موسوعة الشفاء للإعجاز العلمي فى القران والسنه .. بالإضافه الى اخر المقالات المنشوره - الصفحة 78 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4412 - عددالزوار : 850185 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3942 - عددالزوار : 386318 )           »          الجوانب الأخلاقية في المعاملات التجارية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 65 )           »          حتّى يكون ابنك متميّزا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 60 )           »          كيف يستثمر الأبناء فراغ الصيف؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 57 )           »          غربة الدين في ممالك المادة والهوى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 71 )           »          أهمية الوقت والتخطيط في حياة الشاب المسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 66 )           »          الإسلام والغرب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 72 )           »          من أساليب تربية الأبناء: تعليمهم مراقبة الله تعالى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 56 )           »          همسة في أذن الآباء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 57 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > الملتقى العلمي والثقافي

الملتقى العلمي والثقافي قسم يختص بكل النظريات والدراسات الاعجازية والثقافية والعلمية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #771  
قديم 12-07-2008, 04:34 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

لمسات بيانية من سورة الجمعة

الدكتور فاضل السامرائي
سأل سائل عن قوله تعالى:
(وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين) [الجمعة]
لم قدمت التجارة على اللهو أولاً فقال: (وإذا رأوا تجارة أو لهواً) وأخرها عنه بعد فقال: (خير من اللهو ومن التجارة)
والجواب والله أعلم أن سبب تقديم التجارة على اللهو في قوله: (وإذا رأوا تجارة أو لهواً) أنها كانت سبب الانفضاض ذلك أنه قدمت عير المدينة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، وكان من عرقهم أن يدخل بالطبل والدفوف والمعازف عمد قدومها فانفض الناس إليها ولم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلاً فأنزل الله قوله: (وإذا رأوا تجارة...) [1].
فقدمها لأنها كانت سبب الانفضاض وليس اللهو، وإنما كان اللهو والضرب بالدفوف بسببها فقدمها لذلك. ولهذا أفرد الضمير في (إليها) ولم يقل (إليهما) لأنهم في الحقيقة إنما انفضوا إلى التجارة وكان قد مسهم شيء من غلاء الأسعار.
وأما تقديم اللهو عليها فيما بعد في قوله: (قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة) فذلك لأن اللهو أعم من التجارة، فليس كل الناس يشتغلون في التجارة ولكن أكثرهم يلهون. فالفقراء والأغنياء يلهون، فكان اللهو أعم فقدمه لذلك إذ كان حكماً عاماً فقدم التجارة في الحكم الخاص لأنها في حادثة معينة وقدم اللهو في الحكم العام لأنه أعم. ولأنها مناسبة لقوله:
(والله خير الرازقين)فالتجارة من أسباب الرزق وليس اللهو فوضعها بجنبه ولأن العادة أنك إذا فاضلت بين أمور فإنك تبدأ بالأدنى، ثم تترقى فتقول: (فلان خير من فلان ومن فلان أيضاً)، وذلك كأن تقول: (البحتري أفضل من أبي فراس، ومن أبي تمام ومن المتنبي أيضاً)، فإنك إذا بدأت بالأفضل انتفت الحاجة إلى ذكر من هو أدنى، فبدأ باللهو لأنه ظاهر المذمة ثم ترقى إلى التجارة التي فيها كسب ومنفعة.
وكرر (من) مع اللهو ومع التجارة فقال: (خير من اللهو ومن التجارة) ليؤذن باستقلال الأفضلية لكل واحد منهما لئلا يتصور أن الذم إنما هو لاجتماع التجارة واللهو، فإن انفراد اللهو أو التجارة خرج من الذم، فأراد أآن يبين ذم كل منهما على جهة الاستقلال لئلا يتهاون في تقديم ما يرضي الله و تفضيله. ونحو ذلك، أن تقول: (الأناة خير من التهور والعجلة) فإن ذلك قد يفهم أنها خير من اجتماعهما، ذلك لأن اجتماعهما أسوأ من انفرادهما فإن الذي يجمع التهور والعجلة أسوأ من اتصف بإحدى الخلتين. فإن قلت: (الأناة خير من التهور ومن العجلة) أفاد استقلال كل صفة عن الأخرى، وأنها خير من أية صفة منهما، فإن اجتمعتا كان ذلك أسوأ. فجاء بـ (من) ليؤذن باستقلال كل من اللهو والتجارة وأنه ليس المقصود ذم الجميع بين الأمرين بل ذم وتنقيص كل واحد منهما، بالنسبة إلى ما عند الله.
جاء في (روح المعاني): "واختبر ضمير التجارة دون اللهو، لأنها الأهم المقصود، فإن المراد ما استقبلوا به العير من الدف ونحوه. أو لأن الانفضاض للتجارة مع الحاجة إليها والانتفاع بها إذا كان مذموماً، فما ظنك بالانفضاض إلى اللهو وهو مذموم في نفسه.
(خير من اللهو ومن التجارة)وتقديم اللهو ليس من تقديم العدم على الملكة كما توهم، بل لأنه أقوى مذمة فناسب تقديمه في مقام الذم. وقال ابن عطية: قدمت التجارة على اللهو في الرؤية لأنها أهم وأخرت مع التفضيل، لتقع النفس أولاً على الأبين.
وقال الطيبي: قدم ما كان مؤخراً وكرر الجار، لإرادة الإطلاق في كل واحد واستقلاله فيما قصد منه، ليخالف السابق في اتحاد المعنى، لأن ذلك في قصة مخصوصة[2] .
[1] انظر البحر المحيط 8/268، روح المعاني 28/104

[2] روح المعاني 28/105-106


  #772  
قديم 12-07-2008, 04:35 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

لمسات بيانية من سورة البلد




بقلم الدكتور فاضل السامرائي

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ



(لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ {1} وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ {2} وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ {3} لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ {4} أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ {5} يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا {6} أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ {7} أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ {8} وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ {9} وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ {10} فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ {11} وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ {12} فَكُّ رَقَبَةٍ {13} أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ {14} يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ{15} أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ {16} ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ {17} أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ {18} وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ {19} عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ)

سئلت مرة: ما علاقة القسم بمكة على خلق الإنسان في كبد في قوله تعالى: (لا أقسم بهذا البلد).
فقلت له ابتداءً: إن الله أقسم بمكة حال كون الرسول فيها والرسول كان يلاقي فيها عنتاً ومشقة وهو يبلغ الدعوة، فقال الله تعالى: إن الله خلق الإنسان مكابداً في دنياه، ليسليه ويصبره. ثم رأيت أن أنظر في السورة وأدون ما أجد فيها من لمسات فنية.
إن مناسبة هذه السورة لما قبلها ـ أعني سورة الفجر ـ مناسبة ظاهرة.
فقد جاء فيها ـ أعني في سورة الفجر ـ قوله تعالى: (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلاً لما وتحبون المال حباً جماً) [الفجر].
فقد ذكر فيها صنفي الإنسان: الغني والفقير. الصنف الذي أكرمه ربه ونعمه، والصنف الذي ابتلاه وضيق عليه الرزق، وهو ما ذكره في سورة البلد. فقد ذكر الإنسان الذي أهلك المال الكثير، وذكر المسكين ذا المتربة واليتيم ذا المقربة.
ووصف الله الإنسان بأنه لا يكرم اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين في سورة الفجر، وأوصانا بالرحمة وحضنا على الإنفاق في سورة البلد ذاكراً هذين الصنفين اللذين ذكرهما في سورة الفجر فقال: (أو إطعامٌ في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة) فذكر الصنفين المذكورين في سورة الفجر، اليتيم والمسكين. ولما وصف الله الإنسان بأنه يحب المال حباً شديداً ويأكل التراث أكلاً لما في سورة الفجر، ذكر في سورة البلد أن هذه عقبة لا يجتازها إلا من أعان الآخرين بماله وسمح لهم به.
ثم انظر إلى علاقة قوله: (وتأكلون التراث) بقوله: (أو إطعام في يوم ذي مسغبة) وأنه كما يأكل ينبغي أن يطعم الآخرين، فانظر إلى قوة المناسبة وجمال الارتباط. وقد انتبه المفسرون ـ رحمهم الله ـ إلى علاقة هذه السورة بما قبلها.
جاء في (البحر المحيط): "لما ذكر تعالى ابتلاءه للإنسان بحالة التنعيم، وحالة التقدير وذكر من صفاته الذميمة ما ذكر وما آل إليه حاله وحال المؤمن أتبعه بنوع من ابتلائه ومن حاله السيئ، وما آل إليه في الآخرة [1].
وجاء في (روح المعاني): "ولما ذم سبحانه فيما قبلها من أحب المال، وأكل التراث أكلاً لما، ولم يحض على طعام المسكين، ذكر جل وعلا فيها الخصال التي تطلب من صاحب المال من فك الرقبة، وإطعام في يوم ذي مسغبة. وكذا لما ذكر ـ عز وجل ـ النفس المطمئنة هناك ذكر سبحانه بعض ما يحصل به الاطمئنان"[2].
ثم انظر من ناحية أخرى، كيف أن هذه السورة ـ أعني سورة البلد ـ استوفت عناصر البلاغ والإرسال، فقد ذكرت موطن الرسالة، والرسول، والمرسل إليهم، والرسالة. فقد ذكرت (مكة) وهي المرادة بقوله: (بهذا البلد)، والرسول: وهو المراد بقوله: (وأنت حل بهذا البلد) وذكرت المرسل إليه وهو (الإنسان) ويدخل فيه أيضاً: (الوالد وما ولد)، وذكرت الرسالة، وهي الإيمان والعمل الصالح، وهو ما ذكرته من فك الرقبة ونحوه من الأعمال الصالحة. وذكرت أصناف الخلق بالنسبة للاستجابة إلى الرسالة، وهم أصحاب الميمنة الذين اقتحموا العقبة وأصحاب المشأمة، وهم الكفرة. فانظر أي عموم واستيفاء وشمول في هذه السورة المباركة؟
(لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد ووالد وما ولد لقد خلقنا الإنسان في كبد).
لقد أقسم الله تعالى بما ذكر "على أن الإنسان خلق مغموراً في مكابدة الشدائد والصعاب"[3].
فقد أقسم سبحانه بالبلد الحرام في حال حلول الرسول صلى الله عليه وسلم فيه وإقامته به يبلغ دعوته.
وقد تقول: ولم قال: (وأنت حل) ولم يقل: وأنت حال أو مقيم بهذا البلد.
والجواب: أنه جمع بالعدول إلى كلمة (حل) عدة معان في آن واحد كلها مرادة مطلوبة. ذلك أن كلمة (حل) تحتمل معاني عدة:
منها: أنها تأتي بمعنى الحال والمقيم[4].
وقالوا: إن المقصود، تعظيم المقسم به، وهو أنه لما حل الرسول بمكة جمعت شرفين، شرفها هي الذي شرفها الله به، وشرف الرسول فازدادت تعظيماً على تعظيم وشرفاً على شرف، واستحقت بذلك القسم.
جاء في (البحر المحيط): "إنه تعالى أقسم لما جمعت من الشرفين شرفها بإضافتها إلى الله تعالى، وشرفها بحضور رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإقامته فيها فصارت أهلاً لأن يقسم بها"[5].
وجاء في (تفسير البيضاوي): "أقسم سبحانه بالبلد الحرام، وقيده بحلوله عليه السلام فيه، إظهاراً لمزيد فضله وإشعاراً بأن شرف المكان بشرف أهله"[6].
وجاء في (التبيان في أقسام القرآن): "إنه إذا كان الحل من الحلول، فهو متضمن لهذا التعظيم مع تضمنه أمراً آخر، وهو الإقسام ببلده المشتمل على رسوله وعبده، فهو خير البقاع، وقد أشتمل على خير العباد. فجعل بيته هدى للناس ونبيه إماماً وهادياً لهم، وذلك من أعظم نعمه وإحسانه إلى خلقه"([7]).
"وقيل: هو نفي للقسم. والمعنى: لا أقسم بهذا البلد إذا لم تكن فيه بعد خروجك منه"[8].
ومن معاني (الحل): أنها تأتي بمعنى اسم المفعول، أي: مستحل، على هذا يكون المعنى: وأنت مستحل قتلك لا تراعى حرمتك في هذا البلد الحرام الذي يأمن فيه الناس على دمائهم وأموالهم والذي يأمن فيه الطير والوحش.
جاء في (الكشاف): "ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمتك، مستحل بهذا البلد الحرام كما يستحل الصيد في عير الحرم.
عن شرحبيل: يحرمون أن يقتلوا بها صيداً ويعضدوا بها شجرة ويستحلون إخراجك وقتلك.
وفيه تثبيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة وتعجيب من حالهم في عداوته.
أو سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقسم ببلده على أن الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد"[9].
وجاء في (روح المعاني): "وفيه تحقيق مضمونه بذكر بعض المكابدة على نهج براعة الاستهلال، وإدماج لسوء صنيع المشركين، ليصرح بذمهم على أن الحل بمعنى المستحل بزنة المفعول الذي لا يحترم، فكأنه قيل: ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمته يستحل بهذا البلد ولا يحترم كما يستحل الصيد في غير الحرم… وفي تأكيد كون الإنسان في كبد، بالقسم تثبيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث على أن يطامن نفسه الكريمة على احتماله، فإن ذلك قدر محتوم"[10].
وجاء في (التبيان في أقسام القرآن): "وفي الآية قول ثالث، وهو أن المعنى: وأنت مستحل قتلك وإخراجك من هذا البلد الأمين الذي يأمن فيه الطير والوحش والجاني، وقد استحل قومك فيه حرمتك، وهم لا يعضدون به شجرة ولا ينفرون به صيداً… وعلى كل حال فهي جملة اعتراض في أثناء القسم موقعها من أحسن موقع وألطفه.
فهذا القسم متضمن لتعظيم بيته ورسوله"[11].
ومن معاني (الحل) أنها تأتي بمعنى الحلال ضد الحرام، أي: "وأنت حلال بهذا البلد يحل لك فيه قتل من شئت. وكان هذا يوم فتح مكة"[12].
وجاء في (الكشاف): "يعني وأنت حل به في المستقبل، تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر… فإن قلت: أين نظير قوله: (وأنت حل) في معنى الاستقبال؟ قلت: قوله: (إنك ميت وإنهم ميتون) ومثله واسع في كلام العباد"[13].
وعلى هذين القولين الأخيرين تكون (لا) نافية، أي: لا أقسم بهذا البلد في حين أن أهله يستحلون حرمتك، ولا يرعون لك قدراً، أو لا أقسم به وقد جاء أهله بأعمال تستحل حرمتهم والوقيعة بهم في هذا البلد الآمين. فعلى كلا القولين: تكون (لا) نافية.
جاء في (البحر المحيط): "وقال ابن عطية: وهذا يتركب على قول من قال: (لا) نافية، أي: أن هذا البلد لا يقسم الله به، وقد جاء أهله بأعمال توجب الإحلال، إحلال حرمته"[14].
وقيل: المعنى: "وأنت حل بهذا البلد مما يقترفه أهله من المآثم متحرج بريء منها"[15]، كما تقول: أنا في حل من هذا.
وهذه المعاني كلها مرادة مطلوبة، فهو صلى الله عليه وسلم حال بهذا البلد الكريم يبلغ رسالة ربه متحرج من آثامهم بريء من أفعال الجاهلية، وقد استحلت حرمته وأريد قتله في حين حلوله به وتبليغ دعوة ربه. وأنه حل لهذا الرسول أن يقتل ويأسر في هذا البلد يوم الفتح ما لا يحل لغيره. وهذا على الاستقبال وعلى الوعد بنصره.
فانظر كيف جمعت كلمة (حل) هذه المعاني المتعددة بخلاف ما لو قال: (حال) أو مقيم، أو حلال، أو ما إلى ذلك مما يقصر الكلام على معنى واحد. فإنها جمعت اسم الفاعل وهو الحال، واسم المفعول وهو المستحل، والمصدر وهو الحلال. فانظر أي اتساع في المعنى؟
وهي في هذه المعاني كلها مرتبطة بالمقسم عليه، وهو قوله: (لقد خلقنا الإنسان في كبد) أحسن ارتباط وأوثقه كما سنبين ذلك.
وقد تقول: ولم لم يقل: (لا أقسم بهذا البلد الأمين) كما أقسم في سورة التين؟
والجواب: أنه لما جرى ذكر المكابدة في هذا البلد، وما استحل به من الحرمات وما أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم من المشقة والعنت والتعذيب لم يناسب ذلك ذكر الأمن.
كما لا يصح ذكر ذلك على معنى أنه حل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصنع فيه ما يشاء من القتل والأسر كما حدث في فتح مكة، فإن ذلك لا يناسب ذكر الأمن أيضاً.
كما أن جو السورة لا يناسب ذكر الأمن، فإن جو السورة في المكابدة والمشقة حتى أنه لم يذكر جزاء المؤمنين في الآخرة، بل ذكر جزاء الكافرين وهذا الجزاء لا يأمن معه الكافر أبد الآبدين. فلم يناسب ذلك ذكر (الأمين).
وقد تقول: ولم كرر (بهذا البلد) في الآيتين فقال: (وأنت حل بهذا البلد) ولم يقل: (وأنت حل به)؟.
والجواب: أن هذا أجمل تكرير وأحسنه ولا يقع الضمير موقعه في الحسن. إذ من المعلوم أن العرب إذا عنيت بلفظ كررته وذلك كأن يكون في موطن التشويق أن التحسر أو التعظيم أو التهويل وغير ذلك من مواطن العناية والاهتمام وذلك نحو قال الشاعر:
يا موقد النار بالهندي والغار
هيجت لي حزناً يا موقد النار
فأنت ترى أن تكرار (يا موقد النار) من أجمل التكرار وأحسنه.
ومثل ذلك التكرار للتحسر نحو قوله:
فيا قبر معن أنت أول حفرة
من الأرض خطت للسماحة موضعاً
ويا قبر معن كيف واريت جوده
وقد كان منه البر والبحر مترعاً
ونحوه قول أبي العتاهية:
مات والله سعيد بن وهب
رحم الله سعيد بن وهب
يا أيا عثمان أبكيت عيني
يا أبا عثمان أوجعت قلبي
ومن التكرير للتعظيم والتهويل قوله تعالى: (الحاقة ما الحاقة) و(القارعة ما القارعة) [16] و: (وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين).

ومن التكرير للإنذار قوله تعالى: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ {97} أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ) [الأعراف].

