شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي - الصفحة 14 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         ولا تبغوا الفساد في الأرض (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          تحرر من القيود (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          فن التعامـل مع الطالبات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 28 - عددالزوار : 774 )           »          العمل السياسي الديـموقراطي سيؤثر في الصرح العقائدي وفي قضية الولاء والبراء وهي قضية م (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          العمل التطوعي.. أسسه ومهاراته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 9 - عددالزوار : 128 )           »          طرائق تنمية الحواس الخمس لدى الطفل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 16 )           »          حقيقة العلاج بالطاقة بين العلم والقرآن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 27 )           »          الله عرفناه.. بالعقل! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          افتراءات وشبهات حول دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 7 - عددالزوار : 90 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #131  
قديم 24-09-2021, 03:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجماعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (127)

صـــــ(1) إلى صــ(6)

شرح زاد المستقنع - باب صلاة أهل الأعذار
الإسلام دين يسر ورحمة، ومن تيسيره على العباد أن جعل لمن كان به عذر صفة خاصة في الصلاة بحسب استطاعته، فمن كان مريضاً صلى قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنب، ويومئ إيماءً، ومن كان في سفينة وقدر على القيام في الصلاة قام، وإن لم يقدر صلى قاعداً، ومن كان على راحلة وحضر وقت الفرض وكان هناك وحل ونحوه، صلى على راحلته وهذا كله يدل على يسر الإسلام ورحمته بالناس.
صفة صلاة أهل الأعذار
[كيفية صلاة المريض]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب صلاة أهل الأعذار].
أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالمعذورين.وهذا الباب من أهم الأبواب، نظراً لأنه تعم به البلوى،
خاصة وأن المرضى يكثر تساؤلهم:
كيف يصلون؟ وقد يكون الإنسان مريضاً في نفسه أو في جسده، وقد يكون في بيته المريض فيسأله، وقد يسأل عامة الناس عن مثل هذه المسائل والأحكام.وقد اعتنت نصوص الكتاب ونصوص السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم ببيان الرخص وأهل الأعذار.فبعد أن فرغ رحمه الله من أهل الأعذار في شهود الصلاة مع الجماعة شرع في أهل الأعذار الذين يعذرون في صفة أداء الصلاة.فهناك من يعذر في شهود الصلاة، وهناك من يعذر في كيفية أداء الصلاة، وهذا الباب من أهم الأبواب؛ لأن مسائل الناس تكثر عنه، وهو صلاة المريض وما في حكمه.
قال رحمه الله تعالى: [تلزم المريض الصلاة قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنب] قوله: [تلزم المريض الصلاة قائماً] أي: إذا أطاق ذلك وقدر عليه،
والأصل في ذلك قوله سبحانه وتعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة:6]، فدل على أن من يصلي يكون قائماً.
وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته: (إذا قمت إلى الصلاة فاستقبل القبلة ثم كبر)، وقال عليه الصلاة والسلام لـ عمران بن حصين: (صل قائماً).فالأصل أن يصلي الإنسان قائماً، والمريض مطالب بالصلاة قائماً، ولكن إذا أطاق القيام، وأما إذا كان عاجزاً عنه ففيه التفصيل.وهذا هو نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله عمران بن حصين، وكانت بـ عمران رضي الله عنه وأرضاه بواسير فاشتكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم مما يجده،
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:
(صل قائماً)، فدل هذا على الأصل.
ولذلك نقول: الأصل في المصلي أن يصلي قائماً بنص الكتاب ونصوص السنة التي ذكرنا، ولقوله عليه الصلاة والسلام لـ عمران وهو مريض: (صل قائماً).
قوله: [فإن لم يستطع فقاعداً].أي: لا يستطيع أن يقوم، كأن يكون الإنسان مصاباً بالشلل والعياذ بالله، فإنه حينئذٍ ينتقل إلى الرخصة، فشرط إيجاب القيام الاستطاعة والقدرة،
لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
والمريض إذا لم يستطع القيام فله حالات:
الحالة الأولى: أن لا يستطيعه بالكلية، فحينئذٍ يصلي جميع الصلوات قاعداً بلا إشكال.
الحالة الثانية: أن يطيق بعض القيام دون بعض، فحينئذٍ يلزمه القيام بقدر ما يطيق،
ويأتي هذا على صورتين:
الأولى: أن يستطيع القيام من أول الصلاة ثم يضعف، فالرخصة له بعد ضعفه،
فنقول له:
افتتح الصلاة وصل قائماً، فإذا أحسست بالعناء والمشقة جلست.
الثانية: أن يكون العكس، كأن يبتدئ الصلاة عاجزاً ثم يجد الخفة والنشاط،
فنقول:
تُلزَم بالقيام، ويلزمك أن تتم قائماً.وقد أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم الصورة الثانية، حيث كان في قيام الليل يصلي قاعداً لما بدُن وكثر لحمه عليه الصلاة والسلام وأسن صلوات الله وسلامه عليه، فكان لا يطيق طول القيام؛ لأنه كانت ركعته بما يقارب البقرة وآل عمران والمائدة، حتى إن قدمه تتفسخ من طول القيام صلوات الله وسلامه عليه.
فلما كبر وضعف في آخر سنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي قاعداً،
تقول أم المؤمنين:
حتى إذا بقي قدر مائة قام.فجعل الإطاقة بعده،
ولذلك يقولون:
إذا كان الإنسان بمثل هذه الحالة فالأفضل أن يجعل ذلك في الثانية.أما إذا كان في الفرض فإنه يبتدئ بقدرته، ثم إذا وجد الضعف ترخص عند وجود الضعف.وأما جلسة المريض فهناك من يجلس متربعاً، وهناك من يجلس مفترشاً، وهناك من يجلس متوركاً كجلسة التشهد، فهل يصلي قاعداً متربعاً، أو يصلي قاعداً كقعدة التشهد؟ هذه المسألة فيها قولان للعلماء، فمن العلماء من قال يتربع.
وفيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وآثار عن بعض أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم، وقال بعضهم بل يفترش.
وقد أشار إليهما الإمام ابن المنذر رحمه الله في الأوسط، وكذلك أشار إليها الإمام الطبري في اختلاف الفقهاء.هذان الوجهان مشهوران عن أهل العلم،
فالذين يقولون:
يجلس جلسة المتشهد قالوا: لأنها جلسة صلاته، إذ لا يعرف في الصلاة أن يجلس متربعاً، وإنما جلسته في الصلاة لما يُصلي ويبلغ الجلسة بين السجدتين أو التشهد، ما عهدنا من الشرع أنه يجلس كجلسة التشهد.
وبناءً على ذلك قالوا:
إنه يجلس مفترشاً.والصحيح أنه يجلس جلسة المفترش، ولا حرج عليه أن يجلس جلسة المتربع، خاصة إذا كان يحتاج إليها، أما جلسة الافتراش فإنها أشبه عند طائفة من السلف رحمة الله عليهم؛ لأنها هي جلسة الصلاة.والحديث الذي ورد في تربعه عليه الصلاة والسلام فيه كلام لا يخلو من ضعف،
فقالوا:
إنه يجلس جلسة المتشهد.والدليل على أنه يجوز له أن يصلي على هذه الصورة أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق،
فقال عليه الصلاة والسلام:
(صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً)، فمن جلس متربعاً فهو قاعد، ومن جلس مفترشاً فهو قاعد،
لقوله عليه الصلاة والسلام في المفترش:
(إذا قعد أحدكم للتشهد)، فسمَّى جلسة التشهد ووصفها بكونها قعدة.ولذلك يكون الافتراش أولى وأشبه لأنه على صفة الصلاة؛
لقوله: (إذا قعد أحدكم للتشهد)، ولأنها جلسة معهودة، فهو أولى وأحرى.
لكن هنا مسألة وهي: لو أن إنساناً يصلي قاعداً بين القائم والجالس، كمن يصلي على كرسي ونحوه، فهذا فيه تفصيل، فإن كان جلوسه لوجود العلة وما يوجب ارتفاقه بعلو ونشز فلا إشكال في جواز ذلك وحله.
وأما إذا كان من دون حاجة، كأن يرى ذلك أيسر له، وأريح لنفسه وأجم لجسمه فإنه حينئذٍ ينبغي عليه أن يجلس في الأرض؛ لأنه ليس هناك ما بين القيام والقعود، فإما أن يقف على الأصل الذي أمر به الشرع، وإما أن يجلس؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً)، فلم يجعل ما بينهما موضعاً للرخصة، وإذا كان به علة أو مرض يمتنع معه نزوله إلى الأرض، كمن يكون به الضرر تحت ركبته، أو يكون عنده مرض يمنعه من النزول إلى الأرض فحينئذٍ يجلس على كرسيه.فإذا جلس على كرسيه يبتدئ تكبيرة الإحرام واقفاً فيكبر، ثم إذا أطاق القيام قرأ الفاتحة وصلى قائماً بقدر ما يطيق، ثم يجلس إذا لحقه العناء والمشقة، أما أن يكون قادراً على القيام ويجلس مباشرة ويكبر وهو جالس فلا يجزيه، إنما يجزيه أن يكبر قائماً؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(إذا قمت إلى الصلاة فاستقبل القبلة وكبر).فدل على أن التكبير يكون حال القيام،
وعلى هذا فلابد وأن يفصل في مثل هذا بالآتي:
أولاً: أنه لا يجلس على الكرسي من دون حاجة، وإن جلس خالف الأصل الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لـ عمران: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً)، فهذا ليس بقائم ولا قاعد في الصورة، وإن كان قاعداً في الحكم.ثانياً: أن يكون محتاجاً لهذا الجلوس، فيكبر تكبيرة الإحرام قائماً ثم يجلس، ولا يكبرها وهو جالس متى أطاق التكبير وهو قائم.
قوله: [فإن لم يستطع فعلى جنب] هذا هو تكملة حديث عمران: (فإن لم تستطع فعلى جنب)، والجنب: هو شق الإنسان الأيمن أو الأيسر.وقد اختلف العلماء في تعيين الجنب،
فقال بعضهم:
على جنبه الأيمن ويستقبل القبلة، وذلك لأنها صفة مَن في اللحد؛ إذ يوجه للقبلة على هذه الصفة.وقال بعضهم: على شقه الأيمن أو الأيسر أيهما شاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق.والمذهب الأول أحوط،
خاصة وأن الحديث يقول:
(قبلتكم أحياءً وأمواتاً)، وهو حديث حسنه بعض العلماء رحمة الله عليهم، والعمل بالإجماع عليه في القبور.
وبناءً على توجيه الميت في قبره على هذه الصفة لفضل اليمين نقول:
إذا أطاق الجنب الأيمن فإنه أولى وأحرى وفيه خروج من الخلاف،
وفيه استئناس بالسنة المقيدة:
(قبلتكم أحياءً وأمواتاً).فدل على أن استقبال القبلة حال الاضطجاع إنما يكون بالشق الأيمن لا بالشق الأيسر، وهذا إذا أطاقه.وأما إذا لم يطق الشق الأيمن فإنه ينتقل إلى الشق الأيسر ولا حرج، فإذا انتقل إلى الشق الأيسر فإنه يجعل القبلة في وجهه.فيصلي على جنبه على التفصيل الذي ذكرناه من كونه إذا كان يطيق الجنبين يصلي على جنبه الأيمن للحديث الذي ذكرناه، ولاستقبال القبلة استئناساً بالفعل بالميت حال تقبيله في لحده.وأما إذا كان لا يطيق الأيمن، أو فيه حرج عليه ومشقة فينتقل إلى الأيسر، لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]،
فيدخل الشق الأيسر لعموم قوله:
(فإن لم تستطع فعلى جنب)، وهذا على جنب.
قال رحمه الله تعالى: [فإن صلى ورجلاه إلى القبلة صح].
وذلك بأن يكون مستلقياً كهيئة النائم،
فقالوا:
تصح صلاته.وهذا قول طائفة من السلف رحمة الله عليهم، وله أصل،
وهو قوله عليه الصلاة والسلام:
(صلاة النائم على النصف من صلاة القاعد)، فجعل النائم -وهو من استلقى- آخذاً نصف صلاة القاعد،
كما في حديث:
(صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، وصلاة النائم على النصف من صلاة القاعد)، قالوا: فسماه مصلياً حال استلقائه على قفاه.
وبناءً على ذلك فإنه إذا اضطجع ونام على قفاه ووجهه إلى السماء قالوا: يُرفع صدره قليلاً، وهو التقبيل للميت، فيكون جذعه الأعلى إلى جهة القبلة، بحيث لو قام كان أول ما يباشره القبلة، وهكذا يكون التقبيل، وكذلك في الصلاة.وهذا وجه صلاة المريض مستلقياً مع القدرة على القيام للمداواة
قال رحمه الله تعالى: [ولمريض الصلاة مستلقياً مع القدرة على القيام لمداواة بقول طبيب مسلم] قوله: [لمريض الصلاة مستلقياً] هذا إذا كان العذر الدواء والعلاج، كما في بعض الأمراض الجراحية في بعض الأعضاء التي لا يستطيع معها أن يركع ولا يسجد ولا يقف، فحينئذٍ إذا كان على الفراش بحيث لا يستطيع أن يقوم فإنه يصلي على هذه الحالة.
كذلك لو كان يتداوى، فلو كان المرض في عينيه وأُلزم بوضع معين لا يستطيع معه القيام ولا يستطيع معه الركوع ولا السجود،
وقيل له:
إن قمت أو ركعت أو سجدت فإنه سيحدث الضرر فإنه في هذه الحالة يصلي وهو مستلقٍ، لكن بشرط أن يكون ذلك بشهادة طبيب مسلم.ووجه هذا أن احتمال وقوع الضرر بغلبة الظن كوجوده؛
لأن القاعدة:
(الغالب كالمحقق)، فلما غلب على ظننا أنه لو صلى قائماً أو ركع أو سجد يصاب بالضرر والأذى، أو أن علاجه لا يتمكن منه الطبيب، فإنه حينئذٍ يعتبر هذا رخصة، كما لو كان مريضاً لا يطيق القيام والركوع والسجود.وهذا قول جمع من السلف، وأُثر عن ابن عباس رضي الله عنه، وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً روي عن ابن عباس أنه شدد في ذلك،
حتى قالوا:
إن سبب العمى الذي بلي به رضي الله عنه وأرضاه أنه نصحه الطبيب في علاجٍ وضعه له أن لا يسجد، فامتنع وسجد فكُفَّ بصره رضي الله عنه وأرضاه، فهذا مما ذكروه.
فالشاهد أنه كان بعض السلف يشدد في هذه المسألة ويقول: التداوي ليس كالمرض الذي يمنع.والصحيح أنه ينزل منزلة المرض المانع، وإنه إذا كان بالإنسان عملية جراحية، أو يتداوى من مرض في جوفه أو في صلبه أو في عينيه، أو نحو ذلك من الأمراض التي تكون في مواضع الجسم المختلفة،
وقيل له:
إنه لا يتم علاجك إلا إذا امتنعت من الركوع، أو امتنعت من السجود، أو امتنعت من القيام فإنه يمتنع، بشرط أن يكون الطبيب الذي يخبره عدلاً مسلماً.
والسبب في ذلك أنها أمور الديانات، وأمور الديانات لا يُجتزأ فيها إلا بشهادة الثقة العدل، وأما إذا كان غير ثقة وغير عدل فإنه يُنتقل إلى من هو أعدل منه.فإذا وجد الطبيب المسلم الذي يشهد له بهذا فلا إشكال،
وحينئذٍ إذا قال له الطبيب الكافر:
ينبغي عليك أن تصلي مستلقياً.فإنه لا يسمع قوله حتى يشهد الطبيب المسلم؛ لأن وجود الطبيب المسلم يغني عن شهادة الكافر.
والسبب في ذلك أن الكافر لا يُوثق بقوله في الديانات، وقد كان بعض أئمة السلف رحمة الله عليهم -مثل الإمام أحمد رحمه الله- يستطب عند اليهودي والنصراني،
فيقول الراوي:
كان يستطبه بمعنى أنه يتعالج عنده ويعتمد على ما يصفه له من دواء.فإذا نهاه عن أمر من أمور الديانة،
كأن يقول له:
لا تصم.أو: صلِّ قاعداً.لم يطع في ذلك لمكان التهمة، وهذا إذا لم يوجد المسلم، وإذا وجد المسلم فعلى حالتين:
الأولى: أن يوجد العدل وغير العدل، فحينئذٍ ينبغي اعتبار شهادة العدل دون غير العدل.
الثانية:
أن لا يوجد العدل، بأن يكون الأطباء ليس فيهم مَن تتوفر فيه شروط الشهادة المعتبرة، فحينئذٍ يؤخذ بأمثلهم.وهذه قاعدة قررها جمع من المحققين، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن فرحون في تبصرة الحكام، حيث بين فيها أنه يرجع إلى الأمثل في مثل هذا إذا تعذر وجود العدل في أهل الصنعة.
فالقاضي لو احتاج إلى قول أهل الخبرة في الخصومات والنزاعات من مهندسين أو أطباء ولم يجد العدل فإنه يأخذ أمثلهم، وهو من وُجدت فيه صفات أفضل من غيره.وعلى هذا فإما أن يوجد المسلم والكافر، فلا يجوز أن يقبل شهادة الكافر مع وجود شهادة المسلم، وإما أن لا يوجد الطبيب المسلم، كأن يكون هذا المرض الذي به لا يحسنه إلا طبيب كافر، أو في بلد ليس فيه إلا كفار، فحينئذٍ يأخذ بشهادة أمثلهم، وله أن يأخذ بذلك.
وهذه المسألة تكلم عليها الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية بكلام نفيس في الفتاوى المصرية، بيّن فيه رحمة الله عليه أن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستعانة بالكافر والمشرك إذا أُمنت منه المفسدة، وذكر لذلك الأدلة الصحيحة،
ومنها حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:
(أن النبي صلى الله عليه وسلم استأجر رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً).وهو عبد الله بن أريقط، والحديث ثابت في الصحيحين، ووجه ذلك أنه مكَّنه من السير معهما في الهجرة، والهجرة يُسلك فيها مسالك وعرة، ومسالك لا يسلكها الناس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يريد التخفي عن العيون، ومع ذلك مكنه النبي صلى الله عليه وسلم من السير بهما لمكان الثقة.
وكذلك ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله في الزاد،
فقال:
وكانت خزاعة عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسلمهم وكافرهم.فكان صلى الله عليه وسلم يأخذ بأخبارهم مع أنهم مع الشرك والكفر، لكن علم فيهم الثقة والأمانة.وكذلك ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر الصحابة أن يستطبوا الحارث بن كلدة، وكان على دين قومه،
ومع هذا قال:
لم يمنعه الكفر أن يأمرهم أن يستطبوه.فالشاهد من هذا كله أنه لا مانع من أخذ شهادة الطبيب الكافر إذا لم يوجد طبيب مسلم في هذا المرض الذي يحتاج المسلم لعلاجه، أو كان المسلم في بلد فيه كفار وأطباء كفار ولا يوجد المسلم فإنه يعمل بشهادتهم وقولهم.
[كيفية الصلاة في السفينة]
قال رحمه الله تعالى:
[ولا تصح صلاته في السفينة قاعداً وهو قادرٌ على القيام] الإشكال في الصلاة في السفن أنها تتقاذفها الأمواج، ولا يستقر الراكب فيها، خاصة عند اشتداد الموج.ولذلك تكون أحوالهم مختلفة -أعني الملاَّحين، أو من يكون في السفينة-، فإن أطاقوا القيام بأن سكن الموج، وأمكنهم أن يقوموا فإنه يجب عليهم أن يقوموا ويصلوا قياماً، فلو أنهم في هذه الحالة وهم قادرون على الصلاة قياماً صلوا قعوداً بطلت صلاتهم؛ لأن الفريضة القيام فيها ركن كما بيناه، وهذا في الحالة الأولى، وهي أن يطيقوا القيام ويؤمن الضرر.
الحالة الثانية: أن يوجد الضرر في قيامهم، كأن يسقط الإنسان، أو يغرق، أو يسقط ويتضرر بسقوطه، كما يكون بجوار شيء عالٍ، أو على نشز داخل السفينة، فلو اضطربت به الأمواج وهو قائم ربما سقط، ففي هذه الحالة يجوز لهم أن ينتقلوا إلى القعود إن غلب على ظنهم فوات الوقت.أما لو غلب على ظنهم أن الموج سيهدأ كأن يقطعوا مسافة ويغلب على ظنهم سكون الموج، فإنهم يؤخرون الصلاة حتى يقطعوا هذه المسافة ويهدأ الموج، ثم يصلون الفرض.فإن أُمن الضرر فإنهم يصلون قياماً.وإن لم يؤمن الضرر فإنهم يصلون قعوداً.
وإن شكوا فإن الأصل وجوب القيام عليهم ولزومه، فيصلون قياماً حتى يطرأ الضرر، فإن طرأ عليهم الضرر أثناء القيام قعدوا.
[جواز الصلاة على الراحلة خشية التأذي]
قال رحمه الله تعالى: [ويصح الفرض على الراحلة خشية التأذي لوحل لا للمرض] أي: تصح الصلاة -أي: الفريضة- على الراحلة إذا خشي الأذى من الأرض إذا كانت السماء قد أمطرتها، وفي هذا حديث الترمذي،
وكذلك أحمد في مسنده:
(أن النبي صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة عند المضيق والسماء ممطرة والأرض بها بلة، فأقام عليه الصلاة والسلام الصلاة ثم تقدم وصلى بهم).
وهذا الحديث حديث ضعيف، وذكر الإمام الترمذي رحمه الله بعد إيراده للحديث أن العمل عند أهل العلم على هذا الحديث، واختاره جمع من السلف رحمة الله عليهم، فعندهم يصلي إذا كان هناك ضرر ومشقة بالطين والوحل.
ولكن -نظراً لضعف الحديث- إذا أمكن الإنسان أن يحتاط ويستبرئ لدينه فإنه أولى وأحرى.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #132  
قديم 24-09-2021, 03:10 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجماعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (128)

صـــــ(1) إلى صــ(22)
شرح زاد المستقنع - فصل: صلاة المسافر [1]
السفر مظنة لوجود المشقة والتعب، والله سبحانه وتعالى رحيمٌ بعباده، ومن رحمته أن خفف عليهم الصلاة في السفر، فشرع للمسافر قصر الصلاة الرباعية، والجمع بين الصلاتين.
[صلاة المسافر]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقد ذكر المصنف رحمه الله باب صلاة الجماعة، وبين الأحكام المتعلقة بصلاة الجماعة والمسائل التي تندرج تحت هذا الباب.ثم بعد ذلك عقد فصلاً في آخر باب صلاة الجماعة في الأعذار التي تُسقط عن المكلف الجمعة والجماعة، ثم بعد أن انتهى من الأعذار شرع في باب صلاة أهل الأعذار، وذكر صلاة المريض، ثم انتقل إلى صلاة المسافر، وهذا الترتيب فيه تسلسل في الأفكار، ومراعاة لما تتضمنه هذه الفصول من معان شرعية.وذلك أن التخفيف في الشرع يكون فيه شيء من الإسقاط، وهذا الإسقاط تارة يكون لذات العبادة، بحيث تسقط العبادة عن المكلف، وهذه أعلى درجات الإسقاط في العبادات، وتارة يُخفف عنه في هذه العبادة ولا تسقط عنه، وهذا التخفيف بالنسبة للصلاة، أما بالنسبة للرخص عامة فلها تقسيمات أخر واعتبارات أخر، لكن التخفيف في الصلاة إما إسقاط للصلاة، وإما تخفيف في الأركان، وإما تخفيف في الشروط، كما سنبين إن شاء الله.فابتدأ رحمه الله بالفصل الذي قبل صلاة أهل الأعذار، وهو سقوط الجمعة والجماعة، فهذا إسقاط كلي لعبادة الخروج إلى الجمعة وشهودها، وكذلك صلاة الجماعة.
وبعد أن انتهى من التخفيف بالإسقاط شرع في التخفيف الجزئي، وهو التخفيف في هيئة الصلاة، فابتدأ بالتخفيف في أركانها بعذر المرض، ثم شرع في التخفيف في ذات الصلاة من حيث الأعداد، وذلك في صلاة المسافر، فإن الشرع خصص بعذر السفر عدد الصلوات، وذلك في الرباعية وحدها، فجعل الرباعية تقصر إلى ركعتين، وهذا نوع من التخفيف، وهو التخفيف في أعداد الصلاة.
وأما التخفيف في شروط الصلاة؛ فكاستقبال القبلة بالنسبة للمصلي في السفر، فقد خفف الشرع عنه لو كان على راحلته بأن يصلي حيثما توجهت به، وكذلك التخفيف على المريض الذي به سلس بول فإنه يخفف عنه في شرط الطهارة، وكذلك بالنسبة للنجاسة التي يحملها يخفف عنه.فالتخفيف إما بإسقاط الصلاة، أو بالنقص من أعدادها، أو بالتخفيف في أركانها وشروطها.
[معنى السفر وسبب تسميته]
السفر في لغة العرب:
مأخوذ من قولهم: أسفر الشيء: إذا بان واتضح.
ومنه قولهم: أسفر الصبح: إذا بان ضوؤه واتضح.وسمي السفر سفراً لمناسبات،
فقيل:
لأن الإنسان يُسفِر، بمعنى أنه يَبِيْن عن العمران، فإن المسافر يبِيْن عن القرى والأمصار والمدن، فينفرد عنها ويبِيْن منها.
كما سمي بذلك لأن فيه معنى الوضوح، وذلك أنه يسفر عن حقيقة الإنسان من ناحية صبره وضعفه وجلده وخوفه وقوة شكيمته إلى غير ذلك من أخلاقه.
ولذلك قالوا:
سمي السفر سفراً لأنه يسفر عن وجه صاحبه،
وفي سنن البيهقي لما شهد الشاهد عند عمر قال له عمر:
إني لا أعرفك، فاذهب وائتني بمن يزكيك.فجاءه برجل فقال عمر للرجل: أتعرفه؟
قال:
أعرفه بالعدالة والأمانة.
قال: أهو جارك الذي تعرف مدخله ومخرجه؟
قال:
لا.
قال:
أعاملته بالدينار والدرهم الذي يعرف به صدق الرجل من كذبه؟
قال:
لا.
قال: أسافرت معه؟ قال: لا.
قال: لا تعرفه.
ثم قال للرجل: اذهب وائتني بمن يعرفك.فالسفر من حيث هو يعين على معرفة حقيقة الإنسان ويسفر عن وجهه.والسفر له ضوابط معينة، فلا يحكم بكون الإنسان مسافراً إلا بها.
[أحوال المسافر]
لا يخلو الإنسان الذي يريد أن يخرج للسفر من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون مستقراً في بيته ناوياً السفر، فيكون السفر في باطنه -أي: في نيته-، ويكون ظاهره أنه غير مسافر.
الحالة الثانية: أن يخرج من بيته.فإذا كان في بيته ناوياً السفر فإنه ليس بمسافر في قول جماهير العلماء حتى يخرج من البلد، فإن خرج من البلد فإنه يحكم بسفره على التفصيل الذي سنذكره، وهذا قول جماهير السلف رحمة الله عليهم من الصحابة والتابعين، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم رحمة الله على الجميع.
فلو أصبحت فنويت الخروج إلى بلد ما بعد الظهر، فإنك -على هذا القول- لست بمسافر حتى تخرج، فلا يكفي باطنك حتى يجتمع مع الباطن دليل الظاهر على السفر.وذهب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -وهو رواية عن عطاء، وقال به موسى بن سليمان - إلى أنه يحكم بكونه مسافراً بالنية، فلو نوى السفر فإنه يأخذ برخص السفر وهو في البلد.
مثال ذلك: لو أنه نوى السفر بعد الساعة الحادية عشرة ولم يخرج إلا بعد الثانية فإنه سيؤذن عليه الظهر وهو في بيته،
وحينئذٍ قالوا:
يصلي ركعتين.وهكذا لو كان صائماً يجوز له أن يفطر في بيته قبل أن يخرج.وهذا القول مرجوح، والصحيح ما ذهب إليه الجماهير لدلالة الكتاب والسنة على ذلك.
أما دلالة الكتاب فقوله تعالى:
{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء:101]، فقوله: {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ)) [النساء:101] يدل على أنه شرع وضرب في الأرض، ولا يكون ذلك إلا بالخروج.
وقوله سبحانه وتعالى في شأن الصوم:
{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة:184]، ولا يمكن أن نحكم على الإنسان بأنه على سفر إلا إذا كانت صورته تدل على أنه مسافر، وبناءً على ذلك فظاهر التنزيل على أنه لا يكون مسافراً إلا إذا ضرب في الأرض.
وأما دليل السنة -وهو أقوى الأدلة- فحديث أنس الثابت في الصحيحين، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعاً، والعصر بذي الحليفة ركعتين، فإنه قد كان نوى حجة الوداع عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك لم يترخص برخص السفر إلا بعد أن خرج إلى ذي الحليفة.وهذا يدل على أن نية السفر لا تكفي في ترخُّص الإنسان بالرخص.
وأما ما أُثر عن الصحابة فإنهم إذا قالوا: (إنها السنة) تردد ذلك عند جماهير العلماء رحمة الله عليهم بين أن يكون الصحابي فاهماً لها أنها السنة، وبين أن تكون من صريح فعله عليه الصلاة والسلام.فلما جاء فعله يخالف ما فعله هؤلاء الصحابة -مع أنهم عزَوا ذلك إلى السنة- فهِمنا أنه فهمهم رضي الله عنهم وأرضاهم.فإذا تبيَّن لنا أن من كان ناوياً للسفر لا يترخص إلا إذا خرج، فحينئذٍ لا يخلو الذي يريد أن يخرج للسفر إما أن يكون في المدينة، بمعنى أن يكون داخل المدن والقرى -أي: البناء والعمران- وإما أن يكون في البر، كأهل العمود والخيام في البادية، فخيمته هي منزله ومكانه.فإن كان في البلد والعمران فإنه لا يُحكم بكونه مسافراً، ولا يَتَرخَّص برخص السفر إلا إذا خرج من آخر العمران، وهي البيوت، فإذا انقطع عن البيوت فحينئذٍ يصدق عليه أنه سافر.
وبناءً على ذلك لا تخلو المدن من حالتين:
الحالة الأولى: أن يتصل بناؤها ويكون حد نهايتها معروفاً، كأن تكون بيوتاً متصلة آخرها محدود، فإذا بلغ هذا الآخر وبعده تنقطع الأرض فإنه مسافر.فهذه الحالة لا إشكال فيها، فيحكم بأنه أنه مسافر بمجاوزته لآخر بيت من العمران، فلو أذَّن عليه الظهر بعد مجاوزته آخر بيت من العمران فإنه يصليها ركعتين.
ولو أذن عليه الظهر قبل أن يخرج من آخر بيت من العمران -كأن يقف عند إشارة، أو يقف عند المحطات يريد أن يتزود منها، أو يأخذ زاده من طعام أو غير ذلك-
فإن قلنا:
العبرة في الصلوات بالأذان فإنه يجب عليه أن يصلي أربعاً؛ لأنه لما أذن للصلاة وهو داخل العمران توجه عليه الخطاب أن يصلي الظهر أربع ركعات.وعلى هذا لا تسقط عنه لكونه لم يتلبس بالسفر بعد.
الحالة الثانية:
أن تتصل المباني ويكون وراءها خراب، كما يقع في بعض المدن، حيث تكون المباني المعمورة والتي فيها السكان متصلة، ثم بعد ذلك تأتي خرابات، أو بساتين مهجورة، أو نحو ذلك،
فللعلماء وجهان:
قال بعض العلماء: هذه البيوت الخربة في حكم العامر ولا يترخص حتى يجاوزها.واختاره جمع من العلماء، وهو مذهب الحنابلة.
القول الثاني:
يترخص بانقطاع العمران، ولو دخل في الخرابات ونحوها فإنه مسافر.وهذا مذهب الشافعية رحمة الله على الجميع.والصحيح أنه إذا انقطع العمران فقد أسفر وصار مسافراً؛ لأن هذا الخراب لا يُعتد به، وليس في حكم العامر.
وبناءً على ذلك يكون في العمران التفصيل، فإن اتصل فلا إشكال، وإن كان هناك خرابات فالعبرة بمجاوزة العمران، ولا تأثير للخراب في إسقاط الركعتين.وأما إذا كان في البادية، كأن يكون عنده خيمة،
فلا يخلو من حالتين أيضاً:

