التراث والتجديد من منظور السلفية - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         الأمثال في القرآن ...فى ايام وليالى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 650 )           »          فقه الصيام - من كتاب المغنى-لابن قدامة المقدسى يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 915 )           »          دروس شَهْر رَمضان (ثلاثون درسا)---- تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 1078 )           »          أسرتي الرمضانية .. كيف أرعاها ؟.....تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 844 )           »          صحتك فى شهر رمضان ...........يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 828 )           »          اعظم شخصيات التاريخ الاسلامي ____ يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 909 )           »          فتاوى رمضانية ***متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 564 - عددالزوار : 92746 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 11935 - عددالزوار : 190975 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 114 - عددالزوار : 56909 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 78 - عددالزوار : 26181 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى الشباب المسلم

ملتقى الشباب المسلم ملتقى يهتم بقضايا الشباب اليومية ومشاكلهم الحياتية والاجتماعية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 31-12-2022, 01:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,607
الدولة : Egypt
افتراضي التراث والتجديد من منظور السلفية

التراث والتجديد من منظور السلفية (1)


كتبه/ علاء بكر


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد أصبح موضوع التراث والتجديد في العقود الأخيرة محور اهتمام الكثير من العلماء والباحثين، والمفكرين والمثقفين، وأساتذة الجامعات، والكُتَّاب، على اختلاف انتماءاتهم الثقافية والفكرية.

وحظي الموضوع بدراساتٍ وأبحاثٍ كثيرة، ومؤتمرات عديدة، وندوات ومحاضرات، امتلأت بها مئات الكتب والدوريات، والمجلات والجرائد، وناقشته وسائل الإعلام المختلفة التي تناولت وتبنَّت معالجة قضية الموروث الثقافي للأمة من وجهات نظر متباينة.

التراث في اللغة:

الإرث والميراث ما يخلفه الرجل لورثته، وهو أيضًا ما يكون لأناسٍ ثم ينتقل إلى آخرين بنسب أو سبب؛ فالوراثة والإرث انتقال ملكية كل ما يقتنى من غير عقد، أو ما يجري مجرى العقد، وسمي بذلك كل منتقل عن الميت إلى غيره، فيقال للمنتقل عن الميت لغيره: ميراث وإرث وتراث.

وأصل الإرث والتراث لغة: وراث، فقلبت الواو ألفًا في إرث، وقلبت الواو تاء في تراث، قال تعالى: (*وَتَأْكُلُونَ *التُّرَاثَ *أَكْلًا *لَمًّا) (الفجر: 19)، وقال تعالى: (*وَإِنْ *كَانَ *رَجُلٌ *يُورَثُ *كَلَالَةً) (النساء: 12).

ويقال أيضًا لكلِّ مَن حصل له شيء من غير تعب: قد ورث كذا؛ قال تعالى: (*وَأَوْرَثَكُمْ *أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا) (الأحزاب: 27)، وقال تعالى: (*وَأَوْرَثْنَا *الْقَوْمَ *الَّذِينَ *كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ *مَشَارِقَ *الْأَرْضِ *وَمَغَارِبَهَا *الَّتِي *بَارَكْنَا *فِيهَا) (الأعراف: 137).

والأصل في الميراث المال والأشياء المادية، لكنه ليس محصورًا بها؛ إذ يطلق أيضًا على الأشياء المعنوية: كالثقافة بما فيها الجوانب المعرفية والقِيَم الإنسانية، ومنه قوله تعالى: (*وَوَرِثَ *سُلَيْمَانُ دَاوُودَ) (النمل: 16)، وقال تعالى: (*وَيَرِثُ *مِنْ *آلِ *يَعْقُوبَ) (مريم:6)، فالمراد: وراثة النبوة والعلم والفضيلة دون المال، كما في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (*لَا *نُورَثُ، *مَا *تَرَكْنَاهُ *صَدَقَةٌ) (متفق عليه).

وجاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهم في مكة يتقلبون بين المشاعر متعبدين معظمين: (قِفُوا *عَلَى *مَشَاعِرِكُمْ، فَإِنَّكُمْ عَلَى إِرْثٍ مِنْ إِرْثِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، أي: أصله وبقيته. ومنه قول أبي هريرة رضي الله عنه لأهل دمشق: "أنتم هنا -يعني في السوق- وميراث محمد يوزع في المسجد"، فلما ذهبوا لم يجدوا أموالًا توزع وإنما حِلَق العلم، وكان أبو هريرة يشير بكلامه هذا إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا *وَرَّثُوا *الْعِلْمَ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

ويقال: ورثت علمًا من فلان، أي: استفدت منه. وقال تعالى: (*ثُمَّ *أَوْرَثْنَا *الْكِتَابَ *الَّذِينَ *اصْطَفَيْنَا *مِنْ *عِبَادِنَا) (فاطر:32)، وقال تعالى: (*وَإِنَّ *الَّذِينَ *أُورِثُوا *الْكِتَابَ *مِنْ *بَعْدِهِمْ *لَفِي *شَكٍّ *مِنْهُ *مُرِيبٍ) (الشورى: 14)، وقال تعالى: (*فَخَلَفَ *مِنْ *بَعْدِهِمْ *خَلْفٌ *وَرِثُوا *الْكِتَابَ *يَأْخُذُونَ *عَرَضَ *هَذَا *الْأَدْنَى *وَيَقُولُونَ *سَيُغْفَرُ *لَنَا) (الأعراف:169)، فالوراثة على الحقيقية أن يحصل للإنسان شيء لا يكون عليه فيه تبعة، ولا عليه محاسبة.

ووصف الله تعالى نفسه بأنه الوارث من حيث إن الأشياء كلها في النهاية راجعة عائدة إليه سبحانه وتعالى؛ قال عز وجل: (*وَلِلَّهِ *مِيرَاثُ *السَّمَاوَاتِ *وَالْأَرْضِ) (آل عمران: 180)، وقال تعالى: (*وَإِنَّا *لَنَحْنُ *نُحْيِي *وَنُمِيتُ *وَنَحْنُ *الْوَارِثُونَ) (الحجر: 23) (راجع: "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب الأصفهاني، بتحقيق وتعليق الشيخ مصطفى العدوي - ط. مكتبة فياض - ط. 1430 هـ - 2009م، 671-672)، وراجع "السلفية وقضايا العصر" د. عبد الرحمن بن زيد الزنيدي - ط. مركز الدراسات والإعلام - دار إشبيلية - الرياض ط. 1418 هـ - 1998 م، ص317 - 320).

مصطلح التراث في العصر الحاضر:

قد أخذت كلمة (التراث) في عصرنا الحاضر بُعدًا أعمق من حيث استيعابها لكلِّ جوانب الثقافة، كما صار لها بُعدٌ وجدانيٌّ لم يهتم معه المفكرون المعاصرون بالاتفاق على تحديد واضح لمصطلح التراث؛ فمدار دراساتهم حول التراث أنه: كل ما خلَّفه السابقون من آثار ثقافية ومدنية في كلِّ أوجه الحياة.

فالمتداول عندهم: أن التراث العربي هو كل ما تركه العرب، وكل ما أنجز باللغة العربية قبل عصرنا دينيًّا كان أو غير ديني. والتراث الإسلامي يشمل كل الآثار الثقافية والمدنية التي أنجزها المسلمون في ظل الحضارة الإسلامية العريقة والتاريخ الإسلامي الطويل، فكله عندهم تراث، بغض النظر عن مدى التزامه بالإسلام من عدمه.