فانظر حسن هذا التكرير وجمال موقعه.
وقد يكون التكرير للإنكار وذلك كأن تقول لشخص أساء إلى من أحسن إليه في حين تنكر له الأقربون وطرده الناس أجمعون: أتعادي خالداً الذي أكرمك، وآواك وأنت حينذاك طريد مهان لا أحد يؤويك؟ أتهين خالداً الذي أكرمك وآواك من أجل شخص رذيل؟ أتسرق خالداً الذي أكرمك وآواك، وقد وثق بك وائتمنك؟ ثم أتتهم خالداً الذي أكرمك وآواك بما تعلم أنه كذب ووزر؟ أيسيء أحد إلى الشخص الذي أكرمه وآواه؟ أيفعل أحد كل هذا مع الشخص الذي أكرمه وآواه؟ أي فعل هذا. وأي إنسان ذلك الإنسان؟!.
والتكرار في الآية لتعظيم بلد الله الحرام فقد قال: (لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد) أي: وأنت حال بهذا البلد تلقى العنت والظلم والأذى، بهذا البلد الذي يأمن فيه الخائف، ويأمن فيه الوحش والطير، فأي انتهاك لحرمة هذا البلد، وأي جور يقع بهذا البلد؟
وما إلى ذلك من المعاني الأخرى، التي تقال في تفسير كلمة (حل).
جاء في (ملاك التأويل): "للسائل أن يسأل عن تكرير لفظ (البلد) وجعله معطوفاً وفاصلة في الآيتين وكيف موقع ذلك في البلاغة، وعند الفصحاء.
والجواب: أنه قد تقدم أن العرب مهما اعتنت بشيء وتهممت به كررته، وإن ذلك من فصيح كلامهم وأن منه قوله:
وإن صخراً لوالينا وسيدنا
وإن صخراً إذا نشتو لنحار
وإن صخراً لتأتم الهداة به
كأنه علم في رأسه نار
… وذكره ظاهراً لما يحرز هذا المعنى من تعظيمه، لما فيه من تعظيمه لما فيه من التنبيه والتحريك"[17].
وقيل إن التكرير جيء به لفائدة أخرى وهي أن هذا البلد حرام لا تستحل حرمته، ولا يسفك فيه دم ولا يروع فيه آمن، ولكن الله أحل لنبيه يوم فتح مكة ما لم يحله لغيره من قتل وأسر فكأن هذا البلد في هذا اليوم غيره في سائر الأيام وأنه أصبحت له صفة أخرى، وهي صفة الحل فجمع صفتي الحرم والحل فتكرر لتكرر الوصفين، وكأنه أصبح بلدين لا بلداً واحداً.
جاء في (درة التنزيل): "السائل أن يسأل عن تكرير (البلد) وجعله فاصلة بين الآيتين.
والجواب أن يقال: إذا عني بالثاني غير المقصود بالأول من وصف يوجب له حكماً غير حكم الأول كان من مختار الكلام. فالبلد الأول قصد به وصف لم يحصل في الثاني وهو مكة. لأن معنى أقسم بالبلد المحرم الذي جبلت على تعظيمه قلوب العرب، فلا يحل فيه لأحد ما أحل للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقوله: (وأنت حل) أي: محل حل لك منه ما حرم على غيرك.
فصار المعنى: أقسم بالبلد المحرم تعظيماً له، وهو مع أنه محرم على غيرك. محل لك إكراماً لمنزلتك. فالبلد في الأول محرم وفي الثاني محلل"[18].
(ووالد وما ولد)
اختلف في الوالد هذا وما ولد، فقيل: هو آدم وذريته "وعلى هذا فقد تضمن القسم، أصل المكان وأصل السكان، فمرجع البلاد إلى مكة ومرجع العباد إلى آدم"[19].
وقيل: رسول الله صلى الله عليه وسلم وآباؤه فعلى هذا "أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه وحرم أبيه ومنشأ أبيه إسماعيل وبمن ولده وبه. فإن قلت: لم نكر؟ قلت: للإبهام المستقل بالمدح والتعجب"[20].
وقيل: هو كل والد وما ولد من العقلاء وغيرهم " لا يراد به معين، بل ينطلق على كل والد. وقال ابن عباس ذلك. قال: هو على العموم يدخل فيه جميع الحيوان"[21].
وهذا الذي يترجح عندي فهو يشمل كل والد وولده يدخل فيه ما ذكره الأولون ولا يخصهم.
ووجه ارتباطها بالمقسم عليه ظاهر، ذلك أن الولادة مشقة وتعب ومكابدة، فارتباطها بقوله: (لقد خلقنا الإنسان في كبد) بين.
وكما هي مرتبطة بالمقسم عليه في أول السورة هي مرتبطة أيضاً بآخر السورة، وهو قوله: (وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) ذلك أن الوالد من الأناسي والبهائم، يحتاج في تربية ولده وحفظه وإطعامه والقيام عليه إلى صبر ورحمة. فأتضح بذلك قوة ارتباط الآية بأول السورة وآخرها.
ثم انظر كيف انتقل من الوالد وما ولد إلى خلق الإنسان ـ وهو من جملة الوالد وما ولد ـ فخصه من بين هذا العام لأن مدار الكلام معقود عليه.
ثم انظر كيف قال: (وما ولد) ولم يقل: (ومن ولد) ولذلك أكثر من سبب.
فإن (ما) عامة و(من) خاصة، فإن (ما) تقع لذوات غير العاقل، وتقع لصفات من يعقل، فتقول: (اركب ما تركب) و(آكل ما تآكل) فهي هنا لذوات غير العاقل. وتقع لصفات العقلاء قال تعالى: ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) [النساء]. وقال: (فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت) [آل عمران] وقال: (وما خلق الذكر والأنثى) [الليل]. وهو الله سبحانه. وتقول: (زيد ما زيد) قال تعالى: (وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين) [الواقعة].
فهي تكون للعاقل وغيره، فهي أعم وأشمل من (من) قال الفراء: "وصلحت (ما) للناس، ومثله (وما خلق الذكر والأنثى) وهو الخالق للذكر والأنثى مثله: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) ولم يقل: من طاب"[22].
ثم عن لفظها يوحي بالسعة والشمول، ذلك أنهال منتهية بحرف الإطلاق وهو الألف، وهو الذي يمتد فيه النفس بخلاف (من) الذي ينتهي بحرف مقيد، وهو النون الساكنة، فجعل المنتهي بحرف مطلق للمطلق الكثير، والمنتهي بحرف مقيد للقليل المقيد بالعقل.
فجاء بـ (ما) لتناسب العموم والشمول في الآية.
ثم إن هذه الآية مناسبة لجو السورة على وجه العموم، فهي مرتبطة بإطعام المحتاجين في اليوم ذي المسغبة، فإن الوالد يسعى إلى إطعام ولده ويلاقي من أجل ذلك ما يلاقي من مشقة ومكابدة. إن جو السورة تسيطر عليه المكابدة والمشقة والصبر والرحمة وكل ذلك يعانيه الوالد لحفظ ولده ورعايته.
ثم انظر من ناحية أخرى، كيف يحتمل قوله: (ووالد وما ولد) ما تحتمله كلمة (حل) من السعة في احتمالات المعنى، وكيف يناسب ذلك سعة (ما) نطقاً ومعنى.
(لقد خلقنا الإنسان في كبد).
الكبد: الشدة والمشقة[23]. ومعنى (في كبد) أنه "يكابد مشاق الدنيا والآخرة. ومشاقه لا تكاد تنحصر من أول قطع سرته إلى أن يستقر قراره، إما في جنة، فتزول عنه المشقات، وإما في نار فتتضاعف مشاقته وشدائده"[24].
وقيل: "يكابد الشكر على السراء ويكابد الصبر على الضراء لا يخلو عن أحدهما"[25].
لقد عبر عن هذا المعنى بقوله: (لقد خلقنا الإنسان في كبد) ولم يقل: (يكابد) أو (مكابداً) ونحو ذلك، ذلك أن (في) تفيد الظرفية والوعاء. ومعناه: أن الإنسان خلق مغموراً في المشاق والشدائد والصعاب منغمساً فيها كما ينغمر الشيء في الماء، وكما يكون الشيء في الوعاء. فالشدائد والمشاق تحيط بالإنسان لا تنفك عنه إلى أن يموت. وبعد الموت إما أن يجتاز العقبة، فيدخل الجنة فتزول عنه الشدائد والمصائب، وإما أن لا يجتازها فيبقى في المشقات والشدائد أبد الآبدين منغمراً في النار وهي أكبر الشدائد وأعظمهن.
ومن معاني (الكبد) أيضاً القوة والشدة والصلابة.
جاء في (لسان العرب): "وكبد كل شيء عظم وسطه وغلظه كبد كبداً وهو أكبد، ورملة كبداء عظيمة الوسط… والكبداء: الرحى التي تدار باليد، سميت كبداء لما في إرادتها من المشقة. وفي حديث الخندق: فعرضت كبدة شديدة وهي القطعة الصلبة من الأرض. وأرض كبداء وقوس كبداء: أي شديدة"[26].
وهذا المعنى من لوازم المعنى الأول، فإن الذي خلق مكابداً للشدائد والمصائب متحملاً مشاق الدنيا لا بد أن يكون خلق مستعداً لذلك قوياً عليه شديد التحمل له.
إن هذه الآية هي جواب القسم الذي تقدم، فقد اقسم بالبلد الحرام في وقت حلول الرسول الأعظم فيه، وأقسم بالوالد وما ولد على أن الإنسان خلق مغموراً في الشدائد والمشاق.
والسورة كلها مبنية على هذا الأمر، فهي مبنية على مكابدة الإنسان للشدائد والمصائب والمشاق. وكل لفظة وكل تعبير في هذه السورة مبني على ذلك ويخدم هذا الشيء.
أما ارتباط القسم بالجواب، فهو واضح فقد ذكرنا ارتباط قوله تعالى: (لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد) بهذه المكابدة وكيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلقى ما يلقى من قومه من مشقة وشدة وهو يبلغ دعوة ربه وفي هذا إشارة إلى أن الدعاة ينبغي أن يوطنوا أنفسهم على المكابدة والصبر، وتحمل المشاق، فإن هذا من لوازم الدعوة إلى الله تعالى، فقلما يكون الداعية في عافية من ذاك. قال تعالى: (ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) [العنكبوت].
والفتنة مشقة كبيرة وشدة بالغة، نسأل الله العافية. وعلى الإنسان أن يكابد ويجاهد للنجاة منها. ثم انظر من ناحية أخرى كيف ارتبطت مفردات القسم بكل معانيها بقوله: (لقد خلقنا الإنسان في كبد).
فالحل كما ذكرنا لها أكثر من معنى، وهي في كل معانيها مرتبطة بهذا الأمر. فهي إذا كانت بمعنى الحال والمقيم فهي مرتبطة به، ذلك أن الرسول في أثناء حلوله بمكة كان يكابد ويتحمل من أصناف الأذى والمشاق الشيء العظيم فهو في كبد من ذلك، وكان يتلقى ذلك بصر وثبات وقوة وشدة، فهي مرتبطة بالكبد بمعنييه، المشقة والقوة.


يتبـــــــــــــــــــــــــــــــع
  #773  
قديم 12-07-2008, 04:46 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبــع موضوع ..... لمسات بيانية من سورة البلد

