عمل أهل المدينة (حقيقته وأثره في اختلاف الفقهاء) - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         معارج البيان القرآني ـــــــــــــ متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 7818 )           »          انشودة يا أهل غزة كبروا لفريق الوعد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 45 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4421 - عددالزوار : 859341 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3953 - عددالزوار : 393664 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12535 - عددالزوار : 215883 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 75 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 57 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 58 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 59 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 56 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 14-04-2019, 10:37 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,062
الدولة : Egypt
افتراضي عمل أهل المدينة (حقيقته وأثره في اختلاف الفقهاء)

عمل أهل المدينة (حقيقته وأثره في اختلاف الفقهاء)



*رجاء بنت صالح باسودان باحثة سعودية.


المقدمة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله الأمين ، خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وارحم اللهم أئمتنا الذين خاضوا ميادين الاجتهاد ، فصالوا وجالوا فيها مستنيرين بكتاب الله وسنة رسوله يستنبطون منهما ، فاتفقوا على أشياء واختلفوا في أخرى .

ومن جملة ما اختلف فيه الفقهاء : العمل بعمل أهل المدينة وإجماعهم ، والذي يعتبر من الأصول التي اعتمد عليها الإمام مالك رحمه الله في بناء مذهبه .

وهذا الأصل المختلف فيه له تأثير في الفروع الفقهية ، وبعض الأحكام التي نشأ فيها الخلاف نتيجة للعمل بهذا الأصل .

ورغم احتجاج الإمام مالك بهذا الأصل ، غير أن مدلوله والمقصود منه ليس واضحاً وفيه بعض الغموض ، مما أدى إلى أن يكثر الجدل حول معناه . فمن مشنّع على الإمام مالك بسبب تقديمه عمل أهل المدينة على خبر الواحد ، ومن مغالٍ يرى بلوغ هذا العمل لمرتبة الإجماع المتفق عليه . فاختلف علماء المذهب وغيرهم في مقصود الإمام ، ومدلول هذا العمل وتباينت آراؤهم في حجيته .

ولأهمية ما ذكر سابقاً ، اخترت البحث فيه : " عمل أهل المدينة ، حقيقته ، وأثره في اختلاف الفقهاء " .

وقد سرت في منهجي لهذا البحث بعد التعريف لمعنى الإجماع وأنواعه ، بعرض رأي الإمام مالك في عمل أهل المدينة ، ثم عرض لأقوال بعض العلماء المالكيين فيه. وأتبعت هذه الآراء بأقوال لبعض الفقهاء والأصوليين من خارج المذهب المالكي . ونتيجة لعرض هذه الآراء ، كان لا بد من تحرير محل الخلاف بينهم . وعرض لبعض المسائل التي اختلف فيها الإمام مالك عن باقي الأئمة ، وذلك بسبب أخذه بعمل أهل المدينة .

وقد استفدت من المصادر الأصيلة لبعض أمهات الكتب ، بالإضافة إلى بعض المصادر الحديثة . وقمت بتقسيم البحث إلى تمهيد ومقدمة وفصلين وخاتمة ، كالتالي :

- التمهيد : وذكرت فيه نبذة مختصرة عن الإمام مالك . ثم المقدمة .

- الفصل الأول : وفيه مبحثان :

- المبحث الأول : تعريف الإجماع لغة واصطلاحاً .

- المبحث الثاني : أنواع الإجماع .

- الفصل الثاني : وفيه أربعة مباحث :

- المبحث الأول : عمل أهل المدينة عند الإمام مالك وبعض المالكيين .

- المبحث الثاني : رأي بعض الفقهاء والأصوليين في عمل أهل المدينة .

- المبحث الثالث : تحرير محل الخلاف .

- المبحث الرابع : أثر الاختلاف في عمل أهل المدينة في بعض المسائل .

- الخاتمة : وفيها أهم ما توصل إليه البحث من نتائج .

آمل أن أكون قد وفقت في إعداد هذا البحث ، والحمد لله من قبل ومن بعد .

تمهيد

نبذة عن إمام دار الهجرة "مالك"

مولده و نسبه :

هو مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي ، وبني أصبح من قحطان من اليمن . ولد الإمام مالك في المدينة عام 93هـ على الصحيح ، وقيل غير ذلك . وتوفي سنة 179هـ بالمدينة أيضاً . ويقال أن الإمام مالك لم يخرج من المدينة إلا بالحج ، وتوفي بمرض سلس البول [1].

