|
|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
العصمة
العصمة صادق بن محمد الهادي أوَّلاً: تعريف العصمة: العصمة في اللغة: يمكن القول: إنَّ العصمة وردت في اللُّغة لعدَّة معان، منها: 1- المنع: قال في "لسان العرب": "العصمة في كلام العرب: المنع، وعِصْمة الله عبدَه: أن يعصمه ممَّا يوبِقُه، يقال: عصمه يعصمه عَصْمًا: منعه ووقاه"[1]، ويقال: عصمته من الطَّعام؛ أي: منعته عن تناوله، وعصمته من الكذب؛ أي: منعتُه منه، ومنه قوله تعالى: ﴿ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء ﴾ [هود: 43]؛ أي: يمنعني من الغرق، وقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ ﴾ [يوسف: 32]؛ أي: امتنعَ امتناعًا شديدًا، وجاء في الحديث: ((أُمِرْت أن أقاتل النَّاس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمَن قالها فقد عصم مني مالَه ونفسه ...))[2]؛ أي: منع منِّي ماله ونفسه، وسمِّيت العصمة عصمة؛ لأنَّها تمنع من ارتِكاب المعصية[3]، وقد جاءت العصمة بمعنى المنع أيضًا في قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [المائدة: ]؛ أي: من القتْل، على تفسير[4]،ومنه قول الشاعر: وَقُلْتُ: عَلَيْكُمْ مَالِكًا إِنَّ مَالِكًا ♦♦♦ سَيَعْصِمُكُمْ إِنْ كَانَ فِي النَّاسِ عَاصِمُ[5] يعْني: يمنعكم، ومنه قول الفرزدق: أَنَا ابْنُ العَاصِمِينَ بَنِي تَمِيمٍ ♦♦♦ إِذَا مَا أَعْظَمُ الحَدَثَانِ نَابَا[6] [7] فعلى هذا المعنى للعِصْمة يكون قول بعضِهم: العصمة لله وحْده، قولاً لا يصحُّ؛ لأنَّ العصمة إنَّما تكون من الجرائم والذُّنوب، ولا يصح نِسْبتها إلى الله - عزَّ وجلَّ. 2- الحِفْظ: قال في اللسان: "والعِصْمة: الحفظ، يقال: عصمَه فانعصم، واعتصمْتُ بالله إذا امتنعت بلطفه من المعصية"[8]، وقال الحافظ في كتاب "القدر" في شرح باب (المعصوم من عصم الله): "أي: مَن عصمه الله بأن حَماه من الوقوع في الهلاك، أو ما يجرُّ إليه، يقال: عصمه الله من المكروه: وقاه وحفظه، واعتصمتُ بالله لجأْت إليه"[9]. 3- القلادة: قال الزَّبيدي: "والعصمة: القلادة، وقال الراغب: شبه السوار ... والجمع الأعصمة"[10]، ونصُّ الصِّحاح: "والعِصْمة القلادة، والجَمع الأعْصام، والمِعْصم: موضع السِّوار من السَّاعد، قال لبيد في معلقته: حَتَّى إِذَا يَئِسَ الرُّمَاةُ وَأَرْسَلُوا ♦♦♦ غَضَفًا دَوَاجِنَ قَافِلاً أَعْصَامُهَا وأنشد ابن سيده: فَاليَوْمَ عِنْدَكَ دَلُّهَا وَحَدِيثُهَا ♦♦♦ وَغَدًا لِغَيْرِكَ كَفُّهَا وَالمِعْصَمُ وربَّما جعلوا المعصم اليد، ومنْه قول الأعشى: فَأَرَتْكَ كَفًّا فِي الخِضَا ♦♦♦ بِ وَمِعْصَمًا مِلْءَ الجُبَارَهْ[11] 4- الحبل: قال الزجَّاج: "أصل العِصْمة الحبل، وكل ما أمسك شيئًا فقد عصمه"[12]، وقال محمد بن نِشْوان الحِمْيري في ضياء الحلوم: "أصل العصمة السبب والحبل"[13]، "والعصام: رباط القربة وسيرها الذي تحمل به، قال الشَّاعر أبو كبير[14]: وَقِرْبَة أَقْوَامٍ جَعَلْتُ عِصَامَهَا ♦♦♦ عَلَى كَاهِلٍ مِنِّي ذَلُولٍ مُرَحَّلِ[15] 5- السبب؛ قال الطبري: "ولذلك قيل للحبل: عصام، وللسَّبب الذي يتسبَّب به الرجل إلى حاجته عصام، ومنه قول الأعشى: إِلَى المَرْءِ قَيْسٍ أُطِيلُ السُّرَى ♦♦♦ وَآخُذُ مِنْ كُلِّ حَيٍّ عِصَمْ يعني بالعصم: الأسباب، أسباب الذمَّة والأمان، يقال منه: اعتصمتُ بحبلٍ من فلان واعتصمت حبلاً منه، واعتصمت به واعتصمته، وأفصح اللغتين إدخال الباء؛ كما قال - عزَّ وجل -: ﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا ﴾ [آل عمران: 103]، وقد جاء: اعتصمْته، كما الشَّاعر: إِذَا أَنْتَ جَازَيْتَ الإِخَاءَ بِمِثْلِهِ ♦♦♦ وَآسَيْتَنِي ثُمَّ اعْتَصَمْتَ حِبَالِيَا[16] وخلاصة القول: أنَّ هذه المعاني كلّها للعِصْمة ترجع إلى المعنى الأوَّل الذي هو المنْع، فالحفظ منع للشَّيء من الوقوع في المكْروه أو المحظور، والقلادة تَمنع من سقوط الخرز منها، والحبْل يمنع من السُّقوط والتردِّي، والسَّبب يمنع صاحبه عمَّا يكره. وأمَّا في الشرع: فالعِصْمة هي: حفظ الله لأنبيائه ورسُلِه من الوقوع في الذُّنوب والمعاصي، وارتِكاب المنكرات والمحرَّمات. وعرَّفها الحافظ ابن حجر بقوله: "وعصمة الأنبِياء - على نبيِّنا وعليْهِم الصَّلاة والسَّلام -: حِفْظُهم من النقائص، وتَخصيصهم بالكمالات النفيسة، والنصرة والثَّبات في الأمور، وإنْزال السَّكينة، والفرق بينهم وبين غيرهم أنَّ العِصْمة في حقِّهم بطريق الوجوب، وفي حقِّ غيرهم بطريق الجواز"[17]، وقال الرَّاغب: "عصمة الله الأنبِياءَ: حِفْظُه إيَّاهم أوَّلاً بما خصَّهم من صفاء الجوهر، ثمَّ بما أوْلاهم من الفضائل الجسمية والنفسية، ثم بالنصرة وتثبيت أقدامهم، ثم بإنزال السكينة عليهم، وبحفظ قلوبهم وبالتَّوفيق"، وقال المناوي: "العصمة مَلَكة اجتناب المعاصي مع التمكُّن منها"[18]. وعلى كلٍّ فقد عُرِّفت العِصْمة بعدَّة تعريفات، أحسن وأسلم هذه التَّعريفات ما ذكره صاحب كتاب "نسيم الرياض" بأنَّها: "لطفٌ من الله - تعالى - يَحمل النبيَّ على فعل الخير، ويزْجره عن الشَّرِّ، مع بقاء الاختِيار تحقيقًا للابتِلاء"[19]. ما الحكمة من عصمة الأنبياء؟ الشرع والعقل يلزمان بعصمة الأنبياء للأسباب التالية: 1- العصمة ثابتة للأنبياء أكرمهم الله بها، وميَّزهم على سائر البشر؛ حتى تتحقَّق حكمة الاقتداء والتأسِّي بهم، وإلاَّ لم يكن لهم فضل ولا مزية، وكانت القدوة بغيرهم مساوية للقدْوة بهم، والأخْذ عنهم كالأخذ عن غيرهم. 2- ولأنَّ المعاصي والذنوب ما هي إلاَّ نجاسات معنويَّة، وهي تشبه القاذورات والنَّجاسات الحسِّيَّة، فكيف يجوز نِسْبَتها إلى الأنبياء؟! وقد سمَّاها النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قاذورات بقوله: ((اجتنِبوا هذه القاذورات التي نهى الله - تعالى - عنها))[20]، يقول الصَّابوني في النبوَّة والأنبياء موضِّحًا هذا المعنى: "وهل سيكون لكلام النَّبيِّ أثر في النفوس إذا كانت سيرته غيرَ حسنة، أو كانت حياته ملوَّثة ببعض الموبقات والآثام؟!"[21]. 3- ولأنَّ القول بعدم عِصْمة الأنبياء يُفْضِي إلى القدح في تبليغهم الرِّسالة؛ حيث يمكن نسبة الخطأ أو الزيادة أو النقص في التَّشريع، وهذا غير ممكن في حقِّهم؛ لأنَّ الله قد عصمهم من ذلك. الأمور التي عصم منها الأنبياء: 1- الكفر: فالأنبِياء والرُّسل لا شكَّ أنَّهم معصومون من الوقوع في الكُفْر والشِّرْك، وقد نقل الجرْجاني إجْماع الأمَّة على عِصْمة الأنبِياء من الكفر والشِّرْك قبل النبوَّة وبعدها، حيث قال: "وأمَّا الكفر فأجْمعت