والأوجه: أن وصفَ تراثٍ ما بأنه من التراث الإسلامي يعني كونه فعليًّا وحقيقة ينتمي لهذا التراث، ويعني موافقته وانسجامه مع تعاليم الإسلام غاية ومنهجًا؛ أي: أن التراث الإسلامي يجب أن ينحصر في أجزاء محددة ومعينة مِن بين ذلك التراث الكبير المنسوب للمسلمين عبر تاريخ الإسلام الطويل، ولا يكون ذلك إلا من خلال عملية نقد إسلامية واعية يقودها المجتهدون من علماء الإسلام المعتبرين؛ فهم أهل ذلك والأولى به.

أهمية التراث:

لتراث كل أمة أهمية كبيرة؛ فهو حضارتها وتاريخها، وهو جذور الأمة الذي تستقي منه الدروس والعبر، وينمي فيها الإحساس بالهوية، والشعور بالمسؤولية التاريخية، وهو تراكم خبرات فيه تنوع ثقافي، بما يحمله من قِيَم وآداب وفنون، وحرف وفلكلور، وعادات وتقاليد ورثتها أجيال وأقرتها، وارتضت منها ما صمد عبر قرون.

وفي هذه الموروثات ما يعد من ثوابت في الأمة الذي لا يقبل التغيير، ومنها ما هو ليس من الثوابت؛ فهو قابل للتغيير، وما كان من التراث من جهود الأمة العلمية والثقافية والاجتماعية، ومن منتجاتها العقلية والعملية فيؤخذ منه ويرد -عدا الإجماع والقياس الجلي فإنهما من الثوابت-.

وما كان منها - من أمور الدنيا التي لا وحي فيها - تقبله حياتنا المعيشية المعاصرة فيحتفظ به لموافقته للعصر، وما كان منها لا تقبله حياتنا المعاصرة -لكونه كان ثقافة أو منتجًا علميًّا أو عمليًّا لصيقًا بالعصر الذي أنتج فيه وارتبط به، ولم يعد موافقًا للعصر الحديث- فيترك أو يطور ليوافق متطلبات العصر، وهذا يقتضي أن يكون باب الاجتهاد في الأمة مفتوحًا.

وفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ *اللَّهَ *يَبْعَثُ *لِهَذِهِ *الْأُمَّةِ *عَلَى *رَأْسِ *كُلِّ *مِائَةِ *سَنَةٍ *مَنْ *يُجَدِّدُ *لَهَا *دِينَهَا) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، وهذا الحديث تناوله العلماء وكتبوا فيه الرسائل في بيان معنى التجديد، والتعريف بمجددي الأمة؛ فذكر بعضهم قوائم بأسماء المجددين بدءًا من المائة الأولى وحتى القرن التاسع كما في قائمة السيوطي، أو حتى القرن الرابع عشر كما في قائمة صاحب (وسيلة المجددين)، ولم يتجاوز المراد من التجديد عند العلماء دائرة إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة.

وكلمة (مَنْ) في الحديث تنطبق على الواحد أو أكثر، وعلى ذلك يمكن تعدد المجددين في العصر الواحد، ويمكن بهذا المعنى أن يضطلع بالتجديد مجمع أو مجامع علمية معاصرة في حركة تجديد جماعي.

والحديث أيضًا ينافي ما اشتهر بين الفقهاء في بعض العصور مِن القول بانقطاع الاجتهاد في الأمة من بعد القرن الخامس الهجري؛ بزعم منع الفوضى الدينية، وهو ما أدَّى إلى التقليد وإيجاب التمذهب، وانتهى الأمر بالجمود الفقهي والوقوع في التعصب المذهبي؛ إذ لا حجة تنهض للقول بذلك، وللسيوطي رحمه الله كتاب سمَّاه: (الرد على مَن أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كلِّ عصرٍ فرض)، وهو مطبوع متداول.