نشأته وشيوخه :

نشأ في بيئة إسلامية علمية ، فقد كان عمه سهيل وأخوه النضر من العلماء والأجلاء ، فلا غرو أن ينصرف إلى العلم والدراسة فحفظ القرآن وهو صغير ، واتجه بعد حفظه إلى حفظ الحديث . وأحب أن يذهب إلى مجالس العلم فشجعته أسرته وخاصة أمه التي ألبسته أحسن الثياب وعممته وقالت له : " اذهب إلى ربيعة الرأي فتعلم علمه قبل أدبه " . وبهذا يكون مالك أخذ الفقه بالرأي وهو صغير ثم لازم شيخه عبدالرحمن بن هرمز ، فأخذ عنه علم اختلاف الناس وعلم الكلام والرد على الأهواء ، ولازمه أكثر من ثلاثة عشر سنة . كذلك أخذ العلم عن نافع مولى ابن عمر ، وأبو الزناد ، ويحي بن سعيد الأنصاري . وأخذ علم الأثر عن الإمام الفقيه محمد بن شهاب الزهري ، فكان يلازمه ويسأله عن علم التابعين . ثم تحول إلى علم الفقه ، ويذكر في سبب انصرافه إلى ذلك ، هو أن أباه سأله عن حكم مسألة فم يجب وأجاب أخوه ، فانصرف إلى الفقه [2].

فتياه :

بعد أن أخذ العلم من أهله وعلمائه وبعد أن شهد له سبعون من علماء المدينة بالفتيا ، بعد ذلك جلس للفتيا ، وجعل له جلسة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، يعلم فيها الحديث والفقه ، ولم يدرس علم العقائد والرد على أهل الأهواء لأنه يقول " ليس كل ما يعلم يقال " . وانتشرت سمعته في الآفاق فقصده الناس من كل مكان .

وبعد أن كبر ومرض انصرف عن المسجد وأخذ يدرس في منزله ، ولما اشتد عليه المرض ترك صلاة الجماعة وصلاة الجنائز ، ولم يبح بمرضه إلا عند وفاته ، حيث قال : كان بي سلس البول فلا أحب أن آتي مسجد رسول الله وأنا لست على طهارة ، وكان إذا جاءه جماعة يسألونه ، قال لهم : أتريدون الفقه أم الحديث : فإن أرادوا الفقه كان كما هو لا يغير من حاله شيئاً ، وإن أرادوا الحديث خرج ثم اغتسل وتطيب وتعمم وجاءهم احتراماً لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم [3].

كتبه :

له كتب كثيرة بعضها اشتتهر وبعضها لم يشتهر .من الكتب التي لم تشتهر:" الأقضية " و"رسالة في القدر" و" كتاب النجوم ". وما اشتهر منها هو :" الموطأ " و " المدونة " في الفقه . وسبب تأليف الموطأ ، قيل : أن أبا جعفر قال لمالك : ضع للناس كتاباً أحملهم عليه ، ويروون أنه قال له : " يا أبا عبد الله ضم هذا العمل ، ودونه كتباً ، وتجنب فيها شدائد عبد الله بن عمر ، ورخص ابن عباس ، وشواذ ابن مسعود ، واقصد أواسط الأمور ، وما اجتمع عليه الصحابة " .

وقيل أن سبب التسمية : أن العلماء وطؤوه ، أي : وافقوه ، وقيل : أنه وطأ في هذا الكتاب أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، وجمع فيه الأحاديث الفقهية ورتبها على أبواب الفقه ، ثم تبعها بأقوال الصحابة ثم أقوال التابعين ، ثم عمل أهل المدينة ، ثم يجتهد رأيه . ولقد سبق الإمام مالك في تأليف الموطأ عبد العزيز الماجشون وخصه بعمل أهل المدينة . ولقد استمر مالك في تأليف الموطأ أربعين سنة ، وأراد الخليفتان الرشيد والمهدي أن يفرضاه على الأمة الإسلامية كما جمع عثمان بن عفان الناس على مصحف واحد ولكنه مانع وذكر بأن ذلك ليس في مصلحة المسلمين [4].