وإذا كانت بمعنى اسم المفعول، أي: مستحل قتلك وإيذاؤك لا تراعى حرمتك، فهي مرتبطة بذلك ارتباطاً واضحاً فهذا كله مشقة ونصب.
وإذا كانت بمعنى أنك حل من أعمالهم متحرج من آثامهم بريء منها فهي مرتبطة بها كذلك، ذلك أنه يكابد ويجاهد ليخرج عن مألوف عادات قومه وأفعالهم، ويكابد للقيام بفضائل الأعمال وجلائلها، وهي أمور مستكرهة على النفس ثقيلة عليها، تحتاج إلى مكابدة وقوة للقيام بها، قال تعالى: (إنا سنقلى عليك قولاً ثقيلاً) [المزمل]. وقال صلى الله عليه وسلم : "حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات".
فهي في كل معانيها مرتبطة بالجواب أحسن ارتباط وأتمه.
وكذلك قوله: (ووالد وما ولد) مرتبط بالجواب أحسن ارتباط وأتمه، كما ذكرنا فهو مرتبط بـ (الكبد) بمعنييه: المشقة والقوة. فقد ذكرنا أن الولادة مشقة وعنت، وهي تحتاج إلى قوة ومثابرة ومكابدة لحفظ المولود وتربيته وبقائه وتوفير غذائه.
كما أن هذه الآية مرتبطة بما بعدها من اقتحام العقبة، ومشاق الجوع وغيرها أتم ارتباط، كما هو ظاهر وكما سنبين ذاك.
(أيحسب أن لن يقدر عليه أحد).
قيل: إن المعني بقوله: (أيحسب) بعض "صناديد قريش الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكابد منهم ما يكابد. والمعنى: أيظن هذا الصنديد القوي في قومه المتضعف للمؤمنين أن لن تقوم قيامة، ولم يقدر على الانتقام منه وعلى مكافأته بما هو عليه"[27].
وقيل: إن التهديد "مصروف لمن يستحقه"[28].
وقيل: إن المعني به الإنسان، أي: أيظن هذا الإنسان الذي خلق مكابداً شديداً، أن لن يقدر عليه أحد؟
جاء في (البحر المحيط): "والظاهر أن الضمير في (أيحسب) عائد على الإنسان، أي هو لشدة شكيمته وعزته وقوته، يحسب أن لا يقاومه أحد، ولا يقدر عليه أحد لاستعصامه بعدده وعدده"[29].
وجاء في (التبيان): "ثم أنكر سبحانه على الإنسان ظنه وحسبانه أن لن يقدر عليه من خلقه في هذا الكبد والشدة والقوة التي يكابد بها الأمور.
فإن الذي خلقه كذلك أولى بالقدرة منه وأحق. فكيف يقدر على غيره من لم يكن قادراً في نفسه. فهذا برهان مستقل بنفسه. مع أنه متضمن للجزاء الذي مناطه القدرة والعلم فنبه على ذلك بقوله: (أيحسب أن لن يقدر عليه أحد) وبقوله: (أيحسب أن لم يره أحد) فيحصي عليه ما عمل من خير وشر ولا يقدر عليه فيجازيه بما يستحقه"[30].
وارتباط هذه الآية بما قبلها واضح، فالذي خلق يكابد المصائب والمشاق لا بد أن يكون خلاق مستعداً لاحتمال ذلك ولا بد أن يكون شديد الخلق قوياً، وهو من معاني (الكبد) كما ذكرنا.
قال تعالى: (نحن خلقناهم وشددنا أسرهم) [الإنسان] فهذا الذي خلق شديداً قوياً ويكابد المصائب والمشاق قد يسبق إلى وهمه أن لن يقدر عليه أحد، فيهدده ربه ويتوعده إذا كان عنده هذا الحسبان بأن الذي خلقه وزوده بهذه القوة والشدة أقدر منه على نفسه.
والظاهر أن هذا الحسبان واقر في نفوس البشر فهم يتصورون أنه لا يتمكن منهم أحد ولا يقدر عليهم أحد، ولذا تراهم يعيشون في غطرسة وكبرياء وظلم بعضهم لبعض معتصمين بجبروتهم وقوتهم لا يحسبون لمن خلقهم حساباً، ولو حسبوا حساباً لخالقهم وربهم القوي القادر لتطامنوا وتواضعوا.
ثم إن هذه الآية مرتبطة بقوله تعالى: (وأنت حل بهذا البلد) أي: ألا يتصور هؤلاء الذين ينتهكون محارم البلد الحرام ولا يرعون لك حرمة فيؤذنك ويعذبونك مستندين إلى قدرتهم وجبروتهم ألا يظنون أن هناك من هو أقدر عليهم منهم عليك؟
فهي مرتبطة بما قبلها أتم ارتباط وأحسنه.
جاء في (تفسير الرازي): "اعلم أنا إن فسرنا (الكبد) بالشدة في القوة، فالمعنى أيحسب ذلك الإنسان الشديد أنه لشدته لا يقدر عليه أحد، وإن فسرناه بالمحنة والبلاء، كان المعنى تسهيل ذلك على القلب، كأنه يقول: وهب أن الإنسان كان في النعمة والقدرة، أفيظن أنه في تلك الحالة لا يقدر عليه أحد؟"[31].
(يقول أهلكت مالاً لبداً)
اللبد: هو الكثير المجتمع من تلبد الشيء إذا اجتمع[32].
ومعنى الآية: إنه يقول إنه أنفق مالاً كثيراً، وهو يقول ذاك إما على جهة الافتخار أو على جهة التحسر.
جاء في (الكشاف): "يريد كثرة ما أتفقه فيما كان أهل الجاهلية يسمونها، مكارم ويدعونها معالي ومفاخر"[33].
وجاء في (روح المعاني): "أي: يقول ذلك وقت الاغترار فخراً ومباهاة وتعظماً على المؤمنين وأراد بذلك ما أنفقه رياء وسمعة…
وقيل: المراد ما تقدم أولاً، إلا أن هذا القول وقت الانتقام منه، وذلك يوم القيامة. والتعبير عن الإنفاق بالإهلاك لما أنه لم ينفعه يومئذ"[34].
وقد عبر عن الإنفاق بالإهلاك، فإنه لم يقل: (أنفقت مالاً) كما هو الشائع في استعمال القرآن الكريم، واختيار تعبير الإهلاك في هذا الموطن أحسن اختيار وأجمله، فإنه المناسب لجو السورة، وذلك أنه مناسب لجو المشاق والشدائد التي تؤدي إلى الهلاك وتفضي إليه. وهو متناسب مع ما يعانيه الرسول وأصحابه في البد الحرام من الشدائد والمحن التي قد أدت ببعضهم إلى الهلاك كياسر وسمية، ومتناسب مع حسبان الإنسان أن لن يقدر عليه أحد فيهلكه، ومتناسب مع ذكر العقبة التي قد تفضي إلى الهلاك. ومتناسب مع ذوي المسغبة من اليتامى والمساكين وهلاكهم من الجوع إن لم يطعموا، ومتناسب مع خاتمة أصحاب المشأمة التي هي هلاك مقيم.
وعبر عن الإنفاق بالإهلاك لأسباب أخرى غير هذه.
جاء في (روح المعاني): "وعبر عن الإنفاق بالإهلاك إظهاراً لعدم الاكتراث، وأنه لم يفعل ذلك رجاء نفع فكأنه جعل المال الكثير ضائعاً"[35].
وجاء في (التبيان): "ثم أنكر سبحانه على الإنسان قوله: (أهلكت مالاً لبداً) وهو الكثير الذي يلبد بعضه فوق بعض، فافتخر هذا الإنسان بإهلاكه وإنفاقه في غير وجهه، إذ لو أنفقه في وجوهه التي أمر بإنفاقه فيها ووضعه مواضعه لم يكن ذلك إهلاكاً له بل تقرباً به إلى الله وتوصلاً به إلى رضاه وثوابه وذلك ليس بإهلاك له. فأنكر سبحانه افتخاره وتبجحه بإنفاق المال في شهواته وأغراضه التي إنفاقه بها إهلاك له"[36].
فانظر أي اختيار هذا. ثم انظر أيحسن (أنفقت) مكان (أهلكت) ههنا؟
واختيار (اللبد) في الآية مكان (الكثير) اختيار دقيق ذلك أن اللبلد معناه الكثير المجتمع من تلبد الشيء إذا اجتمع.
جاء في (الكشاف): "لبداً قرئ بالضم والكسر جمع لبدة ولبدة، وهو ما تلبد يريد الكثرة"[37].
وهو متناسب مع اجتماع الكفرة لإيذاء الرسول والمسلمين لصدهم عن دعوتهم كما قال تعالى: (وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا).
فاجتماع المال في الإهلاك مناسب لاجتماع الكفرة على الرسول لإهلاكه، وإهلاك دعوته وهو حل بهذا البلد.
فانظر حسن هذا الاختيار وعلو هذا التعبير.
ثم انظر جو الاجتماع الذي تفيده كلمة (لبد) وشيوعه في السورة في الوالد وما ولد، وفي العينين، وفي اللسان والشفتين في آلة النطق، وفي النجدين وليس نجداً واحداً فإنه ذكر نجدين ولم يذكر نجداً واحداً كما في قوله تعالى: (ثم السبيل يسره) [عبس] وقوله: (إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً) [الإنسان] وفي تفسير العقبة بجملة أمور، وفي ذكر المؤمنين بصيغة الجمع (الذين أمنوا) واجتماعهم على التواصي بالصبر والمرحمة أي: يوصي بعضهم بعضاً، ثم في اجتماع أهل الكفار في جهنم وإيصاد النار عليهم.
فانظر حسن اختيار كلمة (لبد) ههنا، ثم انظر هل تغني عنها كلمة (الكثير)؟
(أيحسب أن لم يره أحد).
والمعنى:أيظن هذا الإنسان الذي يدعي أنه أهلك المال الكثير أنه لم يره أحد؟ أو يظن أن أعماله تخفى لا يطلع على حقيقتها أحد؟ فالله يعلم إن كان أنفق مالاً أو لم ينفق شيئاً، وإنما كان مدعياً كاذباً في قوله. وإذا كان قد أنفق فهو يعلم الغرض والمقصد الذي أنفق المال من أجله.
جاء في (الكشاف): "يعني أن الله كان يراه وكان عليه رقيباً. ويجوز أن يكون الضمير للإنسان"[38].
وجاء في (البحر المحيط): "أيحسب أن أعماله تخفى، وأنه لا يراه أحد، ولا يطلع عليه في إنفاقه ومقصد ما يبتغيه مما ليس لوجه الله منه شيء"[39].
وجاء في (التبيان): (ثم وبخه بقوله: (أيحسب أن لم يره أحد) وأتى ههنا بلم الدالة على المضي في مقابلة قوله: (أهلكت مالاً لبداً) فإن ذلك في الماضي، أفيحسب أن لم يره أحد فيما أنفقه وفيما أهلكه؟"[40].
وأنت ترى مما مر أنه ذكر من صفات الله تعالى القدرة والعلم الذي دلت عليه الرؤية، وهما الغاية في التهديد.
ثم أقام الدليل على قدرته وعلمه بقوله:
(ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين)
أفترى أن الذي يجعل للإنسان عينين يبصر بهما لا يبصر هو ولا يرى وأن الذي أقدر الإنسان على النطق لا يستطيع أن يتكلم، وأن الذي هداه إلى طريقي الخير والشر ليس عنده علم؟
جاء في (تفسير الرازي): "واعلم أنه تعالى لما حكى عن ذلك الكافر قوله: (أيحسب أن لن يقدر عليه أحد) أقام الدلالة على كمال قدرته فقال: (ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين) [41].
وجاء في (التبيان): "ثم ذكر برهاناً مقدراً أنه سبحانه أحق بالرؤية وأولى من هذا العبد الذي له عينان يبصر بهما. فكيف يعطيه البصر من لم يره؟ وكيف يعطيه آلة البيان من الشفتين واللسان، فينطق ويبين عما في نفسه ويأمر وينهى من لا يتكلم ولا يكلم، ولا يخاطب ولا يأمر ولا ينهى؟
وهل كمال المخلوق مستفاد إلا من كمال خالقه؟
ومن جعله عالماً بنجدي الخير والشر ـ وهما طريقاهما ـ أليس هو أولى وأحق بالعلم منه"[42].
ثم انظر من ناحية أخرى إلى ارتباط قوله تعالى: (ألم نجعل له عينين) بقوله: (أيحسب أن لم يره أحد) وهو ارتباط العين بالرؤية، وارتباط قوله: (ولساناً وشفتين) بقوله: (يقول أهلكت مالاً لبداً) فإن اللسان والشفتين، هما آلة النطق وبها يقول ما يقول. فهو يتقلب بنعم الله ويحاربه ويحارب أولياءه ورسله ويحارب دعوته.
(وهديناه النجدين)
النجد: هو الطريق العالي المرتفع[43].
جاء في (لسان العرب): "النجد من الأرض قفافها وصلابها، وما غلط منها وأشرف وارتفع واستوى… ولا يكون النجاد إلا قفاً أو صلابة من الأرض في ارتفاع مثل الجبل معترضاً بين يديك يرد طرفك عما وراءه"[44].
والمقصود بالنجدين: طريقا الخير والشر. وقيل: الثديان[45]. والأول أشهر وهو الذي ذهب إليه عامة المفسرين. وعن أبي هريرة أنه عليه السلام قال: "إنما هما النجدان، نجد الخير ونجد الشر ولا يكون نجد الشر أحب إلى أحدكم من نجد الخير"[46].
واختيار كلمة (نجد) للطريق ههنا اختيار لطيف مناسب، فإنه لم يقل كما قال في مواطن أخرى (إنا هديناه السبيل) أو (ثم السبيل يسره) أو (اهدنا الصراط المستقيم) أو (يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام) ذلك أن التعبير مناسب لجو السورة فإن سلوك النجد فيه مشقة وصعوبة لمات فيه من صعود وارتفاع فهو مناسب للمكابدة والمشقة التي خلق الإنسان فيها، ومناسب لاقتحام العقبة وما فيه من مشقة وشدة.
(فلا اقتحم العقبة)
العقبة: "طريق في الجبل وعر… والعقبة الجبل الطويل يعرض للطريق، فيأخذ فيه، وهو طويل صعب شديد"[47]. وسميت بذلك لصعوبة سلوكها([48]).
والاقتحام: هو الدخول والمجاوزة بشدة ومشقة[49] والقحمة هي الشدة[50] والمهلكة والأمر العظيم[51].
والمقصود بالعقبة: الأعمال الصالحة التي سيبينها على سبيل الاستعارة.
جاء في (البحر المحيط): "العقبة استعارة لهذا العمل الشاق من حيث هو بذل مال تشبيه بعقبة الجبل، وهو ما صعب منها وكان صعوداً، فإنه يلحقه مشقة في سلوكها… ويقال: قحم في الأمور قحوماً: رمى نفسه من غير روية"[52].
وجاء في (روح المعاني): "وهي هنا استعارة لما فسرت به من الأعمال الشاقة المرتفعة القدر عند الله تعالى… ويجوز أن يكون قد جعل ما ذكر اقتحاماً وصعوداً شاقاً، وذكره بعد النجدين جعل الاستعارة في الذروة العليا من البلاغة"[53].
ومعنى الآية أنه: "لم يشكر تلك الأيادي والنعم بالأعمال الصالحة من فك الرقاب وإطعام اليتامى والمساكين… والمعنى: أن الإنفاق على هذا الوجه، هو الإنفاق المرضي النافع عند الله لا أن يهلك مالاً لبدا في الرياء والفخار، فيكون مثله (كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم) الآية "[54].
وجاء في (التبيان في أقسام القرآن): "ولم يقتحم العقبة التي بينه وبين ربه التي لا يصل إليها، حتى يقتحمها بالإحسان إلى خلقه بفك الرقبة، وهو تخليصها من الرق، ليخلصه الله من رق نفسه ورق عدوه، وإطعام اليتيم والمسكين في يوم المجاعة، وبالإخلاص له سبحانه بالإيمان الذي هو خالص حقه. وهو تصديق خبره وطاعة أمره وابتغاء وجهه وبنصيحة غيره أن يوصيه بالصبر والرحمة ويقبل وصية من أوصاه بها، فيكون صابراً رحيماً في نفسه معيناً لغيره على الصبر والرحمة"[55].
واختيار هذا التعبير أنسب شيء ههنا، فاختيار (العقبة) بعد (النجدين) اختيار بديع، وهو كما جاء في (روح المعاني): إن ذكرها بعد النجدين جعل الاستعارة في الذروة العليا من البلاغة، ذلك أن النجد: وهو الطريق العالي المرتفع يؤدي إلى العقبة، وهي الطريق الوعر في الجبل، فإن العقبة تقع في النجاد غالباً.
واختيار لفظ (الاقتحام) وما فيه من شدة ومخاطرة هو المناسب لبيان وعورة وصعوبة هذه العقبة، فإن لم يعبر عن ذلك بالاجتياز ونحوه، مما يدل على شدة هذه العقبة، فانظر كيف أن كل لفظة وقعت في مكانها المناسب وأن اختيار كل لفظة اختيار مناسب لجو السورة. فكل من الاقتحام والعقبة مناسب لقوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في كبد) ذلك أن من معاني (الكبد) المشقة والقوة، وأن اقتحام العقبة فيه مشقة وتعب كما أنه يحتاج إلى قوة وشدة. فانظر حسن المناسبة. كما أن هذه الآية تناسب ما بعدها من المشقات والشدائد التي يعانيها المسكين واليتيم، وفي اليوم ذي المسغبة.
ثم انظر علاقة هذه الآية بأول السورة وخاتمتها، وهو كيف أن الرسول كان في حال اقتحام للعقبة، وهو حال ببلد الله الحرام، يلقى ما يلقى من العنت والمشقة في تبليغ دعوة ربه. وبخاتمتها وهم الذين لم يقتحموا العقبة، فبقوا في عقبة، جهنم أبد الآبدين، وكانت النار عليهم مؤصدة.
ثم إن اختيار (لا) في هذا الموطن اختيار عجيب دقيق، وهو ما وقف عنده النحاة والمفسرون وحاولوا تخريجه وتفسيره.
فقد ذهب قسم منهم إلى أنها نافية للفعل الماضي، أي: (فلم يقتحم العقبة). ومن المعلوم أن (لا) إذا نفت الفعل الماضي المعنى، وجب تكرارها، إلا ما ندر نحو قوله تعالى: (فلا صدق ولا صلى) في حين لم تتكرر ههنا، وأجابوا عن ذلك بأنها مكررة في المعنى لأن (العقبة) مفسرة بشيئين: فك الرقبة، وإطعام المسكين فكأنه قال: فلا فك رقبة، ولا أطعم مسكيناً"[56].
ومن النادر الذي دخلت فيه (لا) على الفعل الماضي المعنى ولم تكرر قول، أبي خراش الهذلي:
إن تغفر اللهم تغفر جماً
وأي عبد لك لا ألما
أي: لم يلم. والمعنى: وأي عبد لم يذنب
وقول الشاعر:
وكان في جاراته لا عهد له
وأي أمر سيئ لا فعله
أي: لم يفعله[57].
قالوا: وهي هنا بمعنى (لم) وتكرارها كثير وهو غيرواجب[58].
جاء في (روح المعاني): "والمتيقن عندي أكثرية التكرار، وأما وجوبه فليس بمتيقن"[59].
وقسم ذهب إلى أنها في الآية دعاء، فلا يلزم تكرارها، كقولهم: (لا فض الله فاك) و(لا عافاه الله) وهي هنا دعاء عليه أن لا يفعل خيراً[60].
وقيل: إن الفعل يراد به الاستقبال، بمعنى لا يقتحم العقبة، وإذا كان الفعل الماضي دالاً على الاستقبال لم يلزم تكرارها[61].
جاء في (المغني): "ومثله في عدم وجوب التكرار بعدم قصد المضي، إلا أنه ليس دعاء قولك : (والله لا فعلت كذا) وقول الشاعر:
حسب المحبين في الدنيا عذابهم
تالله لا عذبتهم بعدها سقر"[62]
وجاء في (الفوائد في مشكل القرآن) للعز بن عبد السلام في هذه الآية: "ويشكل النفي بـ (لا) وهي إنما تنفي الاستقبال.
والجواب: إنها بمعنى (لم) والصحيح اشتراكهما… وعدل إليها لأن النفي بها أبلغ، لما توهمه من نفي الاستقبال في أصل الوضع، أوي جعلها على بابها، أي: صفة هذا يقتضي أنه لا يقتحم العقبة أبداً، فيكون ذماً له باعتبار صفته لا باعتبار عدن فعله وتضمنها معنى (لم) فيكون الذم أيضاً لعدم الفعل في الماضي"[63].
وقيل هي للاستفهام، والتقدير: أفلا اقتحم العقبة، وقد حذفت الهمزة، والمعنى: أفلا سلك الطريق التي فيها النجاة والخير؟"[64]
وقال آخر: هي تحضيض والأصل: ألا اقتحم العقبة ثم حذفت الهمزة، وهو ضعيف ولا يعرف أن (لا) وحدها تكون للتحضيض وليس معها الهمزة[65].
هذا أبرز ما قيل في (لا) هذه.
والذي يبدو لي والله أعلم أن هذا التعبير جمع معاني عدة في آن واحد.
فهو يحتمل المضي، أي أن هذا الإنسان الذي يذكر عن نفسه أنه أهلك مالاً كثيراً ويحسب أن لن يقدر عليه أحد، وأنه لم يطلع أحد عليه فيما يفعل ـ سواء كان هذا واحداً معيناً أم كان صنفاً هذا وصفه ـ لم يقتحم العقبة، فهو لم يؤمن ولم يطعم المحتاجين من اليتامى والمساكين ولم يتواص بعمل الخير.
ويحتمل أن هذا الإنسان فرداً كان أم صنفاً لا يقتحم العقبة في المستقبل، لأن من كان هذا وصفه لا يقتحم العقبة، إلا إذا آمن وغير من حاله. فهو لم يقتحم العقبة في الماضي ولا يقتحمها في المستقبل، بل هو باق على حاله على وجه الدوام.
ويحتمل أن هذا التغبير دعاء على هذا الصنف أو الشخص بألا يقتحم العقبة كما في قوله تعالى: (ويلٌ لكل همزة لمزة) وقوله: (قاتلهم الله أنى يؤفكون) [التوبة] فإن من كان هذه صفته لا يستحق الدعاء له بالخير.
كما يحتمل الاستفهام المراد به التنديم والتوبيخ على ما فرط والحض على الإنفاق بمغنى "افلا اقتحم العقبة" وقد حذفت منه الهمزة ونحو هذا وارد في القرآن الكريم والفصيح من كلام العرب، فقد جاء فيه قوله تعالى: (وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين) [الأعراف] بدلالة قوله تعالى: (قالوا لفرعون أئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين) [الشعراء] ونحو قول الشاعر:
قالوا: تحبها؟ قلت: بهراً
أي: أتحبها؟ وقول الكميت:
طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب
ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب
أي: أوذو الشيب يلعب؟
وهذه المعاني كلها مرادة مطلوبة، فقد جمع هذا التعبير عدة معان في لآن واحد: المضي والاستقبال والتوبيخ والحض والدعاء. فهو أخبر أنه لن يقتحم العقبة فيما مضى من عمره، وأنه لا يقتحمها في المستقبل، وأنه وبخه على ذلك، ودعا عليه بعدم اقتحامها.

يتبــــــــــع
  #774  
قديم 20-07-2008, 04:56 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبــع موضوع ..... لمسات بيانية من سورة البلد

