِرْتُ بِه *** وإنْ ذُكِرْتُ بُسوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا

وقيل: الآية هي تتمَّة للتمثيل، وتكميل له بأن ما أصابهم ليس مجرد ذهاب نورهم،وبقائهم في ظلمات كثيفة هائلة، مع بقاء حاسة البصر بحالها؛ بل اختلت مشاعرهم جميعًا، واتصفوا بتلك الصفات على طريقة التشبيه، أو على الحقيقة؛ إذ لا يبعد- كما قيل- فقد الحواس ممن وقع في ظلمات مخوفة هائلة؛ إذ ربما يؤدي ذلك إلى الموت، فضلاًعن ذلك.


ويؤيد كونها تتمة للتمثيل، وتكميلاً له قراءة ابنمسعود، وحفصة أم المؤمنين، رضي الله تعالى عنهما:﴿صُمًّا بُكْمًا عُمْيًا فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ بالنصب. ونصبُه من وجهين: أحدهما:على معنى: تركهم صمّاً بكمًا عميًا. والثاني: على معنى الذم، فيكون كلامًا مستأنفًا. والعرب تنصب بالذمِّ وبالمدح؛ لأن فيه مع الأسماء مثل معنى قولهم: وَيْلاً له، وثَوَابًا له, وبُعْدًا وسَقْيًا ورَعْيًا.


ومثله على القراءتين قوله تعالى:﴿إنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَإلى قوله تعالى:﴿وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(التوبة:111). ثم قال جل وجهه:﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحامِدُونَ..، بالرفع في قراءة الجمهور، وفى قراءة عبد الله بن مسعود:﴿التَّائِبُينَ الْعَابِدُينَ الْحامِدُينَ.. (التوبة:112).


وكان ظاهر الكلام يقتضي أن يكون ترتيب هذه الصفات هكذا:﴿عميٌ، بكمٌ، صمٌّ ﴾- كما في قوله تعالى:﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً ﴾(الإسراء:97)- ولكن جاء ترتيبها، على وفق حال المُمَثـَّل له، خلافًا للظاهر:﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ﴾؛ لأنه يسمع أولا دعوة الحقِّ، ثم يجيب ويعترف، ثم يتأمَّل ويتبصَّر.


وقيل: قدِّم الصَّمَم؛ لأنه إذا كان خَلقيًا يستلزم البَكَم، وأخِّر العمَى؛ لأنه- كما قيل- شامل لعمى القلب الحاصل من طرق المبصرات والحواس الظاهرة، وهو بهذا المعنى متأخر؛ لأنه معقول صِرْف، ولو توسَّط، حلَّ بين العصا ولحائها. ولو قدِّم، لأوهِم تعلقه بـقوله:﴿لا يُبْصِرُونَ ﴾.


وأما قوله تعالى:﴿فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴾فقيل: المراد به: أنهم لا يرجعون إلى الهدى بعد أن باعوه، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها. وكلاهما مبنيٌّ على أن وجه التشبيه في التمثيل مستنبط من قوله تعالى:﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى ﴾(البقرة:16).


والصواب- على ما قيل- أن المراد به: أنهم لا يرجعون إلى حيث ابتدءوا منه ما داموا على هذه الحال، على تقدير أن يكون من﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ﴾بأن يراد به: أنهم غِبَّ الإضاءة خبطوا في ظلمة، وتورطوا في حيرة. فالمراد هنا: أنهم بمنزلة المتحيرين، الذين بقوا جامدين في مكانهم، لا يبرحون، ولا يدرون: أيتقدمون، أم يتأخرون؟ وكيف يرجعون إلى حيث ابتدءوا منه، والأعمى لا ينظر طريقًا، والأبكم لا يسأل عنها، والأصم لا يسمع صوتًا من صوب مرجعه، فيهتدي به. أما الفاء في قوله تعالى:﴿فَهُمْ ﴾فهي للدلالة على أن اتصافهمبما تقدم سبب لتحيرهم واحتباسهم، كيفما كانوا.


هذا هو مثل المنافقين، الذين لم يصحبهم نور الإيمان في الدنيا؛بل خرجوا منه وفارقوه،بعد أن استضاءؤا به، وهم يحملون أوزارهم. وهو مثل يصَوِّر تصويرًا دقيقًاأحوال أولئك المنافقين، الذين سلكوا طريق النفاق, وظنوا أنهم قادرون بذلك على أن يحافظوا على مكانتهم ومصالحهم لدى الـمـؤمنين والكافرين، وأن ينضموا إلى الفئة الغالبة في نهاية المعركة؛ ولكن اللّه سبحانه سرعان ما فضح نفاقهم، وكشف عن مكنون صدورهم، وسلبهم النور، الذي باعوه بالضلالة، وتركهم يتيهون بين الوحشة والحسرة في ظلمات، لا خروج لهم منها ما داموا على هذه الحال!


ومن أظهر الأدلة على أن المراد بهذا المثل المنافقون أن الله تعالى قال هنا في حقهم:﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴾(البقرة:18)، فسلب الرجوع عنهم؛ لأنهم آمنوا ثم كفروا، وفارقوا الإسلام بعد أن تلبسوا به، واستناروا بنوره، فهم لا يرجعون إليه، ما داموا على هذه الحال. وقال تعالى في حق الكافرين:﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾(البقرة:171)، فسلب العقل عن الكافرين؛ لأنهم لم يكونوا من أهل البصيرة والإيمان. وقال عنهم في آية أخرى:﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾(الأنفال:22).


المثل الثاني: مثل المنافقين في القرآن ومع القرآن


﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ *يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (البقرة : 19- 20)


هذا مثل آخر يصَوِّر أحوال المنافقين مع القرآن الكريم، ومواقفهم منه بصورة قوم، أخذتهم السماء في ليلة شديدة المطر،فيها ظلمات من السحب الكثيفة المتراكمة، مع رعد يقصف بالآذان، وبرق يأخذ بالأبصار، وصواعق يصحبها الهلاك والموت،فلقوْا من الهول والشدَّة ما لقـَوا. وهو معطوف على المثل السابق:﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ﴾.


والتقدير في العربية:﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا.. أَوْ مَثَلُهُمْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ.. ﴾.أي: مثلهم كمثل هذا.. أو مثلهم كهذا. فأضمر﴿مَثَلُهُمْ ﴾الثانية بعدَ ﴿أَوْ ﴾لدلالة﴿مَثَلُهُمْ ﴾الأولى عليها. وحسَّن هذا الإضمار- هنا- العطف بـ﴿أَوْ ﴾الفارقة أولاً، واختلاف الأحوال الممَثَّلة في المثلين ثانيًا. ولو كان العاطف هو{ الواو }، لما حسُن هذا الإضمار؛ لأن { الواو } تشرك بين المعطوفين في اللفظ والمعنى، بخلاف{أَو }،التي تشرك بينهما في اللفظ فقط.


ولهذا لا يجوز العطف هنا بـ{ الواو }. والدليل على ذلك أنه لم يعطف بـ{ الواو } في مثل هذا التركيب، في موضع من المواضع، وكل ما ورد في القرآن، ورد معطوفًا بـ﴿أَوْ ﴾؛ نحو قوله تعالى:


﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ*أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ.. ﴾(النور:39-40).


تقديره:أعمالهم كسراب.. أو أعمالهم كظلمات.


وقوله تعالى:﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ﴾ إلى قوله:﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا.. ﴾(البقرة:258-259).


تقديره: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم.. أو ترَ كالذي مرَّ على قرية.


وكذلك قوله تعالى:﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا.. أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ﴾، تقديره: مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا.. أو مثلهم كصيِّب من السماء.. فدل على أن للمنافقين حالان: حال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وحال مع القرآن الكريم. وبهذا يعلم أن الغرض من هذا التمثيل هو تمثيل حالة مغايرة للحالة التي مُثِّلتْفي التمثيل الأول.

وعليه يكون التقسيم في التمثيلين لتنوع الأحوال، لا لتنوع الأشخاص. ولهذا عطف الثاني على الأول بـ﴿أَوْ ﴾الفارقة، التي تؤذن بتساوي المثلين في استقلال كل منهما بوجه الشبه، وبصحة التمثيل بكل واحد منهما، وبهما معًا، لا بتساويهما في التمثيل، بخلاف الواو الجامعة.. يدلك على ذلك أنه لو قيل: مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا.. وكصيِّب.. لربما أوهم صحة التشبيه بمجموعهما، لا بكل واحد منهما، وحينئذ يعتقد أنهما مثل واحد، لا مثلان.

وإذا كان مثل المنافقين في التمثيل الأول قد شبِّه بمثل الذي استوقد نارًا، فإنه في هذا التمثيل قد شُبِّه بصيِّبٍ نزل من السماء ليلاً على قوم في مفازة، فيه ظلمات كثيفة متراكمة، مع رعد يقصف بالآذان، وبرق يأخذ بالأبصار، وصواعق يصحبها الموت والهلاك،فلقوْا من الهول والشدَّة ما جعلهم في حيرة من أمرهم، وقلق واضطراب، وذعر وخوف، وتيه وضلال. لا يدرون ماذا يفعلون في هذه الصحراء المكشوفة، التي لا ملجأ لهم فيها، ولا ملاذ من قصف الرعد، الذي يهدد أسماعهم, ونور البرق، الذي يكاد يخطف أبصارهم، وخطر الصواعق، الذي يهددهم في كل حين بتحويلهم إلى رماد؟!


كذلك كانت آيات القرآن الكريم حين تتنزَّل، تنخلع لها قلوب المنافقين، لمَا يتوقعون فيها من صواعق، تُدَمْدِم عليهم، وتفضح مكنون صدورهم.. فإذا تلقّى الرسول الكريم وحيًا من ربه جلَّ وعلا وأعلنه في أصحابه، اصطكَّت به أسماع المنافقين، وانخلعت له أفئدتهم هلعًا وفزعًا. فهم مع إظهارهم الإيمان، وإبطانهم الكفر كانوا في قلق شديد من أحكام القرآن وتبعاته ووظائفه؛ كما كانوا على طمع من التعلُّق بمنافعه الدنيوية وخيراته. وهم لا يزالون كذلك ينكمشون، أو يتوارون من تبعاته ووظائفه وزواجره، إذا أقبلت تواجههم، ويسرعون للاستفادة من ثماره، كلما لاحت لهم.


فنـهوض المسلمين بواجبهم الجهادي المسلح بوجه أعداء الإسلام كان يشكل صواعق وحممًا، تنزل على رءوسهم، وانـتشار الإسلام بسرعة كالبرق الخاطف قد أذهلهم، وآيات القرآن التي تفضح أسرارهم قد صعقتهم, وفـي كـل لـحـظـة كانوا يـحْذرون أن تنزل آية تكشف عن مكائدهم ونواياهم. وهذا ما عبَّرت عنه الآية الكريمة:﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ﴾(التوبة:64).

وهم أيضًا في خـوف دائم وفزع شديد من أن يأذن اللّه بمحاربتهم, وأن يحث القوة الإسلامية المتصاعدة على مـجـابهتهم؛ لأنهم كانوا يواجَهون بمثل هذه التهديدات القرآنية؛ كقوله تعالى:
﴿لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً ﴾(الأحزاب:60).
﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾(المنافقون:4).
﴿وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ*لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ﴾(التوبة:57).

