علم الاجتماع: غبش في التصور وتشوش في النظرية - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         خمس نصائح ذهبية لورثة الأنبياء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          بشائر لمن يريد العفة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          التحقق بمشاعر العبودية لله عز وجل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          الدعوة في الخطاب الديني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4416 - عددالزوار : 852541 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3947 - عددالزوار : 387846 )           »          هل لليهود تراث عريق في القدس وفلسطين؟! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 33 - عددالزوار : 1063 )           »          أوليــاء اللــه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          المشكلات النفسية عند الأطفال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العام > الملتقى العام

الملتقى العام ملتقى عام يهتم بكافة المواضيع

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 20-04-2019, 01:28 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,843
الدولة : Egypt
افتراضي علم الاجتماع: غبش في التصور وتشوش في النظرية

علم الاجتماع: غبش في التصور وتشوش في النظرية


د. أحمد إبراهيم خضر





الحلقة السابعة

علم الاجتماع: غبش في التصور وتشوش في النظرية


أولاً: غبش في التصوُّر:
أوَّل ما تعلَّمناه حينما كُنَّا طلاَّبًا بقسم الاجتماع بجامعة القاهرة هو أنَّ هناك نظامًا كامنًا في الطبيعة، وأنَّ علم الاجتماع يَسعَى إلى اكتِشاف ووصْف وتفسير النظام الذي يُميِّز الحياة الاجتماعيَّة للإنسان، تعلَّمنا من أساتِذتنا أنَّ الأحداث تَتِمُّ في شكلٍ مُتَتابع مُنتَظِم؛ حيث يُمكِن صِياغة أحكامٍ قابلة للتَّجرِيب حول علاقة حادثةٍ بأخرى عند نُقطةٍ مُعيَّنة من الزمن وتحت ظروفٍ مُحدَّدة، تعلَّمنا من أساتِذَتنا أنَّ الناس في حَياتهم اليوميَّة يَقُومون بملايين الأفعال الاجتماعيَّة وهم يَتفاعَلون مع بَعضِهم البعض، وأنَّ هذا الكمَّ الهائل من الأفعال لا يُؤدِّي إلى الفَوضَى والاضطراب؛ بل يُؤدِّي إلى ظُهور ضَرْبٍ من النِّظام يَتمكَّن الفرد بِمُقتَضاه من أنْ يحقِّق أهدافه دُون أنْ يَتداخَل أو يَتضارَب مع أهداف الآخَرين، علَّمَنا أساتِذتُنا أنَّ مهمَّة علم الاجتماع تنحَصِر في الوُقوف على كيفيَّة حُدوث ذلك، وكيف أنَّ التنسيق بين الأفعال المتنوِّعة الصادرة من الأفراد يُؤدِّي إلى تدفُّق الحياة الاجتماعيَّة واستِمرارها، وكيف يمكن التخلُّص من حالة الاضطراب والصِّراع الناتجة عن مُحاوَلة تحقيق بعض الناس أهدافهم على حِساب الآخَرين.

تعلَّمنا من أساتذتنا أنَّه ليس من شأن علم الاجتماع أنْ يضع برنامجًا لرفاهية الناس، وأنَّه ليس نظريةً للإصلاح الاجتماعي، وأنَّه ليس قانونًا للأخلاق، إنَّه - فقط - منهجٌ متخصِّص ووجهة نظَر مشابهة لتلك التي للعلوم الطبيعيَّة، إنَّه يُحلِّل الظواهر التي تَنشَأ نتيجةً لحياة البشر ويُفسِّرها، وإنَّه لا يضَع أحكامًا قيميَّة، ولا يضَع مستويات للسلوك الإنساني، إنَّه لا يَستَحسِن ولا يُدِين سياسة معيَّنة أو برنامجًا خاصًّا، ولكنَّه يصف ببساطةٍ العلاقةَ بين العلَّة والمعلول ويُحلِّلها، إنَّه يبحث فيما هو كائنٌ، ويترك ما يجب أنْ يكون لِمَن يهتمُّون بالجانب الأخلاقي والمشكلات الاجتماعيَّة.

انجذَبْنا إلى بريق علم الاجتماع - كغيرنا من طلاَّب علم الاجتماع في العالم - على أمَل أنْ يُساعِدنا هذا العلمُ على فهْم أسباب فَوضَى الحياة الاجتماعيَّة المُعاصِرة، وعلى أمَل أنْ نجدَ فيه حُلولاً للمشكلات الاجتماعيَّة التي يُعانِي منها المجتمع، والآن وبعد ثلاثين سنة أكمَلناها في دِراسة وتَدرِيس علم الاجتماع اكتَشَفنا أنَّ كلَّ ذلك كان سَرابًا في سراب.

لم يستطع علم الاجتماع أنْ يُحقِّق أمانينا منذ كنَّا طلابًا وحتى الآن؛ لا في فهْم أسباب فوضى الحياة الاجتماعية، ولا في تقديم ولو حلاًّ واحدًا لمشكلةٍ واحدةٍ يُعانِي منها مجتمعنا.

اكتشَفْنا أنَّ العلوم الاجتماعيَّة برُمَّتها ما هي إلا علومٌ أوربيَّة الصُّنع، وأنها عجزت - في بلادها - عن إثارة القَضايا المتَّصلة بصَمِيم وُجود الإنسان، اكتشفنا أنَّ ما درَسْناه لم يكنْ أكثر من مجرَّد أفكار فلسفيَّة، وقيم ومواقف أخلاقيَّة، تخصُّ مجتمعات وثَقافات تختَلِف عنَّا، لقَّنَها لنا أساتذتنا تحت سِتار العِلم وباسم المنهج العلمي، كنَّا ندرس نظريَّات لم تكن منفصلةً - أبدًا - عن التحيُّزات العنصريَّة والفرديَّة لأصحابها، وباسم الالتزام بالمنهج العلمي كان علينا أنْ نَقبَل هذه النظريَّات كمُسلَّمات، لم تكن أبدًا خاضعةً لتمحيصٍ علمي، بل كانت مُستَمدَّة في معظمها من الحدْس والتخمين والانعِكاسات الشخصيَّة لواقع مُنظِّريها، أساتذتنا حوَّلونا إلى أجيالٍ ذليلة تابعة تافهة، فسكرت أبصارنا، وبلغت بنا السطحيَّة والغَفلة إلى أنْ نقول: إنَّ تراث الغرب ليس ملكًا للغرب وحدَه، إنما هو تراث الإنسانيَّة، ومن حقِّنا أنْ نأخُذ منه كما سبَق أنْ أسهَمْنا في بنائه.