الأمَّة على عصمتهم منه قبل النبوَّة وبعدها، ولا خِلاف لأحدٍ منهم في ذلك"[22]، وقال الرَّازي: "وأجْمعتِ الأمَّة على أنَّ الأنبياء معصومون عن الكفْر والبدعة"[23]، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ففي الجُملة كل ما يقدح في نبوَّتهم وتبليغهم عن الله فهُم متَّفقون على تنزيههم عنه"[24]، وقال الآمدي: "فما كان منها كفرًا فلا نعرف خلافًا بين أهل الشَّرائع في عصمتهم عنه"[25]. ولم يخالف في هذا الإجْماع إلاَّ مَن لا يعتد بخلافهم، وهم أربعة طوائف هي: • الأزارِقة (فرقة من فرق الخوارج) نقل عنهم أنَّهم قالوا بِجواز بعثة نبي علم الله أنَّه يكفر بعد نبوته[26]. • الفضيليَّة: (وهم من فرق الخوارج أيضًا) ويقولون بِجواز الكفر على الأنبياء من جهة كونهم يعتقدون جواز صدور الذنوب عن الأنبياء، وكلّ ذنبٍ هو كفر على حسب اعتِقادهم، فمن هذا الباب جوَّزوا صدور الكفْر عنهم[27]. • الرَّافضة: فقد جوَّزوا على الأنبياء إظهار الكفْر على سبيل التقية عند خوف الهلاك، بل نقل عنهم أنَّهم أوجبوه، وعلَّلوا ذلك بأنه إذا كان إظهار الإسلام يؤدِّي إلى القتل كان إلْقاء للنفس في التهلكة وهو حرام؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾﴿ ﴾ [البقرة: 195] وإذا صار إظهار الإسلام حرامًا كان إظهار الكفر واجبًا[28]. • السمنانية: ذكَر ابنُ حزم في كتابه "الفِصَل" عنهم: أنَّه رأى في كتاب أبي بكر السمناني قاضي الموصل صاحب الباقلاني أنَّه كان يقول: "كل ذنب دقَّ أو جلَّ فإنَّه جائز على الرُّسُل؛ حاشا الكذب في التَّبليغ فقط، قال: "وجائزٌ عليهم أن يكفروا"[29]. وكيف يقع الأنبياء في الكفر والمعلوم من سيرتهم أنَّهم كانوا حربًا على الكفر والشرك على اختلاف صُوَرِه وأشْكاله وألوانه؟! فلم يدَعوا طريقًا أو سبيلاً لهدْم الشِّرْك والكفر إلاَّ سلكوه، مستخدمين في ذلك كلَّ طاقاتِهم وجهودهم. والله - عزَّ وجلَّ - قد نزَّه نبيَّه محمَّدًا - صلَّى الله عليْه وسلَّم - من كلِّ ضلال وغواية وكفر، ونفى ذلك عنه؛ قال تعالى: ﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ﴾ [النجم: 2]، فهذه شهادة له - صلَّى الله عليْه وسلَّم - بأنَّه راشد تابع للحق، ليس بضالٍّ ولا غاوٍ، بل هو في غاية الاستقامة والاعتدال والسداد والهداية، أمَّا قوله تعالى: ﴿ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ﴾ [الضحى: 7] ومثله: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [يوسف: 3] وقوله: ﴿ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ ﴾﴿ ﴾ [الشورى: 52]، فهذه النصوص وغيرُها يتوهَّم بعضُهم أنَّها تدلُّ على أنَّ الرَّسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - كان في ضلالٍ قبل النبوَّة، وأنَّه كان من الغافلين، والغفلة تشمل الغفلة عن الإيمان كما قالوا. فالجواب عن الاستدلال بهذه النُّصوص، والتوجيه الَّذي يرفع عنها هذا الوهم أن نقول: إن قوله: ﴿ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ﴾: يُحمل على عدَّة وجوه تدل جميعُها على تنزيه النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - من أن يقع في الشِّرْك أو الكفر قبل بعثته وبعدها من باب أولى، ومن هذه الوجوه: 1- يحمل الضلال هنا على معنى الغفلة، كما في قوله: ﴿ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [يوسف: 3] وكقوله: ﴿ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى ﴾ [طه: 52]؛ أي: لا يغفل، فيكون المعنى: ووجدك غافلاً عمَّا يراد بك في أمر النبوَّة[30]. 