الحالة الأولى: أن تكون خيمته متصلة بفريق، وهم القوم والجماعة الذين ينزلون مع بعضهم، كأبناء عمٍ وقبيلةٍ ونحو ذلك، فالعبرة بآخر الخيام حتى يجاوز آخر خيام محلته، بشرط أن تتصل خيمته بهم.
الحالة الثانية:
أن تكون خيمته منفردة، فإنه بخروجه من خيمته يكون مسافراً ويَترخص برخص السفر.
وفائدة ذلك أنه إذا قلنا:
إن العبرة بمجاوزة آخر الخيام، فإنه لو أذَّن الظهر وقد جاوز آخرها وجب عليه الظهر ركعتين، وأما لو أُذن قبل أن يجاوز آخرها فقد وجب عليه أن يصلي الظهر أربعاً.وهكذا الحال لو كانت الخيام متفرقة،
فإننا نقول:
بمجرد خروجه من خيمته يأخذ برخص السفر.وهكذا لو كانت خيمته ليس بجوارها أحد، فإنه بمجرد ركوبه على دابته -كما يقول العلماء- أو بمجرد أخذه في الطريق يُحكم بكونه مسافراً، ويأخذ برخص السفر.
[أنواع السفر]
يقول العلماء: السفر تعتريه الأحكام الخمسة، فيكون واجباً، ومندوباً، ومباحاً، ومكروهاً، وحراماً.فيكون السفر واجباً إن اشتمل على واجب، كسفر حج الفريضة، وكذلك السفر لبر الوالد والوالدة، فلو أن الوالد أمر ولده أن يأتيه في مدينته والولد في مدينة أخرى، وليس عند الولد عذر يمنعه من السفر وجب عليه أن يسافر، ولزمه برُّ أبيه بالسفر، فهذا السفر يكون واجباً.وهكذا بالنسبة للسفر الذي يكون الإنسان فيه يؤدي أمراً واجباً عليه، فإنه يعتبر من الأسفار الواجبة.ويكون السفر مندوباً ومستحباً لو اشتمل على أمر مندوب ومستحب كحج النافلة والعمرة، فهذا مندوب ومستحب،
فإنه إذا سافر يقال:
هذا سفر مندوب.ويكون السفر مباحاً إذا انتفت فيه الدوافع، سواءٌ أكانت للنّدب أم للوجوب، وانتفت فيه الموانع، سواءٌ أكانت للتحريم أم للكراهة،
ومن أمثلته:
السفر للتجارة، فإنه يعتبر من المباحات، وهكذا السفر للنزهة، فإنه يعتبر من الأسفار المباحة.ويكون السفر مكروهاً إذا اشتمل على أمر مكروه لا يصل إلى درجة الحرمة، فلو أنه سافر على وجه لا يتضمن الحرام، كما لو كان مشتغلاً بطلب العلم، وهذا السفر يشغله عن طلب العلم فإنه يكون في حقه مكروهاً إذا اتصل هذا السفر بما يوجب شغله عن طلب العلم.ويكون حراماً إذا تضمن أمراً محرماً، كسفره -والعياذ بالله- للزنا، أو لشرب خمر، أو لقطع طريق، أو عقوق والدين، ونحو ذلك، فهذه خمسة أحوالٍ للسفر.
فإذا كان سفره مباحاً جاز له أن يترخص، وإذا كان مندوباً جاز له أن يترخص؛ لأن المندوب فيه الإباحة وزيادة، وهكذا إذا كان واجباً؛ لأن الواجب فيه الإباحة وزيادة.ففي هذه الثلاثة الأحوال يجوز له أن يترخص برخص السفر.
أما لو اشتمل سفره على معصية كأن يسافر لقطع طريق، أو عقوق والدين -والعياذ بالله-
فإن هذا السفر المحرم قد اختلف العلماء فيه على قولين:
القول الأول يقول: إن السفر المحرم لا يحل لصاحبه أن يترخص فيه، فيجب عليه فيه أن يُتِم الصلاة أربعاً، ولا يأخذ برخص السفر.وهذا مذهب الجمهور رحمة الله عليهم.
القول الثاني: من سافر سفر معصية يجوز له أن يترخص.وهو مذهب الحنفية، واختيار بعض المحققين من العلماء رحمة الله على الجميع.
أما من قال:
إنه لا يترخص فإنه يحتج بقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة:173] قالوا: إن الاضطرار شرطه أن لا يكون بغياً ولا عدواناً،
ولذلك لما فسر حبر الأمة وترجمان القرآن هذه الآية قال:
غير قاطع للطريق وذكر المحرمات.
فكأنه يرى أنه إذا كان باغياً أو عادياً لا ضرورة له فلا رخصة له.
قالوا:
وهذا حبر الأمة وترجمان القرآن وقد فسر كتاب الله عز وجل، وهو المدعو له أن يُفقَّه في الدين، وأن يُعَلَّم تأويل الكتاب، فقصر الرخص على انتفاء وجود البغي والعدوان، فهذا أولاً.
ثانياً: أن السفر إذا أُطلق في الشرع ينبغي أن يتقيد بالمعروف شرعاً، والمأذون به شرعاً؛ لأنه لا يعقل أن الشرع يأذن له بالرخصة مع كونه يمنعه من السفر، فيعتبر السفر من وجهٍ ويحرمه من وجه.
قالوا:
فهذا شيء من التناقض، فلما كان هذا السفر غير مأذون به شرعاً لم تتصل به الرخص؛ لأنه مأمور بإلغاء هذا السفر، فكيف يباح له أن يترخص فيه؟ والعجيب أن هذا القول من القوة بمكان من جهة الأصل؛ فإن القاعدة تدل على أنه إذا شك في الرخصة فإنه يرجع إلى الأصل، والأصل أن الإنسان يجب عليه أن يصلي أربعاً بناءً على أنه مقيم.
ولا نعني بالأصل ما سبق التشريع من كون الصلاة فرضت ركعتين ركعتين، فهذا أصل الوصف وليس له تأثير في الاستدلال، وإنما نعني أن الأصل فيه أنه مقيم.
ولما شككنا هل هذا السفر سفر رخصة أو ليس برخصة رجعنا إلى الأصل من كونه مطالباً بفعل الصلاة أربعاً.
وأما الذين قالوا: إنه يقصر فقالوا: إن الله عز وجل أطلق فقال: {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [النساء:101]، ولم يفرق بين كونه ضرباً بسفر مباح، أو ضرباً بسفر محرم.
وهكذا قالوا: إن الأدلة التي وردت في القصر مطلقة، والأصل في المطلق أن يبقى على إطلاقه.
وقد ناقش الجمهور هذا فقالوا: إن المطلق في الشرع مقيد بالمعهود، فنحن نعني بالسفر ما أُذن به شرعاً، فحينئذٍ يستقيم التقييد بما عرف شرعاً.والنفس تميل إلى أنه يُحتاط، فالسفر القائم على المعصية لا يُتَرخص فيه ما أمكن؛ إعمالاً للأصل الذي ذكرناه،
وإعمالاً لقوله عليه الصلاة والسلام:
(دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)؛ فإن أقل درجاته الشبهة، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه.وعلى هذا فإنه يتم الصلاة ويبقى على الأصل الذي أوجبه الله عز وجل عليه، كما قال جمهور العلماء رحمة الله عليهم.
وهناك أمر ينبغي التنبه له، وهو أن العلماء رحمة الله عليهم فرقوا بين كون السفر سفر معصية، وكونه سفراً تُفعَل فيه المعصية.فالمعصية في السفر كأن يسافر لأمر مباح، ثم يفعل معصية أثناء سفره، فهذا لا يشمله هذا الحكم، فلو أن إنساناً سافر لقصد التجارة ثم -والعياذ بالله- زنى أثناء سفره، أو شرب الخمر، فإن هذا لا ينطبق عليه ما ذكرناه؛ لأنه ما خرج أصلاً لفعل الحرام، وإنما خرج للمباح وهو التجارة.ولو أنه سافر للمباح ولفعل الحرام،
فإنهم قالوا:
يأخذ حكم من سافر للحرام أصلاً.
الأسئلة
[الجمع بين عدم الإذن للأعمى بالتخلف عن الجماعة والإذن بالتخلف لعذر المطر ونحوه]

q كيف نجمع بين مشروعية التخلف عن صلاة الجماعة لعذر خوف الضرر الشديد حال المطر والوحل والريح الشديدة، وعدم إذن النبي صلى الله عليه وسلم للأعمى الكبير في السن بالتخلف عن صلاة الجماعة بعد أن سمع النداء؟

a باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإن العلماء رحمهم الله أخذوا من حديث ابن عمر الثابت في الصحيح أن المؤذن إذا بلغ حي على الصلاة حي على الفلاح قال: الصلاة في الرحال.
فأخذوا من إذن الشرع بالصلاة في الرحال وسقوط الجماعة مع وجود المطر دليلاً على أنه إذا وُجِدت المشقة بالريح الشديدة في الليلة المظلمة فإنه يترخص بترك الجماعة، وهذا معنىً صحيح.وأما حديث الأعمى الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أتسمع النداء؟) قال: نعم.قال: (فأجب)، وفي رواية أخرى: (ما أجد لك رخصة) فقد قال العلماء فيه: سماعه يدل على قربه، ولذلك أمره بشهود الجماعة لمكان القرب.ثم إنه إذا حضر ليست هناك ريح شديدة، فإن الريح الشديدة تعيق الإنسان وتدفعه عن المضي إلى المسجد وإلى شهود الجماعة، بخلاف العذر الذي هو مطلق، كقول الأعمى رضي الله عنه (تكون الظلمة والسيل والمطر)، فإنه لا يدل على سقوط الجماعة بعد وجوبها.ولبعض العلماء رحمة الله عليهم من المتأخرين جواب آخر لو صح لكان أقوى، حيث قالوا: الذي يظهر أن حديث الأعمى متقدم، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط الصلاة بعذر المطر فقال: الصلاة في الرحال.
لأن الأعمى قال: (إنه تكون الظلمة والسيل والمطر، وليس لي قائد يقدوني)، فكانت عزيمة في أول الأمر، ثم جاء التخفيف، فيكون من نسخ الأثقل بما هو أخف.
وهذا القول لو صح فثبت أن التخفيف بالمطر ونحوه متأخر، وثبت ما يدل على التأخر فلا شك أنه يزيل الإشكال.والله تعالى أعلم.
يتبع



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #133  
قديم 24-09-2021, 03:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجماعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (129)

صـــــ(1) إلى صــ(22)

[موضع جواز جمع الصلاة للمسافر]
q نويت السفر قبل صلاة الظهر، ولم أخرج من بيتي إلا بعد الظهر، فصليت الظهر أربعاً مع جماعة، فهل أصلي العصر جمع تقديم، مع العلم أن صلاة العصر تدركني وأنا في الطائرة، ولا تهبط إلا بعد خروج الوقت؟

a بعض العلماء يقول: إنه لا يترخص بالجمع إلا بعد الخروج من المدينة.وهذا -مثلما ذكرناه- على ظاهر نص الكتاب والسنة، فالمسافر لا يترخص إلا بعد الخروج من العمران.وعليه فإنه لا يحق له أن يجمع ما دام داخل مدينته حتى يخرج ويبرز إلى العمران، فحينئذٍ يجوز له أن يترخص بالجمع، والله تعالى أعلم.

[التفصيل في كمية تناول الطعام عند حضور وقت الصلاة]

qهل يكون الأكل عند حضرة الطعام بمقدار ما تنكسر نهمته، أو له أن يشبع؟

aمن حضرته الصلاة وحضره الطعام فإنه إما أن يمكنه أن يكسر شهوته ونهمة نفسه، ثم يدرك الجماعة، ولا يفسد الطعام بحيث يعود ويتمه، فإنه حينئذٍ يفعل ذلك إعمالاً للأصل، وبكسره لشهوة نفسه يزول المعنى الذي من أجله سقطت الجماعة.وأما إذا كان تركه لبقية الأكل يُفسد الأكل ولا يمكنه أن يدركه بعد الصلاة، فحينئذ يقضي نهمته ولو فاتته الصلاة؛ لنص حديث عائشة رضي الله عنها.والله تعالى أعلم.

[البدء بالصلاة الفائتة قبل الحاضرة]

q إذا كنت مسافراً من مكة الساعة الحادية عشرة -مثلاً-، وأخرت صلاة الظهر مع العصر، ودخلت المسجد والناس يصلون العصر فماذا أفعل؟

a إذا دخل المصلي المسجد والناس يصلون العصر وهو لم يصل الظهر فإنه يدخل وراءهم بنية الظهر، ثم إذا سلموا أقام للعصر وصلاها.والله تعالى أعلم.

[جواز ترك الجماعة لمن خرج خارج البنيان ولا يسمع الأذان]

q نخرج غالباً خارج البنيان ونحن جماعة، وذلك للتنزه وغير ذلك، ولا نسمع الأذان، فهل نعذر في ترك الجماعة العامة في المساجد؟

a من خرج خارج العمران، أو خرج إلى مكان لا يسمع فيه النداء فإنه يجوز له أن يصلي بمكانه، وإن كانت معه جماعة فإنه يؤذِّن ويقيم ويصلي بهم جماعة، وأما إذا كان قريباً من العمران بحيث يسمع النداء فإنه يلزمه أن يمضي إلى أقرب المساجد إليه ويجيب داعي الله عز وجل له، والله تعالى أعلم.

[حكم الصلاة في الرحال]

q إذا سافر شخصان إلى مدينة ما، وأرادا الإقامة بها يومين فقط، فهل يصح لهما قصر الصلاة في المنزل وترك الجماعة؟

a إذا كان الإنسان مسافراً ومعه جماعة وكلهم مسافرون فإنه يجوز لهم أن يصلوا جماعة في رحالهم، لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى بالناس الفجر بخيف مِنى فرأى رجلين فقال: (علي بهما، فأُتي بهما فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: قد صلينا في رحالنا.قال: فلا تفعلا.إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم؛ فإنها لكما نافلة).
ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهما على فعل الجماعة في الرحال مع أن جماعة النبي صلى الله عليه وسلم قد انعقدت في الخيف، فدل هذا -كما يقول العلماء- على جواز أن يصلي المسافر جماعة في رحله، ثم إذا حضر المسجد فإنه يصلي مع جماعة المسجد نافلة، ولو كانت الصلاة عصراً أو صبحاً أو مغرباً على أصح أقوال العلماء.والله تعالى أعلم.

[وقت ذكر دعاء السفر]

qمتى يشرع قول دعاء السفر، هل عند ابتداء ركوب الدابة، أم إذا لزم جهة السفر، أم إذا تجاوز البنيان؟

a بعض الأحاديث فيها التكبير عند ركوب الدابة، كما في السنن، فيكبِّر إذا وضع رجله في الغرز، أو إذا ركب السيارة كما هو موجود الآن، ويقول الدعاء: (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين) قالوا: لِحَمْد نعمة الله عز وجل على المركوب، ولا علاقة له بالسفر، وإنما شُرِع في السفر لمكان المناسبة.وأما بقية الأدعية التي نص فيها على السفر فإنها لا تكون إلا بعد مجاوزته للعمران، لأنه يسأل الله عز وجل في وجهه الذي هو ماض إليه، والله تعالى أعلم.

[الأخذ برخص السفر لا يشترط فيه مدة معينة]

q من سافر وهو ينوي الرجوع في نفس اليوم فهل يجوز له القصر؟

a من سافر وهو ينوي الرجوع في نفس اليوم فإنه مسافر، وبناءً على ذلك يجوز له أن يترخص برخص السفر إعمالاً لحالته، ويصدق عليه ظاهر التنزيل وظاهر ما ورد من النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم.وكونه يرجع في نفس اليوم أو غيره من الأيام الأخرى لا تأثير له؛ لأننا لا نحفظ دليلاً يدل على تقييد الرجوع بزمان معين، وإنما وردت الأدلة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم بالرخصة للمسافر مطلقاً.وعلى هذا فلو خرج إلى تدريس أو تعليم بمكان يبعد مسافة القصر حل له أن يترخص بِرُخَص المسافر في الطريق ذاهباً وراجعاً.والله تعالى أعلم.

[حكم المريض إذا مات وعليه بعض الصلوات]

q كان عندنا مريض يصلي بعض الأوقات، وبعض الأوقات لا يصليها، وذلك لشدة المرض، وأحياناً يصلي فيغلبه النوم أثناء الصلاة، وقد مات وعليه فروض لم يصلها، فهل عليه شيء؟

a هذا المريض ظاهره أنه قد حيل بينه وبين الصلاة بالمرض، وهذا الذي يظهر، بدليل أنه إذا حضرته الصلاة صلى، وإذا عجز لم يصلِّ.أما بالنسبة لأهله فلا شيء عليهم، وبالنسبة له هو فقد مضى إلى الله عز وجل، وإلى الله حكمه، ولا يلزمهم في ذمتهم من شيء، فإن كان يترك الصلاة تساهلاً وتكاسلاً فحكمه إلى الله سبحانه وتعالى، وإن كان تركها لعذر من غيبة عقلٍ وإغماء ونحو ذلك فهذا حكمه حكم المعذور، والله تعالى أعلم.

حكم من أكل ثوماً أو بصلاً قبل صلاة الجمعة

q هل يعذر الإنسان بترك صلاة الجمعة إذا أكل ثوماً أو بصلاً؟

a من أكل الثوم والبصل في يوم الجمعة قاصداً التخلف عن الجمعة فإنه آثم، وقال بعض العلماء: إنه لا يحضر الجمعة ويكون عليه وزر من تعمد تركها.وذلك أنه تقصد أن يتخلف واحتال على الشرع، والحيلة على الشرع لاغية.فيكون فعله المحتال به كما لو قصده، وأما لو أنه أكل طعاماً وهو لا يدري أن فيه الثوم والبصل، أو أكل الثوم والبصل ناسياً أنه يوم جمعة، فلما أكل وتلبَّس به، شعر أنه في يوم جمعة، فإنه يعتبر معذوراً لنص النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا -أو ليعتزل مسجدنا- وليقعد في بيته، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)، والله تعالى أعلم.
[حكم الصلاة بين السواري]
qقيد بعض العلماء كراهة الصلاة بين السواري بأن يكون بين السارتين ثلاثة أذرع، ومعنى هذا أن السواري الموجودة اليوم لا تأخذ هذا الحكم، وأن الصف بينهما صحيح، فهل هذا صحيح؟

a هذا التحديد الذي ذُكِر تحديد بدون دليل نعلمه، والأصل في التقديرات والتحديدات أنها تكون مستندة إلى نصوص الكتاب أو السنة، وأما هذا التحديد فلا أحفظ له دليلاً من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.وبناءً على ذلك فإنه لاغٍ ولا يُعتد به، ويبقى الحكم بالصلاة بين السواري على ما هو عليه، لكن قال العلماء في السواري المنفصلة المتباعدة بعداً قوياً: إنها لا تؤثِّر.وقالوا: إنه يجوز أن يصلى بينها كما لو صلى بين جدارين، فإنه لا حرج عليه، ويعتبر هذا مأذوناً به، وليس داخلاً في النهي، والله تعالى أعلم.

[حكم قضاء السنن الرواتب]

q هل يجوز قضاء السنن الرواتب إذا لم يصلها في أوقاتها أم لا؟

a قضاء السنن الرواتب ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد فعل ذلك في السفر، كما في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه أنه: (لما نام عليه الصلاة والسلام عن صلاة الفجر واستيقظ بعد طلوع الشمس أمر بلالاً فأذن بالصلاة، ثم صلى رغيبة الفجر، ثم أمر فأقام فصلى الفجر).فدل على مشروعية قضاء الراتبة بعد خروج وقتها، وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنه صلى الله عليه وسلم صلى بعد العصر ركعتين، فقالت: يا رسول الله: رأيتك تصلي ركعتين لم أرك تصليهما من قبل؟! قال: (أتاني ناس من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان).فدل هذا الحديث على مشروعية قضاء السنن الرواتب إذا كان الإنسان عذر بتركها، كما لو نام عن صلاة الفجر لعذر ثم استيقظ بعد طلوع الشمس، وهكذا إذا دخل والإمام يصلي الظهر ولم يتمكن من صلاة السنة القبلية، فإنه بعد سلام الإمام يجوز له أن يصلي القبلية، ثم يصلي بعدها السنن الراتبة البعدية، والله تعالى أعلم.

[حكم الجهر في الصلاة]

q إذا نسي الإمام الجهر بالقراءة في الصلاة الجهرية هل يسجد للسهو؟

a للعلماء في الجهر في الصلاة وجهان: قال بعضهم: إنه من الواجبات، ويلزمه إذا نسيه أن يسجد له سجود السهو.وهذا قول يختاره بعض السلف رحمة الله عليهم، وهو في مذهب بعض العلماء، كـ مالك رحمة الله على الجميع.وقال بعض العلماء: الجهر ليس بواجب، ولذلك لو أسرّ في جهرية أو جهر في سرية ولو كان متعمداً صحت صلاته، والأحوط أنه يسجد إذا كان يريد الخروج من الخلاف، أما لو ترك السجود فإنه لا حرج عليه، والله تعالى أعلم.
[حكم من أفطر في رمضان ولم يعلم بوجوب القضاء إلا بعد فترة طويلة]
q امرأة أفطرت شهر رمضان كاملاً بسبب الحمل والولادة، ولم تكن تعلم أنه يجب عليها القضاء، فلم تقض ذلك الشهر حينها، وبعد عشرين سنة تبين لها أنه يجب عليها القضاء، فماذا تفعل؟

aيلزمها قضاء هذا الشهر، وللعلماء رحمهم الله في الجاهل وجهان: قال بعضهم: الجهل عذر، ويُسقط التكليف، ولا كفارة لمكان العذر.وقال بعضهم: ليس بعذر بعد استقرار الشرع.وهذا واضح، خاصةً إذا كانت في المدن والعمران؛ لأنه يتيسر وجود العلماء وسؤالهم، ومع ذلك تسكت عن سؤالهم ثم تأتي وتقول: إنها جاهلة.فقالوا: مثل هذه لا يُعذر، إنما يُعذر من كان في البوادي بعيداً عن العلماء، أو كان في زمان التشريع.وهذا القول من القوة بمكان، فإنه لا يفتح للناس الترخص بالجهل؛ لأنهم إذا كانوا في حاضرة وأمكنهم سؤال العلماء فهم مقصرون مستهترون، ومن قصر في الشرع يُلزم بعاقبة تقصيره.ولذلك يُفصَّل في هذه المرأة، فإن كانت في العمران وأمكنها سؤال العلماء فإنها آثمة بالتقصير ومعرفة حكم الله عز وجل.وأما إذا كانت في مكان لا يتيسر معه أن تبعث من يسأل لها أو لا يتيسر فيه وجود العالم الذي تسأله فإنها معذورة، ولا كفارة عليها، على القول بأن الجهل عذر مطلقاً، فلا كفارة عليها ولا إثم.وعلى القول بالتفصيل -وأميل إليه- أنها تأثم إن كانت قصّرت ولا تأثم إن لم تقصر، ثم إذا قلنا: إنها قصرت.وحكمنا بإثمها فمذهب جمهور العلماء أن من قصّر فدخل عليه رمضان الثاني ولم يقض رمضان الأول فعليه عن كل يوم ربع صاع، وهو قول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك جمع من العلماء يُنسب إلى جمهور أهل العلم رحمة الله عليهم، ويُفتى به على سبيل الاحتياط، وإلا فقول الظاهرية بعدم وجوب التكفير من القوة بمكان.والله تعالى أعلم.

[معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين صلاة)]

q ما المقصود بالأذانين في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين صلاة)، والصلاة بينهما هل هي النافلة والمكتوبة؟

a هذا حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: (بين كل أذانين صلاة) من باب التغليب، والعرب تقول: القمران والعشاءان والظهران والعمران، كل ذلك من باب التغليب، فقوله عليه الصلاة والسلام: (بين كل أذانين) أي: بين الأذان والإقامة فغُلِّب الأذان على الإقامة).ووجه ذلك أن الأذان في لغة العرب الإعلام، فلما كان الأذان الأول أذاناً -بمعنى أنه يُعلم بدخول وقت الصلاة- وكانت الإقامة إعلاماً بقيام الصلاة وُصِفت بكونها أذاناً من هذا الوجه.وعلى هذا فإنه يصلي بين الأذان والإقامة، وهذه النافلة ليست براتبة، وإنما هي نافلة مستحبة يفعلها الإنسان، وليست من السنة الراتبة، إلا إذا كانت للصلاة الذي أُذِّن لها راتبة قبلية كالظهر والفجر ونحو ذلك.أما إذا لم تكن لها راتبة قبلية كصلاة المغرب، فإنه إذا أذن المغرب يُشرع للإنسان ويسن له أن يصلي ركعتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بين كل أذانين صلاة)، وهكذا لو أذن العشاء فله أن يصلي بين الأذان والإقامة ركعتين.والله تعالى أعلم.
[حكم التقصير في حق الوالدين بعذر طلب العلم والدعوة]
q لي أبٌ عاجز، وأشتغل بطلب العلم وبعض المشاريع الدعوية، وأقصر في حق الوالد، فهل أنا معذور بهذا التقصير؟

a أخي في الله! اتق الله في أبيك، واتق الله في والديك، وابدأ بهما؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمر بتوحيده ثم ثنى ببر الوالدين، فاتق الله عز وجل في أبيك عند المشيب والكبر، فارحم ضعفه واجبر كسره، وكن إلى جواره، والزم قدمه؛ فإن الجنة ثم.قال سبحانه وتعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23].وفي الحديث:: (رغم أنف رجل أدرك والديه فلم يدخلاه الجنة.قل: آمين.قلت: آمين)، فاحمد الله عز وجل إذ متّع ناظريك بوجود والديك، واغتنم هذه الفرصة، خاصة إذا كان الوالد ضعيفاً فقم على حالته، واقض حوائجه وفرج كربته، وكن إلى جواره، فإنه فرضٌ لازم عليك مقدم على النوافل، ومقدم على حلق الذكر، ومقدَّم على مجالس الصالحين إذا كانت على سبيل النفل ولم تكن واجبة.وما تقرب العبد إلى الله بشيء أحب إليه مما افترض عليه، فابدأ بوالديك، وفي الحديث أن صحابياً قال: (يا رسول الله! أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد.-يريد أن يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم، فهاجر لكي يكون تحت ظله، يقاتل في سبيل الله لإعلاء كلمة الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال: أحي والداك؟ قال: نعم.قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)، وفي رواية: قال: (يا رسول الله! أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد وتركت أبواي يبكيان.قال: ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما)، وأبى أن يخرج معه.فبر الوالدين فرض لازم ينبغي على المسلم أن يبدأ به قبل النوافل والطاعات، فابدأ بنفسك وبمن تعول، وارحم ضعفه وارحم كبره، وكن مع الوالدين ولا تسأم ولا تمل، ولا تتعب ولا تضجر، فإنك تخوض في رحمات الله جل جلاله.فكل لحظة وأنت في جواره تُدخل السرور عليه، وتذهب الوحشة عنه بأنسه برؤية وجهك، فكم من قلوب للوالدِين تتعطش وتتألم، ولكن يزول ألمها ويروى عطشها إذا اطلعت ورأت أبناءها وبناتها.وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما احتضر ابنه إبراهيم دمعت عيناه عليه الصلاة والسلام، فقال له الصحابة: (ما هذا يا رسول الله؟ قال: رحمة أسكنها الله في قلوب عباده).فالوالدان فيهما رحمة، وفيهما حنان للولد وشوق وحنين، ولو أمرك أن تسافر أو تذهب للدعوة فينبغي أن تكون أحرص على الخير منه.فالوالد قد لا يحب أن يزعجك، ولا يحب أن يضيق عليك، فيراك تحب السفر فيقول لك: سافر.وتحب أن تكدح وتتاجر وتذهب هنا وهناك فيقول لك: اذهب.ولكن ينبغي أن تكون فطناً لبيباً حكيماً أريباً، فهذا الوالد في آخر عمره وضعفه ومشيبته وكبره بحاجة إليك.فالدنيا تُدرك، ولكن بر الوالدين ليس إلا ساعات ولحظات، اختار الله عز وجل والديك فسوف تعض على أصابع الندم، ولات ساعة مندم.فاتق الله عز وجل في والديك، واشكر نعمة الله سبحانه وتعالى إذ متع عينيك برؤية الوالدين.فينبغي ألا ينام الإنسان إلا وهو يفكر كيف يبر والديه، وأول الفروض بعد توحيد الله عز وجل بر الوالدين، فتكون إلى جواره، ولو أدى ذلك إلى انقطاعك عن بعض الدروس، فإن الوالد في أشد الحاجة أن تجلس معه، فإن كان مريضاً تداويه، وإن كان محتاجاً إلى معونة تعينه وتساعده، حتى ولو كان الإنسان يجد من والديه الأذية، فإن أفضل البر وأحسنه وأكمله وأجمله إذا كنت تُحسن إلى الوالدين ويسيئان إليك، وإذا كنت ترحمهما فتجد منهما الغظاظة، ولربما تجد منهما أنهما يكرمان غيرك ويهينانك، فإذا رأيت من الوالدين السباب والشتام والاحتقار فاعلم -إن شاء الله- أن ذلك من دلائل القبول، فما دمت لا تتسبب في غضبهما، وكأن الوالد لا يحفظ معروفك، ولا يشكر إحسانك، فلعل الله لحكمة يريد أن يرفع درجتك ببرك بوالديك.واعلم رحمك الله أنها من فواتح الخير، فكم من علماء وأفاضل وصلحاء بلغوا الخير بفضل الله جل جلاله ثم برضا الوالدين.وأعرف عالماً من العلماء الذين بلغوا شأواً عظيماً في العلم كتب ترجمته بيده فقال: لا أعرف أمراً وفقني الله عز وجل إليه بعد توحيده بلغت به بفضل الله عز وجل هذا العلم مثل بري بوالدي، فقد توفي وهو في النزع يدعو لي بالعلم والعمل.فإذا وفقك الله لبر الوالدين كسبت منهما الدعوات الصالحات، وخضت في رحمات الله سبحانه وتعالى، فتخرج من عند والديك والأكف ترفع إلى الله أن يسعدك، وأن يوفقك، وأن يكون معك، فأبشر بكل خير في دينك ودنياك وآخرتك.فلا يشتغل الإنسان بالنوافل ويترك الفرائض، وبعض طلاب العلم يجد السآمة، ويجد الضيق، ويجد الملل، ولا يدري من أين جاءه هذا الهم والغم والنصب والتعب، فقد يكون عق أباه؛ لأن الإنسان قد يعق والده بكلمة واحدة، فتغيب عليه شمس ذلك اليوم وهو من العاقين -والعياذ بالله-.فكيف يحتاج والدك إلى حاجة ويأتيك قبل أن تأتيه، وهو الذي طالما سهِر وتعب عليك؟ والله إن الإنسان ليكاد يذوب خجلاً -لو أن القلوب والضمائر والنفوس حية- حينما ينظر إلى والده يسأله حاجة.فالمفروض أنك لا تنتظر من الوالد أن يسألك، ولا تنتظر من الوالد أن يعرض حاجته عليك، بل عليك أن تلبي حاجته، وأن تفرج -بإذن الله- كربته، وتسعى في تحقيق مصالحه وإدخال السرور عليه، وبذل كل ما تستطيع من الخير.فقبل الجلسات، وقبل الأصدقاء والأصحاب والأحباب بر الوالدين، فالواحد منا يجلس مع أصحابه وأحبابه ساعات متأخرة من الليل لا يسأم، ولا يمل ولا يضجر، وقد يكون في فضول الحديث، ولكن بمجرد أن يجلس مع أبيه لحظة واحدة يتذمر، وتجده إذا دخل عليه رجل من أهل الدنيا يقوم من مكتبه يقضي حوائجه، ويفرج كربته، فإذا قال له الرجل: أشكرك على ما قدمت.يقول: هذا واجب.وإذا جاء والده في أبسط حاجة أو أقل معروف أعرض عنه، ولربما جاء وقضى الحاجة بتذمر، حتى إن الوالد يكره هذه الحاجة مما يرى من السآمة والملل من ابنه.فالله الله في هذه القلوب الضعيفة، فارحموا ضعف الوالدين.وينبغي على الخطباء وطلاب العلم دائماً أن يذكِّر بعضهم بعضاً ببر الوالدين، فهذه فواتح رحمة، وهذه من الأمور التي كان العلماء رحمهم الله يتفقدون فيها طلابهم، فلا تمر فترة إلا وهم يذكرون، وقد عهِدت بعض المشايخ رحمة الله عليهم أنه كان لا يجلس معه طلابه إلا وهو يتفقدهم في أمرين، ويقول: أمران لا أسأم منهما: الإخلاص وبر الوالدين.فتجده دائماً يقرع طلابه ويذكرهم بهذا.وإن كنت في حيِّك، أو في مسجدك، فاذكر فضل بر الوالدين، وأَشِدْ بهما؛ لأن الناس تناست، وكلما طال العهد عن النبوة كان الناس في فتنة ومحنة وغربة عن الدين، فقد أصبح اليوم قضاء حوائج الوالدين كائناً مع الضيق والسآمة والملل، حتى إن كثيراً من الآباء يضجرون، فتجد الأب تُقضى حاجته، لكن تُقضى بدون رغبة.وقد اتصل بي ذات مرة رجل من الأخيار، وكان من خيار طلاب العلم والدعاة، فقال لي: إني أريد أن أخرج إلى كذا وكذا -وهي قربة من أجل القربات- فقلت له: يا أخي! هل والداك موجودان؟ قال: الوالد موجود.قلت: هل أذن لك في الخروج؟ قال: أذن لي.قلت: لو كنت تريد مني الرأي فأنا أنصحك أن تبقى عند والدك.قال: لماذا؟ قلت: والدك كبير، ولو أذن لك فالمفروض أن تستحي من الله عز وجل أن تتركه على ضعف وخور في هذا العمر وتخرج تتنفل بالطاعات، فقال: أنا واثق أنه راض.قلت له: تأكد.وثلاث مرات وأنا أراجعه، ولكن يأبى الله عز وجل، وأرجو أن الرجل كان فيه الخير والصلاح، أحسبه ولا أزكيه على الله.فيشاء الله عز وجل أنه يُقدم على ما هو طالبه من الخير، فخرج، فلما خرج وابتعد عن المدينة التي هو فيها مسافة تذكر شيئاً في البيت أنه لم يأخذه معه، وكان من لوازم سفره.قال: فرجعت، فلما رجعت وجدت الوالد في حالة من البكاء والحزن والهم والغم ما الله به عليم، قال: فلما رأيت الوالد ذُهِلت حتى عن الشيء الذي أتيت من أجله، فقلت: ما هذا يا والد؟ قال: يا بني! ماذا أفعل؟ رأيتك تحب هذا الشيء ولا أحب أن أمنعك عما تريد، أما لو كان باختياري وهواي فلا أريدك أن تفارقني.قال: والله ما هو إلا أن قبلت قدمه، وجلست أبكي عنده.فالوالدان فيهما رحمة، ولا يستطيع الوالد إذا رآك تريد شيئاً أن يصدّك عنه، والوالدة أرحم من الوالد، فلا يغتر الشاب لقول الوالد: اذهب.فإذا قال: اذهب.فقل: لا أذهب، بل أجلس عند قدمك وأقضي حوائجك.وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الزم رجلها فإن الجنة ثم).فالوالدان يحتاجان إلى وفاء، وإلى رد جميل، وإلى الإحسان مهما كان، حتى ولو كان الوالد يقول لك: اذهب إلى طلب العلم.فلتذهب إلى طلب العلم ولكن بقدر، ولتجعل حاجته بين عينيك، ولا تنتظر منه -إذا كنت تريد الرحمة والرضوان والتوفيق من الله، وسعادة الدنيا والآخرة- يوماً من الأيام أن يطلب منك شيئاً، وإنما تكون أنت الذي تقضي حوائجه، وأنت الذي تبادره وتسبقه إلى حوائجه.نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يكرمنا بالبر، وأن يجعلنا من أهله، ونسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا في هذا المجلس المبارك أن يسبغ شآبيب الرحمات على من كان منهم من الأموات من الآباء والأمهات.اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، وأوسع مدخلهم، واجزهم عنا خير ما جزيت والداً عن ولده، اللهم أسبغ عليهم شآبيب الرحمات، واجعلهم عندك في نعيم الجنات.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #134  
قديم 24-09-2021, 03:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجماعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (130)

صـــــ(1) إلى صــ(27)

شرح زاد المستقنع - فصل: صلاة المسافر [2]
السفر غالباً تصحبه مشقة وعناء، ولذلك خفَّف الله عن المكلفين في السفر وشرع لهم قصر الصلاة فيه، لمسافة معلومة ومدة معلومة، وبشروط معينة، على أن يراعى وقت أداء الصلاة ووقت وجوبها، وكذلك حال الاقتداء بالمقيم،
ومن التخفيف عن المسافر:
مشروعية الجمع بين الصلاتين، مراعاة لحال المسافر وتيسيراً عليه، وقد يكون الجمع في غير حال السفر كالجمع في عرفة ومزدلفة.
تابع أحكام صلاة المسافر
[حكم القصر في السفر المحرم]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [من سافر سفراً مباحاً أربعة برد سن له قصر الرباعية ركعتين إذا فارق عامر قريته أو خيام قومه].
شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان المسائل والأحكام المتعلقة بصلاة المسافر، والله سبحانه وتعالى جعل الصلاة في السفر إذا كانت رباعية ركعتين،
كما شهد بذلك حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الصحيح:
(فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت في السفر وزيدت في الحضر).وقد بينا أن السفر يعتبر من الأمور التي توجب التخفيف عن العباد والمكلفين في الصلاة.
قوله:
[من سافر سفراً مباحاً] يفيد أنه يشترط في السفر الذي تقصر فيه الصلاة أن يكون سفراً مباحاً وليس بسفر معصية، فإن كان السفر سفر معصية فإنه لا يحل له أن يقصر الصلاة، وذلك لقوله سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة:173]،
فقد فسر حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الاضطرار في حال البغي والعدوان فقال:
(أن يسافر سفر بغي، أو سفر عدوان).فإذا كان مسافراً سفراً محرماً فإن الخطاب يتوجه عليه بالرجوع، فكأن السفر وجوده وعدمه على حد سواء،
فلو قال قائل:
إنه مسافر في الصورة! قلنا: إن الصورة يشترط فيها أن يعتد بها شرعاً، فلما كانت لاغية في حكم الشرع لم يترخص برخصه.
[المسافة التي يقصر فيها المسافر]
قوله: [من سافر سفراً مباحاً أربعة برد].
البرد:
جمع بريد،
والبريد كلمة أصلها فارسي وهو:
(برده ذم)،
قالوا:
كان أصل البريد في اللغة الرسول، وكانوا يستخدمون البغال في إيصال الرسائل، فعلى كل مرحلة يجعلون محطة تكون فيها بغال مهيأة، فإذا أخذ الرسول الرسالة من محطة انطلق إلى المحطة الأخرى، فيجد رسولاً آخر ينتظره في المحطة فيعطيه الرسالة، فينطلق إلى المحطة التي تليها، فيكون أبلغ في وصول الرسالة في أقرب وقت، أو ينطلق نفس المسافر، فإذا وصل إلى المحطة الأولى وجد دابة فركب عليها إلى المحطة التي تليها، وهكذا حتى يبلغ المكان الذي يريده لرسالته، فسمي بريداً.فالبريد نفس المسافة التي يقطعها المسافر في اليوم وهي المرحلة الكاملة، وهذه المسافة -التي هي أربعة برد- توقيت وتحديد ذهب إليه جمهور العلماء رحمهم الله، فالمسافر لا يكون مسافراً إلا إذا قصد هذه المسافة فما فوقها، فلو كانت المنطقة أو المدينة التي يريد بلوغها دون أربعة برد فإنه لا يوصف بكونه مسافراً، فكما أن من خرج من مدينة إلى ضواحيها لا يعتبر مسافراً في حكم الشرع، فكذلك من انتقل إلى مسافة دون هذه المسافة.
أما الدليل الذي دل على اعتبار هذه الأربعة البرد فحديث النبي صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة -وفي رواية: مسيرة يوم- إلا ومعها ذو حرمة)، ووجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم على المرأة أن تسافر بدون محرم، ولم يذكر مسافة توصف بكونها مسافة سفر دون اليوم والليلة، فدل على أن مسافة اليوم والليلة ومسيرة اليوم والليلة هي السفر.
وقالوا: إن الأربعة البرد من إنسان يسير يوماً كاملاً تكون على هذا الوجه؛ لأنه إذا مشى من أول النهار إلى أوسطه فإنه يقطع بريداً، ثم من أوسطه إلى آخره يقطع بريداً، فيتم له في النهار بريدان، ثم في الليلة بريدان، فأصبح المجموع أربعة برد، فهي مسيرة اليوم والليلة،
فإن قالوا: مسيرة يوم وليلة فإنها مسيرة أربعة برد.والبريد من الفراسخ أربعة، والفرسخ ثلاثة أميال، وبناء على ذلك لتكون المسافة ستة عشر فرسخاً، أو ثمانية وأربعين ميلاً، وتقدر بالكيلو مترات، فبعض المتأخرين -قبل ما يقرب من أربعين سنة- اختبر سير الإبل، فذكر أن الإبل في اليوم تسير ما يقارب أربعين كيلو متراً،
أي:
من طلوع الشمس إلى غروبها، وقد تسير دون الأربعين شيئاً قليلاً، وقد تصل إلى الأربعين، فإذا كان السير معتاداً في الزمان المعتاد الذي ليس بشديد الحر ولا بشديد البرد، فإنه يصل السير إلى ما يقارب الأربعين كيلو متراً، فإذا حسبت في النهار أربعين كيلو متراً وفي الليل أربعين كيلو متراً فهي إلى الثمانين،
فهو يقول:
إنها تصل إلى ما يقارب ثمانية وسبعين كيلو متراً.
ومن العلماء من يقول: اثنان وسبعون كيلو متراً.
ومنهم من يقول:
ستة وسبعون كيلو متراً.
ومنهم من يقول:
ثمانون كيلو متراً.فهي ما بين اثنين وسبعين كيلو متراً إلى ثمانين كيلو متراً، فإن احتاط فإنه يوصلها إلى الثمانين، ولكن الأشبه -فيما ذكره غير واحد- أنه إلى اثنين وسبعين يرخص له برخص السفر.
وقلنا: إن الدليل من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة أن تسافر مسيرة يوم وليلة)، فدل هذا النص الشرعي على أن من سار مسيرة اليوم والليلة فهو مسافر.
فإن قال قائل: كيف أسقطت ما دون اليوم والليلة عن كونه سفراً؟ وما هو الدليل على أن من خرج دون اليوم والليلة لا يكون مسافراً؟
قلنا:
السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مواضع دون هذه المسافة -أي: دون مسيرة اليوم والليلة-، ومكث فيها ولم يقصر الصلاة، فقد خرج إلى الخندق وهو يبعد عن المدينة ثلاثة أميال تقل أو تكثر، خاصة إذا خرج من طريق بطحان، ومع ذلك لم يقصر رباعية، وخرج إلى أحد ولم يقصر رباعية، وكذلك ثبت عنه في الأحاديث أنه خرج إلى بني النضير وحاصرهم خمس عشرة ليلة في شهر ربيع ومع ذلك لم يقصر الصلاة، وبنو النضير على أميال من المدينة، وكذلك خرج إلى بني قريظة ولا تقل المسافة بينه وبينهم عن ستة أميال كما ذكر غير واحد، وهذه كلها ضواحٍ من المدينة بينها وبين المدينة دون اليوم والليلة، فكونه يخرج إلى هذه المسافات التي هي دون اليوم والليلة قاصداً إياهم -حيث قصدهم بالحصار والقتال- ومع ذلك لم يقصر الصلاة يدل على أن ما كان دون اليوم والليلة لا يحكم بكونه سفراً.
ولذلك قالوا: نرجع إلى أقل ما سماه الشرع سفراً، فنحكم بكون الإنسان مسافراً إذا قطعه، وأما ما دونه -كما لو خرج إلى قرية دون مسافة اليوم والليلة -فإنه في حكم من خرج إلى ضواحي المدينة وما قاربها.وأكدوا هذا بأن حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كان لا يجيز لأهل مكة أن يقصروا الصلاة بعرفة،
فقد سألوه رضي الله عنه وأرضاه:
أنقصر الصلاة في عرفة؟
قال: لا.ولكن إلى جدة وعسفان، أو الطائف.وهذا السند صحيح عنه رضي الله عنه، ولم يختلف على ابن عباس رضي الله عنهما في فتواه بهذه المسألة، وقد كانت عسفان مسيرة يوم وليلة، وكانت جدة في ذلك الزمان مسيرة يوم وليلة، وكانت الطائف تربو على مسافة اليوم والليلة بشيء.
قالوا: فهذا يدل على أن الخروج المطلق لا يوصف بكونه سفراً، وإنما يكون سفراً إذا كانت المنطقة التي يريدها تبعد بمقدار اليوم والليلة فأكثر.
ثانياً:
أنه قد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قصر الصلاة حينما خرج إلى وادي ريم، ووادي ريم يبعد عن المدينة ما يقارب ستين إلى سبعين كيلو متراً يقل قليلاً أو يكثر على حسب الطريق، وقد يزيد على السبعين قليلاً إذا قصدت آخر الوادي، وعلى هذا فهو يقارب مسيرة اليوم والليلة، وجاء عنه أيضاً في الرواية الأخرى -رضي الله عنه وأرضاه- أنه قصر في الأربعة البرد، وما ورد عنه من أنه كان يقصر في الثلاثة الأميال فهو ابتداء قصره، بمعنى أنه لو خرج مسيرة اليوم والليلة كان إذا سار ثلاثة أميال قصر، بل حتى لو خرج من العمران يقصر، فعلى هذا لا تعارض بين الروايات عن ابن عمر، فإن الروايات القوية واردة عنه رضي الله عنه بالتأقيت في الأربعة برد ومسيرة اليوم والليلة،
وإذا نظرنا إلى الأسانيد عن ابن عمر وجدنا أصحها وأقواها ما جاء عنه في القصر في الأربعة البرد، وهي عن أوثق أصحابه وأقربهم منه كـ سالم ابنه، وكذلك نافع مولاه رحمة الله على الجميع، خاصة وأنه ورد عنه أنه أمر بالقصر في هذه المسافة، فيقوى مذهب من قال -أعني: الجمهور-:
إنها أربعة برد، وما ورد عنه من القصر في الثلاثة الأميال فإنه محمول على أنه ابتدأ القصر، بمعنى أنه خرج من المدينة ثلاثة أميال فحضرته الصلاة فصلى وهو قاصد لمسيرة اليوم والليلة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حينما خرج من المدينة، فإنه بمجرد أن وصل إلى ذي الحليفة قصر الصلاة، مع أن ذا الحليفة ليست على مسيرة مرحلة كاملة.فهذا حاصل ما ذكر بالنسبة لأدلة السنة، وكذلك الآثار الصحيحة عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولأننا لو لم نقل بالتحديد فإن ذلك سيؤدي إلى اختلاج الأحكام،
فلو قلنا:
إنه يرجع فيه إلى عرف الناس لاختلفت أعرافهم،
فتجدنا نقول:
عند هؤلاء يعتبر سفراً وعند غيرهم لا يعتبر سفراً.
ولأن نوايا الناس تختلف، فقد أراه على سفر ولا يراه غيري على سفر مع أن المسافة قد تكون واحدة.
وعلى هذا فإن نص النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (مسيرة يوم وليلة) يتضمن مسألتين: المسألة الأولى: أن يعتد بالزمان.
المسألة الثانية: أن يعتد بالمكان.فعند اختلال إحداهما يرجع إلى الآخر، فإذا كانت المسافة الزمنية التي تقطع فيها المسيرة قاصرة عن اليوم والليلة رجعنا إلى مسافة المكان، وإن كانت مسافة المكان شاقة فيمشي الإنسان ويواصل بحيث يمضي يوماً وليلة وهو يمشي فإنه يرجع إلى التأقيت بالزمان.توضيح ذلك أن الإنسان لو قطع مسافة السفر في سيارة في نصف ساعة أو ساعة فإنه مسافر؛ لأنها مسيرة يوم وليلة، وبنص الحديث مسيرة اليوم والليلة سفر،
فقوله عليه الصلاة والسلام:
(لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم والآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة) يدل على أن المسافة معتد بها،
وعلى هذا فلو سافر بالطائرة أو بالسيارة في برهة يسيرة أو زمان يسير فإننا نقول:
هو مسافر التفاتاً إلى المكان الذي قطعه، أما لو كان المكان شاقاً كالأماكن الوعرة والجبال التي يصعب تسلقها والوصول إليها وشق عليه أن يقطع هذه المسافة فإننا نرجع إلى التأقيت بالزمان، ولذلك قالوا: إن الحديث تضمن التحديدين: تحديد الزمان إن تعذر المكان، وتحديد المكان إن تعذر الزمان، والاعتداد بهما إن تسايرا وتوافقا.
فالحاصل أن البريد أرعبة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال،
كما قيل:
إن البريد من الفراسخ أربع وفرسخ ثلاثة أميال ضعوا فمسافة القصر أربعة برد، أو ستة عشر فرسخاً، أو ثمانية وأربعون ميلاً، وما دونها فليس بسفر،
فإذا قلنا:
إن المسافة -مثلاً- ثمانية وأربعون ميلاً فلو أن إنساناً سافر سبعة وأربعين ميلاً فليس بمسافر،
إلا أننا نقول:
هذا لا حرج فيه، فإن الرجل إذا خرج إلى العمرة وحاذى الميقات ثم خطا خطوة واحدة ولبى ولم يحرم فإنه يجب عليه الدم، وإذا رجع إليه وأحرم منه سقط عنه الدم، فالشرع إذا حدد المكان فإنه لا يختلف فيه القليل ولا الكثير، ما دام أن هذا تحديد الشرع وهذا نصه، وهذه مكة فإنك قد تقف على آخر حدها فلو أن إنساناً دخل هذا الحد ونوى فيه -نسأل الله العافية- الظلم والإثم فإنه متوعد بالوعيد،
ولو خرج شبراً واحد لم يحصل له ذلك الوعيد؛ لأن هذا تأقيت من الشرع، فلو سافر دون ثمانية وأربعين ميلاً ولو باليسير فإننا لا نقول -على ظاهر هذا النص-: إنه لا يحكم بكونه مسافراً.هذا حاصل ما ذكره العلماء رحمه الله عليهم في مسافة السفر.
[حكم القصر في السفر ومن أين يبتدئ به]
[سن له قصر الرباعية ركعتين إذا فارق عامر قريته أو خيام قومه]
.[سن له] أي: لا يجب عليه القصر.
وهذا مذهب الجماهير؛ لأن عثمان رضي الله عنه وأرضاه أتم الصلاة بالناس في حجه، ومع ذلك صلى وراءه الصحابة، فدل على أن الإتمام لا يعتبر موجباً لبطلان الصلاة، ولا يحكم فيه بإثم صاحبه، وعلى ذلك فإنه من السنة، ولكن ينبغي على الإنسان أن لا يجاوز هذا الهدي،
فإنه إذا قال:
أريد أن أتم الصلاة وأنا مسافر طلباً للفضل فإنه تخشى عليه الفتنة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتم الصلاة لطلب الفضل، وإذا صلى زيادة على الركعتين فجعل الرباعية المقصورة أربعاً معتقداً أنه يكون له فضل الركعتين وأنه أفضل فإنه مبتدع في قول جماهير العلماء رحمة الله عليهم.إنما الكلام فيما ورد عن الصحابة رضوان الله عليهم من إتمام عثمان،
وقد أجيب عنه بأجوبة:
فقيل: إن عثمان رضي الله عنه تزوج من أهل مكة،
كما ورد في مسند أحمد أنه قال:
(إني تأهلت بمكة،
وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
من تأهل ببلد فليتم فيه)
، فيعتبر كأنه مكي من هذا الوجه.
وقيل:
إنه سمع أعرابياً يقول: ما زلت أصليها ركعتين منذ أن فارقتك عام أول.
قالوا: إن هذا يدل على أن عثمان رضي الله عنه خاف أن الجهال يعتقدون أن الرباعية ركعتان،
ولذلك قالوا:
إنه أتم لخوف هذه المفسدة، فزاد في الصلاة من هذا الوجه.فهذه من أقوى الأوجه التي اعتذر بها لأمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين رضي الله عنه وعنهم أجمعين.
وقوله رحمه الله: [سن له قصر الرباعية] يدل على أن القصر يختص بالرباعية، وهي الظهر والعصر والعشاء، أما صلاة الفجر والمغرب فإنها لا تقصر بإجماع العلماء رحمة الله عليهم.قوله: [إذا فارق عامر قريته أو خيام قومه].
الإنسان له حالتان:
فإما أن يكون في مدينة وقرية ونحو ذلك، وإما أن يكون في خيام وبر.
فإن كان في مدينة قلنا: إنه إذا خرج من آخر بنائها فإنه يعتبر مسافراً،
فلو أن البنيان اتصل بالبساتين والحوائط فلا يخلو من حالتين:
الأولى: أن تكون الحوائط عامرة، فحينئذٍ بعد أن يخرج منها يقصر.
الثانية: أن تكون الحوائط مهجورة والبيوت مهجورة فإن العبرة بالعمران، فبمجرد خروجه من المواضع التي فيها العمران يقصر الصلاة ويستبيح رخص السفر من الفطر ونحوه.وإذا كان في الخيام فإما أن تكون له خيمة منفردة، فحينئذٍ يبتدئ الرخص بمجرد ركوبه على دابته ومفارقته لخيمته، كأن يولي قفاه لها.
وإما أن يكون مع خيام جماعته وقرابته أو قوم معه، فحينئذٍ إذا جاوز آخر خيمة من هذه الخيام فإنه يترخص برخص السفر، ويأخذ حكم المسافر بمجاوزتها.
حالات القصر والإتمام للمسافر
الإحرام بالصلاة حضراً ثم الشروع في السفر[وإن أحرم حضراً ثم سافر، أو سفراً ثم أقام، أو ذكر صلاة حضر في سفر أو عكسها، أو ائتم بمقيم أو بمن يشك فيه، أو أحرم بصلاة يلزمه إتمامها ففسدت وأعادها، أو لم ينو القصر عند إحرامها، أو شك في نيته، أو نوى إقامة أكثر من أربعة أيام، أو ملاحاً، معه أهله لا ينوي الإقامة ببلد لزمه أن يتم].
قوله:
[وإن أحرم حضراً ثم سافر] مثاله -كما ذكر العلماء- أن يكون في سفينة، وتكون هذه السفينة على شاطئ البحر، فحينئذٍ ما دامت السفينة واقفة فإنه لا يحكم بكونه مسافراً؛ لأنها لا تزال متصلة بالعمران، وأما إذا تحركت السفينة فإنه يستبيح الرخص بمجرد حركتها، فلو أنه أحرم وكبر تكبيرة الإحرام ولم تتحرك السفينة، ثم لما كبر وانتهى من التكبير وأراد أن يشرع في القراءة تحركت السفينة في السفر، فإنّا إن نظرنا إلى ابتدائه الصلاة وجدناه مقيماً، وإن نظرنا إلى حاله في الصلاة وجدناه مسافراً، فهل العبرة بالابتداء والشروع، أم العبرة بما ينتهي إليه أمره؟
قال بعض العلماء:
العبرة بإحرامه، فإن أحرم حال السفر ثم دخل إلى الحضر فإنه يتمها سفراً، وإن أحرم وهو حاضر ثم مضت السفينة فإنه يتمها حضراً كأنه حاضر.فهذا وجه لبعض العلماء رحمة الله عليهم، وهم الظاهرية ومن يوافقهم من أهل الحديث.
الوجه الثاني -وهو للشافعية والحنابلة ومن وافقهم-: إذا أحرم وهو حاضر وتحركت السفينة فإنه يتمها أربع ركعات حضراً،
لقاعدة:
(الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل)، وهذه قاعدة شرعية حاصلها أنك إذا كنت تريد أن تفعل شيئاً فيه رخصة من الشرع فإن كنت تشك في كونك من أهل الرخصة رجعت إلى الأصل، فلو شككت في كونك من أهل الرخصة فتخفف الصلاة وتقصرها، أو لست من أهل الرخصة فتكون في حكم المقيم وتتمها، فالقاعدة أن تبني على أنك مقيم حتى تتحقق من كونك من أهل الرخص؛ لأن الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل.
وربما يعترض معترض ويقول أيضاً: قد أحرم بصلاته وهو حاضر، فمعنى ذلك أنه قد وجب عليه أن يصلي صلاة الحاضر.وهذا هو أقوى الوجهين، فيتمها أربع ركعات، والسبب في هذا واضح،
بل إن بعض العلماء يقول:
إذا أذن المؤذن وأنت في داخل المدينة فإنك تعتد بالأذان، وهذا القول النفس إليه أميل؛ لأنه عندما أذن أذان الظهر قبل أن تخرج من المدينة فإنه قد توجه عليك الخطاب الشرعي أن تصلي أربع ركعات، ولم تسقط عنك الركعتان اللتان هما تمام الأربع، فلا تسقطان باحتمال وشك،
وعلى هذا قالوا:
إنه عندما أذن المؤذن وجبت عليه أربعاً، فيتم الصلاة ولو سافر بعد ذلك،
فبعض العلماء يقول: العبرة عندي بأذان الصلاة، فإن أذن المؤذن وهو داخل المدينة صلى مقيماً، وإن أذن المؤذن بعد خروجه من المدينة صلى مسافراً.
والوجه الثاني يقول: العبرة عندي بالصلاة.ويعتدُّ بالصلاة على حسب أحوالها، ومنهم من يعتد بتكبيرة الإحرام كما أشار إليه المصنف.لكن أعدل هذه الأقوال أن الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل،
وهذه القاعدة هي التي ذكر فيها المصنف هذه المسائل التي منها:
أن تكبر تكبيرة الإحرام وأنت في المدينة، ثم تتحرك بك الدابة أو السيارة، فتبقى بقية الصلاة وأنت متلبس بصفة السفر فإنك تتمها صلاة مقيم.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #135  
قديم 24-09-2021, 03:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجماعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (131)