كانت على قُلوبنا وعلى سَمعنا وعلى أبصارنا غِشاوة، فقلنا: إنَّ هناك عُموميَّات تجمَعُ بين المجتمعات البشريَّة تسمح لنا باستخدام مَقُولات وأفكار وأدوات ظهَرتْ في غير مجتمعاتنا وغير ثقافتنا، إلى أنِ اكتَشَفنا بعد حينٍ أنَّ العُلوم الاجتماعيَّة علومٌ عقديَّة تحمل فِكرًا مُعيَّنًا، وأيديولوجيَّة خاصَّة تُعادِينا أو تَزدَرِينا في أحسن الأحوال، وتُحرِّضنا على احتِقار ثَقافتنا، وترغمنا على الاعتِقاد بأنَّنا أدنى، تقول لنا: إنَّهم هم الكعبة وهم النموذج الوحيد للتقدُّم، وما علينا إلاَّ أن نتبعهم طواعيةً واختيارًا، وإلا فستظهر لعلومهم الاجتماعيَّة أنيابها الحادَّة، فهي علومٌ لا يعرف الجهلاء منَّا أنها محميَّة بقوَّةٍ مسلَّحةٍ.

اكتشفنا أنَّ الحياة الاجتماعيَّة شيءٌ عادي، سهلة بسيطة، يمكن التعبير عنها بلُغةٍ يسيرةٍ يفهَمُها كلُّ الناس، لكنَّنا كُنَّا أسرى لما تعلَّمناه من أساتذتنا الذين عقَّدوا لنا هذه الحياة، حينما جعَلُوا من دِراسة المجتمع تكنيكًا فنيًّا مُعقَّدًا له قواعد صارمة، ويتطلَّب التمكُّن منه مرحلةً من الإعداد الطويل، والتدريب المتواصِل، تعلَّمنا هذا التكنيك، والتَزَمنا بالقواعد الصارمة، وانتهَيْنا من الإعداد والتدريب، وفُوجِئنا بأنَّ رجل الشارع لم يستطع أنْ يتعرَّف على نفسه وسط تعقيداتنا، ولطمنا بقوله إنَّه أقدر من عالِم الاجتماع على فهْم المجتمع وفهْم الناس، وأنَّ مقولاتنا مقولاتٌ من الدرجة الثانية، تُمثِّل ما كوَّنَه الناس العاديون عبر حياتهم اليوميَّة، وأنَّ المعرفة التي نُقدِّمها ليست اكتشافًا جديدًا، وإنما هي تأكيدٌ أو إعادة صِياغة لما هو قائمٌ في: حياة الناس، وحديثهم، ولغتهم، وخِبرتهم، وعملهم... وأنَّ ما نقوم به ليس إلاَّ تنظيمًا أو إعادة صِياغة للمفاهيم الموجودة فعلاً بين الناس.

كنَّا نعتقد أنَّنا سنصبح كعلماء الفيزياء والكيمياء والأحياء، الذين أنفَقُوا الشطر الأعظم من حياتهم قبل أنْ يصبحوا حجَّةً في تخصُّصاتهم، وسنصبح يومًا ما حجةً في شؤون المجتمع، لكنْ (ول ديورانت) صاحب "قصة الفلسفة" الشهير صفَعَنا بقوله: "كلُّ صبي حلاَّق أو بقَّال يعتَبِر نفسه حجَّة ومرجعًا يعرف كلَّ حَلٍّ لكلِّ مطلب وكل حاجة في هذا العالم".

كبار عُلَماء ومُؤرِّخي العالم؛ بل أساطين علم الاجتماع ذاته لم يُقِيموا لنا وزنًا ولا احترامًا، وجعلونا موضع سُخريتهم ونِكاتهم، هذا يقول: "إنَّ علم الاجتماع هو العلم الذي يأخُذ ما يفهمه كلُّ واحد منَّا، ويصوغُه في عباراتٍ لا يفهمها أيُّ أحد منَّا"، وذاك يقول: "إنَّ عُلَماء الاجتماع لا يفعَلُون أكثر من التعبير عن كلِّ ما هو واضح بطريقةٍ مُعقَّدة وغامضة"، وثالث يقول: "إنَّ علم الاجتماع علم نفاية"، ورابع يقول: "إنَّه علم طفيلي"، وخامس يقول: "إنَّ لبعض الفنَّانين والأدباء والصحفيين حسًّا ووعيًا فكريًّا لا يوجد عند عُلَماء الاجتماع المتخصِّصين"، وسادس يقول: "إنَّ لصحيفة واحدة أو لعمودٍ واحد فيها يحظى بدرجةٍ من الشعبيَّة أو لبرنامج في الراديو أو التليفزيون - جاذبيةً وتأثيرًا واسعًا يَفُوق تأثير عُلَماء الاجتماع ولو مجتمعين".

وثامن يسخَر من الغموض والتعقيد اللغوي في مؤلَّفات علم الاجتماع؛ فيشير إلى كتابٍ يتكوَّن من خمسمائة وخمسٍ وخمسين صفحة أُعِيدت ترجمته إلى مائة وخمسين صفحة؛ ليَسهُل قِراءته، وظلَّ رغم ذلك محافظًا على غُموضه، ووَصَفَه عالِمُ اجتماع شهير بأنَّه عبارةٌ عن مجموعةٍ فارغة من الألفاظ ذات الرَّطانة الكاذبة.