فانظر كيف جمع هذا التعبير هذه المعاني، وكلها مرادة مطلوبة وأنه لو جاء بأي حرف آخر غير (لا) لم يفد هذه المعاني الكثيرة المتعددة. فهو لو قال: (ما اقتحم العقبة) أو (لم يقتحم العقبة) لم يفد إلا الإخبار عنه في الماضي. فانظر كيف وسعت (لا) المعنى وجمعت معاني عدة في تعبير واحد؟
(وما أدراك ما العقبة)
هذا الأسلوب من أساليب التفخيم والتعظيم والتهويل ونحوه قوله: (وما أدراك ما القارعة) وقوله: (وما أدراك ما الحاقة) و(وما أدراك ما الحطمة) تعظيماً لأمرها ثم فسر العقبة بعد ذلك بقوله: (فك رقبة أو إطعام).
(فك رقبة)
"وفك الرقبة: تخليصها من رق أو غيره… وفي الحديث: "أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : دلني على عمل يدخلني الجنة، فقال: تعتق النسمة وتفك الرقبة. قال: أوليسا سواء؟ قال: لا. إعتاقها: أن تنفرد بعتقها. وفكها: أن تعين في تخليصها من قود أو غرم"[66].
وجاء في (فتح القدير): "كل شيء أطلقته، فقد فككته، ومنه فك الرهن، وفك الكتاب… والفك في الأصل حل القيد، سمي العتق فكاً، لأن الرق كالقيد وسمي المرقوق رقبة، لأنه بالرق كالأسير المربوط في رقبته"[67].
واختيار هذا التعبير يوحي بشدة حال المسترق، وكربه ومعاناته ومكابدته. والاسترقاق هو من أكثر أحوال المكابدة والمعاناة شدة. وارتباط الآية بقوله: (لقد خلقنا الإنسان في كبد) ارتباط واضح بين.
(أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتمياً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة)
المسغبة: المجاعة[68] وهي الجوع العام[69] وليس الجوع الفردي.
والفرق بين المسغبة والسغب، أن السغب معناه: الجوع، والجوع قد يكون عاماً، وقد يكون خاصاً. أما المسغبة فهي عامة ولذا قيل: إن معناه "في يوم فيه الطعام عزيز"[70].
وهذا مما يدل على شدة الكرب والضيق واللأواء، فالإطعام في هذا اليوم له شأنه فهناك فرق بين إطعام المسكين والطعام موفور والخلة مسدودة، والإطعام في وقت قلة الطعام وشحته والخوف من فقدانه والإمساك عن بيعه، فهذه عقبة كؤود من عقبات المجتمع، والإطعام في مثل هذا اليوم اقتحام لهذه العقبة أي اقتحام.
(يتيماً ذا مقربة)وهو اليتيم القريب في النسب ليجتمع له صدقة وصلة[71]. وذلك ليتفقد كل واحد أقرباءه المحتاجين ليتم التكافل والتراحم بينهم.
(أو مسكيناً ذا متربة)والمتربة مأخوذة من (ترب): "إذا افتقر، ومعناه: التصق بالتراب"[72]. وذو المتربة: هو الذي مأواه المزابل[73] وقيل "وهم المطروحون على ظهر الطريق قعوداً على التراب لا بيوت لهم"[74] وهما شيء واحد.
وجاء بـ (أو) ولم يأت بالواو ذلك أن الواو تفيد معنى الجمع ومعناه: لو أتى بالواو لا يقتحم العقبة إلا إذا فك الرقبة، وأطعم هذين الصنفين جميعاً فإن أطعم صنفاً واحداً لم يقتحم العقبة. وهو غير مراد، بل المراد التنويع. والمقصود أن يطعم هذه الأصناف من الناس، اليتيم أو المسكين، على سبيل الاجتماع أو الانفراد.
وقد قدم فك الرقاب على إطعام اليتامى والمساكين إشارة إلى عظم الحرية في الإسلام وأن المطلوب أولاً تحرير الناس من العبودية والاسترقاق.
وانظر بعد ذلك ارتباط هؤلاء الأصناف بقوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في كبد) فهؤلاء من أشد الناس مكابدة ومعاناة. ثم انظر إلى ارتباط هؤلاء الأصناف بقوله: (يقول أهلكت مالاً لبداً) فقد أهلكها هذا القائل في غير محلها، فلم يطعم جائعاً ولم يفك رقبة.
ثم انظر إلى ارتباط هؤلاء الأصناف بالآية بعدها، وهو قوله: (ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) فإن فك الرقاب وإطعام المحتاجين من المرحمة. وهؤلاء الأصناف من الناس من المسترفين والمساكين من أحوج الخلق إلى الصبر.
(ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة)
إن (ثم) هنا لا تفيد التراخي في الوقت وإلا تأخر الإيمان عن العمل الصالح الذي ذكره من فك الرقاب وإطعام المحتاجين في حين أنه لا يفيد عمل من دون إيمان. وإنما تفيد (ثم) ههنا تراخي رتبه الإيمان ورفعه محله عما ذكره من الأعمال لأنه هو الأصل، وهو مدار القبول والرفض.
جاء في (الكشاف): "جاء بثم لتراخي الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة لا في الوقت لأن الإيمان هو السابق المقدم على غيره، ولا يثبت عمل صالح إلا به"[75].
وجاء في (فتح القدير): "جاء بثم للدلالة على تراخي رتبة الإيمان ورفعة محله. وفيه دليل على أن هذه القرب، إنما تنفع مع الإيمان"[76].
وذكر بعد الآيات التواصي بالصبر والتواصي بالمرحمة.
جاء في (الكشاف): "المرحمة: الرحمة أي: أوصى بعضهم بعضاً بالصبر على الإيمان والثبات عليه، أو بالصبر عن المعاصي وعلى الطاعات والمحن التي يبتلى بها المؤمن، وبأن يكونوا متراحمين متعاطفين أو بما يؤدي إلى رحمة الله"[77].
إن السورة مبنية على هذين الأمرين: الصبر والمرحمة.
فالصبر مرتبط بقوله تعالى: (وأنت حل بهذا البلد) لما يلاقيه الرسول من عنت وأذى وهو حال بهذا البلد.
وبقوله: (ووالد وما ولد) فإن تربية الولد وحفظه بحاجة إلى الصبر.
ومرتبط بقوله: (لقد خلقنا الإنسان في كبد) لأن المكابدة والمشقة والشدة، تحتاج إلى صبر.
وسلوك النجدين يحتاج إلى صبر لما في صعودهما وسلوكهما من تعب ونصب، واقتحام العقبة يحتاج إلى صبر، والرقبة المسترقة تحتاج إلى صبر على القيام بشأن العبودية، وقضاء اليوم ذي المسغبة يحتاج إلى صبر كثير وشديد. واليتيم يحتاج إلى صبر، وكذلك المسكين ذو المتربة، فإن هذه الأصناف تحتاج إلى صبر طويل.
والذين آمنوا يحتاجون إلى الصبر على الطاعات والصبر عن المعاصي. فانظر كيف ارتبط الصبر بالسورة وكيف بنيت السورة عليه؟
وكذلك الرحمة فإن ذكرها مع الصبر أحسن ذكر وأجمله. فهي مرتبطة بقوله: (وأنت حل بهذا البلد) على كل معاني (الحل) فإذا كان حالاً يبلغ دعوة ربه فإنه أحرى أن يعامل بالرحمة لا بالأذى. وإذا كان المعنى أنه حلال للرسول هذا البلد وذلك في فتح مكة فقد عامل الرسول قريشاً بالرحمة والإحسان، وقال في ذلك اليوم: "اليوم يوم المرحمة". وقال لهم: "ما تظنون أني فاعل بكم؟" قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم. فقال لهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
فانظر أي رحمة هذه؟
ومرتبطة بقوله: (ووالد وما ولد) فإن العلامة بين الوالد وولده، علاقة رحمة وبر.
وهذا الذي أهلك مالاً لبداً، يحتاج إلى الرحمة لينفق المال على ذوي الحاجة، ولئلا يهلكه فيما لا ينفع.
وذو الرقبة المسترقة محتاج إلى الرحمة والإشفاق.
واليوم ذو المسغبة ينبغي أن تشيع فيه الرحمة وهو من أحوج الأوقات إلى إشاعة الرحمة، واليتيم المسكين من أحوج الخلق إلى الرحمة.
والذي آمنوا ينبغي أن يتواصوا بينهم بالرحمة.
وهكذا بنيت السورة على الصبر والمرحمة.
ثم انظر كيف كرر التواصي مع كل منها فقال: (وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) ولم يقل: (وتواصوا بالصبر وبالمرحمة) ولا: (وتواصوا بالصبر والمرحمة) لأهمية التواصي بكل منهما وللدلالة على أن كلا منهما جدير بالتواصي به.
فأنت ترى أن هناك ثلاثة تعبيرات لكل تعبير دلالته:
(وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة)
وتواصوا بالصبر وبالمرحمة.
وتواصوا بالصبر والمرحمة.
والتعبير الأول أقوى التعبيرات للدلالة على أهمية كل منهما، وذلك لتكرار الفعل مع حرف الجر توكيداً على أهمية ذلك. ثم يأتي التعبير الثاني بالدرجة الثانية وهو تكرار حرف الجر مع المرحمة دون تكرار الفعل، ثم يأتي التعبير الثالث بالدرجة الثالثة، وهو العطف من دون ذكر للفعل ولا لحرف الجر. فيكون معنى التعبير الأول، وهو الذي عبرت به الآية أدل على أهمية كل من الصبر والمرحمة وآكد من التعبيرين الآخرين.
ثم انظر من ناحية أخرى كيف قدم التواصي بالصبر على التواصي بالمرحمة ذلك لأنه تقدم ما يحتاج إلى الصبر من المكابدة والمشقة، وانغمار الإنسان فيها، واقتحام العقبة وذكر النجدين. وأخر المرحمة لما جاء بعد ذلك من فك الرقاب وإطعام الأيتام والمساكين فقدم التواصي بالصبر لما تقدم ما يدعو إليه.
وقد تقول: ولم لم يقل كما قال في سورة (العصر): (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)؟ فقد ذكر التواصي بالحق ثم ذكر بعده التواصي بالصبر.
والجواب: أن المقام مختلف ففي سورة (العصر) كان الكلام على خسارة الإنسان على وجه العموم، فجاء بالتواصي بالحق على وجه الهموم ولما كان الكلام في سورة البلد على جزء من الحق وهو ما يتعلق بالرحمة والإطعام قال: (وتواصوا بالمرحمة).
وقدم الحق في سورة (العصر): لأنه الأهم ولأن الصبر إنما يكون صبراً على الحق. إذ ليس المهم هو الصبر، وإنما المهم أن يصبر على ماذا، ثم إن التمسك بالحق والتواصي به يحتاج إلى صبر أي صبر. فقدم الحق لذلك بخلاف سورة البلد، فإنه قدم الصبر على المرحمة لما ذكرنا.
(أولئك أصحاب الميمنة والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة)
أي: أولئك الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة، وفكوا الرقبة وأطعموا لمحتاج في اليوم ذي المسغبة أصحاب الميمنة. والميمنة: مفعلة من اليمن، وهو الخير والبركة أو من اليمن. وقد يكون معناها جهة اليمين التي تقابل الميسرة وهي الجهة التي فيها السعداء. وقد يكون معناها أصحاب اليمين أي: الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم. وقد يكون معناها: أصحاب اليمن والخير على أنفسهم وعلى غيرهم[78].
والذين كفروا هم أصحاب المشأمة، والمشأمة مفعلة من الشأم، وهي جهة الشمال، أو من الشؤم، وهو ضد اليمن[79].
ومعنى أصحاب المشأمة أصحاب جهة الشمال التي فيها الأشقياء أو الذين يؤتون صحائفهم بشمائلهم أو أصحاب الشؤم على أنفسهم وعلى غيرهم.
وقد تقول: ولم لم يقل أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال كما قال في مواطن أخرى من القرآن الكريم؟
والجواب أن اختيار هذين اللفظين له عدة فوائد:
منها: أن الميمنة والمشأمة جمعت عدة معان، وهي كلها مرادة مطلوبة في آن واحد، ولو قال: أصحاب اليمين أو أصحاب الشمال لأعطى معنى واحداً.
فأصحاب الميمنة هم أصحاب جهة اليمين التي فيها السعداء، وهم الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم، فيذهبون إلى الجنة، وهم أصحاب اليمن والخير والبركة على أنفسهم وعلى غيرهم في الدنيا والآخرة.
هذا إضافة إلى التناسب اللفظي، فالعمل والوصف والجزاء كله (مفعلة) فالذين يطعمون في يوم ذي (مسغبة) يتمياً ذا (مقربة) أو مسكيناً ذا (متربة) ويتواصون بـ (المرحمة) أصحاب (الميمنة) ومقابلهم من الكفار أصحاب (المشأمة).
فاقتضى المقام هذا الاختيار من كل جهة.
وقد تقول: ولم جاء في آية الكفار بضمير الفصل، فقال: (والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة) ولم يأت به مع المؤمنين.
والجواب: أن المذكورين من المؤمنين هم من أصحاب ميمنة غيرهم فإنه لم يذكر مثلاً: الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أو الذين آمنوا وتواصوا بالحق، أو الذين آمنوا وتواصوا بالجهاد، أو الذين آمنوا وتواصوا بالدعوة إلى الله، فكل هؤلاء من أصحاب الميمنة، بل ربما كان من أصحاب الميمنة من لم يتواص بصبر ولا مرحمة أصلاً من عامة المسلمين، وقد قال تعالى في سورة التين: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون) ولم يذكر تواصياً بشيء.
أما الذين كفروا فهم أصحاب المشأمة حصراً، ولا يخرجهم منهم وصف آخر أو عمل آخر إذا بقوا على كفرهم.
جاء في (روح المعاني): إنه "جيء بضمير الفصل معهم لإفادة الحصر"[80].
فكان ذكر ضمير الفصل في آية الكفار، وعدم ذكره في آية المؤمنين هو المناسب.
(عليهم نار مؤصدة)
ومعنى الآية: إنها عليهم "مطبقة فلا ضوء فيها، ولا فرج ولا خروج منها آخر الأبد"[81] وههنا سؤالات:
لم قدم الجار والمجرور: (عليهم) ولم يؤخرهما؟
ولم قرئت (مؤصدة) بالهمز؟ وما الفرق بينهما وبين عدم الهمز؟
ولم لم يقل كما قال في سورة الهمزة: (في عمد ممددة)
ولم ذكر جزاء الكافرين، ولم يذكر جزاء المؤمنين؟
أنا تقديم الجار والمجرور فقد يظن ظان أنه لفاصلة الآية، فإن كلمة (مؤصدة) هي المناسبة لخواتم الآي: المسغبة، المقربة، المتربة، المرحمة، المشأمة. ولو قال:(نار مؤصدة عليهم) لم يكن مناسباً.
وهذا صحيح فإنه لو أخر الجار والمجرور لم يناسب خواتم الآي، غير أن المعنى يقتضي ذلك أيضاً، فإن التقديم ههنا يفيد الحصر، فإن النار مؤصدة على الكافرين لا يخرجون منها ابداً. أما غير الكافرين من عصاة المؤمنين، فقد يخرجون منها بعد أن ينالوا عقابهم، فهي إذن مؤصدة عليهم حصراً ولو قال: (نار مؤصدة عليهم) لم يفد الحصر بل لأفاد أنها مؤصدة عليهم، وقد تكون مؤصدة على غير الكفار أيضاً، وهو غير مراد. أما قراءة الهمز في (مؤصدة) فإنها قرئت أيضاً (مؤصدة) فإنها قرئت أيضاً (موصدة) بغير الهمزة.
وقد يظن ظان أن التخفيف أولى لأنه من (وصد) و(أوصد)
والحق أنهما لغتان أصد ووصد، يقال: أصد الباب وآصده وأوصده، إذا أطبقه وأغلقه.
جاء في (لسان العرب): "أصد الباب أطبقه كأوصد إذا أغلقه ومنه قرأ أبو عمرو: إنها عليهم مؤصدة بالهمز أي مطبقة"[82]
وجاء في (روح المعاني): "مؤصدة مطبقة من آصدت الباب، إذا أغلقته وأطبقته، وهي لغة قريش على ما روي عن مجاهد ويجوز أن يكون من(أوصدته) بمعنى غلقته أيضاً وهمز على حد من قرأ بالسؤق مهموزاً وقرأ غير واحد من السبعة، موصدة بغير همز فيظهر أنه من أوصدت .. والمراد مغلة أبوابها، وإنما أغلقت لتشديد العذاب والعياذ بالله تعالى عليهم"[83] .

يتبــــــــــع
  #775  
قديم 20-07-2008, 05:04 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبــع موضوع ..... لمسات بيانية من سورة البلد


أما اختيار الهمز، فله دلالته ذلك أن الهمزة حرف ثقيل شديد، وهي على كل حال أثقل من الواو[84] فاختار الهمزة على الواو لثقلها وشدتها، لأن الموقف شديد وصعب، فهي المناسبة لثقل ذلك اليوم وصعوبته وشدته قال تعالى: (ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً) [الإنسان]، وإن النطق بها لثقيل، فإذا قال (مؤ) كان كأن الشخص يعاني من أمر ثقيل. فهي أنسب وأدل على الكرب والثقل من التسهيل والنطق بالواو.
وهو المناسب أيضاً لجو المكابدة والشدة والقوة في السورة. والله أعلم. د
أما السؤال الثالث وهو: لماذا لم يقل كما قال في سورة الهمزة: (في عمد ممددة) فذلك له أكثر من سبب، وكل تعبير هو أليق بمكانه من نواح عدة منها:
1ـ إنه توسع في سورة الهمزة في ذكر صفات المعذب وتوسع في ذكر العذاب، فقال: (ويل لكل همزة لمزة الذي جمع مالاً وعدده يحسب أن ماله أخلده كلا لنبذن في الحطمة وما أدراك ما الحطمة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة إنها عليهم مؤصدة في عمد ممدة)
فقال في ذكر صفات المعذب، أنه همزة لمزة، وأنه جمع مالاً وعدده، يحسب أن ماله أخلده، في حين لم يزد في سورة البلد على قوله: (والذين كفروا بأياتنا) ولما توسع في صفات المعذب توسع في ذكر عذابه، فقال: (كلا لنبذن في الحطمة وما أدراك)
فناسب ذلك ذكر الزيادة في سورة الهمزة دون سورة البلد.
2ـ إنه ذكر في أول الهمزة (ويل لكل همزة لمزة) فدعا عليهم بالهلاك الدائم الذي لا ينقطع ورفع (الويل) يفيد الثبوت، فناسب الدلالة على الدوام، أن يقول: (إنها عليهم مؤصدة في عمد ممدة للدلالة على الاستيثاق من غلق الأبواب عليهم.
3ـ ذكر في سورة الهمزة أن هذا الكافر يجمع المال ويعدده، ويحفظه فكما حفظ المال وجمعه وأغلق عليه الأبواب، واستوثق من حفظه أغلقت عليه أبواب جهنم واستوثق منها بأنها مدت عليها الأعمدة.
فناسب الاستيثاق من حفظ المال وإيصاد الأبواب عليه الاستيثاق، وإطباق الأبواب عليه في النار. في حين أنه ذكر في سورة (البلد) أنه أهلك مالاً لبداً فذلك أهلك المال وأنفقه، وهذا جمع المال وحفظه، فناسب ذكر الحفظ وشدة الاستيثاق في سورة الهمزة الاستيثاق من غلق باب عليه، والجزاء من جنس العمل.
4ـ ذكر في سورة الهمزة أن هذا الكافر يحسب أن ماله أخلده في الدنيا وأبقاه، وأنه لا يفارقها، فعوقب بذلك بالخلود في النار، وإطباق أبوابها عليه والاستيثاق بالعمد الممدة عليها، للدلالة على خلوده في النار أبد الآبدين فحسبانه الخلود في الدنيا مقابل لحقيقة الخلود في النار فهناك ظن وهنا يقين وهناك خلود مظنون في الدنيا وهنا خلود واقع حقيقة في النار.
5ـ ذكر في سورة الهمزة أن هذا الكافر يتعدى على الآخرين، فهو لم يكف أذاه عنهم، ولم ينلهم من خيره شيء، فهو يهمزهم ويلمزهم ويمنع خيره عنهم، فلم ينفق من ماله شيئاً فلما اعتدى على الآخرين وآذاهم انبغى له الحبس لتخليص الناس من شره وعدوانه.
والمحبوس تغلق عليه أبواب الحبس ويستوثق من إلاغلاقها وعدم فتحها لئلا يخرج منها فناسب ذلك زيادة الاستيثاق بالعمد الممددة على الأبواب لئلا تفتح في حين لم يذكر في سورة البلد سوى الكفر بآيات الله، ولم يذكر أنهم تعدوا على الآخرين.
6ـ إن المعذبين في سورة الهمزة كفار وزيادة، فهم:
1ـ كافرون.
2ـ يتعدون على الآخرين بالهمز واللمز والسخرية والتكبر.
3ـ أنهم جمعوا الأموال ولم ينفقوها.
4ـ يحسبون أن الأموال تخلدهم في الدنيا.
في حين لم يذكر في سورة البلد إلا الكفر.
فأولئك كفار وزيادة في العدوان، فاقتضى ذلك الزيادة في تعذيبهم وحبسهم.
فانظر كيف ناسب كل تعبير موطنه. ولو جعلت الزيادة في سورة البلد لم تحسن كما هو ظاهر.
وأما السؤال الأخير وهو : لماذا ذكر جزاء الكافرين ولم يذكر جزاء المؤمنين.
فالجواب عنه أن ذلك لمناسبة ما ذكر في أول السورة من خلق الإنسان في كبد، فلم يناسب ذلك ذكر النعيم وإنما الذي يناسبه ذكر الجحيم وما فيه من مشقة.
جاء في (روح المعاني): "وصرح بوعيدهم ولم يصرح بوعد المؤمنين، لأنه بما سيق له الكلام والأوفق بالغرض والمرام[85]
ثم انظر بعد ذلك إلى هذه السورة المحكمة النسج، كيف وضعت تعبيراتها لتؤدي أكثر من معنى.
فـ (لا أقسم) تحتمل النفي والإثبات.
و(حل) تحتمل الحال والمستحل والحلال.
و(ووالد وما ولد) تحتمل العموم والخصوص من آدم وذريته أو إبراهيم وذريته أو الرسول وآبائه. وغير ذلك على وجه العموم.
و(الكبد) تحتمل المكابدة والمعاناة، وتحتمل القوة والشدة، وتحتمل استقامة الجسم واعتداله وغير ذلك.
و(أيحسب) تحتمل العموم والخصوص، فهي تحتمل كل إنسان، وتحتمل إنساناً معيناً تشير إليه الآية.
و(أهلكت مالاً لبداً) تحتمل أكثر من معنى، فهو قد يكون أنفقته في المفاخر والمكارم والمباهاة. وتحتمل الإنفاق في عداوة الرسول، وتحتمل غير ذلك. وتحتمل الكذب فلم ينفق شيئاً، وإنما هو ادعاء محض.
و(اللبد) تحتمل الجمع وتحتمل المفرد، فعلى الجمع تكون جمع (لبدة) كنقطة ونقط، وخطوة وخطى وعلى المفرد تكون صفة كحطم ولكع.
و "النجدان" يحتملان طريقي الخير والشر، ويحتملان الثديين وكلاهما هدانا ربنا إليهما.
و(لا) في قوله: (فلا اقتحم العقبة) تحتمل النفي الدعاء، وتحتمل المضي والاستقبال.
و(العقبة) تحتمل أموراً كثيرة، ذكر قسم من المفسرين: أنها في الآخرة. وقال آخرون: هي في الدنيا. وقيل: هي جبل في جهنم، وقيل: هي عقبة بين الجنة والنار.
و(فك رقبة) يحتمل العتق وغيره من فك المغارم والديون وغيرها.
و(أصحاب الميمنة)تحتمل أصحاب جهة اليمين. وأصحاب اليمين، وأصحاب اليمن ضد الشؤم.
و(المشئمة)كذلك.
فانظر كيف وضعت تعبيراتها للاتساع في المعاني.
والملاحظ في هذه السورة أن فيها خطوطاً تعبيرية ومقامية واضحة أشرنا إليها.
منها: خط المكابدة الذي تدل عليه الآية (لقد خلقنا الإنسان في كبد) وخط العموم والاتساع في المعنى وهو الذي بيناه آنفاً.
وخط الاجتماع الذي ذكرناه في قوله: (أهلكت مالا لبداً)
وخط الصبر الذي دل عليه قوله: (وتواصوا بالصبر).
وخط المرحمة الذي دل عليه قوله: (تواصوا بالمرحمة).
فانظر أي إحكام في النسج، وأي دقة في التعبير هذا الذي بين الدفتين.
[1] البحر المحيط 8/474.[2] روح المعاني 30/133.[3] الكشاف 3/338.[4] البحر المحيط 8/474، تفسير الرازي 31/180، روح المعاني 30/134. [5] البحر المحيط 8/475.[6] تفسير البيضاوي 799.[7] البيان 26.[8] فتح القدير 5/430.[9] الكشاف 3/338.[10] روح المعاني 30/133.[11] التبيان 26.
[12] البحر المحيط 8/474 وانظر تفسير الرازي 31/180.[13] الكشاف 3/338 ـ 339 وانظر روح المعاني 30/133.[14] البحر المحيط 8/474.[15] روح المعاني 30/133، وانظر تفسير الرازي 31/181.[16] انظر ملاك التأويل 2/883.[17] ملاك التأويل 2/950 ـ 952.[18] درة التنزيل 530.[19] التبيان 25.[20] الكشاف 3/339.[21] البحر المحيط 8/475، روح المعاني 30/135، الكشاف 3/339.[22] معاني القرآن 3/263. [23] لسان العرب كبد 4/379.[24] البحر المحيط 8/475، لسان العرب كبد 4/379.[25] فتح القدير 5/431.[26] لسان العرب كبد 4/379.[27] الكشاف 3/339.[28] روح المعاني 30/135.[29] البحر المحيط 8/475.[30] التبيان في أقسام القرآن 26.[31] تفسير الرازي 31/183.[32] روح المعاني 30/136.[33] الكشاف 3/339.[34] روح المعاني 30/136.[35] روح المعاني 30/136.[36] التبيان. [37] الكشاف 3/339.[38] الكشاف 3/339.[39] البحر المحيط 8/475.[40] التبيان 27.[41] تفسير الرازي 31/184.[42] التبيان 27.[43] انظر القاموس المحيط نجد 1/340، البحر المحيط 8/473، فتح القدير 5/431.[44] لسان العرب نجد 4/442.[45] الكشاف 3/339، البحر المحيط 8/476.[46] التفسير الكبير 31/184.[47] لسان العرب عقب 2/111.[48] فتح القدير 5/432.[49] الكشاف 3/340.[50] الكشاف 3/340.[51] انظر التفسير الكبير 31/184.[52] البحر المحيط 8/476.[53] روح المعاني 30/137.[54] الكشاف 3/339.[55] التبيان 27.[56] انظر التفسير الكبير 31/185، المغني 1/244، روح المعاني 30/138.[57] انظر المغني 1/243ـ 244.[58] التفسير الكبير 31/185، روح المعاني 30/139.[59] روح المعاني 30/139.[60] البحر المحيط 8/476، المغني لا 1/243ـ244.[61] روح المعاني 30/139.[62] المغني 1/243.[63] الفوائد 179.[64] تفسير ابن كثير 4/513، وانظر روح المعاني 30/139.[65] انظر المغني 1/244، البحر المحيط 8/476.[66] الكشاف 3/340.[67] فتح القدير 5/432.[68] فتح القدير 5/432.[69] روح المعاني 30/138.[70] روح المعاني 30/138.[71] البحر المحيط 8/476.[72] الكشاف 3/340.[73] الكشاف 3/340.[74] البحر المحيط 8/476.[75] الكشاف 3/340.[76] فتح القدير 5/433.[77] الكشاف 3/340 وانظر البحر المحيط 8/476.[78] انظر البحر المحيط 8/204، روح المعاني 30/139، لسان العرب يمن.[79] انظر روح المعاني 30/139.[80] روح المعاني 30/140.[81] تفسير ابن كثير 4/516[82] لسان العرب أصد 4/39[83] روح المعاني 30/139-140 [84] الخصائص 3/143[85] روح المعاني 30/139-140
  #776  
قديم 09-08-2008, 08:32 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