هذه الآيات وأمثالها كانت تنزل كالرعد والبرق والصواعق على المنافقين, وتتركهم في خوف وذعر وحيرة وقلق، وتضعهم أمام خطر الإبادة، أو الإخراج من المدينة في كل حين. ولهذا كانوا- كما قال ابن مسعود رضي الله عنه في رواية عنه- إذا حضروا مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجعلون أصابعهم في آذانهم؛ لئلا يسمعوا القرآن، فضرب الله تعالى لهم هذا المثل.


والتمثيل- هنا- كما في التمثيل الأول مَسُوقٌ في تفصيل صوره وأجزائه مساق وصف قصصي- كما ترى- وهو من خصائص أمثلة القرآن، ثم هو مبني على تشبيه مجموع حالة بمجموع حالة أخرى دون النظر إلى مقارنة، أو تشبيه أجزاء الحالين ببعضهما.


وجمهور المفسرين على القول الأول، وعليه يكون الصَّيِّب مثلاً للقرآن، وما في الصَّيِّب من الظلمات مثلاً لمَا في القرآن من ذكر الكفر والنفاق، وما فيه من الرعد مثلاً لما في القرآن من زجر ووعيد، وما فيه من البرق مثلاً لما في القرآن من النور والحجج الباهرة، وما فيه من الصواعق مثلاً لما في القرآن من تكاليف الشرع، التي يكرهونها؛ كالجهاد، والصلاة، والزكاة، ونحو ذلك. أما جعلهم أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت فهو مثل لتخوفهم وروعهم من فضح نفاقهم، والكشف عن حقيقتهم.


ويجمع المفسرون على أن المراد بقوله تعالى﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ﴾:{ أو مَثَلُهُم كَمَثَلِ صَيِّب }، فيقدرون لفظ﴿مَثل ﴾عقب كاف التشبيه. ومنهم من جعل تقديره أمرًا مسلمًا، يقتضيه العطف على السابق. وذهب بعضهم إلى أن تقديره أوْفى في تأدية المعنى، وأشدُّه ملاءمة مع المعطوف عليه..وعليه يكون أصل الكلام:


﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا.. أو مثلهم كمثل صيِّب من السماء ﴾


ثم حذِف ﴿مَثَلُ﴾المقدرة عقب كاف التشبيه- كما قال الإمام الطبري- طلبَ الإيجاز والاختصار، اكتفاءً بدلالة ما مضى من الكلام، من إعادة ذكره.


ولكن هذه التأويل يُخلُّ بمعنى الكلام ونظمه، ويذهب بما فيه من روعة الإعجاز. وفرق كبير بين أن يكون تقدير﴿مَثلٍ ﴾عقِب كاف التشبيه أوْفى بتأدية المعنى، وبين أن يكون مخلاًّ بالمعنى والنظم معًا. وكيف يحذف لفظ من القرآن يكون ذكره أوفى بتأدية المعنى؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلمَ لمْ يذكر هذا اللفظ- هنا- كما ذكر في المثل الأول؟ وهل يصلح ما قاله الإمام الطبري أن يكون جوابًا عن ذلك؟


أما ما قاله الإمام الطبري فيصلح أن يكون جوابًا لحذف﴿مَثلُهُمْ ﴾عقب ﴿أَوْ ﴾العاطفة، وأما أن يكون لفظ﴿مَثَلٍ ﴾ مرادًا عقب الكاف، ثم حذف طَلبَ الإيجاز والاختصار، اكتفاء بذكره في المثل الأول، فليس كذلك؛ لأنه لا يجوز ذكره- هنا- لا لفظًا، ولا تقديرًا.


وعلى فرض أنه مراد في اللفظ، وأن أصل الكلام:﴿أو مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ صَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ﴾، فأيُّ اختصار مزعوم هذا الذي يطلب بحذفه، وأيُّ إيجاز هذا ؟ وسيتضح لك خطأ هذا الجواب، إذا علمت الفرق في المعنى بين قولنا:{مَثلُ هذا كمَثلِ هذا }، وقولنا:{مَثلُ هذا كهذا}.


وبيان ذلك أن القول الأول هو تمثيل بين وجودين علميين ذهنيين؛ كما سبق أن بيِّنا ذلك في المثل الأول. أما الثاني فهو تمثيل بين وجود علمي ذهني، ووجود علمي خارجي. ومن الأول قوله تعالى:﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ.. ﴾(الجمعة:5).ومن الثاني قوله تعالى:﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ..(يونس:24).


وعلى القول الأول يحمل قوله تعالى:﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا..﴾، وعلى القول الثاني يحمل قوله تعالى:﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ.. ﴾؛ لأن الغرض من المثل الأول هو تشبيه مثل المنافقين مع الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل جماعة مستوقد النار. وكلاهما معنى موجود في العلم والذهن. وللدلالة على هذا المعنى جيء بلفظ المثل في طرف كل من المشبه والمشبه به. أما الغرض من المثل الثاني فهو تشبيه مثل المنافقين مع القرآن الكريم بجماعة نزلوا فلاة ليلاً، فأصابهم مطر شديد. والأول موجود في العلم والذهن، والثاني موجود خارج الذهن. وللدلالة على هذا المعنى، جيء بلفظ المثل في طرف المشبه، دون المشبه به.. فتأمل!


ويدل على هذا الذي ذكرناه في المثل الثاني ما روي عن ابن مسعود- رضي الله عنه- من قوله:كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من النبي صلى الله عليه وسلم إلى المشركين، فأصابهما هذا المطر، الذي ذكر الله، وأيقنا بالهلاك، فقالا: ليتنا أصبحنا فنأتي محمدًا، ونضع أيدينا في يده، فأصبحا وأتياه وحسن إسلامهما، فضرب الله ما نزل بهما مثلاً للمنافقين.


والصَيِّب هو المطر الشديد، الذي يَصُوب من السماء. أي: ينزل منها بسرعة، وهو مثل للقرآن الكريم؛ كما أن الذي استوقد نارًا-في المثل الأول- مثل لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وذهب بعضهم إلى أن المراد بالصيِّب السحاب. وهذا أوْلى من حمله على المطر، يدلك على ذلك: أن المطر، لا يكون محلاً للظلمات والرعد والبرق؛ وإنمايكونمحلها السحاب؛ ولهذا قال تعالى:﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ﴾، ولم يقل:{مَعَهُ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ }.وأما من فسر﴿فِيهِ ﴾بمعنى:{مَعَهُ }فليس بشيء.


وفي الصيِّب مبالغات من جهة تركيبه، وبنائه، وتنكيره: أما من جهة تركيبه فالمراد به مادته الأولى، والثانية. أي: حروفه، واشتقاقه. أما حروفه فإن الصاد من المستعلية، والياء مشدَّدَة، والباء من الشديدة. وأما اشتقاقه فمن الصَّوْب، وهو نزولٌ له وقعٌ وتأثير. وأما من جهة بنائه. أي: صورته، فإن صيغة: فَيْعِل من الصيغ الدالة على الثبوت. وأما من جهة تنكيره فلأنه أريد به نوعٌ من المطر شديد هائل؛ كما نكِّرت النار في التمثيل الأول. ولهذا كله ناسب تشبيه القرآن الكريم به.



يتبـــــــــع
  #736  
قديم 07-07-2008, 04:28 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبـــع موضوع .... من أسرار البيان في أمثال القرآن: مثل المنافقين


وقوله تعالى:﴿مِنَ السَّمَاءِ ﴾متعلق بـ﴿كَصَيِّبٍ ﴾، ومن لابتداء الغاية. والمراد بالسماء هذه المظلة، التي تظلنا، وهي- في الأصل- كل ما علاك من سقف ونحوه. وعن الحسن: أنها موج مكفوف. أي: ممنوع بقدرة الله عز وجل من السيلان. والمراد بها- هنا- الأفق،وتعريفها للاستغراق، فيفيد أن الغمامآخذ بالآفاق كلها، فيشعر بقوة المصيبة، مع ما فيه من تمهيد للظلمات. ولهذا القصد جاء ذكرها بعد الصيِّب؛ إذ كان يمكن أن يقال: كصيِّب فيه ظلمات ورعد وبرق. وقيل: يحتمل أن يكون ذكرها- أيضا- للتهويل، والإشارة إلى أن ما يؤذيهم جاء من فوق رؤوسهم؛ وذلك أبلغ في الإيذاء؛ كما يشير إليه قوله تعالى:﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ﴾(الحج:19).

وقوله تعالى:﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ﴾المراد بالظلمات: ظلمة السحمة، وظلمة التطبيق مع ظلمة الليل، على أن المراد بالصيِّب: السحاب المحمَّل بالمطر. وجيء بلفظَيْ الرعد والبرق مفردين، خلافًا للظلمات قبلهما، وللصواعق بعدهما. والسِّرُّ في ذلك أنهما- في الأصل- مصدران. والأصل في المصادر أن لا تجمع، وإن كان جمعها جائزًا فيالعربية، على أنه لو جُمِعا، دلَّ جمعهما ظاهرًا على تعدد الأنواع، وكلٌّ منهما نوع واحد.

وفي قوله تعالى:﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ ﴾تنبيه على أن ما صنعوه، من سدِّ الآذان بالأصابع، لا يغني عنهم شيئًا، وقد أحاط بهم الهلاك. وفيه أيضًا مبالغة في فرط دهشتهم، وكمال حيرتهم، من وجوه: أحدها: نسبة الجعل إلى الأصابع كلها، وهو منسوب إلى بعضها؛ وهو الأنامل. وثانيها: من حيث الإبهام في الأصابع. والمعهود إدخال السبابة؛ فكأنهم، من فرط دهشتهم، يدخلون أيَّ أصبع كان، ولا يسلكون المسلك المعهود. ثالثها: في ذكر الجعل موضع الإدخال؛ فإن جَعْلَ شيءٍ في شيء أدلُّ على إحاطة الثاني بالأول، من إدخاله فيه.

والصَّوَاعِقِ جمع: صاعقة. والظاهر أنها- في الأصل- صفة من الصَّعْق؛ وهو الصُّراخ، ثم صارت اسمًا لكل هائل مهلك مسموع، أو مشاهد. وتاؤها للمبالغة كـراوية.أو مصدرًا كالكاذبة والعافية. يقال: صعقته الصاعقة: إذا أهلكته بالإحراق، أو شدَّة الصوت.وهي نار لطيفة حديدة. لا تمرّ بشيء إلا أتت عليه، إلا أنها مع حدتها سريعة الخمود. يحكى أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو النصف ثم طفئت. ويقال: صعقته الصاعقة إذا أهلكته، فصعق؛ أي مات إما بشدة الصوت أو بالإحراق. ومنه قوله تعالى:﴿وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقًا(الأعراف:143).

وقرأ الحسن:﴿مِنَ الصَّوَاقِعِ ﴾؛ وليس بقلب للصواعق، لأنَّ كلا البنائين سواء في التصرف. وإذا استويا، كان كل واحد بناءً على حياله. ألا تراك تقول: صقعه على رأسه، وصقع الديك، وخطيب مصقع: مجهر بخطبته.


وقد ثبت أن الأرض وما عليها مشحونة كهربيًا. وعندما تكون هناك سحب مشحونة بشحن كهربائية متناقضة، فإنه قد تنشأ شرارة كهربائية. والصوت الذي يُنشِئ هذه الشرارة يُسمَّى: رعدًا. وتتوقف شدة هذا الصوت على حجم السحب وقربها من الأرض. أما الضوء الذي ينشأ عن حدوث الشرارة فيسمى: برقـًا. وقد تخترق هذه الشرارة الجو بسرعة هائلة، فتنزل إلى الأرض، فتحرق الأشجار، وغيرها، وتسمى حينئذ: صاعقة.قال تعالى:﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِم ﴾(النساء:153).