2- ومنهم مَن قال: إنَّ المراد بِهذا أنَّه - عليْه الصَّلاة والسَّلام - ضلَّ في شعاب مكَّة وهو صغير، ثم رجع، وقيل: إنَّه ضل وهو مع عمِّه في طريق الشَّام وكان راكباً ناقة في الليل[31]. فيكون الضَّلال هنا بمعنى الضياع. 3- وقيل: الضَّلال بمعنى الطَّلب؛ أي: وجدك طالبًا للقِبلة فهداك الله إليْها؛ كما في قوله تعالى: ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ﴾ [البقرة: 144]. 4- وقال بعضهم: وجدك الله في قوم ضلال فهداهم الله بك[32] فيكون على حذف مضاف، نحو: ﴿ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ﴾ [يوسف: 82]. 5- وقال قوم: ضالاًّ لم تكن تدري القرآن والشَّرائع فهداك الله إلى القرآن وشرائع الإسلام[33]. 6- وقيل: ووجدك ضالاًّ عن الهجرة فهداك إليْها[34]. 7- وقيل: ووجدك محبًّا للهداية فهداك إليْها، ويكون الضَّلال بمعنى المحبَّة، ومنه قوله تعالى: {قَالُواْ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف: 95]؛ أي في محبَّتك، قال الشاعر: هَذَا الضَّلالُ أَشَابَ مِنِّي المَفْرِقَا 8- وقيل: ووجدك ضالاًّ ليلة المعراج حين انصرف عنك جبريل، وأنت لا تعرف الطَّريق، فهداك إلى ساق العرش، وقال أبو بكر الورَّاق وغيره: ووجدك ضالاًّ تحب أبا طالب فهداك إلى محبَّة ربك، وقال بسام بن عبدالله: ووجدك ضالاًّ بنفسِك لا تدْري مَن أنت فعرَّفك بنفسِك وحالك"[36].وَالعَارِضَيْنِ وَلَمْ أَكُنْ مُتَحَقِّقَا عَجَبًا لِعَزَّةَ فِي اخْتِيَارِ قَطِيعَتِي بَعْدَ الضَّلالِ فَحَبْلُهَا قَدْ أَخْلَقَا[35] 9- وفسّر الضلال بالنِّسيان؛ كما في قوله تعالى: ﴿ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى ﴾ [البقرة: 282]. 10- وقيل: ضلاله من حليمة مرضعته[37]. 11- وقيل: ووجدك خامِلاً لا تُذْكَر ولا تُعْرَف، فهدى النَّاس إليْك حتَّى عرفوك، قاله عبدالعزيز بن يحيى ومحمد بن علي الترمذي[38]. 12- وقيل: ووجدك ضالاًّ؛ أي: لا أحد على دينك، وأنت وحيد ليس معك أحد فهديت بك الخلق إليّ، وهذا القول مال إليه القرطبي، قال بعد أن ذكر بعض الأقوال السَّابقة: "قلت: هذه الأقوال كلها حسان، ثمَّ منها ما هو معنوي، ومنها ما هو حسِّي، والقول الأخير أعجب إليَّ؛ لأنَّه يجمع الأقوال المعنوية[39]. وأمَّا قوله: ﴿ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [يوسف: 3]، فليْس المقصود من الغفلةِ: الغفلة عن الإيمان والوقوع في الشِّرك، وإنَّما المقصود: الغفلة عن قصَّة يوسف مع أبيه وإخوته، كما يدل السياق على ذلك، قال الشوكاني: "والمعنى: أنَّك قبل إيحائِنا إليك من الغافلين عن هذه القصَّة[40]، وهذه القصَّة وأمثالها لا تعلم إلاَّ طريق الوحي، ولهذا لا يلحقه نقص بسبب هذه الغفلة. وأما قوله: ﴿ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ ﴾ [الشورى: 52]؛ أي: ما يجب الإيمان به من الفرائض والأحْكام الشرعيَّة التفصيليَّة، فالمنفيُّ هو الإيمان التَّفصيلي لا الإجْمالي، وهذا هو ما