لمسات بيانية من سورة القيامة

بقلم الدكتور فاضل السامرائي
بسم الله الرحمن الرحيم
(لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ {1} وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ {2} أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ {3} بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ {4} بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ {5} يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ {6} فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ {7} وَخَسَفَ الْقَمَرُ {8} وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ {9} يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ {10} كَلَّا لَا وَزَرَ {11} إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ {12} يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ {13} بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ {14} وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ {15} لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ {16} إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ {17} فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ {18} ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ {19} كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ {20} وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ {21} وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23} وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ {24} تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ {25} كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ {26} وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ {27} وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ {28} وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ {29} إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ {30} فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى{31 وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى {32} ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى {33} أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى {34} ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى {35} أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى {36} أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى {37} ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى {38} فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى {39} أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى {40}‏
سألني ولدي ذات يوم: ما مناسبة قوله تعالى: (لا تحرك به لسانك لتعجل به) لما قبله وهو قوله تعالى: (بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره)
فقلت له: دعني أنظر في أول السورة، لعلي أجد مفتاح الجواب فقرأت: (بسم الله الرحمن الرحيم: لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة).
فقلت له: المناسبة ظاهرة، وهي أن الله تعالى أقسم بيوم القيامة، وأقسم بالنفس اللوامة، ومن أبرز سمات النفس اللوامة أن تعجل في الأمر، ثم يندم عليه، فتبدأ بلوم نفسها على ما فعلت وهو في الآيات التي ذكرتها ذكر النفس، فقال (بل الإنسان على نفسه بصيرة) وذكر العجلة فقال: (لتعجل به) فالمناسبة ظاهرة.
ثم بدأن اقرأ السورة متأملاً فيها فوجدت من دقائق الفن والتناسب والتناسق ما يدعو إلى العجب فآثرت أن أدون شيئاً من هذه اللمسات الفنية.
لقد ذكر المفسرون مناسبة هذه السورة لما قبلها أعني سورة (المدثر) وارتباطها بها. فقد قالوا: إنه سبحانه قال في آخر سورة المدثر: (كلا بل يخافون الآخرة كلا إنه تذكرة) وفيها كثير من أحوال القيامة "فذكر هنا يوم القيامة وجملاً من أحوالها"[1] فكان بينهما مناسبة ظاهرة.
إن هذه السورة قطعة فنية مترابطة متناسقة محكمة النسج، وليس صواباً ما جاء في (الإتقان) أن "من الآيات ما أشكلت مناسبتها لما قبلها، من ذلك قوله تعالى في سورة القيامة: (لا تحرك به لسانك لتعجل به) فإن وجه مناسبتها لأول السورة وآخرها عسر جداً"[2]
إن ترابط آيات هذه السورة ترابط محكم وتناسبها فيما بينها لا يخفى على المتأمل.
لقد أقسم الله سبحانه بيوم القيامة، وأقسم بالنفس اللوامة على رأي الأكثرين، أو أقسم بيوم القيامة، ولم يقسم بالنفس اللوامة على رأي آخرين وسر هذا الاختلاف، أن ثمة قراءة بإثبات القسم بيوم القيامة أي (لأقسم) إلا أنهم اتفقوا على إثبات حرف النفي مع النفس اللوامة فكلهم قرأ(ولا أقسم بالنفس اللوامة)[3]
ولا نريد أن نطيل الكلام على اقتران فعل القسم بـ (لا) ودواعيه فقد تكلم فيه المفسرون والنجاة بما فيه الكفاية والذي نريد أن نقوله ههنا: إن كل أفعال القسم المسندة إلى الله في القرآن الكريم مسبوقة بـ (لا) إذ ليس في القرآن الكريم (أقسم) بل كلها (لا أقسم)، وذلك نحو قوله تعالى: (فلا أقسم بمواقع النجوم) [الواقعة] وقوله: (فلا أقسم بالشفق) [الإنشقاق]، وقوله: (لا أقسم بهذا البلد) [البلد] وما إلى ذلك فليس القسم ههنا بدعاً من التعبير. وباختصار كبير نرجح أن هذا التعبير إنما هو "لون من ألوان الأساليب في العربية تخبر صاحبك عن أمكر يجهله أو ينكره، وقد يحتاج إلى قسم لتوكيده، لكنك تقول له: لا داعي أن أحلف لك على هذا، أو لا أريد أن أحلف لم أن ألأمر على هذه الحال، ونحوه مستعمل في الدراجة عندنا نقول: ما أحلف لك أن ألأمر كيت وكيت. أو ما أحلف لك بالله لأن الحلف بالله عظيم، إن الأمر على غير ما تظن فأنت تخبره بالأمر، وتقول له: لا داعي للحلف بالمعظمات على هذا الأمر"[4]
أو كما ذهبت إليه الدكتورة بنت الشاطئ، وهو أن القصد من ذلك هو التأكيد "والتأكيد عن طريق النفي، ليس بغريب عن مألوف استعمالنا، فأنت تقول لصاحبك: لا أوصيك بفلان تأكيداً للوصية ومبالغة في الاهتمام بها، كما تقول: لن ألح عليك في زيارتنا فتبلغ بالنفي ما لا تبلغه بالطلب المباشر الصريح"[5].
ومهما كان الرأي في دخول (لا) على فعل القسم، فإن هذا لا يغير شيئاً من أصل المسألة، وهي أنه ابتدأ السورة بالقسم بيوم القيامة والنفس اللوامة نفياً أو إثباتاً. وقد حاول المفسرون أن يجدوا المناسبة لاجتماعهما في القسم فقالوا: "المقصود من إقامة القيامة، إظهار أحوال النفوس اللوامة، أعني سعادتها وشقاوتها، فقد حصل بين القيامة والنفوس اللوامة هذه المناسبة الشديدة"[6] .
وجاء في (التبيان في أقسام القرآن): "وجمع سبحانه في القسم بين محل الجزاء وهو يوم القيامة ومحل الكسب وهو النفس اللوامة ولما كان معادها هو محل ظهور هذا اللوم وترتب أثره عليه، قرن بينهما في الذكر[7]
إن السورة مبنية على ما ابتدأت به من القسم، فهي مبنية على أحوال يوم القيامة، وعلى النفس، ولا تكاد تخرج عن ذلك.
هذا أمر والأمر الآخر أنه تعالى لم يقسم بالنفس على صفة الإطلاق، بل أقسم بنفس مخصوصة، وهي النفس اللوامة، وهذا له طابعه الواضح في السورة كما سنبين.
إن الإنسان يلوم نفسه لأحد سببين:
إما أن يتعجل فيفعل ما لا ينبغي له فعله، فيندم على ذلك فيبدأ يلوم نفسه، لم فعلت ذاك؟ لم لم أترو؟
وإما أن يتراخى عن فعل كان الأولى له أن يفعله، وأن يغتنم الفرصة التي سنحت له، ولكنه قعد عن ذلك مسوفاً، ففاته نفع كبير، وقد لا تسنح له فرصة، كالتي فاتت، فيبدأ يلوم نفسه. لم تباطأت، لم لم أفعل؟ لم لم أغتنم الفرصة؟ ونحو ذلك.
والسورة مطبوعة أيضاً بهذين الطابعين من صفات النفس اللوامة، طابع العجلة التي تدعو إلى الندم واللوم، وطابع التباطؤ وتفويت الفرص الذي يؤدي إلى الندم واللوم أيضاً.
فالسورة مبنية إذن على ما ابتدأت به.
يوم القيامة، والنفس اللوامة في حيالها: العجلة والتباطؤ.
أما يوم القيامة، فقد تكررت أحواله في السورة في تناسق لطيف، إلى أي ختمت بقوله: (أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى) فتناسب بدء السورة مع خاتمتها.
ثم قال بعد القسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة:
(أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه) فعاد إلى القيامة.
والملاحظ في هذا التعبير أنه جمع بين نفس الإنسان ويوم القيامة أيضاً كما ابتدأت السورة فقال: (أيحسب الإنسان) أي: أيظن ذلك في نفسه؟ لحسبان أمر نفسي داخلي، ولم يقل مثلاً: (لنجمعنك إلى يوم القيامة) أو لتبعثن) ونحو ذلك فجمع بينهما في تناسق لطيف مع بداية السورة، وهو احتيار فني رفيع.
ومن الملاحظ أننا لا نجد جواباً للقسم الذي ابتدأت به السورة، وإنما نجد ما يدل عليه وهو هذه الآية. فجواب القسم محذوف ويقدره النحاة (لتبعثن)[8].
وهذا الحذف يتناسب هو والعجلة التي دلت عليه النفس اللوامة وجوها ـ أعني جو العجلة ـ الذي طبعت به السورة.
ومن الملاحظات الأخرى في هذه الآية، أنها مرتبطة بما ورد في آخر السورة وهو قوله: (أيحسب الإنسان أن يترك سدى) أجمل ارتباط حتى كأنهما آيتان متتابعتان تأخذ إحداهما بحجز الأخرى.
ثم قال بعدها:
(بلى قادرين على أن نسوى بنانه).
إن هذه الآية تتناسب هي ما ورد في آخر السورة من قوله تعالى: (فخلق فسوى) إلا أن هذه تسوية مخصوصة بالبنان وتلك تسوية عامة. وكل آية موضوعة في مكانها المناسب فآية (نسوى بنانه) مرتبطة بقوله: (نجمع عظامه) فإن البنان عظام، فناسب ذلك بأن يكون بجنب (نجمع عظامه) أما الآية الأخر وهي (فخلق فسوى) فهي مرتبطة بالخلق العام للإنسان، فناسب ذلك الإطلاق والعموم فناسب كل آية موضعها.
وملاحظة أخرى في هذا التعبير، وهي أنه حذف منه عامل الحال، فقال: (بلى قادرين) ولم يذكر عامله، ولم يذكر عامله، ويقدره النحاة بقولهم: (بلى نجمعها قادرين[9] وهذا الحذف يتناسب أيضاً والعجلة التي دلت عليها النفس اللوامة.
ثم قال بعد ذلك: (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه).
ومعنى الآية أن الإنسان يريد المداومة على شهواته ومعاصيه، ويقدم الذنب ويؤخر التوبة.
جاء في (الكشاف) في تفسير قوله تعالى: (ليفجر أمامه) "ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات، وفيما يستقبله من الزمان لا ينزع عنه. وعن سعيد بن جبير ـ رضي الله عنه ـ يقدم الذنب ويؤخر التوبة، يقول: سوف أتوب، سوف أتوب حتى يأتيه الموت على شر أحواله وأسوأ أعماله"[10].
وجاء في (البحر المحيط): " إن الإنسان إنما يريد شهواته ومعاصيه، ويمضي فيها أبداً قدماً راكباً رأسه مطيعاً أمله ومسوفاً بتوبته"([11]).
وارتباط الآية بالنفس اللوامة واضح، فإن الإنسان ههنا يسوف التوبة، يتباطاً عنها ويغره الأمل حتى يموت، فيدركه الندم ويقع تحت مطرقة اللوم.
وانظر بعد ذلك كيف جاء باللام الزائدة المؤكدة في مفعول الإرادة، فقال: (بل يريد الإنسان ليفجر) والأصل أن يقال: (بل يريد الإنسان أن يفجر) لأن فعل الإرادة متعد بنفسه لا باللام كما قال: (يريد الله أن يخفف عنكم) [النساء] غير أنه جاء باللام للدلالة على قوة إرادة الفجور والشهوات عند الإنسان وشدة الرغبة فيها. وهذه مدعاة إلى الندم البالغ، وكثرة لوم الإنسان لنفسه، فارتبط ذلك أحسن ارتباط بالنفس اللوامة.
ثم انظر كيف أنه لما بالغ في إرادة للفجور والرغبة فيه، بالغ في اللوم فجاء بصيغة المبالغة، فقال: (اللوامة) ولم يقل (اللائمة) للدلالة على كثرة اللوم، فانظر المناسبة بين المبالغة في الفجور والمبالغة في اللوم، وكيف أنه لما بالغ في أحدهما بالغ في الآخر.
ثم قال بعد ذلك:
(يسأل أيان يوم القيامة)
وهذا "سؤال متعنت مستبعد لقيام الساعة"[12] وقد جاء بأداة الاستفهام (أيان) التي تدل على شدة الاستبعاد وهذا المتعنت المستبعد لقيام الساعة هو الذي يقدم الفجور والمعصية ويؤخر التوبة، وهو المذكور في الآية السابقة.
وقال بعد ذلك:
(فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان يومئذ أين المفر) .
وهذه الآيات كأنها جواب السائل عن موعد القيامة المستبعد لوقوعها. وقد بدأ التعبير بـ (إذا) الدالة على الزمان لأن السائل إنما سأل عن زمنها وموعدها، فكان الجواب بالزمان كما كان السؤال عن الزمان.
ومعنى: (برق البصر) دهش فلم يبصر، وقيل: تحير فلم يطرف، وبرق بصره، أي: ضعف[13].
وذكر البصر مع ذكر الشمس والقمر له سببه ومناسبته، فإن البصر يعمل مع وجود الشمس والقمر، أي: مع النور، فإذا لم يكن ثمة نور فلا يعمل شيئاً كما قال تعالى: (ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون) [البقرة].
وفي هذا اليوم قد تعطل البصر كما تعطل الشمس والقمر، فالبصر برق، والقمر خسف، وجمع الشمس والقمر.
ثم انظر كيف قال: (برق البصر) ولم يقل (عمي) أو نحو ذلك، فإن المراد تعطيله مع وجوده، كما فعل بالشمس والقمر، فإنه لم يزلهما ويذهبهما، وإنما عطلهما فهو تناسب لطيف.
ثم انظر كيف قال: (وجمع الشمس والقمر) إشارة إلى تعطيل الحياة الرتيبة إن استمرار الشمس والقمر على حالهما دليل على استمرار الحياة والدنيا إنما هي أيام وليال، وآية النهار الشمس وآية الليل القمر، فجمعهما معاً دليل على تعطيل الحياة التي كان يردوها مسوفو التوبة، والمغترون بالأمل والذين يقدمون الفجور ممن تقدم ذكرهم بقوله: (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) ثم انظر بعد علاقة ذلك بالنفس اللوامة التي كانت تقدم الفجور، وتغتر بالدنيا ففاجأها ما يستدعي كثرة اللوم.
ثم انظر مناسبة ذلك للقسم بـ (يوم القيامة)، و(اليوم) يستعمل في أحد مدلوليه لمجموع الليل والنهار فناسب ذلك ذكر الشمس والقمر، إذ هما دليلاً اليوم وآيتاه في الدنيا، أما يوم القيامة هذا فهو يوم لا يتعاقب فيه الشمس بالقمر، بل يجمعان فيه فلا يكون بعد ليل ونهار بل هو يوم متصل طويل.
وفي هذا اليوم يطلب الإنسان الفرار، ولكن إلى أين؟
ويبقى السؤال بلا جواب ثم يجيب رب العزة بقوله: (كلا لا وزر) والوزر الملجأ، فلا ملجأ يفر إليه الإنسان ويحتمي به وإنما (إلى ربك يومئذ المستقر) والفار يطلب ملجأ يأوي إليه ويعتصم به ويطلب الاستقرار ولكن لا استقرار إلا إلى الله، فإليه وحده المستقر.
وتقديم الجار والمجرور يفيد القصر والاختصاص، فليس ثمة مستقر إلى سواه. وهذا التقديم يقتضيه الكلام من جهتين:
من جهة المعنى وهو الاختصاص والقصر، وتقتضيه فاصلة الآية أيضاً.
وتقديم (يومئذ) كذلك يقتضيه الكلام من هاتين الجهتين أيضاً. فالمستقر في ذلك اليوم خاصة إلى الله سبحانه، أما في الدنيا فالإنسان قد يجد مستقراً يأوي إليه ويستقر فيه، أما في ذلك اليوم، فلا مستقر لا إلى الله.
وتقديم (إلى ربك) على (يومئذ) له سببه أيضاً ذلك أن الإنسان في تلك الحالة، يبحث عن مكان يفر إليه ويستقر منه، فقدم له ما يبحث عنه، وقال له: (إلى ربك يومئذ المستقر) لأنه هو الأهم، وهو المقصود.
واختيار كلمة (رب) ههنا اختيار مقصود، فالرب هو المالك والسيد والمدبر والمربي والقيم والمنعم. ورب كل شيء مالكه ومستحقه[14].
والفار إلى من يلتجئ؟ هل يلتجئ إلا إلى سيده ومالكه وصاحب نعمته ومدبر أمره والقيم عليه؟
فهو وزره وإليه مستقره، فهل ترى أنسب من كلمة (رب) ههنا؟
ثم إن اختيار كلمة (مستقر) اختيار دقيق محكم أيضاً، ذلك أن هذه الكلمة تدل على المصدر بمعنى الاستقرار، وتدل على اسم المكان بمعنى مكان الاستقرار، وتدل على اسم الزمان، بمعنى زمان الاستقرار.
وهي هنا تفيد هذه المعاني كلها، فهي تفيد (الاستقرار)، أي: إلى فك الاستقرار، وتفيد موضع الاستقرار وهو الجنة والنار أي إلى ذلك إلى هيئته تعالى.
جاء في (الكشاف) في قوله تعالى: (إلى ريك يومئذ المستقر): "إلى ربك خاصة (يومئذ) مستقر العباد، أي: استقرارهم، يعني أنهم لا يقدرون أن يستقروا إلى غيره وينصبوا إليه. أو على حكمة ترجع أمور العباد لا يحكم عليه غير كقوله: (لمن الملك اليوم) أو إلى ربك مستقرهم، أي: موضع فرارهم من جنة أو نار"[15].
وجاء في(البحر المحيط): "المستقر، أي: الاستقرار أو موضع استقرار من جنة أو نار إلى مشيئته تعالى، يدخل من شاء الجنة، ويدخل من شاء النار بما قدم وأخر"[16].
وتفيد زمان الاستقرار أيضاً، أي أن وقت الفصل بين الخلائق، وسوقهم على مستقرهم عائد إلى مشيئته تعالى. فهم يمكثون في ذلك اليوم ما يشاء الله أن يمكثوا، ثم هو يحكم بوقت ذهابهم إلى مواطن استقرارهم، فكلمة (مستقر) أفادت ثلاث معان مجتمعة علاوة على ما تقتضيه الفاصلة في نهاية الآيات. ولا تغنى كلمة أخرى عنها، فلو أبدلت بها (الاستقرار) ما أدت تلك المعاني، فهي أنسب كلمة في هذا الموضع.
ثم قال بعد ذلك:
(ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر).
والمعنى أن الإنسان ينبأ بما قدم من عمل خير أو شر، وبما أخر من عمل كان عليه أن يعمله، فلم يعمله.
وهذه الآية متناسبة مع ذكر النفس اللوامة، في أول السورة في حالتيها اللتين تدعوان إلى اللوم.
أن تفعل فعلاً ما كان ينبغي لها أن تفعله، فتلوم نفسها عليه، وهذا يدخل فيما قدم.
أو تقعد عن عمل كان ينبغي لها أن تعمله، فلم تعمله وهو يدخل فيما أخر.
ثم قال بعدها:
(بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره).
بعد أن أخبر عن أحوال يوم القيامة فيما تقدم، عاد إلى النفس مرة أخرى. وهو اقتران يذكرنا بالاقتران بين يوم القيامة والنفس اللوامة في مفتتح السورة.
والمعنى: أن الإنسان يعرف حقيقة نفسه، ولو جاء بالحجج والأعذار.
وقال بعدها:
(لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقراءنه فإذا قرأنه فاتبع قراءنه ثم إن علينا بيانه).
وجه ارتباط هذه الآية بما قبلها، أن الحجج والمعاذير إنما تلقى باللسان فارتبطت بقوله: (لا تحرك به لسانك لتعجل به).
والضمير في (به) يعود على القرآن، ولم يجر له ذكر، وهو مفهوم من المعنى "وكان رسول الله eإذا لقن الوحي، نازع جبريل القراءة، ولم يصبر إلى أن يتمها مسارعةً إلى الحفظ وخوفاً من أن يتفلت منه، فأمر بأن يستنصت إليه ملقياً إليه بقلبه وسمعه، حتى يقضي إليه وحيه… (لتعجل به) لتأخذه على عجلة ولئلا يتفلت منك"[17].
وأما قوله: (لتعجل به) فهو تعليل لتحريك اللسان، فالعجلة علة له هذا e.
إن العجلة المذكورة هنا تتناسب مع جو العجلة في السورة، ثم إن ذكر سير القرآن من دون أن يجري له ذكر اختصار وإيجاز في الكلام مناسب لجو مجلة هذه، فقد تعاون كل من التعبير والتعليل لبيان هذا الغرض.
وقال بعدها: (إن علينا جمعه وقرآنه)
الملاحظ في هذا التعبير أنه قدم الجار والمجرور على الاسم، وذلك لاختصاص والقصر والمعنى أننا نحن المتكلفون بجمعه في صدرك تلاوته للناس صحيحاً كاملاً وهذا مواطن من مواطن القصر، لأنه لا يمكن لأحد غير الله أن يفعل ذلك، فإن تثبيت النصوص في النفس وحفظها لمجرد سماعها وعدم نسيانها، وإلقاءها كما هي على مر الزمن، إنما هو من فعل الله وحده فهو الذي يثبت في النفوس أو يمحو منها ما يشاء.
إذن فإن ذلك عليه وحده
وهذا التقديم اقتضاه المعنى كما اقتضته الفاصلة.
ولو أخر الجار والمجرور لأخل بالمعنى، ذلك أنه يقتضي عدم القصر ومعنى ذلك أنه يخبر بأنه متكفل بجمع القرآن في صدره، وليس المتكفل الوحيد وذلك كما تقول: (يشرح خالد لك هذا الأمر) فإنك ذكرت أن خالداً يشرح له الأمر ولم تفد أن خالداً يخصه بالشرح ولا يشرح لأحد غيره ولو قال: (لك يشرح خالد هذا الأمر) لأفاد أنه يخصه بالشرح ولا يشرح لأحد آخر. فتقديم الجار والمجرور على عامله يفيد القصر غالباً.
وهذا موطن قصر، إذ لا يمكن أن يفعل ذلك غير الله تعالى، أعني التكفل بتثبيت القرآن في النفس بمجرد سماعه.
وإدخال (إن) يقتضيه المعنى أيضاً في أكثر من جهة:
من ذلك أنها تفيد التعليل كما في قوله تعالى: (وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) [التوبة] فهنا أفادت التعليل وبينت سبب النهي عن تحريك اللسان فقد قال: لا تحرك به لسانك، لأن جمعه في صدرك نحن نتكفل به. ولو لم يدخل (إن) لم يرتبط الكلام ولا نتفى معنى التعليل إذ لو قال: (لا تحرك به لسامك لتعجل به علينا جمعه وقرآنه) لم تجد له هذا الحسن الذي تجد، ولا نفصل الكلام بعضه عن بعض فـ (إن) ربطت الكلام بعضه ببعض وأفادت التعليل.
ومن ذلك أنها تفيد التوكيد، وهذا الموطن يقتضي التوكيد إذ إن حفظ الإنسان لكل ما يلقى إليه بمجرد سماعه أمر غريب والتكفل به يحتاج إلى توكيد ولذا جاء بـ (إن) المؤكدة.
وقال بعد ذلك:
(فإذا قرأنه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه)
ومعنى: (فاتبع قرآنه) أي: اتبعه بذهنك وفكرك، أي: فاستمع له[18].
والإسناد إلى ضمير الجمع هنا له دلالة إضافة إلى التعظيم الذي يفيده من الجمع ذلك أن القارئ هو جبريل، وليس الله.
جاء في (التفسير الكبير) في قوله تعالى: (فإذا قرآنه فاتبع قرآنه) "جعل قراءة جبريل عليه السلام قراءته… ونظيره في حق محمد عليه الصلاة والسلام (من يطع الرسول فقد أطاع الله) [19]. وجاء في (البحر المحيط): فإذا قرأناه، أي: الملك المبلغ عنا"[20].
وكذلك المبين في قوله تعالى: (ثم إن علينا بيانه) فالذي يبين للرسول يوضح هو الملك، فهو يقرأ بأمر الله ويبين بأمر الله فالأمر مشترك. الله هو الملك يبلغ، ولذا عبر بأسلوب الجمع، والله أعلم، وأظن أن الفرق موضح بين قوله: (فإذا قرآنه فاتبع قرآنه) والقول: (فإذا قرأته فاتبع قرآنه).
والقول في التقديم في (ثم إن علينا) هو في الآية قبلها. فإن تقديم الجار والمجرور يفيد الاختصاص أيضاً ذلك أن تبين ما أشكل منه مختص تعالى.
وقال بعد ذلك: (كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة)
والعاجلة يؤثرها بنو آدم على وجه العموم، ويقدمونها على الآخرة وارتباطها بما قبلها وهو قوله تعالى: (لا تحرك به لسانك لتعجل به) ظاهر فكلتاهما في العجلة وإيثارها، فالرسول eكان ينازع جبريل القراءة ولا يصبر حتى يتمها ليأخذه على عجل، والناس على وجه العموم يؤثرون العاجلة على الآخرة، فهو طبع عام في البشر خلقوا عليه كما قال تعالى: (خلق الإنسان من عجل) [الأنبياء] فالموضوع إذن موضوع واحد هو العجلة.
وكلاهما يتعجل ما هو أثير لديه ومفضل عنده.