درسنا عشرات المفاهيم في عِلم الاجتماع، ثم اكتَشَفنا أنها جزءٌ يسيرٌ من ترسانة ضَخمة من المصطلحات الغامضة التي لا تفيد في أيِّ تحليل، واكتَشَفنا أيضًا أنَّ المعرفة المستخرَجة من هذه المفاهيم إذا جُرِّدت من أغطيتها الفنية وطبقاتها اللفظيَّة التي تحتَمِي بها لا تختَلِف كثيرًا عن المعرفة اليوميَّة لعامَّة الناس، لقد نجح علماء الاجتماع في اختراع مفاهيم تَزخَر بها مؤلفات العلم، ورغم ذلك فإنَّ هذه المفاهيم لم تُسهِم في تقديم صورةٍ حقيقيَّة للمجتمع الإنساني.

بعد رحلةٍ طويلة جدًّا مع علم الاجتماع، اكتشفنا أنَّه لا يُمثِّل وحدة فكرية متجانسة، ليس هناك نموذج نظري واحد تحقَّقت له الهيمنة الكاملة، فعلى امتداد تاريخ العلم تنشأ نظريَّات وأفكار، ثم يأتي ما يُخالِفها، فيُعاد النظر فيها ويؤلف غيرها... وهكذا.

نظريَّات العلم تعرَّضت لانتقاداتٍ شديدة وعديدة، البحوث الاجتماعيَّة تعرَّضت لمراجعةٍ شاملة، اتجاهات هنا وهناك تُعِيد النظر في كلِّ المسلَّمات النظرية والمنهجية للعلم.

منذ أنْ ظهَر علم الاجتماع إلى حيِّز الوجود وهناك اختلافات جوهريَّة بين عُلَمائه حول: طبيعته ومناهجه وأهدافه القُصوَى، كما أنَّ تتبُّع تاريخ هذا العلم يبيِّن أنَّ عُلَماءه قد أخفَقُوا في الوصول إلى اتِّفاق عام حول قَضاياه، ولا تزال هناك تَناقُضات فكرية، وتصوُّرات متباينة فيما بينهم لم تُؤدِّ بهم إلى إجماعٍ حول تفسير الواقع الاجتماعي والإطار الثقافي لأيِّ مجتمعٍ من المجتمعات.

الظُّروف التي كتب فيها كِبار عُلَماء الاجتماع، والوقت الذي كتبوا فيه كلَّ ذلك - لم يَعُدْ قائمًا، الحلول التي قدَّموها لا تصلح للأفراد الذين يَعِيشون في عالم اليوم والأحداث التي تُحِيط بهم.

لم يستطع علم الاجتماع أنْ يُقدِّم لنا صورةً كاملة وشاملة للإنسان والمجتمع، لم يُقدِّم لنا إلا وجهة نظر مُعيَّنة - من بين وجهات نظَر عديدة - وهي وجهة نظَر محدودة ومُحدَّدة، المشتَغِلون بعلم الاجتماع يُدرِكون دائمًا نسبيَّة وقُصور آرائهم، ونسبيَّة التساؤلات التي يطرحونها، ويُدرِكون أيضًا قُصور الإجابات التي يعتقدون أنهم انتهوا إليها.

التنظير الذي قام ويقوم به عُلَماء الاجتماع ما هو إلا ضربٌ من التَّرَفِ، المفكِّرون الذين يَصُوغون نظريَّاتهم عن المجتمع الإنساني يتبنَّون مواقف تتَّصل اتِّصالاً مباشرًا بمصالحهم، عالِم الاجتماع اليوم لا يُعتَبر رجلاً عامًّا أو رجلاً لكلِّ المجتمع؛ لأنَّ حياته لا تتَّسِق مع ما يكتب وما يعتقد، إنَّه لا يطرح موضوعات جديدة، ويردُّ المشكلات دائمًا إلى مسائل شخصيَّة، ويغرقنا في ضربٍ من التأمُّل الاستبطاني أو الرومانسيَّة.

عُلَماء الاجتماع صِنفان: مُنظِّرون خياليُّون يعيشون في بُروجٍ عاجية، لا يَعرِفون شيئًا عن العالم المحيط بهم، بعيدون عن الواقع الحقيقي للمجتمع، وجامعو بيانات ينفذون بحوثًا لحِساب الآخَرين نظير مقابل مادي، لا يلتزمون بأيِّ قيمةٍ حتى القِيَم التي يتذرَّعون بها، وكل عُلَماء الاجتماع يعملون داخل نسيجٍ اجتماعي مُفتَّت كانوا هم أحدَ عمد تخريبه، وجامعات مشلولة لم تستطع أنْ تخرج عن الدور المرسوم لها.

علم الاجتماع كفرعٍ أو تخصُّص علمي - كما يعتَقِد أصحابُه - ليس إلاَّ مجموعة من المشكلات المتراصَّة جنبًا إلى جنبٍ دون وُجود علاقة عميقة تربط بينها.

النتائج التي يمكن استخلاصها من بحوث علم الاجتماع ليست إلا مجموعة من التعميمات التي يُسمُّونها (بالتعميمات الأمبريقية)، ويقصدون بها ما يستَنتِجه الباحث من فحْصه للعلاقة بين متغير وأكثر، القوانين التي وعَدُونا بها منذ الربع الأول من القرن التاسع عشر لا أثَر لها، الإنجازات التي تحقَّقت عبر تاريخ العلم كله وصلتْ إلى طريقٍ مسدود، وإذا سلَّمنا بأنَّ الهدف الأسمى لأيِّ علمٍ من العلوم هو الحدُّ من مخاطر المستقبل والتنبُّؤ بمشكلاته، فإنَّ هذا الهدف لم يتحقَّق حتى الآن.

ولهذا كلِّه لا نستغرب اليوم حينما يقول علماء الاجتماع: "إنَّه يجب علينا التخلِّي عن الفكرة الذاهبة إلى أنَّ الطبيعة الإنسانيَّة تنتَظِم في شكل عُلوم فرعيَّة تعكسها أقسام الجامعات المختلفة".