قاله المفسِّرون، قال ابن كثير: أي: على التَّفصيل الذي شُرع لك في القرآن[41]، وقال الشَّوكاني: أنه كان لا يعرف تفاصيل الشرائع، ولا يهتدي إلى معالمها، وخص الإيمان لأنه رأسها وأساسها"[42]. ومن النُّصوص المشكِلة أيضًا في هذا الباب: ما جاء عن جابر بن عبدالله قال: "كان النبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يشهد مع المشركين مشاهِدَهم، قال: فسمِع ملَكين خلْفَه وأحدُهُما يقول لصاحبِه: اذهب بنا حتَّى نقوم خلْف رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قال: كيف نقوم خلفه وإنَّما عهده باستلام الأصنام قبيل؟ قال: فلم يعد بعد ذلك يشهَد مع المشركين مشاهدهم"، قال أبو القاسم - الطبراني -: تفسير قول جابر: "وإنما عهده باستلام الأصنام"؛ يعني أنه شهِد مع من استلم الأصنام، وذلك قبل أن يوحى إليه[43]. وتوجيه معنى هذا الحديث من وجوه: أولاً: هذا الحديث من حيثُ السندُ ضعيف، فقد قال الدارقطني: "يقال: إنَّ عثمان بن أبي شيبة وهِم في إسناده، وغيره يرويه عن جريرٍ عن سفيان، وإنَّما كان يحدث به جرير عن سفيان عن عبدالله بن جرير بن زياد القمِّي مرسلاً[44]، وهو الصواب، ويتلخَّص من كلامه أنَّ له علَّتين: الأولى: أنَّ الحديث مرسل وليس متَّصلاً. الثَّانية: جعله لسفيان الثوْري مكان سفيان بن عبدالله، وهذا وهمٌ في السند، فسفيان بن عبدالله مجهول، وأمَّا الثَّوْري فهو ثقة. "وفي السَّند أيضًا عبدالله بن محمَّد بن عقيل، وهو ضعيفٌ عند القوم"[45]. ثانيًا: أنَّ هذا الحديث ضعيف متنًا؛ حيث إنَّه يخالف ما عُرِف عنْه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - بأدلَّة صحيحة صريحة من أنَّه لم يكن على شيء ممَّا كان عليه أهل الجاهليَّة من الشِّرْك، وذلك منذ ولادته إلى أن بُعِث رسولاً، والأمثلة في ذلك كثيرة؛ منها: 1- حديث أنس في مسلم: "أنَّ جبريل أتى النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرَعه فشقَّ عن قلبه، فاستخرج القلب فاستخرج منه علقة، فقال: "هذا حظُّ الشيطان منك"، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثمَّ لأَمَه ثم أعاده في مكانه..."[46] الحديث. وهو دالٌّ على أنَّ جبريل أخرج حظَّ الشَّيطان منه، فلا يقْدِر على إغوائه، فهو منزَّه من الشِّرْك منذ صِغَره. 2- وفي حديث زيد بن حارثة - رضِي الله عنْه - قال: وكان صنم من نحاس، يقال له: إساف ونائلة يتمسَّح به المشركون إذا طافوا، فطاف رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وطفت معه، فلمَّا مررت مسحت به، فقال رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((لا تمسه))، قال زيد: فطفنا، فقلت في نفسي: لأمسّنَّه حتَّى أنظر ما يقول، فمسحته، فقال رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((ألم تنه؟!)) قال زيد: "فوالَّذي أكرمه وأنزل عليه الكِتاب ما استلم صنمًا حتَّى أكرمه الله بالذي أكرمه، وأنزل عليه الكتاب"؛ قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه[47]. أمَّا ما جاء في حديث جابر الَّذي جاء فيه قول الملك: "كيف نقوم خلْفه وإنَّما عهده باستلام الأصنام؟" فهو حديث ضعيف كما سبق لا يقوى لمعارضة ما ذكرنا من الأدلَّة الصحيحة. والنصوص التي تدلُّ على تنزيه النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - عن الأوثان، وبُعْده عنها كثيرة، جمعها بعض العلماء في مؤلَّفاتهم[48]. 