صـــــ(1) إلى صــ(27)


[ذكر صلاة الحضر في السفر والعكس]
قال:
[أو ذكر صلاة حضر في سفر].ذِكر صلاة الحضر في السفر،
مثاله: أن يخرج من مكة بعد انتهاء وقت صلاة الظهر، ثم في الطريق تذكر أنه لم يصل الظهر، فيكون ذكر الحضرية؛ لأن وقت الظهر كان فيه مقيماً، فهو ذكر الحضرية -وهي الظهر- في السفر،
فبعض العلماء يقول:
إذا ذكر الحضرية في السفر فإنه يصليها كاملة؛ لأن الخطاب توجه عليه بإتمامها أربعاً، ولذلك يجب عليه أن يصليها صلاة حاضر، ولا عبرة بحاله أثناء الأداء، والعكس أيضاً لو ذكر سفرية في حضر، فلو أنه قدم المدينة وكان مسافراً ومضى عليه وقت العشاء ودخل الفجر فنسي أن يصلي العشاء، وصلى الفجر ثم وصل الصباح، ثم تذكر بعد أن وصل إلى بيته أنه لم يصل العشاء البارحة،
فإنهم قالوا:
إنه يصليها أربعاً؛ لأنه يشك في استباحة الرخصة، فيرجع إلى الأصل، على القاعدة التي قررناها وأشرنا إليها.
[الائتمام بالمقيم]
قال: [أو ائتم بمقيم].
وفيه حديث ابن عباس: (من السنة إذا صلى المسافر وراء المقيم أن يتم)،
والمسافر إذا صلى وراء المقيم له صور: الصورة الأولى: أن يدخل معه في الصلاة من أولها، فهذا يتم صلاته، وعليه يتنزل ما ورد عن ابن عباس،
وهو قوله:
(من السنة أن يتم المسافر وراء المقيم).
الصورة الثانية:
أن يدخل معه في الصلاة في أغلبها بحيث يتعذر عليه القصر، وصورة ذلك أن يدخل في الركعة الثانية من الظهر، فإنه في هذه الحالة يصعب عليه القصر، وكذلك أيضاً بالنسبة للركعة الثانية من العصر، أو الثانية من العشاء، فكل هذه يصعب عليه فيها أن يقصر،
وإن كان هناك وجه ضعيف يقول:
إذا دخل في الظهر يصلي وراءه، ثم يجلس بعد الركعة الثالثة للتشهد، وينتظر الإمام حتى يأتي بالرابعة ثم يتشهد مع الإمام ويسلم قياساً على صلاة الخوف، وهذا من أضعف الأقوال، وهو وجه شاذ عند أهل العلم رحمة الله عليهم.
الصورة الثالثة:
أن يدخل وراء المقيم موافقاً له في صفة صلاته، كأن يدخل وراء المقيم في الركعتين الأخريين من الظهر، أو الركعتين الأخريين من العصر، أو الركعتين الأخريين من العشاء،
فللعلماء فيه وجهان:
فمنهم من قال: يتم.وهذا مذهب الجمهور.
ومنهم من قال: إنه يقصر ويسلم؛ لأن الله أوجب عليه ركعتين، وهو مذهب طائفة من العلماء رحمة الله عليهم، وأحد الوجهين عند الشافعية، وهذا الوجه من القوة بمكان، فله أن يسلم مع الإمام؛ لأن الله أوجب عليه ركعتين، فإذا دخل ونوى القصر وسلم مع الإمام فلا حرج عليه.
الصورة الرابعة: أن يدخل وراء الإمام مدركاً ركعة واحدة، فهنا يضيف إليها ركعة، وقد قال به جمع من السلف رحمة الله عليهم، وبه يقول الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس إمام دار الهجرة،
فقالوا:
إذا أدرك ركعة فإنه يضيف إليها ركعة ثانية ويسلم.
الصورة الأخيرة:
أن لا يدرك شيئاً من الركعات، فيتمها صلاة سفرية،
أي:
يتمها ركعتين، وهذا إذا نوى وراء المقيم القصر، أما إذا لم ينو القصر فإنه بتمها صلاة حضرية وجهاً واحداً عند العلماء رحمة الله عليهم.
[الائتمام بمن يشك في إقامته أو سفره]

قال:
[أو بمن يشك فيه].
هذا عند من يقول:
إن المسافر وراء المقيم يتم،
فإن المساجد في السفر لا تخلو من حالتين:
الأولى: أن يكون لها غالب وظاهر حال.
الثانية:
غالب ولا ظاهر حال.فالجماعة أو المساجد التي لها غالب حال مثالها مساجد مكة، فإنه إذا دخل المسافر مكة فإن مساجد مكة ظاهر حال أهلها أنهم متمون، فحينئذٍ لا إشكال إذا دخل وراء إمامهم أنه ينوي الإتمام بدون أي شك، وليس هناك مجال للشك؛ لأن المسجد ظاهر حاله أنه مسجد إتمام، وكذلك الجماعة ظاهر حالها أنها متمة.
وأما ما لا يعرف لها ظاهر حال، حيث تكون في موضع وتشك في كون المصلين من أهل الموضع فمثاله ما يحدث في القرى، فإنك تدخل فترى جماعة فتشك في هذه الجماعة في كونها جماعة سفر فتنوي القصر وراءهم وتسلم معهم، أو أنها جماعة مقيمة فتدخل وراءهم ناوياً الإتمام،
فقالوا:
في هذه الحالة ينوي الإتمام ويتم الصلاة.لكن هناك وجه عند بعض العلماء يخرج من الإشكال، وهو أنك إذا شككت تنوي وراءهم القصر، فإن كانوا مسافرين فلا إشكال، وإن كانوا غير مسافرين فإنه لا حرج في الإتمام بعد نية القصر،
ولذلك يقولون:
لا حرج فيه ويغتفر، وإنما يصعب أن ينتقل من الإتمام إلى القصر، أما أن ينتقل من القصر إلى الإتمام فإنه لا حرج فيه، والأمر واسع.
فإذا قلنا: يجوز أن تدخل وراء الإمام في الركعتين الأخيرتين وتسلم معه، ففي هذه الحالة إذا دخلت في صلاة الظهر ولا تدري هل الإمام المقيم في الركعتين الأخريين، أم في الركعتين الأوليين، فإنك تنوي القصر، فإن ظهر أنه في الأخيرتين سلمت معه وصحت نيتك، وإن ظهر أنه في الأوليين فإنك حينئذٍ تتم معه، وتنتقل من الأدنى إلى الأعلى ولا حرج، وإنما يحظر عليك أن تنتقل من الأعلى إلى الأدنى، كأن تنتقل من نية الإتمام إلى نية القصر،
قالوا:
لأنك إذا نويت الإتمام وجبت عليك أربعاً، وإن نويت القصر وجبت عليك اثنتان، فلا مانع أن تزيد على ما شرعت فيه الزيادة.
[الإحرام بصلاة يلزمه إتمامها ثم بطلانها]

قال:
[أو أحرم بصلاة يلزمه إتمامها ففسدت وأعادها].
إذا كنت على سفر فدخلت وراء إمام يتم فإنه يلزمك إتمام الصلاة على القول الذي اختاره المصنف رحمه الله، فإن دخلت وراءه وأصابك عذر يوجب انفصالك عنه أو خروجك من الصلاة وراءه فإنك تخرج، وحينئذٍ يردq هل يجب عليك أن تقضيها أربعاً، بناء على أنك حينما دخلت وشرعت تعين عليك بالخطاب الشرعي أربع ركعات؛ لأنك نويت الإتمام، فأصبحت ذمتك مشغولة في الصلاة بأربع ركعات، أم أن العبرة بحالك عند الأداء، فإنه وجب عليك أن تتم لما كنت مع هذا الإمام، ولما فارقته أصبح حكمك سارياً على الأصل؟ فمن العلماء من اختار الوجه الأول،
وقال:
إنه لما دخل وراء الإمام المقيم فقد ألزم ذمته بأربع ركعات، فإذا ألزم ذمته بأربع ركعات فإنه ليس عندنا دليل على إسقاطها، وهو وإن كان إنما يلزمه إتمامها مدة اتصاله بالإمام لكن الذمة انشغلت بالأربع الركعات.
ولذلك قالوا: يلزمه أن يتم.
ومن العلماء من اختار الوجه الثاني فقالوا: لزمه الإتمام حال متابعته لهذا الإمام، وقد بطلت فرجع إلى الأصل، وبناء على ذلك يكون الواجب عليه أن يصلي قصراً لا أن يتم.ولا شك أنه لو احتاط فهو أفضل.
[ترك نية القصر حال الصلاة والشك فيها]
قال:
[أو لم ينو القصر عند إحرامها].إذا صلى مسافر وراء مسافر، ونوى القصر فلا إشكال، في أنه يقصر ويسلم معه وجهاً واحداً عند العلماء.
وإن صلى وراءه ولم ينو القصر ونوى الإتمام كأن يكون نسي أنه في سفر فنوى أن يتم أو ظن أن إمامه يتم فنوى الإتمام وراءه لزمه أن يتمها أربعاً.
قال: [أو شك في نيته].إذا شك هل نوى القصر فيبقى على الركعتين، أم نوى الإتمام،
فقد قالوا: يتم.وإن كان الأقوى في هذه الحالة أن يبقى على الركعتين لأنهما هما الواجبتان في ذمته، وظاهر حاله أنه ينوي القصر فيرجع إلى تغليب الحال مع اعتضاده بالأصل، فتسقط عنه الركعتان، فإن احتاط بالإتمام فهو أفضل.
[نية الإقامة فوق أربعة أيام]
قال:
[أو نوى إقامة أكثر من أربعة أيام].
هذه مسألة مبنية على وصف السفر إن قلنا:
إن للسفر حداً معيناً، وإنَّ المسافر ينتهي إلى أمد يحكم فيه بكونه مقيماً،
فالناس ثلاثة أقسام:
القسم الأول: مسافر، وقد بينا حكمه.
والثاني: المقيم، ولا إشكال في حكمه.
والثالث: من هو في حكم المقيم، فهو مسافر في الأصل لكنه يأخذ حكم المقيم.وهذا التقسيم مذهب جماهير العلماء من السلف والخلف رحمة الله عليهم، فالسفر قد ينتقل الإنسان به إلى حكم المقيم، فيكون الإنسان مقيماً ومسافراً ومسافراً في حكم المقيم، والذي في حكم المقيم للعلماء فيه خلاف مشهور، وفيه أكثر من خمسة عشر قولاً بين العلماء رحمة الله عليهم في ضابطه، والسبب في ذلك اختلاف الأدلة، فالجمهور يقولون -من حيث الجملة- العبرة بأربعة أيام، ولا يحسب فيها يوم الدخول ولا يوم الخروج.
وتوضيح ذلك أنهم قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم سافر وقصر الصلاة، والنصوص تدل على أن المقيم يجب عليه إتمام الصلاة،
فأصبحت عندنا حالتان:
حالة سفر، وحالة حضر.فمن كان حاضراً فإنه يتم، ومن كان مسافراً فإنه يقصر، فجئنا ننظر إلى تأقيت السفر فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم ينقل المسافر عن كونه مسافراً إلى كونه مقيماً بالزمان، وذلك في حديث المهاجرين حينما رخص لهم أن يبقوا بمكة ثلاثة أيام، فإنه لما رخص لهم أن يبقوا بمكة ثلاثة أيام دل على أنهم في اليوم الرابع ينتقلون إلى حكم المقيم، وتوضيح ذلك أنهم تركوا مكة لله،
والعلماء يقولون:
من هاجر من بلد لله -كأهل مكة حينما هاجروا من مكة إلى المدينة- لا يجوز له أن يرجع إليها ويقيم فيها؛ لأنه لما هاجر عنها تركها لله عز وجل، ولذلك نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقوا بمكة،
وقال:
(لكن البائس سعد بن خولة) يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة، ثم قال: (اللهم أمضِ لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم خائبين).
ووجه الدلالة أن المهاجرين لا يبقون في مكة، وإذا كانوا لا يبقون بمكة فترخيص النبي صلى الله عليه وسلم لهم في الثلاثة الأيام دل على أنهم لو بقوا اليوم الرابع انتقلوا إلى حكم المقيم بمكة، وأكدوا هذا بأنه عليه الصلاة والسلام حينما قدم في حجته قدم لصبح رابعة، ثم انطلق في اليوم الثامن يوم التروية إلى منى، فدل هذا على أن أقصى ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام هذه المدة.أما ما ورد عنه في تبوك فإنه كان عليه الصلاة والسلام لا يعلم مدة إقامته، ونحن نتكلم على علم مدة الإقامة،
أي:
إذا علم المسافر مدة إقامته، فلما رخص للمهاجرين هذا القدر تحددت المدة.أما إذا لم تعلم المدة كإنسان قدم مدينة لا يدري كم يمكث فيها لحاجة أو لغرض، فحينئذٍ يقصر الصلاة مدة جلوسه ولو جلس سنة كاملة، فإن أنساً رضي الله عنه مكث ستة أشهر -حينما حاصرهم الثلج في الفتوحات- يقصر الصلاة رضي الله عنه وأرضاه، وحملوا عليه حديث تبوك، فإن غزوة تبوك خرج النبي صلى الله عليه وسلم فيها إلى بني الأصفر يريد قتالهم فأرسل العيون،
ومعلوم أنه إذا أرسلت عيون الجيش فربما بعد لحظة يأتي العين ويقول: إنهم على ماء كذا، كما هو معلوم، وربما يأتي بعد يوم، وربما يأتي بعد يومين أو بعد ثلاثة، فالأمر محتمل، ولا يدرى كم القدر،
فجماهير العلماء رحمة الله عليهم يقولون:
إنه محمول على من جهل المدة وهذا واضح من ظاهر السنة؛ لأنه لما قدم إلى تبوك جهل مدة إقامته عليه الصلاة والسلام، وليس هناك نص واضح أنه نوى إقامة مدة معينة،
ولذلك قالوا:
أرسل العيون على حسب الحال، فإن وجد حالاً يقتضي القتال بإخبار العيون تقدم، وإن لم يجد رجع عليه الصلاة والسلام، فمكث هذه المدة جاهلاً بالأمد،
فقسموا حالة المسافر إلى حالتين:
الحالة الأولى: أن يعلم مدة إقامته.
الحالة الثانية: أن لا يعلم مدة إقامته.فإن لم يعلم مدة إقامته فإنه يقصر أبداً، ولو جلس سنة كاملة.وإن علم مدة إقامته فحينئذٍ إما أن تكون دون أربعة أيام، وإما أن تكون أربعة أيام فأكثر، فإن كانت دون أربعة أيام قصر، وإن كانت فوق الأربعة الأيام فإنه يتم صلاته ويأخذ حكم المقيم.
[المسافر الذي لا ينوي الإقامة ببلد]
قال:
[أو ملاحاً معه أهله لا ينوي الإقامة ببلد لزمه أن يتم].
الملاح: هو صاحب السفينة، أو قبطان السفينة، فالشخص الذي يعمل في نقل الناس بين المدن، ويدمن السفر والرحلة،
والذي تمضي عليه أيام متنقلاً بين المدن سواءٌ في بر أم بحر أم جو إذا لم يكن له مكان يستقر فيه ومعه أهله فإنهم قالوا:
إنه يتم في كل موضع.فهذا الملاح في كل مكان مقيم، وهذا مذهب طائفة من العلماء.ومذهب طائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم أن الملاح ومن في حكمه يأخذ حكم السفر على ظاهر حاله، وهو أقوى من جهة النصوص.
[حكم سالك أبعد الطريقين ليقصر الصلاة، ومن تذكر صلاة سفرية في سفر]

قال رحمه الله:
[وإن كان له طريقان فسلك أبعدهما أو ذكر صلاة سفر في آخر قصر].قوله: [وإن كان له طريقان] مثاله: إنسان في قرية تبعد عن مكة ولها طريقان: طريق تبعد به مسافة القصر ثمانين كيلو متراً، وطريق تبعد به ستين كيلو متراً،
فإننا إذا جئنا ننظر إلى الطريق الذي فيه ثمانون كيلو متراً نقول:
من سلك هذا الطريق فهو مسافر، ومن سلك الطريق الذي هو ستون كيلو متراً فليس بمسافر.
وبناء على ذلك يقولون: إنه يأخذ حكم المسافر بالمسيرة، فإن سلك الطريق الذي هو طريق سفر فمسافر؛ لأن ظاهر السنة يدل عليه،
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن نهي المرأة أن تسافر بغير محرم:
(أن تسافر مسيرة يوم وليلة)، وهذا سافر مسيرة اليوم والليلة، ولذلك تنطبق عليه السنة، ويترخص برخص المسافر.
قوله:
[أو ذكر صلاة سفر في آخر] أي: في سفر آخر، كأن تكون سافرت من المدينة إلى جدة أو إلى مكة، فلما رجعت تذكرت وأنت مسافر أنك البارحة لم تصل صلاة العشاء وهي سفرية، فإنه حينئذٍ تصليها صلاة سفر، سواءٌ أكان السفر اعتبارياً مع اتحاد الجهة، كأن تكون ذهبت إلى جدة ورجعت إلى المدينة، فالسفر واحد، فحينئذٍ لو نسيتها في ذهابك وتذكرتها في إيابك فهي في حكم السفر الواحد.أم كان السفران مختلفين، كأن تكون سافرت من جدة إلى المدينة وأنت من أهل المدينة، فلما سافرت من جدة إلى المدينة نسيت صلاة العشاء وقد وجبت عليك في السفر، فجلست في المدينة إلى الضحى، ثم تحركت من المدينة في الضحى إلى القصيم، وفي طريقك للقصيم -بعد أن خرجت من المدينة- تذكرت أنك لم تصل صلاة العشاء البارحة، فإنك تصليها صلاة سفر،
أي:
تصلي ركعتين؛ لأنه في هذه الحالة لا يختلف الحكم.
قال رحمه الله تعالى:
[وإن حبس ولم ينو الإقامة، أو أقام لقضاء حاجة بلا نية إقامة قصر أبداً].
هذا ما ذكرناه، فالشخص الذي لا يدري كم يمكث في مكان إقامته فإنه يصلي قصراً ولو طالت مدة إقامته؛ لظاهر حديث تبوك، فقد جلس النبي صلى الله عليه وسلم سبع عشرة ليلة يقصر الصلاة بتبوك، ولا حرج عليه في هذه الحالة أن يقصر ولو طالت مدة جلوسه.
يتبع



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #136  
قديم 24-09-2021, 03:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجماعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (132)

صـــــ(1) إلى صــ(27)

الأسئلة
[حكم القصر لمن يسافر ويعود في نفس اليوم]
q إذا كانت المدة دون أربعة أيام، فهل يدخل تحتها لو سافر ورجع في غضون ساعات وكان سفره أكثر من مسافة قصر، كما هو الحال في من يعمل خارج منطقته ويرجع إليها في نفس اليوم؟

a من كان عنده عمل، أو كانت عنده مزرعة تبعد عن موضعه مسافة القصر، فخرج إليها في سويعات، أو خرج إليها أثناء النهار وعاد في نفس اليوم فإنه يترخص في طريقه، وذلك على ظاهر السنة لما ذكرناه من النصوص، فلو حضرته صلاة الظهر وهو في طريقه بين المنطقتين فإنه يقصر، لكن لو أنه -مثلاً- كان في مكة ومزرعته بعسفان، فخرج من مكة إلى عسفان ففي الطريق يقصر، وإن حضرته الصلاة وهو في مزرعته فإنه يتم، فيعتبر مكياً إن كان في مكة، ويعتبر أيضاً من أهل عسفان إذا نزل في مزرعته ووصل إليها، فيترخص في الطريق، ولكن لا يترخص في موضعه الذي تأهل فيه، أو كانت له فيه تجارة، أو كان له ملك، كما أثر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه حينما كان له مال بوادي الفرع، وكذلك زرعه بخيبر وزرعه بوادي ريم كما ذكرنا.والله تعالى أعلم.

