من وحي الهجرة: درس التضحية - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4593 - عددالزوار : 1301484 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4138 - عددالزوار : 828262 )           »          جرائم الرافضة.. في الحرمين على مر العصور (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 118 )           »          المستشارة فاطمة عبد الرؤوف: العلاقات الأسرية خير معين للأبناء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 114 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 13156 - عددالزوار : 348697 )           »          الحياة الإيمانية والحياة المادية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 177 )           »          وَتِلْكَ عَادٌ... (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 307 )           »          معركة شذونة.. وادي لكة.. وادي برباط (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 312 )           »          أخــــــــــلاق إسلامية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 845 )           »          إضاءات سلفية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 9 - عددالزوار : 2953 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 26-08-2022, 06:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,282
الدولة : Egypt
افتراضي من وحي الهجرة: درس التضحية

من وحي الهجرة: درس التضحية
الشيخ محمد عبدالتواب سويدان

نص الخطبة: الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا معبود بحقٍّ سواه، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، بعثه ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فصبر وصابر، وجاهد وهاجر، حتى ارتفعت أعلام الدين، وحقَّ القول على الكافرين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وعلى من سار على نهجه إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد أيها الكرماء الأجلاء عباد الله:
فإن الهجرة النبوية موقع من مواقع التأمل في هذه المسيرة المباركة، إنها بحق تشريع للأمة، ومعلم من معالم دينها، ولقد كرر القرآن المجيد الحديث عن الهجرة، ومجد أهلها، وعطر حديثها، فهو حدث ليس ككل حدث، بل يحتاج منا إلى الوقوف عنده طويلًا، والتأمل في دروسه ونتائجه كثيرًا؛ حتى تزداد العقول نورًا وإيمانًا وعطاءً، وتضحيةً وإخاءً، وبذلًا وفداءً، لنعلم أن المعالي لا تُنال بالأماني، وأن الدعوات لا تقوم إلا على ألوان البذل والتضحيات، وأشرف التضحيات وأسماها ما كان ابتغاء وجه الله تعالى، ولقد كانت الهجرة في ذاتها نوعًا من أرقى أنواع التضحية.

أيها المسلمون، إن التضحية في أدق عبارة وأرق إشارة هي: بذل ما يستطيع المسلم تقديمه وبذله من النفس والمال، والوقت والحياة والجهد، وكل شيء ابتغاء مرضاة الله عز وجل، والمرادف لهذا المعنى: الفداء، ومن معانيها: البذل والعطاء من أجل تحقيق غايةٍ سامية.

وإن مَن تدبَّر في كتاب الله جل في علاه، ومن نظر في سنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن تطلع كتب السير والتاريخ، ومن ناقش الواقع - لَيدرك تمامًا أنه لن تسود أمة، ولن يتقدم وطن، ولن يرقى مجتمع، ولن تستقيم أسرة، ولن يصل فرد إلى مراده ومبتغاه - إلا إذا أخذوا بمبدأ عظيم جليل هو من أعلى المبادئ، وفضيلة عظيمة هي من أسمي الفضائل؛ ألا وهي "التضحية"؛ ومن ثَمَّ، فإن سمو الأهداف، وشرف المقاصد، ونبل الغايات تقتضي سمو التضحيات وشرفها، ورقي منازلها؛ فإن المجتمعات والأفراد لا ترتقي إلا على ألوان البذل والتضحية بشتى صنوفها، وإن المعالي لا تُنال بالأماني، بل لا بد من البذل والتضحية.