طالِبُ الدراسات العليا المتميِّز القارئ المتابع للجديد في علم الاجتماع، هو الذي يَقضِي ليله ونهاره بين أدوار ورفوف كتب ودوريات علم الاجتماع قديمها وحديثها بمكتبة الجامعات الأمريكية بالقاهرة، ولا سبيل له غيرها؛ فمكتبات جامعاتنا المحليَّة أقرب إلى المكتبات العامَّة عنها كمكتبات جامعيَّة، حينما ابتُعِثنا إلى الولايات المتحدة سَواء على نفقة الدولة أو سافرنا إليها على نفقتنا الخاصَّة، كنَّا نشعر بسعادة غامرة ونحن نجمع الجديد في علم الاجتماع من مكتبات جامعات: جورج واشنطن، وجورج تاون، وهاوارد، والجامعة الأمريكية بواشنطن، وجامعة شيكاغو، والمكتبات المحلية في فيرفاكس وهويلنج وألكساندريا، كانت سعادتنا لا حدَّ لها ونحن نلتقي وجهًا لوجه ونحاور مَن كنَّا نقرأ عنهم في الكتب؛ أمثال: موريس جانوفتر، ودافيد سيجال، ومادي سيجال، وجون بلير، وتوماس كورتلس، ونانس جولدمان...

ثم اكتشفنا بعد أنْ شابت خُصَيلات شعرنا ونحن نلهث وراء كلِّ كلمة ينطقون بها: أنَّنا لم نكتب منهم شيئًا له قيمة، بل كنَّا نُقدِّم لهم من قلب تخصُّصاتهم الفرعيَّة ومن نفس مكتباتهم التي لا تبعد كثيرًا عن حجرات مكاتبهم - ما لم يسمَعُوا عنه من قبلُ.

اكتشفنا أنَّ في الولايات المتَّحدة عشرة آلاف عالِم اجتماع أمريكي لكلِّ منهم علمُ اجتماع خاصٌّ به، وبعيدًا عن أنَّنا كنَّا ننقل إلى بلادنا فكرًا لا يخصُّها، اكتشفنا أنَّ علم الاجتماع الأمريكي نفسه ما هو إلاَّ مزيجٌ غريبٌ من عناصر متفرِّقة متباعدة، تُعبِّر عن خبرة المجتمعات الأوربيَّة أكثر ممَّا تُعبِّر عن خبرة المجتمع الأمريكي ذاته، الدوريات الأمريكية التي كنَّا نفخر ونحن نُتابِع أحدثَ ما كُتِبَ فيها تركِّز تركيزًا مُبالَغًا فيه على قَضايا محدودة، لا تُشكِّل في مجموعها إطارًا فكريًّا يُمكننا الاعتمادُ عليه في فهْم المجتمع.

اكتشفنا أنَّ أوَّل مَن تقلَّد السُّلطة بالولايات المتحدة ربوبيُّون، يؤمنون بالله بغير اعتقادٍ بدِين مُنزَّل، ويقوم مذهبهم على الإيمان بدينٍ طبيعي مبنيٍّ على العقل لا الوحي، وينكر تدخُّل الخالق في نواميس الكون، تقوم قيمهم على أساس أنَّ ما هو طيِّب في هذا الكون يأتي من آراء الناس العاديين وليس من دِين، هؤلاء الناس هم الذين أسَّسوا المدارس والجامعات وطبعوا الكتب لتعليم الأمريكيين، وهم الذين نجري وراءهم لننقل إلى بلادنا أفكارهم ومنظوراتهم.

ولهذا؛ لا نتعجَّب إذا اكتشفنا أنَّ كتب مداخل علم الاجتماع تحتَوِي على رطانات عديدة، القليل منها يُعطِي تفسيرًا منطقيًّا جادًّا للقضية التي يتناوَلُها، وحتى هذا التفسير وهذا التناول مُتعدِّد الألوان أكثر منه تفسيرًا تحليليًّا، ولا نتعجَّب أيضًا من هذا الكساد الأكاديمي الملحوظ الذي ظهر بانخِفاض أعداد الطلاب المسجلين في أقسام الاجتماع بالجامعات الأمريكيَّة.

ونسجِّل هنا بعضًا من اعتِرافات علماء الاجتماع الأمريكيين في اجتماعهم السنوي الثالث والأربعين، الذي عقَدُوه في عام 1979، وحضَرَه (موريس جانوفتز، وآرلين كابلاند، ونوربرت ويكي، وروبرت ليك).

جاء في اعترافات العلماء الأمريكيين ما نصه:
"يجب أنْ نُسلِّم بأنَّ هناك توسُّعًا كبيرًا في أعداد علماء الاجتماع، صاحَبَه زيادة في أعداد المجلات العلميَّة، لكن لم يصاحبْه ارتفاع في المستوى العلمي، بل على العكس، نحن نسلِّم تمامًا بأنَّنا أنتجْنا قدرًا ضخمًا من البحوث والتحليلات قليلة الجودة، كما أنَّ جهود الاعتماد على المناهج الكميَّة البحتة في إيجاد نظرية قد فشلت...

نحن لدينا الآن عَناوين وقَضايا ذات انتشار واسع، لكنَّها تخدم المصالح الشخصيَّة والمفاهيم الذاتيَّة لأصحابها، وتُغذِّي تطوُّر شبكات المصالح المشتركة، ولا يعني هذا الانتشار وجود أدوات نظرية ومنهجية قويَّة قادرة على فهْم المجتمع؛ ولهذا فإنها ليست مُؤثِّرة، إنَّ نظريَّاتنا ومناهجنا طورت بسرعة مصايد للرطانة وقصر النظر، إنَّ صورتنا الحاليَّة أمام الناس تعكس ذلك، من الصعب أنْ تجد إشارة إلى علم الاجتماع في وسائل الإعلام العامَّة؛ بسبب ما لدَيْنا من غُموضٍ لا يمكن فهمُه، ومن الصَّعب أيضًا أنْ تجد مُشرِّعين أو رجال أعمال أو إدارة أو صانعي سياسة يعتقدون أنَّ علم الاجتماع بإمكانه أنْ يجيب على الأسئلة التي يحتاجون إلى إجاباتٍ عليها".