تلاميذه :

يبلغ عدد تلاميذه من جميع بلاد المسلمين ، من خراسان ، ومن العراق ، ومن الشام ، ومن المدينة ، ومصر ، وشمال أفريقيا ، وبلاد المغرب ، ألف وثلاثمائة شخص . من أشهرهم : عبد الله بن وهب الذي لازم الإمام مالك نحو عشرين سنة ، وتوفي في سنة 197 هـ . وعبد الرحمن بن القاسم الذي يعتبر بمنزلة محمد بن الحسن الشيباني في مذهب الحنفية ، وتوفي في سنة 191 هـ. وأسد بن الفرات الذي كان مالكياً ثم أصبح حنفياً وهو من القيروان وتوفي سنة 213هـ. وأشهب القيسي الذي توفي سنة 204هـ بعد الشافعي بأيام . وعبد الملك بن الماجشون تلميذ الإمام مالك في المدينة والذي قيل أنه كتب موطأ قبل مالك [5]

مصادر فقهه :

الكتاب - السنة – الإجماع – إجماع أهل المدينة – أقوال الصحابة – القياس – المصلحة المرسلة – وقد أخذ بالاستحسان ، والاستصحاب ، وسد الذرائع . والمقصود بعمل أهل المدينة : ما عليه أهل المدينة في زمن الإمام مالك ، ويقدمون عمل أهل المدينة على خبر الآحاد [6]

انتشار مذهبه :

انتشر مذهبه في الحجاز ، وخاصة المدينة في أول أمره ، ولكن مع مرور الأيام أصبح تارة يغلب ، وتارة يخمل . وانتشر في أفريقيا ، وخاصة في المغرب – الجزائر – تونس – الأندلس – وموريتانيا [7]

الفصل الأول

المبحث الأول : تعريف الإجماع

المبحث الثاني : أنواع الإجماع

المبحث الأول : تعريف الإجماع

الإجماع في اللغة يطلق بإطلاقين :

1 - العزم والتصميم على الشيء ، ومنه قوله تعالى : " فأجمعوا أمركم " [8] أي أعزموا عليه .وقول الرسول عليه الصلاة والسلام :" من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له " [9].أي يعزم عليه .

2 - الاتفاق : يقال : أجمع القوم على كذا ، إذا اتفقوا عليه [10].

الإجماع في الاصطلاح :

اختلف العلماء في تعريفه ، فقد عرّفه الغزالي بأنه : " اتفاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر من الأمور الدينية " [11].

وعرّفه الآمدي بأنه :" اتفاق جملة من أهل الحل والعقد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في عصر من الأعصار على حكم واقعة من الوقائع " [12].

وعرّفه الشوكاني :"اتفاق مجتهدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في عصر من الأعصار على أمر من الأمور ".

والمراد بالاتفاق : الإشتراك في قول أو فعل أو اعتقاد .

والتعريف الأخير يخرج اتفاق العوام إذ لا عبرة باتفاقهم ، ويخرج كذلك اتفاق الأمم السابقة . ويشير التعريف إلى أن الاتفاق الواقع في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يسمى إجماعاً [13].

المبحث الثاني : أنواع الإجماع

القسم الأول : بالنظر إلى كيفية حدوثه ووقوعه ( الإجماع العام )

القسم الثاني : بحسب المجمعين

القسم الأول : الإجماع العام

ومنه الإجماع الصريح القولي [14]. وهو حجة عند الجمهور ، ويعتبر المصدر الثالث من مصادر التشريع .

ومن هذا القسم : الإجماع السكوتي : وهو أن يبدي بعض المجتهدين رأيه في حكم شرعي أو مسألة ويسكت الباقون [15].

وقد اشترط القائلون بحجيته ( الحنفية والحنابلة ) شروطاً لا بد من توفرها فيه حتى يحقق معنى الإجماع [16]، بينما ذهب المالكية والشافعية إلى أنه ليس بحجة ولا إجماع [17].

القسم الثاني : بحسب المجمعين

أولاً : إجماع أهل المدينة

بناءً على تعريف الإجماع ، يكون إجماع أهل المدينة هو : إتفاق مجتهدي المدينة في عصر من العصور على أمر من الأمور [18].وهو من الإجماعات المختلف فيها ، والذي يدور حوله هذا البحث .

ثانياً : إجماع أهل البيت

ويسمى أيضاً بإجماع العترة ، وهم : علي بن أبي طالب ، وفاطمة الزهراء ، والحسن والحسين أبناؤهما . ومن جملة ما استدل القائلون بأن إجماعهم حجة ( وهم الزيدية والإمامية ) قوله تعالى : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً } [19]. ويجاب عن هذا الاستدلال : بأنه لا علاقة بين المودة والمحبة لقرابة الرسول صلى الله عليه وسلم وبين الإجماع الذي هو نتيجة للاجتهاد والاستنباط . فجمهور الأمة يرون أن إجماع البيت ليس بحجة والحجة في إجماع الأمة كلها وليس بعضها [20].