ويتسبب البرق، أو الصواعق البرقية في الكثير من الأضرار للمباني والتجهيزات الكهربائية. ولذلك نجد أن المباني عادة ما تُجهَّز بمانعات الصواعق، وهي وسائل لتفريغ الشحنة الكهربائية الضخمة الناتجة عن البرق.


وفي قوله تعالى:﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ﴾إشارة إلى دورة من دورات المنافقين؛ حيث انتهى بهم تردُّدهم، بين الإيمان والكفر، إلى الكفر الغليظ. ولم يُجْدِ عنهم حَذرُهم، ولا تدبيرهم شيئًا؛ لأن الله تعالى محيطٌ بهم. أي: لا يفوتونه أبدًا؛ فهم في قبضته، وتحت قهره ومشيئته. والجملة اعتراضية منبهة على أن ما صنعوا من سد الآذان بالأصابع، لا يغنى عنهم شيئًا؛ فإن القدر لا يدفعه الحذر، والحيل لا ترد بأس الله عز وجل.


وقال تعالى:﴿مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ﴾، ولم يقل:{مُحِيطٌ بِهِمْ }. أي: بالمنافقين؛ ليدخل في عمومه المشركون، والمنافقون، وغيرهم من الذين كفروا من أهل الكتاب. وللدلالة على ثبوت هذا المعنى ولزومه عبَّر عنه تعالى بالجملة الاسمية، دون الفعلية، لما فيها من دلالة على معنى الثبوت والدوام.


فإحاطته سبحانه بهم ثابتة، وعذابه لهم واقع لا محالة، ولا مَدْفَع لهم منه،في الدنيا، والآخرة؛ كما قال سبحانه وتعالى:﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ *فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ *بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ *وَاللَّهُمِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ ﴾(البروج:17-20).


وقال تعالى:﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ﴾، فأدخل الفعل ﴿ يَكَادُ ﴾على جملة:﴿الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ﴾؛ ليدل بذلك على قرب وقوع الخبر، وأنه لم يقع. وأسند خطف الأبصار إلى البرق لِما في الخطف من معنى الأخذ، أو الاختلاس بسرعة، إضافة إلى معنىالمباغتة والمفاجأة؛ كما يشير إليه قوله تعالى في صفة الشياطين:﴿إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ﴾(الصافات:10)، فعبَّر عن استراق الشياطين للسمع بقوله:﴿خَطِفَ الْخَطْفَةَ ﴾. ومنه سُمِّيَ الطيرُ خطَّافًا لسرعته؛ ولهذا أسند فعل الخطف إلى الطير في قوله تعالى:﴿ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيق ﴾(الحج:31).


وعليه يكون معنى قوله تعالى﴿يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ﴾: يأخذها بسرعة؛ وكأنه يختلسها اختلاسًا. فلو قيل: يأخذ أبصارهم، لمَا أفاد هذا المعنى، الذي يفيده الخطف، الذي يتجدد حدوثه باستمرار؛ كما تدل عليه صيغة الفعل الحاضر.


ويتضح لك ذلك إذا علمت أن سرعة البرق تبلغ ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية الواحدة، وهي سرعة الضوء. وإذا حدث هذا البرق على مسافة عدة كيلو مترات في الغيوم، فإن الزمن اللازم لوصول هذا البرق إلى الشخص، الذي سيصيبه هو أقل من جزء من مئة ألف جزء من الثانية. أي أقل من(1/100000) من الثانية. وهذه السرعة الهائلة لا يناسبها من الألفاظ للتعبير عنها سوى لفظالخطف﴿يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ﴾.


ويعبَّر عن خطف البصر بالعمى الناتج عن بريق الضوء الشديد. وهذا النوع من العمى ينتج من مصادر ضوء ساطع ومفاجئ مثل: البرق، والليزر، وانعكاس الضوء من المباني العالية الزجاجية.


وإذا علمنا أن البرق يحتوي على الضوء المرئي بالإضافة إلى الأشعة الخطيرة بأنواع متعددة، فإننا ربما ندرك السر في قوله تعالى:﴿يَكَادُ ﴾. أي يقارب. فالكمية الضخمة من الإشعاعات، التي يطلقها البرق خلال زمن قصير جدًا ذات تأثير كبير على العصب البصري، والشبكية، والقرنية، والجسم الزجاجي للعين، وهي عناصر تتعلق بعملية الإبصار؛ ولذلك قال الله تعالى:﴿يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ﴾، ولم يقل سبحانه:﴿يَخْطَفُ عُيُونَهُمْ ﴾!


وقوله تعالى:﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا ﴾هو عبارة عن جملتين شرطيتين: الثانية منهما معطوفة على الأولى. وجيء في الثانية بـ﴿أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ ﴾في مقابلة﴿أَضَاءَ لَهُمْ ﴾، وبـ﴿قَامُوا ﴾في مقابلة ﴿مَشَوْا ﴾، وجيء بـ﴿كُلَّمَا ﴾في تعليق المشي بالإضاءة، وبـ﴿إِذَا ﴾في تعليق القيام بالإظلام؛ لأن الأولى تفيد التكرار، والثانية تفيد التحَقق. وهذا تمثيل لشدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصيب، وما هم فيه من غاية التحير والجهل بما يأتون، وما يذرون.


وإضاءةُ البرق: خفقانه ولمعانه. وإظلامه: اختفاؤه. والمَشْيُ: جنس الحركة المخصوصة.فإذا اشتد فهو سعي، وإذا ازداد فهو عدو. والقيام: الوقوف والثبات، ويراد به: الجمود؛ ومنه قولهم: قام الماء. أي: جَمَدَ. والمعنى: كلَّما خفق البرق لهم خفقة، أو لمع لمعة، مشوا فيه، أو مشوا في ضوئه. وإذا خفي عنهم، وقفوا جامدين متحيرين، لا يدرون أين يذهبون. ولجهلهم لا يعلمون أن ذلك من لوازم الصيِّب، الذي به حياةُالأرض والنبات، وحياتُهم هم أنفسهم؛ بل لا يدركون إلا رعدًا وبرقًا وظلمة، ولا شعورَ لهم بما وراء ذلك.


ولقائل أن يقول: كيف قال تعالى:﴿مَشَوْا فِيهِ ﴾،والمَشْيُ لا يكون في البرق، ولا في ضوئه؛ وإنمايكون فيمحله، وموضع إشراق ضوئه ؟ والجواب: أنهم- لفرط حيرتهم ودهشتهم، وشدَّة الأمر عليهم وفظاعته- كانوا يخبطون خَبْط عَشْواءَ، ويمشون كلَّ مَمْشى، لا يدرون أين يذهبون؛ وكأنهم يمشون في البرق، أو في ضوئه. وكيف لا يمشون فيه، وهو يخطف أبصارهم باستمرار، فلا يدع لهم فرصة لأن يبصروا أمامهم؟!


وفي ذلك إشارة إلى أن حركتهم، إن لم تكن معدومة، فهي بطيئة جدًا؛ لضعف قواهم، ومزيد خوفهم، رَغْمَ حرصهم الشديد على المشي؛ وكأنهم لا يمشون. ويدل على ذلك أنه في مصحف عبد الله بن مسعود:﴿مَضَوْا فِيهِبدلا من﴿مَشَوْا فِيهِ ﴾، فعبَّر عن ذلك بالمضيَّ، الذي يدل على انعدام الحركة.


وقال تعالى:﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ﴾، فعلق ذهاب سمعهم وأبصارهم بمشيئته سبحانه، فأفاد ذلك أن الله تعالى، لو شاء، لذهب بأسماعهم وأبصارهم من غير سبب، أو بسبب آخر غير قصيف الرعد، ووميض البرق، فلا يغنيهم ما صنعوه من سدِّ الآذان وغيره، وقد أحاط بهم الهلاك من كل جانب؛ ولكن اقتضت مشيئته سبحانه أن يؤجل هذه العقوبة لأشدَّ منها، كان ذلك


﴿وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾(الروم:6).


وهذا الوعد هو المشار إليه بقول الله تعالى:


﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ(التوبة:68).


ولإفادة هذا المعنى- أعني: تأخير العقوبة لأشدَّ منها- أدخلت اللام على جواب﴿لَوْ ﴾ الشرطية. هذه اللام، التي أجمعوا على القول بجواز سقوطها من الكلام؛ لأنها- عندهم- زيدت للتأكيد، وهم معذورون في ذلك؛ لأن أسرار القرآن الكريم أكثر، وأعظم من أن تحيط بها عقول البشر؛ فلا عجب أن قالوا بجواز سقوطها، ولم يعلموا أنها لو سقطت، لأفاد سقوطها التعجيل بوقوع الجواب، خلافًا للمراد.


أما﴿شَاءَ ﴾فهو فعل منزَّل منزلة اللازم، ولا يجوز أن يُصَرَّح بمفعوله، إلا في الشيء المستغرب. ولا يُكتفَى فيه بدلالة الجواب عليه؛ بل يصرح به، اعتناء بتعيينه، ودفعًا لذهاب الوهم إلى غيره، بناء على استبعاد تعلق الفعل به واستغرابه.


وبيان ذلك: أنك إذا قلت:{لو شئت لبكيت دمًا }، فإنه يحتمل تعليق المشيئة ببكاء الدمع، على مجرى العادة، وأن ما ذكرته من بكاء الدم واقع بدله من غير قصد إليه؛ وكأنك قلت: لو شئت أن أبكي دمعًا، لبكيت دمًا.. أقول: هذا المعنى محتمل، وإن كان تقييد البكاء في الجواب بالدم، يدل دلالة ظاهرة على أنه المراد؛ فإذا ذكر المفعول، زال هذا الاحتمال، وصار الكلام نصًّا فيما قصِد به.


والمشيئة- عند أكثر المتكلمين- كالإرادة سواء. وقيل: أصل المشيئة إيجاد الشيء وإصابته، وإن استعملت عرفًا في موضع الإرادة. وذهب بعضهم إلى أن المشيئة من الله تعالى هي الإيجاد، ومن الناس هي الإصابة. قال: والمشيئة من الله تقتضي وجود الشيء؛ ولذلك قيل: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. والإرادة منه سبحانه لا تقتضي وجود المراد، لا محالة. ألا ترى أنه سبحانه قال:﴿يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾(البقرة:185)،﴿وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ ﴾(آل عمران:108)، ومعلومٌأنه قد يحصل العسر، والتظالم فيما بين الناس!ولهذا قال تعالى هنا:﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ ﴾، ولم يقل:{وَلَوْ أَرَادَ الله }.


وقوله:﴿وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذهَبَ..﴾قال الفرَّاء:المعنى- والله أعلم-: ولو شاء الله لأذهب سمعهم. ومن شأن العرب أن تقول: أذهبت بصره، بالألف إذا أسقطوا الباء، فإذا أظهروا الباء أسقطوا الألف من أذهبت. وقد قرأ بعض القرّاء:﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يُذْهبُ بِالأَبْصَارِ﴾،بضمِّ الياء والباء في الكلام. وقرأ بعضهم:﴿وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَينَاءَ تُنْبِتُ بالدُّهْنِ. فترى- والله أعلم- أن الذين ضمُّوا على معنى الألف شبَّهوا دخول الباء وخروجها من هذين الحرفين بقولهم: خذْ بالخطام، وخُذِ الخطامَ، وتعلَّقتُ بزيدٍ, وتعلَّقتُ زيدًا. فهو كثير فى الكلام والشعر، ولستُ أستحبُّ ذلك لقلَّته .