تضحية الرسول القدوة صلى الله عليه وسلم:
إخوة الإسلام، هيا بنا لنرى كيف ضحى رسول الله، وقدَّم التضحيات بكل غالٍ ونفيسٍ؛ من أجل أن يبلغ رسالة ربه عز وجل؛ من أجل أن يُخرِج الناس من الظلمات إلى النور، لقد لقي محمد صلى الله عليه وسلم من قومه من أذاهم ما لقي، لقد هموا عليه الصلاة والسلام أن يقتلوه، ويستريحوا منه - فيما زعموا - وأن يُثْبِتُوه؛ فيُفرَض عليه الإقامة الجبرية، ويمنعوه من مغادرة مكة، أو يخرجوه فينفوه إلى بعض البلاد ويرتاحوا من دعوته: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30]، وروى الإمام أحمد بسنده عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقد أُوذيتُ في الله، وما يُؤذى أحد، وأُخفت في الله وما يُخاف أحد، ولقد أتت عليَّ ثلاثون ليلة من بين يوم وليلة، وما لي ولبلال رضي الله عنه ما يأكله ذو كبد، إلا ما يواري إبط بلال))؛ [أخرجه ابن ماجه، وابن حبان، والترمذي].

وعن عائشة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: ((لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على بن عبدياليل بن عبدكلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أسْتَفِقْ إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك مَلَكَ الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال؛ فسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد، فقال ذلك فيما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا))؛ [رواه البخاري ومسلم].

وعن عروة بن الزبير قال: قلت لعبدالله بن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي مُعَيط، فأخذ بمَنْكِبِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر، فأخذ بمنكبه، ودفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: ﴿ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [غافر: 28]))؛ [صحيح البخاري].

أيها المسلمون: فهذا رأس الدعوة، وقائد الأمة، رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحمل العبء الثقيل من التطاول عليه بالسخرية والاستهزاء، ثم بالكذب والافتراء، ثم بتجربة الوعد والإغراء، ثم بتسليط الجهلة والسفهاء، ثم بالتآمر الدنيء على الاغتيال، ويأتي وقت التنفيذ للمؤامرة الدنيئة على أساس أن يختاروا من كل قبيلة شابًّا قويًّا، وكل منهم يمسك بسيفه ثم يعمدون إلى ضرب الرسول ضربةً واحدةً؛ ليتفرق دمه في القبائل، فلا يستطيع أهله أن يأخذوا بثأره.

ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يمضي بهدى ربه وتوفيقه، معتصمًا بحبله؛ مرددًا قوله: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ﴾ [يس: 9]، ويخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بينهم وهم لا يبصرونه، وهذه سنة الله إذا أراد شيئًا قال له: كن فيكون، خرج صلى الله عليه وسلم مهاجرًا، ووصل أطراف مكة، والتفت إليها، وقال صلى الله عليه وسلم: ((والله إني أعلم أنكِ خير أرض الله، وأحبها إلى الله، ولولا أن أهلكِ أخرجوني منكِ ما خرجتُ)).

وفي رواية: ((ما أطيبكِ من بلدٍ وأحبكِ إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منكِ ما سكنت غيركِ))؛ [رواه الترمذي، والبيهقي، وغيرهما]، وهكذا ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بموطنه ومسكنه وأهله، يلتمس أرضًا خصبة لنشر رسالة ربه تعالى.

أيها الأحبة الكرام: وقد تعلم أصحاب النبي منه كيف تكون التضحية وإليكم بعض المواقف من حياتهم:
تضحيات أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
أيها المسلمون: ولقد عاش الصحابة في حادث الهجرة التضحية في أروع صورها، وبذلوا في سبيل دينهم الغاليَ والرخيص، والنفس والنفيس، وبذلوا الجهد الجهيد والوقت الثمين، لم تشغلهم الأموال والأعمال، ولا الزوجات والأولاد عن الخروج في سبيل الله، ونصرة الدين، ضحوا بكل شيء، نعم، بكل شيء؛ حتى تبقى راية الإسلام خفاقة، ولتبقى كلمة التوحيد تتردد في جنبات هذا الكون؛ زوج يفارق زوجته، وأب يفارق أبناءه، وابن يفارق والديه، ورجل يبيع نفسه لله، وآخر يقدم ماله، وكلهم جميعًا تركوا الديار والأوطان، والأموال والأقارب والخلان، كل ذلك في سبيل رضا الرحمن، وإعلاء كلمة الواحد الديان.