ورغم هذا الاعتراف الصريح من كبار علماء الاجتماع في أمريكا، فإنَّ عشرات من مبعوثينا يذهبون إليهم كلَّ عام ليأخُذوا عنهم هذه الرطانة، وقصر النظر، والأدوات النظريَّة، والمنهجيَّة غير المؤثِّرة وغير القادرة على فهْم مجتمعاتهم ذاتها، ونحن لا نكسب منهم شيئًا، وإنما هم الذين يكسبون منَّا كلَّ شيء، البحوث الميدانيَّة التي يُجرِيها المبتَعَثون على قُرانا ومدننا، وعاداتنا وتقاليدنا، وثقافتنا بوجه عام، هي شرط متطلَّب ليمنحهم الأمريكيون الدرجة العلمية، وهي التي تصبح تحت تصرُّف صانعي السياسة عند الحاجة إليها؛ أي: إنَّنا بأموالنا وبأيدينا نُوفِّر لهم ما تحتاجه مخابراتهم من معلوماتٍ عن البنية الاجتماعية والتركيبة الثقافية لبلادنا، بدءًا بالعاصمة، وانتهاءً بأبعد قرية عنها.

ثانيًا: تشوُّشٌ في النظريَّة:
حينما بدَأنا نخطو الخطوات الأولى في مرحلة الدراسات العليا، كانت هُناك مقولاتٌ تعلَّمناها وقرأناها واستَوْعبناها، وكان علينا أنْ نسيرَ على هديِها في طريقنا الطويل نحو الماجستير والدكتوراه.

قرَأنا لعالِمٍ اجتماعي أمريكي: "إنَّ النظريَّة بالنسبة لعلماء الاجتماع كالدِّين بالنسبة للجمهور"، ثم تعلَّمنا أنَّ على علم الاجتماع أنْ يتَّجِه نحو صِياغة نظرية قادِرة على توليد حُلول اجتماعيَّة للمشكلات الإنسانيَّة.

علَّمَنا أساتذتنا أنَّ حلَّ مشاكل المجتمع غير ممكنٍ إلا في حالة واحدة؛ وهي: أنْ يستند الحل دائمًا إلى أطارٍ دقيقٍ من المفاهيم العلميَّة ذات الاتجاه النظري الواضح، قالوا لنا: إنَّ النظرية هي التي تحدُّ الحدود، وتُقِيم الفواصل، وتُعطِي للبيانات معنًى، قالوا لنا: إنَّ البحث دُون سند من نظرية أو اتجاه ليس إلا نوعًا من العبَث؛ لأنَّ النظريَّة تُمكِّن الباحث من فهْم المجتمع في صُورته الكلية، وتُعطِيه إطارًا للبحث في مناطق محدودة متَّسقة مع الصورة التي استَمدَّها من النظريَّة، وإنَّ البحث إذا لم يجرِ في إطارٍ فكري محدَّد فإنَّه سيكونُ محاولة عقيمة لا تتقدَّم خطوة في فهْم المجتمع.

علَّمَنا أساتذتُنا أنَّ النظريَّة يجب أنْ تتوافر فيها عدَّة شروط؛ منها: استنادُ قَضاياها إلى أفكارٍ محدَّدة، واتِّساق هذه القضايا الواحدة مع الأخرى بحيث يمكن أن تُستَقرأ منها تعميمات، وأنْ تكون هذه القضايا منتجة؛ حيث تقود إلى مزيدٍ من الملاحظات التي توسع نِطاق المعرفة.

بمثْل هذا المنظور البرَّاق انطلَقْنا سعيًا وراء النظرية المنشودة في بحوثنا، ولَمَّا كان في قُلوبنا بَقايا من عقيدة؛ فكَّرنا في ربْط بُحوثنا بهذه العقيدة، لكنَّ أساتذتنا قطعوا علينا حتى مجرَّد التفكير في وُلوج هذا الطريق، فقالوا لنا: إنَّ هناك فَرْقًا بين النظرية والنظر؛ النظريَّة في علم الاجتماع ليست (بنظر)؛ بمعني: أنها يجب ألاَّ ترتبط بأنساقٍ أو مذاهب محدَّدة من الفكر والدِّين، والعقيدة عند عُلَماء الاجتماع هي شيءٌ من هذا القَبِيل.

أمَّا النظريَّة عندهم، فإنها تُستَمدُّ أصلاً من نتائج دِراسةٍ أُجرِيتْ في الواقع الاجتماعي في مواقف متعدِّدة، أمَّا إذا استندَتْ إلى دِين أو عقيدة، فهي في نظَر أساتذتنا تصوُّرية وغير واقعيَّة، وأكَّدوا علينا بضرورة رفض ما أسموه بالأيديولوجيَّة الغيبيَّة التي لا تخرج - في نظرهم - عن إطارٍ مرجعي لتفسيراتٍ تبريريَّة لعقليَّة تسلُّطيَّة رجعيَّة يجبُ الإطاحة بها؛ لأنها أوَّل العثرات التي تقفُ في وجه النظرية المنشودة.

طرَحنا الدِّين والعقيدة جانبًا وبدَأنا البحثَ عن هذه النظرية وقَضاياها ومفاهيمها؛ فإذا بنا أمامَ بناءٍ هَشٍّ مهلهل صُوِّر لنا على أنَّه علم، كان أوَّل ما اصطدمنا به أنَّنا وجدنا علم الاجتماع يتحدَّث بحرارةٍ عن النظرية، وعن فائدة النظرية، ولَمَّا سعينا لنعرف ما المقصود بالنظرية واجهَتْنا تعريفاتٌ متضاربة وغامضة في أحسن الأحوال.