ومما ينبغي أن يُرَاعى في تناول حضارة الأمة وتراثها: التعرف على الوجه الحقيقي لهذه الحضارة، وهذا التراث من مصادره الحقيقية التي نبَّه عليها علماء الأمة ومصلحوها؛ لا من المصادر المشوهة والمغرضة؛ فهذا هو حائط الصد الذي يعول عليه في دفع تشويه تاريخ الأمة وحضارتها في مواجهة كل الحملات الشرسة المغرضة من أعداء الأمة -وما أكثرهم!- لتشويه تاريخ الأمة المجيد، والنيل من حضارتها العريقة!

التراث والوحي:

المراد بالوحي: نصوص القرآن الكريم، والسنة المطهرة الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والوحي محفوظ بحفظ الله تعالى له، ثم محفوظ بجهود علماء الأمة وأئمتهم.

ودخول الكتاب والسنة ضمن تراث الأمة يحتمل أمرين:

1- اعتبار الوحي "كتابًا وسنة" من تراث الأمة؛ يعني أن تراث الأمة يتضمن:

- الوحي المستمد من علم الله تعالى، متمثلًا في: القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.

- الإنتاج الثقافي والمدني الذي أثمرته الجهود الفكرية والتطبيقية للأمة خلال العصور الإسلامية.

2- أو اعتبار التراث يحمل صفة زمنية ومِن ثَمَّ ظرفية، خلافًا للوحي الذي نزل يتضمن الحقائق والأحكام المتعالية عن الزمان والمكان، وإن كانت تطبق مقتضياتها على أوضاعها من خلال فكر البشر وجهودهم.

ومِن هذين الاعتبارين، فهناك رأيان:

الأول: أن التراث يشمل الكتاب والسنة كما يشمل سائر الإنتاج الفكري المتعامل معهما، فمدلول التراث في هذا التصور لا يقتصر على منجزات العقل الثقافية والحضارية والمادية، بل إنه يشتمل على الوحي الإلهي أيضًا.

ومستند هذا الرأي ما ورد في اللغة العربية وما ورد في النصوص الشرعية من أن الميراث والتراث يشتمل لغة الميراث المادي وغير المادي.

ويرى أصحاب التوجه الإسلامي والنظرة السلفية تقسيم هذا التراث إلى قسمين، ينظر لكل واحد منهما نظرة تختلف عن الآخر، ويتعامل معه تعاملًا مغايرًا للتعامل مع الآخر، فالإنجاز البشري والحضاري والثقافي قابل للنقد والانتقاء، وتوظيفه لخدمة الوضعية المعاصرة التي تقتضيها المصلحة - إن كان في دائرة العفو الشرعي، أما ما تناوله أو أشار إليه الشرع بدون ورود بينات من نص أو إجماع أو قياس جلي، فإن معيار النقد فيه هو موافقة الأدلة الشرعية وقواعد وأصول الاجتهاد الصحيح -، أما الوحي كتابًا وسنة كأدلة منشئة - ويلحقهما الإجماع والقياس الجلي كأدلة كاشفة - فإنه يتلقى ليتكيف الواقع به، وعلى النقيض فعند الحداثيين أن القرآن والسنة هو جزء من التراث غير مقدس! متأثرين بالتجربة الأوروبية الغربية في تعاملها مع النصوص الدينية لديهم والتي وقع فيها التحريف.

الثاني: إخراج الوحي من دائرة التراث ابتداءً، بحيث ينحصر مصطلح التراث فيما أنتجه الأجداد -عدا الإجماع والقياس الجلي-، مما ينفي عن التراث قداسة التعالي عن النقد، وما عفا عنه الشرع كانت المصلحة المعاصرة مقدمة فيه، وما دخل في دائرة التكليف الشرعي كان معيار النقد فيه وفقا لضوابط وقواعد الاجتهاد الشرعي. أي: ضرورة الفصل بين الإسلام من حيث هو دين وعقيدة، وبين الإسلام من حيث هو تراث وحضارة، ومِن ثَمَّ فالإسلام ذاته بما هو تعاليم موحاة ليس تراثًا، وإنما تراث الإسلام هو التراث الديني المتمثل في عطاء العلماء في مختلف الفنون.