فيا رسول الله طب نفسًا بطائفةٍ
باعوا إلى الله أرواحًا وأبدانًا
دفعوا ضريبة نصر الله من دمهم
والناس تزعم نصر الدين مجانًا


أبو بكر الصديق: فهذه أسماءُ تحدث عن أبيها أبي بكر رضي الله عنه، قالت: ((لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج أبو بكر معه، احتمل أبو بكر ماله كله، وكان خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم، فانطلق به معه، قالت: فدخل علينا جدي أبو قحافة، وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه، قالت: قلت: كلا يا أبت، إنه قد ترك لنا خيرًا كثيرًا، قالت: فأخذت أحجارًا، فوضعتها في كوة في البيت، التي كان أبي يضع أمواله فيها، ثم وضعت عليها ثوبًا، ثم أخذت بيده، فقلت: يا أبت، ضع يدك على هذا المال، قالت: فوضع يده عليه، فقال: لا بأس، إذا ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم، ولا والله ما ترك لنا أبي شيئًا، ولكنني أردت أن أسكن الشيخ)).

وعن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: سمعت عمر بن الخطاب، يقول: ((أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك عندي مالًا، فقلت: اليوم أسبق أبا بكرٍ إن سبقته يومًا، قال: فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله، وأتى أبو بكرٍ بكل ما عنده، فقال: يا أبا بكر، ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسبقه إلى شيءٍ أبدًا))؛ [رواه الترمذي].

فهل هناك أعظم من هذه التضحية؟ وهل هناك أروع من هذه التربية؟
أحبتي الكرام، أي نوعٍ من الدعاة كان أبو بكر رضي الله عنه!؟ لقد سخر كل ما يملك فداءً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وخدمة لدعوته، سخر نفسه، وأولاده، وأمواله، وعبيده، ورواحله، وأغنامه، لخدمة العقيدة، وإنجاح الهجرة:
أما هو، فخادم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومرافق له، يفديه بالروح والدم والعشيرة.

وأما أهل بيته، ومواليه، فقد كان لكل واحد منهم مهمة؛ فعبدالله بن أبي بكر، لتنصت الأخبار، وأسماء بنت أبي بكر، لجلب الطعام، وعامر بن فهيرة مولاه، لتعفية الآثار، والرواحل للركوب، والغنم لشرب اللبن، والمال يستأجرون به الدليل، ويتبلغون به على الطريق؛ فهل رأيتم في الدنيا أعظم وأبرك على الدعوة من عائلة هذا الحواري الجليل، رضي الله عنه؟

وهذا علي بن أبي طالب: ذاك الفدائي العظيم، يبيت في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة، معرضًا نفسه للقتل الذي ما منه بدٌّ، في حالة علِم المشركون وقدروا عليه، لكنها نفس ترخص في سبيل الدفاع عن الدين وعن رسوله.
يجود بالنفس إن ضنَّ الجواد بها
والجود بالنفس أقصى غاية الجود


يوم قبل أن ينام في سرير رسول الله صلى الله عليه وسلم على علمه بخطة المشركين لاغتياله تلك الليلة، وهو يرى بأم عينيه اجتماع المشركين وبأيديهم السيوف على بابه، وهم يتحينون الفرصة السانحة للانقضاض عليه، فأي نموذج في الفداء هذا؟ وأية تضحية هذه؟

وهذا جندب بن ضمرة رضي الله عنه، ذلك الرجل الذي تقدمت به السن، ولكنه استمع إلى قول الله تعالى في سورة النساء: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾ [النساء: 97]، قال الشيخ: أنا لست من المستضعفين، وهاجر إلى المدينة، وحاول أولاده وأصحابه أن يمنعوه فلم يفلحوا، وفي الطريق أحس بدنو الأجل، فقال: اللهم إني أشهد أن لا إله إلا أنت، وأن محمدًا عبدك ورسولك، ثم فاضت روحه، فقال الصحابة: ليته مات بالمدينة؛ حتى يفوز بثواب المهاجرين؛ فأنزل الله: ﴿ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 100].