[حكم الانتقال من نية الفرض إلى النافلة والعكس]

q إذا كان يجوز أن ينتقل المسافر من نية القصر إلى نية الإتمام، فهل يجوز للمصلي أن ينتقل من صلاة الفرض إلى النفل والعكس؟

a أما انتقاله من صلاة الفرض إلى النفل فلا حرج فيه، كأن يكون دخل وراء شخص يريد أن يصلي الظهر، ثم تذكر أنه صلى الظهر، فإنه يقلبها إلى نافلة ويجزيه ويصح منه ذلك.أما انتقاله من الأدنى إلى الأعلى فلا، كأن يحرم متنفلاً وراء إمام وهو يظن أنه قد صلى الظهر، ثم تذكر أنه لم يصل الظهر، فإنه لا ينتقل من الأدنى -وهو النافلة- إلى الأعلى -وهو الفريضة- وحينئذٍ يبقى مع هذا الإمام بنية النافلة ويسلم، ثم بعد انتهائه يقيم ويصلي صلاة الظهر، فإن كان الوقت ضيقاً بحيث لو سلم مع الإمام خرج الوقت فإنه يلزمه أن يقطع صلاته وراء الإمام ولا يشتغل بالنفل، وعليه أداء الفرض إذا ضاق الوقت، وحينئذٍ يقطع صلاته، ثم يكبر وينوي وراءه نية الفرض.والله تعالى أعلم.

[حكم تسليم المسبوق المسافر مع الإمام]

q يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، فكيف نوفق بين هذا، وقول من قالوا: إن المسافر إن أدرك الركعتين الأخريين مع الإمام اكتفى بهما إن نوى القصر؟

a لا حرج في كونه يصلي ركعتين مع الإمام، فإنه إذا سلم مع الإمام فقد ائتم بالإمام، الإمام سلم وهو سلم، فيكون قد صلى وراء الإمام، فكبر وراءه، وقرأ الإمام فأنصت، وركع فركع، وسجد فسجد، ثم قرأ التحيات، وسلم الإمام فسلم معه، فوجبت عليه ركعتان فصلاهما وراء الإمام سواء بسواء، فأين المخالفة؟ ولذلك ليس في هذا النص معارضة بينة، بل هذا حجة على مشروعية أن يصلي وراء الإمام ركعتين.

[حكم القصر بين البلدين المتباعدين عند اتصال البنيان]

q إذا كان السفر مسافة قصر، وكان البنيان متصلاً طوال الطريق حتى يصل المسافر إلى المدينة الأخرى التي يريدها، فهل يقصر الصلاة.أم لا؟

aإذا اتصل البنيان بين موضعين، أو كان البنيان كثيراً بحيث كانت المسافة دون مسافة القصر فحينئذٍ لا يكون ذلك سفراً، فلو أن الذي بين مكة وعسفان انتشر فيه البنيان من جهة عسفان، أو انتشر فيه البنيان من جهة مكة حتى تقاصرت المسافة، وأصبح ما بينهما قدر خمسين كيلو متراً فإنه لا يعتبر سفراً؛ لأنه لا يعتبر مسافراً ظاهراً إلا بعد مجاوزته لآخر العمران من عسفان، كما أنه ليس بمسافر إلا بعد مجاوزته لآخر العمران من مكة، والذي يقطعه بينهما ليس مسيرة اليوم والليلة، فليس بمسافر من هذا الوجه، ولذلك تعتبر جدة في هذه الحالة دون مسافة القصر، وإن كانت في القديم مسافة قصر، وذلك لسعة العمران وامتداده، حتى تقاصرت المسافة عن مسافة القصر، أما لو خرج أهل جدة للحج فإنهم قاصدون لعرفة، فإنهم مسافرون ويشرع لهم أن يقصروا الصلاة؛ لأن التقاصر الذي حصل في المسافة قد ازداد ببلوغ عرفات، فإنه تزيد المسافة حتى تصل إلى قدر السفر، وحينئذٍ يترخصون.والله تعالى أعلم.

[حكم إجابة النداء للمسافر النازل]

q إذا كان سفري دون أربعة أيام، ولكنني أسمع النداء، فهل تلزمني صلاة الجماعة؟

المسافر إذا سمع النداء وهو نازل في المدينة التي هي غير مدينته اختلف العلماء رحمهم الله فيه: فقال جمع من أهل العلم: يجوز له أن يترك الجماعة، وأن يصلي إذا وجدت جماعة ثانية كرفقته في السفر، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على الرجلين حينما تركا صلاة الفجر في خيف منى، فدل على أنه يجوز للإنسان أن يترك الجماعة إذا كان مسافراً.وهذا هو أصح القولين وأولاهما بالصواب، فلا حرج على المسافر أن يترك الجماعة ولو سمع النداء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجلين: (إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا فإنها لكما نافلة)، ولم ينكر عليهما، بل أذن لهما أن يصليا في رحالهما.والله تعالى أعلم.

[كيفية صلاة المسافر إذا وصل قبل خروج الوقت]

q رجل كان على سفر، فلم يصل صلاة العشاء وهو مسافر، ودخل بلدته قبل خروج الوقت، فهل يصلي صلاة مسافر، أم يتم؟

a إذا كان الإنسان مسافراً وترك الصلاة الرباعية ودخل بلده، أو وصل إلى بلده قبل انتهاء وقتها فإنه يلزمه الإتمام، وذلك أنه لما أخر الصلاة خوطب بالصلاة في آخر وقتها، ولزمه الإتمام في قول جماهير العلماء رحمهم الله.والله تعالى أعلم.

[حكم صلاة المسافر خلف من يخالفه في النية]

q إذا دخل المسافر على جماعة مقيمين فيما بين الأذان والإقامة لصلاة العصر وهو لم يصل الظهر، فهل يصلي الظهر، أم ينتظر الجماعة ويصلي معهم بنية الظهر؟

a يجوز للإنسان أن يصلي الظهر وراء من يصلي العصر، والعصر وراء من يصلي الظهر، فيصلي وراءهم في هذه الحالة لكي يدرك فضل الجماعة، ولو اختلفت نيته مع نيتهم؛ فإن حديث معاذ رضي الله عنه وأرضاه يدل على مشروعية صلاة الفرض وراء من يصلي الفرض مع اختلاف النية، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه، بشرط اتحاد صورة الصلاتين، فالظهر وراء العصر والعصر وراء الظهر قد اتحدت فيهما صورة الصلاتين، فلا حرج عليه في هذه الحالة أن يوقع الصلاة وراء الصلاة، لكن في مسألة الجمع منع العلماء رحمهم الله أن يصلي وراء هؤلاء جماعة ثم أقيم للثانية دخل معهم بنية العصر بعد أن صلى الظهر مع الجماعة الأولى، ويرون أن الجمع صورته مخصوصة بما ورد، وهذه الصورة تخالف ما ورد، فلا يصح جمعه على هذا الوجه.والله تعالى أعلم.

[حكم الصلاة إلى غير القبلة]

q إذا صلى الإنسان في مكان لا يعرف اتجاه القبلة فيه، وبدأ في الصلاة، ثم مر به شخص يعرف القبلة فأدارها إلى اتجاهها، فما حكم الركعات التي صلاها في غير اتجاه القبلة؟

a هذه المسألة فيها تفصيل: فإن كان الإنسان في موضع يمكنه أن يرجع إلى أهله، أو يعتمد دلائل البلد الذي هو فيه على القبلة وقصر في ذلك فإنه يلزم بعاقبة تقصيره، فيلزمه أن يقطع صلاته وأن يستأنف الصلاة على الجهة الجديدة، بشرط أن تكون الجهة فرعيةً ينتقل بها من فرع إلى فرع، أما لو كان انحرافه قليلاً فإنه لا يؤثر إذا كانت الجهة هي الجهة.مثال ذلك: أن يصلي إلى الجنوب منحرفاً انحرافاً لا ينصرف به من الجنوب المحض إلى الجنوب الفرعي الذي هو الجنوب الغربي، فإذا لم ينصرف من الجنوب المحض إلى الجنوب الغربي فهذا الانحراف لا يؤثر.أما لو انحرف انحرافاً بيناً يخرجه من جهة إلى جهة فحينئذٍ إن قصر في السؤال والتحري فإن صلاته تعتبر باطلة، ويقطع الصلاة ويستأنف، وإن كان معذوراً حيث لم يجد من يدله، أو اجتهد بناء على عدم وجود من يدله فإنه حينئذٍ إذا حضر من هو أعلم، أو وجد من هو من أهل البلد أثناء الصلاة فإنه ينتقل إلى الأصل الذي هو العمل بقول هذا العالم، أو هذا الخبير، أو هذا الذي هو من أهل البلده ويتم بقية الصلاة ويعذر فيما مضى.والله تعالى أعلم.

[حكم دخول الجد لأم على الزوجة]

q هل الجد لأم يكون محرماً لزوجة حفيده مثل الجد لأب؟

aالجد لأم يعتبر محرماً لزوجة حفيده، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23]، فإن ابن البنت ابن لأبيها، فابن البنت يعتبر ابناً للجد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحسن: (إن ابني هذا سيد)، فجعله ابنه، وقد قال الله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء:23]، فلما سمى النبي صلى الله عليه وسلم ابن بنته الذي هو الحسن ابناً دل على أنه لا فرق بين الجد المتمحض بالذكور والجد المتمحض بالإناث والجد الذي جمع بين الذكور والإناث، فإنه في هذه الحالة تثبت له محرمية المصاهرة، فتصبح زوجة ابن بنته أو ابن ابنه محرماً له.والله تعالى أعلم.

[حكم استخدام حبوب منع الحمل]

q هل يجوز أن تأخذ زوجتي ما يمنع الحمل، وذلك لأجل الراحة من الحمل مدة معينة، وتُمنع بعد ذلك؟

a لقد ذهبت البركة في كل شيء، حتى النساء ذهبت منهن البركة، وقد كانت المرأة في القديم تضع أربعة عشر ولداً وخمسة عشر ولداً ويضع الله فيها البركة، ويكون من الخير ما الله به عليم، والمرأة الآن تجدها تحمل بمشقة وعناء، وتذهب تلتمس الرخص وتلتمس الأعذار، وتتكلف في ذلك حتى تحرم الأمة من الخير الذي يكون في النسل والذرية، فلولا الأبناء والأولاد لما خرجنا إلى هذه الدنيا، ولو كنا ولدنا في هذا العصر لكان كثير منا لم يوجد، بسبب تعاطي هذه الحبوب التي تمنع الحمل -نسأل الله السلامة والعافية-.فمن الأمور التي ينبغي تنبيه النساء عليها وتذكيرهن بالله عز وجل فيها أن الشرع يقصد تكثير النسل وتكثير سواد الأمة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تناكحوا تناسلوا تكاثروا فإني مفاخر بكم الأمم يوم القيامة)، وكأنه يقول: شرع لكم النكاح من أجل الولد، وتجد المرأة تتبع الرخص من هنا وهناك وتحتج بأنها تتعب، والله عز وجل شرّف الأم وأمر ببرها، وجعل لبرها ثلاثة أضعاف ما للأب، وقد قال تعالى عنها: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} [الأحقاف:15]، فأخبر أن الحمل كره، وأخبر عن مريم ابنت عمران عليها السلام أنها لما جاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم:23]، فهكذا الحمل، فكونها تتألم من الحمل أو تجد المشقة ليس بعذر لها أن تقطعه، ولا يرخص فيه، وإنما يكون العذر إذا خيف عليها الهلاك، وهي حالات مخصوصة ومعينة يقررها الأطباء، أما أن المرأة تأتي فتمنع الزوج من نسله وذريته حتى يضع الله البركة في هذا النسل وهذه الذرية، وتحرمه من هذا الخير فإنه أمر من الصعوبة بمكان.وأصبح الرجال يسترسلون مع النساء، وأصبح النساء يتتبعن الرخص، وما يدري المرأة أن هذه الآلام وهذه المتاعب درجات لها في الجنة لا تبلغها بكثرة صلاة ولا صيام.وليس من عيب على امرأة جاهلة أن تفعل هذا، ولكن العيب أن تجد المرأة طالبة علم، أو تجدها من الصالحات القانتات الفاضلات وتجدها تتعاطى حبوب منع الحمل، فأين الإيمان بالله عز وجل وحب النسل والذرية، والصبر على النسل والذرية؟! وقد كان النساء يرعين الغنم في البادية على فطرتهن، فلا طبيب ولا مغيث ولا مجير إلا الله سبحانه وتعالى، وتجدها وهي ترعى بهائمها تضع ولدها، وليس معها أحد، ولا يعلم بحالها إلا الله سبحانه وتعالى، فتضع الولد ثم تنتقل به إلى بيتها، وهذا حدث لأكثر من امرأة، وكان مشهوراً معروفاً، لكن لما ضعفت عقائد الناس، وأصبح الإنسان ضعيف الإيمان بالله عز وجل -نسأل الله السلامة- محقت البركة حتى من النساء، فأصبحت المرأة تشتكي من القليل والكثير، فإذا كانت تشتكي بسبب الدراسة والتدريس فليس هذا هو الأصل، فالأصل أنها أم، والأصل أنها مربية، والأصل أنها أم للأطفال والأولاد، وأنها هي التي تقوم على هذا الأمر الذي شرّفها الله وكرمها به.فلذلك لا ينبغي للنساء أن يبحثن عن هذه الرخص، ولا ينبغي للمرأة أن تقول: إنها تريد أن ترتاح من الحمل.وما يدريك لعل الله عز وجل أن يجعل هذا الولد الذي تفرين منه هذا العام من الذرية الصالحة.وقد ذكروا عن امرأة أنها كانت تلد بنات، حتى ولدت تسع بنات متتابعات، فسئمت من البنات -وهذا الكلام قبل أكثر من مائة سنة، وهي قصة مشهورة عن أحد أهل الفضل في المدينة رحمة الله عليه، وكان من حفاظ كتاب الله عز وجل-، وكانت بمكة، فأخذت دواء من العطار تتناوله في السَحَر -أي: في الصباح الباكر- قبل الأكل وقبل الشراب لأجل أن تسقط هذا الحمل العاشر؛ لأنها لا تريد البنات، وهي لا تحمل إلا بنات، فأرادت أن تسقط هذا الجنين، فلما أرادت أن تستعمل هذا الدواء سمعت صائحاً في الفجر يصيح ويقول: يا أرحم الراحمين.فاقشعر بدنها، وتعلقت بالله سبحانه وتعالى ليضع الله لها الخير في هذا الولد، ويريد الله سبحانه وتعالى أن يكون ذكراً، وأن يكون من حفاظ كتاب الله، والله لقد أدركته -وكان من أصدقاء الوالد- من أفضل الناس ديانة واستقامة وطاعة لله عز وجل، فلو أنها تعاطت هذا الدواء فكم كانت ستحرم من الخير؟ وكم كانت ستحرم من الدعوات الصالحات؟ ولذلك ينبغي على المرأة أن تكون قوية الإيمان بالله عز وجل، وأن تتوكل على الله، وأن يكون عندها حسن الظن بالله سبحانه وتعالى، وفي الحديث الصحيح: (أنا عند حسن ظن عبدي بي)، ورؤي سلمان الفارسي بعد موته -كما روى أبو نعيم في الحلية- فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: ما وجدت أفضل بعد الإيمان من حسن الظن بالله عز وجل.والمرأة إذا أحسنت الظن بالله وقالت: أصبر وأتوكل على الله عز وجل.فتح الله لها أبواب رحمته، وفي الحديث الصحيح: (من يصبر يصبره الله)، فتحس أن هذا الحمل كأنه يمر في ساعة، وكأنه طيف من الخيال والأحلام، ثم إذا بها يبارك لها الله عز وجل في هذه الذرية وهذا النسل، فلعله أن يذكرها بدعوة صالحة، وما يدريها لعل هذا النسل الذي تريد أن تمتنع منه يكون من أبر أولادها بها بعد مشيبها وكبرها، وما يدريها لعل الله أن يسخر لها بعد موتها بالدعوات الصالحات.نسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل في القول والعمل.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #137  
قديم 19-11-2021, 08:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجماعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (133)

صـــــ(1) إلى صــ(17)


- فصل: صلاة المسافر [3]
الجمع بين الصلاتين مما أجازته الشريعة في أحوال خاصة تخفيفا وتيسيرا على المكلفين، سواء بالتقديم أو التأخير، ولها أعذار موجبة للترخص بها كالسفر والمطر، ولكن يراعى فيها شروطها المعتبرة، ومفسداتها المبطلة للجمع، ونحوها من الأحكام.
الجمع بين الصلاتين
[حكم الجمع بين الصلاتين]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله:
[فصل: يجوز الجمع بين الظهرين وبين العشاءين في وقت إحداهما].
هذا الفصل يتعلق بمسألة الجمع بين الصلاتين، والجمع بين الصلاتين رخصة رخص الله بها لعباده، تقع في الحضر وتقع في السفر، فقد يجمع الإنسان بين الصلاتين في سفره، وقد يجمع بين الصلاتين في حال حضره.
والجمع بين الصلاتين فيه خلاف مشهور بين العلماء: فمن أهل العلم من قال: يجوز الجمع مطلقا.وهذا مذهب الشافعية والحنابلة من حيث الجملة.
ومنهم من يقول: لا يجوز الجمع مطلقا إلا في حالة الجمع في النسك، وذلك بتقديم الظهر مع العصر بعرفة، وتأخير المغرب مع العشاء بمزدلفة.وهذا مذهب الحنفية رحمة الله عليهم.
والقول الثالث: أن الجمع يجوز للمسافر إذا جد به السير.وهو مذهب الإمام مالك رحمة الله عليه، ويختاره بعض المحققين كـ ابن القيم وغيره رحمة الله على الجميع،
فيقولون:
تجمع إذا جد بك السير، فلو كنت تريد أن تسافر من مكة إلى المدينة، وخرجت من مكة قبل أن يؤذن الظهر، وأذن الظهر وأنت في الطريق تريد أن تكسب الوقت فلم تنزل للصلاة، حيث تريد أن تدرك حاجة بالمدينة،
فحينئذ يقولون:
يجوز لك أن تؤخر الظهر والعصر إلى آخر وقت العصر؛ لأنه جد بك السير وأنت محتاج إلى الوقت فتجمع.وهكذا إذا كان جمع تقديم، فلو خرجت من مكة ونزلت بقرية بين مكة والمدينة، ثم أردت أن تمشي بعد دخول وقت الظهر وتريد أن تكسب الوقت لوصول المدينة، فحينئذ تجمع في هذه القرية بين الظهر والعصر جمع تقديم،
فهذا هو الذي يعبر عنه العلماء بقولهم: إذا جد به السر.
أي:
إذا احتاج إلى الجمع لضرورة وحاجة، وهي كسب الوقت،
فحينئذ يقولون:
يجوز الجمع.أما إذا لم تكن هناك حاجة أن تجمع وليس هناك جد سير فإنك تبقى على الأصل، ولا يجوز لك الجمع.فهذا بالنسبة لمذهب من يقول بالتفصيل.هناك مذاهب أخرى ضعيفة تفصل في الجمع بين الصلاتين تفصيلات لا دليل لها من النصوص.وهذه أشهر الأقوال في مسألة الجمع بين الصلاتين.
وهناك قول يقول:
يجوز جمع التأخير ولا يجوز جمع التقديم.فيرون أنه يرخص للإنسان أن يجمع جمع تأخير، ولا يرون له أن يجمع جمع التقديم.والذي يظهر -والعلم عند الله- مشروعية الجمع، سواء أكان جمع تقديم أم جمع تأخير، والسنة في ذلك صحيحة وثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جمع -بأبي وأمي عليه الصلاة والسلام- بين الظهر والعصر،
وبين العشاءين:
المغرب والعشاء، جمع جمع تقديم وجمع جمع تأخير.أما الحديث في مسلم فإنه أطلق الجمع،
وهو:
(أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين).وأما بالنسبة لتفصيل الجمع فحديث معاذ ظاهر في ذلك، وقد حسنه غير واحد من الأئمة كـ الترمذي وغيره، فإنه قال: (كان إذا ارتحل -أي: عليه الصلاة والسلام- قبل أن تزول الشمس أخر الظهر فصلاها مع العصر، وإذا ارتحل قبل أن تغرب الشمس أخر المغرب إلى وقت العشاء فصلاهما معا، وكان إذا ارتحل بعد أن تزول الشمس قدم العصر مع الظهر فصلاهما معا، وإذا ارتحل بعد أن تغيب الشمس قدم العشاء إلى وقت المغرب فصلاهما معا)، وهذا يدل على مشروعية جمع التقديم وعلى مشروعية جمع التأخير.
وهذا القول الذي يقول بمشروعية الجمع مذهب الجمهور، وذكرنا أن هذا الحديث أصله في صحيح مسلم واضح،
فيبقى الإشكال عندنا في القول الذي يقول:
لا يجمع إلا إذا جد به السير،
خاصة وأن الرواية عن معاذ:
(كان إذا جد به السير)، وهي متكلم فيها،
قالوا: ثم إن هذا يقويه النظر، فإن الأصل أن الصلاة تصلى في وقتها، والجمع خارج عن الأصل، فلا يجوز إلا عند وجود الحاجة،
فيقولون: إذا جد به السير جمع.ويجاب عن هذا القول بحديث تبوك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين ولم يجد به سير؛ لأنه كان في خيمته وخبائه عليه الصلاة والسلام، وهذا يؤكد أن الجمع لا يشترط فيه جد السير،
وبناء على ذلك يترجح قول من قال من الأئمة رحمة الله عليهم: إن الجمع بين الصلاتين مشروع، سواء أكان يحتاجه لجد سير أم لغيره، وسواء أقدم أم أخر، فلا حرج عليه في ذلك كله.
وقوله:
[يجوز الجمع بين الظهرين وبين العشاءين].
الظهران: هما الظهر والعصر،
كما يقال: العمران والقمران.فكل ذلك من باب التغليب، والعشاءان: هما المغرب والعشاء.
وقوله: [يجوز] يدل على أنه ليس بواجب.
[الجمع في عرفة ومزدلفة والحكمة منه]
اختلف في الجمع في عرفة ومزدلفة، فقال جمع من العلماء والسلف رحمة الله عليهم بوجوبه ولزومه، خاصة وأنه مرتبط بالنسك.وقد شرع الله الجمع تخفيفا عن المسافر، وشرعه أيضا للعبادة كما هو الحال في الحج، فإن الإنسان يوم عرفة أذن له أن يجمع بين الظهر والعصر حتى يكون الوقت للذكر والعبادة أطول ويتفرغ لذكر الله سبحانه وتعالى، فإنه إذا صلى الظهر والعصر جمع تقديم كان الوقت لدعائه وذكره لله عز وجل أطول، وكان حظه من الخير أكثر، وهذا يدل على أنه ينبغي على الإنسان إذا انتهى من صلاة الظهر والعصر يوم عرفة أن يقبل على الله عز وجل، وأن يكثر من الدعاء والذكر لله سبحانه وتعالى، على خلاف ما يفعله بعض الجهلة الذين لا يعرفون مقدار هذا المنسك العظيم وهو الوقوف بعرفة، فإنك تجد بعضهم ينام، ولربما يجلس بعضهم لفضول أحاديث الدنيا.فانظر رحمك الله إلى عبادة يقدمها الله عن وقتها، ويشرع لعباده أن يقدموها عن وقتها المعتبر، كل ذلك تعظيما للذكر والدعاء في هذا اليوم؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
(الحج عرفة)، وأشرف شيء وأفضل شيء في يوم عرفة هي السويعات التي قبل مغيب الشمس ما بين انتهاء الصلاتين إلى مغيب الشمس، هذا أفضل ما يكون في يوم عرفة،
حتى إن بعض العلماء يقول:
أرجى الناس لفضل الله عز وجل من أعطي القوة على الذكر من بعد الصلاة إلى مغيب الشمس، والمحروم من حرم،
ولذلك يقولون: إن الله لما شرع لعباده تقديم العصر عن وقتها وجب على العباد أن يتنبهوا لشرف هذا الموقف.فهذا الجمع يقصد به المعونة على الذكر لشرف الموقف الذي يباهي الله عز وجل به ملائكته، مع أن الصلاة من أفضل الطاعات وأفضل الأعمال بعد الإيمان بالله،
قال صلى الله عليه وسلم:
(استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)، وهذا كله يؤكد أن هذا الجمع قصد منه أن يتفرغ لذكر الله عز وجل، ولذلك يجمع أهل مكة، ولو كانوا مع الإمام فإنهم يجمعون، مع أنهم مقيمون وفي حكم المقيم،
وبناء على ذلك قالوا:
إنه ينبغي أن يكون هذا الجمع يقصد به الاستعانة في هذا الوقت على ذكر الله عز وجل والتفرغ للدعاء.وأما الجمع ليلة المزدلفة فإنه يجمع بمجرد وصوله تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليرتاح بعد عناء الموقف، ووراءه المنسك الذي يكون بعد الفجر، وهذا الموقف أيضا له فضله وله شرفه، فهو مشعر وله مكانته،
حتى قال بعض السلف: شهدت هذا المكان أكثر من ستين عاما أسأل الله العظيم أن لا يجعله آخر العهد فردني إليه، وإني أستحيي أن أسأله هذه السنة، فمات من عامه، وكان من أئمة الحديث، فما رد الله دعاءه في هذا الموقف وهو موقف المشعر،
فيقولون: إنه شرع أن يجمع بين المغرب والعشاء حتى يتقوى بنومه، فإذا استيقظ استطاع أن يقف للدعاء بنفس مرتاحة وصدر منشرح، فيقوى على الذكر والطاعة.ولذلك كان الجمعان لقصد النسك، فلهما ارتباط بالنسك، ويؤكد هذا أنه لما قدم عليه الصلاة والسلام منى ما جمع بين الصلاتين، ولو كان الجمع للسفر، أو لشيء آخر منفك عن الحج لجمع في منى عليه الصلاة والسلام، لكن كونه عليه الصلاة والسلام يخص هذين الموضعين بالجمع يدل على أن الجمع قصد به الاستعانة على الذكر والدعاء في هذين المشعرين العظيمين.
فلما قال: [يجوز] دل على أنه ليس بواجب،
أي: يباح لك.وهذه رخصة، فإن أخذت بها فلا حرج، وإن صليت كل صلاة في وقتها فإن ذلك هو الأصل ولا عتبى ولا حرج عليك، لكن لو أن الإنسان وجد المشقة والحرج في الصلاة لوقتها وإذا جمع وجد التيسير والراحة فإنهم قالوا: إنه ينبغي له أن يستعين برخص الله عز وجل،
كما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:
(عليكم برخص الله التي رخص لكم).فمن السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين الصلاتين، خاصة إذا وجد ما يوجب الجمع.
فلما قال لنا رحمه الله:
[يجوز الجمع]، فهمنا من ذلك أن رخصة الجمع ليست بواجبة ولا بلازمة، وأن المكلف مأذون له بذلك الفعل، فلا هو ملزم به ولا هو واجب عليه، وكذلك ليست بمحرمة ولا مكروهة، فالإذن بها إذن إباحة، بمعنى أنه يجوز له أن يفعل الجمع وأن يتركه،
ولكن قال العلماء: إذا كانت هناك حاجة فالأفضل أن يجمع؛ لما فيه من التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء به، فكونه يجمع تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم أفضل، وكذلك إذا قصد إحياء السنة، كأن يكون بين قوم يجهلون أحكام الجمع، فيحيي هذه السنة بينهم حتى يتعلموا، أو يكون معه طلاب علم وهو ليس بحاجة للجمع في طريقه ولكنه يجمع حتى يعلموا أحكام الجمع، فذلك مستحب له ومندوب.[في وقت إحداهما في سفر قصر].
وقوله:
[في وقت إحداهما] تضمن نوعين من أنواع الجمع: النوع الأول: ما يوصف بكونه جمع تقديم، وذلك بأن توقع الصلاة الثانية في وقت الصلاة الأولى، فتصلي العصر في وقت الظهر، وتصلي العشاء في وقت المغرب، فهذا هو جمع التقديم.
النوع الثاني:
جمع التأخير، بأن تكون الصلاة الأولى في وقت الصلاة الثانية، فتؤخر الظهر وتصليها مع العصر، أو تؤخر المغرب وتصليها مع العشاء.وليعلم أن الأصل في الصلوات أن تصلى كل صلاة في وقتها؛
لأن الله يقول: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} [النساء:103] أي: محددا.وقد ألزم النبي صلى الله عليه وسلم أمته بالصلاة في مواقيتها،
وقال للأعرابي لما صلى له في اليومين:
(ما بين هذين وقت)،
أي: ألزمه وقتا للصلاة، فعندنا شيء يسمى: أصل، وشيء يسمى: رخصة، فالشيء الذي هو الأصل أن تصلى كل صلاة في وقتها، فالظهر يصلى في وقته، والعصر يصلى في وقته، والمغرب يصلى في وقته، والعشاء يصلى في وقته، ولكن لما جاء الإذن من الشرع بفعل الجمع كان رخصة من هذا الوجه.
أعذار الترخيص في الجمع بين الصلاتين