كان من الصعب علينا أنْ نجد اتِّفاقًا بين علماء الاجتماع على نظرية واحدة، أو على تفسيراتٍ محدَّدة لما يتحدَّثون عنه، لقد كانوا مختلفين على أوَّل مفهومٍ يجب أنْ يتَّفقوا عليه، وهو: (مفهوم المجتمع)، لم نجد بناء فكريًّا متماسكًا يمكن أنْ نضع إصبعنا عليه، ومنذ أعوامنا الأولى في طريقنا في هذا العِلم نجدُ مَن يُشبِّه لنا المجتمع بالكائن الحي، وآخَر يُصوِّره لنا على أنَّه آلة تدُور بفعل مجموعةٍ من الطاقات المتحرِّكة، وكأنَّنا نتعامَل مع الميكانيكا، وثالث يُصوِّر لنا الحياة الاجتماعية في ضوء العوامل الاقتصادية، ورابع يُفسِّرها في ضوء العوامل النفسيَّة، وخامس يتحدَّث عن العوامل الجغرافية، وسادسٌ له الغلبة على الساحة فيُصوِّرها لنا على أنها قصص من قصص الصراع يتغلَّب فيها فريقٌ على آخَر، ويتبادَلان الهزيمة والانتصار في دورةٍ محدَّدة من الزمان، تتعاقَب فيها سلسلةٌ متَّصلة من الحلقات... وهكذا، ومعظم مَن كتبوا في علم الاجتماع كانوا قد فشلوا في تخصُّصاتهم الأصلية، فدخَلُوا ميدانهم الجديد بتصوُّراتهم القديمة.

يعجُّ العلم الآن بالتصوُّرات المتناقضة؛ هذا من مدرسة شيكاغو، وذاك من مدرسة فرانكفورت، هذا ماركسي أصولي، وذاك ماركسي جديد، هذا ظاهراتي، وذاك إثنوميثودولوجي، وهكذا... هناك حشْد هائل من الآراء والنظريَّات في علم الاجتماع، هذه الآراء والنظريَّات ليست مختلفةً فقط، ولكنها متضاربة ومتصارعة أيضًا، القَضايا التي تبحثُ فيها هذه النظريَّات غير متجانسة، المفاهيم التي هي المادة الأوَّليَّة في بناء أيِّ نظريةٍ ليس هناك اتِّفاق عليها، كلُّ نظرية تضمُّ اتِّجاهات فرعيَّة، وكلُّ اتجاه فرعي يحشد مفاهيم ومصطلحات مختلفة لشيءٍ واحد أو متَّفقة لأشياء مختلفة، وهي في جميعها تختلف اختلافًا كبيرًا على المناهج المناسبة التي يمكن استخدامها في الحصول على المعرفة الواقعيَّة أو تنظيمها.

وكما تعلَّمنا من أساتذتنا علَّمْنا طلابَنا أنَّ أيَّ باحث في علم الاجتماع لا غنى له عن نظريةٍ توجِّهه في جمع الوقائع المختلفة للظاهرة التي يدرسها، والتي يريد أنْ يختبر صدقها، وفي اختياره للمناهج والأدوات التي يستخدمها، وأنَّه إذا لم يفعلْ ذلك فإنَّه سوف يتخبَّط في جمْع معلوماته، وستكون نتائجه غيرَ مترابطة؛ ولهذا سيعجز في النهاية عن أنْ يضفي عليها معنى ويُفسِّرها.

يبحث الطالب عن النظريَّة المنشودة فإذا به أمام كمٍّ كبير من النظريَّات؛ فيقع في حيرةٍ أي النظريَّات سيختار؟ وعلى أيِّ أساس ستكون مفاضلته بين النظريَّات؟ وهنا سيقع ضحيَّةً للتوجُّه الفكري لأستاذه، وسيكتشف الطالب - كما اكتشفنا من قبلُ - أنَّه ليست هناك نظرية واحدة متفق عليها، بل إنَّه ليس هناك مسمَّيات تكون أساسًا لهذا التصنيف، وفوق ذلك كلِّه سيجد اختلافًا في التفسيرات التي يتناوَلون بها ما يختلفون عليه.

وإذا كان الطالب يبحَثُ في ميدان الجريمة واجهَتْه نظريَّاتٌ تقول له: إنَّ الجريمة مرتبطةٌ بالبناء الطبقي للمجتمع، وأخرى تقول: إنها نتاجُ عوامل سيكولوجية وإيكولوجية، واليوم يربطونه بتقليعةٍ جديدة هي علم الضحايا، إذا كان يبحث في ميدان التفكُّك الاجتماعي وجد أمامه نظريَّة تفسِّره في ضوء الانحراف عن المعايير الاجتماعية، وأخرى تفسِّره في ضوء نظريَّات الصحَّة العقليَّة، وإذا كان يبحث في آثار التليفزيون على المجتمع واجهتْه نظريَّات تقول له: إنَّ مشاهدة التليفزيون تُؤدِّي إلى مزيدٍ من العزلة بين الناس والانفصال عن المعايير الاجتماعية، وأخرى تُؤكِّد له الدور الإيجابي الذي يلعَبُه التليفزيون في عمليَّة التنشئة الاجتماعيَّة، وإذا ذهب يدرس في مَجال الأسرة وجَد نظريَّات تؤكِّد له أنها في انهيارٍ مستمر، ثم وجد أخرى تؤكِّد له صلابتها وأهميَّتها، فماذا يفعل الطالب إذًا؟

لقد اكتشفنا أنَّ الصياغات النظريَّة مكرَّرة وسطحيَّة، تطرَح قضايا هي في الواقع رَداءات جديدة لأفكارٍ قديمة، يُوهمنا عُلَماء الاجتماع بأنَّ نظريةً ما قد استقرَّت، وهي في داخلها مليئةٌ بالتناقضات والزيف والمصطلحات أو المقولات المأخوذة من أُطُرٍ مرجعيَّة شديدةِ التبايُن.

اكتشفنا أنَّ نظريَّات علم الاجتماع نظريَّات لا تدعمها الحقائق، وأنها لا تخرج عن كونها تأمُّلات فكرية لا ترقى إلى مستوى أنْ تكون نظريَّات لعلم، رغم مُرور ما يقرب من قرنٍ ونصف القرن على اكتساب دراسة المجتمع عنوان العلم، كلُّ نظرية تحمل اسم شخص أو تُعبِّر عن فكر جماعةٍ تُفسِّر المجتمع في ضوء رؤيتها الخاصَّة، وجميعهم لا يملكون حتى التحقُّق من صدق ما يقولونه.