وهذا صهيب وقد كانت هجرته رضي الله عنه صورة تجلت فيها معاني التضحية بالمال، وبذله رخيصًا في سبيل الله، فحين خرج مهاجرًا، تبِعه نفر من المشركين ليمنعوه فأدركوه، فوقف واستخرج نباله من كنانته، وقال لهم: "يا معشر قريش تعلمون أني من أرماكم، والله لا تصلون إليَّ حتى أرميكم بكل سهم معي، ثم أضربكم بسيفي ما بقي بيدي منه شيء"، فقالوا له كما روى الحاكم في مستدركه: "أتيتنا صعلوكًا فكثر مالك عندنا، ثم تريد أن تخرج بنفسك ومالك؟ والله لا يكون ذلك، فقال: أرأيتم إن تركت مالي لكم هل تخلون سبيلي؟ قالوا: نعم، فدلهم على الموضع الذي خبأ فيه ماله بمكة، فسمحوا له بإتمام هجرته إلى المدينة المنورة، بعد أن ضحى بكل ما يملك في سبيل دينه، بلغ خبر صهيب رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن لحق به بالمدينة المنورة؛ فقال له صلوات الله وسلامه عليه: ((ربِح البيع أبا يحيى؛ وتلا قول الله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [البقرة: 207])).

وفي روايةٍ أخرى: قال صهيب رضي الله عنه: ((وخرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء، قبل أن يتحول منها، فلما رآني، قال: يا أبا يحيى، ربح البيع؛ ثلاثًا، فقلت: يا رسول الله، ما سبقني إليك أحد، وما أخبرك إلا جبريل عليه السلام))؛ [رواه الحاكم].

وقال عبدالله بن عباس رضي الله عنه في تفسيره لقول الله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [البقرة: 207]: "نزلت في صهيب بن سنان وأصحابه، اشترى نفسه بماله من أهل مكة".

وهذا أبو سلمة بن عبدالأسد مثال راقٍ من التضحية لله ولدينه ولرسوله، قال ابن هشام: "فكان أول من هاجر إلى المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو سلمة بن عبدالأسد المخزومي، واسمه عبدالله، هاجر إلى المدينة قبل بيعة أصحاب العقبة بسنة، وكان قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة من الحبشة، فلما آذته قريش، وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار، خرج إلى المدينة مهاجرًا"، ولنترك أم سلمة رضي الله عنها تقص علينا وقائع هذه الملحمة الخالدة، قالت: "لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة، رحل لي بعيره ثم حملني عليه، وحمل معي ابني سلمة في حجري ثم خرج يقود بي بعيره، فلما رأته رجال بني المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، قاموا إليه، فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتك هذه، علام نتركك تسير بها في البلاد؟ قالت: فنزعوا خطام البعير من يده، فأخذوني منه، قالت: وغضب عند ذلك بنو عبدالأسد، رهط أبي سلمة، فقالوا: لا والله، لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا، قالت: فتجاذبوا بُنيَّ سلمةَ بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبدالأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة، قالت: ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني، قالت: فكنت أخرج كل غداة، فأجلس بالأبطح، فما أزال أبكي حتى أمسى سنةً أو قريبًا منها، حتى مر بي رجل من بني عمي، فرأى ما بي فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة، فرقتم بينها وبين زوجها وولدها؟ قالت: فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت، قالت: وردَّ بنو عبدالأسد إليَّ عند ذلك ابني، قالت: فارتحلت بعيري، ثم أخذت بني فوضعته في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة"، ألا فهل هناك أعظم وأروع من هكذا تضحية؟