ثالثاً : إجماع الخلفاء الراشدين

اختلف في إجماعهم على حكم ، هل يكون حجة أم لا ؟ فذهب الإمام أحمد في رواية إلى أن إجماعهم حجة ، وذهب جمهور الأصوليين ومنهم الإمام أحمد في الرواية الثانية أن إجماع الخلفاء الراشدين ليس بحجة مع مخالفة غيرهم ، أما إذا لم يخالفهم أحد فإن إجماعهم يكون حجة [21].

وهناك إجماع الشيخين ( أبي بكر وعمر ) ، وإجماع أهل الحرمين ( المدينة ومكة ) ، وكذلك إجماع أهل المصرين ( البصرة والكوفة ) وهي ليست بحجة (4).

الفصل الثاني

المبحث الأول : عمل أهل المدينة عند الإمام مالك والمالكيين

المبحث الثاني : رأي بعض الفقهاء والأصوليين في عمل أهل المدينة

المبحث الثالث : تحرير محل الخلاف

المبحث الرابع : أثر الاختلاف في عمل أهل المدينة في بعض المسائل

المبحث الأول :عمل أهل المدينة عند الإمام مالك وبعض المالكيين


يرى الإمام مالك رحمه الله أن عمل أهل المدينة حجة ، ويتضح هذا الاتجاه في رسالته التي أرسلها إلى الليث بن سعد في مصر ، والتي جاء فيها : " اعلم رحمك الله أنه بلغني أنك تفتي الناس بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندنا وببلدنا الذي نحن فيه وأنت في أمانتك وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك وحاجة من قبلك إليك واعتمادهم على ما جاءهم منك ، حقيق بأن تخاف على نفسك وتتبع ما ترجو النجاة باتباعه ، فإن الله تعالى يقول في كتابه : { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار} (التوبة 100) وقال تعالى : { فبشر عباد . الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } . (الزمر 17-18) فإنما الناس تبع لأهل المدينة ، إليها كانت الهجرة وبها نزل القرآن وأحل الحلال وحرم الحرام ، إذ رسول الله بين أظهرهم يحضرون الوحي والتنزيل ويأمرهم فيطيعونه ويسن لهم فيتبعونه ، حتى توفاه الله واختار له ما عنده ، صلوات الله عليه ورحمته وبركاته ، ثم قام من بعده أتبع الناس له من أمته ممن ولي الأمر من بعده فما نزل بهم مما علموا أنفذوه ، وما لم يكن عندهم فيه علم سألوا عنه ، ثم أخذوا بأقوى ما وجدوا في ذلك في اجتهادهم وحداثة عهدهم ، وإن خالفهم مخالف أو قال امرؤٌ غيره أقوى منه وأولى ترك قوله وعمل بغيره ، ثم كان التابعون من بعدهم يسلكون تلك السبيل ويتبعون تلك السنن ، فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهراً معمولاً به لم أر لأحد خلافه للذي في أيديهم من تلك الوراثة التي لا يجوز لأحد انتحالها ولا ادعاؤها ، ولو ذهب أهل الأمصار يقولون هذا العمل ببلدنا وهذا الذي مضى عليه من مضى منا ، لم يكونوا من ذلك على ثقة ، ولم يكن لهم من ذلك الذي جاز لهم [22].

ويعتبر الإمام مالك عمل أهل المدينة أو إجماعهم من مصادر التشريع عنده . وممّا ينبغي ذكره ، أن عمل أهل المدينة أو إجماعهم من الأصول الفقهية التي احتج بها سلف الإمام مالك واعتبروه حجة يعتمدون عليها . وتتجلى هذه القضايا في فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أقضيته ، وتتبعه للسنن ، ومشاورته للصحابة المتواجدين في المدينة ، وكذلك في أقضية عثمان رضي الله عنه ، ومن بعدهما التابعون ، بالإضافة إلى آثار الصحابة وأقضية الأئمة [23].

وممّا يؤيد اعتبار سلف الإمام مالك بهذا الأصل ، أمران :

1 - الاحتجاج به : حيث قال سعيد بن المسيب في الرجل يتزوج وهو محرم : " أجمع أهل المدينة على أن يفرق بينهما [24].

2 - استعمالهم مصطلحات في العمل ، سار على نهجهم فيها مالك ، ونقل بها قضاياه ، مثل : قول سلمان بن يسار في كفارة اليمين : " أدركت الناس وهم إذا أعطوا في كفارة اليمين بالمد الأصغر ، رأوا ذلك مجزئاً عنهم " [25]وكذلك : عبارة " قد مضى أمر الناس على هذا " ، وغيرها من المصطلحات [26].

ويتبين لنا أن الإمام مالك كان يرى الفقهاء يحتجون بعمل أهل المدينة باستعمال مصطلحات متعددة ، تبعهم فيها [27]. يقول الأستاذ الدكتور ، احمد محمد نور سيف في هذا الموضوع : " أنه (مالك) كان شديد الاتباع لهم (فقهاء المدينة) ، بعيداً عن الابتداع ، ميالاً إلى التأسي بمن سبقه ، مجانباً لما لم ير أصوله تعتمد على تلك الثروة الفقهية عندهم ، ولذا كان عمل أهل المدينة أو إجماعهم أحد الأصول التي اعتمد عليها في الاجتهاد والاستنباط " [28].

ولقد اختُلف في عمل أهل المدينة وكثر الحديث حوله بالنقد والجدل من المعاصرين للإمام مالك وكذلك المتأخرين . واختلف المالكية أنفسهم في المراد من عمل أهل المدينة ، وفيما يأتي آراء لبعض فقهائهم :

1 - القاضي عبد الوهاب [29]

أ - إجماع أهل المدينة نقلاً حجة تحرم مخالفته ، ومن طريق الاجتهاد مختلف في كونه حجة ، والصحيح عندنا أنه يرجح به على غيره ، ولا يحرم الذهاب إلى خلافه [30].

ب - إجماع أهل المدينة على ضربين : نقلي واستدلالي .

1- النقلي : ومنه نقل شرع مبتدأ من جهة النبي صلى الله عليه وسلم إما من قول ، أو فعل ، أو إقرار . فالقول : كنقلهم الصاع والمد والأذان والإقامة والأوقات والأحباس والمنبر ونحوه . والفعل : كنقلهم العمل المتصل في عهدة الرقيق ، وغير ذلك . والإقرار : كتركهم أخذ الزكاة من الخضراوات مع أنها كانت تزرع بالمدينة ، ولم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء من بعده منها زكاة . وهذا النوع من إجماعهم حجة يلزم عندنا المصير إليه ، وترك الأخبار والمقاييس له ، لا اختلاف بين أصحابنا فيه .

2- الاستدلالي : وهو إجماعهم من طريق الاستدلال ، فاختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه :

الأول : أنه ليس بحجة ولا مرجح ، وهو قول ابن بكير ، وأبي يعقوب الرازي ، والقاضي أبي بكر ، وابن السمعاني ، والطيالسي ، وأبي فرج ، والأبهري ، وأنكروا كونه مذهباً لمالك .

الثاني : ليس بحجة ولكن يرجح به أحد الإجتهادين ، وبه قال بعض أصحاب الشافعي .

الثالث : أنه حجة وإن لم يحرم خلافه ، وعليه يدل كلام أحمد بن المعذل ، وأبي مصعب ، وإليه ذهب أبو الحسن بن أبي عمر من البغداديين ، وجماعة من المغاربة من أصحابنا ، ورأوه مقدماً على خبر الواحد والقياس ، وأطبق المخالفون أنه مذهب مالك ، ولا يصح عنه كذا مطلقاً [31].

2 - القاضي عياض [32]

إجماع أهل المدينة على ضربين ، ضرب من طريق النقل والحكاية الذي تؤثره الكافة عن الكافة وعملت به عملاً لا يخفى ونقله الجمهور عن زمن النبي صلى الله عليه وسلم . والثاني : إجماعهم على عمل من طريق الاجتهاد والاستدلال ، فهذا النوع اختلف فيه أصحابنا فذهب معظمهم إلى انه ليس بحجة ولا فيه ترجيح . والمراد به عنده وعند كثير من محققي المالكية عمل الصحابة لا غير [33].

3 - ابن القصار [34]

من مذهب مالك رحمه الله العمل على إجماع أهل المدينة فيما طريقه التوقيف من الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو أن يكون الغالب فيه أنه عن توقيف منه عليه الصلاة والسلام ، كإسقاط زكاة الخضراوات ؛ لأنه معلوم أنها قد كانت في وقت النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم ينقل أنه اخذ منها الزكاة ، وإجماع أهل المدينة على ذلك ، فعمل عليه وإن خالفهم غيره [35].

4 - أبو عبيد القاسم [36]

وإجماعهم (أهل المدينة) فيقسم إلى قسمين : أحدهما : استنباط ، والآخر : توقيف . فالضرب الأول : لا فرق بينهم وبين سائر أهل الأمصار فيه . وأما الضرب الثاني : المضاف إلى التوقيف فهو الذي يعوّل عليه ، ويُعترض على خبر الواحد به ، نحو إسقاطهم الزكاة في الخضراوات ، والآذان ، والتكبير على الجنائز ، وإجازة الوقوف ، ومعاقلة الرجل المرأة إلى ثلث الدية [37].

5 - ابن الحاجب [38]


إجماع أهل المدينة من الصحابة والتابعين حجة عند مالك . وقيل : محمول على أن روايتهم متقدمة . وقيل : على المنقولات المستمرة كالأذان والإقامة . والصحيح : التعميم [39].

6 - القرافي [40]

اختلف أصحابه (مالك) في تقرير مذهبه على قولين :

أ - منهم من يقول : إنما مقصوده تلك الأقوال المنقولة خاصة ، إما عن قول سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو عن فعل وضع كما كان في "الصاع" و"المد" ، فينقل الأبناء عن الآباء والأخلاف عن الأسلاف أن هذا هو المد الذي كانوا يؤدون به الزكاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن الأذان كان على هذه الصورة في زمانه عليه السلام كما قاله مالك لأبي يوسف لما ناظره في الأذان والصاع والأوقاف ، فسأل أبناء الصحابة فأخبروه بذلك ، فقال : هذا أذان القوم ، وهذا صاعهم ، وهذه أوقاف الصحابة – رضوان الله عليهم – فرجع أبو يوسف عن مذهب أبي حنيفة إلى ذلك .

ب - ومنهم من قال : بل المقصود ما هو أعم من هذا وهو أنهم إذا اتفقوا على نقل ، أو كانوا في أنفسهم يفعلون فعلاً لا يُعلم مستندهم فيه ، فإنه يكون حجة ويقدّم على الأحاديث ؛ لأن الظاهر من حالهم أنهم ما عدلوا عن الحديث – مع اطّلاعهم عليه – إلا وقد اطّلعوا على ناسخ [41].

7 - الباجي [42]


أن مالكاً إنما عوّل على أقوال أو أفعال أهل المدينة وجعلها حجة في ما طريقه النقل كمسألة الأذان ، وترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، ومسألة الصاع ، وترك إخراج الزكاة من الخضراوات ، وغير ذلك من المسائل التي طريقها النقل واتصل العمل بها في المدينة على وجه لا يخفى مثله ونقل نقلاً يحج ويقطع العذر . فهذا نقل أهل المدينة عنده في ذلك حجة مقدمة على خبر الآحاد وعلى أقوال سائر البلاد الذين نقل إليهم الحكم في هذه الحوادث أفراد الصحابة وآحاد التابعين .

والضرب الثاني من أقوال أهل المدينة ما نقلوه من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق الآحاد أو ما أدركوه بالاستنباط والاجتهاد . فهذا لا فرق فيه بين علماء المدينة وعلماء غيرهم في أن المصير منه إلى ما عضده الدليل والترجيح ، ولذلك خالف مالك في مسائل عدة أقوال أهل المدينة [43].

وبناءً على ما ذكر سابقاً : فإن المالكية اختلفوا في المقصود من عمل أهل المدينة ، فمن قائل : إن المراد به المنقولات المستمرة ، وقيل : إن روايتهم أولى من رواية غيرهم ، وقيل : إن إجماعهم أولى ولا تمتنع مخالفته ، وقيل : إنما أراد ترجيح اجتهادهم على اجتهاد غيرهم ، وقيل : أراد إجماع أهل المدينة من الصحابة ، وقيل : بل أراد الصحابة والتابعين ، واختار بعضهم التعميم .
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع



 

[حجم الصفحة الأصلي: 146.86 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 144.47 كيلو بايت... تم توفير 2.39 كيلو بايت...بمعدل (1.63%)]