النظرية في علم الاجتماع ليست مسألة عقلٍ أو منطقٍ، إنها تعكس أصلاً افتراضات وعواطف، والاستجابة لهذه النظريَّات تتضمَّن عواطف أولئك الذين يقرَؤُونها أو يكتبونها، إنهم يُفسِّرون ما يرَوْنه من خلال ما يقرُّون (هم) أنَّه واقعي أو حقيقي.

النظريَّة الاجتماعيَّة تضرب بجذورها في مشاعر وأحاسيس المنظر، وتقوم أساسًا على رؤية متحيِّزة تعكس الافتراضات التي تَشرَّبها المنظر من ثقافته التي تربَّى عليها، وكلُّ صانعِ نظريَّةٍ يُقدِّم وجهة نظره عن الواقع الاجتماعي من واقع الفكر الذي يتبنَّاه.

إنَّ عالِم الاجتماع مثله مثل أيِّ شخصٍ آخَر تترسَّب في كيانه مجموعةٌ من الأحكام والافتراضات، وليس هناك ما يَقِيه من التأثُّر بها؛ فهو إنسانٌ يعيشُ في ثقافة معيَّنة، شأنه شأن غيره، ولا بُدَّ أنْ تدفَعَه الثقافة بطابعها وتُلقِي بظلالها على تفكيره وآرائه.

لقد تبيَّن لنا أنَّ نظريَّات علم الاجتماع ليست لها قوَّة توجيهيَّة، وغير قادرة على فهْم المشكلات الواقعيَّة، لا تستطيع تحديد مشكلة بطريقة منظَّمة، ولا توجه جهدًا لحلِّ مشكلة، أصحابها يُقدِّمون أُطُرًا فكرية بالغة التجريد، انشغلوا بالمعاني التركيبيَّة والمفاهيم الجافَّة التي تتميَّز بالتعقيد النظري واللغوي لما هو سهل وواضح.

إنها نظريَّات لا تتمتَّع بالكفاءات التي تجعلها قادرةً على الإحاطة بكلِّ جوانب واقع المجتمع وصفًا وتفسيرًا، إنها نظريَّات ضيِّقة النِّطاق، غير قادرة على استيعاب مختلف أنماط المجتمعات والثقافات، يَغِيبُ عن أصحابها الإحساسُ الأصيلُ بالمشكلات الاجتماعيَّة، إنها نظريَّات ذات عموميَّة شديدة لا ينزل رِجالها إلى مستوى الواقع، تستفيض في التصنيفات بصورة كبيرة، بحيث لا توسع فهمنا ولا تجعل خِبرتنا أكثر عُمقًا، وفوق هذا كلِّه هي نظريَّات نشَأَت وتطوَّرت في مجتمعات تُغايِر طبيعتها طبيعة مجتمعنا، الحديثة منها ترتبط أيضًا بالتحوُّلات التي حدثت في المجتمعات التي نشَأَت فيها، ورغم ذلك فإنها عنصريَّة تعبِّر عن خبرة المجتمعات الغربية وحدَها، تنظُر إلى ثقافة المجتمع الغربي على أنها قمَّة الثقافات الراقية، ونحن بالنسبة إليها ثقافات متخلِّفة.

والأهم من هذا وذلك أنَّ المحور الذي تنطلق منه هذه النظريَّات والذي يترُك بصماته على كلِّ فرعيَّاتها هو اعتبارها أنَّ الإنسان محوَرُ الكون، وأنَّه ليس لله ولا للدِّين أيُّ شأن في توجيه وحركة هذا الكون، يمتدُّ هذا الأصل الفاسد إلى كلِّ جزئيَّةٍ من جزئيَّات هذه النظريَّات.

وننقل هنا بعض الفقرات التي تتضمَّن اعتراف عُلَماء الاجتماع بفشل هذه النظريَّات:
"لا الماركسية ولا البنيوية ولا الدوركايمية ولا الغيبرية تتمتَّع الآن بسُمعة طيِّبة، إنَّ الأحلام العريضة التي فتحتها أمامنا لم تتحقَّق إلا جزئيًّا وبصفةٍ هشَّة، أضفْ إلى ذلك أنَّ المجتمعات تطوَّرت في اتِّجاهاتٍ متبايِنة عن العُقود السابقة، إنْ لم تكنْ مناقضةً لها تمامَ التناقُض، إنَّه لم يبقَ أحدٌ ينتظر من كُبرَى النظريَّات أنْ تُسهِم بصفةٍ إيجابيَّة في القفز بالبحوث الاجتماعيَّة".

"إذا كانت الوضعيَّة الكلاسيكيَّة قد بَدَتْ غير ملائمة تمامًا لفهْم الواقع الأوروبي خِلال القرن التاسع عشر، فإنَّ الوضعيَّة المحدَثة ما لبثَتْ أنْ أعلَنتْ إفلاسَها بسبب مبالغتها في تبنِّي نموذج العلم الطبيعي، واعتِمادها على تصوُّرات نظريَّة لا تُسهِم في فهْم حركة المجتمع بقدر ما تسعى إلى تجميده والتعبير عنه في شكْل صِياغات رياضيَّة خالية من نبْض الحياة الإنسانيَّة، وإذا كانت الوضعيَّة المحدَثة قد لقيَتْ مصيرها المحتوم، فإنَّ النَّزعة الوظيفيَّة ما لبثت أنْ تعرَّضتْ لضرباتٍ قاصمة".

"قَضايا الوظيفيَّة قَضايا باطلةٌ، لا تدعمها إلاَّ براهين بدائيَّة للغاية، إنها لا تقلُّ إلحادًا عن النظرية الماركسية... ولم تُوفَّق في تقديم تحليلات مُقنِعة، وبخاصَّة خارج منطقة الحضارة الأوربيَّة".

"الظاهراتيَّة والتفاعليَّة الرمزيَّة والبنائيَّة الوظيفيَّة هي عبارةٌ عن تقاليع تستخدم مفهومات مجرَّدة بالغة التعقيد، تستعصي على الفهْم، وتُظهِر المتحدِّث بمظهر العالم الفذِّ المتمكِّن، وتخفي حقيقة تعالمه، علاوةً على أنها عديمة الصلة بالواقع المعاش".

"أجهَدَ المنظِّرون الاجتماعيُّون أنفسَهم في محاربة بعضهم بعضًا، سقطت الوظيفيَّة ولم نعدْ نحن بحاجةٍ إليها الآن، وبسُقوطها فقَدَ علماء الاجتماع وحدتهم ومبرِّر وجودهم، عارضتْ نظريَّات الصِّراع الوظيفيَّة، لكنها لم تستَطِع أنْ تحتلَّ عرشها أوتوماتيكيًّا، وكما حدَث في الفصْل الأخير من تراجيديا شكسبير قتل كل بطلٍ الآخَر، ولم يعدْ لدينا الآن نظرية باقية".

"إنَّ هناك انحسارًا أكاديميًّا أدَّى إلى ضعفنا، وجعَل كلَّ شيء ينحدر إلى الأسوأ، إنَّه من الصعب علينا أن نعمل في بيئة مُشوَّهة ومعادية، إنَّ المزاج المعرفي الآن قد أنتج نماذج تفسيريَّة متعدِّدة متصارعة عن الكائن البشري".

ويعتَرِف العلماء الاجتماعيون بعدَّة حقائق مهمَّة عن العلوم والنظريَّات الاجتماعية، نوردها هنا على النحو التالي:
الأولى: أنَّ الحقل المعرفي الذي تطوَّرت فيه نظريَّات علم الاجتماع حقلٌ راعَى ما يسمَّى بقواعد اللعبة المشتركة والمقبولة ضمنيًّا من الجميع، والتي أوجدت حيِّزًا مكانيًّا مُشترَكًا لجميع الفرقاء.

الثانية: وننقلها هنا على لسان علماء الاجتماع الأمريكيين:
"تنطلق النظريَّات والنماذج والمنظورات الخاصَّة بعلم الاجتماع من داخل الأبنية العامَّة للمجتمعات الرأسماليَّة... وعلماء الاجتماع في هذه الأبنية يعيشون أصلاً في (سوق أكاديمي) يشتدُّ فيه الصراع على الهيبة والعُمَلاء والمستَمِعين، ولا بُدَّ في هذه السوق من الابتكار والاختراع لضَمان السوق والعملاء، ومن ثَمَّ لن يبقى في هذه السوق أصحاب النظريَّات والآراء القديمة؛ فالسوق لا يعيش بأفكار الأمس، بل بالأفكار الجديدة التي تُعطِي الهيبة، وتفتح مجالات ومؤتمرات ومراكز بحث وأقسام جديدة، إنَّ هذه الأفكار والآراء والنماذج الجديدة ليست بحثًا نبيلاً عن الحقيقة، إنها بحثٌ عن الهيبة والوظيفة والعُمَلاء".

الثالثة: أنَّ الشك في قيمة وجَدوَى العلوم الاجتماعية قد زاد في السنوات الأخيرة، وأنَّ المشتغِلين بهذه العلوم لم تكن لهم القُدرة على متابعة الأحداث المهمَّة، لا في مجتمعاتهم ولا عبر العالم، كما أنَّ قلَّة العائد الملموس من هذه العلوم لم يُمكِّن أصحابَها من تدعيم مركزهم أو إقناع حُكوماتهم بجدوى بحوثهم التي يشوبُها الجدل والافتراضات والتعميمات الفضفاضة التي لا تستند إلى أساسٍ مَتِين من الواقع، وقد أدَّى الشكُّ في هذه العلوم إلى زيادة حدَّة السخرية والتهكُّم اللاذع عليها باتِّهام العلماء الاجتماعيين بأنهم يقضون ربع قرنٍ من حياتهم للبرهنة على حقائق يعرفها الناس من أجْل إعطائها الصبغة العلميَّة.

الرابعة: أنَّ العلوم الاجتماعية ليست علومًا عالميَّة، ولا يمكن القول بأنَّ نتائجها ذات مصداقيَّة عالميَّة؛ لأنها لم تُجرَ إلا على الغرب الحديث، كما أنها لا تستند إلى قاعدةٍ كافية من المعلومات عن سائر المجتمعات البشريَّة؛ ولهذا فإنَّ نظريَّاتها لا تنطبق إلا على مجتمعات الغرب فقط.

الخامسة: أنَّ قادة الفِكر الغربي في العلوم الاجتماعية انطلقوا من مبدأ تفوُّق واستعلاء الغرب على العالم، وكان مفهوم التفوُّق الغربي مسلَّمة أساسيَّة عندهم، والذين حاوَلوا منهم إنصاف الإسلام مثل (رودنسون)، كان يستهدف القول للمسلمين بأنَّ الإسلام إنْ كان صالحًا للماضي فهو غير صالحٍ الآن.

السادسة: أنَّ العلوم الاجتماعية الغربية ارتبطت ارتباطًا مباشرًا بالدولة ومُخطَّطاتها؛ ولهذا فإنَّ النظريَّات الغربية سارت وفْق مخطط السيطرة الغربية على النظام العالمي، وعلى أساس مسلَّمة تفوُّق الغرب، وأنَّ الحضارة الغربية هي الغاية الوحيدة للتقدُّم العالمي المنشود؛ ولهذا لا بُدَّ من سِيادة أفكاره، ومشروعيَّة سَيْطرته على العالم.

السابعة: أنَّ الكثير من الدراسات الاجتماعية يتمُّ بتوجيهٍ من إدارات المخابرات في الدول المختلفة، ولا سيَّما المخابرات الأمريكيَّة التي تُسخِّر أعدادًا من المتخصِّصين للقيام بدِراسات معيَّنة ليس في أمريكا وحدَها بل في العالم كله؛ بغرض التنبُّؤ والتكهُّن، ثم التحكُّم والتوجيه والإدارة بما يتَّفق مع المصالح العسكريَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة الغربيَّة.

المصدر: حلقات من كتاب (اعترافات علماء الاجتماع، عقم النظرية وقصور المنهج في علم الاجتماع).


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 81.93 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 80.04 كيلو بايت... تم توفير 1.89 كيلو بايت...بمعدل (2.31%)]