يتبـــــــــــــــــــــــع
  #777  
قديم 09-08-2008, 08:38 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبـــع موضوع .... لمسات بيانية من سورة القيامة

جاء في (الكشاف) في قوله تعالى: (كلا بل تحبون العاجلة)، كأنه قال: بل أنتم يا بني آدم لأنكم خلقتم من عجل وطبعتم عليه تعجلون في كل شيء ومن ثم تحبون العاجلة: (وتذرون الآخرة)… فإن قلت: كيف اتصل قوله: (لا تحرك به لسانك) إلى آخره بذكر القيامة؟ قلت: اتصاله به من جهة التخلص منه إلى هذا التوبيخ بحب العاجلة وترك الاهتمام بالآخرة[21].
وجاء في (روح المعاني) في هذه الآية: "كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة) تعميم الخطاب للكل كأنه قيل: بل أنتم يا بني آدم لما خلقتم من عجل وجبلتم عليه تعجلون في كل شيء ولذا تحبون العاجلة وتذرون الآخرة ويتضمن استعجالك، لأن عادة بني آدم الاستعجال ومحبة العاجلة… ومنه يعلم أن هذا متصل بقوله سبحانه: (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) فإن ملوح إلى معنى: بل تحبون الخ"[22].
إن هذه الآية كما هو واضح مناسبة لجو العجلة التي بنيت عليها السورة، وهي متصلة ـ كما مر بنا ـ بقوله تعالى: (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) فإن الإنسان يسوف بتوبته ويغره أمله ويؤثر ما بين يديه ويغمس نفسه في شهواته، ويستحب عاجل حياته ولا ينظر فيما وراء ذلك من أمور الآخرة، فهي متصلة بما قبلها وبقوله: (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) أتم اتصال.
كما أنها متصلة بالنفس اللوامة التي بنيت عليها السورة اتصالاً ظاهراً بالنفس اللوامة كما ذكرنا تلوم نفسها لأحد سببين:
إما أن تعجل فتعمل عملاً تندم عليه، فتلوم نفسها علة ذلك، وهذا ما أكده قوله: (كلا بل تحبون العاجلة) وإما أن تؤخر عملاً كان ينبغي لها عمله وقرتها خيره، فتندم عليه، فتلوم نفسها على ذلك وهذا ما يفيده قوله: (كلا بل تذرون الآخرة) فهو هنا عجل أمراً وترك آخر فندم من الجهتين ولام نفسه الحالتين، لام نفسه في العجلة ولام نفسه في الترك.
وما أحرى أن تسمى هذه النفس بالنفس اللوامة، لأن دواعي اللوم لكاثرة عليها.
ثم انظر كيف اختار الفعل: (وتذرون) على (تتركون) ذلك أم في تذورن) حذفاً واصله (توذرون) من (وذر) ليدل ذلك على طابع العجلة الذي يريد أن ينتهي من الشيء في أقرب وقت. فاختيار هذا الفعل المحذوف الواو، مناسب لجو العجلة.
و قد تقول: ولم لم يقل: (تدعون) وهو فيه حذف كما في (وتذرون)
والجواب ـ والله أعلم ـ أن اختيار (تذرون) على (تدعون) له سببه ذلك أن الفعل (وذر) في عموم معانيه يفيد الذم، ومنه قولهم: امرأة وذرة أي: رائحتها رائحة الوذر، وهو اللحم، وقولهم (يا ابن شامة الوذر) وهو سب يكنى به عن القذف. وفي الحديث : (شر النساء الوذرة المذرة) [23] بخلاف (ودع) فإن من معانيه الراحة والدعة وخفض العيش. وقد يفيد المدح ومنه قولهم، رجل وديع، أي: هادئ ساكن[24]. في حين أن الموقف ذم فإنهم يحبون العاجلة ويذرون الآخرة، فاختار الفعل الذي يقال في عموم للذم ولم يختر الفعل الذي يقال في كثير من معانيه و أكثر معانيه للمدح. وهو اختيار فني رفيع.
ثم قال بعد ذلك: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة)
هذا الصنفان هما ما يؤول إلى أحدهما الناس يوم القيامة. الذي يؤثر الآخرة ويعمل لها، والذي يحب العاجلة ويذر الآخرة. وهذه الآيات مرتبطة بأول السورة وهو القسم بيوم القيامة أتم ارتباط. فإنه في يوم القيامة ينقسم الناس إلى هذين الصنفين.
ثم إن لاختيار كلمة (رب) وتقديم الجار والمجرور سببه أيضاً.
أما اختيار كلمة (رب) فهو أنسب شيء ههنا، فإن وجوه أهل السعادة تنظر إلى ولي نعمتها في الدنيا والآخرة ومربيها وسيدها الذي غذاها بالنعم وهداها إلى طريق السعادة، وأوصلها إليه ولم تكن قد رأته من قبل. ولم يرد في السورة من أسماء الله تعالى غير لفظ (الرب).
وأما تقديم الجار والمجرور في قوله تعالى: (إلى ربها ناظرة) فللاختصاص، فإن هذه الوجوه لا تنظر إلا إليه، فإن النظر إليه يذهلها عن كل ما عداه وينسي أهلها ما عداه من النعيم، فإن أهل الجنة ما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إليه كما في الحديث الصحيح. فهذا من أوجب مواطن الاختصاص فالتقديم اقتضاه المعنى كما اقتضته موسيقى الفاصلة وهذا الجمع بين النضرة وسعادة النظر إلى وجهه الكريم، يشبه الجمع بين النضرة والسرور في قوله تعالى: (ولاقهم نضرة وسروراً) [الإنسان].
ثم قال بعدها في الصنف الشقي:
(ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة)
وهذه بمقابل الوجوه الناضرة، وهي وجوه من آثر العاجلة، وترك الآخرة، وجوه من يريد ليفجر أمامه، الوجوه التي ينبغي لأصحابها أن كثروا اللوم لأنفسهم ويبالغوا في اللوم.
وتقديم (يومئذ) في الآيتين يفيد الاختصاص وهو ما يقتضيه المعنى الفاصلة، فإن نضرة أصحاب النعيم خاصة بذلك اليوم، أما في الدنيا ربما لم تعرف وجوههم النضرة. وكذلك أصحاب الوجوه الباسرة، فإن البسور مختص بذلك اليوم، وربما كانت وجوههم من أنضر الوجوه في الدنيا.
(تظن أن يفعل بها فاقرة)
والفاقرة: الداهية العظيمة التي تقصم فقار الظهر وأصلها من الفقرة والفقارة كأن الفاقرة تكسر فقار الظهر[25].
واختيار فعل الظن مناسب أحسن مناسبة لجو السورة والسياق مع أن الموطن موطن علم ويقين، وقد فسره أكثر المفسرين بالعلم واليقين، وذلك أن الإتيان بفعل الظن متناسب مع تأخير التوبة وإيثار العاجلة وتقديم الفجور، فإنه في الحياة الدنيا بنى حياته على الظن، فهو يظن أن سيمتد به العمر ويطول به الأجل، فيسوف بتوبته ويقم شهوته. وهذا الظن يرافقه إلى اليوم الآخر، فهو إلى الآن يظن وقوع الداهية ظناً، وهو إلى الآن في حال ظن وأمل لا في حال علم وبصيرة، فهو لا يرى إلا اللحظة التي هو فيها، وما بعدها فهو عنده ظن لا يقين كما كان شأنه في الدنيا يقدم شهوته ويؤثر عاجلته ويقول: أيان يوم القيامة؟
فانظر هذا الاختيار الرفيع لفعل الظن في هذا الموقف، وانظر تناسب ذلك مع النفس اللوامة التي لا ترى إلا ما هي عليه حتى تفوتها الفرصة، ويفوتها معها الخير، ويدركها سوء العاقبة، فتلوم نفسها على ما فرطت في جنب الله.
وذكر لاختيار فعل الظن سبب آخر هو أن الظان لا يعلم نوع العقوبة، ولا مقدارها فيبقى رجلاً أشد الوجل، خائفاً أعظم الخوف من هذا الأمر الذي لا يعلم ما هو ولا مداه ولا كيف يتقيه ألا ترى أن الذي يعلم ما سيحل به يكون موطناً نفسه على ذلك الأمر بخلاف الذي لا يعلم ماذا يتقي، وما مداه وما نوع تلك الفاقرة.
جاء في (روح المعاني): "وجيء بفعل الظن ههنا، دلالة على أن ما هم فيه، وإن كان غاية الشر يتوقع بعده أشد منه وهكذا أبداً… وإذا كان ظاناً كان أشد عليه مما إذا كان عالماً موطناً نفسه على الأمر"[26].
ولاختيار الفاقرة دون غيرها سبب سنذكره في مكانه.
واختيار تعبير (أن يفعل بها) بالبناء للمجهول دون أن يقول مثلاً: (أن تصيبها فاقرة) أو (تحل بها) أو نحو ذلك له سبب لطيف. ذلك أن قوله: (أن يفعل بها) معناه أن هناك فاعلاً مريداً يفعل بفقار الظهر ما يريد من تحطيم وقصم. أما القول: (أن تصيبها) أو (تحل بها) فكأن ذلك متروك للمصادفات والظروف، فقد تكون الفاقرة عظيمة أو هينة والفواقر بعضها أدهى من بعض. فقوله: (أن يفعل بها) أنسب اختيار في هذا السياق إذ لا تترك ذلك للمصادفات والموافقات، بل كان ذلك بقدر.
ثم إنه لم يقل: (أن نفعل بها) بإسناد الفعل إلى ذاته العلية، لأنه لم يرد أن ينسب إيقاع هذه الكارثة والشر المستطير إلى نفسه كما هو شأن كثير من التعبيرات التي لا ينسب الله فيها السوء إلى ذاته العلية نحو قوله: (وأنا لا ندري أشر اريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا) [الجن] وقوله (وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يؤسا) [الإسراء] فلم ينسب الشر إلى ذاته.
ثم قال بعدها:
(كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق)
"والضمير في (بلغت) للنفس وإن لم يجر لها ذكر"[27]. وعدم ذكر الفاعل ولا ما يدل عليه مناسب لجو العجلة الذي بنيت عليه السورة. ونحوه ما مر في حذف جواب القسم في أول السورة، وحذف عامل الحال (قادرين) وعدم ذكر ما جرى عليه الضمير في قوله: (لا تحرك به لسانك لتعجل به) وغيره مما سنشير إليه.
(وقيل من راق) وحذف الفاعل وإبهامه في (قيل) مناسب لإضماره وعدم ذكره في (بلغت التراقي) كلاهما لم يجر له ذكر، وكذلك الإبهام في (راق) مناسب لسياق الإبهام هذا، فإن كلمة (راق) مشتركة في كونها اسم فاعل للفعل (رقي يرقي) وهو الذي يقرأ الرقية على المريض ليشفى، وفي كونها اسم فاعل للفعل (رقي يرقى) بمعنى (صعد) ومنه قوله تعالى: (أو ترقى في السماء) [الإسراء].
واختلف في تفسير هذه الآية على هذين الوجهين:
من يرقيه فيشفيه وينجيه من الموت؟
أو من يرقى بروحه إلى السماء أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟[28].
فالقائل مجهول، أهم أهله ومن يتمنى له الشفاء أم هم الملائكة الذين حضروه أثناء الموت؟
فانظر جو الحذف والإبهام وكيف ناسب ما قبله.
وقال بعدها:
(وظن أنه الفراق)
واختيار فعل الظن اختيار مناسب غاية المناسبة لما قبلها ولجو السورة كما ذكرنا، فهو إلى اللحظة الأخيرة في حال ظن وأمل ولا يزال فراق الحياة عنده ظناً من الظنون لا يقيناً، ومناسب لقوله: (تظن أن يفعل بها فاقرة) فهو في المواطنين، يفترض أن يكون في موقف علم ويقين ولكن مع ذلك لا يزال في موقف ظن.
جاء في (روح المعاني): "والظن هنا عند أبي حيان على بابه وأكثر المفسرين على تفسيره باليقين. قال الإمام: ولعله إنما سمي اليقين ههنا بالظن لأن الإنسان ما دامت روحه متعلقة ببدنه يطمع في الحياة لشدة حبه لهذه الحياة العاجلة ولا ينقطع رجاؤه عنها، فلا يحصل له يقين الموت، بل الظن الغالب مع رجاء الحياة"[29].
قوله: (والتفت الساق بالساق)
قيل: معناه لفهما في الكفن، وقيل: انتهاء أمرهما بالموت، وكل ما دل في تفسير الآية يراد به حالة من حالات الموت الذي حصل يقينالً لا ظناً.
(إلى ربك يومئذ المساق)
إن تركيب هذه الآية نظير آية (إلى ربك يومئذ المستقر) فإن تقديم (إلى ربك) يفيد القصر والاختصاص، فإن الناس يساقون إلى ربهم وليس إلى مكان أو ذات أخرى، فسوقهم مختص بأنه إلى الله وحده لا إلى غيره.
وكذلك تقديم (يومئذ) فالمساق إليه سبحانه يكون في ذلك اليوم مخصوصاً، وهو يوم مفارقة الدنيا.
وقدم (إلى ربك) على (يومئذ) لأنه هو المهم لأنها جهة المساق ومنتهاه ومستقره. وقد قال في آية سابقة: (إلى ربك يومئذ المستقر) وقال هنا: (إلى ربك يومئذ المساق) فاختير لفظ (المساق) ههنا لأن الآية في مفارقة لروح الجسد عند الموت، فيذهب الميت بعد ذلم ويساق إلى ربه، ثم يوضع في القبر، والقبر ليس مستقراً ولا موطن إقامة، وإنما هو موطن زيارة كما قال تعالى: (ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر) [التكاثر] فسماها زيارة ولم يسمها مكثاً أو إقامة.
أما الآية الأولى فهي في يوم القيامة، يوم قيام الناس من قبورهم والذهاب بهم إلى مستقرهم في الجنة أو النار، وقد سمى الله الجنة مستقراً وكذلك النار قال تعالى: (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً) [الفرقان] فالمساق ينتهي إلى المستقر كما قال تعالى: (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً) [الزمر] فهذه غاية المساق ومنتهاه، وكل ذلك إلى الله رب العباد.
ثم قال بعدها:
(فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى)
هذه الآيات فيها حشد من الفن عظيم عسى أن أوفق إلى بيان شيء من مظاهره. فمن ذلك:
1ـ إن هذه الآيات وقعت بعد قوله: (والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق) وهذا النفي والإخبار فيها، إنما هو في الآخرة وهي من أحوال الآخرة وأخبارها، فارتبطت بقوله: (لا أقسم بيوم القيامة).
2ـ كما ارتبطت بالنفس اللوامة من جهتيها الداعيتين إلى اللوم، فقد ذكرنا أن النفس اللوامة إنما تلوم نفسها لسببين:
إما أن تقوم بعمل لا ينبغي أن تقوم به فتندم فتلوم نفسها على ذلك، أو تترك عملاً ما كان ينبغي لها أن تتركه، فيفوتها خيره فتندم فتلوم نفسها على ذلك. والنفس هنا قدمت التكذيب والتولي: (ولكن كذب وتولى) وأخرت التصديق والصلاة (فلا صدق ولا صلى) فندمت في الحالتين فاقتضى ذلك أن تلوم نفسها من الجهتين، وأن تكثر ذلك وتبالغ في الملامة.
3ـ كما ارتبطت بقوله: (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) ذلك أنه كذب وتولى، فقدم شهواته ومعاصيه.
4ـ وارتبط قوله: (فلا صدق ولا صلى) بقوله: (يسأل أيان يوم القيامة) فهو مستبعد له مكذب به فهو لم يصدق ولم يصل.
5ـ كما ارتبط ذلك بقوله تعالى: (ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وآخر) فإنه قدم التكذيب والتولي وأخر التصديق والصلاة.
6ـ وارتبط قوله: (فلا صدق) بقوله: (بل الإنسان على نفسه بصيرة) ذلك أن التصديق أمر إيماني، وهو من دخائل النفوس التي لا يطلع عليها إلا الله. والإنسان أعلم من غيره بما في نفسه فهو على نفسه بصيرة، ثم إن الإيمان كما يقال: تصديق بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان، فهو لم يصدق بالجنان (فلا صدق) وكذب باللسان، كما قال تعالى: (ولكن كذب) فأظهر التكذيب (وتولى) ولم يعمل بالأركان فانتفت عنه حقيقة الإيمان.
7ـ وارتبط عدم الصلاة والتولي بإلقاء المعاذير، فإنه سيسأل عن ذلك، فيحاول أن يدفع عن نفسه بالمعاذير.
8ـ وارتبط قوله: (فلا صدق) وقوله: (ولكن كذل) بقوله: (أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه) فإنه لم يؤمن، والإيمان باليوم الآخر من أهم أركان الإيمان.
9ـ وارتبطت هاتان الآيتان أعني قوله: (فلا صدق ولا صلى ولكن كذل وتولى) بقوله: (كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة) فهو قد أحب العاجلة، فكذب وتولى وترك الآخرة.
10ـ وارتبطتا بقوله: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة) فإنه لو صدق وصلى لكان من أصحاب الوجوه الناضرة، ولكن كذب وتولى فأصبح من أصحاب الوجوه الباسرة.
قوله:
(ثم ذهب إلى أهله يتمطى)
يتمطى، يتبختر وأصله من المطا، وهو الظهر، أي: يلوي مطاه تبختراً، وقيل أصله يتمطط، أي: يتمدد في مشيته ومد منكبيه قلبت الطاء فيه حرف على كراهة اجتماع الأمثال[30] مثل تظنى من تظن.
وهذه الآية مرتبطة بقوله تعالى: (تظن أن يفعل بها فاقرة)
والفاقرة هي الداهية التي تقصم فقار الظهر. فهذا الذي يتبختر في مشيته ويلوي ظهره، سيقصم فقار ظهره، فلا يستطيع حراكاً. وهو جزاء من جنس العمل، أفلم يكن يلوي ظهره ويتبختر، فسيحطم هذا الظهر الذي طالما لواه وتبختر به.
وهذا أنسب عقاب له، ولو قال بدل ذلك مثلاً: ستصيبه داهية أو تحل به كارثة أو قارعة لم تجده يحسن هذا الحسن، ولا يرتبط به مثل هذا الارتباط، فإن ذلك لا يجانس تمطيه.
وهي مرتبطة أيضاً بقوله تعالى: (إلى ربك يومئذ المساق) فهو كان يذهب إلى أهله وينقلب إليهم متى شاء، أما الآن فإنه يساق سوقاً إلى ربه وسيده على الرغم من أنفه.
ثم انظر كيف قدم الجار والمجرور في السوق فقال: (إلى ربك يومئذ المساق) لأنه ليس له اختيار، وإنما هو مذهوب به إلى جهة واحدة. أما في الدنيا فهو ينقلب إلى أهله وإلى عمله، وإلى اصدقائه وإلى من شاء ليس ثمة حصر، ولذا لم يقدم الجار والمجرور في الدنيا، فقد كانت له عليها الحرية، أما الآن فهو مسوق سوق العبد إلى مولاه وربه وسيده.
ثم انظر كيف أنه لم يذكر (يومئذ) في الدنيا بخلاف يوم موته وسوقه فإنه كان في الدنيا يذهب كل يوم وليس في يوم معين، أما سوقه إلى ربه فذلك في يوم معين وهو يوم الفراق فلم يحتج إلى ذكر اليوم في الدنيا بخلاف يوم المساق.
فانظر كيف تقابل التعبيران والمشهدان
قوله:
(أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى)
(أولى لك) عبارة تقال على جهة الزجر والتوعد والتهديد تقول لمن تتوعده وتتهدده، (أولى لك يا فلان) أي: ويل لك، واشتقاقها من (الولي) وهو القرب، فهو اسم تفضيل يفيد قرب وقوع الهلاك.
جاء في (الكشاف): (فأولى لهم) "وعيد بمعنى: فويل لهم، وهو أفعل من الولي وهو القرب ومعناه: الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه"[31].
وجاء في (روح المعاني): (أولى لك فأولى) "من الولي بمعنى القرب، فهو للتفضيل في الأصل غلب في قرب الهلاك ودعاء السوء، كأنه قيل: هلاكاً أولى لك بمعنى: أهلكك الله تعالى هلاكاً أقرب لك من كل شر وهلاك… وفي الصحاح عن الأصمعي، قاربه ما يهلكه: أي نزل به… وقيل: اسم فعل مبني ومعناه: وليك شر بعد شر"[32].
واختيار هذا الدعاء أنسب شيء ههنا، فهو دعاء عليهم وتهديد لهم بالويل القريب والشر الوشيك العاجل، فهو مناسب لإيثارهم العاجلة وتقديمهم الفجور والشهوات وتأخيرهم الطاعات، فكما عجلوا في فجورهم وشهواتهم ومعاصيهم عجل لهم الويل والثبور. وهو مناسب لجو العجلة في السورة الذي ذكرنا قسماً من مظاهره.
لقد ورد هذا الدعاء في سورة محمد فقال: (فأولى لهم) غير أننا نلاحظ الفروق التعبيرية الآتية بينهما:
1ـ إنه كرر الدعاء في سورة القيامة في الآية الواحدة فقال: (أولى لك فأولى) ولم يكرره في سورة محمد بل قال: (فأولى لهم).
2ـ ثم إنه عاد فكرر الآية: (أولى لك فأولى) كلها في سورة القيامة، فكان تكراران: تكرار جزئي في الآية ، وتكرار كلي للآية.
3ـ في آية (أولى لك فأولى) كرر لفظ (أولى) فقط ولم يكرر (لك).
4ـ فصل بين الدعائين في الآية الواحدة بالفاء.
5ـ فصل بين الآيتين بـ (ثم).
وبالتأمل في السياقين نجد السبب واضحاً.

يتبـــــــــــــــع
  #778  
قديم 09-08-2008, 08:42 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبـــع موضوع .... لمسات بيانية من سورة القيامة


قال تعالى في سورة محمد: (ويقول الذين أمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم).
وقال في سورة القيامة: (فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى).
وكل سياق يقتضي ما ذكر فيه من جهات متعددة منها.
إن المذكور في آية القيامة أشد كفراً وضلالاً من المذكورين في آية محمد، ذلك أنه قال في آية محمد: (رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت) وهؤلاء من ضعفة الدين.
جاء في (الكشاف): "(الذين في قلوبهم مرض) هم الذين كانوا على حرف غير ثابتي الأقدام"[33].
وجاء في (روح المعاني): "(رأيت الذين في قلوبهم مرض) أي: نفاق. وقيل: ضعف في الدين"[34].
في حين قال في سورة القيامة: (فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى) وربما أظهر الأول التصديق والصلاة في حين أن الثاني أظهر التكذيب والتولي، ثم ذهب إلى أهله متبختراً بذاك فهو إذن أولى بالوعيد الشديد.
2ـ إن المذكورين في سورة محمد أخبر عنهم وهم أحياء، والأحياء ترجى لهم التوبة، وباب التوبة مفتوح، أما المذكور في سورة القيامة فأخبر عنه بعد الموت وقد مات على التكذيب والتولي وتحقق عليه الوعيد الشديد.
3ـ ذكر في آية سورة محمد صفة واحدة، وهي الجبن عن القتال، فهددهم مرة واحدة في حين ذكر أكثر من صفة من صفات الكفر في سورة القيامة فكرر تهديده.
4ـ ذكر صفتين للمذكور في سورة القيامة وهما: عدم التصديق وعدم الصلاة: (فلا صدق ولا صلى) ولكل منهما ذكر تهديداً:
فلا صدق ……… أولى لك
ولا صلى……… فأولى
ثم كرر هاتين الصفتين وأكدهما بمعناهما، فقال: (ولكن كذب) وهي بمعنى (فلا صدق) ثم قال: (وتولى) وهي إثبات لعدم الصلاة وغيرها من الطاعات. فالآية الثانية تكرير وتوكيد لما نفاه عنه في الآية الأولى. ولذا كرر التهديد وأعاده، لأنه أعاد الصفتين كلتيهما بمعناها فقال: (ثم أولى لك فأولى).
وعلى هذا فهو ذكر عدم التصديق وأكده بالتكذيب، وذكر عدم الصلاة وأكده بالتولي، ولكن تهديد ووعيد فكرره أربع مرات كل وعيد مقابل صفة.
5ـ لقد ذكر صفتين كما أسلفنا في سورة القيامة، وهاتان الصفتان ليستا بدرجة واحدة من الضلال بل إحداهما أشد من الأخرى.
فالأولى: هي التكذيب أو عدم التصديق.
والأخرى: التولي ومنه عدم الصلاة.
وعدم التصديق أو التكذيب هو إنكار لإيمان من أساسه، فهو لم يصدق بالرسالة ولا ببقية أركان الإيمان.
والثانية: عدم الصلاة. جاء في (فتح القدير): "(فلا صدق ولا صلى) أي: لم يصدق بالرسالة ولا بالقرآن ولا صلى لربه… وقيل: فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه"[35].
ولا شك أن عدم التصديق، هو أكبر جرماً وضلالاً لأن صاحبه لم يؤمن أصلاً. أما عدم الصلاة فهو أخف. ذلك أن المؤمن إذا قصر في الطاعات تكاسلاً فقد يغفر الله له أو يتجاوز عنه، لأنه لا يزال في دائرة الإسلام. وقد قال أكثر الفقهاء أن المسلم إذا ترك الصلاة تهاوناً وتكاسلاً غير جاحد لفرضيتها لا يخرجه ذلك عن الإسلام.
أما إذا لم يؤمن ولم يصدق فلا ينفعه شيء، وإن فعل ما فعل من مظاهر الطاعة. ولذا كانت قوة التهديد بمقابل قوة الوصف. فقال مقابل (فلا صدق) (أولى لك) فذكر (لك) ومقابل (ولا صلى) (فأولى) بحذف (لك ) إشارة إلى عظم الإيمان وأهميته، وإشارة إلى أن الصفتين المذكورتين ليستا بدرجة واحدة في الضلال.
فهذا الحذف ليس للفاصلة فقط، وإن كانت الفاصلة تقتضيه أيضاً، وإنما هو للمعنى وللفاصلة.
6ـ إن الصفتين لم يكررهما بلفظهما بل بمعناهما ومقتضاهما، وهما في لفظ الإعادة والتوكيد أشد سوءاً ونكراً مما ذكرهما أولاً.
فإنه قال أولاًفلا صدق) وقال في التأكيد والإعادة: (ولكن كذب) والتكذيب إنما يكون بالإعلان والإشهار أما عدم التصديق فلا يستلزم الإعلان، وقد تقول: (هو لا يصدق غير أنه لا يعلن تكذيبه) فربما لا يصدق إنسان بأمر غير أنه لا يكذب به.
فالتكذيب إذن أشد سوراً أو ضلالاً من عدم التصديق.
وكذا قوله: (ولا صلى) فقد كرره وأكده بقوله: (وتولى) والتولي أعم من عدم الصلاة وأشد.
وعلى هذا فآية التوكيد أشد من الآية المؤكدة.
وقد فرق بين الآيتين بـ (ثم) وذلك لجملة أسباب:
منها أن (ثم) قد تفيد عموم البعد والتباين وليس المقصود بها التراخي في الزمن فقط، ومن ذلك قولهم: (أعجبني ما صنعته اليوم، ثم ما صنعته أمس أعجب) [36].
ونحو ذلك قوله تعالى: (فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذات متربة ثم كان من الذين أمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) [البلد].
دخلت (ثم) لبيان تفاوت رتبة الفلك والإطعام من رتبة الإيمان[37].
فما بعد (ثم) أبعد في الرتبة مما قبلها، وكذلك ههنا فإن التهديد الثاني أقوى من الأول.
وقيل: إن التكرار عهنا مبالغة في التهديد والوعيد[38].
ومنها: أنه جاء بـ (ثم) لتوكيد الكلام، إذ أن جملة التوكيد قد يفصل بينها وبين المؤكدة بحرف العطف، تقول: والله ثم والله. وفي (روح المعاني): "إنها كررت للتأكيد"[39].
وربما جاء بـ (ثم) للتراخي الزمني أيضاً، إذ هناك عذاب في القبر وعذاب في الآخرة، وبينهما مدة مديدة كما قال تعالى في آل فرعون: (النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب) [غافر].
فهم يعرضون على النار غدواً وعشياً في القبر، ويوم تقوم الساعة لهم عذاب أشد.
وعلى هذا يكون التهديد الأول في القبر والثاني في الآخرة، وجاء بهما بـ (ثم) الدالة على المهلة والتراخي، والدالة على بعد ما بين تهديدين والعذابين في الشدة.
ونحوه ما قيل في قوله: (كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون) [التكاثر] فقد قيل: أن العلم الأول عند المعاينة ونزول الموت والعلم الثاني في القبر.
جاء في التفسير القيم وقوله: "(كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون) قيل تأكيد لحصول العلم كقوله: (كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون) [النبأ] وقيل: ليس تأكيداً بل العلم الأول عند المعاينة ونزول الموت، والعلم الثاني في القبر، وهذا قول الحسن ومقاتل. ورواه عطاء عن ابن عباس.
ويدل على صحة هذا القول عدة أوجه:
أحدها: أن الفائدة الجديدة والتأسيس هو الأصل، وقد أمكن اعتباره مع فخامة المعنى وجلالته، وعدم الإخلال بالفصاحة.
الثاني: لتوسط (ثم) بين العلمين، وهي مؤذنة ما بين المرتبتين زماناً وخطراً"[40].
وجاء في (فتح القدير) في قوله: (أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى) "قيل: ومعنى التكرير لهذا اللفظ أربع مرات: الويل لك حياً والويل لك ميتاً، والويل لك يوم البعث، والويل لك يوم تدخل النار"[41].
7ـ لذا جاء بالفاء بين الأوليين لقربهما وتعجيلهما فقال: (أولى لك فأولى) فإن ما بين العذابين قريب، وهو عذاب الدنيا وعذاب القبر.
وكذلك جاء ما بين العذابين الآخرين بالفاء، لقربهما وتعجيلهما فقال: (أولى لك فأولى) فإن ما بين العذابين قريب، وهو عذاب الدنيا وعذاب القبر.
وكذلك جاء ما بين العذابين الآخرين بالفاء، لقربهما من بعضهما وهو (أولى لك فأولى) الثانية فإنهما متصلان بيوم القيامة ودخول النار. فكل عذابين قريبين من بعضهما فصل بينهما بالفاء. وقد فصل بـ (ثم) للفاصل الزمني البعيد بين كل منهما.
هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، أنه جيء بالفاء الدالة على التعقيب بلا مهلة لمناسبة العجلة التي بنيت عليها السورة في قوله: (كلا بل تحبون العاجلة) وقوله (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) وغير ذلك من السياقات التي تدل على العجلة.
ثم قال بعد ذلك:
(أيحسب الإنسان أن يترك سدى)
هذه الآية مرتبطة بأول السورة، وهو القسم بيوم القيامة، ومرتبطة بقوله تعالى: (أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه) ومرتبطة بقوله: (ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر) ذلك أنه مجزي عن عمله ولا يترك سدى، بل سيعاقب على فعله، ومرتبطة بالآية قبلها وهي (أولى لك فأولى) ذلك أن معناها: أنه لا يترك سدة بل سيعاقب على فعله، ومرتبطة بما بعدها وبآخر السورة، وهو قوله: (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى)
وغنية هذه الوثاقة في الارتباط عن كل قول.
قوله: (ألم يك نطفة من منى يمنى)
حذف نون (يكن) لسببين ولله أعلم:
الأول: مراعاة لجانب العجلة الذي طبعت به السورة، وتكررت مظاهره في أكثر من موطن، فحذف نون (يكن) للفراغ من الفعل بسرعة وهو الملائم لجو العجلة في السورة.
الثاني: أن الإنسان لا يكون إنساناً من المني وحده حتى يراق في الرحم، ويلتقي بالبويضة، فبالمني والبويضة يكتمل الخلق وبهما يتم الإنسان، أما المني وحده، فلا يكون منه إنسان وكذاك البويضة وحدها. فنقص من فعل الكون إشارة إلى أن التطوير المذكور في الآيات هذه لا يكون إلا بهما معاً، أما المني فهو جزء من السبب. ولم يتم الفعل إشارة إلى ذلك.
ومعنى (يمنى): يراق في الرحم، فإن لم يمن فلا تكوين، وهذا من مواطن الحذف لبديعة.
ثم قال:
(ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى)
الملاحظ أنه لم يذكر فاعل الخلق ولا التسوية ولا الجعل ولم يجر له ذكراً فقد قال: (فخلق فسوى فجعل) وقد كان بنى الفعل قبلها للمجهول، فلم يذكر فاعله أيضاً، وهو قوله: (أيحسب الإنسان أن يترك سدى) فلم يذكر فاعل الترك، وعدم ذكر فاعل الخلق وما بعده مناسب لحذف فاعل الترك. وكل ذلك مناسب لجو العجلة في السورة.
والهاء في (منه) تعود على المني، فمن ماء الرجل يكون الذكر والأنثى، وليس للأنثى فيه دخل، ولم يكن هذا الأمر معلوماً حتى العصر الحديث، فقد ثبت أن الذكر هو المسؤول عن الجنس وليس الأنثى. وقد ذكره القرآن الكريم قبل اكتشاف قوانين الوراثة وعلم الأجنة فقال: (ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل (منه) الزوجين الذكر والأنثى).
فأعاد الضمير على المني، ولو أعاده على العلقة لقال: (منها) ولم يعده على النطفة مع أنها هي القطرة من المني، لئلا يحتمل إعادته على العلقة وهذا إعجاز علمي علاوة على الإعجاز الفني.
ثم قال بعد ذلك:
(أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى)
اسم (ليس) مكني غير مصرح به وهو اسم الإشارة (ذلك) وقد أشار به إلى ذات غير مذكورة في الكلام، فناسب ذلك عدم التصريح بالفاعل فيما تقدم من الأفعال.
وناسب آخر السورة أولها، فقد أقسم في مفتتح السورة بيوم القيامة، وختمها بإحياء الموتى.
وقد تقول: ولم قال هنا: (أليس ذلك بقادر) على سبيل التقرير، وقال في أوائل السورة: (بلى قادرين) على سبيل الإثبات؟
والجواب أن إحياء الموتى أصعب وأعسر من تسوية البنان في القياس العقلي، وإن كانت الأفعال بالنسبة إلى الله كلها سواء، فجاء في آية إحياء الموتى بأسلوب التقرير الاستفهامي الدال على الأهمية وأكد القدرة بالباء الزائدة فقال: (أليس ذلك بقادر) في حين جاء بالإثبات في تسوية البنان، يقال: (بلى قادرين) ثم إنه حذف الفعل وصاحب الحال، وجاء بالحال أحدها، فقال: (قادرين) ولم يقل: (نجمعها قادرين) فأخلاها من كل توكيد في حين ذكر الجملة تامة، مؤكدة في إحياء الموتى فدل ذلك على الفرق بين المقامين.
وفي ختام هذه اللمسات، نقول: إن هناك أكثر من خط فني في هذه السورة.
منها: خط مراعاة العجلة، ومنها: مراعاة جانب القيامة، ومراعاة الازدواج في التعبير وغيرها من الخطوط.
أما مراعاة جانب القيامة وجانب النفس اللوامة، فالسورة مبنية عليهما أصلاً كما بينا. وسنشير إلى جانبين آخرين هما: مراعاة جانب العجلة، ومراعاة الازدواج في التعبير. أما بقية الجوانب، فهي ظاهرة لا تحتاج إلى إيضاح.
فمن مراعاة جانب العجلة:
1ـ حذف جواب القسم الذي افتتحت به السورة وهو (لا أقسم).
2ـ حذف عامل الحال وهي (قادرين).
3ـ عدم ذكر مرجع الضمير في قوله: (لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرآنه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه) فالهاء لا تعود على مذكور.
4ـ عدم ذكر فاعل الفعل (بلغت) في قوله: (كلا إذا بلغت التراقي) ولم يجر له ذكر.
5ـ عدم ذكر فاعل الظن في قوله: (وظن أنه الفراق) ولم يجر له ذكر.
6ـ عدم ذكر فاعل (فلا صدق ولا صلى).
7ـ حذف نون (يكون) في قوله: (ألم يك).
ومن السياقات الواردة في العجلة:
1ـ قوله: (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) والمعنى: أنه يؤثر العاجلة، فيقدم شهواته.
2ـ قوله: (لا تحرك به لسانك لتعجل به).
3ـ قوله: (كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة).
أما ظاهرة الازدواج أو الاقتران بين الأمرين المتناظرين أو المتقابلين، فإن السورة مبنية كما يبدو على هذا الازدواج والاقتران.
فالسورة تبدأ بالقسم بشيئين هما: يوم القيامة، والنفس اللوامة، ثم تستمر السورة على هذا النحو من الاقتران والازدواج، فمن ذلك مثلاً:
1ـ أنها أقسمت بشيئين هما يوم القيامة والنفس اللوامة.
2ـ وجمعت بين آيتين من آيات الله الكونية: آية الليل وآية النهار، وهما الشمس والقمر وذلك في قوله: (وجمع الشمس والقمر).
3ـ وذكرت نوعين من العمل ينبأ بهما الإنسان، وهما ما قدم وما أخر (ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وآخر).
4ـ وذكرت ما خفي في النفس وما يظهره الإنسان من الحجج والمعاذير وذلك في قوله: (بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره).
5ـ وذكرت العاجلة والآخرة وذلك في قوله تعالى: (كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة).
6ـ وذكرت الحب والترك وذلك في قوله: (تحبون) و(تذرون).
7ـ وذكرت نوعين من الوجوه: الوجوه الناضرة، والوجوه الباسرة.
8ـ ونفت اثنتين من الطاعات في قوله: (فلا صدق ولا صلى).
9ـ وأثبتت اثنتين من المعاصي وذلك في قوله: (ولكن كذب وتولى).
10ـ وكررت آية واحدة مرتين وهي قوله: (أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى).
11ـ وذكرت نعمتين من نعم أهل الجنة: نضرة الوجوه والنظر إلى الرب (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة).
12ـ وذكرت عقوبتين من عقوبات أهل النار، بسور الوجه وقاصمة الظهر: (ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة).
13ـ وذكرت نوعين من الجمع، جمعاً في يوم القيامة وجمعاً في الدنيا. أما الجمع في يوم القيامة فهو قوله: (ألن نجمع عظامه) وقوله: (وجمع الشمس والقمر).
وأما جمع الدنيا فهو جمع القرآن، وهو قوله: (إن علينا جمعه وقرآنه).
14ـ وذكرت نوعين من القدرة:
القدرة على تسوية البنان وهو قوله: (بلى قادرين على أن نسوي بنانه) والقدرة على إحياء الموتى، وهو قوله: (أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى).
ذكرهما بطريقتين من الإثبات.
الإثبات الصريح: وهو قوله: (بلى قادرين).
والإثبات على طريق التقرير (أليس ذلك بقادر).
وإحداهما بحرف الجواب هو: (بلى)، والأخرى بحرف السؤال وهو الهمزة: (أليس ذلك).
15ـ وذكر نوعين من التسوية:
تسوية جزئية مقيدة وهي تسوية البنان وهو قوله: (نسوي بنانه).
وتسوية عامة مطلقة وهو قوله: (فخلق فسوى).
16ـ وذكر طورين من أطوار خلق الإنسان، وهما النطفة والعلقة.
17ـ وذكر الجنسين وهما الذكر الأنثى: (فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى).
18ـ وذكر طريقتين من التعبير عن الله.
التعبير بالجمع (بلى قادرين) و(نجمع) و(نسوي).
والتعبير بالإفراد وذلك نحو قوله: (فخلق فسوى).
إلى غير ذلك من مظاهر الازدواج.
[1] البحر المحيط 8/384 وانظر روح المعاني 29/135 [2] الإتقان 2/110 [3] التفسير الكبير 30/215 [4] معاني النحو 4/552 [5] أساليب القسم في اللغة العربية 150-151 [6] التفسير الكبير 30/216 [7] التبيان في أقسام القرآن 15 [8] الكشاف 3/292، البحر المحيط 8/384، روح المعاني 29/137.
[9] انظر البحر المحيط 8/385. [10] الكشاف 3/293 وانظر تفسير ابن كثير 4/448.[11] البحر المحيط 8/385.[12] الكشاف 3/293.[13] لسان العرب برق. [14] لسان العرب ريب. [15] الكشاف 3/293[16] لبحر المحيط 8/387[17] الكشاف 3/293.[18] البحر المحيط 8/387.[19] التفسير الكبير 30/224.
[20] البحر المحيط 8/387.[21] البحر المحيط 8/387.[22] البحر المحيط 8/387.[23] انظر لسان العرب وذر.[24] انظر لسان العرب ودع. [25] انظر روح المعاني 29/146، التفسير الكبير 30/230.[26] روح المعاني 29/146.[27] الكشاف 3/294.[28] البحر المحيط 8/389.[29] نفس المرجع. [30] البحر المحيط 8/382، الكشاف 3/294.[31] الكشاف 3/131.[32] روح المعاني 29/149.[33] الكشاف 3/131.[34] روح المعاني 26/67.[35] فتح القدير 5/331.[36] المغني 1/118.[37] البرهان 4/226.[38] البحر المحيط 8/390.[39] روح المعاني: 29/149، وانظر فتح القدير 5/332.[40] التفسير القيم 515ـ516.[41] فتح القدير 5/332.
  #779  
قديم 09-08-2008, 08:52 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