يتبــــــــــــــع
  #737  
قديم 07-07-2008, 04:30 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبـــع موضوع .... من أسرار البيان في أمثال القرآن: مثل المنافقين
وقد سبق أن ذكرنا سر دخول هذه الباء في قوله تعالى:﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾(البقرة:17) في المثل الأول، وبينا الفرق في المعنى بين قولنا: ذهب بالشيء، وأذهب الشيء، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
ولقائل أن يقول: لمَ أفرد السمع، وجمع البصر في قوله تعالى:﴿لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ﴾؟ وما السرُّ في تقديم الأول على الثاني ؟
والجواب عن الأول: أن السمع- في اللغة- هو إدراك الأصوات المحيطة بنا بعد سماعها، وآلته الأذن السامعة، وأن البصر اسم يطلق على عملية الإبصار، التي يتم بها إدراك المرئيات الحسيَّة بعد النظر إليها، وآلته العين الباصرة. ومن هنا جاز التعبير بالسمع عن الأذن، التي هي آلة السماع، كما جاز التعبير بالبصر عن العين، التي هي آلة الإبصار. هذا أولا.
وأما ثانيًا:فإن البصر يجمع على: أبصار، وأن السمع، يجمع على: أسماع ؛ ولكنه لم يرد في القرآن الكريم مجموعًا بخلاف البصر؛ إلا في قراءة ابن أبي عبلة:﴿لَذَهَبَ بِأسَمْاعِهِمْ ﴾، بدلا من:﴿لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ ﴾. وكذلك قرأ:﴿خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى أَسْمَاعِهِمْ ﴾(البقرة:7)، بدلاً من:﴿خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سْمْعِهِمْ ﴾.
وأظهر الأقوال في نكتة إفراده دائمًا، أنه مصدر- في أصله- والمصادر لا تجمع. فإذا جعِلت أسماءَ، ذَكِّرت، وأفردَت.. وأما المرجَّح فالاختصار، والتفنن بتوحيد السمع، وجمع البصر، مع إشارة لطيفة إلى أن مدركات السمع نوع واحد؛ وهي المسموعات، ومدركات البصر، أنواع مختلفة؛ وهي المرئيات؛ كما كانت مدركات القلب كذلك.. ولهذا أفرد السمع دائمًا، وجمع البصر والقلب غالبًا، في البيان القرآني!
وأما الجواب عن الثاني- وهو سر تقديم السمع على البصر- فقيل: إنما قدم عليه؛ لأنه أهم منه، من حيث إنه يُدرَك به من الجهات الست، وفي النور والظلمة، ولا يُدرَك بالبصر؛ إلا من الجــهة المقابلة، وفي النور دون الظلمة. وهذا ما ذكره- أيضًا- أصحاب الشافعي، وحكَوْا- هم وغيرهم- عن أصحاب أبي حنيفة أنهم قالوا: البصر أفضل؛ من حيث أن إدراكه أكمل، ونصبوا معهم الخلاف، وذكروا الحجاج من الطرفين.
والتحقيق في هذه المسألة الخلافية: أن إدراك البصر أكمل؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:ليس المخبر كالمعاين. ولكن السمع، يحصل به من العلم لنا، أكثر ممَّا يحصل بالبصر. فالبصر أقوى وأكمل، والسمع أعم وأشمل. فهذا له صفة العموم والشمول، وذاك له صفة التمام والكمال، وإذا تقابلت المرتبتان، كان كل واحد منهما مفضلا، ومفضلا عليه. وبذلك يترجَّح أحدهما على الآخر بما اختصَّ به من صفات.
ولهذا قيل: لما كان إدراك القلب والسمع من جميع الجوانب، جُعِل المانع فيهما الختم، الذي يمنع من جميع الجهات، ولما كان إدراك البصر من الجهة المقابلة فقط، خُصَّ المانع فيه بالغشاء، المتوسط بين الرائي، والمرئي؛ كما في قوله تعالى:
﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ﴾ (البقرة:7)،
وقوله تعالى:﴿وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً ﴾(الجاثية:23)
وقد ذهب بعضهم إلى القول بأن السمع قدِّم في القرآن على البصر؛ لأنه أشرف منه، بدليل أن الأذن، التي هي آلة السمع، أفضل وأرقى عند الله في الخلق من العين، التي هي آلة الإبصار؛ لأن الأذن لا تنام أبدًا، ولا تتوقف عن العمل أبدًا، بخلاف بقية أعضاء الجسم.
ولست أدري بماذا يعللون تقديم ( الأعمى ) على ( الأصم، والبصير ) على السميع في قول الله تعالى:﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ(هود:24).
وقوله تعالى:﴿رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ﴾(السجدة:12).
وقوله تعالى:﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا ﴾(الأعراف:179)؟!
ثم ماذا يقولون في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور لأبي بكر وعمر، رضي الله عنهما:هذان السمع والبصر؛ إذ جعل صفة السمع للفاروق عمر، وجعل صفة البصر للصديق أبي بكر، مع إجماعهم على أن للصديقيَّة مقامًا،لا يعلوه مقام سوى مقام النبوة؛ ولهذا جعل الله جل وعلا مرتبة الصديقين بعد مرتبة النبيِّين عليهم الصلاة والسلام وقبل مرتبة الشهداء، فقال سبحانه وتعالى:
﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾(النساء:69)؟!
وإذا كان السمع قد قدِّم على البصر في أغلب الآيات، فليس معنى ذلك أن السمع أهم من البصر، وأشرف عند الله تعالى في الخلق؛ وإنما معنى ذلك أن هذا التقديم من ناحية الخلق فقط، لا من ناحية الفائدة. فمن المعلوم أن الله تعالى خلق السمع قبل البصر؛ كما يشير إلى ذلك قوله تعالى:
﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَلَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ ﴾(المؤمنون:78).
وقدأثبت علم الأجنة، وعلم تطور الأجناس أن السمع هو الحاسة الوحيدة، التي يولد بها الطفل مكتملة، في حين أن البصر لا يكتمل خلقه قبل ستة أشهر من الولادة. أما من ناحية الفائدة فإن الله عز وجل لم يذكر السمع في القرآن مثلما ذكر البصر.. تأمل قول الله تعالى:
﴿قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُاللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُإِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أََفَلا تَتَفَكَّرُونَ ﴾(الأنعام:50)، وقوله تعالى:﴿ أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىوَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم (الملك:22)
تجد أن العين أهم حاسة في جسم الإنسان، وقد وضعت في أعلى مكان منه، ولأهميتها هذه وفَّر الله سبحانه وتعالى لها الحماية الكاملة، فوضعها في تجويف متين{ المحجر }، حدوده الأمامية ذات قوة وبأس، يستطيع أن يقيها، إذا حُشرت فيه وضُغط عليها.ولأهمية البصر فقد خلق الله تعالى للإنسان عينيْن، فأصبحت نعمة البصر حصيلة للازدواج الخلقي للعين، وعلى أتم ما تكون من ناحية الأداء؛ إذ يمكن تمييز البعد الثالث- وهو العمق- فتكون الصورة ذات جسم واضح من حيث طوله وعرضه وعمقه.
ويقال: إنه كانت هناكعينٌ ثالثة، تقع في الخلف عند اتصال مؤخرة الجمجمة بالعنق؛ ولكنها بمرور الزمنانقرضت، وأصبحت تمثل الآن ما يسمى بالجسم الصنوبريداخل الجمجمة عنداتصال المخ بالمخيخ.. وتقوم العين بوظائف ثلاثة:
أولها: تقوم العين بعمل النافذة، التي منها يستطيع الجسم أن يطل على العالم. فهي جواز السفرلمشاهدة العالم، وتقليب صفحاته، والوقوف على مواطن الجمال فيه؛ كما أن العالِم يستطيعأن يطل منها على الجسم، فيعلم حالته بالتفصيل، ويمكنه الاستدلال على حالته الصحية من فحص قاع العين، مثل داء البول السكري، والدمالمرتفع، وأورام المخ، واضطرابات الدورة الدموية، والحميات، وغير ذلك. ولهذا قيل: العين مرآةالجسم. وبمعنى آخر، فإن الإنسان يتلخص كله، ويرتكز في العين، التي تعتبر صورةمصغرة لما يدور في داخل الإنسان.
ثانيها: تقوم العين بالتعبير عنإحساسات الشخص الداخلية بما فيها من مشاعر؛ سواء أكانت إيجابية، أم سلبية. فلمعانالعين يظهر عند الحب والفرح والأمل، وانطفاؤها يظهر عند الكره والحزن والألم. كل هذه المعاني لا يمكن التعبير عنها إلا من خلال العينين. كذلك حركتها ونظرتهاوتغيراتها الكونية، كل ذلك له معنى، يمكن الاستفادة منه.ومن هنا قالوا: عندما يتكلم الإنسان فانظر إلى عينيه!
ثالثها:تقوم العين بالتأثير في الغير بافتعال شعور خارجي، وإحساس معين، يقصد به الإيحاء بفكرة ما، أو عمل ما. وهذه النقطة تجرنا للحديث عن العلاقة بين العين والروح.
فثبت بذلك أن ما قيل من حكمة، أو من سرٍّ في تقديم السمع على البصر، لا يجدي نفعًا، ولا يفسر أسلوبًا، وبخاصَّة إذا علمنا أن السمع والبصر هما الأصل- من بين الحواس- في العلم بالمعلومات، التي يمتاز بها الإنسان عن البهائم؛ ولهذا يقرن الله تعالى بهما الفؤادَ في كثير من المواضع.
وإن كان من تفسير لتقديم السمع على البصر في أغلب الآيات؛ فإنما يرجع- في الحقيقة- إلىأن حركة اللسان بالكلام أعظمُ حركات الجوارح، وأشدُّها تأثيرًا في الخير والشر، والصلاح والفساد.. بل عامَّة ما يترتب في الوجود من الأفعال؛ إنما ينشأ بعد حركة اللسان، فكان تقديم الصفة المتعلقة به أهم وأولى.
وبهذا يُعلََم تقديم السمع على البصر، ثم تقديمهما على الفؤاد في قوله تعالى:﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾(الإسراء:36)
وكثيرًا ما يكون السياق مقتضيًا تقديم صفة السميع على صفة البصير؛ بحيث يكون ذكرها بين الصفتين متضمِّنًا للتهديد والوعيد؛كما جرت عادة القرآن بتهديد المخاطبين, وتحذيرهم، بما يذكره من صفات الله جل وعلا، التي تقتضي الحذر والاستقامة؛ كقوله تعالى:
﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا * مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾(النساء:133-134).
فقدَّم صفة السميع على صفة البصير؛ لأنالأول أوقع في باب التهديد والتخويف؛ ولهذا كان أولى منه بالتقديم.
ولما كان قوله تعالى:﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ﴾ خبرًا يتضمَّن التخويف والتهديد والوعيد، قدِّم السميع على البصير؛ كما قِّدم على العليم في نحو قوله تعالى:﴿قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾(المائدة:76)؛ ولهذا كان تقديمه أهمَّ، والحاجة إلى العلم به أمسّ.. فتأمل!
ثم قال تعالى:﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾،فخصَّ صفته- التي هي القدرة- بالذكر دون غيرها؛ لأنه تقدم ذِكرُفعلٍ مُضَمَّنُه التخويف والتهديد والوعيد؛ وهو الذهاب بالأسماع والأبصار. هذا أولا.
وأما ثانيًا فلأن القدرة هي التمكن من إيجاد الشيء. وقيل: هي صفة تقتضي التمكن. وقيل: قدرة الإنسان هيئة بها يتمكن من الفعل، وقدرة الله تعالى عبارة عن نفي العجز عنه سبحانه. والقادر هو الذي، إن شاء فعل، وإن لم يشأ لم يفعل، والقدير هو الفعَّال لما يشاء على ما يشاء؛ ولذلك قلَّما يوصف به غير الباري جل وعلا.
فتأمل هذه اللمحات اللطيفة، واللطائف الدقيقة، والأسرار البديعة في البيان الأعلى، واعلم أن أسراره أكثر وأعظم، من أن تحيط بها عقول البشر.. فسبحان من جعل كلامه لأدواء الصدور شافيًا، وإلى الإيمان وحقائقه مناديًا، وإلى الحياة الأبدية ونعيمها داعيًا، وإلى طريق الرشاد هاديًا، بما أودع فيه من هذه الأسرار المعجزة، التي تشهد بأنه تنزيل من حكيم حميد، والحمد لله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان حمدًا بعدد كلماته التي لا تنفد، وصلى الله على عبده ونبيه محمد إمام البلغاء، وسيد الفصحاء، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا!!
لمراسلة المؤلف : [email protected]
  #738  
قديم 07-07-2008, 04:31 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