[السفر]
قال رحمه الله تعالى: [يجوز الجمع بين الظهرين وبين العشائين في وقت إحداهما في سفر قصر] أي: محل الرخصة أن يكون الإنسان مسافرا سفر قصر، ولذلك لا يجمع الصحيح في غير السفر على ما اختاره المصنف رحمه الله وهو قول الجماهير، فالجمع من حيث الأصل يكون في السفر، وأما جمع المرض وجمع الخوف فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.ولذلك يجمع على الصورة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث معاذ، وحديث أنس بن مالك، وحديث عبد الله بن عمر، وكلها في جمعه عليه الصلاة والسلام في السفر.
وسفر القصر ينقسم إلى أقسام: فإما أن يكون سفرا واجبا، وإما أن يكون سفرا مندوبا، وإما أن يكون سفرا مباحا، فأنت إذا سافرت لحج فريضة فهذا سفر واجب تجمع فيه الصلاة، ويجوز لك أن تجمع قولا واحدا عند من يقول بالجمع، وإذا سافرت إلى سفر مندوب وسفر طاعة وقربة مندوب إليها كعمرة النافلة، فإن هذا سفر مندوب، وتجمع فيه وجها واحدا لأهل العلم، ولكن إذا سافرت سفرا مباحا كالتجارة وزيارة بعض أحبابك وإخوانك دون أن تكون بقصد القربة، فحينئذ اختلف العلماء: فجمهور من يقول بجواز الجمع يقول: لا فرق عندي بين أن يكون السفر سفر طاعة أو سفرا مباحا.
وهناك من يقول من السلف: إن الجمع يختص بالسفر الذي هو سفر القربة والطاعة، أما لو سافر للتجارة، أو سافر لنزهة وسياحة، أو لصيد فإنه لا يجمع بين الصلاتين، كما يختاره الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس رحمة الله على الجميع.
والصحيح أن كل سفر تقصر فيه الصلاة سواء أكان واجبا أم مندوبا أم مباحا، حل للإنسان أن يجمع الصلاة فيه.
[المرض]
[وبين العشاءين لمطر يبل الثياب أو لوحل].

(وبين العشاءين لمطر يبل الثياب) هذا السبب الثالث الذي يبيح الجمع: المطر،
وللعلماء في المطر قولان مشهوران: القول الأول: أنه إذا وقع المطر جاز للإنسان أن يجمع بين الصلاتين، وهذا هو مذهب جمهور السلف رحمة الله عليهم، فعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وكذلك أبان بن عثمان فعله بالمدينة، وفعله عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد، وهو مذهب الشافعية والحنابلة وطائفة من أصحاب الحديث،
وقال به أجلاء التابعين:
كـ سعيد بن المسيب ومحمد بن القاسم بن أبي بكر الصديق وخارجة بن زيد وكذلك أبو سلمة ابن عبد الرحمن ونحوهم من الأجلاء قالوا: إن الجمع في المطر رخصة، ولا حرج إذا نزل المطر أن يجمع بين الصلاتين على تفصيل عندهم، رحمة الله على الجميع.
القول الثاني يقول: إنه لا يجمع في المطر، وهذا القول هو مذهب أهل الرأي، فالقول الأول للجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة وأهل الحديث،
والقول الثاني للحنفية: لا يجمع في المطر، وهو قول إبراهيم النخعي وكذلك ابن سيرين، رحمة الله على الجميع.أصح هذين القولين هو القول بمشروعية الجمع في المطر،
وذلك لحديث ابن عباس في الصحيح أنه قال:
(جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين في غير مطر ولا سفر)،
فلما قال:
(مطر ولا سفر)، دل على أن المطر يوجب الترخيص بفعل الجمع كما أن السفر يوجب ذلك، وعلى هذا لو نزل المطر فمتى يجمع؟
الذين قالوا بمشروعية أن يجمع الإنسان في المطر لهم قولان: القول الأول يقول: يجوز لك أن تجمع الظهر مع العصر، وتجمع المغرب مع العشاء، وهذا مذهب الشافعية وطائفة من أصحاب الإمام مالك، رحمة الله على الجميع.
والقول الثاني يقول:
إنك لا تجمع في المطر إلا بين المغرب والعشاء كما درج عليه المصنف فقال رحمه الله: (ولمطر بين العشاءين) أي: تجمع بين المغرب والعشاء فقط، أما الظهر والعصر فلا تجمع بينهما للمطر؛ والسبب في هذا القول الذي يقول بالتخصيص وهو مذهب الحنابلة والمالكية رحمة الله عليهم أنهم يرون أن النصوص التي وردت بالجمع إنما وردت في المغرب والعشاء،
والظاهرية استدلون بإطلاق ابن عباس:
(من غير مطر ولا سفر)،
قالوا: هذا فيه إطلاق، فيدل على مشروعية الجمع، سواء كان بين الظهر والعصر أو بين المغرب والعشاء.والقول بالتخصيص بالمغرب والعشاء من القوة بمكان،
ووجه ذلك:
أنه إذا كان المطر في الليل فإن الناس يصيبهم الضرر، والغالب أن المطر يصحب بالريح، فلا يأمن عند تبلل ثيابه أن يأتيه ضرر في جسده، ثم لا يأمن إذا أصاب الأرض الوحل والطين أن تزل قدمه، ويستضر الناس إذا كان المطر موجودا في ثيابهم وكذلك إذا كان يصيبهم في مشيهم وذهابهم إلى المسجد،
قالوا:
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصلاة في الرحال)، حيث أذن إذا كان هناك المطر أن ينادي المنادي الصلاة في الرحال، فرخص في تركها،
فكذلك يرخص إذا وجد المطر في الجمع بين الصلاتين أعني:
المغرب والعشاء.
ومذهب التخصيص يستدل بحديث أبي النجاد رحمه الله:
(أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء)، وليس هناك حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر،
فقالوا:
فتبقى الظهر والعصر على الأصل ويرخص في المغرب والعشاء؛ لأن الحاجة والمشقة في الليل أكثر، وهذا القول أحوط القولين وأولاهما -إن شاء الله- بالصواب: أنه لا يجمع في المطر إلا بين المغرب والعشاء.ثم إذا جمع بين المغرب والعشاء في المطر فالمحفوظ من هدي السلف الصالح رحمة الله عليهم أنهم كانوا يؤخرون المغرب قليلا،
كما جاء عن أبان بن عثمان حينما أم وصلى عبد الله بن عمر معه ولم ينكر عليه:
كان ينتظر إلى اختلاط الشفق -حمرة الشفق- بوجه الليل، أي: ابتداء الظلمة،
قالوا:
هذا أرفق بالناس.فالجمع بين العشاءين يكون جمع تقديم، هذا في الأصل، وإلا فيجوز أن يجمع جمع تأخير،
لكن قالوا:
يجمع جمع تقديم؛ لأن الناس -خاصة في القديم- إذا مضوا إلى المسجد في صلاة المغرب، وجمع جمع تأخير فإن هذا سيضر بهم؛ لأنه سيتركهم ينتظرون إلى صلاة العشاء ويجحف بهم، فيفوت المعنى الذي من أجله شرع الجمع بين الصلاتين،
ولذلك يقولون: إنه لا يؤخر ولكن يمضي ويصلي صلاة المغرب والعشاء في وقت المغرب،
أي:
يكون الجمع في وقت الأولى.واستثنى العلماء ما لو كان جمع التأخير أرفق،
فإذا كان جمع التأخير أرفق مثل: لو أن إنسانا خرج في نزهة مع جماعة أو مع أصحابه أو رفقائه وأصابهم المطر على وجه المغرب ثم مضوا إلى بيوتهم، فإنهم لو نزلوا شق عليهم ذلك ولا يستطيعون أن يجمعوا، فاختاروا أن يؤخروا المغرب والعشاء إلى وقت العشاء فلا حرج؛ لأن جمع التأخير في حق هؤلاء أرفق، لكن جماعة المسجد جمع التقديم في حقهم أرفق، ولذلك يجمع جمع تقديم بين صلاة المغرب والعشاء؛ للأسباب التي ذكرناها من وجود الحرج والمشقة للمصلين.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #138  
قديم 19-11-2021, 08:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الخوف)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (134)

صـــــ(1) إلى صــ(17)


[المطر]
قال رحمه الله تعالى:
[وبين العشاءين لمطر يبل الثياب أو لوحل].هذا السبب الثالث الذي يبيح الجمع، وهو المطر،
وللعلماء في المطر قولان مشهوران:
القول الأول: أنه إذا وقع المطر جاز للإنسان أن يجمع بين الصلاتين.وهذا هو مذهب جمهور السلف رحمة الله عليهم، وفعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عمر، وكذلك أبان بن عثمان فعله بالمدينة، وفعله عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد، وهو مذهب الشافعية والحنابلة وطائفة من أصحاب الحديث، وقال به أجلاء التابعين كـ سعيد بن المسيب، ومحمد بن القاسم بن أبي بكر الصديق وخارجة بن زيد، وكذلك أبو سلمة ابن عبد الرحمن ونحوهم من الأجلاء،
قالوا:
إن الجمع في المطر رخصة، ولا حرج إذا نزل المطر أن يجمع بين الصلاتين، على تفصيل عندهم رحمة الله على الجميع.
القول الثاني يقول:
إنه لا يجمع في المطر.وهذا القول هو مذهب أهل الرأي، فالقول الأول للجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة وأهل الحديث، والقول الثاني للحنفية، وهو قول إبراهيم النخعي، وكذلك ابن سيرين رحمة الله على الجميع.وأصح هذين القولين هو القول بمشروعية الجمع في المطر،
وذلك لحديث ابن عباس في الصحيح أنه قال:
(جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين في غير مطر ولا سفر)،
فلما قال:
(مطر ولا سفر) دل على أن المطر يوجب الترخيص بفعل الجمع، كما أن السفر يوجب ذلك.
والذين قالوا بمشروعية أن يجمع الإنسان في المطر لهم قولان في الصلوات التي يجمع بينها:
القول الأول يقول: يجوز لك أن تجمع الظهر مع العصر، وتجمع المغرب مع العشاء، وهذا مذهب الشافعية وطائفة من أصحاب الإمام مالك رحمة الله على الجميع.
والقول الثاني يقول: إنك لا تجمع في المطر إلا بين المغرب والعشاء،
كما درج عليه المصنف فقال رحمه الله:
[وبين العشاءين لمطر.] أي: تجمع بين المغرب والعشاء فقط، أما الظهر والعصر فلا تجمع بينهما للمطر.والسبب في هذا القول الذي يقول بالتخصيص -وهو مذهب الحنابلة والمالكية رحمة الله عليهم- أنهم يرون أن النصوص التي وردت بالجمع إنما وردت في المغرب والعشاء،
والظاهرية استدلوا بإطلاق ابن عباس:
(من غير مطر ولا سفر)،
قالوا:
هذا فيه إطلاق، فيدل على مشروعية الجمع، سواء أكان بين الظهر والعصر أم بين المغرب والعشاء.والقول بالتخصيص بالمغرب والعشاء من القوة بمكان، ووجه ذلك أنه إذا كان المطر في الليل فإن الناس يصيبهم الضرر، والغالب أن المطر يصحب بالريح، فلا يأمن عند تبلل ثيابه أن يأتيه ضرر في جسده، ثم لا يأمن إذا أصاب الأرض الوحل والطين أن تزل قدمه، ويستضر الناس إذا كان المطر في ثيابهم، وكذلك إذا كان يصيبهم في مشيهم وذهابهم إلى المسجد،
قالوا:
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصلاة في الرحال)،
حيث أذن إذا كان هناك المطر أن ينادي المنادي:
(الصلاة في الرحال)، فرخص في تركها، فكذلك يرخص إذا وجد المطر في الجمع بين الصلاتين، أعني المغرب والعشاء.
ومذهب التخصيص يستدل بحديث أبي النجاد رحمه الله:
(أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء)، وليس هناك حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر،
فقالوا:
تبقى الظهر والعصر على الأصل، ويرخص في المغرب والعشاء؛ لأن الحاجة والمشقة في الليل أكثر، وهذا القول أحوط القولين وأولاهما -إن شاء الله- بالصواب، فلا يجمع في المطر إلا بين المغرب والعشاء.ثم إذا جمع بين المغرب والعشاء في المطر فالمحفوظ من هدي السلف الصالح رحمة الله عليهم أنهم كانوا يؤخرون المغرب قليلا، كما جاء عن أبان بن عثمان -حينما أم وصلى عبد الله بن عمر معه ولم ينكر عليه- أنه كان ينتظر إلى اختلاط الشفق -حمرة الشفق- بوجه الليل،
أي: ابتداء الظلمة.
قالوا: هذا أرفق بالناس.فالجمع بين العشاءين يكون جمع تقديم في الأصل، وإلا فيجوز أن يجمع جمع تأخير،
لكن قالوا:
يجمع جمع تقديم؛ لأن الناس -خاصة في القديم- إذا مضوا إلى المسجد في صلاة المغرب وجمع جمع تأخير فإن هذا سيضر بهم؛ لأنه سيتركهم ينتظرون إلى صلاة العشاء ويجحف بهم، فيفوت المعنى الذي من أجله شرع الجمع بين الصلاتين،
ولذلك يقولون:
إنه لا يؤخر، ولكن يمضي ويصلي صلاة المغرب والعشاء في وقت المغرب،
أي:
يكون الجمع في وقت الأولى.واستثنى العلماء ما لو كان جمع التأخير أرفق، كما لو أن إنسانا خرج في نزهة مع جماعة أو مع أصحابه أو رفقائه، وأصابهم المطر وقت المغرب، ثم مضوا إلى بيوتهم، فإنهم لو نزلوا شق عليهم ذلك ولا يستطيعون أن يجمعوا، فإن اختاروا أن يؤخروا المغرب والعشاء إلى وقت العشاء فلا حرج؛ لأن جمع التأخير في حق هؤلاء أرفق، لكن جماعة المسجد جمع التقديم في حقهم أرفق، ولذلك يجمع جمع تقديم بين صلاة المغرب والعشاء للأسباب التي ذكرناها من وجود الحرج والمشقة على المصلين.
[الوحل والريح الشديدة]
قال رحمه الله تعالى:
[أو لوحل وريح شديدة باردة].
قوله:
[أو لوحل] أي: أن ينقطع المطر ثم تبقى الأرض فيها الزلق والوحل،
قالوا: فيجوز أن يجمع، وهذا في الحقيقة فيه خلاف، وإن كان قوى غير واحد من الأئمة أن الوحل لا يوجب الجمع، وهو من القوة بمكان، لعدم ورود النص بالترخيص في مثله، وإنما رخص في المطر، وشرط المطر الذي يبيح للناس أن يجمعوا بين المغرب والعشاء أن يكون مطرا يبل الثياب، أما لو كان مطرا يسيرا أو خفيفا فإنه لا يوجب الترخيص في الجمع.
وفي حكم المطر الثلج، ثم يفصل في الثلج مثلما يفصل في المطر، فإن كان الثلج يسيرا وخفيفا لا يشق على الناس أن يصلوا كل صلاة في وقتها فلا جمع، وإن كان الثلج كثيرا ويؤذي الناس فإنهم يجمعون بين الصلاتين كالحال في المطر.
وقوله:
[وريح شديدة باردة].هذا قول بالقياس، وهو قول ضعيف.والصحيح أن الريح الشديدة لا توجب الجمع بين الصلاتين، إعمالا للأصول من النصوص الواردة في الكتاب والسنة بإلزام المكلف بإيقاع كل صلاة في وقتها، واستثني ما استثني من الجمع لورود النص، فلا يقوى القياس ولا الإلحاق.
قال رحمه الله تعالى: [ولو صلى في بيته أو مسجد طريقه تحت ساباط].
إذا كان العلماء رحمة الله عليهم يقولون: إن الناس يرخص لهم أن يجمعوا بين المغرب والعشاء لمكان المطر، فهذه الرخص التي تقع في المطر وفي السفر وفي المرض نظر الشرع فيها إلى غالب أحوال الناس، فأعطى الرخصة بغض النظر عن أفراد لا تتوفر فيهم معاني الرخصة، وتوضيح ذلك أن الأصل في السفر أن فيه مشقة، وأن فيه عناء وتعبا ونصبا،
فلو فرض أن إنسانا سافر ولم يجد عناء ولا مشقة ولا نصبا فلا نقول:
يبقى على الأصل ولا يفطر ويبقى على موجب الإمساك والصيام، بل نقول: إن الرخصة هنا عامة من الشرع ولا يلتفت فيها إلى الأفراد،
كأن الشرع قال: الغالب في السفر أن يكون فيه الضرر، فلا عبرة بالنادر؛ لأن الحكم للغالب، كذلك هنا
-إذا قلت: إن المطر يوجب الترخيص- لأن الناس إذا مضوا إلى المسجد تضرروا، فلو فرضنا أن المسجد طريقه مظلل، أو كان الإنسان قريبا من المسجد، أو بيوت الناس كلها تطل على المسجد، فليس هناك وحل، وليس هناك ضرر ببلة الثياب،
فهل نقول: لا يجمعون؟
قال بعض العلماء:
العبرة عندي بوجود موجب الرخصة،
أي: الوصف العام وهو وجود المطر، بغض النظر عن كونه يتضرر أو لا يتضرر، وبغض النظر عن كون طريقه تحت الساباط الذي هو المظلات التي هي مثل ما يكون تحت البيوت، أو الذي يكون ملصقا بالبيوت يقي الناس الشمس ويقيهم المطر،
فيقول:
العبرة عندي بوجود المطر، بغض النظر عن كونهم تضرروا أو لم يتضرروا، كالحال الآن، حيث يمكنه أن يركب سيارته ويمضي إلى المسجد فلا يبتل له ثوب ولا يتضرر،
قالوا:
لا نلتفت إلى هذا؛ لأن الحكم للغالب والنادر لا حكم له.وهذا أصل في الرخص، فيقولون: ننظر إلى الأصل، وكون بعض الأفراد يتخلف فيهم المعنى الذي هو موجب الرخصة لا نلتفت إليهم،
ولذلك لو اعترض عليك معترض وقال:
كيف تقولون بالفطر والإنسان قد يسافر في طائرة وقد يسافر في سيارة وهو مستريح؟
تقول له:
أذن الله بالفطر في السفر؛ لأن الغالب فيه وجود المشقة، وكون النادر في بعض العصور وفي بعض الأزمنة لا يلتفت إليه؛ لأن الشريعة لا تلتفت إلى عصر دون عصر، ولكن إذا اختلفت العصور فإنك تنظر إلى الغالب، وبناء على ذلك فالغالب أنه إذا نزل المطر تضرر الناس، فكون بعض الناس يكون طريقهم إلى المسجد لا مضرة فيه ولا مشقة لا يلتفت إليه، ويبقى على الأصل من موجب الرخصة.
مسائل في الجمع بين الصلاتين
[الأفضل من جمع التأخير أو التقديم]
قال رحمه الله تعالى: [والأفضل فعل الأرفق به من تأخير أو تقديم].الأفضل للإنسان إذا أراد أن يجمع لسفر أو مرض أو مطر أن ينظر إلى الأرفق، فإن كان الأرفق به أن يقدم قدم، وإن كان الأرفق به أن يؤخر أخر؛ لأنها رخصة وسعة، وقد استحب بعض العلماء أن يجمع جمع التأخير، قالوا: لأن جمع التأخير لا خلاف فيه عند من يقول بمشروعية الجمع، ولكن جمع التقديم فيه خلاف، وجمع التأخير تقع فيه الصلاة الثانية وقد دخل وقتها؛ لأنها تقع بعد حكم الشرع بفعلها، ولكن جمع التقديم تكون فيه الصلاة الثانية في غير وقتها،
ولذلك قالوا:
الأفضل أن يراعي جمع التأخير.فهذا مذهب بعض العلماء، وهو تفضيل جمع التأخير على جمع التقديم.والصحيح أن الإنسان ينظر إلى الأرفق؛ لأن الله وسع على عباده بالجمع، فليس لنا أن نحد حدا معينا،
وإنما نقول: ما دام أن الله وسع عليك فإن كان الأرفق بك أن تجمع جمع تقديم فافعل، وإن كان الأرفق بك أن تجمع جمع تأخير فافعل، والدليل على ذلك السنة، فقد روي أنس رضي الله عنه -كما في الصحيح-،
وكذلك مثله حديث معاذ في السنن:
(أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس -يعني: قبل أن تزول- أخر الظهر إلى وقت العصر فصلاهما معا، وإذا ارتحل قبل أن تغرب الشمس أخر المغرب إلى وقت العشاء فصلاهما معا)،
فقوله:
(كان إذا ارتحل قبل أن تزول الشمس) يلاحظ فيه أنه إذا ركب قبل أن تزول الشمس وقبل أن يدخل وقت الأولى فالأرفق أن يؤخر،
وقوله كذلك: (وكان إذا ارتحل بعد أن تزيغ الشمس قدم العصر إلى وقت الظهر فصلاهما معا)، فدل على أن الأفضل للمكلف أن ينظر إلى الأرفق، فإن كان الأرفق به أن ينزل ويصلي في أول الوقت نزل وصلى، وإن كان الأرفق أن يؤخر أخر.فلو أنك خرجت من مكة تريد المدينة وأذن للظهر وأنت تريد حاجة وقت العصر، فإنك إن نزلت وصليت ربما تأخرت عن حاجتك، فإذا شئت نزلت وجمعت جمع التقديم ولا حرج، لكن لكون التأخير أفضل لك حتى تدرك الوقت وتحصل جد السير فحينئذ تجمع جمع تأخير ولا حرج، والعكس بالعكس أيضا، فلو أن إنسانا أذن عليه الأذان بعد أن خرج من مكة ويريد أن يقف لزاد ونحو ذلك،
فقال:
ما دمت أني واقف فالأفضل أن أصلي الصلاتين فصلاهما حتى يكسب الوقت فلا حرج، فلا يقيد الناس ولا يلزمون بتقديم ولا بتأخير.
[النية في الجمع بين الصلاتين]
قال رحمه الله تعالى:
[فإن جمع في وقت الأولى اشترط نية الجمع عند إحرامها].
قال صلى الله عليه وسلم:
(إنما الأعمال بالنيات)، فإذا أردت أن تجمع فيشترط أن تنوي الجمع في وقت أولاهما، فتكون النية أن تجمع الثانية إلى الأولى، وعلى هذا فإذا نويت كان لك الجمع،
وأما إذا لم تنو فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(وإنما لكل امرئ ما نوى)، فمن نوى الجمع كان له، ومن لم ينو لم يكن له.
وقالت طائفة من العلماء:
النية ليست بشرط للجمع، ويجوز له أن يجمع ولو لم ينو.
[مبطلات الجمع بين الصلاتين]
قال رحمه الله تعالى:
[ولا يفرق بينهما إلا بمقدار إقامة ووضوء خفيف ويبطل براتبة بينهما].
قوله:
[ولا يفرق بينهما] يعني: لا يفرق بين الظهر والعصر، ولا بين المغرب والعشاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الفاصل بين الصلاتين قليلا، فلما صلى عليه الصلاة والسلام المغرب والعشاء ليلة النحر بمزدلفة تركهم بقدر ما يحط الإنسان رحله،
ولذلك قالوا:
بقدر ما يتوضأ الإنسان ويفرغ من وضوئه.وهذا هو الهدي،
يقولون:
لأن الجمع بين الصلاتين جعل الصلاتين قد صارتا بمثابة الصلاة الواحدة، فلا تدخل بينهما راتبة، ولا تدخل بينهما فاصلا مؤثرا، كمن ينام نوما يفصل بين الصلاتين به، أو كشغل يخرج به عن الصلاة،
قالوا:
فإذا وقع الفاصل فإنه لا جمع، وحينئذ يصلي الثانية في وقتها ولا يجمع جمع التقديم.
قوله:
[ويبطل براتبة بينهما].ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسن بين المغرب والعشاء،
فقال: (ولم يسبح على إثر واحدة منهما) كما في الصحيحين، فدل على أنه لا يصلي الراتبة بينهما.
قال رحمه الله تعالى:
[وأن يكون العذر موجودا عند افتتاحهما وسلام الأولى].هذا في المطر، فلو أن الإنسان أراد أن يجمع في المطر بين المغرب والعشاء، فيشترط عند تكبيرة الإحرام أن يكون المطر موجودا، فيكبر للمغرب والمطر موجود، ويسلم من المغرب والمطر موجود، وحينئذ يقيم ويصلي العشاء ويكبر ويكون المطر موجودا، فلو أنه كبر للمغرب والمطر موجود، ثم بعد ذلك انقطع المطر، فسلم والمطر منقطع، فحينئذ لا يجمع؛ لأن موجب الرخصة غير موجود، وينتظر إلى دخول وقت الثانية، لكن لو أنه كبر ثم انقطع المطر بعد تكبيره حتى كان في الركعة الثالثة، فنزل المطر فسلم والمطر ينزل، فأقام وكبر للعشاء والمطر لا زال نازلا، ثم بعد ذلك انقطع قبل سلامه من العشاء صح فعله وأجزأه.
وقال بعض العلماء: لا يصح إلا إذا سلم من العشاء والمطر موجود.
وهذا على مسألة:
(هل العبرة بالابتداء، أو العبرة بالانتهاء) كمسألة من تيمم ثم رأى الماء أثناء الصلاة، فإن قلنا: العبرة بإحرامه مضت له الرخصة ولا يقطع، وإن قلنا: العبرة بسلامه -وهو أحوط ورجحناه في التيمم- فإنه حينئذ لا يعتد بجمعه.
[اشتراط النية قبل الجمع بين الصلاتين وبقاء العذر إلى دخول وقت الثانية]
قال رحمه الله تعالى: [وإن جمع في وقت الثانية اشترط نية الجمع في وقت الأولى إن لم يضق عن فعلها واستمر العذر إلى دخول وقت الثانية].إذا كان الإنسان يريد أن يؤخر الظهر إلى وقت العصر، أو المغرب إلى وقت العشاء فإنه ينوي عند تأخيره أن يجمع، أما إذا لم ينو فإنه حينئذ تخرج عليه الصلاة الأولى، فيكون كأنه ترك الصلاة الأولى، فتعتبر صلاة قضاء لا صلاة جمع،
والدليل على ما ذكرناه قوله عليه الصلاة والسلام:
(إنما الأعمال بالنيات)؛
لأن من ترك الصلاة الأولى حتى دخل وقت الصلاة الثانية لا يخلو من حالتين:

