تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى - الصفحة 24 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4418 - عددالزوار : 855047 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3949 - عددالزوار : 389893 )           »          معنى قوله تعالى: {ليبلوكم أيُّكم أحسنُ عملاً} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 58 )           »          تخصيص رمضان بالعبادة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 45 )           »          ذكر الله دواء لضيق الصدر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »          بيان فضل صيام الست من شوال وصحة الحديث بذلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 47 )           »          صيام الست من شوال قبل صيام الواجب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 41 )           »          صلاة الوتر بالمسجد جماعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »          قراءة القرآن بغير حفظ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 49 )           »          الإلحاح في الدعاء وعدم اليأس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 48 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #231  
قديم 22-01-2023, 04:10 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى




تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (5)
سُورَةُ النِّسَاءِ
من صــ 131 الى صــ 138
الحلقة (231)




قوله تعالى : والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا

قوله تعالى : والله يريد أن يتوب عليكم ابتداء وخبر . وأن في موضع نصب ب يريد وكذلك يريد الله أن يخفف عنكم ؛ ف ( أن ) يخفف في موضع نصب ب ( يريد ) والمعنى : يريد توبتكم ، أي يقبلها فيتجاوز عن ذنوبكم ويريد التخفيف عنكم . قيل : هذا في جميع أحكام الشرع ، وهو الصحيح . وقيل : المراد بالتخفيف نكاح الأمة ، أي لما علمنا ضعفكم عن الصبر عن النساء خففنا عنكم بإباحة الإماء ؛ قاله مجاهد وابن زيد وطاوس . قال طاوس : ليس يكون الإنسان في شيء أضعف منه في أمر النساء . واختلف في [ ص: 131 ] تعيين المتبعين للشهوات ؛ فقال مجاهد : هم الزناة . السدي : هم اليهود والنصارى . وقالت فرقة : هم اليهود خاصة ؛ لأنهم أرادوا أن يتبعهم المسلمون في نكاح الأخوات من الأب . وقال ابن زيد : ذلك على العموم ، وهو الأصح . والميل : العدول عن طريق الاستواء ؛ فمن كان عليها أحب أن يكون أمثاله عليها حتى لا تلحقه معرة .

قوله تعالى : وخلق الإنسان ضعيفا نصب على الحال ؛ والمعنى أن هواه يستميله وشهوته وغضبه يستخفانه ، وهذا أشد الضعف فاحتاج إلى التخفيف . وقال طاوس : ذلك في أمر النساء خاصة . وروي عن ابن عباس أنه قرأ " وخلق الإنسان ضعيفا " أي وخلق الله الإنسان ضعيفا ، أي لا يصبر عن النساء . قال ابن المسيب : لقد أتى علي ثمانون سنة وذهبت إحدى عيني وأنا أعشو بالأخرى وصاحبي أعمى أصم - يعني ذكره - وإني أخاف من فتنة النساء . ونحوه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، قال عبادة : ألا تروني لا أقوم إلا رفدا ولا آكل إلا ما لوق لي - قال يحيى : يعني لين وسخن - وقد مات صاحبي منذ زمان - قال يحيى : يعني ذكره - وما يسرني أني خلوت بامرأة لا تحل لي ، وأن لي ما تطلع عليه الشمس مخافة أن يأتيني الشيطان فيحركه علي ، إنه لا سمع له ولا بصر .
قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما

فيه تسع مسائل :

الأولى : قوله تعالى : بالباطل أي بغير حق . ووجوه ذلك تكثر على ما بيناه ؛ وقد قدمنا معناه في البقرة . ومن أكل المال بالباطل بيع العربان ؛ وهو أن يأخذ منك السلعة أو يكتري منك الدابة ويعطيك درهما فما فوقه ، على أنه إن اشتراها أو ركب الدابة فهو من ثمن السلعة أو كراء الدابة ؛ وإن ترك ابتياع السلعة أو كراء الدابة فما أعطاك فهو لك . فهذا لا يصلح ولا يجوز عند جماعة فقهاء الأمصار من الحجازيين والعراقيين ، لأنه من باب بيع القمار والغرر والمخاطرة ، وأكل المال بالباطل بغير عوض ولا هبة ، وذلك باطل بإجماع . وبيع العربان مفسوخ إذا وقع على هذا الوجه قبل القبض وبعده ، وترد السلعة إن كانت قائمة ، فإن فاتت رد [ ص: 132 ] قيمتها يوم قبضها . وقد روي عن قوم منهم ابن سيرين ومجاهد ونافع بن عبد الحارث وزيد بن أسلم أنهم أجازوا بيع العربان على ما وصفنا . وكان زيد بن أسلم يقول : أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو عمر : هذا لا يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه يصح ، وإنما ذكره عبد الرزاق عن الأسلمي عن زيد بن أسلم مرسلا ؛ وهذا ومثله ليس حجة . ويحتمل أن يكون بيع العربان الجائز على ما تأوله مالك والفقهاء معه ؛ وذلك أن يعربنه ثم يحسب عربانه من الثمن إذا اختار تمام البيع . وهذا لا خلاف في جوازه عن مالك وغيره ؛ وفي موطأ مالك عن الثقة عنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( نهى عن بيع العربان ) . قال أبو عمر : قد تكلم الناس في الثقة عنده في هذا الموضع ، وأشبه ما قيل فيه : أنه أخذه عن ابن لهيعة أو عن ابن وهب عن ابن لهيعة ؛ لأن ابن لهيعة سمعه من عمرو بن شعيب ورواه عنه . حدث به عن ابن لهيعة ابن وهب وغيره ، وابن لهيعة أحد العلماء إلا أنه يقال : إنه احترقت كتبه فكان إذا حدث بعد ذلك من حفظه غلط . وما رواه عنه ابن المبارك وابن وهب فهو عند بعضهم صحيح . ومنهم من يضعف حديثه كله . ، وكان عنده علم واسع وكان كثير الحديث ، إلا أن حاله عندهم كما وصفنا .

الثانية : قوله تعالى : إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم هذا استثناء منقطع ، أي ولكن تجارة عن تراض . والتجارة هي البيع والشراء ؛ وهذا مثل قوله تعالى : وأحل الله البيع وحرم الربا على ما تقدم . وقرئ " تجارة " ، بالرفع أي إلا أن تقع تجارة ؛ وعليه أنشد سيبويه :


فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي إذا كان يوم ذو كواكب أشهب
وتسمى هذه كان التامة ؛ لأنها تمت بفاعلها ولم تحتج إلى مفعول . وقرئ " تجارة " بالنصب ؛ فتكون كان ناقصة ؛ لأنها لا تتم بالاسم دون الخبر ، فاسمها مضمر فيها ، وإن شئت قدرته ، أي إلا أن تكون الأموال أموال تجارة ؛ فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وقد تقدم هذا ؛ ومنه قوله تعالى : وإن كان ذو عسرة .

الثالثة : قوله تعالى : تجارة التجارة في اللغة عبارة عن المعاوضة ؛ ومنه الأجر الذي يعطيه البارئ سبحانه العبد عوضا عن الأعمال الصالحة التي هي بعض من فعله ؛ قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم . وقال تعالى : [ ص: 133 ] يرجون تجارة لن تبور . وقال تعالى : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم الآية . فسمى ذلك كله بيعا وشراء على وجه المجاز ، تشبيها بعقود الأشربة والبياعات التي تحصل بها الأغراض ، وهي نوعان : تقلب في الحضر من غير نقلة ولا سفر ، وهذا تربص واحتكار قد رغب عنه أولو الأقدار ، وزهد فيه ذوو الأخطار . والثاني تقلب المال بالأسفار ونقله إلى الأمصار ، فهذا أليق بأهل المروءة ، وأعم جدوى ومنفعة ، غير أنه أكثر خطرا وأعظم غررا . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن المسافر وماله لعلى قلت إلا ما وقى الله . يعني على خطر . وقيل : في التوراة يا ابن آدم ، أحدث سفرا أحدث لك رزقا . الطبري : وهذه الآية أدل دليل على فساد قول : . . . . .

الرابعة : اعلم أن كل معاوضة تجارة على أي وجه كان العوض إلا أن قوله بالباطل أخرج منها كل عوض لا يجوز شرعا من ربا أو جهالة أو تقدير عوض فاسد كالخمر والخنزير وغير ذلك . وخرج منها أيضا كل عقد جائز لا عوض فيه ؛ كالقرض والصدقة والهبة لا للثواب . وجازت عقود التبرعات بأدلة أخرى مذكورة في مواضعها . فهذان طرفان متفق عليهما . وخرج منها أيضا دعاء أخيك إياك إلى طعامه . روى أبو داود عن ابن عباس في قوله تعالى : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم فكان الرجل يحرج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية ؛ فنسخ ذلك بالآية الأخرى التي في " النور " ؛ فقال : ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم إلى قوله أشتاتا ؛ فكان الرجل الغني يدعو الرجل من أهله إلى طعامه فيقول : إني لأجنح أن آكل منه - والتجنح الحرج ويقول : المسكين أحق به مني . فأحل في ذلك أن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ، وأحل طعام أهل الكتاب .

الخامسة : لو اشتريت من السوق شيئا ؛ فقال لك صاحبه قبل الشراء : ذقه وأنت في حل ؛ فلا تأكل منه ؛ لأن إذنه بالأكل لأجل الشراء ؛ فربما لا يقع بينكما شراء فيكون ذلك شبهة ، ولكن لو وصف لك صفة فاشتريته فلم تجده على تلك الصفة فأنت بالخيار .

السادسة : والجمهور على جواز الغبن في التجارة ؛ مثل أن يبيع رجل ياقوتة به بدرهم وهي تساوي مائة فذلك جائز ، وأن المالك الصحيح الملك جائز له أن يبيع ماله الكثير بالتافه [ ص: 134 ] اليسير ، وهذا ما لا اختلاف فيه بين العلماء إذا عرف قدر ذلك ، كما تجوز الهبة لو وهب . واختلفوا فيه إذا لم يعرف قدر ذلك ؛ فقال قوم : عرف قدر ذلك أو لم يعرف فهو جائز إذا كان رشيدا حرا بالغا . وقالت فرقة : الغبن إذا تجاوز الثلث مردود ، وإنما أبيح منه المتقارب المتعارف في التجارات ، وأما المتفاحش الفادح فلا ؛ وقاله ابن وهب من أصحاب مالك رحمه الله . والأول أصح ؛ لقوله عليه السلام في حديث الأمة الزانية . فليبعها ولو بضفير وقوله عليه السلام لعمر : لا تبتعه يعني الفرس - ولو أعطاكه بدرهم واحد وقوله عليه السلام : دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض وقوله عليه السلام : لا يبع حاضر لباد وليس فيها تفصيل بين القليل والكثير من ثلث ولا غيره .

السابعة : قوله تعالى : عن تراض منكم أي عن رضا ، إلا أنها جاءت من المفاعلة إذ التجارة من اثنين . واختلف العلماء في التراضي ؛ فقالت طائفة : تمامه وجزمه بافتراق الأبدان بعد عقدة البيع ، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه : اختر ؛ فيقول : قد اخترت ، وذلك بعد العقدة أيضا فينجزم أيضا وإن لم يتفرقا ؛ قاله جماعة من الصحابة والتابعين ، وبه قال الشافعي والثوري والأوزاعي والليث وابن عيينة وإسحاق وغيرهم . قال الأوزاعي : هما بالخيار ما لم يتفرقا ؛ إلا بيوعا ثلاثة : بيع السلطان المغانم ، والشركة في الميراث ، والشركة في التجارة ؛ فإذا صافقه في هذه الثلاثة فقد وجب البيع وليسا فيه بالخيار . وقال : وحد التفرقة أن يتوارى كل واحد منهما عن صاحبه ؛ وهو قول أهل الشام . وقال الليث : التفرق أن يقوم أحدهما . وكان أحمد بن حنبل يقول : هما بالخيار أبدا ما لم يتفرقا بأبدانهما ، وسواء قالا : اخترنا أو لم يقولاه حتى يفترقا بأبدانهما من مكانهما ؛ وقاله الشافعي أيضا . وهو الصحيح في هذا الباب للأحاديث الواردة في ذلك . وهو مروي عن ابن عمر وأبي برزة وجماعة من العلماء . وقال مالك وأبو حنيفة : تمام البيع هو أن يعقد البيع بالألسنة فينجزم العقد بذلك ويرتفع الخيار . قال محمد بن الحسن : معنى قوله في الحديث البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أن البائع إذا قال : قد بعتك ، فله أن يرجع ما لم يقل المشتري قد قبلت . وهو قول أبي حنيفة ، ونص مذهب مالك أيضا ، حكاه ابن خويز منداد . وقيل : ليس له أن يرجع . وقد مضى في " البقرة " . واحتج الأولون بما ثبت من حديث سمرة بن جندب وأبي برزة وابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص [ ص: 135 ] وأبي هريرة وحكيم بن حزام وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه اختر . رواه أيوب عن نافع عن ابن عمر ؛ فقوله عليه السلام في هذه الرواية : أو يقول أحدهما لصاحبه اختر هو معنى الرواية الأخرى إلا بيع الخيار وقوله : إلا أن يكون بيعهما عن خيار ونحوه . أي يقول أحدهما بعد تمام البيع لصاحبه : اختر إنفاذ البيع أو فسخه ؛ فإن اختار إمضاء البيع تم البيع بينهم وإن لم يتفرقا . وكان ابن عمر وهو راوي الحديث إذا بايع أحدا وأحب أن ينفذ البيع مشى قليلا ثم رجع . وفي الأصول : إن من روى حديثا فهو أعلم بتأويله ، لا سيما الصحابة إذ هم أعلم بالمقال وأقعد بالحال . وروى أبو داود والدارقطني عن أبي الوضيء قال : كنا في سفر في عسكر فأتى رجل معه فرس فقال له رجل منا : أتبيع هذا الفرس بهذا الغلام ؟ قال : نعم ؛ فباعه ثم بات معنا ، فلما أصبح قام إلى فرسه ، فقال له صاحبنا : ما لك والفرس ! أليس قد بعتنيها ؟ فقال : ما لي في هذا البيع من حاجة . فقال : ما لك ذلك ، لقد بعتني . فقال لهما القوم : هذا أبو برزة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتياه ؛ فقال لهما : أترضيان بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالا : نعم . فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : البيعان بالخيار ما لم يتفرقا وإني لا أراكما افترقتما . فهذان صحابيان قد علما مخرج الحديث وعملا بمقتضاه ، بل هذا كان عمل الصحابة . قال سالم : قال ابن عمر : كنا إذا تبايعنا كان كل واحد منا بالخيار ما لم يتفرق المتبايعان . قال : فتبايعت أنا وعثمان فبعته مالي بالوادي بمال له بخيبر ؛ قال : فلما بعته طفقت أنكص القهقرى ، خشية أن يرادني عثمان البيع قبل أن أفارقه . أخرجه الدارقطني ثم قال : إن أهل اللغة فرقوا بين فرقت مخففا وفرقت مثقلا ؛ فجعلوه بالتخفيف في الكلام وبالتثقيل في الأبدان . قال أحمد بن يحيى ثعلب : أخبرني ابن الأعرابي عن المفضل قال : يقال فرقت بين الكلامين مخففا فافترقا وفرقت بين اثنين مشددا فتفرقا ؛ فجعل الافتراق في القول ، والتفرق في الأبدان . احتجت المالكية بما تقدم بيانه في آية الدين ، وبقوله تعالى : أوفوا بالعقود وهذان قد تعاقدا . وفي هذا الحديث إبطال الوفاء بالعقود . قالوا : وقد يكون التفرق بالقول كعقد النكاح ووقوع الطلاق الذي قد سماه الله فراقا ؛ قال الله تعالى : وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وقال تعالى : ولا تكونوا كالذين تفرقوا وقال عليه السلام : تفترق أمتي ولم يقل بأبدانها . وقد روى الدارقطني وغيره عن عمرو بن شعيب قال : سمعت شعيبا يقول : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : أيما رجل ابتاع من رجل بيعة فإن كل واحد منهما بالخيار حتى يتفرقا من مكانهما إلا أن تكون صفقة خيار [ ص: 136 ] فلا يحل لأحدهما أن يفارق صاحبه مخافة أن يقيله . قالوا : فهذا يدل على أنه قد تم البيع بينهما قبل الافتراق ؛ لأن الإقالة لا تصح إلا فيما قد تم من البيوع . قالوا : ومعنى قوله المتبايعان بالخيار أي المتساومان بالخيار ما لم يعقدا فإذا عقدا بطل الخيار فيه . والجواب : أما ما اعتلوا به من الافتراق بالكلام فإنما المراد بذلك الأديان كما بيناه في " آل عمران " ، وإن كان صحيحا في بعض المواضع فهو في هذا الموضع غير صحيح . وبيانه أن يقال : خبرونا عن الكلام الذي وقع به الاجتماع وتم به البيع ، أهو الكلام الذي أريد به الافتراق أم غيره ؟ فإن قالوا : هو غيره فقد أحالوا وجاءوا بما لا يعقل ؛ لأنه ليس ثم كلام غير ذلك . وإن قالوا : هو ذلك الكلام بعينه قيل لهم : كيف يجوز أن يكون الكلام الذي به اجتمعا وتم به بيعهما ، به افترقا ، هذا عين المحال والفاسد من القول . وأما قوله : ولا يحل له أن يفارق صاحبه مخافة أن يقيله فمعناه - إن صح - على الندب ؛ بدليل قوله عليه السلام . من أقال مسلما أقاله الله عثرته وبإجماع المسلمين على أن ذلك يحل لفاعله على خلاف ظاهر الحديث ، ولإجماعهم أنه جائز له أن يفارقه لينفذ بيعه ولا يقيله إلا أن يشاء . وفيما أجمعوا عليه من ذلك رد لرواية من روى ( لا يحل ) فإن لم يكن وجه هذا الخبر الندب ، وإلا فهو باطل بالإجماع . وأما تأويل " المتبايعان " بالمتساومين فعدول عن ظاهر اللفظ ، وإنما معناه المتبايعان بعد عقدهما مخيران ما داما في مجلسهما ، إلا بيعا يقول أحدهما لصاحبه فيه : اختر فيختار ؛ فإن الخيار ينقطع بينهما وإن لم يتفرقا ؛ فإن فرض خيار فالمعنى : إلا بيع الخيار فإنه يبقى الخيار بعد التفرد بالأبدان . وتتميم هذا الباب في كتب الخلاف . وفي قول عمرو بن شعيب " سمعت أبي يقول " دليل على صحة حديثه ؛ فإن الدارقطني قال حدثنا أبو بكر النيسابوري حدثنا محمد بن علي الوراق قال : قلت لأحمد بن حنبل : شعيب سمع من أبيه شيئا ؟ قال : يقول حدثني أبي . قال : فقلت : فأبوه سمع من عبد الله بن عمرو ؟ قال : نعم ، أراه قد سمع منه . قال الدارقطني سمعت أبا بكر النيسابوري يقول : هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وقد صح سماع عمرو بن شعيب من أبيه شعيب وسماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو .

الثامنة : روى الدارقطني عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : التاجر الصدوق الأمين المسلم مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة . ويكره للتاجر أن يحلف لأجل ترويج السلعة وتزيينها ، أو يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في عرض سلعته ؛ وهو أن يقول : صلى الله على [ ص: 137 ] محمد ! ما أجود هذا . ويستحب للتاجر ألا تشغله تجارته عن أداء الفرائض ؛ فإذا جاء وقت الصلاة ينبغي أن يترك تجارته حتى يكون من أهل هذه الآية : رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وسيأتي .

التاسعة : وفي هذه الآية مع الأحاديث التي ذكرناها ما يرد قول من ينكر طلب الأقوات بالتجارات والصناعات من المتصوفة الجهلة ؛ لأن الله تعالى حرم أكلها بالباطل وأحلها بالتجارة ، وهذا بين .

قوله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم فيه مسألة واحدة - قرأ الحسن " تقتلوا " على التكثير . وأجمع أهل التأويل على أن المراد بهذه الآية النهي أن يقتل بعض الناس بعضا . ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل في الحرص على الدنيا وطلب المال بأن يحمل نفسه على الغرر المؤدي إلى التلف . ويحتمل أن يقال : ولا تقتلوا أنفسكم في حال ضجر أو غضب ؛ فهذا كله يتناوله النهي . وقد احتج عمرو بن العاص بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد حين أجنب في غزوة ذات السلاسل خوفا على نفسه منه ؛ فقرر النبي صلى الله عليه وسلم احتجاجه وضحك عنده ولم يقل شيئا . خرجه أبو داود وغيره ، وسيأتي .
قوله تعالى : ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا ذلك إشارة إلى القتل ؛ لأنه أقرب مذكور ؛ قاله عطاء . وقيل : هو عائد إلى أكل المال بالباطل وقتل النفس ؛ لأن النهي عنهما جاء متسقا مسرودا ، ثم ورد الوعيد حسب النهي . وقيل : هو عام على كل ما نهى عنه من القضايا ، من أول السورة إلى قوله تعالى : ومن يفعل ذلك . وقال الطبري : ذلك عائد على ما نهى عنه من آخر وعيد ، وذلك قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها لأن كل ما نهي عنه من أول السورة قرن به وعيد ، إلا من قوله : يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم فإنه لا وعيد بعده إلا قوله [ ص: 138 ] : ومن يفعل ذلك عدوانا . والعدوان تجاوز الحد . والظلم وضع الشيء في غير موضعه ، وقد تقدم . وقيد الوعيد بذكر العدوان والظلم ليخرج منه فعل السهو والغلط ، وذكر العدوان والظلم مع تقارب معانيهما لاختلاف ألفاظهما ، وحسن ذلك في الكلام كما قال عدي بن زيد :


فقددت الأديم لراهشه وألفى قولها كذبا ومينا
وحسن العطف لاختلاف اللفظين ؛ يقال : بعدا وسحقا ؛ ومنه قول يعقوب : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله . فحسن ذلك لاختلاف اللفظ . ونصليه معناه نمسه حرها . وقد بينا معنى الجمع بين هذه الآي وحديث أبي سعيد الخدري في العصاة وأهل الكبائر لمن أنفذ عليه الوعيد ؛ فلا معنى لإعادة ذلك . وقرأ الأعمش والنخعي " نصليه " بفتح النون ، على أنه منقول من صلى نارا ، أي أصليته ؛ وفي الخبر " شاة مصلية " . ومن ضم النون منقول بالهمزة ، مثل طعمت وأطعمت .
قوله تعالى : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما

فيه مسألتان :

الأولى : لما نهى تعالى في هذه السورة عن آثام هي كبائر ، وعد على اجتنابها التخفيف من الصغائر ، ودل هذا على أن في الذنوب كبائر وصغائر . وعلى هذا جماعة أهل التأويل وجماعة الفقهاء ، وأن اللمسة والنظرة تكفر باجتناب الكبائر قطعا بوعده الصدق وقوله الحق ، لا أنه يجب عليه ذلك . ونظير الكلام في هذا ما تقدم بيانه في قبول التوبة في قوله تعالى : إنما التوبة على الله ، فالله تعالى يغفر الصغائر باجتناب الكبائر ، لكن بضميمة أخرى إلى الاجتناب وهي إقامة الفرائض .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #232  
قديم 22-01-2023, 04:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (5)
سُورَةُ النِّسَاءِ
من صــ 139 الى صــ 146
الحلقة (232)


روى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر . وروى أبو حاتم البستي في صحيح مسنده عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر ثم قال : والذي نفسي بيده ثلاث مرات ، ثم سكت فأكب كل رجل منا يبكي حزينا ليمين رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : ما من عبد يؤدي الصلوات الخمس [ ص: 139 ] ويصوم رمضان ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له ثمانية أبواب من الجنة يوم القيامة حتى إنها لتصفق ثم تلا إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم . فقد تعاضد الكتاب وصحيح السنة بتكفير الصغائر قطعا كالنظر وشبهه . وبينت السنة أن المراد ب تجتنبوا ليس كل الاجتناب لجميع الكبائر . والله أعلم . وأما الأصوليون فقالوا : لا يجب على القطع تكفير الصغائر باجتناب الكبائر ، وإنما محمل ذلك على غلبة الظن وقوة الرجاء والمشيئة ثابتة . ودل على ذلك أنه لو قطعنا لمجتنب الكبائر وممتثل الفرائض تكفير صغائره قطعا لكانت له في حكم المباح الذي يقطع بألا تباعة فيه ، وذلك نقض لعرى الشريعة . ولا صغيرة عندنا . قال القشيري عبد الرحيم : والصحيح أنها كبائر ولكن بعضها أعظم وقعا من بعض ، والحكمة في عدم التمييز أن يجتنب العبد جميع المعاصي .

قلت : وأيضا فإن من نظر إلى نفس المخالفة كما قال بعضهم : - لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر من عصيت - كانت الذنوب بهذه النسبة كلها كبائر ، وعلى هذا النحو يخرج كلام القاضي أبي بكر بن الطيب والأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني وأبي المعالي وأبي نصر عبد الرحيم القشيري وغيرهم ؛ قالوا : وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها ، كما يقال الزنى صغيرة بإضافته إلى الكفر ، والقبلة المحرمة صغيرة بالنسبة إلى الزنى ، ولا ذنب عندنا يغفر باجتناب ذنب آخر ، بل كل ذلك كبيرة ومرتكبه في المشيئة غير الكفر ، لقوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء واحتجوا بقراءة من قرأ " إن تجتنبوا كبير ما تنهون عنه " على التوحيد ؛ وكبير الإثم الشرك . قالوا : وعلى الجمع فالمراد أجناس الكفر . والآية التي قيدت الحكم فترد إليها هذه المطلقات كلها قوله تعالى : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء . واحتجوا بما رواه مسلم وغيره عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة فقال له رجل : يا رسول الله ، وإن كان شيئا يسيرا ؟ قال : وإن كان قضيبا من أراك . فقد جاء الوعيد الشديد على اليسير كما جاء على الكثير . وقال ابن عباس : الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب . وقال ابن مسعود : الكبائر ما نهى الله عنه في هذه السورة إلى ثلاث وثلاثين آية ؛ وتصديقه قوله تعالى : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه . وقال طاوس : قيل لابن عباس الكبائر سبع ؟ قال : هي إلى السبعين أقرب . وقال سعيد بن جبير : قال رجل لابن عباس الكبائر [ ص: 140 ] سبع ؟ قال : هي إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع ؛ غير أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار . وروي عن ابن مسعود أنه قال : الكبائر أربعة : اليأس من روح الله ، والقنوط من رحمة الله ، والأمن من مكر الله ، والشرك بالله ؛ دل عليها القرآن .

وروي عن ابن عمر : هي تسع : قتل النفس ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، ورمي المحصنة ، وشهادة الزور ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف ، والسحر ، والإلحاد في البيت الحرام . ومن الكبائر عند العلماء : القمار والسرقة وشرب الخمر وسب السلف الصالح وعدول الحكام عن الحق واتباع الهوى واليمين الفاجرة والقنوط من رحمة الله وسب الإنسان أبويه - بأن يسب رجلا فيسب ذلك الرجل أبويه - والسعي في الأرض فسادا - ؛ إلى غير ذلك مما يكثر تعداده حسب ما جاء بيانها في القرآن ، وفي أحاديث خرجها الأئمة ، وقد ذكر مسلم في كتاب الإيمان منها جملة وافرة .