يقول د. عبد الرحمن الزنيدي: (وعموما فالرأيان: عد الوحي من التراث، وإخراجه عنه، متفقان لدى ذوي التوجهات الإسلامية على تميز الوحي الإلهي عن الجهد البشري من حيث تنزه الأول عن الخطأ وعموميته للتاريخ البشري كله، خلافًا للثاني) (انظر: "السلفية وقضايا العصر" ص 323).

وأضاف: (السلفية لا ترى مشاحة في الاصطلاح ما دام مضمون المصطلح متسقًا مع المنهج الإسلامي من حيث موقع الوحي، ومع الجهد البشري في دائرة التراث. ومع ذلك أرى أن الأولى الأخذ بالرأي الثاني، حتى وإن صح لغة إطلاق التراث على الوحي؛ تجنبًا لما يحمله مصطلح التراث في هذا العصر من سمات النسبية والزمنية، خاصة وأن ثقافتنا الإسلامية لم تعد هي المتحكمة بالمجال التداولي للمصطلحات، بل هي للأسف كثيرًا ما تكون تابعة، وتفاعلها مع الثقافة الغربية التي لا يحمل التراث في لغاتها دلالة التقديس والتعالي على الظرفية والبشرية، يقضي بأن ينأى بالوحي عن إدراجه ضمن التراث.

والوحي ليس المقصود به نصوصه فحسب، بل مقرراته القطعية سندًا ودلالة، حتى وإن تبدت في صياغات بشرية قرَّبها علماء الإسلام في زمن ما للمستوى الفكري والأسلوبي لأهل ذلك الزمن؛ فهذه المقررات لا تأخذ حكم التراث الذي هو صنعة بشرية) (المرجع السابق، ص 323).

ضرورة اتباع كتاب الله والأخذ بشرعه:

من كمال ربوبية الله تعالى وتعهده لخلقه: أن أرسل فيهم الأنبياء والرسل، وأنزل عليهم الكتب السماوية وزودهم بالشرائع الإلهية، وأوجب على الناس العمل بمقتضاها؛ إذ فيها صلاح دينهم ودنياهم، قال تعالى: (*قُلْنَا *اهْبِطُوا *مِنْهَا *جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة: 38-39)، وقال تعالى: (*كَانَ *النَّاسُ *أُمَّةً *وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة: 213)، وقال تعالى: (*وَلَقَدْ *بَعَثْنَا *فِي *كُلِّ *أُمَّةٍ *رَسُولًا *أَنِ *اعْبُدُوا *اللَّهَ *وَاجْتَنِبُوا *الطَّاغُوتَ) (النحل: 36)، وقال تعالى: (*لِكُلٍّ *جَعَلْنَا *مِنْكُمْ *شِرْعَةً *وَمِنْهَاجًا) (المائدة :48)، إشارة إلى ما قيَّض الله لنا من الدين، وأمرنا به لنتحراه اختيارًا، قال تعالى: (*ثُمَّ *جَعَلْنَاكَ *عَلَى *شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا) (الجاثية: 18)، قال ابن عباس: "الشرعة ما ورد به القرآن، والمنهاج ما وردت به السنة" (انظر في ذلك: "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب الأصفهاني، ص 334-335).

وهذه سنة ربانية ترتَّب عليها أن مَن لم تبلغه دعوة الرسل فهو مِن (أهل الفترة)، ومَن بلغته دعوة الرسل؛ فإنه يحاسب على مدى إيمانه بالرسل ومدى العمل بما جاءوا به من الشرائع؛ إذ ليس له تركها أو مخالفتها. وقد خَتَم الله تعالى هؤلاء الأنبياء والرسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا نبي بعده، وختم هذه الكتب والشرائع المنزلة من السماء بالقرآن الكريم وبشريعة الإسلام، فلا كتاب سماوي بعد القرآن الكريم، ولا شريعة بعد الشريعة الإسلامية، فالقرآن الكريم هو الكتاب المهيمن على ما قبله من الكتب، والشريعة الإسلامية هي الشريعة الناسخة لما سبقها من الشرائع؛ لذا تكفَّل الله تعالى بحفظ هذا القرآن الكريم للأمة جيلًا بعد جيل، قال تعالى: (*إِنَّا *نَحْنُ *نَزَّلْنَا *الذِّكْرَ *وَإِنَّا *لَهُ *لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9).