البصر والبصيرة




د. محمد السقا عيد
ماجستير وأخصائى جراحة العيون
عضو الجمعية الرمدية المصرية
البصر أحد الحواس الخمس التي ندرك بها العالم حولنا نتأثر به ونؤثر فيه.
والبصر حاسة الرؤية كوظيفة جسدية وحاسة الإدراك كأداة سلوكية فنحن لا نبصر الشيء أي نراه فقط ولكننا نكون سلوكا معينا نتيجة هذه الرؤية. وفي مختار الصحاح "بصير بالشيء أي عليم به فهو بصير" ومنها قوله تعالى(بصرت بما لم يبصروا به) والتبصر هو التأمل والتعرف والتبصير التعريف والإفصاح
ومنه قوله (فلما جاءتهم آياتنا مبصرة) والابصار لا يكون مجرد فعل ورد فعل وانما يكون عملية تفاعل متكاملة .فنرى الشيء وندركه ونحلله ونكون عاطفة نحوه سلبية أو إيجابية ونسمى هذا الشعور حالة انفعال .
وحاسّة البصر نافذة من نوافد المعرفة، فبها نرى الأشياء التي تقع تحت نظرنا فنميّزها تمييزاً أوّلياً ، لكنّ الاعتماد على البصر وحده في التشخيص والتمييز والمعرفة غير كاف، إذ لا بدّ من مرجع آخر نرجع إليه في رفع الالتباس والغموض، أي إنّنا بحاجة إلى (ضوء) آخر نكشف به الظلمة العقلية، وهذا الضوء هو (البصيرة).
وقد ميز الله الانسان عن الحيوان بنعمة الفكر بالاستبصار حيث يتدرج الطفل من التفكير بالمحاولة والخطأ والتعلم بالشرطية والتقليدية والمحاكاة إلى مرحلة الاستبصار أي جمع حصيلة التجارب الفكرية القديمة ومزجها في خليط جديد لمواجهة مشكلة مستجدة عليه في المستقبل.
وقد خاطب الله الإنسان في أكثر من موقع قال تعالى"وفي أنفسكم أفلا تبصرون"... وتفسير الآية يحمل في طياته أن التبصر أعلى مراحل الوعي عند الإنسان لا تتحقق إلا إذا وصل درجة من العقل ترقي به إلى الملاحظة والاستنتاج والاستدلال والتحليل وفي الحياة العامة نلاحظ عند عامة الناس.
إن كثيراً من المآسي تكون نتيجة هذه الهوة العميقة بين البصر والبصيرة بين رؤية الشيء والقدرة على إدراكه والصبر في تحليله ووسيلة التعبير عن هذا الشعور نحوه بالقول أو الفعل.
ألا يمكن لكلمة واحدة أن تفسد علاقة سنوات أو حركة شاردة أن تهدم أركان أقوى الصلات هذه الكلمة أو ذلك الفعل قد سقط في الخندق الذي يفصل بين البصر والبصيرة .وما كل ذي عينين بالفعل يبصر ولا كل ذي كفين يعطي فيؤجر.
والسؤال الآن ما هي البصيرة ؟
البصيرة هي الحجة والاستبصار في الشيء في قوله تعالى( بل الإنسان على نفسه بصيرة)
ونفاذ البصيرة يعني قوة الفراسة وشدة المراس وقوة الحنكة والقدرة على تخطي العقبات الحالية بالخيرات السباقة المتراكمة بتطويعها وترويضها والاستفادة منها في رؤية حلول لمشاكل جديدة.
وقد تطلق البصيرة على العلم واليقين، كما في قوله تعالى( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي...)
وقد تطلق على نور القلب كما يطلق البصر على نور العين.
قال الراغب البصر يقال للجارحة الباصرة والقوة التي فيها، ويقال لقوة القلب المدركة بصيرة والبصيرة هي هذه القدرة على الرؤية الصحيحة المتشكّلة من عقل الانسان وثقافته وتربيته وتجربته ودينه ، وهي ما نصطلح عليها اليوم بـ (الوعي) فقد يكون الانسان ذا بصر حاذق لكنه ذو بصيرة كليلة ضعيفة ، ولذا اعتبر القرآن أن رؤية البصيرة أهم بكثير من رؤية البصر وذلك في قوله تعالى(فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)
والبصيرة هي أعلى القدرات التعليمية الفطرية، ولربما انفرد الإنسان بها، إذ يصعب قياس هذه القدرة مخبرياً ……
وهذه القدرة تتفاوت قوتها بين أفراد البشر … صحيح أننا كلنا نشعر بها حين نواجه مشكلة أعياناً حلها ثم (يأتى الجواب كلمح البرق) ولربما جاء الحل نتيجة تفكير طويل انشغل به الدماغ من حيث لا ندرى.
فالقدرة على النفاذ إلى كنه الأمور وخفايا المعضلات ملكة لا نعرف أحكامها الآلية العصبية، ونسميها بأسماء كثيرة (إلهام ، رؤية ، بصيرة ، النظر الثاقب ، أو النفاذ) وهى ليست القدرة على التحليل المنطقي والحساب أو الرياضيات ، أو البلاغة.
وحادثة رؤية سيدنا عمر بين الخطاب رضي الله عنه لسارية ومناداته له بمقولته الشهيرة " يا سارية الجبل " رغم بعد المسافة التي بينهما عن مجال البصر العادي هو نقلة للرؤية عبر الضوء السريع، فألقيت في الشبكية فحذر عمر سارية ، وتلك حادثة بأمر الله تعالى حيث سخر الله الضوء لسيدنا عمر (فحدث تغير فسيولوجي في البصر والبصيرة) نقل له هذه اللقطة عبر الشعاع الضوئي تأييداً ونصراً لمن ينصره.
وهذا أحد صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ينظر إلى امرأة في الطريق فتعجبه فيطيل النظر إليها ، ثم يدخل هذا الصحابي على أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضى الله عنه فيبادره بقوله : أما يستحى أحدكم أن يدخل على أمير المؤمنين وفى عينيه آثار الزنا؟ … فيتعجب الصحابي من معرفة سيدنا عثمان لذلك بالرغم من أن أحداً لم يره ، فيبادر سيدنا عثمان بقوله : أوحى أُنزل بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيقول له سيدنا عثمان : اتق فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله.
وكما أنّنا لا نستطيع أن نبصر في الظُلمة حيث. تتشابه الأشياء، أو إنّها تصبح أشباحاً لا يمكن تمييز بعضها عن بعض، فكذلك إذا فقدنا البصيرة فإنّنا نتورّط في التشخيص الخاطئ للأشخاص وللأمور. وهذا هو الفرق بين إنسان صاحب وعي وبصيرة، وآخر عديم البصيرة.
فالأوّل لا يقع ضحيّة الخداع والتغرير والتزوير، والثاني عرضة لذلك كلّه أمّا النموذج الآخر فهو الإنسان العاقل الذي يعي الواقع ويدركه ويعرف الناس من حوله، أي أنّ لديه القدرة على التمييز بين ما هو مستقيم وما هو منحرف، وما هو عدل وما هو ظلم، وما هو حق وما هو باطل، فالخير منه مأمول لأنّه مستقيم في فكره وفي عمله .
النموذج الأوّل إذن هو النموذج السالب الذي لا يعطي للحياة شيئاً بل يتسبّب في المتاعب لنفسه ولغيره.
والنموذج الثاني هو النموذج الموجب الذي يأخذ من الحياة ويعطيها وقد صوّر القرآن المميز بين الاثنين في قوله تعالى(أفمن يهدي إلى الحقِّ أحقُّ أن يُتّبع أمّن لا يهدِّي إلاّ أن يهدى فما لكم كيف تحكمون) وفي قوله تعالى : (أفمن يمشي مكبّاً على وجهه أهدى أمّن يمشي سوياً على صراط مستقيم ).
إنّ الجواب على التساؤل القرآني واضح ، فالذي يمشي سوياً ببصره وبصيرته أهدى من المنكبّ على وجهه الذي لا ينتفع ببصره في المشيء ولا ببصيرته، لأنّ السير على الطريق المستقيم لا يحتاج فقط إلى عينين مفتوحتين وإنّما إلى عقل مفتوح أيضاً.
كيف تعمل البصيرة في قلب المؤمن؟
إن عمل البصيرة الإيمانية في قلب المؤمن كعمل كشاف ضوء منير في وسط ظلمة حالكة، فهي التي تكشف الأشياء على حقيقتها فيراها المؤمن كما هي، ولا يراها كما زينت في الدنيا ولا كما زينها الشيطان للغاوين ولا كما زينها هوى النفس في الأنفس الضعيفة.
يقول الله _سبحانه_: " أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله.." (الزمر: 22)
- ويقول سبحانه: " أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها" ( الأنعام122).
يقول الإمام ابن القيم: " أصل كل خير للعبد – بل لكل حي ناطق – كمال حياته ونوره، فالحياة والنور مادة كل خير.. فبالحياة تكون قوته وسمعه وبصره وحياؤه وعفته.. كذلك إذا قوي نوره وإشراقه انكشفت له صور المعلومات وحقائقها على ما هي عليه فاستبان حسن الحسن بنوره وآثره بحياته وكذلك قبح القبيح " (إغاثة اللهفان 1/24).فما يكاد نور القرآن ونور الإيمان يجتمعان حتى لكأن النور الهادئ الوضيء يفيض فيغمر حياة المرء كلها ويفيض على المشاعر والجوارح، وينسكب في الحنايا والجوانح، تعانق النور، وتشرفه العيون والبصائر، فيشف القلب الطيب الرقراق، ويتجرد من كثافته ويتحرر من قيد العبودية غير عبودية الله الكبير المتعال، فإذا القلب المؤمن المبصر غاية في القوة والثبات وغاية في الطاعة والإخبات وغاية في التضحية والبذل بكل المتاع الزائل.
قال ابن القيم – رحمه الله – قال الله _تعالى_: " إن في ذلك لآيات للمتوسمين "
قال مجاهد يعني للمتفرسين.
وفي الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قول النبي _صلى الله عليه وسلم_: " اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله "، والتوسم التفرس ولهذا خص الله بالآيات والانتفاع بها هؤلاء...وبعث الله الرسل مذكرين ومنبهين ومكملين لما عند الناس من استعداد لقبول الحق بنور الوحي والإيمان فيضاف إلى ذلك نور الفراسة فيصير نوراً على نور فتقوى البصيرة " ( مدارج السالكين 1/110)
المصادر:
- كتاب القرآن وعلم النفس-د.محمد عثمان نجاتى
-كتاب مقومات الوعي والبصيرة
-مجلة النفس المطمئنة- العدد 53- مقال بين البصر والبصيرة
د.الزين عباس عمارة -أستاذ الطب النفسي
-موقع المسلم -البصيرة الإيمانية وإيجابية السلوك الشخصى -خالد السيد روشه
لمراسلة المؤلف
[email protected]
  #739  
قديم 07-07-2008, 04:33 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