وقد اختلف الناس في تعدادها وحصرها لاختلاف الآثار فيها ؛ والذي أقول : إنه قد جاءت فيها أحاديث كثيرة صحاح وحسان لم يقصد بها الحصر ، ولكن بعضها أكبر من بعض بالنسبة إلى ما يكثر ضرره ، فالشرك أكبر ذلك كله ، وهو الذي لا يغفر لنص الله تعالى على ذلك ، وبعده اليأس من رحمة الله ؛ لأن فيه تكذيب القرآن ؛ إذ يقول وقوله الحق : ورحمتي وسعت كل شيء وهو يقول : لا يغفر له ؛ فقد حجر واسعا . هذا إذا كان معتقدا لذلك ؛ ولذلك قال الله تعالى : إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون . وبعده القنوط ؛ قال الله تعالى : ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون . وبعده الأمن من مكر الله فيسترسل في المعاصي ويتكل على رحمة الله من غير عمل ؛ قال الله تعالى : أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون . وقال تعالى : وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين . وبعده القتل ؛ لأن فيه إذهاب النفوس وإعدام الوجود ، واللواط فيه قطع النسل ، والزنى فيه اختلاط الأنساب بالمياه ، والخمر فيه ذهاب العقل الذي هو مناط التكليف ، وترك الصلاة والأذان فيه ترك إظهار شعائر الإسلام ، وشهادة الزور فيها استباحة الدماء والفروج والأموال ، إلى غير ذلك مما هو بين الضرر ؛ فكل ذنب عظم الشرع التوعد عليه بالعقاب وشدده ، أو عظم ضرره في الوجود كما ذكرنا فهو كبيرة وما عداه صغيرة . فهذا يربط لك هذا الباب ويضبطه ، والله أعلم .

[ ص: 141 ] الثانية : قوله تعالى : وندخلكم مدخلا كريما قرأ أبو عمرو وأكثر الكوفيين " مدخلا " بضم الميم ، فيحتمل أن يكون مصدرا ، أي إدخالا ، والمفعول محذوف أي وندخلكم الجنة إدخالا . ويحتمل أن يكون بمعنى المكان فيكون مفعولا . وقرأ أهل المدينة بفتح الميم ، فيجوز أن يكون مصدر دخل وهو منصوب بإضمار فعل ؛ التقدير وندخلكم فتدخلون مدخلا ، ودل الكلام عليه . ويجوز أن يكون اسم مكان فينتصب على أنه مفعول به ، أي وندخلكم مكانا كريما وهو الجنة . وقال أبو سعيد بن الأعرابي : سمعت أبا داود السجستاني يقول : سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول : المسلمون كلهم في الجنة ؛ فقلت له : وكيف ؟ قال : يقول الله عز وجل : إن تجتبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما يعني الجنة . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي . فإذا كان الله عز وجل يغفر ما دون الكبائر والنبي صلى الله عليه وسلم يشفع في الكبائر فأي ذنب يبقى على المسلمين .

وقال علماؤنا : الكبائر عند أهل السنة تغفر لمن أقلع عنها قبل الموت حسب ما تقدم . وقد يغفر لمن مات عليها من المسلمين كما قال تعالى : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء والمراد بذلك من مات على الذنوب ؛ فلو كان المراد من تاب قبل الموت لم يكن للتفرقة بين الإشراك وغيره معنى ؛ إذ التائب من الشرك أيضا مغفور له . وروي عن ابن مسعود أنه قال : خمس آيات من سورة النساء هي أحب إلي من الدنيا جميعا ، قوله تعالى : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه وقوله إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر الآية ، وقوله تعالى : ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه الآية ، وقوله تعالى : وإن تك حسنة يضاعفها ، وقوله تعالى : والذين آمنوا بالله ورسله . وقال ابن عباس : ثمان آيات في سورة النساء ، هن خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت : يريد الله ليبين لكم ، والله يريد أن يتوب عليكم ، يريد الله أن يخفف عنكم ، إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ، [ ص: 142 ] الآية ، إن الله لا يغفر أن يشرك به ، إن الله لا يظلم مثقال ذرة ، ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ، ما يفعل الله بعذابكم الآية .

قوله تعالى : ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما

فيه أربع مسائل :

الأولى : روى الترمذي عن أم سلمة أنها قالت : يغزو الرجال ولا يغزو النساء وإنما لنا نصف الميراث ؛ فأنزل الله تعالى : ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض . قال مجاهد : وأنزل فيها إن المسلمين والمسلمات ، وكانت أم سلمة أول ظعينة قدمت المدينة مهاجرة . قال أبو عيسى : هذا حديث مرسل ، ورواه بعضهم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، مرسل أن أم سلمة قالت كذا . وقال قتادة : كان الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصبيان ؛ فلما ورثوا وجعل للذكر مثل حظ الأنثيين تمنى النساء أن لو جعل أنصباؤهن كأنصباء الرجال . وقال الرجال : إنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا في الآخرة كما فضلنا عليهن في الميراث ؛ فنزلت ، ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض .

الثانية : قوله تعالى : " ولا تتمنوا " : التمني نوع من الإرادة يتعلق بالمستقبل ، كالتلهف نوع منها يتعلق بالماضي ؛ فنهى الله سبحانه المؤمنين عن التمني ؛ لأن فيه تعلق البال ونسيان الأجل . وقد اختلف العلماء هل يدخل في هذا النهي الغبطة ، وهي أن يتمنى الرجل أن يكون له حال صاحبه وإن لم يتمن زوال حاله . والجمهور على إجازة ذلك : مالك وغيره ؛ وهي المراد عند بعضهم في قوله عليه السلام لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار . فمعنى قوله [ ص: 143 ] : لا حسد أي : لا غبطة أعظم وأفضل من الغبطة في هذين الأمرين . وقد نبه البخاري على هذا المعنى حيث بوب على هذا الحديث ( باب الاغتباط في العلم والحكمة ) قال المهلب : بين الله تعالى في هذه الآية ما لا يجوز تمنيه ، وذلك ما كان من عرض الدنيا وأشباهها . قال ابن عطية : وأما التمني في الأعمال الصالحة فذلك هو الحسن ، وأما إذا تمنى المرء على الله من غير أن يقرن أمنيته بشيء مما قدمنا ذكره فذلك جائز ؛ وذلك موجود في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في قول : وددت أن أحيا ثم أقتل .

قلت : هذا الحديث هو الذي صدر به البخاري كتاب التمني في صحيحه ، وهو يدل على تمني الخير وأفعال البر والرغبة فيها ، وفيه فضل الشهادة على سائر أعمال البر ؛ لأنه عليه السلام تمناها دون غيرها ، وذلك لرفيع منزلتها وكرامة أهلها ، فرزقه الله إياها ؛ لقوله : ما زالت أكلة خيبر تعاودني الآن أوان قطعت أبهري . وفي الصحيح : إن الشهيد يقال له تمن فيقول أتمنى أن أرجع إلى الدنيا حتى أقتل في سبيلك مرة أخرى . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمنى إيمان أبي طالب وإيمان أبي لهب وصناديد قريش مع علمه بأنه لا يكون ؛ وكان يقول : واشوقاه إلى إخواني الذين يجيئون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني . وهذا كله يدل على أن التمني لا ينهى عنه إذا لم يكن داعية إلى الحسد والتباغض ، والتمني المنهي عنه في الآية من هذا القبيل ؛ فيدخل فيه أن يتمنى الرجل حال الآخر من دين أو دنيا على أن يذهب ما عند الآخر ، وسواء تمنيت مع ذلك أن يعود إليك أو لا . وهذا هو الحسد بعينه ، وهو الذي ذمه الله تعالى بقوله : أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ويدخل فيه أيضا خطبة الرجل على خطبة أخيه وبيعه على بيعه ؛ لأنه داعية الحسد والمقت . وقد كره بعض العلماء الغبطة وأنها داخلة في النهي ، والصحيح جوازها على ما بينا ، وبالله توفيقنا . وقال الضحاك : لا يحل لأحد أن يتمنى مال أحد ، ألم تسمع الذين قالوا : يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إلى أن قال : وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس حين خسف به وبداره وبأمواله لولا أن من الله علينا لخسف بنا وقال الكلبي : لا يتمن الرجل مال أخيه ولا امرأته ولا خادمه ولا دابته ؛ ولكن ليقل : اللهم ارزقني مثله . وهو كذلك في التوراة ، وكذلك قوله في القرآن واسألوا الله من فضله . وقال ابن عباس : نهى الله سبحانه أن يتمنى الرجل مال فلان [ ص: 144 ] وأهله ، وأمر عباده المؤمنين أن يسألوه من فضله . ومن الحجة للجمهور قوله صلى الله عليه وسلم : إنما الدنيا لأربعة نفر : رجل آتاه الله مالا وعلما فهو يتقي فيه ربه ويصل به رحمه ويعلم لله فيه حقا فهذا بأفضل المنازل ، ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا فهو صادق النية يقول لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته فأجرهما سواء الحديث . . . وقد تقدم . خرجه الترمذي وصححه .

وقال الحسن : لا يتمن أحدكم المال وما يدريه لعل هلاكه فيه ؛ وهذا إنما يصح إذا تمناه للدنيا ، وأما إذا تمناه للخير فقد جوزه الشرع ، فيتمناه العبد ليصل به إلى الرب ، ويفعل الله ما يشاء .

الثالثة : قوله تعالى : للرجال نصيب مما اكتسبوا يريد من الثواب والعقاب وللنساء كذلك ؛ قال قتادة . فللمرأة الجزاء على الحسنة بعشر أمثالها كما للرجال . وقال ابن عباس : المراد بذلك الميراث . والاكتساب على هذا القول بمعنى الإصابة ، للذكر مثل حظ الأنثيين ؛ فنهى الله عز وجل عن التمني على هذا الوجه لما فيه من دواعي الحسد ؛ ولأن الله تعالى أعلم بمصالحهم منهم ؛ فوضع القسمة بينهم على التفاوت على ما علم من مصالحهم .

الرابعة : قوله تعالى : واسألوا الله من فضله روى الترمذي عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سلوا الله من فضله فإنه يحب أن يسأل وأفضل العبادة انتظار الفرج وخرج أيضا ابن ماجه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من لم يسأل الله يغضب عليه . وهذا يدل على أن الأمر بالسؤال لله تعالى واجب ؛ وقد أخذ بعض العلماء هذا المعنى فنظمه فقال :


الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
وقال أحمد بن المعذل أبو الفضل الفقيه المالكي فأحسن :


التمس الأرزاق عند الذي ما دونه إن سيل من حاجب
من يبغض التارك تسآله جودا ومن يرضى عن الطالب
ومن إذا قال جرى قوله بغير توقيع إلى كاتب
وقد أشبعنا القول في هذا المعنى في كتاب " قمع الحرص بالزهد والقناعة " . وقال سعيد بن جبير : واسألوا الله من فضله العبادة ، ليس من أمر الدنيا . وقيل : سلوه التوفيق للعمل بما يرضيه . وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : سلوا ربكم حتى الشبع ؛ فإنه إن لم ييسره الله عز وجل لم يتيسر . وقال سفيان بن عيينة : لم يأمر بالسؤال إلا ليعطي .

[ ص: 145 ] وقرأ الكسائي وابن كثير : " وسلوا الله من فضله " بغير همز في جميع القرآن . الباقون بالهمز . " واسألوا الله " . وأصله بالهمز إلا أنه حذفت الهمزة للتخفيف . والله أعلم .
قوله تعالى : ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا

فيه خمس مسائل :

الأولى : بين تعالى أن لكل إنسان ورثة وموالي ؛ فلينتفع كل واحد بما قسم الله له من الميراث ، ولا يتمن مال غيره . وروى البخاري في كتاب الفرائض من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس : " ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم " قال : كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث الأنصاري المهاجري دون ذوي رحمه ؛ للأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ، فلما نزلت ولكل جعلنا موالي قال : نسختها " والذين عاقدت أيمانكم " . قال أبو الحسن بن بطال : وقع في جميع النسخ ولكل جعلنا موالي قال : نسختها " والذين عاقدت أيمانكم " . والصواب أن الآية الناسخة ولكل جعلنا موالي والمنسوخة " والذين عاقدت أيمانكم " ، وكذا رواه الطبري في روايته . وروي عن جمهور السلف أن الآية الناسخة لقوله : " والذين عاقدت أيمانكم " قوله تعالى في " الأنفال " : وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض . روي هذا عن ابن عباس وقتادة والحسن البصري ؛ وهو الذي أثبته أبو عبيد في كتاب " الناسخ والمنسوخ " له . وفيها قول آخر رواه الزهري عن سعيد بن المسيب قال : أمر الله عز وجل الذين تبنوا غير أبنائهم في الجاهلية وورثوا في الإسلام أن يجعلوا لهم نصيبا في الوصية ورد الميراث إلى ذوي الرحم والعصبة . وقالت طائفة : قوله تعالى : " والذين عاقدت أيمانكم " محكم وليس بمنسوخ ؛ وإنما أمر الله المؤمنين أن يعطوا الحلفاء أنصباءهم من النصرة والنصيحة وما أشبه ذلك ؛ ذكره الطبري عن ابن عباس . " والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم " من النصرة والنصيحة والرفادة ويوصي لهم وقد ذهب الميراث ؛ وهو قول مجاهد والسدي .

[ ص: 146 ] قلت : واختاره النحاس ؛ ورواه عن سعيد بن جبير ، ولا يصح النسخ ؛ فإن الجمع ممكن كما بينه ابن عباس فيما ذكره الطبري ، ورواه البخاري عنه في كتاب التفسير . وسيأتي ميراث " ذوي الأرحام " في " الأنفال " إن شاء الله تعالى .

الثانية : " كل " في كلام العرب معناها الإحاطة والعموم . فإذا جاءت مفردة فلا بد أن يكون في الكلام حذف عند جميع النحويين ؛ حتى إن بعضهم أجاز مررت بكل ، مثل قبل وبعد . وتقدير الحذف : ولكل أحد جعلنا موالي ، يعني ورثة . " والذين عاقدت أيمانكم " يعني بالحلف ؛ عن قتادة . وذلك أن الرجل كان يعاقد الرجل فيقول : دمي دمك ، وهدمي هدمك ، وثأري ثأرك ، وحربي حربك ، وسلمي سلمك ، وترثني وأرثك ، وتطلب بي وأطلب بك ، وتعقل عني وأعقل عنك ؛ فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف ثم نسخ .

الثالثة : قوله تعالى : " موالي " اعلم أن المولى لفظ مشترك يطلق على وجوه ؛ فيسمى المعتق مولى والمعتق مولى . ويقال : المولى الأسفل والأعلى أيضا . ويسمى الناصر المولى ؛ ومنه قوله تعالى : وأن الكافرين لا مولى لهم . ويسمى ابن العم مولى والجار مولى . فأما قوله تعالى : ولكل جعلنا موالي يريد عصبة ؛ لقوله عليه السلام : ما أبقت السهام فلأولى عصبة ذكر . ومن العصبات المولى الأعلى لا الأسفل ، على قول أكثر العلماء ؛ لأن المفهوم في حق المعتق أنه المنعم على المعتق ، كالموجد له ؛ فاستحق ميراثه لهذا المعنى . وحكى الطحاوي عن الحسن بن زياد أن المولى الأسفل يرث من الأعلى ؛ واحتج فيه بما روي أن رجلا أعتق عبدا له فمات المعتق ولم يترك إلا المعتق فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثه للغلام المعتق . قال الطحاوي : ولا معارض لهذا الحديث ، فوجب القول به ؛ ولأنه إذا أمكن إثبات الميراث للمعتق على تقدير أنه كان كالموجد له ، فهو شبيه بالأب ؛ والمولى الأسفل شبيه بالابن ؛ وذلك يقتضي التسوية بينهما في الميراث ، والأصل أن الاتصال يعم . وفي الخبر ( مولى القوم منهم ) . والذين خالفوا هذا وهم الجمهور قالوا : الميراث . يستدعي القرابة ولا قرابة ، غير أنا أثبتنا للمعتق الميراث بحكم الإنعام على المعتق ؛ فيقتضي مقابلة الإنعام بالمجازاة ، وذلك لا ينعكس في المولى الأسفل .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #233  
قديم 22-01-2023, 04:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (5)
سُورَةُ النِّسَاءِ
من صــ 147 الى صــ 154
الحلقة (233)


وأما الابن فهو أولى الناس بأن يكون خليفة أبيه وقائما مقامه ، وليس المعتق صالحا لأن يقوم مقام معتقه ، وإنما المعتق قد أنعم عليه فقابله [ ص: 147 ] الشرع بأن جعله أحق بمولاه المعتق ، ولا يوجد هذا في المولى الأسفل ؛ فظهر الفرق بينهما والله أعلم .

الرابعة : قوله تعالى : " والذين عاقدت أيمانكم " روى علي بن كبشة عن حمزة " عقدت " بتشديد القاف على التكثير . والمشهور عن حمزة " عقدت أيمانكم " مخففة القاف ، وهي قراءة عاصم والكسائي ، وهي قراءة بعيدة ؛ لأن المعاقدة لا تكون إلا من اثنين فصاعدا ، فبابها فاعل . قال أبو جعفر النحاس : وقراءة حمزة تجوز على غموض في العربية ، يكون التقدير فيها والذين عقدتهم أيمانكم الحلف ، وتعدى إلى مفعولين ؛ وتقديره : عقدت لهم أيمانكم الحلف ، ثم حذفت اللام مثل قوله تعالى : وإذا كالوهم أي كالوا لهم . وحذف المفعول الثاني ، كما يقال : كلتك أي كلت لك برا . وحذف المفعول الأول لأنه متصل في الصلة .

الخامسة : قوله تعالى : إن الله كان على كل شيء شهيدا أي قد شهد معاقدتكم إياهم ، وهو عز وجل يحب الوفاء .
قوله تعالى : الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا

فيه إحدى عشرة مسألة :

الأولى : قوله تعالى : الرجال قوامون على النساء ابتداء وخبر ، أي يقومون بالنفقة عليهن والذب عنهن ؛ وأيضا فإن فيهم الحكام والأمراء ومن يغزو ، وليس ذلك في النساء . يقال : قوام وقيم . والآية نزلت في سعد بن الربيع نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن [ ص: 148 ] خارجة بن أبي زهير فلطمها ؛ فقال أبوها : يا رسول الله ، أفرشته كريمتي فلطمها ! فقال عليه السلام : لتقتص من زوجها . فانصرفت مع أبيها لتقتص منه ، فقال عليه السلام : ارجعوا هذا جبريل أتاني فأنزل الله هذه الآية ؛ فقال عليه السلام : أردنا أمرا وأراد الله غيره . وفي رواية أخرى : أردت شيئا وما أراد الله خير . ونقض الحكم الأول . وقد قيل : إن في هذا الحكم المردود نزل ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه . ذكر إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا حجاج بن المنهال وعارم بن الفضل - واللفظ لحجاج - قال حدثنا جرير بن حازم قال : سمعت الحسن يقول : إن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إن زوجي لطم وجهي . فقال : بينكما القصاص ، فأنزل الله تعالى : ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه . وأمسك النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل : الرجال قوامون على النساء . وقال أبو روق : نزلت في جميلة بنت أبي وفي زوجها ثابت بن قيس بن شماس . وقال الكلبي : نزلت في عميرة بنت محمد بن مسلمة وفي زوجها سعد بن الربيع . وقيل : سببها قول أم سلمة المتقدم . ووجه النظم أنهن تكلمن في تفضيل الرجال على النساء في الإرث ، فنزلت ولا تتمنوا الآية . ثم بين تعالى أن تفضيلهم عليهن في الإرث لما على الرجال من المهر والإنفاق ؛ ثم فائدة تفضيلهم عائدة إليهن . ويقال : إن الرجال لهم فضيلة في زيادة العقل والتدبير ؛ فجعل لهم حق القيام عليهن لذلك . وقيل : للرجال زيادة قوة في النفس والطبع ما ليس للنساء ؛ لأن طبع الرجال غلب عليه الحرارة واليبوسة ، فيكون فيه قوة وشدة ، وطبع النساء غلب عليه الرطوبة والبرودة ، فيكون فيه معنى اللين والضعف ؛ فجعل لهم حق القيام عليهن بذلك ، وبقوله تعالى : وبما أنفقوا من أموالهم .

الثانية : ودلت هذه الآية على تأديب الرجال نساءهم ، فإذا حفظن حقوق الرجال فلا ينبغي أن يسيء الرجل عشرتها . و " قوام " فعال للمبالغة ؛ من القيام على الشيء والاستبداد بالنظر فيه وحفظه بالاجتهاد . فقيام الرجال على النساء هو على هذا الحد ؛ وهو أن يقوم بتدبيرها وتأديبها وإمساكها في بيتها ومنعها من البروز ، وأن عليها طاعته وقبول أمره ما لم تكن معصية ؛ وتعليل ذلك بالفضيلة والنفقة والعقل والقوة في أمر الجهاد والميراث والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وقد راعى بعضهم في التفضيل اللحية - وليس بشيء ؛ فإن اللحية قد تكون وليس معها شيء مما ذكرنا . وقد مضى الرد على هذا في " البقرة " .

[ ص: 149 ] الثالثة : قوله تعالى : وبما أنفقوا من أموالهم أنه متى عجز عن نفقتها لم يكن قواما عليها ، وإذا لم يكن قواما عليها كان لها فسخ العقد ؛ لزوال المقصود الذي شرع لأجله النكاح . وفيه دلالة واضحة من هذا الوجه على ثبوت فسخ النكاح عند الإعسار بالنفقة والكسوة ؛ وهو مذهب مالك والشافعي . وقال أبو حنيفة : لا يفسخ ؛ لقوله تعالى : وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وقد تقدم القول في هذا في هذه السورة .

الرابعة : قوله تعالى : فالصالحات قانتات حافظات للغيب هذا كله خبر ، ومقصوده الأمر بطاعة الزوج والقيام بحقه في ماله وفي نفسها في حال غيبة الزوج . وفي مسند أبي داود الطيالسي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خير النساء التي إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك قال : وتلا هذه الآية الرجال قوامون على النساء إلى آخر الآية . وقال صلى الله عليه وسلم لعمر : ألا أخبرك بخير ما يكنزه المرء المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته أخرجه أبو داود . وفي مصحف ابن مسعود " فالصوالح قوانت حوافظ " . وهذا بناء يختص بالمؤنث . قال ابن جني : والتكسير أشبه لفظا بالمعنى ؛ إذ هو يعطي الكثرة وهي المقصود هاهنا . وما في قوله : بما حفظ الله مصدرية ، أي بحفظ الله لهن . ويصح أن تكون بمعنى الذي ، ويكون العائد في حفظ ضمير نصب . وفي قراءة أبي جعفر " بما حفظ الله " بالنصب . قال النحاس : الرفع أبين ؛ أي حافظات لمغيب أزواجهن بحفظ الله ومعونته وتسديده . وقيل : بما حفظهن الله في مهورهن وعشرتهن . وقيل : بما استحفظهن الله إياه من أداء الأمانات إلى أزواجهن . ومعنى قراءة النصب : بحفظهن الله ؛ أي بحفظهن أمره أو دينه . وقيل في التقدير : بما حفظن الله ، ثم وحد الفعل ؛ كما قيل :


فإن الحوادث أودى بها
وقيل : المعنى بحفظ الله ؛ مثل حفظت الله .

الخامسة : قوله تعالى : واللاتي تخافون نشوزهن اللاتي جمع التي وقد تقدم . قال ابن عباس : تخافون بمعنى تعلمون وتتيقنون . وقيل هو على بابه . والنشوز العصيان ؛ مأخوذ من النشز ، وهو ما ارتفع من الأرض . يقال : نشز الرجل ينشز وينشز إذا كان قاعدا فنهض قائما ؛ ومنه قوله عز وجل : وإذا قيل انشزوا فانشزوا أي ارتفعوا وانهضوا إلى حرب أو [ ص: 150 ] أمر من أمور الله تعالى . فالمعنى : أي تخافون عصيانهن وتعاليهن عما أوجب الله عليهن من طاعة الأزواج . وقال أبو منصور اللغوي : النشوز كراهية كل واحد من الزوجين صاحبه ؛ يقال : نشزت تنشز فهي ناشز بغير هاء . ونشصت تنشص ، وهي السيئة للعشرة . وقال ابن فارس : ونشزت المرأة استصعبت على بعلها ، ونشز بعلها عليها إذا ضربها وجفاها . قال ابن دريد : نشزت المرأة ونشست ونشصت بمعنى واحد .

السادسة : قوله تعالى : فعظوهن أي بكتاب الله ؛ أي ذكروهن ما أوجب الله عليهن من حسن الصحبة وجميل العشرة للزوج ، والاعتراف بالدرجة التي له عليها ، ويقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها . وقال : لا تمنعه نفسها وإن كانت على ظهر قتب . وقال : أيما امرأة باتت هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح في رواية حتى تراجع وتضع يدها في يده . وما كان مثل هذا .

السابعة : قوله تعالى : واهجروهن في المضاجع وقرأ ابن مسعود والنخعي وغيرهما " في المضجع " على الإفراد ؛ كأنه اسم جنس يؤدي عن الجمع . والهجر في المضاجع هو أن يضاجعها ويوليها ظهره ولا يجامعها ؛ عن ابن عباس وغيره . وقال مجاهد : جنبوا مضاجعهن ؛ فيتقدر على هذا الكلام حذف ، ويعضده اهجروهن من الهجران ، وهو البعد ؛ يقال : هجره أي تباعد ونأى عنه . ولا يمكن بعدها إلا بترك مضاجعتها . وقال معناه إبراهيم النخعي والشعبي وقتادة والحسن البصري ، ورواه ابن وهب وابن القاسم عن مالك ، واختاره ابن العربي وقال : حملوا الأمر على الأكثر الموفي . ويكون هذا القول كما تقول : اهجره في الله . وهذا أصل مالك .