وقد أوجب الله تعالى العمل بشريعة الإسلام وعدم الخروج عنها حتى قيام الساعة؛ لذا فإن عيسى عليه السلام عندما ينزل في آخر الزمان يقتل المسيح الدجال، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويحكم بشريعة الإسلام ، فلا يسعه عليه السلام وهو في آخر الزمان الخروج عن الشريعة الإسلامية التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، مع كون عيسى عليه السلام من أولي العزم من الرسل، ومع كونه أنزل عليه الإنجيل، ومع كونه قد وضع عن بني إسرائيل حين بعث فيهم بعض ما شدد به عليهم في شريعتهم؛ فكيف يكون لغيره من آحاد الناس ترك الأخذ بالقرآن الكريم أو الخروج عن شريعة الإسلام.

الشرع يزكي تراث الصحابة الديني:

وكل ما ثبت عن الصحابة من الاعتقاد وأصول الإيمان وفهمهم للدين والعمل جاء الشرع بتزكيته؛ خاصة وقد ثَبَت أنهم في هذه المسائل كانوا على قلب رجل واحد، وإجماعهم - في الاعتقاد أو العمل - لا شك في الاحتجاج به، قال تعالى في شأن الصحابة: (*فَإِنْ *آمَنُوا *بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) (البقرة: 137)، وقال صلى الله عليه وسلم فيهم: (فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي *وَسُنَّةِ *الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

وفي الحديث الأمر بالتمسك بسنة الصحابة والأخذ بهديهم، وفيه جمع صلى الله عليه وسلم سنته وسنتهم في ضمير واحد؛ فلم يقل: "عضوا عليهما"، بل قال: (عَضُّوا عَلَيْهَا)؛ لأنه عَلِم أنهم لا يفارقون سنته، بل يتمسكون بها، وإنما انتشرت سنته صلى الله عليه وسلم في الأرض شرقًا وغربًا مِن بعده عن طريقهم وما كانوا عليه، وفي الحض على العض عليها بالنواجذ أمر بالحرص كل الحرص على اتباعها.

وفيه: وصفهم بالراشدين وبالمهديين، قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: (والسنة هي الطريق المسلوك، فيشمل ذلك التمسك بما كان عليه صلى الله عليه وسلم هو وخلفاؤه الراشدون من الاعتقادات والأعمال والأقوال، وهذه هي السُّنة الكاملة؛ ولهذا كان السلف قديمًا لا يطلقون اسم السنة إلا على ما يشمل ذلك كله) (راجع: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبلي - ط. مصطفى الحلبي الخامسة، 1400هـ - 1980م، ص 258 وما بعدها).

وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بوقوع الاختلاف في الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، ثم قال في صفة هذه الفرقة الناجية أنها: (مَا *أَنَا *عَلَيْهِ *وَأَصْحَابِي) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).

فما اتفق عليه الصحابة رضي الله عنهم فهو حجة؛ لعصمة إجماعهم، وهو دليل قطعي عند أهل السنة والجماعة، فـ(أهل السنة لا يتصور أن يتفقوا على مخالفة إجماع الصحابة)، (فإنهم متفقون على أن إجماع الصحابة حجة)، فإذا كان الاتفاق على إجماع أهل الاجتهاد من المسلمين في عصرٍ مِن العصور على أمرٍ مِن أمور الدين يعد حجة شرعية عند الفقهاء، فلا شك أن إجماع الصحابة أولى ومقدم (للاستزادة راجع في ذلك: الكلام عن حجية الإجماع في (الإحكام في أصول الأحكام) للآمدي، و(أصول الفقه) لعبد الوهاب خلاف).