الحية والثعبان ... إعجاز بياني في قصة موسى عليه السلام



بقلم المهندس عبد الدائم الكحيل

لفت انتباهي إلى هذا الموضوع أحد الإخوة القراء من خلال سؤال عن سر مجيء كلمة (ثعبان) تارة وكلمة (حية) تارة أخرى وذلك في سياق قصة سيدنا موسى عليه السلام. وقد يظن بعض القراء أن المعنى واحد، وأن هذا الأمر من باب التنويع وشد انتباه القارئ فقط....
ولكن وبعد بحث في هذا الموضوع ظهرت لي حكمة بيانية رائعة تثبت أن كل كلمة في القرآن إنما تأتي في الموضع المناسب، ولا يمكن أبداً إبدالها كلمة أخرى، وهذا من الإعجاز البياني في القرآن الكريم.

ولكي نوضح الحكمة من تعدد الكلمات عندما نبحث عن قصة سيدنا موسى عليه السلام مع فرعون لنجد أنها تكررت في مناسبات كثيرة، ولكن العصا ذُكرت في ثلاثة مراحل من هذه القصة:

1- عندما كان موسى سائراً بأهله ليلاً فأبصر ناراً وجاء ليستأنس بها فناداه الله أن يلقي عصاه.

2- عندما ذهب موسى إلى فرعون فطلب منه فرعون الدليل على صدق رسالته من الله تعالى فألقى موسى عصاه.

3- عندما اجتمع السَّحَرة وألقوا حبالهم وعصيّهم وسحروا أعين الناس، فألقى موسى عصاه.

هذه هي المواطن الثلاثة حيث يلقي فيها موسى العصا في قصته مع فرعون. ولكن كيف تناول البيان الإلهي هذه القصة وكيف عبّر عنها، وهل هنالك أي تناقض أو اختلاف أو عشوائية في استخدام الكلمات القرآنية؟

الموقف الأول

في الموقف الأول نجد عودة سيدنا موسى إلى مصر بعد أن خرج منها، وفي طريق العودة ليلاً أبصر ناراً فأراد أن يقترب منها ليستأنس فناداه الله تعالى، وأمره أن يلقي عصاه، فإذاها تتحول إلى حيّة حقيقية تهتز وتتحرك وتسعى، فخاف منها، فأمره الله ألا يخاف وأن هذه المعجزة هي وسيلة لإثبات صدق رسالته أمام فرعون.

ولو بحثنا عن الآيات التي تحدثت عن هذا الموقف، نجد العديد من الآيات وفي آية واحدة منها ذكرت الحيّة، يقول تعالى: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى *قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌتَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى) [طه: 17-21].

الموقف الثاني

أما الموقف فيتمثل بقدوم موسى عليه السلام إلى فرعون ومحاولة إقناعه بوجود الله تعالى، وعندما طلب فرعون الدليل المادي على صدق موسى، ألقى عصاه فإذا بها تتحول إلى ثعبان مبين. ولو بحثنا عن الآيات التي تناولت هذا الموقف نجد عدة آيات، ولكن الثعبان ذُكر مرتين فقط في قوله تعالى:

1- (وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ* قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌمُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ * قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ) [الأعراف: 104-109].

2- (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ* قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ* قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ* قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌمُبِينٌ* وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ * قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ) [الشعراء: 23-34].

الموقف الثالث

بعدما جمع فرعون السحرة وألقوا الحبال والعصيّ وسحروا أعين الناس وخُيّل للناس ولموسى أن هذه الحبال تتحرك وتهتز وتسعى، ألقى موسى عصاه فابتلعت كل الحبال والعصي، وعندها أيقن السحرة أن ما جاء به موسى حق وليس بسحر، فسجدوا لله أمام هذه المعجزة.

وقد تحدث القرآن عن هذا الموقف في العديد من سوره، ولكننا لا نجد أي حديث في هذا الموقف عن ثعبان أو حية، بل إننا نجد قول الحق تبارك وتعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ) [الأعراف: 117].

التحليل البياني للمواقف الثلاثة

لو تأملنا جيداً المواقف الثلاثة نجد أن الموقف الأول عندما أمر الله موسى أن يلقي عصاه وهو في الوادي المقدس، تحولت العصا إلى (حيَّة) صغيرة، وهذا مناسب لسيدنا موسى لأن المطلوب أن يرى معجزة،/ وليس المطلوب أن يخاف منها، لذلك تحولت العصا إلى حية.

أما في الموقف الثاني أمام فرعون فالمطلوب إخافة فرعون لعله يؤمن ويستيقن بصدق موسى عليه السلام، ولذلك فقد تحولت العصا إلى ثعبان، والثعبان في اللغة هو الحية الكبيرة[1]. وهكذا نجد أن الآيات التي ذُكرت فيها كلمة (ثعبان) تختص بهذا الموقف أمام فرعون.

ولكن في الموقف الثالث أمام السّحَرَة نجد أن القرآن لا يتحدث أبداً عن عملية تحول العصا إلى ثعبان أو حية، بل نجد أن العصا تبتلع ما يأفكون، فلماذا؟

إذا تأملنا الآيات بدقة نجد أن السحرة أوهموا الناس بأن الحبال تتحرك وتسعى، كما قال تعالى: (فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى)[طه: 66]. وهنا ليس المطلوب أن يخاف الناس بالثعبان، وليس المطلوب أن تتحول العصا إلى حية، بل المطلوب أن تتحرك العصا وتلتهم جميع الحبال والعصِيَ بشكل حقيقي، لإقناع السحرة والناس بأن حبالهم تمثل السحر والباطل، وعصا موسى تمثل الحق والصدق، ولذلك يقول تعالى (قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ*فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ) [الأعراف: 115-122].

إحصائيات قرآنية

إن كلمة (حيَّة) لم تُذكر في القرآن إلا مرة واحدة عندما أمر الله موسى أن يلقي العصا وهو في الوادي المقدس، فتحولت إلى حية تسعى. وجاءت هذه الكلمة مناسبة للموقف. أما كلمة (ثعبان) فقد تكررت في القرآن كله مرتين فقط، وفي كلتا المرتين كان الحديث عندما ألقى موسى عصاه أمام فرعون، وكانت هذه الكلمة هي المناسبة في هذا الموقف لأن الثعبان أكبر من الحية وأكثر إخافة لفرعون.

ونستطيع أن نستنتج أن الله تعالى دقيق جداً في كلماته وأن الكلمة القرآنية تأتي في مكانها المناسب، ولا يمكن إبدال كلمة مكان أخرى لأن ذلك سيخل بالجاني البلاغي والبياني للقرآن الكريم الذي قال الله عنه: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت: 42].

بقلم عبد الدائم الكحيل

www.kaheel7.com

[1]الفيروز آبادي، المعجم المحيط، معنى كلمة (ثعبان)، دار المعرفة، بيروت 2005.

  #740  
قديم 07-07-2008, 04:36 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