لمسات بيانية من سورتي الطور والقلم


بقلم الدكتور فاضل السامرائي
قال تعالى في سورة الطور: (فذكر فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون)
وقال في سورة القلم: (ما أنت بنعمة ربك بمجنون)
فزاد قوله: (بكاهن) على ما في سورة القلم، فما سبب ذاك؟
والجواب: أن هناك أكثر من سبب دعا إلى هذه الزيادة.
1ـ منها أنه فصل في سورة الطور في ذكر اقوال الكفرة في الرسولr ، فقد ذكروا أنه كاهن، وذكروا أنه مجنون، وذكروا أنه شاعر (أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون) وقالوا: إنه كاذب (أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون)
في حين لم يذكر غير قولهم إنه مجنون في سورة القلم(ويقولون إنه لمجنون) فناسب ذكر هذه الزيادة في سورة الطور.
2ـ ومنها أنه ذكر في سورة الطور قوله: (أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين) والاستماع مما تدعيه الكهنة لتابعيهم من الجن، فناسب ذلك ذكر الكهنة فيها.
3ـ ومنها أنه ذكر السحر في سورة الطور فقال: (أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون ) فناسب ذكر السحر ذكر الكهنة.
4ـ ومما حسن ذلك أيضاً أنه توسعة في السقم في أول سورة الطور بخلاف سورة القلم، فقد قال: (والطور وكتاب مسطور في رق منشور والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور).
في حين لم يقسم في سورة القلم إلا بالقلم وما يسطرون فناسب التوسع في الطور هذه الزيادة.
5ـ ذكر في سورة القلم في آخر السورة قول الكفرة، إنه لمجنون ولم يزد على هذا القول فقال: (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون) فرد عليهم في أول السورة بنفي الجنون عنه: (ما أنت بنعمة ربك بمجنون) فناسب آخر السورة أولها.
ثم انظر من ناحية أخرى كيف ناسب التأكيد بالباء الزائدة في النفي (بمجنون) التوكيد باللام في الإثبات (لمجنون) لأن الباء لتوكيد النفي واللام لتوكيد الإثبات. والله أعلم.
  #780  
قديم 09-08-2008, 08:56 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

لمسات بيانية من سورة القمر

الدكتور فاضل السامرائي
قال الله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ {54} فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ) [القمر].
سأل سائل: لم وحد تعالى: (النهر) في هذه الآية ولم يجمعه مع أن الجنات قبله جمع بخلاف المواضع الأخرى من القرآن الكريم، فإنه إذا جمع الجنة، جمع النهر أيضاً فيقول: (جنات تجري من تحتها الأنهار)
والجواب: أنه جمع في لفظ (النهر) عدة معان وأعطى أكثر من فائدة لا يفيدها فيما لو قال: (أنهار) ذلك أنه علاوة على أن فواصل الآيات، تقتضي (النهر) لا (الأنهار) لأن آيات السورة على هذا الوزن فقد جاء قبلها: (وكل شيء فعلوه في الزبر وكل صغير وكبير مستطر) وجاء بعدها: (في مقعد صدق عند مليك مقتدر) فإن المعنى أيضاً ذلك من جهات أخرى منها:
أنة النهر اسم جنس بمعنى الأنهار، وهو بمعنى الجمع[1] والكثرة، ومنه قوله r: "أهلك الناس الدينار والدرهم" والمراد بالدينار والدرهم الجنس لا الواحد.
وجاء في (معاني القرآن): "ونهر معناه أنهار وهو في مذهبه كقوله: (سيهزم الجمع ويولون الدبر) [2] وزعم الكسائي أنه سمع العرب يقولون: أتينا فلاناً فكنا في لحمة ونبيذة فوحد ومعناه الكثير"[3] .
ومنها: أن معاني (النهر) أيضاً السعة[4] والسعة ههنا عامة تشمل سعة المنازل وسعة الرزق والمعيشة، وكل ما يقتضي تمام السعادة السعة فيه. جاء في (البحر المحيط): "ونهر: وسعة في الأرزاق والمنازل"[5] . وجاء في (روح المعاني): "وعن ابن عباس تفسيره بالسعة والمراد بالسعة سعة المنازل على ما هو الظاهر، وقيل: سعة الرزق والمعيشة، وقيل: ما يعمهما"[6].
ومنها: أن من معاني (النهر) أيضاً الضياء[7] .
جاء في (لسان العرب): "وأما قوله ـ عز وجل ـ(إن المتقين في جنات ونهر) فقد يجوز أن يعني به السعة والضياء
، وأن يعني به النهر الذي هو مجرى الماء، على وضع الواحد موضع الجميع... وقيل في قوله: (جنات ونهر) أي: في ضياء وسعة، لأن الجنة ليس فيها ليل، إنما هو نور يتلألأ"[8] .
وجاء في (معاني القرآن) لفراء: "ويقال: (إن المتقين في جنات ونهر) في ضياء وسعة"[9] .
وهذه المعاني كلها مرادة مطلوبة، فإن المتقين في جنات وأنهار كثيرة جارية، وفي سعة من العيش والرزق والسكن وعموم ما يقتضي السعة، وفي ضياء ونور يتلألأ ليس عندهم ليل ولا ظلمة.
فانظر كيف جمعت هذه الكلمة هذه المعاني كلها، إضافة إلى ما تقتضيه موسيقى فواصل الآيات بخلاف ما لو قال (أنهار)، فإنها لا تعني إلا شيئاً واحداً.
ثم انظر كيف أـنهه لما كان المذكورون هم من خواص المؤمنين، وهم المتقون وليسوا عموم المؤمنين أعلى أجرهم ودرجتهم، فقال: (ونهر) ولم يقل: (وأنهار) ولما أعلى أجرهم ودرجتهم وبالغ في إنعامهم وإكرامهم جاء بالصفة والموصوف بما يدل على المبالغة فقال: (عند ملك مقتدر) ولم يقل: (ملك قادر) فإن (مليك) أبلغ من (ملك) و(مقتدر) أبلغ من (قادر) فإن كلمة (مليك) على صيغة (فعيل) وهي أبلغ واثبت من صيغة (فعل) [10].
جاء في (روح المعاني): "عند مليك، أي: ملك عظيم الملك، وهو صيغة مبالغة، وليست الياء من الإشباع"[11] .
ولما جاء بالصيغة الدالة على الثبوت، قال: (في مقعد صدق) "ذلك لأن هذا المقعد ثابت لا يزول، فهو وحده مقعد الصدق، وكل المقاعد الأخرى كاذبة، لأنها تزول إما بزوال الملك صاحبه، وإما بزوال القعيد، وإما بطرده، وهذا المقعد وحده الذي لا يزول، وقد يفيد أيضاً أنه المقعد الذي صدقوا في الخبر به"[12].
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، إن معنى الصدق ههنا يفيد معنى الخير أيضاً والجودة والصلاح[13] فجمعت كلمة (الصدق) ههنا معنيي الخير والصدق معاً، كما جمع (النهر) أكثر من معنى ثم انظر كيف أنهم لما صدقوا في إيمانهم وعملهم، كان لهم مقعد الصدق.
و(المقتدر) أبلغ أيضاً من (القادر) ذلك أن (المقتدر) اسم فاعل من (اقتدر) وهذا أبلغ من (قدر) فإن صيغة (افتعل) قد تفيد المبالغة والتصرف والاجتهاد والطلب في تحصيل الفعل بخلاف فعل[14] ومنه اكتسب واصطبر واجتهد قال تعالى: (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) [البقرة].
جاء في (الكشاف) في هذه الآية: "فإن قلت: لم خص الخير بالكسب والشر بالاكتساب؟
قلت: في الاكتساب اعتمال، فلما كان الشر مما تشتهيه النفس، وهي منجذبة إليه وأمارة به كانت في تحصيله أعمل وأجد، فجعلت لذلك مكتسبة فيه، ولما لم تكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال"[15].
وجاء في (البحر المحيط): "والذي يظهر لي أن الحسنات، هي مما تكتسب دون تكلف والسيئات ببناء المبالغة"[16] .
وقال سيبويه: "كسب: أصاب، واكتسب: تتصرف واجتهد"[17] .
فجاء ههنا، أي: في قوله: (مقتدر) بالصيغة الدالة على القدرة البالغة مع الملك الواسع الثابت.
فانظر كيف بالغ وأعظم في الأجر، وبالغ وأعظم في الملك، وبالغ وأعظم في القدرة لمن بالغ وجد في عمله وصدق فيه وهم المتقون.
ونريد أن نشير إلى أمر، وهو إطلاق وصف (المبالغة) على صفات الله نحو علام، وعليم، وغفور، وما إلى ذلك فقد توهم بعضهم أنه ينبغي أن لا يطلق على صفات الله وصف المبالغة، لأنها صفات الله وصف المبالغة، لأنها صفات حقيقية وليست مبالغاً فيها. وقد اعترض علي معترض ذات مرة بنحو هذا. مع أنهه من الواضح أن ليس المقصود كما ظن الظان أو توهم فالمقصود أن هذا البناء يفيد كثرة وقوع الفعل، وليس المقصود أن الأمر مبالغ فيه. فـ (عليم) أبلغ من (عالم) و(صبور) أبلغ من (صابر) ذلك أن الموصوف بعليم معناه أنه موصوف بكثرة العلم، وليس المقصود أن صاحبه وصف بهذا الوصف وهو لا يستحق أن يوصف به فكان الوصف به مبالغة.
ولا نريد أنم نطيل في كشف هذه الشبهة، فإنها فيما أحسب لا تستحق أكثر من هذا.

[1] الكشاف 3/186، والبحر المحيط 8/184، روح المعاني 27/958 [2] سورة القمر 45[3] معاني القرآن 3/111
[4] لسان العرب (نهر 7/96، القاموس المحيط (نهر 2/150، تاج العروس 3/591، الكشاف 3/186[5] البحر المحيط 8/184 [6] روح المعاني 27/95 [7] لسان العرب (نهر 7/96، تاج العروس (نهر 3/591، الكشاف 3/186
[8] لسان العرب 7/96[9] معاني القرآن 3/111 وانظر الكشاف 3/186 [10] انظر كتاب (معاني الأبنية بابي صيغ المبالغة والصفة المشبهة. [11] روح المعاني 27/96 [12] البحر المحيط 8/184 [13] البحر المحيط 8/184
[14] انظر كتاب سيبويه 2/241 شرح الشافيه للرضي 1/110، البحر المحيط 2/366 [15] الكشاف 1/308
[16] البحر المحيط 2/366 [17] كتاب سيبويه 2/241، وانظر لسان العرب(كسب 2/211
موضوع مغلق


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 77 ( الأعضاء 0 والزوار 77)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 265.29 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 259.43 كيلو بايت... تم توفير 5.87 كيلو بايت...بمعدل (2.21%)]