الحداثة ورفض التراث:

(الاتجاه الحداثي بالمفهوم المذهبي للحداثة، الذي تشكل فيه الحداثة ثورة كاملة على كل ما كان وما هو كائن في المجتمع، وثورة على المفاهيم السائدة في مجتمع ما وعلى تقاليده وتراثه. وفي محاولة - تيار الحداثة - هدم كل ما هو أصيل وثابت فيه، يتحدد موقفه من الحياة المتجددة) ("السلفية وقضايا العصر"، ص 324).

وإن كانت هذه الروح المتمردة لم تعد عامة بالذات في السنوات الأخيرة بين أصحاب ذلك الاتجاه؛ إذ إن منهم مَن عاد ليهتم بقضية التراث، إما بمحاولة الموائمة بين التراث العربي والفكر الغربي الوافد لئلا تتفلت منا عروبتنا، وإما بالاعتراف بالتراث والتفاعل معه تفاعلًا يجعلهم يتحكمون في هذا التراث، ولا يتحكم هذا التراث فيهم.

وعلى النقيض منهم فعند الإسلاميين عامة وعند السلفيين منهم خاصة، (فإن التراث يمثِّل لديهم الأساس والمنطلق للحركة النهضوية الصحيحة، وللنظر في الواقع المعاصر، حتى أصبح التراث لدى العصرانيين مرادفا للسلفية، والسلفيون هم التراثيون) (المصدر السابق، ص 325).

والقائلون بالحداثة على اختلاف مشاربهم ينظرون إلى التراث وَفْق معطيات مسبقة تعتمد على أولوية العقل، وإقصاء وحجب النصوص الشرعية! من خلال تبنى التشكيك فيها وعدها قابلة للنقد والتحرير، والعمل على تفكيكها؛ تمهيدًا لتقليد النموذج الغربي والأخذ به.


ومن أبرز معالم هذه الحداثة:

- الاعتماد الكامل على العقل، فهو المرجعية الأولى للمعرفة عندهم، وهو المصدر الوحيد لها، فالعقل عندهم قادر ابتداءً على إنشاء المعارف دون حاجة إلى وصاية خارجية.

- التحرر الكامل من النصوص والضوابط والأخلاق، والقِيَم والمعايير، وأحكام الشريعة؛ فللعقل أن يقرأ ما يريد، وأن يقول ما يريد!

- محاولة تقديم نموذج مأخوذ من النموذج الغربي على أنه هو النموذج الناجح لخروج الأمة العربية من تخلفها وتأخرها عن مصاف الأمم المتقدمة.

- زعم عجز الثقافة الإسلامية والموروث الإسلامي بكلِّ مكوناته من نصوص الكتاب والسنة عن تقديم حلول لمشكلات الواقع، أو أن تكون حلولًا صالحة للتطبيق؛ مما يستلزم عندهم تجاوزها!

وللحديث بقية إن شاء الله.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 05-01-2023, 10:53 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,607
الدولة : Egypt
افتراضي رد: التراث والتجديد من منظور السلفية

التراث والتجديد من منظور السلفية (2)



كتبه/ علاء بكر


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فيتفق غالبية مفكري الأمة على ضرورة الرجوع إلى تراث الأمة والاستفادة منه، ولكنهم يختلفون في المنهج الذي يتعاملون به في دراسة هذا التراث؛ كل بحسب منهجه المعرفي الذي يسلكه، وتوجهه الأيديولوجي الذي يأخذ به.

ولا يقتصر التعامل مع التراث على نشر كنوزه المدفونة في مخطوطاته القديمة في المكتبات المنتشرة حول العالم، وهو ما يتولاه في الواقع قلة مِن القادرين من الناحية العلمية على تحقيق ونشر هذه المخطوطات، ولكن الأمر يحتاج إلى جهدٍ أكبر يتمثَّل في التفسير والدراسة التحليلية لنقل هذا التراث من عصره الذي كُتِب فيه، وتشكَّل حسب ظروفه إلى عصرنا؛ ليكون في خدمة مطالب العصر الحاضر.