قلت : هذا قول حسن ؛ فإن الزوج إذا أعرض عن فراشها فإن كانت محبة للزوج فذلك يشق عليها فترجع للصلاح ، وإن كانت مبغضة فيظهر النشوز منها ؛ فيتبين أن النشوز من قبلها . وقيل : اهجروهن من الهجر وهو القبيح من الكلام ، أي غلظوا عليهن في القول وضاجعوهن للجماع وغيره ؛ قال معناه سفيان ، وروي عن ابن عباس . وقيل : أي شدوهن وثاقا في بيوتهن ؛ من قولهم : هجر البعير أي ربطه بالهجار ، وهو حبل يشد به البعير ، وهو اختيار الطبري وقدح في سائر الأقوال . وفي كلامه في هذا الموضع نظر . وقد رد عليه القاضي أبو [ ص: 151 ] بكر بن العربي في أحكامه فقال : يا لها من هفوة من عالم بالقرآن والسنة ! والذي حمله على هذا التأويل حديث غريب رواه ابن وهب عن مالك أن أسماء بنت أبي بكر الصديق امرأة الزبير بن العوام كانت تخرج حتى عوتب في ذلك . قال : وعتب عليها وعلى ضرتها ، فعقد شعر واحدة بالأخرى ثم ضربهما ضربا شديدا ، وكانت الضرة أحسن اتقاء ، وكانت أسماء لا تتقي فكان الضرب بها أكثر ؛ فشكت إلى أبيها أبي بكر رضي الله عنه فقال لها : أي بنية اصبري فإن الزبير رجل صالح ، ولعله أن يكون زوجك في الجنة ؛ ولقد بلغني أن الرجل إذا ابتكر بامرأة تزوجها في الجنة . فرأى الربط والعقد مع احتمال اللفظ مع فعل الزبير فأقدم على هذا التفسير . وهذا الهجر غايته عند العلماء شهر ؛ كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين أسر إلى حفصة فأفشته إلى عائشة ، وتظاهرتا عليه . ولا يبلغ به الأربعة الأشهر التي ضرب الله أجلا عذرا للمولى .

الثامنة : قوله تعالى : واضربوهن أمر الله أن يبدأ النساء بالموعظة أولا ثم بالهجران ، فإن لم يتجعا فالضرب ؛ فإنه هو الذي يصلحها له ويحملها على توفية حقه . والضرب في هذه الآية هو ضرب الأدب غير المبرح ، وهو الذي لا يكسر عظما ولا يشين جارحة كاللكزة ونحوها ؛ فإن المقصود منه الصلاح لا غير . فلا جرم إذا أدى إلى الهلاك وجب الضمان ، وكذلك القول في ضرب المؤدب غلامه لتعليم القرآن والأدب . وفي صحيح مسلم : اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح الحديث . أخرجه من حديث جابر الطويل في الحج ، أي لا يدخلن منازلكم أحدا ممن تكرهونه من الأقارب والنساء الأجانب . وعلى هذا يحمل ما رواه الترمذي وصححه عن عمرو بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ فقال : ألا واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ألا إن لكم على نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم من تكرهون ، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن . وقال : هذا حديث حسن صحيح . فقوله : بفاحشة مبينة يريد لا يدخلن من يكرهه أزواجهن ولا يغضبنهم . وليس المراد بذلك الزنى ؛ فإن ذلك محرم ويلزم عليه الحد . وقد قال عليه الصلاة والسلام : اضربوا النساء إذا عصينكم في معروف ضربا غير مبرح . قال عطاء : قلت لابن [ ص: 152 ] عباس ما الضرب غير المبرح ؟ قال بالسواك ونحوه . وروي أن عمر رضي الله عنه ضرب امرأته فعذل في ذلك فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يسأل الرجل فيم ضرب أهله .

التاسعة : قوله تعالى : فإن أطعنكم أي تركوا النشوز . فلا تبغوا عليهن سبيلا أي لا تجنوا عليهن بقول أو فعل . وهذا نهي عن ظلمهن بعد تقرير الفضل عليهن والتمكين من أدبهن . وقيل : المعنى لا تكلفوهن الحب لكم فإنه ليس إليهن .

العاشرة : قوله تعالى : إن الله كان عليا كبيرا إشارة إلى الأزواج بخفض الجناح ولين الجانب ؛ أي إن كنتم تقدرون عليهن فتذكروا قدرة الله ؛ فيده بالقدرة فوق كل يد . فلا يستعلي أحد على امرأته فالله بالمرصاد فلذلك حسن الاتصاف ، هنا بالعلو والكبر .

الحادية عشرة : وإذا ثبت هذا فاعلم . أن الله عز وجل لم يأمر في شيء من كتابه بالضرب صراحا إلا هنا وفي الحدود العظام ؛ فساوى معصيتهن بأزواجهن بمعصية الكبائر ، وولى الأزواج ذلك دون الأئمة ، وجعله لهم دون القضاة بغير شهود ولا بينات ائتمانا من الله تعالى للأزواج على النساء . قال المهلب : إنما جوز ضرب النساء من أجل امتناعهن على أزواجهن في المباضعة . واختلف في وجوب ضربها في الخدمة ، والقياس يوجب أنه إذا جاز ضربها في المباضعة جاز ضربها في الخدمة الواجبة للزوج عليها بالمعروف . وقال ابن خويز منداد . والنشوز يسقط النفقة وجميع الحقوق الزوجية ، ويجوز معه أن يضربها الزوج ضرب الأدب غير المبرح ، والوعظ والهجر حتى ترجع عن نشوزها ، فإذا رجعت عادت حقوقها ؛ وكذلك كل ما اقتضى الأدب فجائز للزوج تأديبها . ويختلف الحال في أدب الرفيعة والدنيئة ؛ فأدب الرفيعة العذل ، وأدب الدنيئة السوط . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : رحم الله امرأ علق سوطه وأدب أهله . وقال : إن أبا جهم لا يضع عصاه عن عاتقه . وقال بشار :


الحر يلحى والعصا للعبد
يلحى أي يلام ؛ وقال ابن دريد :


واللوم للحر مقيم رادع والعبد لا يردعه إلا العصا
قال ابن المنذر : اتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا جميعا بالغين إلا الناشز منهن الممتنعة . وقال أبو عمر : من نشزت عنه امرأته بعد دخوله سقطت عنه نفقتها إلا أن تكون حاملا . وخالف ابن القاسم جماعة الفقهاء في نفقة الناشز [ ص: 153 ] فأوجبها . وإذا عادت الناشز إلى زوجها وجب في المستقبل نفقتها . ولا تسقط نفقة المرأة عن زوجها لشيء غير النشوز ؛ لا من مرض ولا حيض ولا نفاس ولا صوم ولا حج ولا مغيب زوجها ولا حبسه عنها في حق أو جور غير ما ذكرنا . والله أعلم .
قوله تعالى : وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا

فيه خمس مسائل :

الأولى : قوله تعالى وإن خفتم شقاق بينهما قد تقدم معنى الشقاق في " البقرة " . فكأن كل واحد من الزوجين يأخذ شقا غير شق صاحبه ، أي ناحية غير ناحية صاحبه . والمراد إن خفتم شقاقا بينهما ؛ فأضيف المصدر إلى الظرف كقولك : يعجبني سير الليلة المقمرة ، وصوم يوم عرفة . وفي التنزيل : بل مكر الليل والنهار . وقيل : إن " بين " أجري مجرى الأسماء وأزيل عنه الظرفية ؛ إذ هو بمعنى حالهما وعشرتهما ، أي وإن خفتم تباعد عشرتهما وصحبتهما فابعثوا . وخفتم على الخلاف المتقدم . قال سعيد بن جبير : الحكم أن يعظها أولا ، فإن قبلت وإلا هجرها ، فإن هي قبلت وإلا ضربها ، فإن هي قبلت وإلا بعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها ، فينظران ممن الضرر ، وعند ذلك يكون الخلع . وقد قيل : له أن يضرب قبل الوعظ . والأول أصح لترتيب ذلك في الآية .

الثانية : والجمهور من العلماء على أن المخاطب بقوله : " وإن خفتم " الحكام والأمراء . وأن قوله : إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما يعني الحكمين ؛ في قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما . أي إن يرد الحكمان إصلاحا يوفق الله بين الزوجين . وقيل : المراد الزوجان ؛ أي إن يرد الزوجان إصلاحا وصدقا فيما أخبرا به الحكمين يوفق الله بينهما . وقيل : الخطاب للأولياء . يقول : إن خفتم أي علمتم خلافا بين الزوجين فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها والحكمان لا يكونان إلا من أهل الرجل والمرأة ؛ إذ هما أقعد بأحوال الزوجين ، ويكونان من أهل العدالة وحسن النظر والبصر بالفقه . فإن لم يوجد من أهلهما من يصلح لذلك فيرسل من غيرهما عدلين عالمين ؛ وذلك إذا أشكل أمرهما ولم يدر ممن الإساءة منهما . فأما إن عرف الظالم فإنه يؤخذ منه الحق لصاحبه ويجبر على إزالة الضرر . ويقال : إن الحكم من [ ص: 154 ] أهل الزوج يخلو به ويقول له : أخبرني بما في نفسك أتهواها أم لا حتى أعلم مرادك ؟ فإن قال : لا حاجة لي فيها خذ لي منها ما استطعت وفرق بيني وبينها ، فيعرف أن من قبله النشوز . وإن قال : إني أهواها فأرضها من مالي بما شئت ولا تفرق بيني وبينها ، فيعلم أنه ليس بناشز . ويخلو الحكم من جهتها بالمرأة ويقول لها : أتهوين زوجك أم لا ؛ فإن قالت : فرق بيني وبينه وأعطه من مالي ما أراد ؛ فيعلم أن النشوز من قبلها . وإن قالت : لا تفرق بيننا ولكن حثه على أن يزيد في نفقتي ويحسن إلي ، علم أن النشوز ليس من قبلها . فإذا ظهر لهما الذي كان النشوز من قبله يقبلان عليه بالعظة والزجر والنهي ؛ فذلك قوله تعالى : فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها .

الثالثة : قال العلماء : قسمت هذه الآية النساء تقسيما عقليا ؛ لأنهن إما طائعة وإما ناشز ؛ والنشوز إما أن يرجع إلى الطواعية أو لا . فإن كان الأول تركا ؛ لما رواه النسائي أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة فكان إذا دخل عليها تقول : يا بني هاشم ، والله لا يحبكم قلبي أبدا ! أين الذين أعناقهم كأباريق الفضة ! ترد أنوفهم قبل شفاههم ، أين عتبة بن ربيعة ، أين شيبة بن ربيعة ؛ فيسكت عنها ، حتى دخل عليها يوما وهو برم فقالت له : أين عتبة بن ربيعة ؟ فقال : على يسارك في النار إذا دخلت ؛ فنشرت عليها ثيابها ، فجاءت عثمان فذكرت له ذلك ؛ فأرسل ابن عباس ومعاوية ، فقال ابن عباس : لأفرقن بينهما ؛ وقال معاوية : ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف . فأتياهما فوجداهما قد سدا عليهما أبوابهما وأصلحا أمرهما . فإن وجداهما قد اختلفا ولم يصطلحا وتفاقم أمرهما سعيا في الألفة جهدهما ، وذكرا بالله وبالصحبة . فإن أنابا ورجعا تركاهما ، وإن كانا غير ذلك ورأيا الفرقة فرقا بينهما . وتفريقهما جائز على الزوجين ؛ وسواء وافق حكم قاضي البلد أو خالفه ، وكلهما الزوجان بذلك أو لم يوكلاهما . والفراق في ذلك طلاق بائن . وقال قوم : ليس لهما الطلاق ما لم يوكلهما الزوج في ذلك ، وليعرفا الإمام ؛ وهذا بناء على أنهما رسولان شاهدان . ثم الإمام يفرق إن أراد ويأمر الحكم بالتفريق . وهذا أحد قولي الشافعي ؛ وبه قال الكوفيون ، وهو قول عطاء وابن زيد والحسن ، وبه قال أبو ثور . والصحيح الأول ، لأن للحكمين التطليق دون توكيل ؛ وهو قول مالك والأوزاعي وإسحاق وروي عن عثمان وعلي وابن عباس ، وعن الشعبي والنخعي ، وهو قول الشافعي ؛ لأن الله تعالى قال : فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها وهذا نص من الله سبحانه بأنهما قاضيان لا وكيلان ولا شاهدان . وللوكيل اسم في الشريعة ومعنى ، وللحكم اسم في الشريعة ومعنى ؛ فإذا بين الله كل واحد منهما فلا ينبغي لشاذ - فكيف لعالم - أن يركب معنى أحدهما على الآخر ! .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #234  
قديم 22-01-2023, 04:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (5)
سُورَةُ النِّسَاءِ
من صــ 155 الى صــ 162
الحلقة (234)


وقد روى الدارقطني من حديث محمد بن [ ص: 155 ] سيرين عن عبيدة في هذه الآية وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها قال : جاء رجل وامرأة إلى علي مع كل واحد منهما فئام من الناس فأمرهم فبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ، وقال للحكمين : هل تدريان ما عليكما ؟ عليكما إن رأيتما أن تفرقا فرقتما . فقالت المرأة : رضيت بكتاب الله بما علي فيه ولي . وقال الزوج : أما الفرقة فلا . فقال علي : كذبت ، والله لا تبرح حتى تقر بمثل الذي أقرت به . وهذا إسناد صحيح ثابت روي عن علي من وجوه ثابتة عن ابن سيرين عن عبيدة ؛ قاله أبو عمر . فلو كانا وكيلين أو شاهدين لم يقل لهما : أتدريان ما عليكما ؟ إنما كان يقول : أتدريان بما وكلتما ؟ وهذا بين . احتج أبو حنيفة بقول علي رضي الله عنه للزوج : لا تبرح حتى ترضى بما رضيت به . فدل على أن مذهبه أنهما لا يفرقان إلا برضا الزوج ، وبأن الأصل المجتمع عليه أن الطلاق بيد الزوج أو بيد من جعل ذلك إليه . وجعله مالك ومن تابعه من باب طلاق السلطان على المولى والعنين .

الرابعة : فإن اختلف الحكمان لم ينفذ قولهما ولم يلزم من ذلك شيء إلا ما اجتمعا عليه . وكذلك كل حكمين حكما في أمر ؛ فإن حكم أحدهما بالفرقة ولم يحكم بها الآخر ، أو حكم أحدهما بمال وأبى الآخر فليسا بشيء حتى يتفقا . وقال مالك في الحكمين يطلقان ثلاثا قال : تلزم واحدة وليس لهما الفراق بأكثر من واحدة بائنة ؛ وهو قول ابن القاسم . وقال ابن القاسم أيضا : تلزمه الثلاث إن اجتمعا عليها ؛ وقاله المغيرة وأشهب وابن الماجشون وأصبغ . وقال ابن المواز : إن حكم أحدهما بواحدة والآخر بثلاث فهي واحدة . وحكى ابن حبيب عن أصبغ أن ذلك ليس بشيء .

الخامسة : ويجزئ إرسال الواحد ؛ لأن الله سبحانه حكم في الزنى بأربعة شهود ، ثم قد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المرأة الزانية أنيسا وحده وقال له : إن اعترفت فارجمها وكذلك قال عبد الملك في المدونة .

قلت : وإذا جاز إرسال الواحد فلو حكم الزوجان واحدا لأجزأ ، وهو بالجواز أولى إذا رضيا بذلك ، وإنما خاطب الله بالإرسال الحكام دون الزوجين . فإن أرسل الزوجان حكمين وحكما نفذ حكمهما ؛ لأن التحكيم عندنا جائز ، وينفذ فعل الحكم في كل مسألة . هذا إذا كان كل واحد منهما عدلا ، ولو كان غير عدل قال عبد الملك : حكمه منقوض ؛ لأنهما تخاطرا بما لا ينبغي من الغرر . قال ابن العربي : والصحيح نفوذه ؛ لأنه إن كان توكيلا ففعل الوكيل نافذ ، [ ص: 156 ] وإن كان تحكيما فقد قدماه على أنفسهما وليس الغرر بمؤثر فيه كما لم يؤثر في باب التوكيل ، وباب القضاء مبني على الغرر كله ، وليس يلزم فيه معرفة المحكوم عليه بما يئول إليه الحكم . قال ابن العربي : مسألة الحكمين نص الله عليها وحكم بها عند ظهور الشقاق بين الزوجين ، واختلاف ما بينهما . وهي مسألة عظيمة اجتمعت الأمة على أصلها في البعث ، وإن اختلفوا في تفاصيل ما ترتب عليه . وعجبا لأهل بلدنا حيث غفلوا عن موجب الكتاب والسنة في ذلك وقالوا : يجعلان على يدي أمين ؛ وفي هذا من معاندة النص ما لا يخفى عليكم ، فلا بكتاب الله ائتمروا ولا بالأقيسة اجتزءوا . وقد ندبت إلى ذلك فما أجابني إلى بعث الحكمين عند الشقاق إلا قاض واحد ، ولا بالقضاء باليمين مع الشاهد إلا آخر ، فلما ملكني الله الأمر أجريت السنة كما ينبغي . ولا تعجب لأهل بلدنا لما غمرهم من الجهالة ، ولكن اعجب لأبي حنيفة ليس للحكمين عنده خبر ، بل اعجب مرتين للشافعي فإنه قال : الذي يشبه ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين معا حتى يشتبه فيه حالاهما . قال : وذلك أني وجدت الله عز وجل أذن في نشوز الزوج بأن يصطلحا وأذن في خوفهما ألا يقيما حدود الله بالخلع وذلك يشبه أن يكون برضا المرأة . وحظر أن يأخذ الزوج مما أعطى شيئا إذا أراد استبدال زوج مكان زوج ؛ فلما أمر فيمن خفنا الشقاق بينهما بالحكمين دل على أن حكمهما غير حكم الأزواج ، فإذا كان كذلك بعث حكما من أهله وحكما من أهلها ، ولا يبعث الحكمين إلا مأمونين برضا الزوجين وتوكيلهما بأن يجمعا أو يفرقا إذا رأيا ذلك . وذلك يدل على أن الحكمين وكيلان للزوجين . قال ابن العربي : هذا منتهى كلام الشافعي ، وأصحابه يفرحون به وليس فيه ما يلتفت إليه ولا يشبه نصابه في العلم ، وقد تولى الرد عليه القاضي أبو إسحاق ولم ينصفه في الأكثر . أما قوله : " الذي يشبه ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين " فليس بصحيح بل هو نصه ، وهي من أبين آيات القرآن وأوضحها جلاء ؛ فإن الله تعالى قال : الرجال قوامون على النساء - ومن خاف من امرأته نشوزا وعظها ، فإن أنابت وإلا هجرها في المضجع ، فإن ارعوت وإلا ضربها ، فإن استمرت في غلوائها مشى الحكمان إليهما . وهذا إن لم يكن نصا فليس في القرآن بيان . ودعه لا يكون نصا ، يكون ظاهرا ؛ فأما أن يقول الشافعي : يشبه الظاهر فلا ندري ما الذي أشبه الظاهر ؟ . ثم قال : " وأذن في خوفهما ألا يقيما حدود الله بالخلع وذلك يشبه أن يكون برضا المرأة ، بل يجب أن يكون كذلك وهو نصه " . ثم قال : " فلما أمر بالحكمين علمنا أن حكمهما غير حكم الأزواج ، ويجب أن يكون غيره بأن ينفذ عليهما من غير اختيارهما فتتحقق الغيرية . فأما إذا أنفذا عليهما ما وكلاهما به فلم يحكما بخلاف أمرهما فلم تتحقق الغيرية " . وأما قوله " برضى [ ص: 157 ] الزوجين وتوكيلهما " فخطأ صراح ؛ فإن الله سبحانه خاطب غير الزوجين إذا خاف الشقاق بين الزوجين بإرسال الحكمين ، وإذا كان المخاطب غيرهما كيف يكون ذلك بتوكيلهما ، ولا يصح لهما حكم إلا بما اجتمعا عليه . هذا وجه الإنصاف والتحقيق في الرد عليه . وفي هذه الآية دليل على إثبات التحكيم ، وليس كما تقول الخوارج إنه ليس التحكيم لأحد سوى الله تعالى . وهذه كلمة حق ولكن يريدون بها الباطل .
قوله تعالى واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا

فيه ثمان عشرة مسألة :

الأولى : أجمع العلماء على أن هذه الآية من المحكم المتفق عليه ، ليس منها شيء منسوخ . وكذلك هي في جميع الكتب . ولو لم يكن كذلك لعرف ذلك من جهة العقل ، وإن لم ينزل به الكتاب . وقد مضى معنى العبودية وهي التذلل والافتقار ، لمن له الحكم والاختيار ؛ فأمر الله تعالى عباده بالتذلل له والإخلاص فيه ، فالآية أصل في خلوص الأعمال لله تعالى وتصفيتها من شوائب الرياء وغيره ؛ قال الله تعالى فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا حتى لقد قال بعض علمائنا : إنه من تطهر تبردا أو صام محما لمعدته ونوى مع ذلك التقرب لم يجزه ؛ لأنه مزج في نية التقرب نية دنياوية وليس لله إلا العمل الخالص ؛ كما قال تعالى : ألا لله الدين الخالص . وقال تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين . وكذلك إذا أحس الرجل بداخل في الركوع وهو إمام لم ينتظره ؛ لأنه يخرج ركوعه بانتظاره عن كونه خالصا لله تعالى . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله تبارك وتعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا [ ص: 158 ] أشرك فيه معي غيري تركته وشركه . وروى الدارقطني عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يجاء يوم القيامة بصحف مختمة فتنصب بين يدي الله تعالى فيقول الله تعالى للملائكة : ألقوا هذا واقبلوا هذا فتقول الملائكة : وعزتك ما رأينا إلا خيرا فيقول الله عز وجل - وهو أعلم - : إن هذا كان لغيري ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما كان ابتغي به وجهي . وروي أيضا عن الضحاك بن قيس الفهري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى يقول : أنا خير شريك فمن أشرك معي شريكا فهو لشريكي ، يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله تعالى فإن الله لا يقبل إلا ما خلص له ولا تقولوا هذا لله وللرحم فإنها للرحم وليس لله منها شيء ولا تقولوا هذا لله ولوجوهكم فإنها لوجوهكم وليس لله تعالى منها شيء .

مسألة : إذا ثبت هذا فاعلم أن علماءنا رضي الله عنهم قالوا : الشرك على ثلاث مراتب وكله محرم .

وأصله اعتقاد شريك لله في ألوهيته ، وهو الشرك الأعظم وهو شرك الجاهلية ، وهو المراد بقوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء . ويليه في الرتبة اعتقاد شريك لله تعالى في الفعل ، وهو قول من قال : إن موجودا ما غير الله تعالى يستقل بإحداث فعل وإيجاده وإن لم يعتقد كونه إلها كالقدرية مجوس هذه الأمة ، وقد تبرأ منهم ابن عمر كما في حديث جبريل عليه السلام . ويلي هذه الرتبة الإشراك في العبادة وهو الرياء ؛ وهو أن يفعل شيئا من العبادات التي أمر الله بفعلها له لغيره . وهذا هو الذي سيقت الآيات والأحاديث لبيان تحريمه ، وهو مبطل للأعمال وهو خفي لا يعرفه كل جاهل غبي . ورضي الله عن المحاسبي فقد أوضحه في كتابه " الرعاية " وبين إفساده للأعمال . وفي سنن ابن ماجه عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري وكان من الصحابة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله لله عز وجل أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك . وفيه عن أبي سعيد الخدري قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر المسيح الدجال فقال : ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال ؟ قال : فقلنا بلى يا رسول الله ؛ فقال : الشرك [ ص: 159 ] الخفي أن يقوم الرجل يصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل . وفيه عن شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أخوف ما أتخوف على أمتي الإشراك بالله أما إني لست أقول يعبدون شمسا ولا قمرا ولا وثنا ولكن أعمالا لغير الله وشهوة خفية خرجه الترمذي الحكيم . وسيأتي في آخر الكهف ، وفيه بيان الشهوة الخفية . وروى ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشهوة الخفية فقال : هو الرجل يتعلم العلم يحب أن يجلس إليه . قال سهل بن عبد الله التستري رضي الله عنه : الرياء على ثلاثة وجوه ؛ أحدها : أن يعقد في أصل فعله لغير الله ويريد به أن يعرف أنه لله ، فهذا صنف من النفاق وتشكك في الإيمان . والآخر : يدخل في الشيء لله فإذا اطلع عليه غير الله نشط ، فهذا إذا تاب يزيد أن يعيد جميع ما عمل . والثالث : دخل في العمل بالإخلاص وخرج به لله فعرف بذلك ومدح عليه وسكن إلى مدحهم ؛ فهذا الرياء الذي نهى الله عنه . قال سهل : قال لقمان لابنه : الرياء أن تطلب ثواب عملك في دار الدنيا ، وإنما عمل القوم للآخرة . قيل له : فما دواء الرياء ؟ قال كتمان العمل ، قيل له : فكيف يكتم العمل ؟ قال : ما كلفت إظهاره من العمل فلا تدخل فيه إلا بالإخلاص ، وما لم تكلف إظهاره أحب ألا يطلع عليه إلا الله . قال : وكل عمل اطلع عليه الخلق فلا تعده من العمل . وقال أيوب السختياني : ما هو بعاقل من أحب أن يعرف مكانه من عمله .

قلت : قول سهل " والثالث دخل في العمل بالإخلاص " إلى آخره ، إن كان سكونه وسروره إليهم لتحصل منزلته في قلوبهم فيحمدوه ويجلوه ويبروه وينال ما يريده منهم من مال أو غيره فهذا مذموم ؛ لأن قلبه مغمور فرحا باطلاعهم عليه ، وإن كانوا قد اطلعوا عليه بعد الفراغ . فأما من أطلع الله عليه خلقه وهو لا يحب اطلاعهم عليه فيسر بصنع الله وبفضله عليه فسروره بفضل الله طاعة ؛ كما قال تعالى : قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون . وبسط هذا وتتميمه في كتاب " الرعاية للمحاسبي " ، فمن أراده فليقف عليه هناك . وقد سئل سهل عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم أني أسر العمل فيطلع عليه فيعجبني قال : يعجبه من جهة الشكر لله الذي أظهره الله عليه أو نحو هذا . فهذه جملة كافية في الرياء وخلوص الأعمال . وقد مضى في " البقرة " . حقيقة الإخلاص . والحمد لله .

الثانية : قوله تعالى : وبالوالدين إحسانا قد تقدم في صدر هذه السورة أن من الإحسان إليهما عتقهما ، ويأتي في " سبحان " حكم برهما معنى مستوفى . وقرأ ابن أبي عبلة [ ص: 160 ] " إحسان " بالرفع أي واجب الإحسان إليهما . الباقون بالنصب ، على معنى أحسنوا إليهما إحسانا . قال العلماء : فأحق الناس بعد الخالق المنان بالشكر والإحسان والتزام البر والطاعة له والإذعان من قرن الله الإحسان إليه بعبادته وطاعته وشكره بشكره وهما الوالدان ؛ فقال تعالى : أن اشكر لي ولوالديك . وروى شعبة وهشيم الواسطيان عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رضا الرب في رضا الوالدين وسخطه في سخط الوالدين .