الأولى: أن يكون معذورا لنسيان أو نوم ونحو وذلك.
الثانية: أن يكون غير معذور.فلما لم ينو الجمع دخل في حكم غير المعذور، وبقيت صلاته قضاء لا جمعا.
وقوله: [واستمرار العذر إلى دخول وقت الثانية] بمعنى أنه يستمر المطر إلى دخول وقت الثانية، وهكذا السفر، فلو أن جماعة خرجوا لتدريس ونحو ذلك مسافة مائة كيلو، ثم رجعوا بعد انتهاء التدريس وأرادوا أن يجمعوا بين الظهر والعصر -لأنهم إذا دخلوا مكة سيكونون في عناء السفر ومشقة السفر، وقد يصعب عليهم أن يصلوا بعد التعب أو يكون عندهم من الخشوع ما يستحضرون به الصلاة
- فنقول: فيه تفصيل: فإن كان دخولهم إلى مكة بعد دخول وقت الثانية فحينئذ يصح جمعهم؛ لأن العذر استمر إلى دخول وقت الثانية وهم مسافرون، فترخصوا برخصة لوجود موجبها، وأما لو دخلوا قبل أذان العصر فحينئذ لا يعتد بجمعهم، وعليهم أن يصلوا ثم بعد ذلك يرتاحون،
فلو شق عليهم أن ينتظروا الجماعة نقول:
امضوا إلى بيوتكم وصلوا؛ لأن الإنسان إذا شق عليه حضور الجماعة وانتظار ثلث الساعة أو نصفها الذي بين الأذان والإقامة بحيث يشق عليه فحينئذ يجوز له أن يقيم وأن يصلي العصر، ويكون ممن رخص له في الجماعة، كما تقدم معنا في أعذار ترك الجماعة.
الأسئلة
[الجمع الصوري بين الصلاتين]
q هل قال بعض العلماء رحمهم الله بأن حديث ابن عباس محمول على الجمع الصوري؟ وما هو الجمع الصوري وحكمه؟

aحديث ابن عباس حمل على الجمع الصوري عند الجمهور، وهناك من روى الحديث عن ابن عباس فقال: أراد أن يؤخر الظهر إلى قرب وقت العصر فيصلي الظهر فيدخل وقت العصر ويصليها.وهذا أصح الأقوال.والحقيقة أن حديث ابن عباس نفسه في صحيح مسلم يؤكد هذا، فـ ابن عباس كان أميرا على الكوفة، ثم خطب الناس في يوم في الظهر، فكانت خطبته طويلة؛ لأن الخطبة في مصالح المسلمين فيها توجيه ويصعب قطعها، فما زال يخطب، فقام له أعرابي وقال: الصلاة.فسكت عنه ابن عباس واستمر في خطبته، فقام له مرة ثانية وقال: الصلاة.فسكت عنه، فقام المرة الثالثة وقال: الصلاة، فقال له: (أتعلمنا بالصلاة لا أم لك؟! جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير مطر ولا سفر)، فقالوا: إن ابن عباس أخر الظهر إلى آخره، فلما أقام وصلى الظهر دخل وقت العصر فأقام للعصر وصلاها، مع أن الأصل يقتضي أن يصلي الظهر في أول وقتها، فهذا وجه الرفق، وهذا وجه دفع الحرج؛ لأن الناس بدل أن يخرجوا للظهر ويرجعوا إلى بيوتهم، ثم يرجعوا إلى العصر ويرجعوا مرة ثانية إلى بيوتهم سهل عليهم بأن يصلوا الصلاتين بخروج واحد ورجوع واحد، وهذا هو وجه قوله: (أراد أن لا يحرج أمته)؛ لأن الأصل يقتضي أن تصلى الصلاة لوقتها، وهذا في الحقيقة هو أقوى الأقوال وأولاها بالصواب، خاصة وأن من روى عن ابن عباس فسره بذلك وقال: أراه ذلك.وأيضا عندنا قاعدة، وهذه القاعدة تدل عليها السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال للصحابة: (لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة) قالت طائفة: النبي صلى الله عليه وسلم قصد التعجيل، فنبقى على الأصل، فنصلي العصر في وقتها.وقالت طائفة: نبقى على ظاهر اللفظ.فلما علم بالطائفتين أخبر أن الذين صلوا في الوقت أصابوا السنة؛ لأنهم نظروا إلى أن الأصل في الصلاة أن تصلى في وقتها، ونظروا إلى أن الحديث: (لا تصلو العصر إلا في بني قريظة) محتمل بين أن يكون للاستعجال وأن يكون على ظاهره، فردوا الأمر إلى أصله فقال: (أصابت السنة)، فالرجوع إلى الأصل هو إصابة للسنة.فكان عندنا الأصل أن الله تعالى يقول: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} [النساء:103].ولو قلنا بالجمع بدون حاجة فمعنى ذلك أن الظهر والعصر صار وقتهما واحدا، فحينما تجمع لعذر وغير عذر تصير الظهر والعصر بمثابة الصلاة الواحدة، وبناء على ذلك سنلغي الأصل بناء على هذا الحديث، فتلغى نصوص الكتاب، وتلغى أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة، لكن حينما تبقي أحاديث المواقيت على دلالتها وآيات المواقيت على دلالتها وتقول: الجمع في حديث ابن عباس جمع صوري، ومعنى: (أن لا يحرج أمته) على ظاهره تكون جامعا بين النصوص، والجمع بين النصوص أولى من العمل ببعضها وترك الآخر، والنفس تميل إلى هذا.يقول العلماء: لو أن شيخا أو عالما عنده أمر مهم، أو كان الناس عندهم موضوع مهم لا يستطيعون أن يقطعوه، وهم يتشاورون في أمره فلهم أن يؤخروا الصلاة، فيجلسون يتحدثون حتى يقضوا هذا الأمر وينتهوا منه ويفرغوا منه، ثم يقيمون للصلاة الأولى التي هي الظهر، ثم بعد ذلك يقيمون للعصر ويصلونها، وهكذا المغرب والعشاء، وكل ذلك تيسير من الله عز وجل ولطف بعباده.

[العبرة بنية الجمع حال الائتمام]
q إذا دخل الرجل مع إمام يريد أن يجمع ولم يعلم إلا بعد انتهاء الصلاة الأولى، فهل يحق له الجمع ونية الإمام نية النفل، أم لا يحق له ذلك؟

a النية معتبرة بالمأموم، فكل مأموم على حده، فإن نوى صح جمعه عند من يقول باشتراط النية، وإن لم ينو لم يصح جمعه.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #139  
قديم 19-11-2021, 08:59 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي


شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الخوف)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (135)

صـــــ(1) إلى صــ(11)

فصل: صلاة الخوف
من رحمة الله تعالى بعباده وتيسيره عليهم أنه لم يكلفهم بأداء الصلاة كما هي إذا كان في حال خوف وفزع، بل شرع لهم صلاة الخوف المتضمنة للتيسير والتخفيف، ولها عدة صفات كلها جائزة وصحيحة، وسواء كان الخوف خوف قتال، أو خوفا من غيره.
أحكام صلاة الخوف
[سبب مشروعيتها]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: وصلاة الخوف صحت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصفات كلها جائزة].
صلاة الخوف: هي صلاة القتال، وهذه الصلاة شرعها الله في كتابه، وكذلك شرعت بهدي رسوله عليه الصلاة والسلام، وقال بها جماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم، وفعلها النبي صلى الله عليه وسلم في مواضع، حتى ذكر الإمام ابن العربي رحمه الله أن لها ثماني عشرة صفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الذي اشتهر في المرويات -كما أشار إليه الإمام أحمد - سبع صفات وردت عن النبي صلى لله عليه وسلم.
والسبب في صلاة الخوف:
أنه لما التقى النبي صلى الله عليه وسلم بالمشركين وكان المشركون يومها بعسفان -كما في حديث أبي عياش الزرقي -، وأصل الحديث في الصحيح عن جابر رضي الله عنه- وكان على المشركين يومها خالد بن الوليد، فصلى المسلمون صلاة الظهر،
فلم ينتبه المشركون لغفلة المسلمين فقالوا: لقد أصبنا منهم غرة لو أنا قتلناهم،
فقال بعضهم لبعض: انتظروا فإن لهم صلاة هي أحب إليهم من أهليهم وأولادهم.وهذا يدل على ما كان لصلاة العصر من مكانة في قلوب الصحابة رضوان الله عليهم، فأوحى الله إلى نبيه، وشرعت صلاة الخوف.
[صفات صلاة الخوف]
صلاة الخوف على صفات، لكن سنذكر منها المشروع: الصفة الأولى: أن يقسم الإمام الجيش إلى طائفتين،
فيكون الجيش صفين:
الصف الأول يلي الإمام، والثاني من بعده، ويصلون وهم حاملون للسلاح، فتقام الصلاة وكل واحد معه سلاحه الذي لا يزعجه في صلاته، كالسلاح الذي يدفع به العدو ولا يمنعه من الركوع والسجود،
ولا يمنعه من أداء أركان الصلوات:
وقد اختلف العلماء في حكم حملة سلاحه،
فقال بعضهم: يجب عليهم أن يأخذوا السلاح لظاهر قوله سبحانه وتعالى: {وخذوا حذركم} [النساء:102]، فأمر سبحانه وتعالى بأخذ الحذر بأخذ السلاح،
وقال تعالى:
{وليأخذوا أسلحتهم} [النساء:102]، فكونه يأمر بأخذ السلاح يدل على الوجوب؛ لأن الأصل في الأمر أنه للوجوب، وهذا مذهب الظاهرية وطائفة، وهو أقوى القولين، أنهم يأخذون السلاح.فعند انقسام الجيش إلى صفين تقام الصلاة فيصلي الإمام الركعة الأولى، فإذا ركع الإمام ركع معه الصف الأول وبقي الصف الثاني واقفا، ثم بعد أن ينتهي من الركوع يرفع معه الصف الأول ثم يسجد السجدتين الأوليين من الركعة الأولى والصف الثاني قائم، وهذا وجه في هذه الصفة.
الوجه الثاني وهو الأقوى:
أنه يركع الركعة الأولى ويرفع، فإذا رفع الصف الأول ركع الصف الثاني، وينتظر الإمام بعد الركوع بقدر ما يرفع الصف الثاني، ثم بعد ذلك يهوي للسجود الصف الأول ويبقى الصف الثاني في وجه العدو، فإذا سجد الصف الأول مع الإمام السجدتين قام الإمام بهم، فإذا استتم قائما نزل الصف الثاني وسجد السجدتين، ثم بعد انتهائه من السجود يقوم فيتقدم الصف الثاني إلى مكان الصف الأول، ويرجع الصف الأول إلى مكان الصف الثاني، فإذا رجع ركع الصف الثاني معه في نفس الركعة الثانية، وبقي الصف الأول الذي كان أولا وأصبح ثانيا واقفا في وجه العدو، وهذا من باب العدل، فإذا صلى بهم يعدل بين الطائفتين، فلا يفضل إحداهما على الأخرى، فإذا ركع ورفع ركعت الطائفة التي تليها ثم رفعت، ثم ينزل للسجود وهم وقوف، فإذا سجد السجدتين وجلس للتشهد نزلت الطائفة الثانية وسجدت؛ لأنه في التشهد يكون الصف الأول منتبها للعدو، فتسجد الطائفة الثانية ويتشهد بالجميع ويسلم، فهذه الصفة الأولى، وهي التي وردت في حديث عسفان؛ لأنه في عسفان كان المشركون جهة القبلة، فهذه الصفة في حالة أن يكون العدو في جهة القبلة.وهذه الصفة الأولى جاءت في حديث أبي عياش الزرقي، وأصلها في الصحيح.
الصفة الثانية:
وردت في حديث ابن عمر في الصحيحين، وهي مما اتفق عليه البخاري ومسلم، والظاهر -كما يقول جمع من العلماء-: أنها إذا كان العدو في غير القبلة، فلو كان العدو في الظهر والقبلة في الأمام فإنه يقسمهم طائفتين، فيأمر طائفة أن تحرس في وجه العدو، ويأخذ طائفة ويصلي بهم ركعة، فإذا انتهى من الركعة وسجد السجدة الثانية وقام للركعة الثانية انصرفت هذه الطائفة ولم تسلم وكأنها في غير صلاة، فتنصرف وتقف في وجه العدو وهي في صلاة، ويطول الإمام في القراءة حتى تدركه الطائفة الثانية، فتأتي هذه الطائفة الثانية وتكبر تكبيرة الإحرام وتصف معه ويصلي بهم الركعة الأولى، فإذا انتهى الإمام من هذه الركعة وسجد السجدتين فإنها الثانية بالنسبة له، فيجلس للتشهد فتقوم هذه الطائفة الثانية وتنصرف إلى العدو مثل ما انصرفت الطائفة الأولى، ثم يتشهد الإمام لوحده ويسلم، فترجع الطائفة الأولى وتصلي الركعة الثانية قضاء، وتكون صلاتهم فرادى، فكل يصلي لوحده ركعة فيتم صلاته، ثم يتشهدون ويسلمون، ثم يرجعون إلى وجه العدو، فتأتي الطائفة الثانية وتصلي أيضا ركعة كما صلت هذه وينصرفون إلى وجه العدو، فهذه هي الصفة الثانية التي اشتمل عليها حديث عبد الله بن عمر.
الصفة الثالثة: أن يقسمهم الإمام قسمين، فيصلي بالطائفة الأولى ركعتين تامتين ويسلم ويسلمون معه، ثم يقيم مرة ثانية ويصلي بالطائفة الثانية ركعتين ويسلم بهم، وهذه واضحة لا إشكال فيها، وغاية ما فيها أن الإمام يصلي الصلاة الثانية نافلة ومن وراءه مفترضون.الصفة الرابعة: هي مثل الصفة الثالثة، إلا أن الإمام لا يسلم، فيصلي ويتشهد التشهد الأول ويترك الطائفة الأولى تتم التشهد وتسلم وتنصرف وهو في التشهد،
ثم للعلماء وجهان في هذه الصفة: قال بعض العلماء: يثبت في التشهد حتى يحس بالطائفة الثانية، فإذا أحس بالطائفة الثانية يقوم ويكبر، ولا يكبر إلا بعد حضورها.فهذا وجه.
الوجه الثاني:
تبقى معه الطائفة الأولى، فإذا قال: (الله أكبر) قائما للثالثة سلموا وقام هو وقرأ الفاتحة وأطال في ذكر الله عز وجل حتى تأتي الطائفة الثانية، فهذا بالنسبة إذا جمع وصارت له أربع ركعات.
الصفة الخامسة:
هي صفة حديث ابن عباس، وكانت في غزوة ذي قرد، وحديث ابن عباس مشكل عند العلماء، لكن أجاب عنه جمع من الأئمة، فحديث ابن عباس مثل حديث ابن عمر، وهو أنه يصلى بالطائفة الأولى ركعة فتنصرف إلى العدو وتجزيها عن الركعة الثانية، ويصلي بالطائفة الثانية ركعة وتجزيها عن صلاتها كلها، ولكن هذا الوجه ضعيف على الصحيح.
الصفة الأخيرة: أن يصلي بسهم ركعة ثم يتمون بأنفسهم، ثم يصلي الركعة الثانية بالطائفة الثانية وتتم لنفسها فيتشهد بها ويسلم.فهذه ست صفات في صلاة الخوف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الست الصفات قد تصل إلى اثنتي عشرة صفة، فنفس هذه الست تجعلها في صلاة السفر والحضر، ففي السفر يصلي ركعة، وفي الحضر يصلي ركعتين فتصير اثنتي عشرة، صفة، ثم إذا أدخلت صفات المغرب فيها قد تصل إلى ثماني عشرة صورة، فهذا بالنسبة لصلاة الخوف، وهذا أشهر ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة أدائها.
[حكم صلاة الخوف]صلاة الخوف شرعها الله عز وجل في كتابه المبين،
فقال سبحانه وتعالى:
{وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة} [النساء:102]، وهذا يدل على سماحة الإسلام، وعلى حكمة التشريع، وعلى كمال علم الله سبحانه وتعالى ولطفه ورحمته وحلمه بعباده سبحانه وتعالى، فلو أن المسلم كان مطالبا أثناء القتال بفعل الصلاة كما هي لحصل في ذلك من الحرج ما الله به عليم.وهذه الصلاة مشروعة في قول جماهير السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم،
وإنما خالف أبو يوسف رحمه الله وقال:
صلاة الخوف لا تشرع إلا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم؛
لأن الله يقول:
{وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة)) [النساء:102]،
قال:
فهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه قد تطرأ أمور من التشريع في الصلاة ففيه معنى ليس في غيره.

والصحيح أنها تشرع في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وبعد زمانه لقوله تعالى:
{لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب:21]، وكما أن موجب الترخيص موجود في زمان النبي صلى الله عليه وسلم فهو كذلك موجود في غير زمانه عليه الصلاة والسلام، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الصلاة، وأجمع الجماهير على مشروعيتها، وأنه يشرع فعلها على الصفات التي ذكرنا.
تفصيل صفات صلاة الخوف حضرا وسفراصلاة الخوف إما أن يكون العدو في وقتها في وجه القبلة، وإما أن يكون في غير القبلة، وإما أن تكون الصلاة سفرية، وإما أن تكون حضرية، وإما أن تكون الصلاة تقصر، وإما أن تكون الصلاة لا تقصر.فإذا كان العدو في وجه القبلة فإن القول بأنه يقسم الجيش إلى قسمين أو إلى طائفتين أولى وأحرى، فيقسم الإمام الجيش إلى طائفتين، فيصلي بالطائفة الأولى وينزل بهم ويركع ويسجد، ثم بعد ذلك يرتفع، فتنزل الطائفة الثانية وتصلي وتتم على الصفة الأولى التي ذكرناها، وإن شاء في حال وقوفه في وجه العدو -إن رأى أنه الأرفق بهم- صلى لوحده ركعة كاملة، ويثبت عند قيامه للركعة الثانية، فتقوم الطائفة الأولى وتتم لنفسها، ثم بعد ذلك تتشهد وتسلم، وتأتي الطائفة الثانية وتصلي الركعة التي بعدها.
وإذا قلنا:
إنه يصلي بالطائفة الأولى ركعتين ثم يصلي بالطائفة الثانية ركعتين فلا إشكال إذا كانوا في جهة القبلة، وإذا صلى بهم وسلم من الركعتين الأوليين وصلى بعد ذلك الركعتين الأخريين نافلة فلا إشكال.فكونه يصلي بالطائفتين معا، فتسجد معه الطائفة الأولى دون الطائفة الثانية، أو كونه يصلي بهم ركعتين ركعتين سواء أسلم أم لم يسلم، فكل هذه الصور لا إشكال فيها، وهذا إذا كان العدو في جهة القبلة، وهي أيسر الأحوال.وإذا كان العدو في جهة القبلة والصلاة حضرية،
فإنهم قالوا: يفعل مثلما يفعل في السفرية، فإن شاء جعلها رباعية مجزأة، وإن شاء جزأها ركعتين ركعتين، لكن الأولى أن يجزأها على صفة صلاة السفر تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيصلي بهم الركعة الأولى، ثم يركع بالصف الأول ويسجد، ثم يرفع فيسجد الصف الثاني، ثم بعد انتهائه من الركعة الأولى يدخل الصف الثاني مكان الصف الأول ويرجع الصف الأول إلى مكان الصف الثاني، فيتم بهم الركعة الثانية، ويكون قد عدل بين الطائفتين فيتشهد، فينزل الصف الثاني ويسجد ويتشهد معه، ثم يقوم بهم إلى الركعة الثالثة فيتقدم الصف المتأخر مكان المتقدم كالحال في صلاة القصر، ويتم ذلك بنفس الترتيب، لكن بدل أن يفعلها ركعتين يفعلها أربع ركعات على نفس التقسيم ونفس الصورة.وإذا كانت الصلاة حضرية وقلنا إنه لا يسلم،
فإنهم قالوا:
يبقى على صفة الصلاة التي يسلم فيها من أربع ركعات، فيصلي بالطائفة الأولى أربع ركعات، ثم يصلي بالطائفة الثانية أربع ركعات، إعمالا للأصل الموجود في صفة صلاة السفر.وهكذا الحال بالنسبة لما لو كان العدو في غير جهة القبلة، فأقوى الأقوال إذا كان العدو في غير جهة القبلة أنه يقسم الجيش إلى طائفتين، فيبدأ بالطائفة الأولى ويصلي ركعة كاملة، فإذا قام للركعة الثانية وهم وراءه نووا مفارقته كأنهم فرادى، ويتمون لأنفسهم وينصرفون جهة العدو، ويطول الإمام في قراءة الركعة الثانية، فتنصرف الطائفة الأولى بعد انتهاء الركعة التي كانت عليها بمثابة الإتمام إلى وجه العدو، ثم تأتي الطائفة الثانية فتدرك الإمام قد طول في الركعة الثانية وتدخل معه، فإذا انتهى الإمام وركع ورفع وسجد السجدتين يجلس للتشهد، فإذا جلس للتشهد فإن هذه الطائفة تقوم وتتم لنفسها، ويطول الإمام في التشهد، ثم تدركه في التشهد فيتشهد بهم ويسلم، فهذا بالنسبة لما إذا كان العدو في غير وجه القبلة.
[كيفية الصلاة عند هجوم العدو]
المصلون صلاة الخوف في أثناء الصلاة لا يخلون من حالتين:
الحالة الأولى: أن تمضي الأمور على سلم وارتفاق، أي: لا يوجد ما يسوء أو يضر.
الحالة الثانية:
أن يهجم العدو، فإن هجم العدو عليهم وهم في الصلاة فلا يخلو من حالتين: إما أن يكون هجومه يمكن دفعه بالطائفة التي وقفت بإزائه، كأن يكون العدد كافيا لصد العدو، فيبقى الأولون في صلاتهم ولا يشتغلون بالعدو.وإما أن يخشى أو يغلب على الظن أنهم لا يقدرون على العدو فحينئذ ينصرفون من صلاتهم ويقاتلونه.وهم في صلاتهم، فيصلون رجالا وركبانا وهم يضربون بالسلاح،
لقوله تعالى:
{فإن خفتم فرجالا أو ركبانا} [البقرة:239]، فيكبر ويقرأ الفاتحة وهو يضرب العدو، سواء أكان إلى غير القبلة أم إلى القبلة، فهذه رخصة من الله عز وجل وسماحة، وهذا يدل على عظمة هذا الدين، وعلى عظمة أمر الصلاة، فإنهم في حالة الخوف والخشية على الأنفس ومع ذلك فإن الله عظم هذه الشعيرة وأمر أن تؤدى، ولذلك عظم السلف الصالح رحمهم الله الصلاة، وكانوا يستشهدون على تعظيم الله لها بأن الإنسان لا يعذر في تركها حتى في حال المسايفة والمقاتلة.
[كيفية صلاة الخوف في العصر الحديث]
إذا عرفنا صفة صلاة الخوف في القديم، فكيف تصلى صلاة الخوف في العصر الحديث؟ أما صلاة الخوف في العصر الحديث فإن العصر الحديث لا يمكن معه في بعض الأحوال أن يفارق الإنسان موضعه، بل إنه لو كان على بعض الأجهزة وغفل طرفة عين فربما يدخل العدو من هذه الثغرة، فالأمر جد خطير، وقد يكون في آلة لا يستطيع أن يفارقها، وقد يكون في خندق لو رفع رأسه يقتل.فكل إنسان في ثغره وفي موضعه إذا لم يمكنه أن يتحرك بقيام ولا بركوع ولا بسجود، ولم يمكنه أن يؤدي الصلاة على صفتها،
فإنه يصلي على أيسر ما يكون، وعلى أقل ما يستطيع من طاقة، وحينئذ لو كان في خندقه يضرب العدو فإنه يكبر ويركع ويسجد ولو بالذكر، فإذا كان على سلاحه في وجه العدو كأن يكون مراقبا، بحيث لو غفل لحظة ربما هجم العدو، كما هو موجود في بعض الآلات التي ترصد العدو، فلو كان يراقب بهذه الآلة ولا يمكن أن يفارقها في وقت الصلاة، إذ ربما أنه لو غفل عنها لحظة تدمرت أمة كما هو موجود الآن، فيرخص لمثل هذا أن يصلي ولو كانت عينه على الجهاز، ولو كان يضرب، ولو كان يحرك أصابعه، فيذكر الله عز وجل،
فيقول: الله أكبر، ويقرأ: {الحمد لله رب العالمين} [الفاتحة:2]، ويقرأ ذكره وورده على ما هو عليه، ويصلي بالانتقال، كالحال في العاجز عن القيام والركوع والسجود، وذلك متى ما كان الوقت لا يسمح، ولا يمكن لغيره أن يكون في موضعه.وهكذا لو كان داخل الآلات كالدبابات ونحوها فإنه يصلي بداخلها، سواء أكان على قبلة أم على غير القبلة، خاصة في حال الهجوم،
أو حال دفع الهجوم، فإنها -كما يسميها العلماء- حالة المسايفة، وفي حالة المسايفة قرر العلماء رحمهم الله في القديم أنه يصلي على حالته وهو يضرب بالسيف، فلا فرق بين أن يضرب بسيفه، أو برشاشه، أو بمدفعه، أو بقنابله، كل ذلك سائغ؛ لأن المراد المحافظة على النفس والنكاية بالعدو، فيصلي على حالته بشرط أن لا يمكنه إلا ذلك، وبشرط أن يكون وقت الصلاة لا يسع إلا لهذا، أما لو أمكنه أن يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها ثم يصلي على صفتها فيلزمه ذلك ويجب عليه.
[حمل السلاح في صلاة الخوف]
[ويستحب أن يحمل معه في الصلاة من السلاح ما يدفع به عن نفسه ولا يثقله كسيف ونحوه]
.مذهب الجمهور أن حمل السلاح للطائفة الأولى والثانية مستحب.والصحيح والأقوى هو مذهب الظاهرية وطائفة من أهل الحديث ويقول به جمع من الفقهاء، وهو أن حمل السلاح واجب؛ لأن الغالب أن العدو يتربص، والله سبحانه وتعالى نبه على هذا، ولما ورد الأمر بأخذ السلاح وحمل السلاح فالأصل في هذا الأمر أن يبقى على ظاهره حتى يدل الدليل على صرفه عن هذا الظاهر، ولذلك لا بد من حمل السلاح، وحمل أقل ما يدفع به العدو من رشاش، أو نحو ذلك من الأسلحة التي يمكن أن يدفع بها العدو لو هجم عليهم، وهكذا لو كان الموضع الذي يصلي فيه يوضع فيه من الآلات والأجهزة ما يمكن به الدفع عند مباغتة العدو، فبعض الأجهزة الآن لا يمكن حملها على جسد الإنسان، كالرشاش الكبير أو نحو ذلك، فيمكن أن يصلي وهو بجواره، بحيث لو دهم العدو يدفعه،
أما أن يتركه في موضعه ويتباعد عنه فإن هذا يخالف نص القرآن لقوله تعالى: {وخذوا حذركم} [النساء:102]، فليس من الحذر أن يترك الإنسان سلاحه ومع غلبة الظن بأن العدو يتربص،
والله سبحانه وتعالى يقول:
{وخذوا حذركم} [النساء:102]، فليس من الحذر ذلك،
فكونه يأمر بحمل السلاح ثم يقول:
{وخذوا حذركم} [النساء:102]، يدل دلالة واضحة على أن الأمر بحمل السلاح على الوجوب، وهذا من القوة بمكان.
[حكم صلاة الخوف في القتال المحرم، وحكمها لطائفة من الجيش]