حتى إذا بلغ مغربَ الشمس وجدها تغرب في عينٍ حَمِئَةٍ

(رد على رسالة من أحد نصارى المهجر تدعونا إلى ترك الإسلام واعتناق التثليث)
بقلم: د. إبراهيم عوض
بعث لي أحد إخواننا من نصارى المهجر في الأسبوع الماضي برسالة مشباكية (مكتوبة بلغة إنجليزية لا بأس بها، وإن لم تخل من الأخطاء) يعقّب فيها على مقالي: "إعلان سيد القمنى الاعتزال: خواطر وتساؤلات"، الذي نُشِر بجريدة "الشعب" الضوئية يوم الجمعة الموافق 20/ 8/ 2005م، لكنه ترك تقريبا كل ما قلته في مقالي المشار إليه فلم يردّ على شيء منه، اللهم إلا ما كتبته عن المعجزات وأن غيابها عن النسق العقيدى عندنا لا يضر الإسلام في شيء، ورغم هذا جاء تناوله للموضوع على نحو لم أجد معه داعيا إلى الخوض فيه كَرّةً أخرى، وبخاصة أنه لم يحقِّق جيدا ما كتبته في هذه النقطة. ثم ثنَّى فتحدَّى المسلمين أن يستطيعوا الرد على ما يوجَّه للقرآن من انتقادات علمية منها ما يتعلق مثلا بما جاء في الآية 86 من سورة "الكهف" عن ذي القرنين ومشاهدته الشمس وهى تغرب في عين ماء، مما يخالف حقائق علوم الفلك كما قال. وفى نهاية الرسالة لم ينس أن يرجو لنا أن نفيق من الغاشية التي تطمس على أبصارنا منذ أربعة عشر قرنا من الظلام وأن نعود إلى المسيح بعد أن بيَّن لنا هو وأمثاله مقدار الجهل الكبير الذي يتصف به الله ومحمد حسبما قال. يا شيخ، فأل الله ولا فألك! أتريدنا أن نرتد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ونعود إلى العصر الحجري في مسائل العقيدة والعبادة، ونترك التوحيد إلى التثليث، وندع الاحترام والتقدير العظيم الذي نكنّه في أعماق قلوبنا للسيد المسيح عليه السلام بوصفه رسولا وجيهًا في الدنيا والآخرة ومن المقرَّبين ونتخذه وثنا نشركه مع الله سبحانه وتعالى كما يفعل الكافرون؟ ألم تقرأ قول الحق تبارك وتعالى:"وقالت اليهود: عُزَيْرٌ ابنُ الله، وقالت النصارى: المسيحُ ابنُ الله! ذلك قولهم بأفواههم، يضاهئون قول الذين كفروا من قبل. قاتلهم الله! أَنَّى يُؤْفَكون؟" (التوبة/ 30)؟ لا يا عم، يفتح الله! خّلِّك فيما أنت فيه، ولْنَبْقَ نحن أيضا في النور والهدى الذي أكرمنا الله به على يد سيد النبيين والمرسلين، صلَّى الله وسلَّم عليه وعليهم أجمعين. وقد كتبتُ هذه الكلمة على الطائر وأنا على جناح سفر، ولم يرنِّق النوم في عيني طوال الليل إلا لساعة أو أقلّ دون سببٍ واضح، فلم يتسنّ لي تدقيق مراجعتها، ولعلي لم أخطئ فيها أخطاء فاحشة، وإلا فإني أعتذر مقدما من الآن.
والآية التي يشير إليها صاحب الرسالة هي قوله تعالى: "حَتَّى إِذَا بَلَغَ (أي ذو القرنين) مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا...". وأَدْخُل في الموضوع على الفور فأقول: من المعروف في كتب اللغة أن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض، بمعنى أن هناك توسعا في استعمالها، بل إن في اللغة توسعات كثيرة في غير حروف الجر أيضا، وإن لم تكن هذه التوسعات دون ضوابط حتى لو لم نستطع في بعض الأحيان أن نتنبه لها، أو على الأقل حتى لو لم نتفق عليها. وقد تُسَمَّى هذه التوسعات بــ"المجاز"، وهو ما يعنى أن الكلام لا ينبغي أن يؤخذ على ظاهره أو حرفيته. وهذا، كما سبق القول، معروف عند دارسي اللغات. ولْنأخذ حرف الجرّ "في" (الموجود في الآية) لنرى ماذا يقول النحاة في استعمالاته: فهم يقولون إنه يُسْتَخْدَم في عشرة معانٍ‏:‏ الأول‏:‏ الظرفية، زمانًا أو مكانًا، حقيقةً أو مجازًا، ومن الزمانية: "حضرتُ إلى الاجتماع في العاشرة مساء"، ومن المكانية: "سكنتُ في هذا البيت أعواما طوالا". الثاني‏:‏ المصاحبة، نحو قوله تعالى: "ادخلوا في أُمَمٍ"، أي بمصاحبتها ‏(الأعراف‏/ 38‏)‏‏.‏ الثالث‏:‏ التعليل، نحو‏:‏ ‏"فذلكم الذي لمتُنَّنى فيه"، أي بسببه (يوسف‏/ ‏32). الرابع‏:‏ الاستعلاء، نحو قوله تعالى: "ولأُصَلِّبَنَّكم في جذوع النخل"، أي عليها (طه/ 71‏). الخامس‏:‏ مرادفة الباء، نحو: "فلان بصير في الموضوع الفلاني"، أي بصير به‏.‏ السادس‏:‏ مرادفة ‏"إلى‏" نحو قوله تعالى: "فرَدّوا أيديهم في أفواههم"، أي مَدَّ الكفار أيديهم إلى أفواه الرسل ليمنعوهم من الدعوة إلى الهدى والنور ‏(إبراهيم‏/ ‏9). السابع‏:‏ مرادفة ‏"‏مِنْ‏".‏ الثامن‏:‏المقايسة، وهي الداخلة بين مفضولٍ سابقٍ وفاضلٍ لاحقٍ، كما في قوله سبحانه:"فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل"، أي أن متاع الحياة الدنيا بالقياس إلى الآخرة قليل ‏(التوبة‏/‏ 38). التاسع‏:‏ التعويض، ‏ كما في قولنا: "دفعتُ في هذا الكتاب عشرين جنيها".‏ العاشر‏:‏ التوكيد، وأجازه بعضهم في قوله تعالى: "وقال: اركبوا فيها"، أي أن الركوب لا يكون إلا في السفينة، ولذلك لا ضرورة للنص على ذلك إلا من باب التوكيد (انظر في ذلك مثلا "مغنى اللبيب" لابن هشام).
وفى القرآن الكريم نقرأ قوله عز وجل:"يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حَذَرَ الموت" (البقرة/ 19)، والمقصود أن كلا منهم يضع طرف إصبع واحدة من أصابعه عند فتحة الأذن، لا في داخلها. ونقرأ: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة" (البقرة/ 30)، وطبعا لم يجعل المولى الإنسان خليفة في الأرض، أي في باطنها، بل على سطحها. ونقرأ: "وأُشْرِبوا في قلوبهم العِجْل بكفرهم" (البقرة/ 93)، وليس المقصود العجل نفسه بل عبادته، وهى لا تُشْرَب ولا تدخل في القلب بالمعنى الذي نعرفه. ونقرأ: "قل: أتحاجّوننا في الله، وهو ربنا وربكم" (البقرة/ 139)، أي أتحاجّوننا بشأن الله؟ ونقرأ:"قد نرى تقلُّب وجهك في السماء، فلنولينَّك قِبْلَةً ترضاها" (البقرة/ 144)، أي صوب نواحي السماء، وليس في السماء فعلا. ونقرأ: "ليس البِرَّ أن تُوَلُّوا وجوهكم قِبَل المشرق والمغرب، ولكن البِرَّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حُبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب" (البقرة/ 177)، والإنسان لا ينفق ماله في الرقاب، بل يعتق به الرقاب. ونقرأ: "يا أيها الذين آمنوا، كُتِب عليكم القِصَاص في القتلى" (البقرة/ 178)، أي مقابل جريمة القتل وتعويضا لأهل القتيل. ونقرأ: "وإذا تولَّى سَعَى في الأرض ليُفْسِد فيها" (البقرة/ 205)، أي فوقها. ونقرأ:"هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظُلَلٍ من الغمام والملائكةُ وقُضِيَ الأمر؟" (البقرة/ 217)، أي يقع بهم عقاب الله في هيئة ظلل من الغمام. ونقرأ: "والذين يُتَوَفَّوْن منكم ويَذَرُون أزواجا وصيةً لأزواجهم متاعًا إلى الَحْول غيرَ إخراج. فإن خرجن فلا جُناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف" (البقرة/ 234)، أي فعلن بأنفسهن. ونقرأ: "وكتبنا له في الألواح من كل شيءٍ موعظةً وتفصيلاً لكل شيء" (الأعراف/ 145)، أي على الألواح. ونقرأ: "وإذ يُريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقلِّلكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا" (الأنفال/ 44)، أي أمام أعينكم وأعينهم. ونقرأ: "يا أيها النبي، قل لمن في أيديكم من الأسرى..." (الأنفال/ 70)، ولا يمكن إنسانا أن يكون في يد إنسان آخر بالمعنى الحرفي كما هو واضح. ونقرأ: "الذين كانت أعينهم في غطاءٍ عن ذِكْرِي" (الكهف/ 101)، والعيون لا تكون في الغطاء، بل تحت الغطاء. ونقرأ: "وأَذِّنْ في الناس بالحج يأتوك رجالا" (الحج/ 27)، أي أذِّن بحيث يسمعك الناس. ونقرأ: "... وتقلُّبك في الساجدين" (الشعراء/ 219)، أي معهم. ونقرأ:"فإذا أُوذِيَ في الله جَعَل فتنة الناس كعذاب الله" (العنكبوت/ 10)، أي أُوذِىَ بسبب إيمانه بالله. ونقرأ: "لقد كان لسبإٍ في مسكنهم آيةٌ: جنتان عن يمينٍ وشِمال" (سبأ/ 15)، والجنتان لم تكونا في مساكن سبإ، بل حولها أو قريبا منها. "أَوَمَنْ يُنَشَّا في الحِلْيَة وهو في الخصام غير مُبِين؟" (الزخرف/ 18)، والنساء لا ينشأن في الحلية بل مرتديات لها ومستمتعات بها. ونقرأ: "إن المتقين في جنّات ونَهَر" (القمر/ 94)، والمتقون في الآخرة سيكونون فعلا في الجِنَان، لكنهم بكل تأكيد لن يكونوا في الأنهار، بل ستجرى الأنهار في الجِنَان. ونقرأ: "في سِدْرٍ مخضود" (الواقعة/ 28)، وهم لن يكونوا في الجنة في شجر السِّدْر، بل سيأكلون منه. ونقرأ: "أولئك كَتَب في قلوبهم الإيمان" (المجادلة/ 22)، ولا كتابة في القلوب بالمعنى الظاهرى بطبيعة الحال ولا حتى فوقها. ونقرأ:"ثم في سلسلةٍ ذَرْعُها سبعون ذراعا فاسلكوه" (الحاقة/ 32)، أي اربطوه بها. ونقرأ: "في جِيدها حبلٌ من مَسَد" (المسد/ 5)، أي حَوْل جيدها... وهكذا.
وفى الكتاب المقدس عند اليهود والنصارى أمثلة كثيرة على ما نقول، وهو أمر طبيعي، فهذه هي طبيعة اللغة، سواء في كتاب الله أو في كلام أهل الكتاب أو في أي كلام آخر. وهذه بعض الأمثلة من الكتاب المذكور: " كل شجر البرية لم يكن بعد في الارض" (تكوين/ 2/ 5)، " وكان قايين
عاملا في الأرض" (تكوين/ 4/ 2)، "وأما نوح فوجد نعمة في عيني الرب" (تكوين/ 6/ 8)، " كان نوح رجلا بارا كاملا في أجياله" (تكوين/ 6/ 9)، "تنجح طريقي الذي أنا سالك فيه" (تكوين/ 24/ 42)، "فوضعت الخزامة في انفها" (تكوين/ 24/ 47)، "فاحب اسحق عيسو لان في فمه صيدا" (تكوين/ 25/ 28)، "فتعاظم الرجل وكان يتزايد في التعاظم" (تكوين/ 26/ 13)، "فالآن يا ابني اسمع لقولي في ما أنا آمرك به" (تكوين/ 27/ 8)، "ويتبارك فيك وفي نسلك جميع قبائل الأرض" (تكوين/ 28/ 14)، "وخلع فرعون خاتمه من يده وجعله في يد يوسف والبسه ثياب بوص ووضع طوق ذهب في عنقه" (تكوين/ 41/ 42)، "فتقدموا إلى الرجل الذي على بيت يوسف وكلموه في باب البيت" (تكوين/ 43/ 19)، "أليس هذا هو الذي يشرب سيدي فيه؟" (تكوين/ 44/ 5)، "وحمل بنو إسرائيل يعقوب أباهم وأولادهم ونساءهم في العجلات التي أرسل فرعون لحمله" (تكوين/ 46/ 5)، "ومرّروا حياتهم بعبودية قاسية في الطين واللبن وفي كل عمل في الحقل" (خروج/ 1/ 14)، "خرج إلى إخوته لينظر في أثقالهم" (خروج/ 2/ 11)، "ما بالكنّ اسرعتنّ في المجيء اليوم" (خروج/ 2/ 18)، "وقال الرب لموسى: عندما تذهب لترجع إلى مصر انظر جميع العجائب التي جعلتها في يدك واصنعها قدام فرعون" (خروج/ 4/ 21)، "فذهب والتقاه في جبل الله وقبّله" (خروج/ 4/ 27)، "هما اللذان كَلّما فرعون ملك مصر في إخراج بني إسرائيل من مصر" (خروج/ 6/ 27)، " الدمامل كانت في العرّافين وفي كل المصريين" (خروج/ 9/ 11)، "تخبر في مسامع ابنك وابن ابنك بما فعلتُه في مصر وبآياتي التي صنعتها بينهم" (خروج/ 10/ 2)...إلخ، وهى بالمئات، إن لم تكن بالألوف. ومن هنا كان من السهل أن ندرك معنى قول القرطبى مثلا في الآية المذكورة: "وَيَجُوز أَنْ تَكُون الشَّمْس تَغِيب وَرَاءَهَا (أي وراء العَيْن الحَمِئَة) أَوْ مَعَهَا أَوْ عِنْدهَا، فَيُقَام حَرْف الصِّفَة مَقَام صَاحِبه". يقصد أن حروف الجر قد ينوب بعضها عن بعض، بمعنى أن يُسْتَعْمَل بعضها في مكان بعضها الآخر. وفى نفس المجرى يجرى ما نجده عند البغوى وأبى حيان، إذ نقرأ في تفسير الأول نقلا عن القتيبى أنه بجوز أن يكون المعنى هو أنه كان "عند الشمس" أو "في رأى العين" عين حمئة، أما الثاني فقد ذكر أن بعض البغداديين يفسر قوله تعالى: "في عين حمئة" بمعنى "عند عين حمئة".
بل إن في الكتاب المقدس عبارات كثيرة من نوع الآية القرآنية التي بين أيدينا بل أَوْغَل في مضمار الاستخدامات المجازية، ويقرؤها هؤلاء الذين يرددون تخطئة القرآن كما تفعل الببغاوات الغبية، لكن دون فهم أو تمييز، ومن ثم لا يخطر في بالهم أن يقفوا ويتدبروا ويفكروا في أمر هذا التشابه في الاستعمالات الأسلوبية وأنه مسألة عادية جدا لأنه هكذا كانت اللغة وهكذا ستظل إلى يوم يبعثون. وهم في هذا كالكلب الذي ربّاه صاحبه على نباح المارة وعضِّهم، فكلما رأى شخصا مارًّا من أمام البيت نبحه وعضه دون تفكير. لنأخذ مثلا الشواهد التالية: "اما هما في عبر الأردن وراء طريق غروب الشمس في ارض الكنعانيين..." (تثنية/ 11/ 30)، "هكذا يبيد جميع اعدائك يا رب. واحباؤه كخروج الشمس في جبروتها" (قضاة/ 5/ 31)، "هكذا قال الرب: هانذا أقيم عليك الشر من بيتك وآخذ نساءك إمام عينيك واعطيهنّ لقريبك فيضطجع مع نسائك في عين هذه الشمس" (صموئيل 2/ 12/ 11)، "وقلت لهما: لا تفتح أبواب أورشليم حتى تَحْمَى الشمس" (نحميا/ 7/ 3)، "قدام الشمس يمتد اسمه" (مزامير/ 72/ 17)، "ثم رجعت ورأيت كل المظالم التي تجرى تحت الشمس" (الجامعة/ 4/ 1)، "ويخجل القمر وتَخْزَى الشمس" (إشعيا/ 24/ 23)، "واظلمت الشمس وانشقّ حجاب الهيكل من وسطه" (لوقا/ 23/ 44)، "انك قد طردتني اليوم عن وجه الأرض ومن وجهك اختفِي وأكون تائها وهاربا في الأرض. فيكون كل من وجدني يقتلني" (تكوين/ 4/ 14)، "وفسدت الأرض إمام الله وامتلأت الأرض ظلما" (تكوين/ 6/ 11)، "الآن قم اخرج من هذه الأرض" (تكوين/ 31/ 13)، "وأدخلكم إلى الأرض التي رفعت يدي أن أعطيها لإبراهيم" (خروج/ 6/ 8)، "واستراحت الأرض من الحرب" (يشوع/ 14/ 15)، "دور يمضي ودور يجيء والأرض قائمة إلى الأبد" (جامعة/ 1/ 4)، "فوجدها ملاك الرب على عين الماء في البرية. على العين التي في طريق شور" (تكوين/ 16/ 7). ومن الواضح أن هذا كله على خلاف الواقع وينبغي ألا يأخذه القارئ مأخذا حرفيا، وإلا لم يكن للكلام معنى: فمثلا ليس هناك للشمس تحتٌ ولا فوقٌ، وإنما هو تعبير بشرى، فنحن أينما كنا على الأرض نتصور أن الشمس فوقنا، ومن ثم فنحن تحتها، على حين أنه لو كان الأمر كذلك لكان ينبغي إذن أن نكون "فوق" الشمس بعد ستة أشهر من ذلك حين تدور الأرض نصف دورتها السنوية، وهذا لا يصير. كذلك فليس للشمس عين (ولا أذن ولا أنف) أصلا حتى نكون أوْ لا نكون في عينها، كما أنها ليس لها طريق تسير فيه على الأرض، ودَعْك من أننا يمكن أن نسير نحن فيه أيضا. وبالنسبة لقول قابيل إنه هرب في الأرض، فهو مجرد تعبير بشرىّ، وإلا فقولنا: "في الأرض" إنما يعنى حرفيا: "داخل الأرض"، وهو ما لا يقصده قابيل ولا أي إنسان آخر في مثل وضعه... وهكذا.
وقبل كل ذلك فإن الكلام هنا ليس كلاما في علم الطبيعة أو الجغرافيا أو الجيولوجيا، بل هو كلام أدبي يقوم في جانب منه على التعبيرات المجازية والتجسيدية والتشخيصية وما إلى ذلك. باختصار: هذه هي طبيعة اللغة، أما الكلاب التي تنبح المارة وتعضهم لا لشىء سوى أنه قد قيل لها: انبحي أي مارٍّ من هنا وعضّيه، فإنها لا تفهم هذا ولا تفقهه ولا تدركه ولا تتذوقه، إذ متى كانت الكلاب تستطيع أن تتذوق شيئا غير العظم المعروق الذي أُكِل ما عليه من لحم، ثم أُلْقِىَ به لها تعضعضه وتمصمصه تحت الأقدام؟ وعلى هذا فليس هناك أي متعلَّق لأي إنسان كائنا من كان كي ينتقد الآية القرآنية إلا إذا كان يريد النباح والعضّ والسلام، ولا يبغى فهما أو معرفة. فالحرف "في" في الآية الكريمة لا يعنى "داخل العين الحمئة" لأن الآيات القرآنية التي تذكر الشمس (كما سنوضح لاحقا) تتحدث عنها على أنها جِرْمٌ موجودٌ في الفضاء لا يغادره أبدا، بل يعنى أنه قد تصادف وقوع غروب الشمس حين كان ذو القرنين في ذلك المكان عند العين الحمئة، وإن كان ما شاهده بعينه يوحى أنها قد غربت في تلك العين. وحتى لو قيل إنها لم تغرب في العين بل وراء العين أو عند العين أو ما إلى ذلك، فإن هذا كله لا يصح من الناحية العلمية، فالشمس لا تبتعد ولا تختفي، بل الأرض هي التي تتحرك حولها، فتبدو الشمس وكأنها هي التي تغيب. لكنى قد عثرت أثناء تقليبي في المشباك بمن يقول معترضا على الآية إن مثل هذا التوجيه كان يمكن أن يكون مقبولا لو أن الآية فالت إن ذا القرنين "رأى" أو "شاهد" الشمس تغرب في العين، أمّا والآية تقول إنه "وجدها" تغرب في عينٍ حمئةٍ فمعنى هذا أن المقصود هو أنها كانت تغرب في العين فعلا. وقد جعلني هذا أفكر في استعمال هذا الفعل في مثل ذلك السياق في العربية لأرى أهو حقا لا يعنى إلا أن الأمر هو كذلك في الواقع لا في حسبان الشخص وإدراكه بغضّ النظر عما إذا كان هذا هو الواقع فعلا أو لا. وقد تبين لي أن الأمر ليس كما ذهب إليه ذلك المعترض الذي سمي نفسه: "جوتاما بوذا" أو شيئا كهذا، فنحن مثلا عندما يُسْأَل الواحد منا السؤال التالي عن صحته: "كيف تجدك اليوم؟" (أي "كيف حالك؟") يجيب قائلا: "أجدنى بخير وعافية"، وقد يكون هذا القائل مريضا لكنه لا يدرى لأن أعراض المرض ليست من الوضوح أو لأنه من الاندماج في حياته اليومية بحيث لا يتنبه لحالته الصحية الحقيقية. وبالمثل يمكن أن يقول الواحد منا (صادقا فيما يظن) إنه وجد فلانا يضرب ابنه عند البيت، بينما الحقيقة أنه كان يداعبه أو كان يضرب ابن الجيران مثلا، لكن المتكلم توهم الأمر على ما قال. كذلك فالمصاب بعمى الألوان قد يقول إنه وجد البطيخة التي اشتراها خضراء على عكس ما أكد له البائع، ثم يكون العيب في الشاري لا في البائع ولا في البطيخة. أما المتنبي في قوله:
ومن َيكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ ** يجدْ مُرًّا به الماءَ الزُّلالا
فقد كفانا مؤنة التوضيح بأنّ وجْداننا الشيء على وضعٍ ما لا يعنى بالضرورة أنه على هذا الوضع في الحقيقة والواقع. وفى القرآن مثلا: "فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقضّ فأقامه" (الكهف/ 77)، وليس هناك في أي مكان في الدنيا جدار عنده إرادة: لا للانقضاض ولا للبقاء على وضعه الذي هو عليه، لأن الجدران من الجمادات لا من الكائنات الحية ذوات الإرادة. كذلك فعندنا أيضا قوله عز شأنه: "والذين كفروا أعمالُهم كسرابٍ بقِيعَةٍ يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفّاه حسابه" (النور/ 39)، ولا يمكن القول أبدا بأن الآية على معناها الحرفي، فالله سبحانه لا ينحصر وجوده في مكان من الأمكنة، بل الكون كله مكانا وزمانا وكائنات في قبضته عز وجل، ومن ثم لا يمكن أن ينحصر وجوده عند السراب، وهذا من البداهة بمكان لأنه سبحانه وتعالى هو المطلق الذي لا يحده حد. والطريف أن بعض المفسرين الذين رجعت إليهم بعد ذلك قد وجدتهم يقولون إنه لو كانت الآية قالت إن الشمس "كانت تغرب" في العين فعلا لكان ثم سبيل لانتقادها، أما قولها إن ذا القرنين "وجدها تغرب" في العين فمعناه أن ذلك هو إدراكه للأمر لا حقيقته الخارجية. ومن هؤلاء البيضاوى، وهذه عبارته: "ولعله بلغ ساحل المحيط فرآها كذلك إذ لم يكن في مطمح بصره غير الماء، ولذلك قال: وجدها تغرب، ولم يقل: كانت تغرب"، وهذا الذي قاله أولئك المفسرون هو الصواب. وفى الكتاب المقدس لدى اليهود والنصارى شيء مثل ذلك، ومنه هذا الشاهدان: "وأما نوح فوجد نعمة في عيني الرب" (تكوين/ 6/ 8)، "فوجدها ملاك الرب على عين الماء في البرية. على العين التي في طريق شور" (تكوين/ 16/ 7). فالنعمة لا توجد في عين الرب على سبيل الحقيقة، فضلا عن أن الله لا يمكن أن يُرَى ولا أن تُرَى عينه (إن قلنا إن له سبحانه عينا لكنها ليست كأعيننا). كما أن المرأة التي وجدها ملاك الرب لم تكن "على" العين، بل "عند" العين. أي أن الحقيقة الخارجية في كلا الشاهدين لم تكن على حَرْفِيّة ما جاء في العبارتين.

يتبـــــــــــــــــــــــــع
موضوع مغلق


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 78 ( الأعضاء 0 والزوار 78)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 292.52 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 286.66 كيلو بايت... تم توفير 5.87 كيلو بايت...بمعدل (2.01%)]