أما مصعب بن عمير: شاب غني باع الغنى والقرابة، والاستقرار والثروة، والمال والجاه والراحة، والحياة الهانئة الرخية، وارتضى الحرمان والمشقة والأذى والبلاء، حتى تحشف جلده بعد أن كان أنعم فتى في مكة كلها، تضرب بنعومته الأمثال، وبعد أن كان أغنى فتى في مكة، وأكثرها دلالًا، وأبهاها جمالًا، وأغناها جاهًا ومالًا، إذا به يموت في أرضٍ غريبة وفي فقر مدقع، حتى لا يجد الناس ما يكفنونه به بعد موته إلا خميصة، إذا غطوا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطوا به رجليه بدا رأسه، في سبيل من كل هذا؟ إنه في سبيل الجنات، ورضا رب الأرض والسماوات، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عباده الذين اصطفى؛ أما بعد:
فتلكم - أيها الأحبة الكرام - مشاهد قليلة من ملحمة التضحية التي سطرها أسلافنا الكرام من الصحابة الأخيار حين دعاهم رسول الله إلى الهجرة؛ ما تهاونوا وما تراخوا في تلبية النداء، وما بخلوا بأنفسهم ولا بأموالهم في سبيل نصرة نبيهم، وما كبلتهم عواطفهم نحو أهليهم وأبنائهم وبلدانهم، ولا حالت بينهم وبين الانطلاق إلى طَيبة المباركة، فهلا سرنا على خطا هؤلاء الأحبة، وهلا تحررنا من قيود الدنيا وفتنها لننطلق بصدق وثبات منتصرين لهذا الدين، عاملين على استعادة المجد والسؤدد والتمكين، وما تسلط الأعداء على دين الله وعلى المؤمنين بالله واليوم الآخر، إلا لما انتشرت الأنانيات، وذبلت في النفوس معاني التضحية والفداء، وقعد المسلمون عن البذل في سبيل الله بالغالي والنفيس، إننا اليوم - أيها المسلمون - نريد تضحيةً من الرجال والنساء، والشباب والفتيات؛ فوالله ما تحولت الأمة من رعاة للإبل والغنم إلى سادةٍ وقادةٍ للدول والأمم، إلا يوم أن صدقت في إيمانها، واعتزت بإسلامها، ونصرت دين ربها، وضحت لهذه العقيدة ولهذا الدين بكل ما تملك، وبأغلى ما تملك، بالنفس والأموال والنساء والأولاد والأوقات، ضحت الأمة من قبل بكل شيء.

فمتى يضحي المسلمون بأقواتهم وأرزاقهم من أجل إخوانهم؟ متى يشعرون أننا بالفعل جسد واحد، ((إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))، هكذا قامت دولة الإسلام وبذلك تنهض، أما ترى أن عثمان حين ضحى بماله في سبيل الله، فاز بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم له: ((ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم))؟

وأبو طلحة الأنصاري لما قدم أحب بساتينه لله، فاز بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذلك مال رابح)).

أما ترى أن سيدنا بلالًا لما ضحى بوقته في التقرب إلى الله بكثرة السجود، كان له الفوز الكبير؟ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلالٍ عند صلاة الفجر: ((يا بلال، حدثني بأرجى عملٍ عملته في الإسلام؛ فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة، قال: ما عملت عملًا أرجى عندي من أني لم أتطهر طهورًا في ساعة ليلٍ أو نهارٍ، إلا صليت بذلك الطهور ما كُتب لي أن أصلي))؛ [رواه البخاري].

أما ترى أن حارثة بن النعمان لما ضحى بوقته وجهده، فأحسن البر بأمه، كان له من الدرجات والحسنات ما لا يحصى من الأعداد؟ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دخلت الجنة فسمعت فيها قراءةً، فقلت: من هذا؟ قالوا: حارثة بن النعمان، كذلكم البر، كذلكم البر))، وكان أبر الناس بأمه.

فما أحوج الإسلام إلى تضحيات أبنائه المخلصين، الذين لهم أسوة حسنة فيمن قبلهم! إن التضحية تكون بالنفس، وتكون بالمال، وتكون بالوقت، وتكون بالجاه، وتكون بكل ما يملكه المرء، أسأل الله تعالى أن يصلح أحوالنا وأحوال بلادنا، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يعصمنا من كل سوء وبلاء.
اللهم ألهمنا الصواب، واهدنا سبل الرشاد.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وأقم الصلاة.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع



مجموعة الشفاء على واتساب


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 62.33 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 60.66 كيلو بايت... تم توفير 1.67 كيلو بايت...بمعدل (2.68%)]