الثالثة : قوله تعالى : وبذي القربى واليتامى والمساكين وقد مضى الكلام فيه في البقرة

الرابعة : قوله تعالى : والجار ذي القربى والجار الجنب أما الجار فقد أمر الله تعالى بحفظه والقيام بحقه والوصاة برعي ذمته في كتابه وعلى لسان نبيه . ألا تراه سبحانه أكد ذكره بعد الوالدين والأقربين فقال تعالى : والجار ذي القربى أي القريب . والجار الجنب أي الغريب ؛ قاله ابن عباس ، وكذلك هو في اللغة . ومنه فلان أجنبي ، وكذلك الجنابة البعد . وأنشد أهل اللغة :


فلا تحرمني نائلا عن جنابة فإني امرؤ وسط القباب غريب
وقال الأعشى :


أتيت حريثا زائرا عن جنابة فكان حريث عن عطائي جامدا
وقرأ الأعمش والمفضل " والجار الجنب " بفتح الجيم وسكون النون وهما لغتان ؛ يقال : جنب وجنب وأجنب وأجنبي إذا لم يكن بينهما قرابة ، وجمعه أجانب . وقيل : على تقدير حذف المضاف ، أي والجار ذي الجنب أي ذي الناحية . وقال نوف الشامي : الجار ذي القربى المسلم والجار الجنب اليهودي والنصراني .

قلت : وعلى هذا فالوصاة بالجار مأمور بها مندوب إليها مسلما كان أو كافرا ، وهو الصحيح . والإحسان قد يكون بمعنى المواساة ، وقد يكون بمعنى حسن العشرة وكف الأذى والمحاماة دونه . روى البخاري عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما زال جبريل يوصيني بالجار [ ص: 161 ] حتى ظننت أنه سيورثه . وروي عن أبي شريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن ) قيل : يا رسول الله ومن ؟ قال : ( الذي لا يأمن جاره بوائقه وهذا عام في كل جار . وقد أكد عليه السلام ترك إذايته بقسمه ثلاث مرات ، وأنه لا يؤمن الإيمان الكامل من آذى جاره . فينبغي للمؤمن أن يحذر أذى جاره ، وينتهي عما نهى الله ورسوله عنه ، ويرغب فيما رضياه وحضا العباد عليه . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : الجيران ثلاثة فجار له ثلاثة حقوق وجار له حقان وجار له حق واحد فأما الجار الذي له ثلاثة حقوق فالجار المسلم القريب له حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام والجار الذي له حقان فهو الجار المسلم فله حق الإسلام وحق الجوار والجار الذي له حق واحد هو الكافر له حق الجوار .

الخامسة : روى البخاري عن عائشة قالت : قلت يا رسول الله ، إن لي جارين فإلى أيهما أهدي ، قال : إلى أقربهما منك بابا . فذهب جماعة من العلماء إلى أن هذا الحديث يفسر المراد من قوله تعالى : والجار ذي القربى وأنه القريب المسكن منك . والجار الجنب هو البعيد المسكن منك . واحتجوا بهذا على إيجاب الشفعة للجار ، وعضدوه وبقوله عليه السلام : الجار أحق بصقبه . ولا حجة في ذلك ، فإن عائشة رضي الله عنها إنما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عمن تبدأ به من جيرانها في الهدية فأخبرها أن من قرب بابه فإنه أولى بها من غيره . قال ابن المنذر : فدل هذا الحديث على أن الجار يقع على غير اللصيق . وقد خرج أبو حنيفة عن ظاهر هذا الحديث فقال : إن الجار اللصيق إذا ترك الشفعة وطلبها الذي يليه وليس له جدار إلى الدار ولا طريق لا شفعة فيه له . وعوام العلماء يقولون : إن أوصى الرجل لجيرانه أعطي اللصيق وغيره ؛ إلا أبا حنيفة فإنه فارق عوام العلماء وقال : لا يعطى إلا اللصيق وحده .

السادسة : واختلف الناس في حد الجيرة ؛ فكان الأوزاعي يقول : أربعون دارا من كل ناحية ؛ وقاله ابن شهاب . وروي أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني نزلت محلة قوم وإن أقربهم إلي جوارا أشدهم لي أذى ؛ فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعليا يصيحون على أبواب [ ص: 162 ] المساجد : ألا إن أربعين دارا جار ولا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه . وقال علي بن أبي طالب : من سمع النداء فهو جار . وقالت فرقة : من سمع إقامة الصلاة فهو جار ذلك المسجد . وقالت فرقة : من ساكن رجلا في محلة أو مدينة فهو جار . قال الله تعالى : لئن لم ينته المنافقون إلى قوله : ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا فجعل تعالى اجتماعهم في المدينة جوارا . والجيرة مراتب بعضها ألصق من بعض ، أدناها الزوجة ؛ كما قال :


أيا جارتا بيني فإنك طالقه


السابعة : ومن إكرام الجار ما رواه مسلم عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك . فحض عليه السلام على مكارم الأخلاق ؛ لما رتب عليها من المحبة وحسن العشرة ودفع الحاجة والمفسدة ؛ فإن الجار قد يتأذى بقتار قدر جاره ، وربما تكون له ذرية فتهيج من ضعفائهم الشهوة ، ويعظم على القائم عليهم الألم والكلفة ، لا سيما إن كان القائم ضعيفا أو أرملة فتعظم المشقة ويشتد منهم الألم والحسرة . وهذه كانت عقوبة يعقوب في فراق يوسف عليهما السلام فيما قيل . وكل هذا يندفع بتشريكهم في شيء من الطبيخ يدفع إليهم ، ولهذا المعنى حض عليه السلام الجار القريب بالهدية ؛ لأنه ينظر إلى ما يدخل دار جاره وما يخرج منها ، فإذا رأى ذلك أحب أن يشارك فيه ؛ وأيضا فإنه أسرع إجابة لجاره عندما ينوبه من حاجة في أوقات الغفلة والغرة ؛ فلذلك بدأ به على من بعد بابه وإن كانت داره أقرب . والله أعلم .

الثامنة : قال العلماء : لما قال عليه السلام فأكثر ماءها نبه بذلك على تيسير الأمر على البخيل تنبيها لطيفا ، وجعل الزيادة فيما ليس له ثمن وهو الماء ؛ ولذلك لم يقل : إذا طبخت مرقة فأكثر لحمها ؛ إذ لا يسهل ذلك على كل أحد . ولقد أحسن القائل :


قدري وقدر الجار واحدة وإليه قبلي ترفع القدر




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #235  
قديم 22-01-2023, 04:36 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (5)
سُورَةُ النِّسَاءِ
من صــ 163 الى صــ 170
الحلقة (235)


ولا يهدي النزر اليسير المحتقر ؛ لقوله عليه السلام : ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف أي بشيء يهدى عرفا ؛ فإن القليل وإن كان مما يهدى فقد لا يقع ذلك [ ص: 163 ] الموقع ، فلو لم يتيسر إلا القليل فليهده ولا يحتقر ، وعلى المهدى إليه قبوله ؛ لقوله عليه السلام :يا نساء المؤمنات لا تحتقرن إحداكن لجارتها ولو كراع شاة محرقا أخرجه مالك في موطئه . وكذا قيدناه ( يا نساء المؤمنات ) بالرفع على غير الإضافة ، والتقدير : يا أيها النساء المؤمنات ؛ كما تقول يا رجال الكرام ؛ فالمنادى محذوف وهو يا أيها ، والنساء في التقدير النعت لأيها ، والمؤمنات نعت للنساء . قد قيل : فيه : يا نساء المؤمنات بالإضافة ، والأول أكثر .

التاسعة : من إكرام الجار ألا يمنع من غرز خشبة له إرفاقا به ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره . ثم يقول أبو هريرة : ما لي أراكم عنها معرضين ، والله لأرمين بها بين أكنافكم . روي " خشبه وخشبة " على الجمع والإفراد . وروي " أكتافهم " بالتاء و " أكنافهم " بالنون . ومعنى " لأرمين بها " أي بالكلمة والقصة . وهل يقضى بهذا على الوجوب أو الندب ؟ فيه خلاف بين العلماء . فذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابهما إلى أن معناه الندب إلى بر الجار والتجاوز له والإحسان إليه ، وليس ذلك على الوجوب ؛ بدليل قوله عليه السلام : لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه . قالوا : ومعنى قوله ( لا يمنع أحدكم جاره ) هو مثل معنى قوله عليه السلام : إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها . وهذا معناه عند الجميع الندب ، على ما يراه الرجل من الصلاح والخير في ذلك . وقال الشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور وداود بن علي وجماعة أهل الحديث : إلى أن ذلك على الوجوب . قالوا : ولولا أن أبا هريرة فهم فيما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم معنى الوجوب ما كان ليوجب عليهم غير واجب . وهو مذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؛ فإنه قضى على محمد بن مسلمة للضحاك بن خليفة في الخليج أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة ، فقال محمد بن مسلمة : لا والله . فقال عمر : والله ليمرن به ولو على بطنك . فأمره عمر أن يمر به ففعل الضحاك ؛ رواه مالك في الموطأ . وزعم الشافعي في كتاب " الرد " أن مالكا لم يرو عن أحد من الصحابة خلاف عمر في هذا الباب ؛ وأنكر على مالك أنه رواه [ ص: 164 ] وأدخله في كتابه ولم يأخذ به ورده برأيه . قال أبو عمر : ليس كما زعم الشافعي ؛ لأن محمد بن مسلمة كان رأيه في ذلك خلاف رأي عمر ، ورأي الأنصار أيضا كان خلافا لرأي عمر ، وعبد الرحمن بن عوف في قصة الربيع وتحويله - والربيع الساقية - وإذا اختلفت الصحابة وجب الرجوع إلى النظر ، والنظر يدل على أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم بعضهم على بعض حرام إلا ما تطيب به النفس خاصة ؛ فهذا هو الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم . ويدل على الخلاف في ذلك قول أبي هريرة : ما لي أراكم عنها معرضين والله لأرمينكم بها ؛ هذا أو نحوه . أجاب الأولون فقالوا : القضاء بالمرفق خارج بالسنة عن معنى قوله عليه السلام : لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه لأن هذا معناه التمليك والاستهلاك وليس المرفق من ذلك ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد فرق بينهما في الحكم . فغير واجب أن يجمع بين ما فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم . وحكى مالك أنه كان بالمدينة قاض يقضي به يسمى أبو المطلب . واحتجوا من الأثر بحديث الأعمش عن أنس قال : استشهد منا غلام يوم أحد فجعلت أمه تمسح التراب عن وجهه وتقول : أبشر هنيئا لك الجنة ؛ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم وما يدريك لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ويمنع ما لا يضره . والأعمش لا يصح له سماع من أنس ، والله أعلم . قاله أبو عمر .

العاشرة : ورد حديث جمع النبي صلى الله عليه وسلم فيه مرافق الجار ، وهو حديث معاذ بن جبل قال : قلنا يا رسول الله ، ما حق الجار ؟ قال : إن استقرضك أقرضته وإن استعانك أعنته وإن احتاج أعطيته وإن مرض عدته وإن مات تبعت جنازته وإن أصابه خير سرك وهنيته وإن أصابته مصيبة ساءتك وعزيته ولا تؤذه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها ولا تستطل عليه بالبناء لتشرف عليه وتسد عليه الريح إلا بإذنه وإن اشتريت فاكهة فأهد له منها وإلا فأدخلها سرا لا يخرج ولدك بشيء منه يغيظون به ولده وهل تفقهون ما أقول لكم لن يؤدي حق الجار إلا القليل ممن رحم الله أو كلمة نحوها . هذا حديث جامع وهو حديث حسن ، في إسناده أبو الفضل عثمان بن مطر الشيباني غير مرضي .

الحادية عشرة : قال العلماء : الأحاديث في إكرام الجار جاءت مطلقة غير مقيدة حتى الكافر كما بينا . وفي الخبر قالوا : يا رسول الله أنطعمهم من لحوم النسك ؟ قال : لا تطعموا المشركين من نسك المسلمين . ونهيه صلى الله عليه وسلم عن إطعام المشركين من نسك المسلمين يحتمل النسك الواجب في الذمة الذي لا يجوز للناسك أن يأكل منه ولا أن يطعمه الأغنياء ؛ فأما غير الواجب الذي يجزيه إطعام الأغنياء فجائز أن يطعمه أهل الذمة . قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة عند تفريق لحم الأضحية : ابدئي بجارنا اليهودي . وروي أن شاة ذبحت في أهل عبد الله بن [ ص: 165 ] عمرو فلما جاء قال : أهديتم لجارنا اليهودي ؟ - ثلاث مرات - سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه .

الثانية عشرة : قوله تعالى : والصاحب بالجنب أي الرفيق في السفر . وأسند الطبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معه رجل من أصحابه وهما على راحلتين فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم غيضة ، فقطع قضيبين أحدهما معوج ، فخرج وأعطى لصاحبه القويم ؛ فقال : كنت يا رسول الله أحق بهذا ! فقال : يا فلان إن كل صاحب يصحب آخر فإنه مسئول عن صحابته ولو ساعة من نهار . وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن : للسفر مروءة وللحضر مروءة ؛ فأما المروءة في السفر فبذل الزاد ، وقلة الخلاف على الأصحاب ، وكثرة المزاح في غير مساخط الله . وأما المروءة في الحضر فالإدمان إلى المساجد ، وتلاوة القرآن وكثرة الإخوان في الله عز وجل . ولبعض بني أسد - وقيل إنها لحاتم الطائي :


إذا ما رفيقي لم يكن خلف ناقتي له مركب فضلا فلا حملت رجلي
ولم يك من زادي له شطر مزودي فلا كنت ذا زاد ولا كنت ذا فضل
شريكان فيما نحن فيه وقد أرى علي له فضلا بما نال من فضلي
وقال علي وابن مسعود وابن أبي ليلى : الصاحب بالجنب الزوجة . ابن جريج : هو الذي يصحبك ويلزمك رجاء نفعك . والأول أصح ؛ وهو قول ابن عباس وابن جبير وعكرمة ومجاهد والضحاك . وقد تتناول الآية الجميع بالعموم . والله أعلم .

الثالثة عشرة : قوله تعالى : وابن السبيل قال مجاهد : هو الذي يجتاز بك مارا . والسبيل الطريق ؛ فنسب المسافر إليه لمروره عليه ولزومه إياه . ومن الإحسان إليه إعطاؤه وإرفاقه وهدايته ورشده .

الرابعة عشرة : قوله تعالى : وما ملكت أيمانكم أمر الله تعالى بالإحسان إلى المماليك ، وبين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فروى مسلم وغيره عن المعرور بن سويد قال : مررنا بأبي ذر بالربذة وعليه برد وعلى غلامه مثله ، فقلنا : يا أبا ذر لو جمعت بينهما كانت حلة ؛ فقال : إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام ، وكانت أمه أعجمية فعيرته بأمه ، فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية قلت : يا رسول الله ، من سب الرجال سبوا أباه وأمه . قال : يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم [ ص: 166 ] فأطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم . وروي عن أبي هريرة أنه ركب بغلة ذات يوم فأردف غلامه خلفه ، فقال له قائل : لو أنزلته يسعى خلف دابتك ؛ فقال أبو هريرة : لأن يسعى معي ضغثان من نار يحرقان مني ما أحرقا أحب إلي من أن يسعى غلامي خلفي . وخرج أبو داود عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من لايمكم من مملوكيكم فأطعموه مما تأكلون واكسوه مما تكتسون ومن لا يلايمكم منهم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله . لايمكم وافقكم . والملايمة الموافقة . وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق وقال عليه السلام : لا يقل أحدكم عبدي وأمتي بل ليقل فتاي وفتاتي وسيأتي بيانه في سورة يوسف عليه السلام . فندب صلى الله عليه وسلم السادة إلى مكارم الأخلاق وحضهم عليها وأرشدهم إلى الإحسان وإلى سلوك طريق التواضع حتى لا يروا لأنفسهم مزية على عبيدهم ، إذ الكل عبيد الله والمال مال الله ، لكن سخر بعضهم لبعض ، وملك بعضهم بعضا إتماما للنعمة وتنفيذا للحكمة ؛ فإن أطعموهم أقل مما يأكلون ، وألبسوهم أقل مما يلبسون صفة ومقدارا جاز إذا قام بواجبه عليه . ولا خلاف في ذلك والله أعلم . وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو إذ جاءه قهرمان له فدخل فقال : أعطيت الرقيق قوتهم ؟ قال لا . قال : فانطلق فأعطهم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوتهم .

الخامسة عشرة : ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من ضرب عبده حدا لم يأته أو لطمه فكفارته أن يعتقه . ومعناه أن يضربه قدر الحد ولم يكن عليه حد . وجاء عن نفر من الصحابة أنهم اقتصوا للخادم من الولد في الضرب وأعتقوا الخادم لما لم يرد القصاص وقال عليه السلام : من قذف مملوكه بالزنى أقام عليه الحد يوم القيامة ثمانين . وقال عليه السلام : لا يدخل الجنة سيئ الملكة . وقال عليه السلام : سوء الخلق شؤم وحسن الملكة نماء وصلة الرحم تزيد في العمر والصدقة تدفع ميتة السوء .

[ ص: 167 ] السادسة عشرة : واختلف العلماء من هذا الباب أيهما أفضل الحر أو العبد ؛ فروى مسلم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : للعبد المملوك المصلح أجران والذي نفس أبي هريرة بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك . وروي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن العبد إذا نصح لسيده وأحسن عبادة الله فله أجره مرتين . فاستدل بهذا وما كان مثله من فضل العبد ؛ لأنه مخاطب من جهتين : مطالب بعبادة الله ، مطالب بخدمة سيده . وإلى هذا ذهب أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري وأبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد العامري البغدادي الحافظ .

استدل من فضل الحر بأن قال : الاستقلال بأمور الدين والدنيا إنما يحصل بالأحرار والعبد كالمفقود لعدم استقلاله ، وكالآلة المصرفة بالقهر ، وكالبهيمة المسخرة بالجبر ؛ ولذلك سلب مناصب الشهادات ومعظم الولايات ، ونقصت حدوده عن حدود الأحرار إشعارا بخسة المقدار ، والحر وإن طولب من جهة واحدة فوظائفه فيها أكثر ، وعناؤه أعظم فثوابه أكثر . وقد أشار إلى هذا أبو هريرة بقوله : لولا الجهاد والحج ؛ أي لولا النقص الذي يلحق العبد لفوت هذه الأمور . والله أعلم .

السابعة عشرة : روى أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ، وما زال يوصيني بالنساء حتى ظننت أنه سيحرم طلاقهن ، وما زال يوصيني بالمماليك حتى ظننت أنه سيجعل لهم مدة إذا انتهوا إليها عتقوا ، وما زال يوصيني بالسواك حتى خشيت أن يحفي فمي - وروي حتى كاد - وما زال يوصيني بقيام الليل حتى ظننت أن خيار أمتي لا ينامون ليلا . ذكره أبو الليث السمرقندي في تفسيره .

الثامنة عشرة : قوله تعالى : إن الله لا يحب - أي لا يرضى - من كان مختالا فخورا . فنفى سبحانه محبته ورضاه عمن هذه صفته ؛ أي لا يظهر عليه آثار نعمه في الآخرة . وفي هذا ضرب من التوعد . والمختال ذو الخيلاء أي الكبر . والفخور : الذي يعدد مناقبه كبرا . والفخر : البذخ والتطاول . وخص هاتين الصفتين بالذكر هنا لأنهما تحملان صاحبيهما على الأنفة من القريب الفقير والجار الفقير وغيرهم ممن ذكر في الآية فيضيع أمر الله بالإحسان إليهم . وقرأ عاصم فيما ذكر المفضل عنه " والجار الجنب " بفتح الجيم وسكون النون . قال [ ص: 168 ] المهدوي : هو على تقدير حذف المضاف ؛ أي والجار ذي الجنب أي ذي الناحية . وأنشد الأخفش :


الناس جنب والأمير جنب
والجنب الناحية ، أي المتنحي عن القرابة . والله أعلم .
قوله تعالى : الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا

قوله تعالى : الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل فيه مسألتان :

الأولى : قوله تعالى : الذين يبخلون الذين في موضع نصب على البدل من " من " في قوله : من كان ولا يكون صفة ؛ لأن " من " و " ما " لا يوصفان ولا يوصف بهما . ويجوز أن يكون في موضع رفع بدلا من المضمر الذي في فخور . ويجوز أن يكون في موضع رفع فيعطف عليه . ويجوز أن يكون ابتداء والخبر محذوف ، أي الذين يبخلون ، لهم كذا ، أو يكون الخبر إن الله لا يظلم مثقال ذرة . ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار أعني ، فتكون الآية في المؤمنين ؛ فتجيء الآية على هذا التأويل أن الباخلين منفية عنهم محبة الله ، فأحسنوا أيها المؤمنون إلى من سمي فإن الله لا يحب من فيه الخلال المانعة من الإحسان .

الثانية : قوله تعالى : يبخلون ويأمرون الناس بالبخل البخل المذموم في الشرع هو الامتناع من أداء ما أوجب الله تعالى عليه . وهو مثل قوله تعالى : ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله الآية . وقد مضى في " آل عمران " القول في البخل وحقيقته ، والفرق بينه وبين الشح مستوفى . والمراد بهذه الآية في قول ابن عباس وغيره اليهود ؛ فإنهم جمعوا بين الاختيال والفخر والبخل بالمال وكتمان ما أنزل الله من التوراة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : المراد المنافقون الذي كان إنفاقهم وإيمانهم تقية ، والمعنى إن الله لا يحب كل مختال فخور ، ولا الذين يبخلون ؛ على ما ذكرنا من إعرابه .

قوله تعالى : وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا فصل تعالى توعد المؤمنين الباخلين من توعد الكافرين بأن جعل الأول عدم المحبة والثاني عذابا مهينا .
[ ص: 169 ] قوله تعالى : والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا فيه مسألتان :

الأولى : قوله تعالى : والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس الآية . عطف تعالى على الذين يبخلون : الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس . وقيل : هو عطف على الكافرين ، فيكون في موضع خفض . ومن رأى زيادة الواو أجاز أن يكون الثاني عنده خبرا للأول . قال الجمهور نزلت في المنافقين : لقوله تعالى : رئاء الناس والرئاء من النفاق . مجاهد : في اليهود . وضعفه الطبري ؛ لأنه تعالى نفى عن هذه الصنفة الإيمان بالله واليوم الآخر ، واليهود ليس كذلك . قال ابن عطية : وقول مجاهد متجه على المبالغة والإلزام ؛ إذ إيمانهم باليوم الآخر كلا إيمان من حيث لا ينفعهم . وقيل : نزلت في مطعمي يوم بدر ، وهم رؤساء مكة ، الأنفقوا على الناس ليخرجوا إلى بدر . قال ابن العربي : ونفقة الرئاء تدخل في الأحكام من حيث إنها لا تجزئ .

قلت : ويدل على ذلك من الكتاب قوله تعالى : قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم وسيأتي .

الثانية : قوله تعالى : ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا في الكلام إضمار تقديره ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر فقرينهم الشيطان ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا . والقرين : المقارن ، أي الصاحب والخليل وهو فعيل من الإقران ؛ قال عدي بن زيد :


عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
والمعنى : من قبل من الشيطان في الدنيا فقد قارنه . ويجوز أن يكون المعنى من قرن به الشيطان في النار فساء قرينا أي فبئس الشيطان قرينا ، وهو نصب على التمييز .
قوله تعالى : وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما

[ ص: 170 ] " ما " في موضع رفع بالابتداء و " ذا " خبره ، وذا بمعنى الذي . ويجوز أن يكون ما وذا اسما واحدا . فعلى الأول تقديره وما الذي عليهم ، وعلى الثاني تقديره وأي شيء عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر ، أي صدقوا بواجب الوجود ، وبما جاء به الرسول من تفاصيل الآخرة ، وأنفقوا مما رزقهم الله . وكان الله بهم عليما تقدم معناه في غير موضع
قوله تعالى : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما

قوله تعالى : إن الله لا يظلم مثقال ذرة أي لا يبخسهم ولا ينقصهم من ثواب عملهم وزن ذرة بل يجازيهم بها ويثيبهم عليها . والمراد من الكلام أن الله تعالى لا يظلم قليلا ولا كثيرا ؛ كما قال تعالى : إن الله لا يظلم الناس شيئا . والذرة : النملة الحمراء ؛ عن ابن عباس وغيره ، وهي أصغر النمل . وعنه أيضا رأس النملة . وقال يزيد بن هارون : زعموا أن الذرة ليس لها وزن . ويحكى أن رجلا وضع خبزا حتى علاه الذر مقدار ما يستره ثم وزنه فلم يزد على وزن الخبز شيئا .

قلت : والقرآن والسنة يدلان على أن للذرة وزنا ؛ كما أن للدينار ونصفه وزنا . والله أعلم . وقيل : الذرة الخردلة ؛ كما قال تعالى : فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها . وقيل غير هذا ، وهي في الجملة عبارة عن أقل الأشياء وأصغرها . وفي صحيح مسلم عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله بها في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #236  
قديم 22-01-2023, 04:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (5)
سُورَةُ النِّسَاءِ
من صــ 171 الى صــ 178
الحلقة (236)



قوله تعالى : وإن تك حسنة يضاعفها أي يكثر ثوابها . وقرأ أهل الحجاز " حسنة " بالرفع ، والعامة بالنصب ؛ فعلى الأول " تك " بمعنى تحدث ، فهي تامة . وعلى الثاني هي الناقصة ، أي إن تك فعلته حسنة . وقرأ الحسن " نضاعفها " بنون العظمة . والباقون بالياء ، وهي [ ص: 171 ] أصح ؛ لقوله ويؤت . وقرأ أبو رجاء " يضعفها " ، والباقون " يضاعفها " وهما لغتان معناهما التكثير . وقال أبو عبيدة : " يضاعفها " معناه يجعله أضعافا كثيرة ، " ويضعفها " بالتشديد يجعلها ضعفين . من لدنه من عنده . وفيه أربع لغات : لدن ولدن ولد ولدى ؛ فإذا أضافوه إلى أنفسهم شددوا النون ، ودخلت عليه " من " حيث كانت " من " الداخلة لابتداء الغاية و " لدن " كذلك ، فلما تشاكلا حسن دخول " من " عليها ؛ ولذلك قال سيبويه في لدن : إنه الموضع الذي هو أول الغاية . أجرا عظيما يعني الجنة . وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري الطويل - حديث الشفاعة - وفيه : حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون فيقال لهم أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول جل وعز ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا . وكان أبو سعيد الخدري يقول : إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرءوا إن شئتم إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما وذكر الحديث . وروي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : يؤتى بالعبد يوم القيامة فيوقف وينادي مناد على رءوس الخلائق هذا فلان بن فلان من كان له عليه حق فليأت إلى حقه ثم يقول آت هؤلاء حقوقهم فيقول يا رب من أين لي وقد ذهبت الدنيا عني فيقول الله تعالى للملائكة انظروا إلى أعماله الصالحة فأعطوهم منها فإن بقي مثقال ذرة من حسنة قالت الملائكة يا رب - وهو أعلم بذلك منهم - قد أعطي لكل ذي حق حقه وبقي مثقال ذرة من حسنة فيقول الله تعالى للملائكة ضعفوها لعبدي وأدخلوه بفضل رحمتي الجنة ومصداقه " إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها " - وإن كان عبدا شقيا قالت الملائكة إلهنا فنيت حسناته وبقيت سيئاته وبقي طالبون كثير فيقول تعالى خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ثم صكوا له صكا إلى النار . فالآية على هذا التأويل في الخصوم ، وأنه تعالى لا يظلم مثقال ذرة للخصم على الخصم يأخذ له منه ، ولا يظلم مثقال ذرة تبقى له بل يثيبه عليها ويضعفها له ؛ فذلك قوله تعالى : وإن تك حسنة يضاعفها . وروى أبو هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله سبحانه يعطي عبده [ ص: 172 ] المؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة وتلا إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما . قال عبيدة : قال أبو هريرة : وإذا قال الله أجرا عظيما فمن الذي يقدر قدره ! وقد تقدم عن ابن عباس وابن مسعود : أن هذه الآية إحدى الآيات التي هي خير مما طلعت عليه الشمس .
قوله تعالى : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا

فتحت الفاء لالتقاء الساكنين وإذا ظرف زمان والعامل فيه جئنا ذكر أبو الليث السمرقندي : حدثنا الخليل بن أحمد قال : حدثنا ابن منيع قال : حدثنا أبو كامل قال : حدثنا فضيل ، عن يونس بن محمد بن فضالة ، عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم في بني ظفر فجلس على الصخرة التي في بني ظفر ومعه ابن مسعود ومعاذ وناس من أصحابه فأمر قارئا يقرأ حتى إذا أتى على هذه الآية فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اخضلت وجنتاه ؛ فقال : يا رب هذا على من أنا بين ظهرانيهم فكيف من لم أرهم . وروى البخاري ، عن عبد الله قال . قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقرأ علي قلت : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : إني أحب أن أسمعه من غيري فقرأت عليه سورة " النساء " حتى بلغت فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا قال : أمسك فإذا عيناه تذرفان . وأخرجه مسلم وقال بدل قوله ( أمسك ) : فرفعت رأسي - أو غمزني رجل إلى جنبي - فرفعت رأسي فرأيت دموعه تسيل . قال علماؤنا : بكاء النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان لعظيم ما تضمنته هذه الآية من هول المطلع وشدة الأمر ؛ إذ يؤتى بالأنبياء شهداء على أممهم بالتصديق والتكذيب ، ويؤتى به صلى الله عليه وسلم يوم القيامة شهيدا . والإشارة بقوله على هؤلاء إلى كفار قريش وغيرهم من الكفار ؛ وإنما خص كفار قريش بالذكر لأن وظيفة العذاب أشد عليهم منها على غيرهم ؛ لعنادهم عند رؤية المعجزات ، وما أظهره الله على يديه من خوارق العادات . والمعنى فكيف يكون حال هؤلاء الكفار يوم القيامة إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا أمعذبين أم منعمين ؟ وهذا استفهام معناه التوبيخ . وقيل : الإشارة إلى جميع أمته .