2- الكبائر: لا شكَّ أنَّ الكبائر ممَّا يحطُّ قدْر العبد عند الله - عزَّ وجل - وعصمة الأنبياء من الكبائر أمرٌ دلَّت عليه النصوص من القرآن والسنَّة، فكيف لا يكون النبي معصومًا من الكبائر، والأمر لا يتعلَّق بنفسه فقط؛ بل يتعدَّاه لغيره بكونه هو القدوةَ للنَّاس والمرشد لهم، بل كلّ أفعاله وأقواله تعدُّ تشريعًا تأخذ بها الأمَّة إلى قيام الساعة؟! فالنَّبيُّ منزَّه عن كل ما يحطُّ قدره، وينقص من منزلته، بل هو - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قد جبلَه الله - عزَّ وجلَّ - على جميل الأخلاق، وكريم السَّجايا، ويدل على ذلك قولُه تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، فهذه تزكية من الله تدل على سلامتِه من كل ما يحط من منزلته، ويقدح في نبوَّته، بما في ذلك الكبائر، ويدل لذلك قوله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((والله إني لأخْشاكم لله وأتْقاكم له))[49]، وهذه التَّقوى والخشية تقتضي البعد عن كلِّ ما يسخط الله، وممَّا يسخطه؛ بل من أشدِّ ما يسخطه ارتِكاب الكبائر، ومما يدلُّ على عصمة النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - من الوقوع في الكبائر ما سبق في حديث شقِّ جبريل لقلبِه واستِخْراج حظِّ الشَّيطان منْه. وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: "فإنَّ القول بأنَّ الأنبياء معصومون عن الكبائِر دون الصَّغائر هو قول أكثر علماء الإسلام، وجَميع الطَّوائف، حتَّى إنَّه قول أكثر أهل الكلام كما ذكر أبو الحسن الآمدي أنَّ هذا قول أكثر الأشعريَّة، وهو أيضًا قول أكثر أهل التَّفسير والحديث والفقهاء، بل هو لم ينقل عن السَّلف والأئمَّة والصَّحابة والتَّابعين وتابعيهم إلاَّ ما يوافق هذا القول"[50]. فقول شيخ الإسلام: "هو قول أكثر علماء الإسلام" يردُّ ما ادَّعاه الشَّريف المرتضى في كتابه: "تنزيه الأنبياء" من أنَّ أهل الحديث يُجوِّزون على الأنبِياء الكبيرة قبل النبوَّة، فهي دعوى كاذبة باطلة، وممَّا يدل على افترائه ما قاله ابن حزم - وهو من أئمة أهل الحديث - في الملل حيث يقول: "فبيقين ندري أنَّ الله - تعالى - صان أنبياءه عن أن يكونوا لبغي، أو من أولاد بغي، أو من بغايا؛ بل بعثهم الله - تعالى - في حسب قومهم، فإذ لا شك في هذا فبيقين ندري أنَّ الله - تعالى - عصمهم قبل النبوَّة من كل ما يؤذون به بعد النبوَّة، فدخل في ذلك السَّرقة والعدوان، والقسوة والزنا، واللِّياطة والبغي، وأذى النَّاس في حريمهم وأموالهم وأنفسهم، وكل ما يعاب به المرء ويتشكى منه ويؤذى بذكره"[51]. وتبعه في هذه الفرية الرازي في كتابه "عصمة الأنبياء" في الطَّعن على أهل الحديث الَّذين هم أعرف النَّاس بحق الأنبياء وما يجب لهم، إلاَّ أنَّه في كتابه هذا قد أجاد في كثيرٍ منه، ونزَّهه من دعوى العصمة لغير الأنبياء بِخلاف الشريف المرتضى. يتبع
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
رد: العصمة
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
رد: العصمة
لا اله الا الله
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |