الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال - الصفحة 3 - ملتقى الشفاء الإسلامي

اخر عشرة مواضيع :         انشودة يا أهل غزة كبروا لفريق الوعد (اخر مشاركة : أبـو آيـــه - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4421 - عددالزوار : 858980 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3953 - عددالزوار : 393349 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12535 - عددالزوار : 215672 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 67 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 52 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 52 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 55 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 51 )           »          اضطراباتي النفسية دمرتني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 52 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #21  
قديم 29-03-2024, 12:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (21)




قصة بناء الكعبة (19)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
الفائدة الحادية عشرة:
قول ابن عباس -رضي الله عنهما- في الحديث: "قال النبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلم-: (يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْماعِيلَ، لو تَرَكَتْ زَمْزَمَ -أَوْ قالَ: لو لَمْ تَغْرِفْ مِنَ الماءِ- لَكانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِيْنًا).
قال ابن الجوزي: "كان ظهور زمزم نعمة من الله محضة بغير عمل عامل، فلما خالطها تحويط هاجر داخلها كسب البشر؛ فقُصِرَت على ذلك".
فسبحان الله! كم كان أثر التوكل والافتقار إلى الله وحده عظيمًا! فحدثت النعمة الواسعة، وكم كان كسب البشر وحرصهم وقلقهم على المستقبل وتفكيرهم في الأسباب سببًا لِقَصْرِ النعمة على ما ظنوه وأرادوه!
وفي الرواية: "فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ" أي: تجعله مثل الحوض، وفي رواية: "تَحْفُر"، وفي حديث علي: "فَجَعَلَتْ تَحْبِسُ الماءَ، فَقَال: دَعِيْهِ، فَإِنَّهُ رُوَاء"، وفي هذا الحديث: (لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ زَمْزَم)؛ هذا كله دليل على أن حرصها وادخارها الماء في السقاء، وتحويطها في الحوض قلَّل مِن فوران الماء، ولو لم تفعل لكانت زمزم عينًا ظاهرة جارية على وجه الأرض، لا تحتاج إلى سقي بالدلاء والآلات.
فسبحان الله! كان يمكن أن تكون زمزم نهرًا جاريًا لولا الحرص.
هل أكل آدم من الشجرة إلا من أجل الحرص على الخلود والبقاء، قال الله -تعالى-: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى) (طه:120)، وفي الآية الأخرى قال -سبحانه-: (وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) (الأعراف:20).
وفي الحديث الصحيح قال الله -عز وجل- للنبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ) (متفق عليه)، وفي الحديث الآخر: (أَنْفِقْ بِلَالًا، ولا تَخْشَ مِن ذِي العَرْشِ إِقْلَالًا) (أخرجه البزار في مسنده، وصححه الألباني)، وفي حديث عائشة -رضي الله عنها- في الصحيح: "لقَدْ تُوُفِّيَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وما في رَفِّي مِن شيءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ، إلّا شَطْرُ شَعِيرٍ في رَفٍّ لِي، فأكَلْتُ منه، حتّى طالَ عَلَيَّ، فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ" (متفق عليه).
الفائدة الثانية عشرة:
قوله في الحديث: "فَقالَ لَهَا المَلَكُ: لا تَخَافُوا الضَّيْعَةَ؛ فإنَّ هَاهُنَا بَيْتَ اللَّهِ، يَبْنِي هذا الغُلَامُ وأَبُوهُ، وإنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَهْلَهُ": فيه أن الله لا يضيع مَن أطاعه وسعى إلى تعبيد الناس لربهم، فطاعة الله لا تأتي إلا بالخير، ومعصية الله لا تأتي إلا بالشر، والله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين، فيا عباد الله المؤمنين، ويا أيها الدعاة، لا تخافوا الضيعة من طاعتكم لله ودعوتكم الناس إلى عبادة الله، فمهما ضاقت عليكم السبل، ومهما انفردتم في طريقكم واغتربتم في الناس، وابتعد الناس عنكم فاعلموا أن الله لا يضيعكم، ويا مَن تُعَمِّرون بيوت الله أبشروا، فإن الله لا يضيع مَن عمَّر بيوته وإن سعى مَن سعى مِن الناس إلى تضيعيهم فلن يضيعوا.
الفائدة الثالثة عشرة:
قوله في الحديث: "وكانَ البَيْتُ مُرْتَفِعًا مِنَ الأرْضِ كَالرَّابِيَةِ، تَأْتِيهِ السُّيُولُ، فَتَأْخُذُ عن يَمِينِهِ وشِمَالِهِ، فَكَانَتْ كَذلكَ حتَّى مَرَّتْ بهِمْ رُفْقَةٌ مِن جُرْهُمَ -أَوْ أَهْلُ بَيْتٍ مِن جُرْهُمَ- مُقْبِلِينَ مِن طَرِيقِ كَدَاءٍ، فَنَزَلُوا في أَسْفَلِ مَكَّةَ، فَرَأَوْا طَائِرًا عَائِفًا، فَقالوا: إنَّ هذا الطَّائِرَ لَيَدُورُ علَى مَاءٍ، لَعَهْدُنَا بهذا الوَادِي وما فيه مَاءٌ، فأرْسَلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ فَإِذَا هُمْ بالمَاءِ، فَرَجَعُوا فأخْبَرُوهُمْ بالمَاءِ، فأقْبَلُوا، قالَ: وأُمُّ إسْمَاعِيلَ عِنْدَ المَاءِ، فَقالوا: أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ فَقالَتْ: نَعَمْ، ولَكِنْ لا حَقَّ لَكُمْ في المَاءِ، قالوا: نَعَمْ. قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: قالَ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: (فألْفَى ذلكَ أُمَّ إسْمَاعِيلَ وهي تُحِبُّ الإنْسَ، فَنَزَلُوا وأَرْسَلُوا إلى أَهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا معهُمْ، حتَّى إذَا كانَ بهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ منهمْ)".
في هذا الجزء من الحديث تدبير الله لأم إسماعيل وولدها؛ بل لأهل الإسلام عبر الزمان، وتيسير مرور الرفقة من جُرهم لبداية تكوين البلدة مكة المكرمة وتعميرها؛ بأن سخَّر الله -سبحانه وتعالى- الطيور التي تحوم حول الماء، وسخَّر -سبحانه- مرور طائفة من العرب الرُّحَّل في ذات المكان وذات التوقيت، وهم من قوم من أحسن الناس خُلُقًا، وأكرمهم سجية، فاستأذنوا على أم إسماعيل ولم يغلبوها على الماء؛ رغم أنها قالت: لا حق لكم في الماء، وهي امرأة ضعيفة وحيدة غريبة، لا أحد معها من أهلها، ومع ذلك فقبلوا ذلك بكل يسر وسهولة، ولم يعتدوا عليها كالجبابرة الذين يأخذون من الناس حقوقهم ويستعبدونهم لمجرد أنهم أقوى منهم، فسبحان الله! كم كان في الأرض في ذلك الوقت وقبلها وبعدها جماعات من الناس جبارين؛ كمسلك قوم عاد الذين قال لهم هود -عليه السلام-: (وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) (الشعراء:130)، وكالملك الجبار في مصر الذي أراد أخذ سارة من إبراهيم؛ فحفظها الله وكفَّ يده وأخدمها هاجر.
فقد كان من الممكن أن يمر بهاجر -وهي وحدها، وطفلها رضيع- قوم جبارون أو قوم قساة؛ خصوصًا أن الطبيعة الصحراوية تجعل القسوة غالبة على القبائل التي تعيش فيها، ومع ذلك فقد استجاب الله دعوة إبراهيم، ومِن تمام هذه الدعوة بجعل الأفئدة تهوي إليهم أن جاء هؤلاء القوم الصالحون، الذين أحبوا إسماعيل وقدَّروا أمه وعظموها، واستجابوا بعد ذلك لدعوة إسماعيل -عليه السلام- كما سيأتي في الحديث، وبقيت عشرة قرون منهم على التوحيد قبل أن يحدث الشرك.
وفي قول النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أم إسماعيل: (فألْفَى ذلكَ أُمَّ إسْمَاعِيلَ وهي تُحِبُّ الإنْسَ) تأكيد وتصريح بطبيعة هاجر -رضي الله عنها- من حبها الأنس بالناس وكراهية الوحدة والانفراد، كما قالت لإبراهيم حين تركها في مكة أول ما أتى: "إِلَى مَن تَتْرُكُنَا في هَذَا الوَادِي الذي لَيْسَ بِهِ أَنِيسٌ ولا شَيءٌ؟!"، فهي بحثت أولًا عن الأنس، ثم ذكرت الأشياء التي تفتقدها في هذا المكان، فلما رزقها الله -عز وجل- زمزم طعام طعم وشراب سقم، بقيت الوحشة والغربة، فرزقها الله -عز وجل- هذه الرفقة الطيبة التي كانت علاجًا لوحشتها، وكانت سدادًا لفقرها إلى الأنيس، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وهي تُحِبُّ الإنْسَ"، وكأنها طبيعة لعامة المصريين يحبون الأنس والاجتماع والصحبة، ويكرهون الانفراد والخلوة.
وفي رفع هذا الجزء من الحديث والذي قبله مِن قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إسْمَاعِيلَ، لو تَرَكَتْ زَمْزَمَ لَكَانَتْ عَيْنًا مَعِينًا) دليل على رفع الحديث كله؛ فإنه لا يُقَال مِن قِبَل الرأي، ولا هو مِن أخبار بني إسرائيل، فدلَّ ذلك على أن الحديث كله مرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.
الفائدة الرابعة عشرة:
قوله في الحديث: "وشَبَّ الغُلَامُ وتَعَلَّمَ العَرَبِيَّةَ منهمْ، وأَنْفَسَهُمْ وأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ": قَدَّر الله -سبحانه وتعالى- بقاء هذه الأمة العربية واللغة العربية، وكم كان مِن الشعوب والأمم واللغات في ذلك الزمن البعيد قد بادت! وبعضها لم يكن عنده من أسباب السيادة، ومع ذلك بادوا بعد أن سادوا، أما العرب فلم يكن عندهم من أسباب السيادة والقوة والملك والدولة، ومع ذلك فقدَّر الله بقاءهم وهم باقون -بحمد الله تبارك وتعالى- إلى اليوم، ومنزلتهم في الأمم ببركة نشأة إسماعيل -عليه السلام- فيهم، وهو لم يكن عربيًّا؛ فأبوه إبراهيم -عليه السلام- من أرض كنعان -أو من حوران على ما يذكرون-، وأمه مصرية هاجر -رضي الله عنها-، ولكن كما قالوا: العربية اللسان، وإسماعيل أبو العرب المستعربة؛ لأن العرب العاربة هم الذين كان منهم هذه القبيلة، ولم يبقَ منهم مَن يذكر، وإنما دخلت العرب العاربة في المستعربة في نسل إسماعيل، وإنما بقاء الأمم وبقاء الشعوب واللغات بانتسابهم إلى الأنبياء، وحفاظهم على هذه النسبة الشريفة الكريمة.
ثم كان بعد ذلك ورود القرآن -نعمة الله عز وجل العظمى على البشرية كلها وعلى العرب خصوصًا- باللغة العربية، بلسان عربي مبين؛ أعظم الأسباب على الإطلاق في بقاء هذه الأمة وهذه اللغة العربية.
فاللهم لك الحمد كما تقول، وخير مما نقول، لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، يدبر الأمر -سبحانه وتعالى- بما يشاء، وكيف يشاء، فاللهم لك الحمد.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #22  
قديم 30-03-2024, 11:57 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (22)




قصة بناء الكعبة (20)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
الفائدة الخامسة عشرة:
قوله في الحديث: "حتَّى إذَا كانَ بهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ منهمْ، وشَبَّ الغُلَامُ وتَعَلَّمَ العَرَبِيَّةَ منهمْ، وأَنْفَسَهُمْ وأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ": فيه ما جعل الله عليه الأنبياء قبل بعثتهم مِن القبول في الناس والمحبة لهم، فإن قوله: "أَنْفَسَهُمْ" معناه: رغبهم فيه؛ فكان نفيسًا عندهم، فقدَّر الله -عز وجل- لإسماعيل قبولًا في هؤلاء العرب؛ وذلك تمهيدًا لقبول دعوته -عليه الصلاة والسلام-، وظهور منزلته فيهم؛ حتى نشأت الأجيال المتتابعة من العرب -أبناء إسماعيل- على الإسلام كما وصف الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا . وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) (مريم:54-55).
الفائدة السادسة عشرة:
قوله: "فَلَمَّا أَدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأَةً منهمْ، ومَاتَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ، فَجَاءَ إبْرَاهِيمُ بَعْدَ ما تَزَوَّجَ إسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ، فَلَمْ يَجِدْ إسْمَاعِيلَ، فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عنْه، فَقالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، ثُمَّ سَأَلَهَا عن عَيْشِهِمْ وهَيْئَتِهِمْ، فَقالَتْ: نَحْنُ بِشَرٍّ، نَحْنُ في ضِيقٍ وشِدَّةٍ، فَشَكَتْ إلَيْهِ، قالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عليه السَّلَامَ، وقُولِي له: يُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ".
قال ابن حجر -رحمه الله-: "في رِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ: "فَقَدِمَ إِبْرَاهِيمُ وَقَدْ مَاتَتْ هَاجَرُ" قَوْلُهُ: "يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ" أَيْ: يَتَفَقَّدُ حَالَ مَا تَرَكَهُ هُنَاكَ. قَالَ ابن التِّينِ: هَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الذَّبِيحَ إِسْحَاقُ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِذَبْحِهِ كَانَ عِنْدَمَا بَلَغَ السَّعْيَ، وَقَدْ قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ تَرَكَ إِسْمَاعِيلَ رَضِيعًا، وَعَادَ إِلَيْهِ وَهُوَ مُتَزَوِّجٌ، فَلَوْ كَانَ هُوَ الْمَأْمُورُ بِذَبْحِهِ لَذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَادَ إِلَيْهِ فِي خِلَالِ ذَلِكَ بَيْنَ زَمَانِ الرَّضَاعِ وَالتَّزْوِيجِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ نَفْيُ هَذَا الْمَجِيءِ؛ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَاءَ وَأُمِرَ بِالذَّبْحِ وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْحَدِيثِ.
قُلْتُ -أي: ابن حجر-: وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ مَجِيئِهِ بَيْنَ الزَّمَانَيْنِ فِي خَبَرٍ آخَرَ؛ فَفِي حَدِيثِ أَبِي جَهْمٍ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَزُورُ هَاجَرَ كُلَّ شَهْرٍ عَلَى الْبُرَاقِ؛ يَغْدُو غَدْوَةً فَيَأْتِي مَكَّةَ، ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَقِيلُ فِي مَنْزِلِهِ بِالشَّامِ.
وَرَوَى الْفَاكِهِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ -بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ- نَحْوَهُ، وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَزُورُ إِسْمَاعِيلَ وَأُمَّهُ عَلَى الْبُرَاقِ؛ فَعَلَى هَذَا فَقَوله: "فجَاء إِبْرَاهِيمُ بعد مَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ"؛ أَيْ: بَعْدَ مَجِيئِهِ قَبْلَ ذَلِكَ مِرَارًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ" (انتهى كلام ابن حجر -رحمه الله-).
قلتُ: والصحيح أن الذبيح إسماعيل، وعلى هذا جمهور العلماء، وإن كانت المسألة اجتهادية؛ إلا أن الأدلة ظاهرة في أن إبراهيم أُمِر بذبح ولده الوحيد، كما ورد ذلك في التوراة: "اذبح ابنك بكرك"، وإسماعيل هو البكر باتفاق المسلمين وأهل الكتاب، وفي القرآن قال الله -تعالى- في سورة "ص": (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ . وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ . سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ . كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ . وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (ص:107-112)، فكان التبشير بإسحاق مجازة له على امتثال الأمر بذبح إسماعيل -عليه السلام-، والصحيح: أنه قد وقع الأمر بالذبح قبل هذه الزيارة، وقصة الذبح كانت قبل أن يأتي، وقد تزوَّج إسماعيل وقد ماتت هاجر -عليها السلام-.
قال ابن حجر -رحمه الله-: "قَوْلُهُ: "فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا" أَيْ: يَطْلُبَ لَنَا الرِّزْقَ، وَفِي رِوَايَةِ ابن جُرَيْجٍ: "وَكَانَ عَيْشُ إِسْمَاعِيلَ الصَّيْدَ يَخْرُجُ فَيَتَصَيَّدُ"، وَفِي حَدِيثِ أَبِي جَهْمٍ: "وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ يَرْعَى مَاشِيَتَهُ وَيَخْرُجُ مُتَنَكِّبًا قَوْسَهُ فَيَرْمِي الصَّيْدَ"، وَفِي حَدِيث ابن إِسْحَاقَ "وَكَانَتْ مَسَارِحُهُ الَّتِي يَرْعَى فِيهَا السِّدْرَةَ إِلَى السِّرِّ مِنْ نَوَاحِي مَكَّةَ".
وقَوْلُهُ: "ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ" زَادَ فِي رِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ: "وَقَالَ: هَلْ عِنْدَكِ ضِيَافَةٌ؟". قَوْلُهُ: "فَقَالَتْ: نَحْنُ بِشَرٍّ، نَحْنُ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ، فَشَكَتْ إِلَيْهِ"، فِي حَدِيثِ أَبِي جَهْمٍ: "فَقَالَ لَهَا: هَل مِن مَنْزِلٍ؟ قَالَت: لَا هَا اللَّهِ إِذَنْ، قَالَ: فَكَيْفَ عَيْشُكُمْ؟ قَالَ: فَذَكَرَتْ جَهْدًا، فَقَالَتْ: أَمَّا الطَّعَامُ فَلَا طَعَامَ، وَأَمَّا الشَّاءُ فَلَا تُحْلَبُ إِلَّا الْمَصْرَ -أَيِ: الشَّخْبَ- وَأَمَّا الْمَاءُ فَعَلَى مَا تَرَى مِنَ الْغِلَظِ". وَالشَّخْبُ السَّيَلَانُ" (انتهى كلام ابن حجر -رحمه الله-).
في هذا الجزء من القصة بيان صفات المرأة التي لا يصلح الاستمرار في معاشرتها، وهي غير الشاكرة، الساخطة على العيش، فعيش إسماعيل -عليه السلام- لم يتغير بين المرأة الأولى والثانية؛ فكلتاهما كانتا سواء، لكن واحدة تذكر سوء الحال وتأبى أن تضيف مَن نزل بها، وتتسخط على ما عندها من الطعام، حتى تقول: لا طعام، وما عندها من الشراب تصفه بالغِلَظ! فالمرأة التي لا تشكر، والتي لا تحترم الكبير، ولا تحسن إلى ضيوف أزواجها، وترى دائمًا أنها في شرِّ حالٍ، وفي ضيقٍ وشدةٍ لا تشكر نعمة الله، ولا ترى ما عندها من النعم؛ لا تستحق المعاشرة؛ ولهذا أمر إبراهيمُ -عليه السلام- ابنه إسماعيلَ بطلاقها؛ ولكن بالكناية التي لم تفهمها المرأة ولم تعيها، ولكن وعاها إسماعيل -عليه الصلاة والسلام-.
والجمع بين العتبة والمرأة في أنها كناية عن المرأة؛ لما فيها مِن الصفات الموافقة لها، وهو حفظ الباب وصون ما بداخله، وكونها محلًا للوطء (أفاده ابن حجر -رحمه الله- في فتح الباري).
الفائدة السابعة عشرة:
قوله في الحديث: "فَلَمَّا جَاءَ إسْمَاعِيلُ كَأنَّهُ آنَسَ شيئًا، فَقالَ: هلْ جَاءَكُمْ مِن أَحَدٍ؟ قالَتْ: نَعَمْ، جَاءَنَا شَيخٌ كَذَا وكَذَا، فَسَأَلَنَا عَنْكَ فأخْبَرْتُهُ، وسَأَلَنِي: كيفَ عَيْشُنَا؟ فأخْبَرْتُهُ أنَّا في جَهْدٍ وشِدَّةٍ، قالَ: فَهلْ أَوْصَاكِ بشَيءٍ؟ قالَتْ: نَعَمْ، أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلَامَ، ويقولُ: غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ، قالَ: ذَاكِ أَبِي، وقدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَكِ، الْحَقِي بأَهْلِكِ، فَطَلَّقَهَا".
في هذا الجزء من الحديث: حسن استعمال المعاريض والكنايات في الموضع الذي يحسن فيه ذلك؛ حتى لا يواجه المسيء بإساءته في وجهه فيحصل من ذلك ضرر.
وفيه: أن الرجل إذا غاب عن بيته ثم عاد إليه، فينبغي أن يسألهم عمَّن جاء، وأن ينظر في فعلهم وكلامهم، مع هذا الذي كان عندهم.
الفائدة الثامنة عشرة:
قوله في الحديث: "وتَزَوَّجَ منهمْ أُخْرَى، فَلَبِثَ عنْهمْ إبْرَاهِيمُ ما شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَدَخَلَ علَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عنْه، فَقالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، قالَ: كيفَ أَنْتُمْ؟ وسَأَلَهَا عن عَيْشِهِمْ وهَيْئَتِهِمْ، فَقالَتْ: نَحْنُ بخَيْرٍ وسَعَةٍ، وأَثْنَتْ علَى اللَّهِ، فَقالَ: ما طَعَامُكُمْ؟ قالتِ: اللَّحْمُ، قالَ: فَما شَرَابُكُمْ؟ قالتِ: المَاءُ. قالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لهمْ في اللَّحْمِ والمَاءِ، قالَ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: ولَمْ يَكُنْ لهمْ يَومَئذٍ حَبٌّ، ولو كانَ لهمْ دَعَا لهمْ فِيهِ. قالَ: فَهُما لا يَخْلُو عليهما أَحَدٌ بغيرِ مَكَّةَ إلَّا لَمْ يُوَافِقَاهُ، قالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عليه السَّلَامَ، ومُرِيهِ يُثْبِتُ عَتَبَةَ بَابِهِ، فَلَمَّا جَاءَ إسْمَاعِيلُ قالَ: هلْ أَتَاكُمْ مِن أَحَدٍ؟ قالَتْ: نَعَمْ، أَتَانَا شَيخٌ حَسَنُ الهَيْئَةِ، وأَثْنَتْ عليه، فَسَأَلَنِي عَنْكَ فأخْبَرْتُهُ، فَسَأَلَنِي: كيفَ عَيْشُنَا؟ فأخْبَرْتُهُ أنَّا بخَيْرٍ، قالَ: فأوْصَاكِ بشَيءٍ؟ قالَتْ: نَعَمْ، هو يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، ويَأْمُرُكَ أَنْ تُثْبِتَ عَتَبَةَ بَابِكَ، قالَ: ذَاكِ أَبِي، وأَنْتِ العَتَبَةُ، أَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَكِ".
قال ابن حجر -رحمه الله-: "في قوله: "نَحْنُ بخَيْرٍ وسَعَةٍ" فِي حَدِيثِ أَبِي جَهْمٍ: "نَحْنُ فِي خَيْرِ عَيْشٍ بِحَمْدِ اللَّهِ، وَنَحْنُ فِي لَبَنٍ كَثِيرٍ وَلَحْمٍ كَثِيرٍ وَمَاءٍ طَيِّبٍ"، قَوْلُهُ: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالْمَاءِ"، فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَافِعٍ: "قال: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي طَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ، قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: بَرَكَةٌ بِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ"، وَفِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فِي طَعَامِ أَهْلِ مَكَّةَ وَشَرَابِهِمْ بَرَكَةٌ.
قَوْلُهُ: "فَهُمَا لَا يَخْلُو عَلَيْهِمَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلَّا لَمْ يُوَافِقَاهُ"، فِي حَدِيثِ أَبِي جَهْمٍ :"لَيْسَ أَحَدٌ يَخْلُو عَلَى اللَّحْمِ وَالْمَاءِ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلَّا اشْتَكَى بَطْنَهُ"، وفِي حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ نَحْوَهُ: "فَقَالَتِ: انْزِلْ رَحِمَكَ اللَّهُ فَاطْعَمْ وَاشْرَبْ، قَالَ: إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ النُّزُولَ. قَالَتْ: فَإِنِّي أَرَاكَ أَشْعَثَ أَفَلَا أَغْسِلُ رَأْسَكَ وَأَدْهُنُهُ. قَالَ: بَلَى إِنْ شِئْتِ، فَجَاءَتْهُ بِالْمَقَامِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَبْيَضُ مِثْلُ الْمَهَاةِ وَكَانَ فِي بَيْتِ إِسْمَاعِيلَ مُلْقًى، فَوَضَعَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى وَقَدَّمَ إِلَيْهَا شِقَّ رَأْسِهِ وَهُوَ عَلَى دَابَّتِهِ فَغَسَلَتْ شِقَّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنَ، فَلَمَّا فَرَغَ حَوَّلَتْ لَهُ الْمَقَامَ حَتَّى وَضَعَ قَدَمَهُ الْيُسْرَى وَقَدَّمَ إِلَيْهَا بِرَأْسِهِ فَغَسَلَتْ شِقَّ رَأْسِهِ الْأَيْسَرَ، فَالْأَثَرُ الَّذِي فِي الْمَقَامِ مِنْ ذَلِكَ ظَاهِرٌ فِيهِ مَوْضِعُ الْعَقِبِ وَالْأُصْبُعِ" (انتهى كلام ابن حجر -رحمه الله-).
وهذا الحديث يدل على صفات المرأة الصالحة الراضية بعيشها وبما رزق الله، التي تثني على الله -سبحانه وتعالى-، والتي تكرم ضيوف زوجها ولا تستخف بهم، وإنما تسعى في خدمتهم وإن لم تكن تعرفهم؛ حتى غسلت رأس إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، وعرضت عليه النزول الذي لم تعرضه المرأة الأولى، فالمرأة الصالحة هي القنوعة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (قَدْ أَفْلَحَ مَن أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بما آتاهُ) (رواه مسلم)، فمَن كانت راضية قنوعة صابرة رغم أن حالها يشكوه غيرها، ويراه ضيقًا وشدة، ولكن من نعمة الله على العبد والأَمَة أن يرضيا بما رزق الله -سبحانه وتعالى-، فأمره إبراهيم -عليه السلام- أن يثبِّت عتبة بابه، ودعا لهم في طعامهم وشرابهم، وهكذا البركة تحصل بدعوات الصالحين.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #23  
قديم 30-03-2024, 11:58 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (23)




قصة بناء الكعبة (21)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
الفائدة التاسعة عشرة:
قوله في الحديث: "ثُمَّ لَبِثَ عنْهمْ ما شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذلكَ وإسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلًا له تَحْتَ دَوْحَةٍ، قَرِيبًا مِن زَمْزَمَ، فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إلَيْهِ، فَصَنَعَا كما يَصْنَعُ الوَالِدُ بالوَلَدِ والوَلَدُ بالوَالِدِ، ثُمَّ قالَ: يا إسْمَاعِيلُ، إنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بأَمْرٍ، قالَ: فَاصْنَعْ ما أَمَرَكَ رَبُّكَ، قالَ: وتُعِينُنِي؟ قالَ: وأُعِينُكَ، قالَ: فإنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَاهُنَا بَيْتًا، وأَشَارَ إلى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ علَى ما حَوْلَهَا.
قالَ: فَعِنْدَ ذلكَ رَفَعَا القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ، فَجَعَلَ إسْمَاعِيلُ يَأْتي بالحِجَارَةِ وإبْرَاهِيمُ يَبْنِي، حتَّى إذَا ارْتَفَعَ البِنَاءُ، جَاءَ بهذا الحَجَرِ فَوَضَعَهُ له فَقَامَ عليه، وهو يَبْنِي وإسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الحِجَارَةَ، وهُما يَقُولَانِ: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة:???)، قالَ: فَجَعَلَا يَبْنِيَانِ حتَّى يَدُورَا حَوْلَ البَيْتِ وهُما يَقُولَانِ: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)".
قال ابن حجر -رحمه الله- في فتح الباري: "النَّبْلُ: السَّهْمُ قَبْلَ أَنْ يُرَكَّبَ فِيهِ نَصْلُهُ وَرِيشُهُ، وَهُوَ السَّهْمُ الْعَرَبِيُّ.
وقَوْلُهُ: "عِنْدَ دَوْحَةٍ": هِيَ الَّتِي نَزَلَ إِسْمَاعِيلُ وَأُمُّهُ تَحْتَهَا أَوَّلَ قُدُومِهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ: "فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ وَالْوَلَدُ بِالْوَالِدِ" يَعْنِي مِنَ الِاعْتِنَاقِ وَالْمُصَافَحَةِ، وَتَقْبِيلِ الْيَدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ قَالَ: "سَمِعْتُ رَجُلًا يَقُولُ: بَكَيَا حَتَّى أَجَابَهُمَا الطَّيْرُ"، وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَبَاعَدَ لِقَاؤُهُمَا" (انتهى كلام ابن حجر -رحمه الله- باختصارٍ).
ولقد كانت متابعة إبراهيم -عليه السلام- لتركته متكررة كما سبق أنه كان يأتيهم كل شهر على البراق ويرجع، وربما لم ينزل؛ هذا فيه أنه لا يجوز أن يترك الأب ذريته دون رعاية سنواتٍ طويلةٍ، كما يحدث كثيرًا الآن في سفر بعض الآباء طول العام، وربما أعوامًا متتابعة، وهو لا يرى ذريته ولا يتابعهم، ولا شك أن هذا فيه خطر كبير.
والظاهر: أن إبراهيم قد أتاه مرتين قبل أن يلقاه في هذه المرة؛ مرة حين أمره أن يطلق الزوجة الأولى، والمرة الثانية حين أمره أن يثبت الزوجة الثانية، ولا شك أن هذا بينه مدة طويلة؛ ولذلك وقع الاشتياق الشديد والبكاء حين التقيا، وهذا يدل على التراحم، والحب المستقر في القلوب بين الأب وابنه، وهكذا يجب أن نُحَافِظ على الأسرة -وإن تباعد اللقاء- فيكون هناك حرص ونصيحة ومتابعة؛ حتى يأذن الله -عز وجل- بلقاء مستمر.
قوله: "إنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بأَمْرٍ":
قال ابن حجر -رحمه الله-: "فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَافِعٍ: "إِنَّ رَبَّكَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ لَهُ بَيْتًا"، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي جَهْمٍ عِنْدَ الْفَاكِهِيِّ: "أَنَّ عُمُرَ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَوْمَئِذٍ مِائَةَ سَنَةٍ، وَعُمُرَ إِسْمَاعِيلَ ثَلَاثِينَ سَنَةً" (انتهى كلام ابن حجر -رحمه الله-).
والمشهور: أن إبراهيم إنما رُزق بإسماعيل بعد ثمانين سنة، وليس عندنا نص في ذلك؛ إلا أن إبراهيم بنص القرآن قد قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) (إبراهيم:39)، وقال -سبحانه وتعالى- عن سارة: (قَالَتْ يَاوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) (هود:72)، فكان سن إبراهيم كبيرًا بلا شك، ومع ذلك امتثل أمر الله -سبحانه وتعالى-، فكما امتثل أمره بالختان وهو ابن ثمانين سنة، امتثل بناء بيت الله بعد أكثر من ذلك بلا شك فوق المائة سنة على الراجح أو على الأقرب.
قَوْلُهُ: "وَتُعِينُنِي، قَالَ: وَأُعِينُكَ":
قال ابن حجر -رحمه الله-: "وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَافِعٍ: "إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ تُعِينَنِي عَلَيْهِ"، قَالَ ابن التِّينِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَبْنِي أَولًا وَحْدَهُ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يُعِينَهُ إِسْمَاعِيلُ، فَيَكُونُ الْحَدِيثُ الثَّانِي مُتَأَخِّرًا بَعْدَ الْأَوَّلِ. قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ؛ بَلِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ، بِأَن يكون أَمَرَهُ أَنْ يَبْنِيَ وَأَنَّ إِسْمَاعِيلَ يُعِينُهُ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِإِسْمَاعِيلَ: "إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ الْبَيْتَ وَتُعِينَنِي"، وَتَخَلَّلَ بَيْنَ قَوْلِهِ: "أَبْنِيَ الْبَيْتَ" وَبَيْنَ قَوْلِهِ: "وَتُعِينَنِي" قَوْلُ إِسْمَاعِيلَ: "فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ" (انتهى كلام ابن حجر -رحمه الله-).
وهذا يدلنا على مبادرة إسماعيل بالاستجابة للأمر كما بادر حين أمره الله أن يذبحه، وقال الله -عز وجل-: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (الصافات:102)، فهكذا التربية العظيمة على التوحيد والطاعة والامتثال السريع لأمر الله -سبحانه وتعالى- مهما كلَّف الإنسانَ ذلك، فهذا إسماعيل -عليه السلام- قد ربَّاه أبوه وربَّته أمه على الامتثال لطاعة الله -سبحانه وتعالى- فَلْنُربِّ أبناءنا على هذا الامتثال السريع، والاستجابة لأمر الله -سبحانه وتعالى-.
قَوْلُهُ: "وَأَشَارَ إِلَى أَكَمَةٍ":
قال ابن حجر -رحمه الله-: "وَلِلْفَاكِهِيِّ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ: "فَبَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ وَلَيْسَ مَعَهُمَا يَوْمَئِذٍ غَيْرُهُمَا" يَعْنِي فِي مُشَارَكَتِهِمَا فِي الْبِنَاءِ؛ وَإِلَّا فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ نَزَلَ الْجُرْهُمِيُّونَ مَعَ إِسْمَاعِيلَ" (انتهى كلام ابن حجر -رحمه الله-).
هذا -والله أعلم- لِشرفِ البيت قد خصَّ الله -عز وجل- إبراهيم بالبناء وإسماعيل بالإعانة، ولم يجعل معهما أحدًا؛ تكريمًا وتشريفًا أن لا يكون شاركهما في بناء الكعبة المشرفة غيرهما من الناس، كما ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي وضع الحجر الأسود في موضعه بعد أن تنازعت قريش حين بنت الكعبة قبل النبوة، فأمرهم أن يأتوا بثوب وتأخذ بكل طرف منه قبيلة من قريش، ثم وضع الحجر الأسود عليه، ثم وضعه النبي -صلى الله عليه وسلم- بيده الشريفة في موضعه؛ تكريمًا له وتوفيقًا من الله -عز وجل-.
قَوْلُهُ: "رَفَعَا الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ":
قال ابن حجر -رحمه الله-: "فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدٍ عَنِ ابن عَبَّاسٍ: الْقَوَاعِدُ الَّتِي رَفَعَهَا إِبْرَاهِيمُ كَانَتْ قَوَاعِدَ الْبَيْتِ قَبْلَ ذَلِكَ" (وهذا إسناد صحيح). زَاد أَبُو جَهْمٍ: "وَأَدْخَلَ الْحِجْرَ فِي الْبَيْتِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ زَرْبًا لِغَنَمِ إِسْمَاعِيلَ، وَإِنَّمَا بَنَاهُ بِحِجَارَةٍ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ سَقْفًا وَجَعَلَ لَهُ بَابًا، وَحَفَرَ لَهُ بِئْرًا عِنْدَ بَابِهِ خِزَانَةً لِلْبَيْتِ يُلْقَى فِيهَا مَا يُهْدَى لِلْبَيْتِ".
وقَوْلُهُ: "جَاءَ بِهَذَا الْحَجَرِ" يَعْنِي: الْمَقَامَ. وَفِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَافِعٍ: "حَتَّى ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ وَضَعُفَ الشَّيْخُ عَنْ نَقْلِ الْحِجَارَةِ، فَقَامَ عَلَى حَجَرِ الْمَقَامِ" زَادَ فِي حَدِيثِ عُثْمَانَ "وَنَزَلَ عَلَيْهِ الرُّكْنُ وَالْمَقَامُ، فَكَانَ إِبْرَاهِيمُ يَقُومُ عَلَى الْمَقَامِ يَبْنِي عَلَيْهِ وَيَرْفَعُهُ لَهُ إِسْمَاعِيلُ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَوْضِعَ الَّذِي فِيهِ الرُّكْنُ وَضَعَهُ يَوْمَئِذٍ مَوْضِعَهُ وَأَخَذَ الْمَقَامَ فَجَعَلَهُ لَاصِقًا بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ جَاءَ جِبْرِيلُ فَأَرَاهُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا، ثُمَّ قَامَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى الْمَقَامِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَجِيبُوا رَبَّكُمْ، فَوَقَفَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ تِلْكَ الْمَوَاقِفَ، وَحَجَّهُ إِسْحَاقُ وَسَارَةُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ رَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى الشَّامِ فَمَاتَ بِالشَّامِ".
وَرَوَى الْفَاكِهِيُّ بِإِسْنَاد صَحِيح من طَرِيق مُجَاهِد عَن ابن عَبَّاسٍ قَالَ: "قَامَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى الْحَجَرِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ، فَأَسْمَعَ مَنْ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ، وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ، فَأَجَابَهُ مَنْ آمَنَ وَمَنْ كَانَ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يَحُجُّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ".
وَرَوَى الْفَاكِهِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابن عَبَّاسٍ قَالَ: "وَاللَّهِ مَا بَنَيَاهُ بِقِصَّةٍ وَلَا مَدَرٍ، وَلَا كَانَ لَهُمَا مِنَ السَّعَةِ وَالْأَعْوَانِ مَا يَسْقُفَانِهِ" (انتهى كلام ابن حجر من فتح الباري).
وقد أطلنا الكلام على هذا الحديث؛ لما فيه مِن الفوائد العظيمة الجسيمة التي نحتاج إليها في مناحي الحياة كلها، وفي التوكل على الله والتوحيد والرضا بالله -عز وجل- ربًا مُدبرًا معينًا، والامتثال لله -سبحانه وتعالى-، وفي تربية الزوجة والأولاد، ومعالم البيت المسلم الصالح، وغير ذلك مما أشرنا إليه.
نسأل الله أن يلحقنا بالصالحين، وأن يرزقنا حج بيته الحرام، إنه على كل شيء قدير.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #24  
قديم 30-03-2024, 12:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (23)


قصة بناء الكعبة (22)

كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قوله -تعالى-: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة:127).
تدل هذه الآية الكريمة على أن: القواعد كانت قبل أن يبني إبراهيم -عليه السلام-، والله -عز وجل- أعلم مَن الذي بناها قبل ذلك أو مَن الذي وضعها، والآثار التي وردت في ذلك كلها من الإسرائيليات أو من الأخبار المرسلة والمقطوعة، لم يثبت منها شيء للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنما الذي ثبت هو وجود هذه القواعد أسفل البيت وأوسع من البناء الحالي، ويدل على ذلك قصة بناء الكعبة قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وكذلك قصة بناء عبد الله بن الزبير للكعبة؛ عندما احترقت زمن حصار جنود يزيد بن معاوية لعبد الله بن الزبير ورَمْي مكة بالمنجنيق.
قال الإمام ابن كثير -رحمه الله-: "ذِكْر بناء قريش الكعبة بعد إبراهيم الخليل -عليه السلام- بمدد طويلة، وقبل مَبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخمس سنين، وقد نَقَل معهم في الحجارة، وله مِن العمر خمس وثلاثون سنة -صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدِّين-.
قال محمد بن إسحاق بن يسار، في السيرة: ولما بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خمسًا وثلاثين سنة، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة، وكانوا يَهمون بذلك لِيسْقِفُوها، ويهابون هدمها، وإنما كانت رَضْمًا فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفرًا سرقوا كنز الكعبة، وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة، وكان الذي وجد عنده الكنز دُوَيْك مولى بني مُلَيح بن عمرو بن خزاعة، فقطعت قريش يده. ويزعم الناس أن الذين سرقوه وضعوه عند دُوَيْك. وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة، لرجل من تجار الروم، فتحطمت، فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها.
وكان بمكة رجل قبطي نجار (أي: مصري)، فتَهَيَّأ لهم في أنفسهم بعضُ ما يصلحها، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كانت تُطرح فيها ما يُهدى لها كل يوم، فتُشْرف على جدار الكعبة، وكانت مما يهابون. وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احْزَأَلَّتْ (ارتفعت واسْتَوْفَزَت للوثوق) وكَشَّت وفتحت فاها، فكانوا يهابونها، فبينا هي يومًا تُشْرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع، بعث الله إليها طائرًا فاختطفها، فذهب بها. فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله قد رضي ما أردنا، عندنا عامل رفيق، وعندنا خشب، وقد كفانا الله الحية.
فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنيانها، قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم، فتناول من الكعبة حجرًا، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه. فقال: يا معشر قريش، لا تُدْخِلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبًا، لا يدخل فيها مهر بغي ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس.
قال ابن إسحاق: والناس ينتحلون هذا الكلام للوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم.
قال: ثم إن قريشًا تجزَّأَت الكعبة، فكان شق الباب لبني عبد مناف وزُهْرة، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبني جُمَح وسُهْم، وكان شق الحِجْر لبني عبد الدار بن قُصي، ولبني أسد بن عبد العزى بن قُصي، ولبني عدي بن كعب بن لؤي، وهو الحطيم.
ثم إن الناس هابوا هدمها وفَرِقوا منه (خافوا)، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها: فأخذ المِعْول ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم تَرُعِ، اللهم إنا لا نريد إلا الخير. ثم هدم من ناحية الركنين، فتربَّص الناس تلك الليلة، وقالوا: ننظر، فإن أصيب لم نهدم منها شيئًا، ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله ما صنعنا. فأصبح الوليد من ليلته غاديًا على عمله، فهدم وهدم الناس معه، حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس -أساس إبراهيم عليه السلام- أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة (قلتُ: أظنه تصحيفًا، والصواب كالأَسْنِمَة؛ أي: أسنمة الجمال) آخذ بعضها بعضًا.
قال محمد بن إسحاق: فحدثني بعض مَن يروي الحديث أن رجلًا من قريش، ممَّن كان يهدمها، أدخل عَتَلة بين حجرين منها ليقلع بها أيضًا أحدهما، فلما تحرك الحجر انتفضت مكة بأسرها، فانتهوا عن ذلك الأساس.
قال ابن إسحاق: ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة، ثم بنوها، حتى بلغ البنيان موضع الركن -يعني: الحجر الأسود- فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحاوروا وتخالفوا، وأعدوا للقتال. فقرَّبت بنو عبد الدار جَفْنة مملوءة دمًا، ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجَفْنة، فسموا: لَعْقَة الدم. فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسًا، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا.
فزعم بعض أهل الرواية: أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم وكان عامَئِذٍ أسنَّ قريش كلهم، قال: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد، يقضي بينكم فيه؛ ففعلوا، فكان أول داخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا، هذا محمد، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر، قال -صلى الله عليه وسلم-: هَلُمَّ إليَّ ثوبًا؛ فأُتِي به، فأخذ الركن -يعني: الحجر الأسود- فوضعه فيه بيده، ثم قال: لِتَأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعًا؛ ففعلوا، حتى إذا بلغوا به موضعه؛ وضعه هو بيده -صلى الله عليه وسلم-، ثم بنى عليه، وكانت قريش تسمي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن ينزل عليه الوحي: الأمين.
قال ابن إسحاق: وكانت الكعبة على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ثمانية عشر ذراعًا، وكانت تُكْسى القَبَاطِي، ثم كُسِيت بعدُ البَرَودَ، وأول مَن كساها الديباج: الحجاج بن يوسف.
قال ابن كثير: قلتُ: ولم تزل على بناء قريش حتى احترقت في أول إمارة عبد الله بن الزبير بعد سنة ستين وفي آخر ولاية يزيد بن معاوية، لما حاصروا ابن الزبير، فحينئذٍ نقضها ابن الزبير إلى الأرض وبناها على قواعد إبراهيم -عليه السلام- وأدخل فيها الحجر، وجعل لها بابًا شرقيًا، وبابًا غربيًا ملصقين بالأرض، كما سمع ذلك مِن خالته عائشة أم المؤمنين عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم تزل كذلك مدة إمارته حتى قتله الحجاج، فردَّها إلى ما كانت عليه بأمر عبد الملك بن مروان له بذلك، كما روى مسلم بن الحجاج في صحيحه: عن عطاء، قال: لما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاها أهل الشام، وكان من أمره ما كان، تركه ابن الزبير حتى قَدِم الناس الموسم يريد أن يجرئهم أو يحزبهم على أهل الشام، فلما صدر الناس قال: يا أيها الناس، أشيروا عليَّ في الكعبة، أنقضها ثم أبني بناءها أو أصلح ما وَهَى منها؟ قال ابن عباس: فإني قد فَرَق لي رأي فيها، أرى أن تصلح ما وَهَى منها، وتدع بيتًا أسلم الناس عليه وأحجارًا أسلم الناس عليها، وبُعث عليها النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال ابن الزبير: لو كان أحدهم احترق بيته ما رضي حتى يجدده، فكيف بيت ربكم -عز وجل-؟! إني مستخير ربي ثلاثًا ثم عازم على أمري، فلما مضت ثلاث أجمع رأيه على أن ينقضها.
فتحاماها الناس (أي: خافوا) أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمر مِن السماء، حتى صعده رجل، فألقى منه حجارة، فلما لم يره الناس أصابه شيء تتابعوا، فنقضوه حتى بلغوا به الأرض. فجعل ابن الزبير أعمدة يُسْتَر عليها الستور، حتى ارتفع بناؤه.
وقال ابن الزبير: إِنِّي سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: إِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (لَوْلَا أَنَّ النَّاسَ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ، وَلَيْسَ عِنْدِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يُقَوِّي عَلَى بِنَائِهِ، لَكُنْتُ أَدْخَلْتُ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ خَمْسَ أَذْرُعٍ، وَلَجَعَلْتُ لَهَا بَابًا يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْهُ، وَبَابًا يَخْرُجُونَ مِنْهُ)، قَالَ: (فَأَنَا الْيَوْمَ أَجِدُ مَا أُنْفِقُ، وَلَسْتُ أَخَافُ النَّاسَ)، قَالَ: فَزَادَ فِيهِ خَمْسَ أَذْرُعٍ مِنَ الْحِجْرِ حَتَّى أَبْدَى أُسًّا نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَبَنَى عَلَيْهِ الْبِنَاءَ وَكَانَ طُولُ الْكَعْبَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا زَادَ فِيهِ اسْتَقْصَرَهُ، فَزَادَ فِي طُولِهِ عَشْرَ أَذْرُعٍ، وَجَعَلَ لَهُ بَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا يُدْخَلُ مِنْهُ، وَالْآخَرُ يُخْرَجُ مِنْهُ. فَلَمَّا قُتِلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ كَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، وَيُخْبِرُهُ: أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَدْ وَضَعَ الْبِنَاءَ عَلَى أُسٍّ نَظَرَ إِلَيْهِ الْعُدُولُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِنَّا لَسْنَا مِنْ تَلْطِيخِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي شَيْءٍ، أَمَّا مَا زَادَ فِي طُولِهِ فَأَقِرَّهُ، ‌وَأَمَّا ‌مَا ‌زَادَ ‌فِيهِ ‌مِنَ ‌الْحِجْرِ ‌فَرُدَّهُ ‌إِلَى ‌بِنَائِهِ، ‌وَسُدَّ ‌الْبَابَ ‌الَّذِي ‌فَتَحَهُ، ‌فَنَقَضَهُ ‌وَأَعَادَهُ ‌إِلَى ‌بِنَائِهِ (رواه مسلم).
قال ابن كثير -رحمه الله-: وقد كانت السُّنَّة إقرار ما فعله عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه-؛ لأنه هو الذي ودَّه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ ولكن خَشِيَ أن تُنْكِره قلوبُ بعض الناس؛ لحداثة عهدهم بالإسلام وقُرْب عهدهم من الكفر، ولكن خفيت هذه السُّنَّة على عبد الملك بن مروان؛ ولهذا لما تحقق ذلك عن عائشة أنها رَوَت ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال -يعني عبد الملك-: وددنا أنَّا تركناه وما تَوَلَّى.
كما روى مسلم عن عبد الله بن عبيد قال: وفد الحارث بن عبد الله على عبد الملك بن مروان في خلافته، فقال عبد الملك: مَا أَظُنُّ أَبَا خُبَيْبٍ -يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ- سَمِعَ مِنْ عَائِشَةَ مَا كَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهَا، قَالَ الْحَارِثُ: بَلَى أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْهَا، قَالَ: سَمِعْتَهَا تَقُولُ مَاذَا؟ قَالَ: قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (‌إِنَّ ‌قَوْمَكِ ‌اسْتَقْصَرُوا ‌مِنْ ‌بُنْيَانِ ‌الْبَيْتِ، ‌وَلَوْلَا ‌حَدَاثَةُ ‌عَهْدِهِمْ ‌بِالشِّرْكِ، ‌أَعَدْتُ ‌مَا ‌تَرَكُوا ‌مِنْهُ، فَإِنْ بَدَا لِقَوْمِكِ مِنْ بَعْدِي أَنْ يَبْنُوهُ فَهَلُمِّي لِأُرِيَكِ مَا تَرَكُوا مِنْهُ)، فَأَرَاهَا قَرِيبًا مِنْ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ.
وزاد عليه الوليد بن عطاء: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ مَوْضُوعَيْنِ فِي الْأَرْضِ شَرْقِيًّا وَغَرْبِيًّا، وَهَلْ تَدْرِينَ لِمَ كَانَ قَوْمُكِ رَفَعُوا بَابَهَا؟)، قَالَتْ: قُلْتُ: لَا، قَالَ: (تَعَزُّزًا أَنْ لَا يَدْخُلَهَا إِلَّا مَنْ أَرَادُوا، فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا هُوَ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَهَا يَدَعُونَهُ يَرْتَقِي، حَتَّى إِذَا كَادَ أَنْ يَدْخُلَ دَفَعُوهُ فَسَقَطَ)، قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ، لِلْحَارِثِ: أَنْتَ سَمِعْتَهَا تَقُولُ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَنَكَتَ سَاعَةً بِعَصَاهُ، ثُمَّ قَالَ: وَدِدْتُ أَنِّي تَرَكْتُهُ وَمَا تَحَمَّلَ.
وروى مسلم عن أبي قزعة: أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ بَيْنَمَا هُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ إِذْ قَالَ: قَاتَلَ اللهُ ابْنَ الزُّبَيْرِ حَيْثُ يَكْذِبُ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، يَقُولُ: سَمِعْتُهَا تَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يَا عَائِشَةُ لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَنَقَضْتُ الْبَيْتَ حَتَّى أَزِيدَ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ، فَإِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرُوا فِي الْبِنَاءِ)، فَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: لَا تَقُلْ هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَنَا سَمِعْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ تُحَدِّثُ هَذَا قَالَ: لَوْ كُنْتُ سَمِعْتُهُ قَبْلَ أَنْ أَهْدِمَهُ، لَتَرَكْتُهُ عَلَى مَا بَنَى ابْنُ الزُّبَيْرِ" (انتهى كلام ابن كثير -رحمه الله- بتصرفٍ يسيرٍ).

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #25  
قديم 01-04-2024, 11:59 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (25)




قصة بناء الكعبة (23)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قوله -تعالى-: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ . رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (البقرة:127-131).
في هذه الآيات بيان حال المؤمنين في إشفاقهم من عدم القبول؛ خوفًا من التقصير في العبادة ظاهرًا أو باطنًا، فآفات النفس الإنسانية لا يحيط بها إلا الله -سبحانه- الذي يعلم السر وأخفى، والذي يعلم مَن خَلَق، وما يُسِرُّه الإنسان في نفسه داخل في السر، فما هو أخفى مِن أعماق النفس البشرية العجيبة، وإراداتها الخفية التي تخفى على صاحبها، لا يطلع عليها إلا الله، فمن أين يجزم الإنسان لنفسه بالإخلاص والصدق حتى يجزم بالقبول؟!
وإذا كان خليل الله إبراهيم وابنه إسماعيل الرسول النبي -صلى الله عليهما وسلم- يبنيان لله بيته الحرام، ويخافان من عدم القبول؛ فكيف بحال مَن دونهما؟! فلن يدخل الجنة أحد بعمله؛ إلا أن يتغمدنا الله برحمته، وقد قال بعض السلف: "مَن ظن في عمله الإخلاص فهو يحتاج إلى الإخلاص".
ولا يزال المؤمن ينظر في عيوب عمله وآفات نفسه ويخشى مِن الرد وعدم القبول، ولا يأمن مكر الله على دخائل في نفسه لا يعلمها؛ قد تنمو مع الزمن، وقد تظهر مع الابتلاء، وحال إبليس عبرة وعظة لكل سائرٍ إلى الله، وهذا أمر عظيم الأهمية في لزوم التزكية، والتهذيب للنفس ودوام المراقبة والمراجعة، فاللهم لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، قال الله -سبحانه وتعالى- (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) (المؤمنون:60)، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ، وَهُوَ يَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ) (رواه أحمد، وحسنه الألباني).
وفي هذه الآيات الكريمات التعلُّق بأسماء الله وصفاته، ومشاهدة اطلاعه -سبحانه- بسمعه وعلمه على أقوال العباد وأعمالهم ودعائهم، وفيها عظم الرجاء في القبول؛ رغم التقصير والنقص والآفات.
ثم بيَّن -تعالى- أن الإسلام هو دين إبراهيم وبنيه -إسماعيل وإسحاق- وبعدهم يعقوب وذريتهم جميعًا، فكَذَب مَن نسب إلى إبراهيم دينًا غير دين الإسلام، وقد بيَّن -سبحانه- ارتباط دين الإسلام بالكعبة والحج إليها من زمن إبراهيم إلى يوم القيامة، أو إلى ما قبل ذلك بيسير؛ حين يهدم الكعبة ذو السويقتين من الحبشة؛ حين لا يبقى في الأرض أحد يقول: الله الله، كما بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وفي هذه الآيات ارتباط هذا الدِّين بمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- من حين مبعثه إلى يوم القيامة، وقد خص الله رسالته باسم الإسلام عَلَمًا على هذا الدين وهذه الشريعة دون شرائع مَن سبقهم من الرسل؛ كموسى وعيسى -عليهما السلام-؛ رغم أن دينهم الإسلام ودين جميع الأنبياء، لكن -بفضل الله- كان الاسم العَلَم "الإسلام" على هذه الشريعة المحمدية، واسم "المسلمون" العَلَم على أتباع النبي -صلى الله عليه وسلم-، رغم أن أتباع موسى وعيسى مسلمون حقيقة، قال الله -تعالى-: (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ . فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (يونس:84-86).
وقال -سبحانه وتعالى- عن فرعون حين أراد أن يعلن دخوله في دين موسى -صلى الله عليه وسلم-: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (يونس:90).
وقال -سبحانه وتعالى- عن المسيح -صلى الله عليه وسلم- وأتباعه: (عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران:52).
وقال الله -عز وجل-: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ) (المائدة:111).
فلا يصح أبدًا الانتساب إلى دين إبراهيم ومنهج إبراهيم وملة إبراهيم؛ إلا باتباع محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وهذه الشريعة الإٍسلامية؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، مَا حَلَّ لَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي) (رواه أحمد، وحسنه الألباني)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ، وَالأَنْبِيَاءُ أَوْلاَدُ عَلَّاتٍ، لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (وَالذي نَفْسِي بيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابنُ مَرْيَمَ إمامًا مُقْسِطًا، وحَكَمًا عَدْلًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، ويَقْتُلَ الخِنْزِيرَ، ويَضَعَ الجِزْيَةَ، ويَفِيضُ المالُ حتّى لا يَقْبَلَهُ أحَدٌ) (متفق عليه).
وقال -سبحانه وتعالى-: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة:133).
وقد سبقت الرواية بحج سارة وإسحاق -عليه السلام-، وقال -تعالى- عن صهر موسى -عليه السلام-: (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (القصص:27).
وهذا يدل على معرفة الأمم السابقة بالحج وتوقيتهم به، بل وفعلهم له، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّ بِوَادِي الْأَزْرَقِ، فَقَالَ: (أَيُّ وَادٍ هَذَا؟) فَقَالُوا: هَذَا وَادِي الْأَزْرَقِ، قَالَ: (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَابِطًا مِنَ الثَّنِيَّةِ، وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللهِ بِالتَّلْبِيَةِ)، ولما مرَّ بِثَنِيَّةِ هَرْشَى قال -صلى الله عليه وسلم-: (أيُّ ثَنِيَّةٍ هذِه؟) قالوا: ثَنِيَّةُ هَرْشى، قالَ: )كَأَنِّي أنْظُرُ إلى يُونُسَ بنِ مَتّى -عليه السَّلامُ- على ناقَةٍ حَمْراءَ جَعْدَةٍ عليه جُبَّةٌ مِن صُوفٍ، خِطامُ ناقَتِهِ خُلْبَةٌ وهو يُلَبِّي) (رواه مسلم). وكل هذه الأحاديث في الصحيح.
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصحيح أيضًا: (والَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ، لَيُهِلَّنَّ ابنُ مَرْيَمَ بفَجِّ الرَّوْحاءِ، حاجًّا، أَوْ مُعْتَمِرًا، أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُما) (رواه مسلم)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَيُحَجَّنَّ البَيْتُ وَلَيُعْتَمَرَنَّ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) (رواه البخاري).
فلا دين إبراهيمي إلا بالحج فعلًا أو عزمًا ونية، وإلا باستقبال القبلة الكعبة المشرفة، وإلا باتباع محمد -صلى الله عليه وسلم-، فمَن زعم جمع الديانات الثلاثة -اليهودية والنصرانية والإسلام- باسم دين إبراهيم؛ فهو يقول أبطل الباطل ويُكَذب القرآن العظيم؛ لأن مَن كذَّب كلام الله -عز وجل- في الشهادة بمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة، ولبيته الحرام بوجوب استقباله كان مُكذبًا لله -عز وجل- مشركًا به كافرًا به.
قال ابن كثير -رحمه الله-: "قوله -تعالى- حكايةً لدعاء إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام-: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:128). قال ابن جرير: يعنيان بذلك: واجعلنا مستسلمين لأمرك، خاضعَين لطاعتك، لا نشرك معك في الطاعة أحدًا سواك، ولا في العبادة غيرك. وروى ابن أبي حاتم: عن عبد الكريم: (وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) قال: مخلصين لك، (وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ) قال: مخلصة.
وروى أيضًا عن سلَّام بن أبي مُطيع في هذه الآية: (وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ)، قال: كانا مسلمين، ولكنهما سألاه الثبات.
وقال عكرمة: (وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) قال الله: قد فعلت، (وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ)، قال الله: قد فعلت.
وقال السدي: ‏(وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ)‏ يعنيان العرب.
قال ابن جرير: والصواب أنه يعم العرب وغيرهم؛ لأن مِن ذرية إبراهيم بني إسرائيل، وقد قال الله -تعالى-: (وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (الأعراف: 159).
قلتُ -أي: ابن كثير-: وهذا الذي قاله ابن جرير لا ينفيه السدي؛ فإن تخصيصهم بذلك لا ينفي مَن عداهم، والسياق إنما هو في العرب؛ ولهذا قال بعده: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ... )، والمراد بذلك محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقد بعث فيهم كما قال -تعالى-: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ) (الجمعة:2). ومع هذا لا ينفي رسالته إلى الأحمر والأسود؛ لقوله -تعالى-: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) (الأعراف: 158)، وغير ذلك من الأدلة القاطعة.
وهذا الدعاء من إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- كما أخبر الله -تعالى- عن عباده المتقين المؤمنين، في قوله: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان:74).
وهذا القَدْر مرغوب فيه شرعًا، فإن مِن تمام محبة عبادة الله -تعالى- أن يحب أن يكون مِن صلبه مَن يعبد الله وحده لا شريك له؛ ولهذا قال الله -تعالى- لإبراهيم -عليه السلام-: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة:124)، وهو قوله: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ) (إبراهيم:35).
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ).
(وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا) قال ابن جريج، عن عطاء (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا): أخرجها لنا، عَلِّمْناها.
وقال مجاهد: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا) مذابحنا، وروي عن عطاء أيضًا، وقتادة نحو ذلك. (قلتُ: أي: الأماكن التي نذبح فيها ذبائحنا تقربًا إلى الله -عز وجل-).
وقال سعيد بن منصور: حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن مجاهد، قال: قال إبراهيم: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا) فأتاه جبرائيل، فأتى به البيت، فقال: ارفع القواعد. فرفع القواعد وأتم البنيان، ثم أخذ بيده فأخرجه فانطلق به إلى الصفا، قال: هذا من شعائر الله. ثم انطلق به إلى المروة، فقال: وهذا من شعائر الله، ثم انطلق به نحو منى، فلما كان من العقبة إذا إبليس قائم عند الشجرة، فقال: كبر وارْمِهِ، فكبر ورماه. ثم انطلق إبليس فقام عند الجمرة الوسطى، فلما جاز به جبريل وإبراهيم قال له: كبر وارمه، فكبر ورماه. فذهب إبليس وكان الخبيث أراد أن يُدْخِل في الحج شيئًا فلم يستطع، فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به المشعر الحرام، فقال: هذا المشعر الحرام. فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به عرفات. قال: قد عرفت ما أريتك؟ قالها ثلاث مرار. قال: نعم. وروي عن أبي مجلز وقتادة نحو ذلك.
وروى أبو داود الطيالسي عن ابن عباس، قال: إن إبراهيم لما أُرِيَ أوامر المناسك، عَرَضَ له الشيطان عند المسعى، فسابقه إبراهيم، ثم انطلق به جبريل حتى أتى به منى، فقال: مناخ الناس هنا. فلما انتهى إلى جمرة العقبة تعرَّض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أتى به الجمرة الوسطى، فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أتى به الجمرة القصوى، فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، فأتى به جمعًا. فقال: هذا المشعر. ثم أتى به عرفة. فقال: هذه عرفة. فقال له جبريل: أعرفت؟" (انتهى من تفسير ابن كثير).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #26  
قديم 01-04-2024, 12:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (26)‏




‏ قصة بناء الكعبة (24)‏
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قوله -تعالى-: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ . رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (البقرة:127-131).
في هذه الأيام المباركة التي تتجه فيها أبدان عشرات الألوف من الحجاج لبيت الله الحرام، وتتجه قلوب مئات الملايين إلى هذه البقعة المكرمة -الكعبة المشرفة- تشتاق لبيت الله الحرام شوقًا إلى الله -سبحانه- وحبًّا له في الحقيقة وتعظيمًا لشعائره، تشكو إلى الله حرمانها من الحج لبيت الله الحرام والوقوف بمشاعره؛ التي جعل فيها حياة القلوب وهداية الأرواح، كما وصف الله -عز وجل- الكعبة: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ) (آل عمران:96).
تذكَّروا قصة بناء إبراهيم للكعبة مع ابنه إسماعيل -عليهما الصلاة والسلام-، ودعاءهما لبعثة النبي الأمي محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ الذي افترض الله على الإنس والجن إلى يوم القيامة اتباعه والإيمان به، ومحبته فوق الوالد والولد والناس أجمعين.
وجعل مَن كذَّبه مُكذبًا لجميع الأنبياء؛ فلا يكون مُتبعًا لمَن انتسَب إليهم -كموسى وعيسى صلى الله عليهما وسلم- إذا لم يؤمن بمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، كما قال -تعالى-: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (الأعراف:156-158).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) (رواه مسلم).
نؤكِّد على هذه المعاني في هذه الأيام المباركة؛ التي تشهد في نفس الوقت محاولات تضييع هوية الأمة وخداع أبنائها؛ بادِّعاء مساواة الملل، وتحقيق التطبيع مع اليهود، وإقامة العلاقات الكاملة الدبلوماسية والاقتصادية؛ بل والسماح بالتجنُّس لأصحاب الأموال منهم في بلاد المسلمين وأرض الجزيرة العربية؛ بزعم السلام الذي لم يَرَ المسلمون من علاماته شيئًا في حقيقة تعامل اليهود معهم على أرض فلسطين، بل وغيرها مِن البلاد التي يشنون فيها المؤامرات لتكبيل إرادة بلاد المسلمين.
وكذلك تقوم هذه المحاولات لإلهاء الأجيال القادمة -بل والحالية- عن حقيقة عداوة هؤلاء اليهود للأنبياء وكفرهم بهم، وعدوانهم على الأمة كلها بالاعتداء على أرض فلسطين والمسجد الأقصى، وقد أبوا الحج إلى بيت الله الحرام من قديم، وأبوا اتباع القرآن والرسول -صلى الله عليه وسلم-.
فليحذر المسلمون جميعًا من تضييع عقيدتهم بـ(إِنَّ الدينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلَامُ) (آل عمران:19)، وبـ(وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85)، وليحذروا مِن تضييع قضيتهم في التفريط في القدس والمسجد الأقصى وأرض فلسطين كلها، وليعلموا أن ضعف الأمة اليوم وقوة أعدائها يوشك أن يتبدل، فالله يداول الأيام بين الناس، وهو مالك الملك يؤتي الملك مَن يشاء، وينزع الملك مِن مَن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، وَلْيُوقن كل مسلم أن وعد الله للأمة بالنصر قائم بشرط تحقيق العبودية والإيمان والعمل الصالح، قال الله -عز وجل-: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:55)، وقال -تعالى-: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ . إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ . وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:105-107)، وقال -عز وجل-: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ . إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ . وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) (الصافات:171-173)، وقال الله -سبحانه وتعالى-: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (المجادلة:21)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، فلا تبيعوا قضيتكم، ولا تبيعوا أمتكم، ولا تبيعوا دينكم؛ لإرضاء أعداء الله، فإن غدًا لِنَاظِره قريب، وَلَتَعْلَمُنَّ نبأه بعد حين.
وقال الله -عز وجل- عن إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- في دعائهما أثناء بناء الكعبة: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "يقول -تعالى- إخبارًا عن تمام دعوة إبراهيم لأهل الحرم أن يبعث الله فيهم رسولًا منهم -أي: من ذرية إبراهيم-، وقد وافقت هذه الدعوة المستجابة قَدَر الله السابق في تعيين محمدٍ -صلوات الله وسلامه عليه- رسولًا في الأميين إليهم وإلى سائر الأعجمين من الإنس والجن، كما روى الإمام أحمد عن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنِّي عِندَ اللهِ لخاتَمُ النَّبيِّينَ وإنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ في طِينتِه، وسأُنَبِّئكم بأوَّلِ ذلك: دَعْوةِ أبي إبراهيمَ، وبِشارةِ عيسى بي، ورُؤْيا أُمِّي التي رأتْ، وكذلك أُمَّهاتُ النَّبيِّينَ يَرَيْنَ".
(قلتُ: وإن كان في إسناد الحديث مقال؛ إلا أنه محمول على معنى: أن الله قَدَّر نبوَّته، وليس ابتدأ خلقه وآدم مجندل في طينته، فآدم أبو البشر والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد قُدِّر وجوده نبيًّا، أما وجوده -صلى الله عليه وسلم- فمعلوم نسبه أنه وُلِد في عام الفيل، ولم يكن موجودًا قبل ذلك إلا في القدر).
قال ابن كثير -رحمه الله-: وروى الإمام أحمد أيضًا عن أبي أمامة قال: "قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، ما كانَ أوَّلِ بدءُ أمرِكَ؟ قالَ: دعوةُ أبي إبراهيمَ، وبُشرى عيسى بي، ورأت أمِّي أنَّهُ خرج منها نورٌ أضاءت لَهُ قصورُ الشّامِ". والمراد: أن أول مَن نوَّه بذكره وشهره في الناس إبراهيم -عليه السلام-، ولم يزل ذكره في الناس مذكورًا مشهورًا سائرًا حتى أفصح باسمه خاتمُ أنبياء بني إسرائيل نسبًا، وهو عيسى ابن مريم -عليه السلام-، حيث قام في بني إسرائيل خطيبًا، وقال: (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) (الصف:6)؛ ولهذا قال في هذا الحديث: "دَعْوَةُ أبي إِبْراهيمَ، وبُشرى عيسى".
وقوله: "وَرَأَتْ أمي أَنَّه خَرجَ مِنها نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ" قيل: كان منامًا رأته حين حملت به، وقَصَّتْه على قومها فشاع فيهم واشتهر بينهم، وكان ذلك توطئة. وتخصيص الشام بظهور نوره -صلى الله عليه وسلم- إشارة إلى استقرار دينه وثبوته ببلاد الشام؛ ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلًا للإسلام وأهله، وبها ينزل عيسى ابن مريم -صلى الله عليه وسلم- إذا نزل بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها؛ ولهذا جاء في الصحيحين: (لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي ظاهِرِينَ على الحَقِّ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ، حتّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ وهُمْ كَذلكَ). وفي صحيح البخاري: (وَهُمْ بِالشَّامِ).
(قلتُ: يعني آخر الزمان قبل نزول عيسى ابن مريم -صلى الله عليه وسلم-؛ وإلا فقد احتُلت الشام من التتر والصليبيين والاحتلال الغربي في زماننا، ثم الباطنية من النصيرية الملحدين).
قال ابن كثير -رحمه الله-: قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ) يعني: أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-. فقيل له: قد اسْتُجِيبَتْ لك، وهو كائن في آخر الزمان. وكذا قال السدي وقتادة" (انتهى من تفسير ابن كثير -رحمه الله-).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #27  
قديم 01-04-2024, 12:01 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (27)



قصة بناء الكعبة (25)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقوله -تعالى- عن إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام-: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (البقرة:129).
تضمنت هذه الآية الكريمة الحكمة من البعثة النبوية المباركة؛ وهي تلاوة آيات الله المنزلة، وهي قراءتها المقصود منها اتباعها، وتعليم الكتاب، وتعليم الحكمة، والتزكية.
وهذا يدل دلالة ظاهرة على لزوم اتباع السنة؛ لأن الله -تعالى- جعل تلاوة الآيات غير تعليم الكتاب؛ فتلاوة الآيات قراءتها، أما تعليمها الذي يقوم بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- فهو تبيين ما فيها من الأخبار والأحكام في العقيدة والعمل والسلوك؛ التي لا سبيل إلى معرفتها والعمل بها إلا من خلال بيان الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ثم الحكمة: السنة.
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقوله -تعالى-: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ) يعني: القرآن. (وَالْحِكْمَةَ) يعني: السنة، قاله الحسن، وقتادة، ومقاتل بن حيان، وأبو مالك وغيرهم. وقيل: الفَهْم في الدين. ولا مُنافاة. (وَيُزَكِّيهِمْ): قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يعني طاعة الله، والإخلاص.
وقال محمد بن إسحاق: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) يعلمهم الخير فيفعلوه، والشر فيتقوه، ويخبرهم برضا الله عنهم إذا أطاعوه واستكثروا من طاعته، وتجنبوا ما سخط من معصيته.
وقوله: (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي: العزيز الذي لا يُعْجِزه شيء، وهو قادر على كل شيء، الحكيم في أفعاله وأقواله، فيضع الأشياء في محالها بعلمه وحكمته وعدله" (انتهى من تفسير ابن كثير).
وقال ابن جرير -رحمه الله- عن ابن وَهْب، قَالَ: "قُلْت لِمَالِكِ: مَا الْحِكْمَة؟ قَالَ: الْمَعْرِفَةُ بِالدِّينِ، وَالْفِقْه فِي الدِّين، وَالِاتِّبَاع لَهُ. وعن ابْن زَيْد قَالَ: الكتاب القرآن، والحِكْمَة: الدِّين؛ الَّذِي لَا يَعْرِفُونَهُ إلَّا بِهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعَلِّمهُمْ إيَّاهَا. قَالَ: وَالْحِكْمَة: الْعَقْل فِي الدِّين، وَقَرَأَ: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَة فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) (البقرة:269). وَقَالَ لِعِيسَى: (وَيُعَلِّمهُ الْكِتَاب وَالْحِكْمَة وَالتَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل) (آل عمران:48). وَقَرَأَ ابْن زَيْد: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا) (الأعراف:175)، قَالَ: لَمْ يَنْتَفِع بِالْآيَاتِ حَيْثُ لَمْ تَكُنْ مَعَهَا حِكْمَة. قَالَ: والحِكْمَة شَيْء يَجْعَلهُ اللَّه فِي الْقَلْب يُنَوِّر لَهُ بِهِ. وَالصَّوَاب مِنْ الْقَوْل عِنْدنَا فِي الْحِكْمَة: أَنَّهَا العِلْم بِأَحْكَامِ اللَّه؛ الَّتِي لَا يُدْرَك عِلْمُها إلَّا بِبَيَانِ الرَّسُول -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْمَعْرِفَة بِهَا، وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ نَظَائِره.
وَهُوَ عِنْدِي مَأْخُوذ مِنْ "الْحُكْم" الَّذِي بِمَعْنَى الْفَصْل بَيْن الْحَقّ وَالْبَاطِل بِمَنْزِلَةِ "الجِلْسَة وَالْقَعْدَة" من "الْجُلُوس وَالْقُعُود"، يُقَال مِنْهُ: إنَّ فُلَانًا لَحَكِيم بَيِّنٌ الْحِكْمَة؛ يَعْنِي أَنَّهُ لَبَيِّن الْإِصَابَة فِي الْقَوْل وَالْفِعْل.
وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَتَأْوِيل الْآيَة: رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتك، وَيُعَلِّمهُمْ كِتَابك الَّذِي تُنَزِّلهُ عَلَيْهِمْ وَفَصْلَ قَضَائِك، وَأَحْكَامَك الَّتِي تُعَلِّمهُ إيَّاهَا" (انتهى من ابن جرير).
ولا تعارض بين التفسيرين؛ فلا فَهْم ولا عقل في الدين دون معرفة السنة، ولا فصل بين الحق والباطل إلا بمعرفة السنة، كما أنه لا فَهْم ولا عمل بالقرآن إلا بتعليم الرسول -صلى الله عليه وسلم- إيَّانا فَهْمَ الكتاب وكيفية العمل به؛ كبيان كيفية الصلوات والزكاة، والصيام، والحج، والحلال والحرام.
وكأن الحكمة -التي هي السنة- هي القسم الثالث من السنة، التي استقلت السنة فيه بتبيين الأحكام؛ فإن السنة مع القرآن على ثلاثة أقسام:
الأول: ما جاءت به السنة بتأكيد ما جاء في القرآن؛ كالأمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالحج والصيام إجمالًا.
الثاني: ما جاءت السنة فيه ببيان ما أُجْمل في القرآن، وتخصيص عامِّه وتقييد مُطلقه؛ كهيئة الصلاة وترتيب أركانها وقيامها، وركوعها وسجودها وعدد ركعاتها ومواقيتها، وغير ذلك، وما جاء في السنة من بيان نِصاب الزكاة والقَدْر الذي يُخرج من كل صنف من أصناف المال، وما يُؤخذ منه الزكاة وما لا يُؤخذ، وكذا صفة حجته -صلى الله عليه وسلم- بيان للمجمل الواجب في القرآن، قال -تعالى-: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) (آل عمران:97)، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسَكَكُمْ) (رواه مسلم)، فكانت سنته بيانًا لذلك المجمل الواجب، وكذا جاءت السنة ببيان كيفية قطع يد السارق، فهي تقطع من الرسغ من اليد اليمني، وكذا جاءت السنة بتقييد مطلق السارق وتخصيص عمومه؛ لأنه الذي سرق مِن حرز ما يبلغ نصاب السرقة وهو ربع دينار فصاعدًا، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا تُقْطَعُ يَدُ السّارِقِ إلّا في رُبْعِ دِينارٍ فَصاعِدًا) (رواه مسلم)، ونحو ذلك.
القسم الثالث: وهو ما استقلت السنة ببيانه؛ كتحريم الحمار الأهلي وكل ذي ناب من السباع، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ألا إِنِّي أُوتِيتُ الكِتابَ ومِثْلَهُ معه، ألا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعانٌ على أرِيكَتِه يَقولُ: علَيكُم بِهذا القُرآنِ، فما وجَدْتُم فيه من حلالٍ فأَحِلُّوهُ، وما وجدْتُم فيه من حَرامٍ فَحرِّمُوه، ألا لا يَحِلُّ لَكُم لَحمُ الحِمارِ الأَهْلِيِّ، ولا كُلِّ ذِي نابٍ من السَّبُعِ، ولا لُقَطَةُ مُعاهَدٍ، إِلّا أنْ يَستغْنِيَ عنها صاحِبُها... ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، وكذا تحريم الذهب والحرير على الرجال وإباحتهم للنساء، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد أمسك بيديه ذهبًا وحريرًا، فقال: (إِنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي، حِلٌّ لِإِنَاثِهِمْ) (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، ونحو ذلك.
وإن كان ذلك داخلًا في القرآن بالاعتبار الأوسع؛ لدخوله في قوله -تعالى-: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) (الحشر:7)، والأمر بطاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- المتكرر كثيرًا جدًّا في القرآن، وهكذا فَهِم الصحابة -رضي الله عنهم-.
روى مسلم عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "لَعَنَ اللَّهُ الواشِماتِ والْمُسْتَوْشِماتِ، والنّامِصاتِ والْمُتَنَمِّصاتِ، والْمُتَفَلِّجاتِ لِلْحُسْنِ المُغَيِّراتِ خَلْقَ اللهِ". قالَ: فَبَلَغَ ذلكَ امْرَأَةً مِن بَنِي أَسَدٍ يُقالُ لَها: أُمُّ يَعْقُوبَ وَكانَتْ تَقْرَأُ القُرْآنَ، فأتَتْهُ فَقالَتْ: ما حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ أنَّكَ لَعَنْتَ الواشِماتِ والْمُسْتَوْشِماتِ، والْمُتَنَمِّصاتِ والْمُتَفَلِّجاتِ، لِلْحُسْنِ المُغَيِّراتِ خَلْقَ اللهِ، فَقالَ عبدُ اللهِ: ما لي لا أَلْعَنُ مَن لَعَنَ رَسولُ اللهِ -صَلّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ-؟ وَهو في كِتابِ اللهِ فَقالتِ المَرْأَةُ: لقَدْ قَرَأْتُ ما بيْنَ لَوْحَيِ المُصْحَفِ فَما وَجَدْتُهُ فَقالَ: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لقَدْ وَجَدْتِيهِ، قالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر:7)".
فالفرق بين هذا القِسْم والذي قبله: أن الذي قبله موجود إجمالًا في الكتاب، لكن يحتاج لبيانٍ من الرسول -صلى الله عليه وسلم-، أما القسم الثالث فلا وجود له في القرآن إلا من خلال الأمر بطاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
أما التزكية فقد سبق ما نقله ابن كثير -رحمه الله-.
وهذه الآية الكريمة تبيِّن أن الله ما أراد مِن عباده في الدِّين إلا ما دلَّ عليه الكتاب والسنة، وليس مما أراده الله من عباده أن يرجعوا في عقائدهم إلى علوم الفلسفة والمنطق اليوناني وعلم الكلام، وكذا في الأصول، ولم يجعل -سبحانه- مرجعنا في معرفة الأحكام العملية إلى آراء الرجال ومذاهبهم دون الأدلة من الكتاب والسنة، وما دلت عليه من الإجماع والقياس، وغيرها، وليست أقوال العلماء إلا شرحًا وبيانًا للكتاب والسنة؛ أما أن تُجعل مصدرًا للتشريع يُلْزم الناس بأخذها كأنها النصوص؛ فهذا مُحْدث بعد القرون الثلاثة الخيرية؛ بل بعد الأئمة الأربعة المُّتبَعين وغيرهم، فإنهم ما أمروا أصحابهم ولا علموهم إلا أن يستدلوا بالأدلة من الكتاب والسنة، ويتبعوا هذا الدليل دون الأقوال المجردة، ولو نظر ناظر في كتب المتقدمين من أصحاب الأئمة الفضلاء لوجد تعظيم السنة أمرًا ظاهرًا لديهم جميعًا.
أما ما هو أسوأ مِن التقليد المجرد للمذاهب؛ فهو الانتقاء منها بالتشهي والترخص؛ للبحث في رُخَصها دون دليل، والاختلاف ليس بحجة بالإجماع، والتقليد ليس بحجة كما نقل ذلك أبو عمر بن عبد البر في كتابه الرائع: "جامع بيان العلم وفضله"، ونقل الإجماع على عدم جواز الانتقاء من المذاهب بالتشهي.
وكذلك لم يجعل -سبحانه- في التزكية لازمًا علينا إلا هدي الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتزكيته لنا، وليست مقامات الصوفية المخترعة المحدثة، وأحوالهم مِن نحو: السُّكْر والدَّهَش، والهيمان والفناء، والجمع والفرق؛ مما لا يفهمه أكثر الناس، مما لم يَرَد قط في كتاب الله وسنة رسول -صلى الله عليه وسلم-.
والأشد من ذلك: أنهم جعلوا ما ورد في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- من الخوف والرجاء، والشكر، والصبر والرضا، والتوكل، وغيرها من أعمال القلوب من مقامات العوام؛ دون الخواص، وخواص الخواص؛ الذين جعلوا لهم المقامات التي اخترعوها من الفناء، وما يشير إليه أو يؤدي إليه.
فعلم الكلام والتقليد الأعمى والتصوف المُحْدث؛ خاصةً الفلسفي منه القائم على وحدة الوجود، ووحدة الأديان، والخرافي القائم على الغلو في الأولياء -بل وغير الأولياء!-: كتارك الصلاة، والزكاة، وبائعي المخدرات على أبواب المساجد، وغيرهم؛ بل من الكفار الزنادقة؛ كمَن يخطب عاريًا كما ولدته أمه، ويقول للناس: أشهد أن لا إله لكم إلا إبليس صلى الله عليه وسلم! فقال الناس: كَفَر كَفَر، فسلَّ السيفَ (مع أنه كان عاريًا) ثم نزل، فهرب الناس من المسجد!
وقال الشعراني: وفعل ذلك رضي الله عنه في ثلاثين جمعة في نفس اليوم؛ أي: في ثلاثين بلدة! ونعوذ بالله من الضلال، وكالحلاج المقتول على الزندقة بإجماع علماء عصره الذي يقول:
كَفَرتُ بِدينِ اللَهِ وَالكُفرُ واجِبٌ عَـلَيَّ وَهــو عـِـنـدَ المُـســلـِمـيـنَ قَــبـيـحُ
وكابن ابن عربي الذي يقول:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحـبي إذا لم يكن ديـني إلى ديـنه دانـي
لقد صارَ قلـبي قابلًا كلَّ صُــورةٍ فـمرعىً لغُـــزلانٍ ودَيرٌ لرُهبـَانِ
وبيتٌ لأوثــانٍ وكعـــبةُ طـائـــفٍ وألـواحُ تـوراةٍ ومصـحفُ قـرآنِ
أديـنُ بدينِ الحب أنَّى توجَّــهــتْ ركـائـبهُ، فالحبُّ ديـني وإيـمَاني
وهذه الزندقة الظاهرة في مساواة الملل؛ حتى عبادة الأوثان، ما دام -بزعمهم- كان الحبُّ موجودًا.
وكلا نوعي التصوف الفلسفي والخرافي يخدمان على بعضهما، والمتكلمون والمقلدون -المعرضون عن الأدلة من الكتاب والسنة- وهؤلاء الصوفية كل هؤلاء مِن أخطر ما يصرف الناس عن الحكمة من البعثة النبوية، رزقنا الله حبَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- واتباعه، وحشرنا معه يوم القيامة.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #28  
قديم 02-04-2024, 10:23 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (28)




قصة بناء الكعبة (26)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد قال الله -تعالى-: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ . وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة:130-133).
تُبين هذه الآيات حقيقة الدِّين الإبراهيمي والملة الإبراهيمية؛ الذي هو نفسه دين ابنيه إسماعيل وإسحاق -عليهما السلام-، ودين ابن ابنه يعقوب -الذي هو إسرائيل عليه السلام-؛ الذي ينتسب إليه بنو إسرائيل وكل اليهود في العالم، وسموا دولتهم باسمه تلبيسًا على العالم وتزويرًا أنهم أتباعه ونسله، وذلك أنهم ليسوا على ملته وليسوا على دينه؛ إذ إن دينه هو التوحيد والاستسلام لأمر الله وشرعه، كما دلت عليه هذه الآيات، وهذا مُستلزِم للإيمان بكل الرسل -صلى الله عليهم وسلم أجمعين-؛ خاصة خاتمهم محمد -صلى الله عليه وسلم-، والإيمان بما أنزل اللهُ إليه من القرآن والحكمة، فمَن كفر به وكذَّب القرآن فقد كفر بدين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، ودين جميع الأنبياء وتبرأ منهم، وهم جميعًا منه أبرياء.
وقد مَنَّ الله على أمة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- بالإيمان بجميع الأنبياء ومحبتهم وتوليهم، فيا أيها المسلمون لا تكفروا بنعمة الله عليكم ومِنَّته العظيمة لديكم، بالاستجابة إلى دعاة مساواة الأديان، فتجعلون المسلمين كالمجرمين، قال الله -تعالى-: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ . أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ . مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (القلم: 34-36).
أتجعلون مَن كذَّب نبيكم -صلى الله عليه وسلم-، وكتابكم القرآن العظيم كمَن آمن بهما؟! سبحانك هذا بهتان عظيم.
كيف وقد جمع اليهود إلى ذلك التكذيب بعيسى -صلى الله عليه وسلم-، وقولهم على مريم البهتان العظيم؟!
قال الله -تعالى-: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا . وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا) (النساء:155-156).
فكيف تتخذون هؤلاء وأمثالهم أولياءً وأحبابًا وأنصارًا؟!
ألا تحبون ربكم وتوحدونه؟!
ألا تحبون الأنبياء الذين كَفَر اليهود بهم جميعًا؟! فانتبهوا يا أولي الألباب.
قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآيات: "يقول -تبارك وتعالى- ردًّا على الكفار فيما ابتدعوه وأحدثوه مِن الشرك بالله، المخالف لملة إبراهيم الخليل، إمام الحنفاء، فإنه جرَّد توحيد ربه -تبارك وتعالى- فلم يدعُ معه غيره، ولا أشرك به طرفة عين، وتبرأ مِن كلِ معبودٍ سواه، وخالف في ذلك سائر قومه، حتى تبرأ من أبيه، فقال: (قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام: 78-79)، وقال -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ . إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) (الزخرف:26-27)، وقال -تعالى-: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة:114)، وقال -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (النحل:120-122)؛ ولهذا وأمثاله قال -تعالى-: (وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ) (البقرة:130)، أي: ظلم نفسه بسفهه، وسوء تدبيره بتركه الحق إلى الضلال، حيث خالف طريق مَن اصْطُفِي في الدنيا للهداية والرشاد، مِن حداثة سنه إلى أن اتخذه اللهُ خليلًا، وهو في الآخرة من الصالحين السعداء؛ فمَن ترك طريقه هذا ومسلكه وملته، واتبع طرق الضلالة والغي؛ فأي سَفَهٍ أعظم من هذا؟! أم أي ظلم أكبر من هذا؟! كما قال -تعالى-: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان:13).
قال أبو العالية وقتادة: نزلت هذه الآية في اليهود؛ أحدثوا طريقًا ليست من عند الله، وخالفوا ملة إبراهيم فيما أحدثوه. ويشهد لصحة هذا القول قولُ الله -تعالى-: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران:67-68).
وقوله -تعالى-: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) أي: أمره الله بالإخلاص له والاستسلام والانقياد، فأجاب إلى ذلك شرعًا وقدرًا.
وقوله: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) أي: وصى بهذه الملة وهي الإسلام لله، أو يعود الضمير على الكلمة، وهي قوله: (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)؛ لحرصهم عليها ومحبتهم لها حافظوا عليها إلى حين الوفاة، ووصَّوْا أبناءهم بها مِن بعدهم كقوله -تعالى-: (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ) (الزخرف:28)، وقد قرأ بعض السلف (وَيَعْقُوبُ) بالنصب عطفًا على بنيه، كأن إبراهيم وَصَّى بنيه وابن ابنه يعقوب بن إسحاق وكان حاضرًا ذلك، وقد ادَّعى القشيري -فيما حكاه القرطبي عنه-: أن يعقوب إنما وُلد بعد وفاة إبراهيم، ويحتاج مثل هذا إلى دليلٍ صحيحٍ. والظاهر -والله أعلم-: أن إسحاق وُلِد له يعقوب في حياة الخليل وسارة؛ لأن البشارة وقعت بهما في قوله: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) (هود:71)، وقد قُرئ بنصب (يَعْقُوبَ) هاهنا على نزع الخافض، فلو لم يوجد يعقوب في حياتهما لما كان لذكره مِن بين ذرية إسحاق كبير فائدة، وأيضًا فقد قال الله -تعالى- في سورة العنكبوت: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ) (العنكبوت:27)، وقال في الآية الأخرى: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً) (الأنبياء:72)، وهذا يقتضي أنه وُجد في حياته، وأيضًا فإنه باني بيت المقدس، كما نطقت بذلك الكتب المتقدمة، وثبت في الصحيحين من حديث أبي ذر: قُلْتُ: أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلُ؟ قَالَ: (الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ). قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: (الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى). قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: (أَرْبَعُونَ سَنَةً).
فزعم ابن حبان أن بين سليمان -الذي اعتقد أنه باني بيت المقدس، وإنما كان جدده بعد خرابه وزخرفه- وبين إبراهيم أربعين سنة، وهذا مما أُنكر على ابن حبان (قلتُ: يعني: زعم ابن حبان أن المدة بين سليمان وإبراهيم أربعون سنة! وهذا باطل بلا شك)، فإن المدة بينهما تزيد على ألوف سنين، والله أعلم.
وأيضًا: فإن وصية يعقوب لبنيه سيأتي ذكرها قريبًا، وهذا يدل على أنه هاهنا من جملة المُوصَين.
وقوله: (يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) أي: أحسنوا في حال الحياة، والزموا هذا ليرزقكم الله الوفاة عليه، فإن المرء يموت غالبًا على ما كان عليه، ويُبعث على ما مات عليه.
وقد أجرى الله الكريم عادته بأن مَن قصد الخير وُفق له ويُسر عليه، ومَن نوى صالحًا ثُبِّت عليه، وهذا لا يعارض ما جاء في الحديث الصحيح: (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُ الجَنَّةَ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ)؛ لأنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث: (إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أهْلِ الجَنَّةِ فِيما يَبْدُو لِلنّاسِ... وإنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أهْلِ النّارِ، فِيما يَبْدُو لِلنّاسِ... ) (متفق عليه)، وقد قال الله -تعالى-: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى . وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) (الليل:5-10) (انتهى من تفسير ابن كثير).
وأما جواب ابن كثير -رحمه الله- عن حديث: (إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ النّارِ... ) إلخ، بأنه: (فِيما يَبْدُو لِلنّاسِ) فهذا ليس بصحيح؛ لأنه ليس هناك في عمل أهل النار ما يكون صالحًا في الباطن، ومِن عمل أهل النار في الظاهر؛ ولذلك لا يُسمَّى ما عمله الإنسان رياءً وسمعةً مِن عمل أهل الجنة، ولا يقرِّبه ذلك إلى الجنة؛ بل يقربه إلى النار، والحديث إنما ذكر أنه يقربه عمله إلى الجنة وهو مِن أعمال أهل الجنة، ولكن هذا الحديث معناه: عدم الوثوق بالخواتيم؛ لأن الله -عز وجل- جعل الأعمالَ بالخواتيم، وجعل وجود قلة من الناس كانوا على الخير والهدى ثم تبدَّل حالهم وحصل لهم الحَوْر -أي: الفساد- بعد الكَوْر -أي: الصلاح-، كما استعاذ منه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال: (اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِن الحَوْرِ بَعدَ الكَوْرِ) (رواه مسلم والنسائي واللفظ له)؛ لكي لا يأمن الإنسان على نفسه، ولكي لا يأمن مكر الله، (فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (الأعراف:99).
ولا يزال المؤمن يدعو بدعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يا مُقلِّبَ القلوبِ ثبِّتْ قَلبي على دِينِكَ) (رواه الترمذي وصححه الألباني)، وبقوله: (اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ القُلُوبِ، صَرِّفْ قُلُوبَنا على طاعَتِكَ) (رواه مسلم)؛ ولذلك لا يكون ما ذكره جوابًا صحيحًا على الحديث، وإنما كما ذكرنا يكون عمله صالحًا، لكنه قبل الوفاة يُفتَن ويعمل العمل الفاسد، ويحبط العمل الأول، نسأل الله العافية، ونسأله الثبات على الدِّين.
نسأل الله أن يتوفانا مسلمين، ويلحقنا بالصالحين.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #29  
قديم 02-04-2024, 10:24 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (29)




قصة بناء الكعبة (27)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال الله -تعالى-: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة:133).
هذه الآية الكريمة مِن أوضح ما يُبيِّن حقيقة دين إسرائيل -الذي هو يعقوب عليه السلام الذي ينتسب إليه اليهود-، وحقيقة الدين الإبراهيمي دون الضلالة المحدثة المعاصرة التي يحاول أصحابها أن يخدعوا الناس ويوهموهم أن دين إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- يشمل جميع الأديان الثلاثة التي يسمونها: "السماوية"، ويقصدون أن هذه الملل -وليس فقط الشرائع- على ما هي عليه اليوم مِن انحرافٍ عن دين الأنبياء، وشرك بالله، وتكذيب برسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ يزعمون أنها نزلت كلها من السماء مِن عند الله!
والحقيقة -التي لا شك فيها-: أنه لم ينزل دين من السماء إلا دين واحد هو الإسلام؛ بل نزلت شرائع متعددة لكل أمة في زمنهم، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ مِنْ عَلَّاتٍ، َأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ) (متفق عليه)، يُشبههم -صلى الله عليه وسلم- بالإخوة من أبٍ واحدٍ وأمهاتٍ متعددةٍ، وهم الإخوة لعلات؛ لوحدة الدِّين الذي هو توحيد الله، وتصديق الرسل، والكتب المنزلة، مع تعدد الشرائع.
ولكن قد نسخ الله بشريعة الإسلام كل ما يخالفها مِن الشرائع السابقة، وألزم جميع الخلق اتباع محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، كما قال -تعالى-: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (الأعراف:156-158).
وإذا كان مَن شهد للنبي -صلى الله عليه وسلم- بالنبوة، لكن لم يتبعه كافرًا، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع حَبْري اليهود اللذين سألاه عن أسئلة لا يعلمها إلا نبي أو رجل أو رجلان، فلما أخبرهما، قالا: نَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيٌّ، قَالَ: "فَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْ تُسْلِمَا"؟ قَالَا: إِنَّ دَاوُدَ دَعَا اللَّهَ، أَنْ لَا يَزَالَ فِي ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ، وَإِنَّا نَخَافُ إِنْ أَسْلَمْنَا أَنْ تَقْتُلَنَا اليَهُودُ" (رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح)، فلم يجعلهما -صلى الله عليه وسلم- مؤمنين ولا مسلمين؛ إذ زعما -كذبًا- أنه لا يلزمهما اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى ولو صدقوه! فكيف بمَن كذَّب الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكذَّب القرآن -كلام الله-؟! بل كيف بمَن أشرك بالله، وادَّعى له الولد، واتخذوا الأحبار والرهبان أربابًا من دون الله؟! قال الله -عز وجل-: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ . اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة:30-31).
وهذا نص قاطع في أنهم مشركون؛ فكيف يظن ظانٌّ أن الدين الإبراهيمي يشمل هذه الأديان الثلاثة؟!
وكيف يجتمع الشرك والتوحيد؟!
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لا يَسْمَعُ بي أحَدٌ مِن هذِه الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، ولا نَصْرانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ ولَمْ يُؤْمِنْ بالَّذِي أُرْسِلْتُ به، إلّا كانَ مِن أصْحابِ النّارِ) (رواه مسلم).
وقد تضمنت الآية الكريمة وصية يعقوب -عليه السلام- لبنيه عند موته، وأبناؤه هم آباء جميع بني إسرائيل عبر الزمان، ومَن دان بدينهم وتهوَّد ولو لم يكن إسرائيليًّا نسبًا، فهو منهم بتوليه لهم، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (المائدة:51).
وقد استدل بهذه الآية الصحابة -رضي الله عنهم- في الرد على مَن زعم حِلَّ ذبائح الإسرائيليين نسبًا فقط، وحرَّم ذبائح مَن تهوَّد أو تنصَّر مِن العرب، فلما سُئِل علي -رضي الله عنه- عن نصارى بني تغلب وذبائحهم ونسائهم؛ تلا هذه الآية: (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)، وعن غير علي -رضي الله عنه- من الصحابة.
ووصية يعقوب -عليه السلام- لجميع أبنائه اختصرت في هذه الآية على الأمر بالتوحيد وعبادة الله وحده لا شريك له، والوصية بدين إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- وإسماعيل وإسحاق، قال الله -عز وجل-: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة:133).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "يقول -تعالى- مُحتجًّا على المشركين من العرب أبناء إسماعيل، وعلى الكفار من بني إسرائيل -وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام- بأن يعقوب لما حضرته الوفاة وَصَّى بنيه بعبادة الله وحده لا شريك له، فقال لهم: ما تعبدون مِن بعدي؟ قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، وهذا من باب التغليب؛ لأن إسماعيل عمه.
قال النحاس: والعرب تسمي العم أبًا. نقله القرطبي، وقد استدل بهذه الآية الكريمة مَن جعل الجدَّ أبًا وحجب به الإخوة، كما هو قول الصديق. حكاه البخاري عنه من طريق ابن عباس وابن الزبير، ثم قال البخاري: ولم يُختلف عليه، وإليه ذهبت عائشة أم المؤمنين، وبه يقول الحسن البصري وطاوس وعطاء، وهو مذهب أبي حنيفة وغير واحد من السلف والخلف.
وقال مالك والشافعي وأحمد -في المشهور عنه-: إنه يقاسم الإخوة، وحُكي ذلك عن: عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وجماعة من السلف والخلف، واختاره صاحبا أبي حنيفة: القاضي أبو يوسف ومحمد بن الحسن، ولتقريرها موضع آخر. (قلتُ: والراجح: أن الجدَّ أبٌ يحجب الإخوة كما دلت عليه الآية الكريمة، وقول الصديق -رضي الله عنه-).
وقوله: (إِلَهًا وَاحِدًا) أي: نُوحده بالألوهية، ولا نشرك به شيئًا غيره، (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي: مطيعون خاضعون، كما قال -تعالى-: (وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (آل عمران:83).
والإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة، وإن تنوَّعت شرائعهم واختلفت مناهجهم، كما قال -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:25). والآيات في هذا كثيرة والأحاديث، فمنها: قوله -صلى الله عليه وسلم-: (الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ مِنْ عَلَّاتٍ، َأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ).
وقوله -تعالى-: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) أي: مضت، (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ) أي: إن السلف الماضين من آبائكم من الأنبياء والصالحين لا ينفعكم انتسابكم إليهم إذا لم تفعلوا خيرًا يعود نفعه عليكم، فإن لهم أعمالهم التي عملوها ولكم أعمالكم، (وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (البقرة:134).
وقال أبو العالية، والربيع، وقتادة: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) يعني: إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط؛ ولهذا جاء في الأثر: (مَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ) (رواه مسلم)" (انتهى من تفسير ابن كثير بتصرفٍ يسيرٍ).
وهذه الآية تدل على لزوم الوصية بالتوحيد، وأنها أعظم وصية يُوصِّي بها المؤمن الموحِّد أولاده مِن بعده؛ لأن بالالتزام بالتوحيد يغفر الله ما دون الشرك، وبعدم الالتزام به يُؤاخَذ الإنسان بكل ما عمل.
نسأل الله أن يتوفانا مؤمنين، وأن يلحقنا بالصالحين.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #30  
قديم 02-04-2024, 10:26 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (30)




قصة بناء الكعبة (28)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال الله -تعالى-: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة:135-136).
إن الدعوة المعاصرة لاعتبار الأديان الثلاثة -اليهودية والنصرانية والإسلام- هم أتباع الدين الإبراهيمي؛ باعتبار انتساب كل أتباعهم إلى إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- دون النظر إلى حقيقة دين إبراهيم وملته؛ من توحيد الله، وترك الشرك به، والبراءة منه ومن أهله، والإيمان برسل الله جميعًا الذين جعلهم الله مِن بعده مِن ذريته؛ هذه الدعوة دعوة مخالفة لصريح القرآن، وهي متضمنة لقبول تكذيب الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والقرآن العظيم.
بل أعظم مِن ذلك: قبول الشرك الذي أحدثه أتباع اليهودية والنصرانية بعد قرون من التوحيد بقي عليه أتباع الأنبياء موسى وعيسى -صلى الله عليهما وسلم- قبل أن يقع التبديل، كما قال -تعالى-: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ . اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ . يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ . هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة: 30-33).
وقال -تعالى-: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (الممتحنة:4).
وهذه الآية الكريمة -التي نتناولها اليوم بالحديث عنها- تنسف دعوة المساواة الباطلة بين الأديان الثلاثة نسفًا؛ فضلًا عن غيرها من الأديان، وقوله -تعالى-: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ): يدل دلالة قاطعة أن ملة إبراهيم هي غير اليهودية والنصرانية؛ بل هي الحنيفية القائمة على إخلاص توجُّه القلب لله -تعالى-، والميل إليه والإعراض عن غيره، والاستقامة على ذلك بتوحيده واتباع رسله، والصلاة إلى البيت الذي بناه؛ الكعبة المشرفة، بيت الله الحرام، والحج إليه، واتباع الشريعة التي خُتمت بها الرسالات والشرائع التي أنزلها الله على الأنبياء من ذرية إبراهيم من بعده.
وقد نسخ الله -عز وجل- بهذه الرسالة الإسلامية التي جاء بها محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- كل ما حدث من الشرائع قبلها، فلم يعد ممكنًا لأحدٍ أن ينتسِب إلى إبراهيم أو إلى موسى أو إلى عيسى -صلى الله عليهم وسلم- إلا باتباع هذه الشريعة الإسلامية التي جاء بها محمد -صلى الله عليه وسلم-، والإيمان به وبالقرآن الذي أنزله الله عليه، والبراءة من الشرك، كما نصَّت عليه هذه الآية الكريمة بقوله: (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
وقد تضمنت أنه قد حدث في اليهودية والنصرانية من شرك عبادة الأحبار والرهبان، وشرك عبادة المسيح، والكفر بتكذيب الأنبياء وقتلهم؛ ما يجب التبرؤ منه، وتبرئة إبراهيم منه، بقوله: (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام:79).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "عن ابن عباس، قال: قال عَبْدُ اللهِ بنُ صُوريَّا الأعور لِرَسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: مَا الهُدَى إِلَّا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، فَاتَّبِعْنَا يَا مُحَمَّدُ تَهْتَدِ. وقالت النَّصارى مِثْلُ ذَلِكَ. فَأَنْزَلَ اللهُ -عزَّ وجَلَّ-: (كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا)".
وقوله: (بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) أي: لا نريد ما دعوتمونا إليه من اليهودية والنصرانية؛ بل نتبع ملة إبراهيم حنيفًا؛ أي: مستقيمًا. قاله محمد بن كعب القرظي وعيسى بن جارية.
وقال خُصيف عن مجاهد: مُخلصًا. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: حاجًّا. وكذا رُوي عن الحسن والضحاك وعطية والسُّدي. وقال أبو العالية: الحنيف: الذي يستقبل البيت بصلاته، ويرى أن حَجَّه عليه إن استطاع إليه سبيلًا.
وقال مجاهد، والربيع بن أنس: "حَنِيْفًا"، أي: مُتَّبِعًا. وقال أبو قِلَابة: الحنيف: الذي يؤمن بالرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم. وقال قتادة: الحنيفية: شهادة أن لا إله إلا الله؛ يدخل فيها تحريم الأمهات والبنات، والخالات والعمات، وما حرَّم الله -عز وجل-، والختان.
قوله -تعالى-: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة:136).
أرشد الله -تعالى- عباده المؤمنين إلى الإيمان بما أُنزل إليهم بواسطة رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- مُفصَّلًا، وما أُنزل على الأنبياء المتقدمين مُجملًا، ونصَّ على أعيان من الرسل، وأجمل ذكر بقية الأنبياء، وأن لا يُفرقوا بين أحد منهم؛ بل يؤمنوا بهم كلهم، ولا يكونوا كمَن قال الله فيهم: (وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا . أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا) (النساء:150-151).
روى البخاري: عن أبي هريرة، قال: كانَ أَهلُ الكتابِ يقرءونَ التَّوراةَ بالعِبرانيَّةِ ويُفَسِّرُونها بِالعَرَبيَّةِ لأَهلِ الإسلامِ، فقالَ رسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لا تصدِّقوا أَهلَ الْكتابِ ولا تُكذِّبوهم، وقولوا آمَنّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ).
وقد روى مسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس، قال: كان أكثَرُ ما يُصَلِّي رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الرَّكعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبلَ الفَجرِ: (آمَنّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ) (البقرة: ???)، إلى آخِرِ الآيةِ، والأُخرى: (آمَنّا بِاللَّهِ واشْهَدْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران: ??).
وقال أبو العالية والربيع وقتادة: الأسباط: بنو يعقوب اثنا عشر رجلًا، وَلَدَ كلُّ رجل منهم أمة من الناس، فسمُّوا الأسباط.
وقال الخليل بن أحمد وغيره: الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل. وقال الزمخشري في الكشاف: الأسباط: حَفَدة يعقوب، ذراري أبنائه الاثني عشر. وقد نقله الرازي عنه، وقرره ولم يعارضه.
وقال البخاري: الأسباط: قبائل بني إسرائيل. وهذا يقتضي أن المراد بالأسباط هاهنا شعوب بني إسرائيل، وما أنزل الله -تعالى- من الوحي على الأنبياء الموجودين منهم، كما قال موسى لهم: (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا) (المائدة:20)، وقال -تعالى-: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا) (الأعراف:160).
وقال القرطبي: وسموا الأسباط من السبط، وهو التتابع، فهم جماعة. وقيل: أصله من السَبَط، بالتحريك، وهو الشجر، أي: هم في الكثرة بمنزلة الشجر، الواحدة سَبْطَة.
قال الزجاج: ويبيِّن لك هذا: ما حدثنا محمد بن جعفر الأنباري، وساق السند عن ابن عباس، قال: كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة: نوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ومحمد -عليهم الصلاة والسلام-. قال القرطبي: والسَبَط: الجماعة، والقبيلة الراجعون إلى أصل واحد.
وقال قتادة: أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا به، ويصدقوا بكتبه كلها ورسله.
وقال سليمان بن حبيب: إنما أُمرنا أن نؤمن بالتوراة والإنجيل، ولا نعمل بما فيهما.
روى ابن أبي حاتم: عن مَعْقِل بن يسار قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "آمِنُوا بِالتَّوْرَاةِ وَالزَّبُورِ وَالْإِنْجِيلِ وليسَعْكمُ الْقُرْآنُ" (انتهى من تفسير ابن كثير).
والصواب في نبوة أبناء يعقوب: أن النبي منهم هو يوسف -صلى الله عليه وسلم-، وأما الأسباط الذين ذكرهم الله في هذه الآية: فهم الأنبياء مِن ذريتهم، فكل أنبياء بني إسرائيل الذين مِن ذرية أبناء يعقوب -صلى الله عليه وسلم- هم المقصودون في هذه الآية، وليس أن كل أبناء يعقوب الأحد عشر -غير يوسف- أنبياء؛ لأن الله -عز وجل- لم يجعل فيما سلف من صفاتهم قبل التوبة ما يتناسب مع أخلاق الأنبياء -صلى الله عليهم وسلم-.
ومعنى قوله: (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ) أي: في الإيمان، وليس معنى ذلك عدم التفضيل؛ فبالإجماع محمد -صلى الله عليه وسلم- أفضل رسل الله؛ بل أفضل خلق الله، ثم إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لمَن قال له: يا خير البرية، قال: (ذَاكَ إِبْرَاهِيْمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-) (رواه مسلم)، وذلك قبل أن يُوحى إليه أنه سيد الناس يوم القيامة، أو قال ذلك تواضعًا مع أبيه الخليل -صلى الله عليه وسلم-؛ وإلا فإبراهيم قال -كما ثبت في الصحيحين-: (إِنَّما كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءِ وَرَاءِ)، فَخُلَّة الرسول -صلى الله عليه وسلم- مُقَدَّمة، وبعد إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- موسى -صلى الله عليه وسلم-، كما نقل ذلك الإمام أبو الحسن الأشعري عن أهل السنة، وهو الظاهر من أحاديث المعراج الكثيرة التي فيها أن موسى -صلى الله عليه وسلم- بعد إبراهيم في المنزلة، والله أعلى وأعلم.
وهذه الآية الكريمة التي كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقرأ بها كثيرًا في سنة الصبح؛ مع قوله -سبحانه وتعالى-: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران:64)، كما ورد ذلك في صحيح مسلم، أو الآية الأخرى -على اختلاف الروايات-: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران:52)؛ لَيَدُلُّنا على أن دين الإسلام هو دين الأنبياء جميعًا -صلى الله عليهم وسلم أجمعين-، ورزقنا الله -عز وجل- رفقتهم في الآخرة، وألحقنا بهم صالحين.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 208.90 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 203.03 كيلو بايت... تم توفير 5.87 كيلو بايت...بمعدل (2.81%)]