ذكر المصنف صلاة الخوف، لكن هذه الصلاة لا تشرع إلا بشرط أن يكون القتال مشروعا، أما لو كان القتال محرما فلا، فإن الرخص لا تستباح بالمحرمات، فلو كان القتال قتال بغي، كأن يخرج إنسان باغ على المسلمين، أو معتد على المسلمين، أو مفارق جماعة المسلمين -والعياذ بالله-، فمثله لا تشرع في حقه صلاة الخوف.ثم إن صلاة الخوف لا يشترط فيها أن يصليها كل الجيش، فلو أن طائفة صلت صحت صلاتهم، ولو أن طائفة من المسلمين نزلوا في موضع وطلبهم عدو فإنهم في حكم الجيش،
فإذا كانوا ستة أنفار فإنه يقسمهم إلى قسمين:
ثلاثة في وجه العدو وثلاثة يصلون معه، ولو كانوا أربعة فإنه يقسمهم، فتكون اثنان في وجه العدو واثنان معه، وقيل: لا يكون المصلون أقل من أربعة،
لقوله تعالى:
{فلتقم طائفة منهم معك} [النساء:102]، ولكن قال بعض العلماء: إن قوله تعالى: {فلتقم طائفة منهم معك} [النساء:102] خرج مخرج الغالب في قتال العدو، وهو أنه لا يكون عددهم أقل من الطائفة، وهي من الثلاثة إلى العشرة.
ولذلك قالوا:
أقل ما تنقسم عليه الصفوف ثلاثة.
وعلى هذا فكأنهم يقولون:
صلاة الخوف لا تشرع لأقل من ستة؛ لأنه لا يمكن قسمهم إلى صفين، ولكن إذا كانوا ثلاثة ثلاثة فيمكن أن يكونوا طائفة مع الإمام.والصحيح أنه يمكن أن تكون صلاة الخوف بناء على وجود الوصف الغالب، والقاعدة أن النص إذا خرج مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه.فذكر الطائفة هنا خرج مخرج الغالب، فلو فرضنا أن سبعة خرجوا في مهمة في أرض العدو ثم حضرتهم الصلاة، فإنه يشرع لهم أن يصلوا صلاة الخوف.ولا يشترط في صلاة الخوف أن يصليها الجيش بعامته، بل لو كان بعض الجيش على ثغر من الثغور وعددهم عشرة أو اثنا عشر، فيمكن أن يصلوا صلاة الخوف بهذه الصفة، فلا يشترط فيها أن يصليها الجيش بكماله.
[حكم صلاة الخوف في غير خوف القتال]
في حكم الخوف في القتال الخوف بغير القتال الذي يكون في الغزوات وغزو الجيوش، فلو كان إنسان مطلوبا من إنسان آخر يريد أن يأخذه، أو أن قوما بغاة أو قطاع طريق هجموا على طائفة من المسلمين، فإن هؤلاء المظلومين من هؤلاء الذين هجموا عليهم يشرع لهم أن يصلوا صلاة الخوف، فلا يشترط أن يكون في جهاد الدفع أو جهاد الطلب، بل حتى إذا خشي الإنسان على نفسه فإنه يصليها.وهنا مسألة، وهي صلاة المطلوب،
ومثالها: طلبك عدوك وأنت على دابتك، فلو نزلت تصلي أدركك العدو وغلب على ظنك أنك تهلك، فهذه المسألة اختلف فيها العلماء.والمطلوب هو الذي طلب بالظلم، أما لو طلب بحق فلا،
فالمطلوب:
هو الذي يخشى على نفسه لو نزل وصلى الصلاة على صفتها في الأرض أن يدرك، فأصح الأقوال في المطلوب أنه يصلي على حالته، فلو كان على سيارة فإنه يصلي ويومئ على قدر ما يستطيع، ولو كان على فرس أو على بعير فإنه يصلي ويومئ على قدر حالته، وهكذا لو فر بقدميه فلو توقف فسيدركه العدو، فإنه يصلي وهو يعدو على حالته، وهكذا لو فر على سيارته،
أو فر على دابته، وهذا كله من رحمة الله عز وجل ولطفه بعباده، فالحمد لله على سعة رحمته، والحمد لله الذي جعل هذا الدين دين تيسير لا دين تعسير، وجعل فيه من الخير والرحمة واليسر على عباده، فالحمد لله على هذا الفضل العظيم.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #140  
قديم 19-11-2021, 09:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي


شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجمعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (136)

صـــــ(1) إلى صــ(16)

باب صلاة الجمعة [1]
يوم الجمعة هو خير أيام الأسبوع، ففيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه تاب الله عليه، وفيه تقوم الساعة، وقد شرع الله صلاة الجمعة وفرضها، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة، وانعقد إجماع العلماء رحمة الله عليهم على وجوبها، وأنها فرض عين على المكلفين بشروطها المعتبرة.
[أحكام صلاة الجمعة]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب صلاة الجمعة].الجمعة: مأخوذة من الاجتماع، وهو ضد الانفراد.وسميت الجمعة جمعة لأجل اجتماع الناس، وذلك أن الناس يجتمعون للخطبة والصلاة، فوصفت هذه الصلاة بهذا الوصف لاشتمالها على اجتماع الناس.
وقيل:
لأن الله عز وجل جمع في هذا اليوم خلق آدم،
كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(فيه خلق آدم).
وقيل: لاجتماع الخلق فيه بخلق آدم.
وقيل: سميت (جمعة) اسما إسلاميا، ولم يكن ذلك معروفا في الجاهلية، وذلك أن هذا اليوم كانوا يسمونه يوم العروبة، ثم إن الإسلام سماه باسم يوم الجمعة وهذا هو الصحيح، فلم يكن اسما جاهليا وإنما سمي في عصر الإسلام.وهذا اليوم هو أفضل أيام الأسبوع، وهو خير أيام الأسبوع، وفيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه تاب الله عز وجل عليه، وفيه أهبط إلى الأرض، وفيه تقوم الساعة، وما من يوم جمعة يصبح العباد فيه إلا وكل دابة مصيخة -أي: مستمعة- تخاف أن تقوم الساعة، ولذلك عظم الله شأن هذا اليوم، وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خير الأيام.
وقد اختلف العلماء في خير الأيام:
فقال بعض أهل العلم: خير الأيام هو يوم الجمعة.
وقال بعض العلماء:
خير الأيام هو يوم عرفة.وهذان قولان مشهوران للعلماء، فمنهم من يقول: يوم الجمعة أفضل من يوم عرفة.
ومنهم من يقول:
يوم عرفة أفضل من يوم الجمعة.
وفائدة هذا الخلاف تظهر فميا لو أن إنسانا قال: لله علي أن أعتق عبدي في أفضل أيامه فمن يقول: إن يوم الجمعة هو أفضل الأيام يقول: إنه يقوم بفعل الطاعة في هذا اليوم ويجزيه،
ومن يقول:
إن يوم عرفة هو أفضل يقول: لا يخرج من نذره ولا تبرأ ذمته إلا بالعتق يوم عرفة.وأصح الأقوال عند المحققين أن التفضيل نسبي، فيكون يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ويوم عرفة أفضل أيام العام، وذلك أن الله اختار فكان الاختيار نسبيا، فإن نظر إلى أيام الأسبوع المتكررة فإن أفضل شيء هو يوم الجمعة، على ظاهر النص الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما بالنسبة إلى العام كله فخيرها وأفضلها يوم عرفة، وهذا التفضيل النسبي فيه جمع بين النصوص، وذلك أن تفضيل كلا اليومين قد خرج من مشكاة واحدة، ولا شك أن الوحي بريء من التعارض، ولذلك يجمع بهذا الجمع، فيقال بتفضيل الجمعة بالنسبة للأسبوع، وبتفضيل يوم عرفة بالنسبة للعام كله.وقد شرع الله الجمعة وفرضها، ودلت الأدلة على هذه الفرضية، كما في دليل الكتاب العزيز والأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانعقد إجماع العلماء رحمة الله عليهم على وجوب الجمعة، وأنها فرض عين على المكلفين بشروطها المعتبرة.
أما دليل الكتاب على وجوبها فقوله سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة:9]، فإن قوله تعالى: (فاسعوا) أمر، والأمر دال على الوجوب، فأمر سبحانه وتعالى بالمضي إلى الجمعة، فدل على لزومها وأنها من فروض الأعيان.كذلك أيضا ثبتت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم التي دلت على وجوبها،
ومن أقوى ما ورد في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح:
(لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليطبعن الله على قلوبهم -وفي رواية: أو ليختمن الله على قلوبهم- ثم ليكونن من الغافلين)، ووجه الدلالة من هذا الحديث الصحيح أنه توعد من ترك الجمعة وتخلف عنها، وهذا يدل على حرمة تركها من غير عذر، وإذا كان تركها من غير عذر حراما، فإن هذا يدل على وجوبها؛ لأن الوعيد إنما يأتي على ترك الواجب أو فعل المحرم.وانعقد الإجماع على وجوب الجمعة ولزومها، وهذا على تفصيل سنذكره، فهناك من تلزمه وهناك من لا تلزمه إذا وجد العذر لسقوط الوجوب عنه.والجمعة يوم فضله الله وشرفه، وقد شرعه الله عز وجل لهذه الأمة، وفضلها وشرفها بدلالتها على هذا اليوم،
كما في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إننا السابقون، وإن أهل الكتاب تبع لنا)، فأضل الله اليهود والنصارى عن هذا اليوم المفضل المكرم المشرف المعظم، وهدى إليه أمة نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فأصبحت بهذه المنزلة العظيمة حيث شرفها الله بهذا اليوم الذي فيه الفضائل العظيمة، حتى ذكر بعض العلماء أن هناك ما يقرب من مائة فضيلة تخص هذا اليوم، فاليهود ضلوا عنه فأصابوا يوم السبت ولم يصيبوا الجمعة، والنصارى ضلوا عنه فأصابوا يوم الأحد،
كما قال عليه الصلاة والسلام: (اليهود غدا والنصارى بعد غد)، وهذا يدل على فضل هذا اليوم، وتفضيل الأمة باختياره لها واختيارها لهذا اليوم، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.فالناس في يوم الجمعة يجتمعون لكي يعرف المسلم إخوانه، وينظر أحوالهم، ويتفقد أمورهم، وقبل ذلك يجتمعون في كل يوم على خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فيجتمعون في أحيائهم، ثم إذا كان يوم الجمعة تداعى الناس من أطراف المدينة، فنظر المسلم إلى إخوانه الذين يعيشون معه في بلدته ومدينته، فإن كان غنيا عطف على الفقراء والضعفاء والمحتاجين وواساهم، وكذلك تنبه لإخوانه المرضى والمنكوبين فزارهم وعادهم،
كما يجتمع الناس يوم الجمعة لكي يشعروا بألفة الإسلام ومودته ومحبته، ويشعر الناس أنهم أمة واحدة بهذا الدين الذي جمع بينهم على اختلاف أحسابهم وأنسابهم وأقطارهم وألوانهم، وكل ذلك من الله سبحانه وتعالى بحكم عظيمة ينبغي للمسلم أن يتنبه لها، فليس هذا الاجتماع يراد به أداء الصلوات مجردة عن هذا الشعور الإسلامي النبيل الذي يحس به المسلم أنه مع أخيه المسلم كالجسد الواحد يشد من أزره ويعضده ويناصره ويؤازره ويتعاون معه على الخير.
[بيان من تجب عليهم صلاة الجمعة]
قال رحمه الله تعالى: [تلزم كل ذكر حر مكلف مسلم].أي: تجب الجمعة على كل ذكر.
وقلنا:
إن اللزوم والوجوب دليله دليل الكتاب والسنة والإجماع.
وقوله:
[ذكر] خرج به الأنثى، فالجمعة لا تلزم الأنثى، إذ قد أجمع العلماء رحمة الله عليهم على أن المرأة لا تجب عليها الجمعة، ولكن لو حضرت المرأة الجمعة فإنها تصح منها ولذلك تعتبر النساء من الطائفة الذين لا تلزمهم الجمعة، ولكن إذا حضرنها صحت منهن،
ولذلك قالوا:
إن النساء لا تلزمهن الجمعة ولا الجماعات، فلا تلزمهن الصلوات الخمس جماعة، وكذلك لا تلزمهن الجمعة.
وقوله: [حر].خرج به العبد، فالعبد لا تلزمه الجمعة في قول جمهور العلماء رحمة الله عليهم، وخالف داود الظاهري فقال بوجوبها ولزومها على العبد، ووافقه الإمام أحمد في رواية،
وقالا: إن العبد يجب عليه أن يشهد الجمعة؛ لأنها فرض عيني فاستوى هو والحر.وقد جاء في سقوط الجمعة عن العبد حديث عن طارق بن شهاب، وهذا الحديث تكلم العلماء رحمهم الله على سنده؛ لأن طارقا لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه بعض الرواة تكلم فيهم، وتسامح بعض أهل العلم رحمة الله عليهم فيه؛ لأنه وإن كان طارق لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه صحابي؛ لأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه، فهو صحابي، ويكون حديثه أشبه ما يكون بمرسل الصحابي، وقد دل هذا الحديث على سقوط الجمعة عن العبد والمريض والمسافر والمرأة،
فقالوا:
إن العبد لا تجب عليه الجمعة؛ لأنه مشغول بخدمة سيده، والله أمره بأن يكون في خدمة سيده، فلذلك لا تجب عليه الجمعة.والقول بوجوبها على العموم من القوة بمكان، إلا إذا وجد ما يشهد للحديث بالصحة فلا إشكال.
قوله: [مكلف].التكليف شرطه البلوغ والعقل، فلا نقول للصبي صل الجمعة على سبيل الإلزام، فلا تلزمه الجمعة ولا تنعقد به، والمجنون لا تلزمه ولا تنعقد به ولا تصح منه، وسنبين معنى الانعقاد.وأما بالنسبة للصبي فإنها لا تنعقد به ولا تلزمه، ولكن تصح منه إن فعلها،
وهذا إذا كان مميزا لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام:
(مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر)، فدل على أن الصبي لو صلى صحت صلاته وكانت معتبرة، ولكن لا تجب عليه.فالتكليف شرطه البلوغ والعقل، فالمجانين لا يطالبون بشهود الجمعة، وكذلك الصبيان، ولكن يؤمر الصبيان في قول بعض العلماء بشهود يوم الجمعة أمر تعليم وإرشاد،
وهو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نأمر الصبيان بالصلاة، ولم يفرق بين الجمعة وغيرها، فلذلك يأمر الوالد ولده إذا بلغ سبع سنين أن يشهد الجمعة ولا يلزمه بها، ثم إذا بلغ العاشرة فإنه يضربه إن تخلف عنها.والتكليف -كما قلنا- شرطه البلوغ والعقل، ولا يحصل التكليف باختلال أحد الشرطين،
وقد نظمها من قال:
وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل أو بمني أو بإنبات الشعر أو بثمانية عشر حولا ظهر فقوله: مع البلوغ بدم أو حمل أي: علامة البلوغ دم المرأة إذا حاضت، والحمل يعتبر دليلا على كونها بالغة.
وقوله: أو بمن أراد به الاحتلام لظاهر حديث علي رضي الله عنه.
وقوله: (أو بإنبات الشعر).أي: يعتبر البلوغ: بإنبات الشعر كذلك، وأصح الأقوال أن الإنبات يعتبر دليلا على البلوغ،
أي:
ظهور شعر العارضين، وشعر العانة، وشعر الإبط على خلاف فيه.
وقوله: أو بثمانية عشر حولا ظهر الصحيح أن سن البلوغ خمسة عشر، وثمانية عشر هو مذهب المالكية والحنفية في الذكور، وسبعة عشر في الإناث، وأما عند الشافعية والحنابلة فخمسة عشر، وهو الصحيح لحديث ابن عمر.والحاصل أن الإنسان غير مكلف ومأمور بالجمعة أمر إلزام من جهة التكليف إلا إذا كان بالغا عاقلا،
فلما قال:
(مكلف) أشار إلى هذين الشرطين.وقوله: [مسلم].خرج به الكافر، والكافر مختلف فيه، فمن يقول: إنه غير مخاطب بفروع الإسلام يقول: لا تلزمه حتى يسلم.
ومن يقول:
إنه مخاطب بفروع الإسلام يرى أن الكافر ممن تلزمه الجمعة ولا تصح منه.
قوله: [مستوطن ببناء اسمه واحد ولو تفرق].أي: تلزمه الجمعة إذا كان مستوطنا ببناء، والسبب في ذلك أن الأصل في المكلف أن يصلي صلاة الظهر، فإذا انتقل عن هذا الأصل إلى صلاة الجمعة ركعتين فكأننا بالجمعة نسقط عنه التكليف بالركعتين الأخريين، فلا نسقطها إلا على الصفة التي وردت عليها الجمعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يثبت في دليل أن الجمعة يصليها غير المستوطن، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سافر وزال عنه وصف الإقامة والاستيطان لم يجمع صلوات الله وسلامه عليه، فدل هذا على أن الاستيطان شرط، وهناك أحاديث ضعيفة في اشتراط الاستيطان في الجامع، والصحيح أن هذا الاستيطان منتزع من صورة الأصل،
ولذلك يقولون: لا تصح الجمعة لغير المستوطنين.وبناء عليه فأهل البادية الذين يرحلون للمرعى، والذين إذا نزل المطر في موضع ينتقلون إليه ولا يثبتون في مكان، بل ينتقلون على حسب المراعي لا تجب عليهم الجمعة، ولا نلزمهم بها؛ لأنهم غير مستوطنين في موضعهم، ولو استوطنوا صيفا فإنهم يرتحلون شتاء، ولو استوطنوا شتاء فإنهم يرتحلون صيفا، ولو استوطنوا ربيعا فإنهم يرتحلون في الخريف، وهكذا، فليسوا بمستوطنين، والاستيطان -كما ذكر المصنف- إنما يعتبر إذا كان ببناء وكانت فيه الجوامع، كالمدن والقرى العامرة، فهذا لا إشكال فيه، أما لو كانوا غير مستوطنين كأهل العمود والخيام فإنه لا يحكم بوجوب الجمعة عليهم، ولذلك لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كانوا في البادية أن يجمعوا، فدل على أن الجمعة إنما تكون لأهل الجوامع والأمصار والمدن والقرى ونحوها.
قوله: [اسمه واحد ولو تفرق].أي: يكون هذا البناء اسمه واحد ولو تفرقت بيوت أهله، فبعض المدن تكون فيها المحلات وقد تتباين وتتباعد، لكنها في حكم المدينة الواحدة واسمها واحد، ولو تفرق البنيان بأن تكون في منطقة خمسة بيوت، وفي أخرى خمسة بيوت، وخمسة بيوت في منطقة أخرى، ونحو ذلك لكنها في حكم المدينة الواحدة، فإنهم يعتبرون كالمستوطنين في الجامع، وتجب عليهم الجمعة.
قوله:
[ليس بينه وبين المسجد أكثر من فرسخ].أي: من شروط إلزام المكلف بالجمعة ألا يكون بين المكلف وبين المسجد الذي فيه الجمعة أكثر من فرسخ، والسبب في ذلك أن الجمعة إنما تجب بسماع النداء، والنداء يسمع في حدود فرسخ إذا كان في زمن ليس بشديد الحر،
ولا تتحرك فيه الرياح كالحال في الفجر.ويقوي هذا ما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد شهد الصحابة الجمعة مع النبي صلى الله عليه وسلم من قباء، وكذلك من ضواحي المدينة كالعوالي، وهي تبعد عن المدينة ثلاثة أميال أو أربعة، على حسب قرب المزارع ودنوها من المدينة، فهي في حدود الفرسخ، والفرسخ، ثلاثة أميال،
كما قيل:
إن البريد من الفراسخ أربع ولفرسخ فثلاثة أميال ضعوا فالفرسخ ثلاثة أميال، وهذا القدر إنما هو نسبي تقريبي، فمن كان في هذه المسافة فإنه يسمع النداء وتلزمه،
وبناء على ذلك قالوا:
إذا كان بعيدا عن المصر أو عن الجامع بهذا القدر يلزمه أن يصلي الجمعة، أما لو كان -مثلا- على بعد سبعة كيلو مترات فما فوق فإن هذا لا تجب عليه الجمعة، ولكن يصلي ظهرا،
فإن نزل وجمع فلا حرج فمثل هذا يقال فيه:
لا تلزمه، وإن حضرها صحت وانعقدت به، فهو على غير المسألة المعتبرة.لكن بالنسبة للذين هم داخل المدن ولو كانوا على بعد عشرين كيلو مترا فإنه تلزمهم الجمعة، فلو كانت المدينة طولها -مثلا- أربعون كيلو مترا وكان بعدهم عن وسط المدينة الذي يكون فيه المسجد قرابة عشرين كيلو مترا، فإنه تلزمهم الجمعة؛ لأنهم في حكم البلد الواحد، وبناء على ذلك يلزم القريب والبعيد داخل المدينة أن يصلي الجمعة،
ولا يقال: إن من كان على بعد أحد عشر كيلو مترا من وسط المدينة لا تلزمه الجمعة.
بل نقول: إن من كان على حدود المدينة يلزمه أن يجمع مع أهلها.
[بيان من لا تجب عليهم صلاة الجمعة]
قال رحمه الله تعالى:
[ولا تجب على مسافر سفر قصر ولا على عبد وامرأة].أي: لا يلزم الإنسان إذا كان في السفر أن يصلي الجمعة، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل الجمعة في السفر، ولم يثبت عنه في أي سفر من أسفاره أنه جمع، ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أن المسافر لا تلزمه الجمعة، ويؤكد ذلك فعله صلى الله عليه وسلم في يوم عرفة، فإنه خطب الناس خطبة حجة الوداع، وقد كان بالإمكان أن يصليها جمعة، وقد كان أهل مكة معه عليه الصلاة والسلام ومع ذلك لم يصل بهم جمعة.ومن البدع والغرائب التي يقع فيها من لا ينتبه لهذه الأحكام الشرعية أنه ربما يخرج بعضهم إلى رحلة مبتعدين عن المدينة مسافة قصر ثم يصلون جمعة، وقد يمكثون شهرا أو أسبوعين أو ثلاثة،
فجمعتهم باطلة وتلزمهم إعادتها ظهرا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع الناس في السفر، وقد سافر صلوات الله وسلامه عليه ولم يثبت عنه حديث صحيح أنه صلى الجمعة في السفر، وأجمع العلماء رحمهم الله على أنه لا جمعة على المسافر إذا كان في حال السفر.أما لو دخل المسافر المدينة، كرجل من أهل المدينة قدم إلى مكة يوم الجمعة،
فقد اختلف في هذا العلماء:
فمنهم من قال: يلزمه أن يصلي معهم الجمعة.
ومنهم من قال: لا يلزمه، على الخلاف الذي ذكرناه في الجماعة.وقد استدل العلماء بحديث طارق بن شهاب في ذكره للأربعة الذين لا تجب عليهم الجمعة حين ذكر منهم المسافر، فقالوا: إن المسافر لا تلزمه الجمعة.
قوله: [ولا على عبد].أي أن العبد لا تلزمه الجمعة، فالمصنف شرع في ذكر عكس الشروط المتقدمة للايجاب من قوله: [ولا تجب على مسافر.]؛ فلما ذكر لنا أنها تلزم الحر ذكر هنا أنها لا تلزم العبد، فهو عكس ما ذكرناه من الشروط.
قوله:
[وامرأة].أي: لا تجب الجمعة على النساء لما ذكرناه.
قال رحمه الله تعالى:
[ومن حضرها منهم أجزأته ولم تنعقد به].أي: من حضرها من العبيد ومن النساء؛ لأنهم ليسوا من أهل الجمعة.
قوله:
[ولم تنعقد به].مسألة الانعقاد ترجع إلى اشتراط عدد المصلين للجمعة، فمذهب الجماهير أنه يشترط لها عدد معين،
ثم اختلفوا في هذا العدد:
فقال بعضهم: أربعون.
وقال بعضهم: اثنا عشر.
وقال بعضهم:
أربعة.
وقال بعضهم: اثنان.فهذه مشهورات الأقوال في هذه المسألة،
فلو قلنا:
إن العدد يشترط فيه أن يكون أربعين، فإنه إذا حضر تسعة وثلاثون من الرجال البالغين العاقلين وحضرت امرأة، لا تنعقد الجمعة، وكذلك لو حضر عبد على هذا القول الذي ذكرناه، لكن الصحيح أن العبد يلزم بالجمعة وتنعقد به، فلو حضر تسعة وثلاثون وعبد فإنه انعقدت به الجمعة.
قال رحمه الله تعالى:
[ولم يصح أن يؤم فيها].أي: أن امرأة حضرت فلا تصلي ولا تجمع بغيرها ولو بنساء، وكذلك العبد، فإنه لا يجمع بالأحرار في قول طائفة من أهل العلم رحمهم الله، واختاره المصنف.وذهب طائفة من العلماء رحمة الله عليهم إلى أن العبد تصح إمامته في الجمعة.وقد قررنا أن العبد تصح جمعته ويلزم بها، وعلى ذلك فأنه لو صلى بهم صحت إمامته واعتد بتلك الجمعة وكانت مجزئة.
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 375.34 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 369.24 كيلو بايت... تم توفير 6.10 كيلو بايت...بمعدل (1.63%)]