[ ص: 173 ] ذكر ابن المبارك أخبرنا رجل من الأنصار ، عن المنهال بن عمر ، وحدثه أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : ليس من يوم إلا تعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أمته غدوة وعشية فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم فلذلك يشهد عليهم ؛ يقول الله تبارك وتعالى فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد يعني بنبيها وجئنا بك على هؤلاء شهيدا . وموضع كيف نصب بفعل مضمر ، التقدير فكيف يكون حالهم ؛ كما ذكرنا . والفعل المضمر قد يسد مسد إذا ، والعامل في إذا جئنا . وشهيدا حال . وفي الحديث من الفقه جواز قراءة الطالب على الشيخ والعرض عليه ، ويجوز عكسه . وسيأتي بيانه في حديث أبي في سورة لم يكن ، إن شاء الله تعالى . وشهيدا نصب على الحال .
قوله تعالى : يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا

ضمت الواو في عصوا . لالتقاء الساكنين ، ويجوز كسرها . وقرأ نافع وابن عامر " تسوى " بفتح التاء والتشديد في السين . وحمزة والكسائي كذلك إلا أنهما خففا السين . والباقون ضموا التاء وخففوا السين ، مبنيا للمفعول والفاعل غير مسمى . والمعنى لو يسوي الله بهم الأرض . أي يجعلهم والأرض سواء . ومعنى آخر : تمنوا لو لم يبعثهم الله وكانت الأرض مستوية عليهم ؛ لأنهم من التراب نقلوا . وعلى القراءة الأولى والثانية فالأرض فاعلة ، والمعنى تمنوا لو انفتحت لهم الأرض فساخوا فيها ؛ قاله قتادة . وقيل : الباء بمعنى على ، أي لو تسوى عليهم أي تنشق فتسوى عليهم ؛ عن الحسن . فقراءة التشديد على الإدغام ، والتخفيف على حذف التاء . وقيل : إنما تمنوا هذا حين رأوا البهائم تصير ترابا وعلموا أنهم مخلدون في النار ؛ وهذا معنى قوله تعالى : ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا . وقيل : إنما تمنوا هذا حين شهدت هذه الأمة للأنبياء على ما تقدم في " البقرة " عند قوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا الآية . فتقول الأمم الخالية : إن فيهم الزناة والسراق فلا تقبل شهادتهم فيزكيهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقول المشركون : والله ربنا ما كنا مشركين فيختم على أفواههم وتشهد [ ص: 174 ] أرجلهم وأيديهم بما كانوا يكسبون ؛ فذلك قوله تعالى : يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض يعني تخسف بهم . والله أعلم .

قوله تعالى : ولا يكتمون الله حديثا قال الزجاج : قال بعضهم : ولا يكتمون الله حديثا مستأنف ؛ لأن ما عملوه ظاهر عند الله لا يقدرون على كتمانه . وقال بعضهم : هو معطوف ، والمعنى يود لو أن الأرض سويت بهم وأنهم لم يكتموا الله حديثا ؛ لأنه ظهر كذبهم . وسئل ابن عباس عن هذه الآية ، وعن قوله تعالى : والله ربنا ما كنا مشركين فقال : لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام قالوا : والله ربنا ما كنا مشركين فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم فلا يكتمون الله حديثا . وقال الحسن وقتادة : الآخرة مواطن يكون هذا في بعضها وهذا في بعضها . ومعناه أنهم لما تبين لهم وحوسبوا لم يكتموا . وسيأتي لهذا مزيد بيان في " الأنعام " إن شاء الله تعالى .
قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا

فيه أربعة وأربعون مسألة :

الأولى : قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى خص الله سبحانه وتعالى بهذا الخطاب المؤمنين ؛ لأنهم كانوا يقيمون الصلاة وقد أخذوا من الخمر وأتلفت عليهم أذهانهم فخصوا بهذا الخطاب ؛ إذ كان الكفار لا يفعلونها صحاة ولا سكارى . روى أبو داود عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما نزل تحريم الخمر قال عمر : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ؛ فنزلت الآية التي في البقرة يسألونك عن الخمر والميسر قال : فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ؛ فنزلت الآية التي في [ ص: 175 ] النساء يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت الصلاة ينادي : ألا لا يقربن الصلاة سكران . فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ؛ فنزلت هذه الآية : فهل أنتم منتهون قال عمر : انتهينا . وقال سعيد بن جبير : كان الناس على أمر جاهليتهم حتى يؤمروا أو ينهوا ؛ فكانوا يشربونها أول الإسلام حتى نزلت : يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس . قالوا : نشربها للمنفعة لا للإثم ؛ فشربها رجل فتقدم يصلي بهم فقرأ : قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ؛ فنزلت : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى . فقالوا : في غير عين الصلاة . فقال عمر : اللهم أنزل علينا في الخمر بيانا شافيا ؛ فنزلت : إنما يريد الشيطان الآية . فقال عمر : انتهينا ، انتهينا . ثم طاف منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا إن الخمر قد حرمت ؛ على ما يأتي بيانه في " المائدة " إن شاء الله تعالى : وروى الترمذي عن علي بن أبي طالب قال : صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر ، فأخذت الخمر منا ، وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت : قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون . قال : فأنزل الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح . ووجه الاتصال والنظم بما قبله أنه قال سبحانه وتعالى : واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا . ثم ذكر بعد الإيمان الصلاة التي هي رأس العبادات ؛ ولذلك يقتل تاركها ولا يسقط فرضها ، وانجر الكلام إلى ذكر شروطها التي لا تصح إلا بها .

الثانية : والجمهور من العلماء وجماعة الفقهاء على أن المراد بالسكر سكر الخمر ؛ إلا الضحاك فإنه قال : المراد سكر النوم ؛ لقوله عليه السلام : إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم ، فإنه لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه . وقال عبيدة السلماني : وأنتم سكارى يعني إذا كنت حاقنا ؛ لقوله عليه السلام : لا يصلين أحدكم وهو حاقن في رواية وهو ضام بين فخذيه .

قلت : وقول الضحاك وعبيدة صحيح المعنى ؛ فإن المطلوب من المصلي الإقبال على [ ص: 176 ] الله تعالى بقلبه وترك الالتفات إلى غيره ، والخلو عن كل ما يشوش عليه من نوم وحقنة وجوع ، وكل ما يشغل البال ويغير الحال . قال صلى الله عليه وسلم : إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء . فراعى صلى الله عليه وسلم زوال كل مشوش يتعلق به الخاطر ، حتى يقبل على عبادة ربه بفراغ قلبه وخالص لبه ، فيخشع في صلاته . ويدخل في هذه الآية : قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون على ما يأتي بيانه . وقال ابن عباس : إن قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى منسوخ بآية المائدة : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا الآية . فأمروا على هذا القول بألا يصلوا سكارى ؛ ثم أمروا بأن يصلوا على كل حال ؛ وهذا قبل التحريم . وقال مجاهد : نسخت بتحريم الخمر . وكذلك قال عكرمة وقتادة ، وهو الصحيح في الباب لحديث علي المذكور . وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : أقيمت الصلاة فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقربن الصلاة سكران ؛ ذكره النحاس . وعلى قول الضحاك وعبيدة الآية محكمة لا نسخ فيها .

الثالثة : قوله تعالى : لا تقربوا إذا قيل : لا تقرب بفتح الراء كان معناه لا تلبس بالفعل ، وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدن منه . والخطاب لجماعة الأمة الصاحين . وأما السكران إذا عدم الميز لسكره فليس بمخاطب في ذلك الوقت لذهاب عقله ؛ وإنما هو مخاطب بامتثال ما يجب عليه ، وبتكفير ما ضيع في وقت سكره من الأحكام التي تقرر تكليفه إياها قبل السكر .

الرابعة : قوله تعالى : الصلاة اختلف العلماء في المراد بالصلاة هنا ؛ فقالت طائفة : هي العبادة المعروفة نفسها ؛ وهو قول أبي حنيفة ؛ ولذلك قال حتى تعلموا ما تقولون . وقالت طائفة : المراد مواضع الصلاة ؛ وهو قول الشافعي ، فحذف المضاف . وقد قال تعالى لهدمت صوامع وبيع وصلوات الحج : فسمى مواضع الصلاة صلاة . ويدل على هذا التأويل قوله تعالى : ولا جنبا إلا عابري سبيل وهذا يقتضي جواز العبور للجنب في المسجد لا الصلاة فيه . وقال أبو حنيفة : المراد بقوله تعالى : ولا جنبا إلا عابري سبيل المسافر إذا لم [ ص: 177 ] يجد الماء فإنه يتيمم ويصلي ؛ وسيأتي بيانه . وقالت طائفة : المراد الموضع والصلاة معا ؛ لأنهم كانوا حينئذ لا يأتون المسجد إلا للصلاة ولا يصلون إلا مجتمعين ، فكانا متلازمين .

الخامسة : قوله تعالى : وأنتم سكارى ابتداء وخبر ، جملة في موضع الحال من تقربوا . وسكارى جمع سكران ؛ مثل كسلان وكسالى . وقرأ النخعي " سكرى " بفتح السين على مثال فعلى ، وهو تكسير سكران ؛ وإنما كسر على سكرى لأن السكر آفة تلحق العقل فجرى مجرى صرعى وبابه . وقرأ الأعمش " سكرى " كحبلى فهو صفة مفردة ؛ وجاز الإخبار بالصفة المفردة عن الجماعة على ما يستعملونه من الإخبار عن الجماعة بالواحد . والسكر : نقيض الصحو ؛ يقال : سكر يسكر سكرا ، من باب حمد يحمد . وسكرت عينه تسكر أي تحيرت ؛ ومنه قوله تعالى : إنما سكرت أبصارنا . وسكرت الشق سددته . فالسكران قد انقطع عما كان عليه من العقل .

السادسة : وفي هذه الآية دليل بل نص على أن الشرب كان مباحا في أول الإسلام حتى ينتهي بصاحبه إلى السكر . وقال قوم : السكر محرم في العقل وما أبيح في شيء من الأديان ؛ وحملوا السكر في هذه الآية على النوم . وقال القفال : يحتمل أنه كان أبيح لهم من الشراب ما يحرك الطبع إلى السخاء والشجاعة والحمية .

قلت : وهذا المعنى موجود في أشعارهم ؛ وقد قال حسان :


ونشربها فتتركنا ملوكا
وقد أشبعنا هذا المعنى في " البقرة " . قال القفال : فأما ما يزيل العقل حتى يصير صاحبه في حد الجنون والإغماء فما أبيح قصده ، بل لو اتفق من غير قصد فيكون مرفوعا عن صاحبه .

قلت : هذا صحيح ، وسيأتي بيانه في " المائدة " إن شاء الله تعالى في قصة حمزة . وكان المسلمون لما نزلت هذه الآية يجتنبون الشرب أوقات الصلوات ، فإذا صلوا العشاء شربوها ؛ فلم يزالوا على ذلك حتى نزل تحريمها في " المائدة " في قوله تعالى : فهل أنتم منتهون .

السابعة : قوله تعالى : حتى تعلموا ما تقولون أي حتى تعلموه متيقنين فيه من غير غلط . والسكران لا يعلم ما يقول ؛ ولذلك قال عثمان بن عفان رضي الله عنه : إن السكران لا يلزمه طلاقه . وروي عن ابن عباس وطاوس وعطاء والقاسم وربيعة ، وهو قول الليث بن سعد وإسحاق وأبي ثور والمزني ؛ واختاره الطحاوي وقال : أجمع العلماء على أن طلاق المعتوه لا [ ص: 178 ] يجوز ، والسكران معتوه كالموسوس معتوه بالوسواس . ولا يختلفون أن من شرب البنج فذهب عقله أن طلاقه غير جائز ؛ فكذلك من سكر من الشراب . وأجازت طائفة طلاقه ؛ وروي عن عمر بن الخطاب ومعاوية وجماعة من التابعين ، وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي ، واختلف فيه قول الشافعي . وألزمه مالك الطلاق والقود في الجراح والقتل ، ولم يلزمه النكاح والبيع . وقال أبو حنيفة : أفعال السكران وعقوده كلها ثابتة كأفعال الصاحي ، إلا الردة فإنه إذا ارتد فإنه لا تبين منه امرأته إلا استحسانا . وقال أبو يوسف : يكون مرتدا في حال سكره ؛ وهو قول الشافعي إلا أنه لا يقتله في حال سكره ولا يستتيبه . وقال الإمام أبو عبد الله المازري : وقد رويت عندنا رواية شاذة أنه لا يلزم طلاق السكران . وقال محمد بن عبد الحكم : لا يلزمه طلاق ولا عتاق . قال ابن شاس : ونزل الشيخ أبو الوليد الخلاف على المخلط الذي معه بقية من عقله إلا أنه لا يملك الاختلاط من نفسه فيخطئ ويصيب . قال : فأما السكران الذي لا يعرف الأرض من السماء ولا الرجل من المرأة ، فلا اختلاف في أنه كالمجنون في جميع أفعاله وأحواله فيما بينه وبين الناس ، وفيما بينه وبين الله تعالى أيضا ؛ إلا فيما ذهب وقته من الصلوات ، فقيل : إنها لا تسقط عنه بخلاف المجنون ؛ من أجل أنه بإدخاله السكر على نفسه كالمتعمد لتركها حتى خرج وقتها . وقال سفيان الثوري : حد السكر اختلال العقل ؛ فإذا استقرئ فخلط في قراءته وتكلم بما لا يعرف جلد . وقال أحمد : إذا تغير عقله عن حال الصحة فهو سكران ؛ وحكي عن مالك نحوه . قال ابن المنذر : إذا خلط في قراءته فهو سكران ؛ استدلالا بقول الله تعالى : حتى تعلموا ما تقولون . فإذا كان بحيث لا يعلم ما يقول تجنب المسجد مخافة التلويث ؛ ولا تصح صلاته وإن صلى قضى . وإن كان بحيث يعلم ما يقول فأتى بالصلاة فحكمه حكم الصاحي .

الثامنة : قوله تعالى : ولا جنبا عطف على موضع الجملة المنصوبة في قوله : حتى تعلموا أي لا تصلوا وقد أجنبتم . ويقال : تجنبتم وأجنبتم وجنبتم بمعنى . ولفظ الجنب لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع ؛ لأنه على وزن المصدر كالبعد والقرب . وربما خففوه فقالوا : جنب ؛ وقد قرأه كذلك قوم . وقال الفراء : يقال جنب الرجل وأجنب من الجنابة . وقيل : يجمع الجنب في لغة على أجناب ؛ مثل عنق وأعناق ، وطنب وأطناب . ومن قال للواحد جانب قال في الجمع : جناب ؛ كقولك : راكب وركاب . والأصل البعد ؛ كأن الجنب بعد بخروج الماء الدافق عن حال الصلاة ؛ قال :


فلا تحرمني نائلا عن جنابة فإني امرؤ وسط القباب غريب




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #237  
قديم 22-01-2023, 04:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (5)
سُورَةُ النِّسَاءِ
من صــ 179 الى صــ 186
الحلقة (237)



[ ص: 179 ] ورجل جنب : غريب . والجنابة مخالطة الرجل المرأة .

التاسعة : والجمهور من الأمة على أن الجنب هو غير الطاهر من إنزال أو مجاوزة ختان . وروي عن بعض الصحابة ألا غسل إلا من إنزال ؛ لقوله عليه السلام : إنما الماء من الماء أخرجه مسلم . وفي البخاري عن أبي بن كعب أنه قال : يا رسول الله ، إذا جامع الرجل المرأة فلم ينزل ؟ قال : يغسل ما مس المرأة منه ثم يتوضأ ويصلي . قال أبو عبد الله : الغسل أحوط ؛ وذلك الآخر إنما بيناه لاختلافهم . وأخرجه مسلم في صحيحه بمعناه ، وقال في آخره : قال أبو العلاء بن الشخير كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينسخ حديثه بعضه بعضا كما ينسخ القرآن بعضه بعضا . قال أبو إسحاق : هذا منسوخ . وقال الترمذي : كان هذا الحكم في أول الإسلام ثم نسخ .

قلت : على هذا جماعة العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار ، وأن الغسل يجب بنفس التقاء الختانين . وقد كان فيه خلاف بين الصحابة ثم رجعوا فيه إلى رواية عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان منه وجب الغسل . أخرجه مسلم . وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا قعد بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب عليه الغسل . زاد مسلم ( وإن لم ينزل ) . وقال ابن القصار : وأجمع التابعون ومن بعدهم بعد خلاف من قبلهم على الأخذ بحديث ( إذا التقى الختانان ) وإذا صح الإجماع بعد الخلاف كان مسقطا للخلاف . قال القاضي عياض : لا نعلم أحدا قال به بعد خلاف الصحابة إلا ما حكي عن الأعمش ثم بعده داود الأصبهاني . وقد روي أن عمر رضي الله عنه حمل الناس على ترك الأخذ بحديث ( الماء من الماء ) لما اختلفوا . وتأوله ابن عباس على الاحتلام ؛ أي إنما يجب الاغتسال بالماء من إنزال الماء في الاحتلام . ومتى لم يكن إنزال وإن رأى أنه يجامع فلا غسل . وهذا ما لا خلاف فيه بين كافة العلماء .

العاشرة : قوله تعالى : إلا عابري سبيل يقال : عبرت الطريق أي قطعته من جانب إلى جانب . وعبرت النهر عبورا ، وهذا عبر النهر أي شطه ، ويقال : عبر بالضم . والمعبر ما [ ص: 180 ] يعبر عليه من سفينة أو قنطرة . وهذا عابر السبيل أي مار الطريق . وناقة عبر أسفار : لا تزال يسافر عليها ويقطع بها الفلاة والهاجرة لسرعة مشيها . قال الشاعر :


عيرانة سرح اليدين شملة عبر الهواجر كالهزف الخاضب
وعبر القوم ماتوا . وأنشد :


قضاء الله يغلب كل شيء ويلعب بالجزوع وبالصبور
فإن نعبر فإن لنا لمات وإن نغبر فنحن على نذور
يقول : إن متنا فلنا أقران ، وإن بقينا فلا بد لنا من الموت ؛ حتى كأن علينا في إتيانه نذورا .

الحادية عشرة : واختلف العلماء في قوله : إلا عابري سبيل فقال علي رضي الله عنه وابن عباس وابن جبير ومجاهد والحكم : عابر السبيل المسافر . ولا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال ، إلا المسافر فإنه يتيمم ؛ وهذا قول أبي حنيفة ؛ لأن الغالب في الماء لا يعدم في الحضر ؛ فالحاضر يغتسل لوجود الماء ، والمسافر يتيمم إذا لم يجده . قال ابن المنذر : وقال أصحاب الرأي في الجنب المسافر يمر على مسجد فيه عين ماء يتيمم الصعيد ويدخل المسجد ويستقي منها ثم يخرج الماء من المسجد . ورخصت طائفة في دخول الجنب المسجد . واحتج بعضهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم : المؤمن ليس بنجس . قال ابن المنذر : وبه نقول . وقال ابن عباس أيضا وابن مسعود وعكرمة والنخعي : عابر السبيل الخاطر المجتاز ؛ وهو قول عمرو بن دينار ومالك والشافعي . وقالت طائفة : لا يمر الجنب في المسجد إلا ألا يجد بدا فيتيمم ويمر فيه ؛ هكذا قال الثوري وإسحاق بن راهويه . وقال أحمد وإسحاق في الجنب : إذا توضأ لا بأس أن يجلس في المسجد حكاه ابن المنذر . وروى بعضهم في سبب الآية أن قوما من الأنصار كانت أبواب دورهم شارعة في المسجد ، فإذا أصاب أحدهم الجنابة اضطر إلى المرور في المسجد .

قلت : وهذا صحيح ؛ يعضده ما رواه أبو داود عن جسرة بنت دجاجة قالت : سمعت عائشة رضي الله عنها تقول : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد ؛ فقال : وجهوا هذه البيوت عن المسجد . ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن تنزل لهم رخصة فخرج إليهم فقال : وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب . وفي صحيح مسلم : لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر . [ ص: 181 ] فأمر صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب لما كان يؤدي ذلك إلى اتخاذ المسجد طريقا والعبور فيه . واستثنى خوخة أبي بكر إكراما له وخصوصية ؛ لأنهما كانا لا يفترقان غالبا . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن أذن لأحد أن يمر في المسجد ولا يجلس فيه إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه . ورواه عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ينبغي لمسلم ولا يصلح أن يجنب في المسجد إلا أنا وعلي . قال علماؤنا : وهذا يجوز أن يكون ذلك ؛ لأن بيت علي كان في المسجد ، كما كان بيت النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ، وإن كان البيتان لم يكونا في المسجد ولكن كانا متصلين بالمسجد وأبوابهما كانت في المسجد فجعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد فقال : ما ينبغي لمسلم . . الحديث . والذي يدل على أن بيت علي كان في المسجد ما رواه ابن شهاب عن سالم بن عبد الله قال : سأل رجل أبي عن علي وعثمان رضي الله عنهما أيهما كان خيرا ؟ فقال له عبد الله بن عمر : هذا بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ! وأشار إلى بيت علي إلى جنبه ، لم يكن في المسجد غيرهما ؛ وذكر الحديث . فلم يكونا يجنبان في المسجد وإنما كانا يجنبان في بيوتهما ، وبيوتهما من المسجد إذ كان أبوابهما فيه ؛ فكانا يستطرقانه في حال الجنابة إذا خرجا من بيوتهما . ويجوز أن يكون ذلك تخصيصا لهما ؛ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم خص بأشياء ، فيكون هذا مما خص به ، ثم خص النبي صلى الله عليه وسلم عليا عليه السلام فرخص له في ما لم يرخص فيه لغيره . وإن كانت أبواب بيوتهم في المسجد ، فإنه كان في المسجد أبواب بيوت غير بيتيهما ؛ حتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بسدها إلا باب علي . وروى عمرو بن ميمون عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سدوا الأبواب إلا باب علي فخصه عليه السلام بأن ترك بابه في المسجد ، وكان يجنب في بيته وبيته في المسجد . وأما قوله : لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر فإن ذلك كانت - والله أعلم - أبوابا تطلع إلى المسجد خوخات ، وأبواب البيوت خارجة من المسجد ؛ فأمر عليه السلام بسد تلك الخوخات وترك خوخة أبي بكر إكراما له . والخوخات كالكوى والمشاكي ، وباب علي كان باب البيت الذي كان يدخل منه ويخرج . وقد فسر ابن عمر ذلك بقوله : ولم يكن في المسجد غيرهما .

فإن قيل : فقد ثبت عن عطاء بن يسار أنه قال : كان رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تصيبهم الجنابة فيتوضئون ويأتون المسجد فيتحدثون فيه . وهذا يدل على أن اللبث في [ ص: 182 ] المسجد للجنب جائز إذا توضأ ؛ وهو مذهب أحمد وإسحاق كما ذكرنا . فالجواب أن الوضوء لا يرفع حدث الجنابة ، وكل موضع وضع للعبادة وأكرم عن النجاسة الظاهرة ينبغي ألا يدخله من لا يرضى لتلك العبادة ، ولا يصح له أن يتلبس بها . والغالب من أحوالهم المنقولة أنهم كانوا يغتسلون في بيوتهم . فإن قيل : يبطل بالمحدث . قلنا : ذلك يكثر وقوعه فيشق الوضوء منه ؛ وفي قوله تعالى : ولا جنبا إلا عابري سبيل ما يغني ويكفي . وإذا كان لا يجوز له اللبث في المسجد فأحرى ألا يجوز له مس المصحف ولا القراءة فيه ؛ إذ هو أعظم حرمة . وسيأتي بيانه في " الواقعة " إن شاء الله تعالى .

الثانية عشرة : ويمنع الجنب عند علمائنا من قراءة القرآن غالبا إلا الآيات اليسيرة للتعوذ . وقد روى موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يقرأ الجنب والحائض شيئا من القرآن أخرجه ابن ماجه . وأخرج الدارقطني من حديث سفيان عن مسعر ، وشعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن علي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحجبه عن قراءة القرآن شيء إلا أن يكون جنبا . قال سفيان : قال لي شعبة : ما أحدث بحديث أحسن منه . وأخرجه ابن ماجه قال : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ؛ فذكره بمعناه ، وهذا إسناد صحيح . وعن ابن عباس ، عن عبد الله بن رواحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب ؛ أخرجه الدارقطني . وروى عن عكرمة قال : كان ابن رواحة مضطجعا إلى جنب امرأته فقام إلى جارية له في ناحية الحجرة فوقع عليها ؛ وفزعت امرأته فلم تجده في مضجعه ، فقامت فخرجت فرأته على جاريته ، فرجعت إلى البيت فأخذت الشفرة ثم خرجت ، وفرغ فقام فلقيها تحمل الشفرة فقال مهيم ؟ قالت : مهيم ! لو أدركتك حيث رأيتك لوجأت بين كتفيك بهذه الشفرة . قال : وأين رأيتني ؟ قالت : رأيتك على الجارية ؛ فقال : ما رأيتني ؛ وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب . قالت : فاقرأ ، وكانت لا تقرأ القرآن ، فقال :


أتانا رسول الله يتلو كتابه كما لاح مشهور من الفجر ساطع
أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
فقالت : آمنت بالله وكذبت البصر . ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ؛ فضحك حتى بدت نواجذه صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 183 ] الثالثة عشرة : حتى تغتسلوا نهى الله سبحانه وتعالى عن الصلاة إلا بعد الاغتسال ؛ والاغتسال معنى معقول ، ولفظه عند العرب معلوم ، يعبر به عن إمرار اليد مع الماء على المغسول ؛ ولذلك فرقت العرب بين قولهم : غسلت الثوب ، وبين قولهم : أفضت عليه الماء وغمسته في الماء . إذا تقرر هذا فاعلم أن العلماء اختلفوا في الجنب يصب على جسده الماء أو ينغمس فيه ولا يتدلك ؛ فالمشهور من مذهب مالك أنه لا يجزئه حتى يتدلك ؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمر الجنب بالاغتسال ، كما أمر المتوضئ بغسل وجهه ويديه ؛ ولم يكن للمتوضئ بد من إمرار يديه مع الماء على وجهه ويديه ، فكذلك جميع جسد الجنب ورأسه في حكم وجه المتوضئ ويديه . وهذا قول المزني واختياره . قال أبو الفرج عمرو بن محمد المالكي : وهذا هو المعقول من لفظ الغسل ؛ لأن الاغتسال في اللغة هو الافتعال ، ومن لم يمر فلم يفعل غير صب الماء لا يسميه أهل اللسان غاسلا ، بل يسمونه صابا للماء ومنغمسا فيه . قال : وعلى نحو هذا جاءت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر وأنقوا البشرة قال : وإنقاؤه - والله أعلم - لا يكون إلا بتتبعه ؛ على حد ما ذكرنا .

قلت : لا حجة فيما استدل به من الحديث لوجهين : أحدهما : أنه قد خولف في تأويله ؛ قال سفيان بن عيينة : المراد بقوله عليه السلام وأنقوا البشرة أراد غسل الفرج وتنظيفه ، وأنه كنى بالبشرة عن الفرج . قالابن وهب : ما رأيت أحدا أعلم بتفسير الأحاديث من ابن عيينة .

الثاني : أن الحديث أخرجه أبو داود في سننه وقال فيه : وهذا الحديث ضعيف ؛ كذا في رواية ابن داسة . وفي رواية اللؤلئي عنه : الحارث بن وجيه ضعيف ، حديثه منكر ؛ فسقط الاستدلال بالحديث ، وبقي المعول على اللسان كما بينا . ويعضده ما ثبت في صحيح الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بصبي فبال عليه ، فدعا بماء فأتبعه بوله ولم يغسله ؛ روته عائشة ، ونحوه عن أم قيس بنت محصن ؛ أخرجهما مسلم . وقال الجمهور من العلماء وجماعة الفقهاء : يجزئ الجنب صب الماء والانغماس فيه إذا أسبغ وعم وإن لم يتدلك ؛ على مقتضى حديث ميمونة وعائشة في غسل النبي صلى الله عليه وسلم . رواهما الأئمة ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفيض الماء على جسده ؛ وبه قال محمد بن عبد الحكم ، وإليه رجع أبو الفرج ورواه عن مالك ؛ قال : وإنما أمر بإمرار اليدين في الغسل لأنه لا يكاد من لم يمر يديه عليه يسلم من تنكب الماء عن بعض ما يجب عليه من جسده . وقال ابن العربي : وأعجب لأبي الفرج الذي روى وحكى عن [ ص: 184 ] صاحب المذهب أن الغسل دون ذلك يجزئ ! وما قاله قط مالك نصا ولا تخريجا ، وإنما هي من أوهامه .

قلت : قد روي هذا عن مالك نصا ؛ قال مروان بن محمد الظاهري وهو ثقة من ثقات الشاميين : سألت مالك بن أنس عن رجل انغمس في ماء وهو جنب ولم يتوضأ ، قال : مضت صلاته .

قال أبو عمر : فهذه الرواية فيها لم يتدلك ولا توضأ ، وقد أجزأه عند مالك . والمشهور من مذهبه أنه لا يجزئه حتى يتدلك ؛ قياسا على غسل الوجه واليدين . وحجة الجماعة أن كل من صب عليه الماء فقد اغتسل . والعرب تقول : غسلتني السماء . وقد حكت عائشة وميمونة صفة غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكرا تدلكا ، ولو كان واجبا ما تركه ؛ لأنه المبين عن الله مراده ، ولو فعله لنقل عنه ؛ كما نقل تخليل أصول شعره بالماء وغرفه على رأسه ، وغير ذلك من صفة غسله ووضوئه عليه السلام . قال أبو عمر : وغير نكير أن يكون الغسل في لسان العرب مرة بالعرك ومرة بالصب والإفاضة ؛ وإذا كان هذا فلا يمتنع أن يكون الله جل وعز تعبد عباده في الوضوء بإمرار أيديهم على وجوههم مع الماء ويكون ذلك غسلا ، وأن يفيضوا الماء على أنفسهم في غسل الجنابة والحيض ، ويكون ذلك غسلا موافقا للسنة غير خارج من اللغة ، ويكون كل واحد من الأمرين أصلا في نفسه ، لا يجب أن يرد أحدهما إلى صاحبه ؛ لأن الأصول لا يرد بعضها إلى بعض قياسا - وهذا ما لا خلاف فيه بين علماء الأمة . وإنما ترد الفروع قياسا على الأصول . وبالله التوفيق .

الرابعة عشرة : حديث ميمونة وعائشة يرد ما رواه شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس أنه كان إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه سبعا وفرجه سبعا . وقد روي عن ابن عمر قال : كانت الصلاة خمسين ، والغسل من الجنابة سبع مرار ، وغسل البول من الثوب سبع مرار ؛ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعلت الصلاة خمسا ، والغسل من الجنابة مرة ، والغسل من البول مرة . قال ابن عبد البر : وإسناد هذا الحديث عن ابن عمر فيه ضعف ولين ، وإن كان أبو داود قد خرجه والذي قبله عن شعبة مولى ابن عباس ، وشعبة هذا ليس بالقوي ، ويردهما حديث عائشة وميمونة .

الخامسة عشرة : ومن لم يستطع إمرار يده على جسده فقد قال سحنون : يجعل من يلي ذلك منه ، أو يعالجه بخرقة . وفي الواضحة : يمر يديه على ما يدركه من جسده ، ثم يفيض الماء حتى يعم ما لم تبلغه يداه .

السادسة عشرة : واختلف قول مالك في تخليل الجنب لحيته ؛ فروى ابن القاسم عنه أنه [ ص: 185 ] قال : ليس عليه ذلك . وروى أشهب عنه أن عليه ذلك . قال ابن عبد الحكم : ذلك هو أحب إلينا ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخلل شعره في غسل الجنابة ، وذلك عام وإن كان الأظهر فيه شعر رأسه ؛ وعلى هذين القولين العلماء . ومن جهة المعنى أن استيعاب جميع الجسد في الغسل واجب ، والبشرة التي تحت اللحية من جملته ؛ فوجب إيصال الماء إليها ومباشرتها باليد . وإنما انتقل الفرض إلى الشعر في الطهارة الصغرى لأنها مبنية على التخفيف ، ونيابة الأبدال فيها من غير ضرورة ؛ ولذلك جاز فيها المسح على الخفين ولم يجز في الغسل .

قلت : ويعضد هذا قوله صلى الله عليه وسلم : تحت كل شعرة جنابة .

السابعة عشرة : وقد بالغ قوم فأوجبوا المضمضة والاستنشاق ؛ لقوله تعالى : حتى تغتسلوا منهم أبو حنيفة ؛ ولأنهما من جملة الوجه وحكمهما حكم ظاهر الوجه كالخد والجبين ، فمن تركهما وصلى أعاد كمن ترك لمعة ، ومن تركهما في وضوئه فلا إعادة عليه . وقال مالك : ليستا بفرض لا في الجنابة ولا في الوضوء ؛ لأنهما باطنان فلا يجب كداخل الجسد . وبذلك قال محمد بن جرير الطبري والليث بن سعد والأوزاعي وجماعة من التابعين . وقال ابن أبي ليلى وحماد بن أبي سليمان : هما فرض في الوضوء والغسل جميعا ؛ وهو قول إسحاق وأحمد بن حنبل وبعض أصحاب داود . وروي عن الزهري وعطاء مثل هذا القول . وروي عن أحمد أيضا أن المضمضة سنة والاستنشاق فرض ؛ وقال به بعض أصحاب داود . وحجة من لم يوجبهما أن الله سبحانه لم يذكرهما في كتابه ، ولا أوجبهما رسوله ولا اتفق الجميع عليه ؛ والفرائض لا تثبت إلا بهذه الوجوه . احتج من أوجبهما بالآية ، وقوله تعالى : فاغسلوا وجوهكم فما وجب في الواحد من الغسل وجب في الآخر ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحفظ عنه أنه ترك المضمضة والاستنشاق في وضوئه ولا في غسله من الجنابة ؛ وهو المبين عن الله مراده قولا وعملا . احتج من فرق بينهما بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل المضمضة ولم يأمر بها ، وأفعاله مندوب إليها ليست بواجبة إلا بدليل ، وفعل الاستنشاق وأمر به ؛ وأمره على الوجوب أبدا .

الثامنة عشرة : قال علماؤنا : ولا بد في غسل الجنابة من النية ؛ لقوله تعالى : حتى تغتسلوا وذلك يقتضي النية ؛ وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور ، وكذلك الوضوء والتيمم . وعضدوا هذا بقوله تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين [ ص: 186 ] والإخلاص النية في التقرب إلى الله تعالى ، والقصد له بأداء ما افترض على عباده المؤمنين ، وقال عليه السلام : إنما الأعمال بالنيات وهذا عمل . وقال الأوزاعي والحسن : يجزئ الوضوء والتيمم بغير نية . وقال أبو حنيفة وأصحابه : كل طهارة بالماء فإنها تجزئ بغير نية ، ولا يجزئ التيمم إلا بنية ؛ قياسا على إزالة النجاسة بالإجماع من الأبدان والثياب بغير نية . ورواه الوليد بن مسلم عن مالك .

التاسعة عشرة : وأما قدر الماء الذي يغتسل به ؛ فروى مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من إناء هو الفرق من الجنابة . " الفرق " تحرك راؤه وتسكن . قال ابن وهب : " الفرق " مكيال من الخشب ، كان ابن شهاب يقول : إنه يسع خمسة أقساط بأقساط بني أمية . وقد فسر محمد بن عيسى الأعشى " الفرق " فقال : ثلاثة آصع ، قال : وهي خمسة أقساط ، قال : وفي الخمسة أقساط اثنا عشر مدا بمد النبي صلى الله عليه وسلم . وفي صحيح مسلم قال سفيان : " الفرق " ثلاثة آصع . وعن أنس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد . وفي رواية : يغتسل بخمسة مكاكيك ويتوضأ بمكوك . وهذه الأحاديث تدل على استحباب تقليل الماء من غير كيل ولا وزن ، يأخذ منه الإنسان بقدر ما يكفي ولا يكثر منه ، فإن الإكثار منه سرف والسرف مذموم . ومذهب الإباضية الإكثار من الماء ، وذلك من الشيطان .

الموفية عشرين : قوله تعالى : وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم

هذه آية التيمم ، نزلت في عبد الرحمن بن عوف أصابته جنابة وهو جريح ؛ فرخص له في أن يتيمم ، ثم صارت الآية عامة في جميع الناس . وقيل : نزلت بسبب عدم الصحابة الماء في غزوة " المريسيع " حين انقطع العقد لعائشة . أخرج الحديث مالك من رواية عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة . وترجم البخاري هذه الآية في كتاب التفسير : حدثنا محمد قال : أخبرنا عبدة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : هلكت قلادة لأسماء فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبها رجالا ، فحضرت الصلاة وليسوا على وضوء ولم يجدوا ماء فصلوا وهم على غير وضوء ؛ فأنزل الله تعالى آية التيمم .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #238  
قديم 22-01-2023, 04:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (5)
سُورَةُ النِّسَاءِ
من صــ 187 الى صــ 194
الحلقة (238)




[ ص: 187 ] قلت : وهذه الرواية ليس فيها ذكر للموضع ، وفيها أن القلادة كانت لأسماء ؛ خلاف حديث مالك . وذكر النسائي من رواية علي بن مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها استعارت من أسماء قلادة لها وهي في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فانسلت منها وكان ذلك المكان يقال له الصلصل ؛ وذكر الحديث . ففي هذه الرواية عن هشام أن القلادة كانت لأسماء ، وأن عائشة استعارتها من أسماء . وهذا بيان لحديث مالك إذا قال : انقطع عقد لعائشة ، ولحديث البخاري إذ قال : هلكت قلادة لأسماء . وفيه أن المكان يقال له الصلصل . وأخرجه الترمذي حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه ، عن عائشة أنها سقطت قلادتها ليلة الأبواء ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين في طلبها ، وذكر الحديث . ففي هذه الرواية عن هشام أيضا إضافة القلادة إليها ، لكن إضافة مستعير بدليل حديث النسائي . وقال في المكان : " الأبواء " كما قال مالك ، إلا أنه من غير شك . وفي حديث مالك قال : وبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته . وجاء في البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجده . وهذا كله صحيح المعنى ، وليس اختلاف النقلة في العقد والقلادة ولا في الموضع ما يقدح في الحديث ولا يوهن شيئا منه ؛ لأن المعنى المراد من الحديث والمقصود به إليه هو نزول التيمم ، وقد ثبتت الروايات في أمر القلادة . وأما قوله في حديث الترمذي : فأرسل رجلين قيل : أحدهما أسيد بن حضير . ولعلهما المراد بالرجال في حديث البخاري فعبر عنهما بلفظ الجمع ، إذ أقل الجمع اثنان ، أو أردف في أثرهما غيرهما فصح إطلاق اللفظ والله أعلم . فبعثوا في طلبها فطلبوا فلم يجدوا شيئا في وجهتهم ، فلما رجعوا أثاروا البعير فوجدوه تحته . وقد روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابتهم جراحة ففشت فيهم ثم ابتلوا بالجنابة فشكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية . وهذا أيضا ليس بخلاف لما ذكرنا ؛ فإنهم ربما أصابتهم الجراحة في غزوتهم تلك التي قفلوا منها إذ كان فيها قتال فشكوا ، وضاع العقد ونزلت الآية . وقد قيل : إن ضياع العقد كان في غزاة بني المصطلق . وهذا أيضا ليس بخلاف لقول من قال في غزاة المريسيع ، إذ هي غزاة واحدة ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم غزا بني المصطلق في شعبان من السنة السادسة من الهجرة ، على ما قال خليفة بن خياط وأبو عمر بن عبد البر ، واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري . وقيل : بل نميلة بن عبد الله الليثي . وأغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون ، وهم على ماء يقال له المريسيع من ناحية قديد مما يلي الساحل فقتل من قتل وسبى من سبى من النساء والذرية وكان شعارهم يومئذ : أمت أمت . وقد قيل : إن بني المصطلق جمعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوه ، فلما بلغه ذلك خرج إليهم فلقيهم على ماء . فهذا ما جاء في بدء [ ص: 188 ] التيمم والسبب فيه . وقد قيل : إن آية المائدة آية التيمم ، على ما يأتي بيانه هناك . قال أبو عمر : فأنزل الله تعالى آية التيمم ، وهي آية الوضوء المذكورة في سورة " المائدة " ، أو الآية التي في سورة " النساء " . ليس التيمم مذكورا في غير هاتين الآيتين وهما مدنيتان .

الحادية والعشرون : قوله تعالى : مرضى المرض عبارة عن خروج البدن عن حد الاعتدال والاعتياد ، إلى الاعوجاج والشذوذ . وهو على ضربين : كثير ويسير ؛ فإذا كان كثيرا بحيث يخاف الموت لبرد الماء ، أو للعلة التي به ، أو يخاف فوت بعض الأعضاء ، فهذا يتيمم بإجماع ؛ إلا ما روي عن الحسن وعطاء أنه يتطهر وإن مات . وهذا مردود بقوله تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج وقوله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم . وروى الدارقطني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله عز وجل : وإن كنتم مرضى أو على سفر قال : إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله أو القروح أو الجدري فيجنب فخاف أن يموت إن اغتسل ، تيمم . وعن سعد بن جبير أيضا عن ابن عباس قال : رخص للمريض في التيمم بالصعيد . وتيمم عمرو بن العاص لما خاف أن يهلك من شدة البرد ولم يأمره صلى الله عليه وسلم بغسل ولا إعادة . فإن كان يسيرا إلا أنه يخاف معه حدوث علة أو زيادتها أو بطء برء فهؤلاء يتيممون بإجماع من المذهب . قال ابن عطية : فيما حفظت .

قلت : قد ذكر الباجي فيه خلافا ؛ قال القاضي أبو الحسن : مثل أن يخاف الصحيح نزلة أو حمى ، وكذلك إن كان المريض يخاف زيادة مرض ؛ وبنحو ذلك قال أبو حنيفة . وقال الشافعي : لا يجوز له التيمم مع وجود الماء إلا أن يخاف التلف ؛ ورواه القاضي أبو الحسن عن مالك . قال ابن العربي : " قال الشافعي لا يباح التيمم للمريض إلا إذا خاف التلف ؛ لأن زيادة المرض غير متحققة ؛ لأنها قد تكون وقد لا تكون ، ولا يجوز ترك الفرض المتيقن للخوف المشكوك . قلنا : قد ناقضت ؛ فإنك قلت إذا خاف التلف من البرد تيمم ؛ فكما يبيح التيمم خوف التلف كذلك يبيحه خوف المرض ؛ لأن المرض محذور كما أن التلف محذور . قال : وعجبا للشافعي يقول : لو زاد الماء على قدر قيمته حبة لم يلزمه شراؤه صيانة للمال ويلزمه التيمم ، وهو يخاف على بدنه المرض ! وليس لهم عليه كلام يساوي سماعه " .

قلت : الصحيح من قول الشافعي فيما قال القشيري أبو نصر عبد الرحيم في تفسيره : والمرض الذي يباح له التيمم هو الذي يخاف فيه فوت الروح أو فوات بعض الأعضاء لو [ ص: 189 ] استعمل الماء . فإن خاف طول المرض فالقول الصحيح للشافعي : جواز التيمم . روى أبو داود والدارقطني ، عن يحيى بن أيوب ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عمران بن أبي أنس ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن عمرو بن العاص قال : احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ؛ فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح ؛ فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا عمرو : صليت بأصحابك وأنت جنب ؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت : إني سمعت الله عز وجل يقول : ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما فضحك نبي الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا . فدل هذا الحديث على إباحة التيمم مع الخوف لا مع اليقين ، وفيه إطلاق اسم الجنب على المتيمم وجواز صلاة المتيمم بالمتوضئين ؛ وهذا أحد القولين عندنا ؛ وهو الصحيح وهو الذي أقرأه مالك في موطئه وقرئ عليه إلى أن مات .

والقول الثاني : أنه لا يصلي ؛ لأنه أنقص فضيلة من المتوضئ ، وحكم الإمام أن يكون أعلى رتبة ؛ وقد روى الدارقطني من حديث جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يؤم المتيمم المتوضئين إسناده ضعيف . وروى أبو داود والدارقطني عن جابر قال : خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه ثم احتلم ، فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم ؟ فقالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء ؛ فاغتسل فمات ، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال : قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب - شك موسى - على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده . قال الدارقطني : " قال أبو بكر هذه سنة تفرد بها أهل مكة وحملها أهل الجزيرة ، ولم يروه عن عطاء عن جابر غير الزبير بن خريق ، وليس بالقوي ، وخالفه الأوزاعي فرواه عن عطاء عن ابن عباس وهو الصواب . واختلف عن الأوزاعي فقيل عنه عن عطاء ، وقيل عنه : بلغني عن عطاء ، وأرسل الأوزاعي آخره عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصواب . وقال ابن أبي حاتم : سألت أبي وأبا زرعة عنه فقالا : رواه ابن أبي العشرين ، عن الأوزاعي ، عن إسماعيل بن مسلم ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، وأسند الحديث " . وقال داود : كل من انطلق عليه اسم المريض فجائز له التيمم ؛ لقوله تعالى : وإن كنتم مرضى . قال ابن عطية : وهذا قول خلف ، وإنما هو عند علماء الأمة لمن خاف من استعمال [ ص: 190 ] الماء أو تأذيه به كالمجدور والمحصوب ، والعلل المخوف عليها من الماء ؛ كما تقدم عن ابن عباس .

الثانية والعشرون : أو على سفر يجوز التيمم بسبب السفر طال أو قصر عند عدم الماء ، ولا يشترط أن يكون مما تقصر فيه الصلاة ؛ هذا مذهب مالك وجمهور العلماء . وقال قوم : لا يتيمم إلا في سفر تقصر فيه الصلاة . واشترط آخرون أن يكون سفر طاعة . وهذا كله ضعيف . والله أعلم .

الثالثة والعشرون : أجمع العلماء على جواز التيمم في السفر حسبما ذكرنا ، واختلفوا فيه في الحضر ؛ فذهبمالك وأصحابه إلى أن التيمم في الحضر والسفر جائز ؛ وهو قول أبي حنيفة ومحمد . وقال الشافعي : لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف التلف ؛ وهو قول الطبري . وقال الشافعي أيضا والليث والطبري : إذا عدم الماء في الحضر مع خوف الوقت الصحيح والسقيم تيمم وصلى ثم أعاد . وقال أبو يوسف وزفر : لا يجوز التيمم في الحضر لا لمرض ولا لخوف الوقت وقال الحسن وعطاء : لا يتيمم المريض إذا وجد الماء ، ولا غير المريض . وسبب الخلاف اختلافهم في مفهوم الآية ؛ فقال مالك ومن تابعه : ذكر الله تعالى المرضى والمسافرين في شرط التيمم خرج على الأغلب فيمن لا يجد الماء ، والحاضرون الأغلب عليهم وجوده فلذلك لم ينص عليهم . فكل من لم يجد الماء أو منعه منه مانع أو خاف فوات وقت الصلاة ، تيمم المسافر بالنص ، والحاضر بالمعنى . وكذلك المريض بالنص والصحيح بالمعنى . وأما من منعه في الحضر فقال : إن الله تعالى جعل التيمم رخصة للمريض والمسافر ؛ كالفطر وقصر الصلاة ، ولم يبح التيمم إلا بشرطين ، وهما المرض والسفر ؛ فلا دخول للحاضر الصحيح في ذلك لخروجه من شرط الله تعالى . وأما قول الحسن وعطاء الذي منعه جملة مع وجود الماء فقال : إنما شرطه الله تعالى مع عدم الماء ، لقوله تعالى : فلم تجدوا ماء فتيمموا فلم يبح التيمم لأحد إلا عند فقد الماء . وقال أبو عمر : ولولا قول الجمهور وما روي من الأثر لكان قول الحسن وعطاء صحيحا ؛ والله أعلم . وقد أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم التيمم لعمرو بن العاص وهو مسافر إذ خاف الهلاك إن اغتسل بالماء ، فالمريض أحرى بذلك .

قلت : ومن الدليل على جواز التيمم في الحضر إذا خاف فوات الصلاة إن ذهب إلى الماء الكتاب والسنة :

[ ص: 191 ] أما الكتاب فقوله سبحانه : أو جاء أحد منكم من الغائط يعني المقيم إذا عدم الماء تيمم . نص عليه القشيري عبد الرحيم قال : ثم يقطع النظر في وجوب القضاء ؛ لأن عدم الماء في الحضر عذر نادر وفي القضاء قولان :

قلت : وهكذا نص أصحابنا فيمن تيمم في الحضر ، فهل يعيد إذا وجد الماء أم لا ؛ المشهور من مذهب مالك أنه لا يعيد وهو الصحيح . وقال ابن حبيب ومحمد بن عبد الحكم . يعيد أبدا ؛ ورواه ابن المنذر عن مالك . وقال الوليد عنه : يغتسل وإن طلعت الشمس .

وأما السنة فما رواه البخاري عن أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري قال : أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو " بئر جمل " فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ، ثم رد عليه السلام . وأخرجه مسلم وليس فيه لفظ " بئر " . وأخرجه الدارقطني من حديث ابن عمر وفيه " ثم رد على الرجل السلام وقال : إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أني لم أكن على طهر .

الرابعة والعشرون : أو جاء أحد منكم من الغائط الغائط أصله ما انخفض من الأرض ، والجمع الغيطان أو الأغواط ؛ وبه سمي غوطة دمشق . وكانت العرب تقصد هذا الصنف من المواضع لقضاء حاجتها تسترا عن أعين الناس ، ثم سمي الحدث الخارج من الإنسان غائطا للمقارنة . وغاط في الأرض يغوط إذا غاب .

وقرأ الزهري : " من الغيط " فيحتمل أن يكون أصله الغيط فخفف ، كهين وميت وشبهه . ويحتمل أن يكون من الغوط ؛ بدلالة قولهم تغوط إذا أتى الغائط ، فقلبت واو الغوط ياء ؛ كما قالوا في لا حول لا حيل . وأو بمعنى الواو ، أي إن كنتم مرضى أو على سفر وجاء أحد منكم من الغائط فتيمموا فالسبب الموجب للتيمم على هذا هو الحدث لا المرض والسفر ؛ فدل على جواز التيمم في الحضر كما بيناه . والصحيح في أو أنها على بابها عند أهل النظر . فلأو معناها ، وللواو معناها . وهذا عندهم على الحذف ، والمعنى وإن كنتم مرضى مرضا لا تقدرون فيه على مس الماء أو على سفر ولم تجدوا ماء واحتجتم إلى الماء . والله أعلم .

الخامسة والعشرون : لفظ الغائط يجمع بالمعنى جميع الأحداث الناقضة للطهارة الصغرى . وقد اختلف الناس في حصرها ، وأنبل ما قيل في ذلك أنها ثلاثة أنواع ، لا خلاف فيها في مذهبنا : زوال العقل ، خارج معتاد ، ملامسة . وعلى مذهب أبي حنيفة ما خرج من [ ص: 192 ] الجسد من النجاسات ، ولا يراعى المخرج ولا يعد اللمس . وعلى مذهب الشافعي ومحمد بن عبد الحكم ما خرج من السبيلين ، ولا يراعى الاعتياد ، ويعد اللمس . وإذا تقرر هذا فاعلم أن المسلمين أجمعوا على أن من زال عقله بإغماء أو جنون أو سكر فعليه الوضوء ، واختلفوا في النوم هل هو حدث كسائر الأحداث ؟ أو ليس بحدث أو مظنة حدث ؛ ثلاثة أقوال : طرفان وواسطة .

الطرف الأول : ذهب المزني أبو إبراهيم إسماعيل إلى أنه حدث ، وأن الوضوء يجب بقليله وكثيره كسائر الأحداث ؛ وهو مقتضى قول مالك في الموطأ لقوله : ولا يتوضأ إلا من حدث يخرج من ذكر أو دبر أو نوم . ومقتضى حديث صفوان بن عسال أخرجه النسائي والدارقطني والترمذي وصححه . رووه جميعا من حديث عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش فقال : أتيت صفوان بن عسال المرادي فقلت : جئتك أسألك عن المسح على الخفين ؛ قال : نعم كنت في الجيش الذي بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرنا أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر ثلاثا إذا سافرنا ، ويوما وليلة إذا أقمنا ، ولا نخلعهما من بول ولا غائط ولا نوم ولا نخلعهما إلا من جنابة . ففي هذا الحديث وقول مالك التسوية بين الغائط والبول والنوم . قالوا : والقياس أنه لما كان كثيره وما غلب على العقل منه حدثا وجب أن يكون قليله كذلك . وقد روي عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وكاء السه العينان فمن نام فليتوضأ وهذا عام . أخرجه أبو داود ، وأخرجه الدارقطني من حديث معاوية بن أبي سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وأما الطرف الآخر فروي عن أبي موسى الأشعري ما يدل على أن النوم عنده ليس بحدث على أي حال كان ، حتى يحدث النائم حدثا غير النوم ؛ لأنه كان يوكل من يحرسه إذا نام . فإن لم يخرج منه حدث قام من نومه وصلى ؛ وروي عن عبيدة وسعيد بن المسيب والأوزاعي في رواية محمود بن خالد . والجمهور على خلاف هذين الطرفين . فأما جملة مذهب مالك فإن كل نائم استثقل نوما ، وطال نومه على أي حال كان ، فقد وجب عليه الوضوء ؛ وهو قول الزهري وربيعة والأوزاعي في رواية الوليد بن مسلم . قال أحمد بن حنبل : فإن كان النوم خفيفا لا يخامر القلب ولا يغمره لم يضر . وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا وضوء إلا على من نام مضطجعا أو متوركا . وقال الشافعي : من نام جالسا فلا وضوء عليه ؛ ورواه ابن وهب عن مالك . والصحيح من هذه الأقوال مشهور مذهب مالك ؛ لحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شغل عنها ليلة يعني العشاء فأخرها حتى رقدنا في المسجد ثم استيقظنا ثم [ ص: 193 ] رقدنا ثم استيقظنا ثم خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال : ليس أحد من أهل الأرض ينتظر الصلاة غيركم رواه الأئمة واللفظ للبخاري ؛ وهو أصح ما في هذا الباب من جهة الإسناد والعمل .

وأما ما قاله مالك في موطئه وصفوان بن عسال في حديثه فمعناه : ونوم ثقيل غالب على النفس ؛ بدليل هذا الحديث وما كان في معناه . وأيضا فقد روى حديث صفوان وكيع عن مسعر عن عاصم بن أبي النجود فقال : ( أو ريح ) بدل ( أو نوم ) ، فقال الدارقطني : لم يقل في هذا الحديث ( أو ريح ) غير وكيع عن مسعر .

قلت : وكيع ثقة إمام أخرج له البخاري ومسلم وغيرهما من الأئمة ؛ فسقط الاستدلال بحديث صفوان لمن تمسك به في أن النوم حدث . وأما ما ذهب إليه أبو حنيفة فضعيف ؛ رواه الدارقطني عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نام وهو ساجد حتى غط أو نفخ ثم قام فصلى ، فقلت : يا رسول الله إنك قد نمت ! فقال : إن الوضوء لا يجب إلا على من نام مضطجعا فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله . تفرد به أبو خالد عن قتادة ولا يصح ؛ قال الدارقطني . وأخرجه أبو داود وقال : قوله : ( الوضوء على من نام مضطجعا ) هو حديث منكر لم يروه إلا أبو خالد يزيد الدالاني عن قتادة ، وروى أوله جماعة عن ابن عباس لم يذكروا شيئا من هذا . وقال أبو عمر بن عبد البر : هذا حديث منكر لم يروه أحد من أصحاب قتادة الثقات ، وإنما انفرد به أبو خالد الدالاني ، وأنكروه وليس بحجة فيما نقل . وأما قول الشافعي : على كل نائم الوضوء إلا على الجالس وحده ، وإن كل من زال عن حد الاستواء ونام فعليه الوضوء ؛ فهو قولالطبري وداود ، وروي عن علي وابن مسعود وابن عمر ؛ لأن الجالس لا يكاد يستثقل ، فهو في معنى النوم الخفيف . وقد روى الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من نام جالسا فلا وضوء عليه ومن وضع جنبه فعليه الوضوء . وأما الخارج ؛ فلنا ما رواه البخاري قال : حدثنا قتيبة قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن خالد ، عن عكرمة ، عن عائشة قالت : اعتكفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من أزواجه فكانت ترى الدم والصفرة والطست تحتها وهي تصلي . فهذا خارج على غير المعتاد ، وإنما هو عرق انقطع فهو مرض ؛ وما كان هذا سبيله مما يخرج من السبيلين فلا وضوء فيه عندنا إيجابا ، خلافا للشافعي كما ذكرنا . وبالله توفيقنا . ويرد على الحنفي حيث راعى الخارج النجس . فصح ووضح مذهب مالك بن أنس رضي الله عنه ما تردد نفس ، وعنهم أجمعين .

السادسة والعشرون : قوله تعالى : أو لامستم النساء قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو [ ص: 194 ] وعاصم وابن عامر " لامستم " . وقرأ حمزة والكسائي : " لمستم " وفي معناه ثلاثة أقوال :

الأول : أن يكون لمستم جامعتم . الثاني : لمستم باشرتم . الثالث : يجمع الأمرين جميعا .

و " لامستم " بمعناه عند أكثر الناس ، إلا أنه حكي عن محمد بن يزيد أنه قال : الأولى في اللغة أن يكون " لامستم " بمعنى قبلتم أو نظيره ؛ لأن لكل واحد منهما فعلا . قال : و " لمستم " بمعنى غشيتم ومسستم ، وليس للمرأة في هذا فعل .

واختلف العلماء في حكم الآية على مذاهب خمسة ؛ فقالت فرقة : الملامسة هنا مختصة باليد ، والجنب لا ذكر له إلا مع الماء ؛ فلم يدخل في المعنى المراد بقوله : وإن كنتم مرضى الآية ، فلا سبيل له إلى التيمم ، وإنما يغتسل الجنب أو يدع الصلاة حتى يجد الماء ؛ روي هذا القول عن عمر وابن مسعود . قال أبو عمر : ولم يقل بقول عمر وعبد الله في هذه المسألة أحد من فقهاء الأمصار من أهل الرأي وحملة الآثار ؛ وذلك والله أعلم لحديث عمار وعمران بن حصين وحديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم في تيمم الجنب . وقال أبو حنيفة عكس هذا القول ، فقال : الملامسة هنا مختصة باللمس الذي هو الجماع . فالجنب يتيمم واللامس بيده لم يجر له ذكر ؛ فليس بحدث ولا هو ناقض لوضوئه . فإذا قبل الرجل امرأته للذة لم ينتقض وضوءه ؛ وعضدوا هذا بما رواه الدارقطني عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ . قال عروة : فقلت لها من هي إلا أنت ؟ فضحكت . وقال مالك : الملامس بالجماع يتيمم ، والملامس باليد يتيمم إذا التذ . فإذا لمسها بغير شهوة فلا وضوء ؛ وبه قال أحمد وإسحاق ، وهو مقتضى الآية . وقال علي بن زياد : وإن كان عليها ثوب كثيف فلا شيء عليه ، وإن كان خفيفا فعليه الوضوء . وقال عبد الملك بن الماجشون : من تعمد مس امرأته بيده لملاعبة فليتوضأ التذ أو لم يلتذ . قال القاضي أبو الوليد الباجي في المنتقى : والذي تحقق من مذهب مالك وأصحابه أن الوضوء إنما يجب لقصده اللذة دون وجودها ؛ فمن قصد اللذة بلمسه فقد وجب عليه الوضوء ، التذ بذلك أو لم يلتذ ؛ وهذا معنى ما في العتبية من رواية عيسى عن ابن القاسم . وأما الإنعاظ بمجرده فقد روى ابن نافع عن مالك أنه لا يوجب وضوءا ولا غسل ذكر حتى يكون معه لمس أو مذي . وقال الشيخ أبو إسحاق : من أنعظ إنعاظا انتقض وضوءه ؛ وهذا قول مالك في المدونة . وقال الشافعي : إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى بدن المرأة سواء كان باليد أو بغيرها من أعضاء الجسد تعلق نقض الطهر به ؛ وهو قول ابن مسعود وابن عمر والزهري وربيعة . وقال الأوزاعي : إذا كان اللمس باليد نقض الطهر ، وإن كان بغير اليد لم ينقضه ؛ لقوله تعالى : فلمسوه بأيديهم .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #239  
قديم 22-01-2023, 04:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (5)
سُورَةُ النِّسَاءِ
من صــ 195 الى صــ 202
الحلقة (239)


فهذه خمسة مذاهب أسدها [ ص: 195 ] مذهب مالك ؛ وهو مروي عن عمر وابنه عبد الله ، وهو قول عبد الله بن مسعود أن الملامسة ما دون الجماع ، وأن الوضوء يجب بذلك ؛ وإلى هذا ذهب أكثر الفقهاء . قال ابن العربي : وهو الظاهر من معنى الآية ؛ فإن قوله في أولها : ولا جنبا أفاد الجماع ، وإن قوله : أو جاء أحد منكم من الغائط أفاد الحدث ، وإن قوله : أو لامستم أفاد اللمس والقبل . فصارت ثلاث جمل لثلاثة أحكام ، وهذه غاية في العلم والإعلام . ولو كان المراد باللمس الجماع كان تكرارا في الكلام .

قلت : وأما ما استدل به أبو حنيفة من حديث عائشة فحديث مرسل ؛ رواه وكيع ، عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عروة ، عن عائشة . قال يحيى بن سعيد : وذكر حديث الأعمش عن حبيب عن عمرو فقال : أما أن سفيان الثوري كان أعلم الناس بهذا ، زعم أن حبيبا لم يسمع من عروة شيئا ؛ قال الدارقطني . فإن قيل : فأنتم تقولون بالمرسل فيلزمكم قبوله والعمل به . قلنا : تركناه لظاهر الآية وعمل الصحابة . فإن قيل : إن الملامسة هي الجماع وقد روي ذلك عن ابن عباس . قلنا : قد خالفه الفاروق وابنه وتابعهما عبد الله بن مسعود وهو كوفي ، فما لكم خالفتموه ؟ ! فإن قيل : الملامسة من باب المفاعلة ، ولا تكون إلا من اثنين ، واللمس باليد إنما يكون من واحد ؛ فثبت أن الملامسة هي الجماع . قلنا : الملامسة مقتضاها التقاء البشرتين ، سواء كان ذلك من واحد أو من اثنين ؛ لأن كل واحد منهما يوصف لامس وملموس .

جواب آخر : وهو أن الملامسة قد تكون من واحد ؛ ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الملامسة ، والثوب ملموس وليس بلامس ، وقد قال ابن عمر مخبرا عن نفسه " وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام " . وتقول العرب : عاقبت اللص وطارقت النعل ، وهو كثير .

فإن قيل : لما ذكر الله سبحانه سبب الحدث ، وهو المجيء من الغائط ذكر سبب الجنابة وهو الملامسة ، فبين الحدث والجنابة عند عدم الماء ، كما أفاد بيان حكمهما عند وجود الماء . قلنا : لا نمنع حمل اللفظ على الجماع واللمس ، ويفيد الحكمين كما بينا . وقد قرئ " لمستم " كما ذكرنا .

وأما ما ذهب إليه الشافعي من لمس الرجل المرأة ببعض أعضائه لا حائل بينه وبينها لشهوة أو لغير شهوة وجب عليه الوضوء فهو ظاهر القرآن أيضا ؛ وكذلك إن لمسته هي وجب عليه الوضوء ، إلا الشعر ؛ فإنه لا وضوء لمن مس شعر امرأته لشهوة كان أو لغير شهوة ، وكذلك السن والظفر ، فإن ذلك مخالف للبشرة . ولو احتاط فتوضأ إذا مس شعرها كان حسنا . ولو مسها بيده أو مسته بيدها من فوق الثوب فالتذ بذلك أو لم يلتذ لم يكن عليهما شيء حتى [ ص: 196 ] يفضي إلى البشرة ، وسواء في ذلك كان متعمدا أو ساهيا ، كانت المرأة حية أو ميتة إذا كانت أجنبية . واختلف قوله إذا لمس صبية صغيرة أو عجوزا كبيرة بيده أو واحدة من ذوات محارمه ممن لا يحل له نكاحها ، فمرة قال : ينتقض الوضوء ؛ لقوله تعالى : أو لامستم النساء فلم يفرق . والثاني لا ينقض ؛ لأنه لا مدخل للشهوة فيهن . قال المروزي : قول الشافعي أشبه بظاهر الكتاب ؛ لأن الله عز وجل قال : أو لامستم النساء ولم يقل بشهوة ولا من غير شهوة ؛ وكذلك الذين أوجبوا الوضوء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترطوا الشهوة . قال : وكذلك عامة التابعين . قال المروزي : فأما ما ذهب إليه مالك من مراعاة الشهوة واللذة من فوق الثوب يوجب الوضوء فقد وافقه على ذلك الليث بن سعد ، ولا نعلم أحدا قال ذلك غيرهما . قال : ولا يصح ذلك في النظر ؛ لأن من فعل ذلك فهو غير لامس لامرأته ، وغير مماس لها في الحقيقة ، إنما هو لامس لثوبها . وقد أجمعوا أنه لو تلذذ واشتهى أن يلمس لم يجب عليه وضوء ؛ فكذلك من لمس فوق الثوب لأنه غير مماس للمرأة .

قلت : أما ما ذكر من أنه لم يوافق مالكا على قوله إلا الليث بن سعد ، فقد ذكر الحافظ أبو عمر بن عبد البر أن ذلك قول إسحاق وأحمد ، وروي ذلك عن الشعبي والنخعي كلهم قالوا : إذا لمس فالتذ وجب الوضوء ، وإن لم يلتذ فلا وضوء . وأما قوله : " ولا يصح ذلك في النظر " فليس بصحيح ؛ وقد جاء في صحيح الخبر عن عائشة قالت : كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته ، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي ، وإذا قام بسطتهما ثانيا ، قالت : والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح . فهذا نص في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان الملامس ، وأنه غمز رجلي عائشة ؛ كما في رواية القاسم عن عائشة ( فإذا أراد أن يسجد غمز رجلي فقبضتهما ) أخرجه البخاري . فهذا يخص عموم قوله : أو لامستم فكان واجبا لظاهر الآية انتقاض وضوء كل ملامس كيف لامس . ودلت السنة التي هي البيان لكتاب الله تعالى أن الوضوء على بعض الملامسين دون بعض ، وهو من لم يلتذ ولم يقصد . ولا يقال : فلعله كان على قدمي عائشة ثوب ، أو كان يضرب رجليها بكمه ؛ فإنا نقول : حقيقة الغمز إنما هو باليد ؛ ومنه غمزك الكبش أي تجسه لتنظر أهو سمين أم لا ؟ فأما أن يكون الغمز الضرب بالكم فلا . والرجل من النائم الغالب عليها ظهورها من النائم ؛ لا سيما مع امتداده وضيق حاله . فهذه كانت الحال في ذلك الوقت ؛ ألا ترى إلى قولها : ( وإذا قام بسطتهما ) وقولها : ( والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح ) . وقد جاء صريحا عنها قالت : ( كنت أمد رجلي في قبلة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فإذا سجد غمزني [ ص: 197 ] فرفعتهما ، فإذا قام مددتهما ) أخرجه البخاري . فظهر أن الغمز كان على حقيقته مع المباشرة . ودليل آخر - وهو ما روته عائشة أيضا رضي الله عنها قالت : فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته ، فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان ؛ الحديث . فلما وضعت يدها على قدمه وهو ساجد وتمادى في سجوده كان دليلا على أن الوضوء لا ينتقض إلا على بعض الملامسين دون بعض .

فإن قيل : كان على قدمه حائل كما قاله المزني . قيل له : القدم قدم بلا حائل حتى يثبت الحائل ، والأصل الوقوف مع الظاهر ؛ بل بمجموع ما ذكرنا يجتمع منه كالنص .

فإن قيل : فقد أجمعت الأمة على أن رجلا لو استكره امرأة فمس ختانه ختانها وهي لا تلتذ لذلك ، أو كانت نائمة فلم تلتذ ولم تشته أن الغسل واجب عليها ؛ فكذلك حكم من قبل أو لامس بشهوة أو لغير شهوة انتقضت طهارته ووجب عليه الوضوء ؛ لأن المعنى في الجسة واللمسة والقبلة الفعل لا اللذة . قلنا : قد ذكرنا أن الأعمش وغيره قد خالف فيما ادعيتموه من الإجماع . سلمناه ، لكن هذا استدلال بالإجماع في محل النزاع فلا يلزم ؛ وقد استدللنا على صحة مذهبنا بأحاديث صحيحة . وقد قال الشافعي - فيما زعمتم إنه لم يسبق إليه ، وقد سبقه إليه شيخه مالك ؛ كما هو مشهور عندنا " إذا صح الحديث فخذوا به ودعوا قولي " وقد ثبت الحديث بذلك فلم لا تقولون به ؟ ! ويلزم على مذهبكم أن من ضرب امرأته فلطمها بيده تأديبا لها وإغلاظا عليها أن ينتقض وضوءه ؛ إذ المقصود وجود الفعل ، وهذا لا يقوله أحد فيما أعلم ، والله أعلم . وروى الأئمة مالك وغيره أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي وأمامة بنت أبي العاص ابنة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على عاتقه ، فإذا ركع وضعها ، وإذا رفع من السجود أعادها . وهذا يرد ما قاله الشافعي في أحد قوليه : لو لمس صغيرة لانتقض طهره تمسكا بلفظ النساء ، وهذا ضعيف ؛ فإن لمس الصغيرة كلمس الحائط . واختلف قوله في ذوات المحارم لأجل أنه لا يعتبر اللذة ، ونحن اعتبرنا اللذة فحيث وجدت وجد الحكم ، وهو وجوب الوضوء . وأما قول الأوزاعي في اعتباره اليد خاصة ؛ فإن اللمس أكثر ما يستعمل باليد ، فقصره عليه دون غيره من الأعضاء ؛ حتى إنه لو أدخل الرجل رجليه في ثياب امرأته فمس فرجها أو بطنها لا ينتقض لذلك وضوءه . وقال في الرجل يقبل امرأته : إن جاء يسألني قلت يتوضأ ، وإن لم يتوضأ لم أعبه . وقال أبو ثور : لا وضوء على من قبل امرأته أو باشرها أو لمسها . وهذا يخرج على مذهب أبي حنيفة ، والله أعلم .

السابعة والعشرون : قوله تعالى : فلم تجدوا ماء الأسباب التي لا يجد المسافر معها [ ص: 198 ] الماء هي إما عدمه جملة أو عدم بعضه ، وإما أن يخاف فوات الرفيق ، أو على الرحل بسبب طلبه ، أو يخاف لصوصا أو سباعا ، أو فوات الوقت ، أو عطشا على نفسه أو على غيره ؛ وكذلك لطبيخ يطبخه لمصلحة بدنه ؛ فإذا كان أحد هذه الأشياء تيمم وصلى . ويترتب عدمه للمريض بألا يجد من يناوله ، أو يخاف من ضرره . ويترتب أيضا عدمه للصحيح الحاضر بالغلاء الذي يعم جميع الأصناف ، أو بأن يسجن أو يربط . وقال الحسن : يشتري الرجل الماء بماله كله ويبقى عديما ، وهذا ضعيف ، لأن دين الله يسر . وقالت طائفة : يشتريه ما لم يزد على القيمة الثلث فصاعدا . وقالت طائفة : يشتري قيمة الدرهم بالدرهمين والثلاث ونحو هذا ؛ وهذا كله في مذهب مالك رحمه الله . وقيل لأشهب : أتشترى القربة بعشرة دراهم ؟ فقال : ما أرى ذلك على الناس . وقال الشافعي بعدم الزيادة .

الثامنة والعشرون : واختلف العلماء هل طلب الماء شرط في صحة التيمم أم لا ؟ فظاهر مذهب مالك أن ذلك شرط ، وهو قول الشافعي . وذهب القاضي أبو محمد بن نصر إلى أن ذلك ليس بشرط في صحة التيمم ؛ وهو قول أبي حنيفة . وروي عن ابن عمر أنه كان يكون في السفر على غلوتين من طريقه فلا يعدل إليه . قال إسحاق : لا يلزمه الطلب إلا في موضعه ، وذكر حديث ابن عمر ، والأول أصح وهو المشهور من مذهب مالك في الموطأ لقوله تعالى : فلم تجدوا ماء وهذا يقتضي أن التيمم لا يستعمل إلا بعد طلب الماء . وأيضا من جهة القياس أن هذا بدل مأمور به عند العجز عن مبدله ، فلا يجزئ فعله إلا مع تيقن عدم مبدله ؛ كالصوم مع العتق في الكفارة .

التاسعة والعشرون : وإذا ثبت هذا وعدم الماء ، فلا يخلو أن يغلب على ظن المكلف اليأس من وجوده في الوقت ، أو يغلب على ظنه وجوده ويقوى رجاؤه له ، أو يتساوى عنده الأمران ، فهذه ثلاثة أحوال :

فالأول : يستحب له التيمم والصلاة في أول الوقت : لأنه إذا فاتته فضيلة الماء فإنه يستحب له أن يحرز فضيلة أول الوقت .

الثاني : يتيمم وسط الوقت ؛ حكاه أصحاب مالك عنه ، فيؤخر الصلاة رجاء إدراك فضيلة الماء ما لم تفته فضيلة أول الوقت ، فإن فضيلة أول الوقت قد تدرك بوسطه لقربه منه .

الثالث : يؤخر الصلاة إلى أن يجد الماء في آخر الوقت ؛ لأن فضيلة الماء أعظم من فضيلة أول الوقت ، لأن فضيلة أول الوقت مختلف فيها ، وفضيلة الماء متفق عليها ، وفضيلة [ ص: 199 ] أول الوقت يجوز تركها دون ضرورة ولا يجوز ترك فضيلة الماء إلا لضرورة ، والوقت في ذلك هو آخر الوقت المختار ؛ قاله ابن حبيب . ولو علم الماء في آخر الوقت فتيمم في أوله وصلى فقد قال ابن القاسم : يجزئه ، فإن وجد الماء أعاد في الوقت خاصة . وقال عبد الملك بن الماجشون : إن وجد الماء بعد أعاد أبدا .

الموفية ثلاثين : والذي يراعى من وجود الماء أن يجد منه ما يكفيه لطهارته ، فإن وجد أقل من كفايته تيمم ولم يستعمل ما وجد منه . وهذا قول مالك وأصحابه ؛ وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه ، وهو قول أكثر العلماء ؛ لأن الله تعالى جعل فرضه أحد الشيئين ، إما الماء وإما التراب . فإن لم يكن الماء مغنيا عن التيمم كان غير موجود شرعا ؛ لأن المطلوب من وجوده الكفاية . وقال الشافعي في القول الآخر : يستعمل ما معه من الماء ويتيمم ؛ لأنه واجد ماء فلم يتحقق شرط التيمم ؛ فإذا استعمله وفقد الماء تيمم لما لم يجد . واختلف قول الشافعي أيضا فيما إذا نسي الماء في رحله فتيمم ؛ والصحيح أنه يعيد ؛ لأنه إذا كان الماء عنده فهو واجد وإنما فرط . والقول الآخر لا يعيد ؛ وهو قول مالك ؛ لأنه إذا لم يعلمه فلم يجده .

الحادية والثلاثون : وأجاز أبو حنيفة الوضوء بالماء المتغير ؛ لقوله تعالى : فلم تجدوا ماء فقال : هذا نفي في نكرة ، وهو يعم لغة ؛ فيكون مفيدا جواز الوضوء بالماء المتغير وغير المتغير ؛ لانطلاق اسم الماء عليه . قلنا : النفي في النكرة يعم كما قلتم ، ولكن في الجنس ، فهو عام في كل ماء كان من سماء أو نهر أو عين عذب أو ملح . فأما غير الجنس وهو المتغير فلا يدخل فيه ؛ كما لا يدخل فيه ماء الباقلاء ولا ماء الورد ، وسيأتي حكم المياه في " الفرقان " ، إن شاء الله تعالى .

الثانية والثلاثون : وأجمعوا على أن الوضوء والاغتسال لا يجوز بشيء من الأشربة سوى النبيذ عند عدم الماء ؛ وقوله تعالى : فلم تجدوا ماء فتيمموا يرده . والحديث الذي فيه ذكر الوضوء بالنبيذ رواه ابن مسعود ، وليس بثابت ؛ لأن الذي رواه أبو زيد ، وهو مجهول لا يعرف بصحبة عبد الله ؛ قاله ابن المنذر وغيره . وسيأتي في " الفرقان " بيانه إن شاء الله تعالى .

الثالثة والثلاثون : الماء الذي يبيح عدمه التيمم هو الطاهر المطهر الباقي على أوصاف خلقته . وقال بعض من ألف في أحكام القرآن لما قال تعالى : فلم تجدوا ماء فتيمموا فإنما أباح التيمم عند عدم كل جزء من ماء ؛ لأنه لفظ منكر يتناول كل جزء منه ؛ سواء كان مخالطا لغيره أو منفردا بنفسه . ولا يمتنع أحد أن يقول في نبيذ التمر ماء ؛ فلما كان كذلك لم يجز [ ص: 200 ] التيمم مع وجوده .

وهذا مذهب الكوفيين أبي حنيفة وأصحابه ؛ واستدلوا على ذلك بأخبار ضعيفة يأتي ذكرها في سورة " الفرقان " ، وهناك يأتي القول في الماء إن شاء الله تعالى .

الرابعة والثلاثون : قوله تعالى : ( فتيمموا ) التيمم مما خصت به هذه الأمة توسعة عليها ؛ قال صلى الله عليه وسلم : فضلنا على الناس بثلاث جعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا وذكر الحديث ، وقد تقدم ذكر نزوله ، وذلك بسبب القلادة حسبما بيناه . وقد تقدم ذكر الأسباب التي تبيحه ، والكلام هاهنا في معناه لغة وشرعا ، وفي صفته وكيفيته وما يتيمم به وله ، ومن يجوز له التيمم ، وشروط التيمم إلى غير ذلك من أحكامه .

فالتيمم لغة هو القصد . تيممت الشيء قصدته ، وتيممت الصعيد تعمدته ، وتيممته برمحي وسهمي أي قصدته دون من سواه . وأنشد الخليل : للشاعر ضرار بن عمرو الضبي :


يممته الرمح شزرا ثم قلت له هذي البسالة لا لعب الزحاليق
قال الخليل : من قال في هذا البيت أممته فقد أخطأ ؛ لأنه قال : " شزرا " ولا يكون الشزر إلا من ناحية ولم يقصد به أمامه . وقال امرؤ القيس :


تيممتها من أذرعات وأهلها بيثرب أدنى دارها نظر عال
وقال أيضا :


تيممت العين التي عند ضارج يفيء عليها الظل عرمضها طامي
آخر :


إني كذاك إذا ما ساءني بلد يممت بعيري غيره بلدا
وقال أعشى باهلة :


تيممت قيسا وكم دونه من الأرض من مهمه ذي شزن
[ ص: 201 ] وقال حميد بن ثور :


سل الربع أنى يممت أم طارق وهل عادة للربع أن يتكلما
وللشافعي رضي الله عنه :


علمي معي حيثما يممت أحمله بطني وعاء له لا بطن صندوق
قال ابن السكيت : قوله تعالى : فتيمموا صعيدا طيبا أي اقصدوا ؛ ثم كثر استعمالهم لهذه الكلمة حتى صار التيمم مسح الوجه واليدين بالتراب . وقال ابن الأنباري في قولهم : " قد تيمم الرجل " معناه قد مسح التراب على وجهه ويديه .

قلت : وهذا هو التيمم الشرعي ، إذا كان المقصود به القربة . ويممت المريض فتيمم للصلاة . ورجل ميمم يظفر بكل ما يطلب ؛ عن الشيباني . وأنشد :


إنا وجدنا أعصر بن سعد ميمم البيت رفيع المجد
وقال آخر :


أزهر لم يولد بنجم الشح ميمم البيت كريم السنح


الخامسة والثلاثون : لفظ التيمم ذكره الله تعالى في كتابه في " البقرة " وفي هذه السورة و " المائدة " والتي في هذه السورة هي آية التيمم . والله أعلم . وقال القاضي أبو بكر بن العربي : هذه معضلة ما وجدت لدائها من دواء عند أحمد ؛ هما آيتان فيهما ذكر التيمم إحداهما في " النساء " والأخرى في " المائدة " . فلا نعلم أية آية عنت عائشة بقولها : " فأنزل الله آية التيمم " . ثم قال : وحديثها يدل على أن التيمم قبل ذلك لم يكن معلوما ولا مفعولا لهم .

قلت : أما قوله : " فلا نعلم أية آية عنت عائشة " فهي هذه الآية على ما ذكرنا . والله أعلم . وقوله : " وحديثها يدل على أن التيمم قبل ذلك لم يكن معلوما ولا مفعولا لهم " في صحيح ولا خلاف فيه بين أهل السير ؛ لأنه معلوم أن غسل الجنابة لم يفترض قبل الوضوء ، كما أنه معلوم عند جميع أهل السير أن النبي صلى الله عليه وسلم منذ افترضت عليه الصلاة بمكة لم يصل إلا بوضوء مثل وضوئنا اليوم . فدل على أن آية الوضوء إنما نزلت ليكون فرضها المتقدم متلوا في التنزيل . وفي قوله : " فنزلت آية التيمم " ولم يقل آية الوضوء ما يبين أن الذي طرأ لهم من العلم في ذلك الوقت حكم التيمم لا حكم الوضوء ؛ وهذا بين لا إشكال فيه .

السادسة والثلاثون : التيمم يلزم كل مكلف لزمته الصلاة إذا عدم الماء ودخل وقت [ ص: 202 ] الصلاة . وقال أبو حنيفة وصاحباه والمزني صاحب الشافعي : يجوز قبله ؛ لأن طلب الماء عندهم ليس بشرط قياسا على النافلة ؛ فلما جاز التيمم للنافلة دون طلب الماء جاز أيضا للفريضة . واستدلوا من السنة بقوله عليه السلام لأبي ذر : الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج . فسمى عليه السلام الصعيد وضوءا كما يسمى الماء ؛ فحكمه إذا حكم الماء . والله أعلم . ودليلنا قوله تعالى : فلم تجدوا ماء ولا يقال : لم يجد الماء إلا لمن طلب ولم يجد . وقد تقدم هذا المعنى ؛ ولأنها طهارة ضرورة كالمستحاضة ؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : فأينما أدركتك الصلاة تيممت وصليت . وهو قول الشافعي وأحمد ، وهو مروي عن علي وابن عمر وابن عباس .

السابعة والثلاثون : وأجمع العلماء على أن التيمم لا يرفع الجنابة ولا الحدث ، وأن المتيمم لهما إذا وجد الماء عاد جنبا كما كان أو محدثا ؛ لقوله عليه السلام لأبي ذر : إذا وجدت الماء فأمسه جلدك إلا شيء روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، رواه ابن جريج وعبد الحميد بن جبير بن شيبة عنه ؛ ورواه ابن أبي ذئب عن عبد الرحمن بن حرملة عنه قال في الجنب المتيمم يجد الماء وهو على طهارته : لا يحتاج إلى غسل ولا وضوء حتى يحدث . وقد روي عنه فيمن تيمم وصلى ثم وجد الماء في الوقت أنه يتوضأ ويعيد تلك الصلاة . قال ابن عبد البر : وهذا تناقض وقلة روية . ولم يكن أبو سلمة عندهم يفقه كفقه أصحابه التابعين بالمدينة .

الثامنة والثلاثون : وأجمعوا على أن من تيمم ثم وجد الماء قبل الدخول في الصلاة بطل تيممه ؛ وعليه استعمال الماء . والجمهور على أن من تيمم وصلى وفرغ من صلاته ، وقد كان اجتهد في طلبه الماء ولم يكن في رحله أن صلاته تامة ؛ لأنه أدى فرضه كما أمر . فغير جائز أن توجب عليه الإعادة بغير حجة . ومنهم من استحب له أن يعيد في الوقت إذا توضأ واغتسل . وروي عن طاوس وعطاء والقاسم بن محمد ومكحول وابن سيرين والزهري وربيعة كلهم يقول : يعيد الصلاة . واستحب الأوزاعي ذلك وقال : ليس بواجب ؛ لما رواه أبو سعيد الخدري قال : خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما صعيدا طيبا فصليا ، ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الصلاة بالوضوء ولم يعد الآخر ، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال للذي لم يعد : أصبت السنة وأجزأتك صلاتك وقال للذي توضأ وأعاد : لك الأجر مرتين .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #240  
قديم 22-01-2023, 04:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (5)
سُورَةُ النِّسَاءِ
من صــ 203 الى صــ 210
الحلقة (240)

أخرجه أبو داود وقال : وغير ابن نافع يرويه عن الليث عن [ ص: 203 ] عميرة بن أبي ناجية عن بكر بن سوادة عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر أبي سعيد في هذا الإسناد ليس بمحفوظ . وأخرجه الدارقطني وقال فيه : ثم وجد الماء بعد في الوقت .

التاسعة والثلاثون : واختلف العلماء إذا وجد الماء بعد دخول في الصلاة ؛ فقال مالك : ليس عليه قطع الصلاة واستعمال الماء وليتم صلاته وليتوضأ لما يستقبل ؛ وبهذا قال الشافعي واختاره ابن المنذر . وقال أبو حنيفة وجماعة منهم أحمد بن حنبل والمزني : يقطع ويتوضأ ويستأنف الصلاة لوجود الماء . وحجتهم أن التيمم لما بطل بوجود الماء قبل الصلاة فكذلك يبطل ما بقي منها ، وإذا بطل بعضها بطل كلها ؛ لإجماع العلماء على أن المعتدة بالشهور لا يبقى عليها إلا أقلها ثم تحيض أنها تستقبل عدتها بالحيض . قالوا : والذي يطرأ عليه الماء وهو في الصلاة كذلك قياسا ونظرا . ودليلنا قوله تعالى : ولا تبطلوا أعمالكم . وقد اتفق الجميع على جواز الدخول في الصلاة بالتيمم عند عدم الماء ، واختلفوا في قطعها إذا رئي الماء ؛ ولم تثبت سنة بقطعها ولا إجماع . ومن حجتهم أيضا أن من وجب عليه الصوم في ظهار أو قتل فصام منه أكثره ثم وجد رقبة لا يلغي صومه ولا يعود إلى الرقبة . وكذلك من دخل في الصلاة بالتيمم لا يقطعها ولا يعود إلى الوضوء بالماء .

الموفية أربعين : واختلفوا هل يصلي به صلوات أم يلزم التيمم لكل صلاة فرض ونفل ؛ فقال شريك بن عبد الله القاضي : يتيمم لكل صلاة نافلة وفريضة . وقال مالك : لكل فريضة ؛ لأن عليه أن يبتغي الماء لكل صلاة ، فمن ابتغى الماء فلم يجده فإنه يتيمم . وقال أبو حنيفة والثوري والليث والحسن بن حي وداود : يصلي ما شاء بتيمم واحد ما لم يحدث ؛ لأنه طاهر ما لم يجد الماء ؛ وليس عليه طلب الماء إذا يئس منه . وما قلناه أصح ؛ لأن الله عز وجل أوجب على كل قائم إلى الصلاة طلب الماء ، وأوجب عند عدمه التيمم لاستباحة الصلاة قبل خروج الوقت ، فهي طهارة ضرورة ناقصة بدليل إجماع المسلمين على بطلانها بوجود الماء وإن لم يحدث ؛ وليس كذلك الطهارة بالماء . وقد ينبني هذا الخلاف أيضا في جواز التيمم قبل دخول الوقت ؛ فالشافعي وأهل المقالة الأولى لا يجوزونه ؛ لأنه لما قال الله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا ظهر منه تعلق أجزاء التيمم بالحاجة ، ولا حاجة قبل الوقت . وعلى هذا لا يصلي فرضين بتيمم واحد ، وهذا بين . واختلف علماؤنا فيمن صلى صلاتي فرض بتيمم واحد ؛ فروى يحيى بن يحيى عن ابن القاسم : يعيد الثانية ما دام في الوقت . وروى أبو زيد بن أبي الغمر عنه : يعيد أبدا . وكذلك روي عن مطرف وابن الماجشون يعيد الثانية أبدا . وهذا الذي [ ص: 204 ] يناظر عليه أصحابنا ؛ لأن طلب الماء شرط . وذكر ابن عبدوس أن ابن نافع روى عن مالك في الذي يجمع بين الصلاتين أنه يتيمم لكل صلاة . وقال أبو الفرج فيمن ذكر صلوات : إن قضاهن بتيمم واحد فلا شيء عليه وذلك جائز له . وهذا على أن طلب الماء ليس بشرط . والأول أصح . والله أعلم .

الحادية والأربعون : قوله تعالى : صعيدا طيبا الصعيد : وجه الأرض كان عليه تراب أو لم يكن ؛ قاله الخليل وابن الأعرابي والزجاج . قال الزجاج : لا أعلم فيه خلافا بين أهل اللغة ، قال الله تعالى : وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا الكهف : أي أرضا غليظة لا تنبت شيئا . وقال تعالى فتصبح صعيدا زلقا . ومنه قول ذي الرمة :


كأنه بالضحى ترمي الصعيد به دبابة في عظام الرأس خرطوم
وإنما سمي صعيدا لأنه نهاية ما يصعد إليه من الأرض . وجمع الصعيد صعدات ؛ ومنه الحديث إياكم والجلوس في الصعدات . واختلف العلماء فيه من أجل تقييده بالطيب ؛ فقالت طائفة : يتيمم بوجه الأرض كله ترابا كان أو رملا أو حجارة أو معدنا أو سبخة . هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والثوري والطبري . وطيبا معناه طاهرا . وقالت فرقة : طيبا حلالا ؛ وهذا قلق . وقال الشافعي وأبو يوسف : الصعيد التراب المنبت وهو الطيب ؛ قال الله تعالى : والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه فلا يجوز التيمم عندهم على غيره . وقال الشافعي : لا يقع الصعيد إلا على تراب ذي غبار . وذكر عبد الرزاق عن ابن عباس أنه سئل أي الصعيد أطيب ؟ فقال : الحرث . قال أبو عمر : وفي قول ابن عباس هذا ما يدل على أن الصعيد يكون غير أرض الحرث . وقال علي رضي الله عنه : هو التراب خاصة . وفي كتاب الخليل : تيمم بالصعيد ، أي خذ من غباره ؛ حكاه ابن فارس . وهو يقتضي التيمم بالتراب فإن الحجر الصلد لا غبار عليه . وقال الكيا الطبري : واشترط الشافعي أن يعلق التراب باليد ويتيمم به نقلا إلى أعضاء التيمم ، كالماء ينقل إلى أعضاء الوضوء . قال الكيا : ولا شك أن لفظ الصعيد ليس [ ص: 205 ] نصا فيما قاله الشافعي ، إلا أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا بين ذلك .

قلت : فاستدل أصحاب هذه المقالة بقوله عليه السلام : وجعلت تربتها لنا طهورا وقالوا : هذا من باب المطلق والمقيد وليس كذلك ، وإنما هو من باب النص على بعض أشخاص العموم ، كما قال تعالى : فيهما فاكهة ونخل ورمان وقد ذكرناه في " البقرة " عند قوله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل . وقد حكى أهل اللغة أن الصعيد اسم لوجه الأرض كما ذكرنا ، وهو نص القرآن كما بينا ، وليس بعد بيان الله بيان . وقال صلى الله عليه وسلم للجنب : عليك بالصعيد فإنه يكفيك وسيأتي . ف " صعيدا " على هذا ظرف مكان . ومن جعله للتراب فهو مفعول به بتقدير حذف الباء أي بصعيد . وطيبا نعت له . ومن جعل طيبا بمعنى حلالا نصبه على الحال أو المصدر .

الثانية والأربعون : وإذا تقرر هذا فاعلم أن مكان الإجماع مما ذكرناه أن يتيمم الرجل على تراب منبت طاهر غير منقول ولا مغصوب . ومكان الإجماع في المنع أن يتيمم الرجل على الذهب الصرف والفضة والياقوت والزمرد والأطعمة كالخبز واللحم وغيرهما ، أو على النجاسات . واختلف في غير هذا كالمعادن ؛ فأجيز وهو مذهب مالك وغيره . ومنع وهو مذهب الشافعي وغيره . وقال ابن خويز منداد : ويجوز عند مالك التيمم على الحشيش إذا كان دون الأرض ، واختلف عنه في التيمم على الثلج ففي المدونة والمبسوط جوازه ؛ وفي غيرهما منعه . واختلف المذهب في التيمم على العود ؛ فالجمهور على المنع . وفي مختصر الوقار أنه جائز . وقيل : بالفرق بين أن يكون منفصلا أو متصلا فأجيز على المتصل ومنع في المنفصل . وذكر الثعلبي أن مالكا قال : لو ضرب بيده على شجرة ثم مسح بها أجزأه . قال : وقال الأوزاعي والثوري : يجوز بالأرض وكل ما عليها من الشجر والحجر والمدر وغيرها ، حتى قالا : لو ضرب بيده على الجمد والثلج أجزأه . قال ابن عطية : وأما التراب المنقول من طين أو غيره فجمهور المذهب على جواز التيمم به ، وفي المذهب المنع وهو في غير المذهب أكثر ، وأما ما طبخ كالجص والآجر ففيه في المذهب قولان : الإجازة والمنع ؛ وفي التيمم على الجدار خلاف .

[ ص: 206 ] قلت : والصحيح الجواز لحديث أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري قال : أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه ، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ، ثم رد عليه السلام . أخرجه البخاري . وهو دليل على صحة التيمم بغير التراب كما يقول مالك ومن وافقه . ويرد على الشافعي ومن تابعه في أن الممسوح به تراب طاهر ذو غبار يعلق باليد . وذكر النقاش عن ابن علية وابن كيسان أنهما أجازا التيمم بالمسك والزعفران . قال ابن عطية : وهذا خطأ بحت من جهات . قال أبو عمر : وجماعة العلماء على إجازة التيمم بالسباخ إلا إسحاق بن راهويه . وروي عن ابن عباس فيمن أدركه التيمم وهو في طين قال : يأخذ من الطين فيطلي به بعض جسده ، فإذا جف تيمم به . وقال الثوري وأحمد : يجوز التيمم بغبار اللبد . قال الثعلبي : وأجاز أبو حنيفة التيمم بالكحل والزرنيخ والنورة والجص والجوهر المسحوق . قال : فإذا تيمم بسحالة الذهب والفضة والصفر والنحاس والرصاص لم يجزه ؛ لأنه ليس من جنس الأرض .

الثالثة والأربعون : قوله تعالى : فامسحوا بوجوهكم وأيديكم المسح لفظ مشترك يكون بمعنى الجماع ، يقال : مسح الرجل المرأة إذا جامعها . والمسح : مسح الشيء بالسيف وقطعه به . ومسحت الإبل يومها إذا سارت . والمسحاء المرأة الرسحاء التي لا است لها . وبفلان مسحة من جمال . والمراد هنا بالمسح عبارة عن جر اليد على الممسوح خاصة ، فإن كان بآلة فهو عبارة عن نقل الآلة إلى اليد وجرها على الممسوح ، وهو مقتضى قوله تعالى في آية المائدة : فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه . فقوله منه يدل على أنه لا بد من نقل التراب إلى محل التيمم . وهو مذهب الشافعي ولا نشترطه نحن ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما وضع يديه على الأرض ورفعهما نفخ فيهما ؛ وفي رواية : نفض . وذلك يدل على عدم اشتراط الآلة ؛ يوضحه تيممه على الجدار . قال الشافعي : لما لم يكن بد في مسح الرأس بالماء من بلل ينقل إلى الرأس ، فكذلك المسح بالتراب لا بد من النقل . ولا خلاف في أن حكم الوجه في التيمم والوضوء الاستيعاب وتتبع مواضعه ؛ وأجاز بعضهم ألا يتتبع كالغضون في الخفين وما بين الأصابع في الرأس ، وهو في المذهب قول محمد بن مسلمة ؛ حكاه ابن عطية . وقال الله عز وجل : بوجوهكم وأيديكم فبدأ بالوجه قبل اليدين وبه قال الجمهور . ووقع في البخاري من حديث عمار في " باب التيمم ضربة " ذكر اليدين قبل الوجه . وقاله بعض أهل العلم قياسا على تنكيس الوضوء .

[ ص: 207 ] الرابعة والأربعون : واختلف العلماء أين يبلغ بالتيمم في اليدين ؛ فقال ابن شهاب : إلى المناكب . وروي عن أبي بكر الصديق . وفي مصنف أبي داود عن الأعمش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح إلى أنصاف ذراعيه . قال ابن عطية : ولم يقل أحد بهذا الحديث فيما حفظت . وقيل : يبلغ به إلى المرفقين قياسا على الوضوء . وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأصحابهما والثوري وابن أبي سلمة والليث كلهم يرون بلوغ المرفقين بالتيمم فرضا واجبا . وبه قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم وابن نافع ، وإليه ذهب إسماعيل القاضي . قال ابن نافع : من تيمم إلى الكوعين أعاد الصلاة أبدا وقال مالك في المدونة : يعيد في الوقت . وروى التيمم إلى المرفقين عن النبي صلى الله عليه وسلم جابر بن عبد الله وابن عمر وبه كان يقول . قال الدارقطني : سئل قتادة عن التيمم في السفر فقال : كان ابن عمر يقول إلى المرفقين . وكان الحسن وإبراهيم النخعي يقولان إلى المرفقين . قال : وحدثني محدث عن الشعبي عن عبد الرحمن بن أبزى عن عمار بن ياسر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إلى المرفقين . قال أبو إسحاق : فذكرته لأحمد بن حنبل فعجب منه وقال ما أحسنه ! . وقالت طائفة : يبلغ به إلى الكوعين وهما الرسغان . روي عن علي بن أبي طالب والأوزاعي وعطاء والشعبي في رواية ، وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي والطبري . وروي عن مالك وهو قول الشافعي في القديم . وقال مكحول : اجتمعت أنا والزهري فتذاكرنا التيمم فقال الزهري : المسح إلى الآباط . فقلت : عمن أخذت هذا ؟ فقال : عن كتاب الله عز وجل ، إن الله تعالى يقول : فامسحوا بوجوهكم وأيديكم فهي يد كلها . قلت له : فإن الله تعالى يقول : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما فمن أين تقطع اليد ؟ قال : فخصمته . وحكي عن الدراوردي أن الكوعين فرض والآباط فضيلة . قال ابن عطية : هذا قول لا يعضده قياس ولا دليل ، وإنما عمم قوم لفظ اليد فأوجبوه من المنكب : وقاس قوم على الوضوء فأوجبوه من المرافق وهاهنا جمهور الأمة ، ووقف قوم مع الحديث في الكوعين ، وقيس أيضا على القطع إذ هو حكم شرعي وتطهير كما هذا تطهير ، ووقف قوم مع حديث عمار في الكفين . وهو قول الشعبي .

الخامسة والأربعون : واختلف العلماء أيضا هل يكفي في التيمم ضربة واحدة أم لا ؟ فذهب مالك في المدونة أن التيمم بضربتين : ضربة للوجه وضربة لليدين ؛ وهو قول الأوزاعي والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم ، والثوري والليث وابن أبي سلمة . ورواه جابر بن عبد الله وابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال ابن أبي الجهم : التيمم بضربة واحدة . وروي عن الأوزاعي في [ ص: 208 ] الأشهر عنه ؛ وهو قول عطاء والشعبي في رواية . وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق وداود والطبري . وهو أثبت ما روي في ذلك من حديث عمار . قال مالك في كتاب محمد : إن تيمم بضربة واحدة أجزأه . وقال ابن نافع : يعيد أبدا . قال أبو عمر وقال ابن أبي ليلى والحسن بن حي : ضربتان ؛ يمسح بكل ضربة منهما وجهه وذراعيه ومرفقيه . ولم يقل بذلك أحد من أهل العلم غيرهما . قالأبو عمر : لما اختلفت الآثار في كيفية التيمم وتعارضت كان الواجب في ذلك الرجوع إلى ظاهر الكتاب ، وهو يدل على ضربتين ضربة للوجه ، ولليدين أخرى إلى المرفقين ، قياسا على الوضوء واتباعا لفعل ابن عمر ؛ فإنه من لا يدفع علمه بكتاب الله . ولو ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء وجب الوقوف عنده . وبالله التوفيق .

قوله تعالى : إن الله كان عفوا غفورا أي لم يزل كائنا يقبل العفو وهو السهل ، ويغفر الذنب أي يستر عقوبته فلا يعاقب .
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا

قوله تعالى : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب إلى قوله تعالى : فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه الآية .

نزلت في يهود المدينة وما والاها . قال ابن إسحاق : وكان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء يهود ، إذا كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لوى لسانه وقال : أرعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك ؛ ثم طعن في الإسلام وعابه فأنزل الله عز وجل ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب إلى قوله قليلا . ومعنى يشترون يستبدلون فهو في موضع نصب على الحال ، وفي الكلام حذف تقديره يشترون الضلالة بالهدى ؛ كما قال تعالى : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى [ ص: 209 ] قاله القتبي وغيره .

ويريدون أن تضلوا السبيل عطف عليه ، والمعنى تضلوا طريق الحق . وقرأ الحسن : " تضلوا " بفتح الضاد أي عن السبيل .

قوله تعالى : والله أعلم بأعدائكم يريد منكم ؛ فلا تستصحبوهم فإنهم أعداؤكم . ويجوز أن يكون أعلم بمعنى عليم ؛ كقوله تعالى : وهو أهون عليه أي هين . وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا الباء زائدة ؛ زيدت لأن المعنى اكتفوا بالله فهو يكفيكم أعداءكم . ووليا ونصيرا نصب على البيان ، وإن شئت على الحال .

قوله تعالى : من الذين هادوا قال الزجاج : إن جعلت من متعلقة بما قبل فلا يوقف على قوله نصيرا ، وإن جعلت منقطعة فيجوز الوقف على نصيرا والتقدير من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم ؛ ثم حذف . وهذا مذهب سيبويه ، وأنشد النحويون :


لو قلت ما في قومها لم تيثم يفضلها في حسب وميسم
قالوا : المعنى لو قلت ما في قومها أحد يفضلها ؛ ثم حذف . وقال الفراء : المحذوف " من " المعنى : من الذين هادوا من يحرفون . وهذا كقوله تعالى : وما منا إلا له مقام معلوم أي من له . وقال ذو الرمة :


فظلوا ومنهم دمعه سابق له وآخر يذري عبرة العين بالهمل
يريد ومنهم من دمعه ، فحذف الموصول . وأنكره المبرد والزجاج ؛ لأن حذف الموصول كحذف بعض الكلمة . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وإبراهيم النخعي " الكلام " . قال النحاس : و " الكلم " في هذا أولى ؛ لأنهم إنما يحرفون كلم النبي صلى الله عليه وسلم ، أو ما عندهم في التوراة وليس يحرفون جميع الكلام ، ومعنى يحرفون يتأولونه على غير تأويله . وذمهم الله تعالى بذلك لأنهم يفعلونه متعمدين . عن مواضعه يعني صفة النبي صلى الله عليه وسلم . ويقولون سمعنا وعصينا أي سمعنا قولك وعصينا أمرك . واسمع غير مسمع قال ابن عباس : كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : اسمع لا سمعت ، هذا مرادهم - لعنهم الله - وهم يظهرون أنهم يريدون اسمع غير مسمع مكروها ولا أذى . وقال الحسن ومجاهد . معناه غير مسمع منك ، أي مقبول ولا مجاب إلى ما تقول . قال النحاس : ولو كان كذلك لكان غير مسموع منك . وتقدم القول في وراعنا ومعنى ليا بألسنتهم أي يلوون ألسنتهم عن الحق أي [ ص: 210 ] يميلونها إلى ما في قلوبهم . وأصل اللي الفتل ، وهو نصب على المصدر ، وإن شئت كان مفعولا من أجله . وأصله لويا ثم أدغمت الواو في الياء . وطعنا معطوف عليه أي يطعنون في الدين ، أي يقولون لأصحابهم لو كان نبيا لدرى أننا نسبه ، فأظهر الله تعالى نبيه على ذلك فكان من علامات نبوته ، ونهاهم عن هذا القول . ومعنى وأقوم أصوب لهم في الرأي . فلا يؤمنون إلا قليلا أي إلا إيمانا قليلا لا يستحقون به اسم الإيمان . وقيل : معناه لا يؤمنون إلا قليلا منهم ؛ وهذا بعيد لأنه عز وجل قد أخبر عنهم أنه لعنهم بكفرهم .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 408.90 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 402.83 كيلو بايت... تم توفير 6.07 كيلو بايت...بمعدل (1.48%)]