وتركِّز غالب دعوات إحياء التراث وبعثه على مجال نشر المخطوطات الموجودة قبل تعرضها للضياع أو التلف، وتهتم بتصنيف وتقييم تلك المخطوطات حسب فنونها، مع توجيه الباحثين والدارسين المتخصصين لجمع نسخ هذه المصنفات وتحقيقها والكتابة عنها.

وهذه الخطوة لا تعدو أن تكون وسيلة إلى غاية أكبر، وهي الوصول إلى قيمة هذا التراث في واقعنا المعاصر، وإن كان انتقاء ما يُرَاد بعثه وإحيائه وترك غيره لا تخلو من نظرة نقدية لمخطوطات التراث.

ولا شك أن للتراث الإسلامي والعربي الذي قاد وساد الحضارة البشرية لقرونٍ طويلةٍ آثارًا إيجابية لا تقف عند حدوده الزمنية التي كُتِب فيها، بل تمتد إلى العصور اللاحقة، كما أنه لا يخلو أيضًا من آثار سلبية، وهذا عام في كلِّ التراث البشري دون تمييز، وهذا يوجب التفاعل الجاد مع التراث -أي: تراث- من أجل الاستفادة من جوانبه الإيجابية واتقاء جوانبه السلبية، بعيدًا عن تجاهل وإلغاء ورفض الكل، وبدون الاندفاع في أخذ الكل بلا وعي وبصيرة، والمدخل لهذا الانفتاح المنضبط على التراث هو صحة وسلامة المنهج، والمرجعية المعيارية في التعامل مع التراث والحكم عليه.

السلفية والتراث:

(إن الإنسان خاصة في مجال الدراسات المتعلقة بالإنسان نفسه مِن حيث هو إنسان لا ينفك عن مرجعية تظل حاضرة فيه مؤثرة في تصوراته للأشياء وحكمه عليها). والسلفية منهج له مرجعية يستند عليها، فالقراءة السلفية للتراث والتعامل السلفي مع التراث مستمد حتمًا من هذه المرجعية السلفية.

فـ(السلفية: هي الوحي الإلهي -القرآن الكريم والسنة المطهرة- من خلال تجليها في سيرة وهدي الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأصحابه رضي الله عنهم فهمًا وعملًا، ثم مَن جاء بعدهم بالتبعية لهم، أي: لأخذه بفهمهم وعملهم).

يقول ابن تيمية رحمه الله: (فالعلم المشروع والنسك المشروع مأخوذ عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأما مَن جاء بعدهم؛ فلا ينبغي أن يجعل أصلًا، وإن كان صاحبه معذورًا، بل مأجورًا لاجتهاد أو تقليد) (مجموع الفتاوي 10/ 362، وراجع: السلفية وقضايا العصر، تأليف د. عبد الرحمن بن زيد الزنيدي - ط. مركز الدراسات والإعلام دار أشبيليا - الرياض - ط. أولى 1418 هجريا - 1998م، 342، 344).

والسلفية تقدِّم مرجعيتها تلك على أنها تمثِّل الوسيلة الناجحة الموضوعية في دراسة التراث، وأنها كفيلة إن اتخذها الإنسان مرجعية له أن يستثمر منجزات الحاضر وإيجابيات التراث الماضي، وهذه المرجعية تختلف اختلافًا جذريًّا عن المرجعيات الأخرى، ولا يمكن أن تفهم إذا أدرجت ضمن الأيديولوجيات الأخرى كالليبرالية أو الماركسية أو غيرها (راجع المصدر السابق، ص 344 - 345).

(تتمثَّل هذه الجذرية في الاختلاف في كونها مرجعية (لا زمنية في سلطان أحكامها)، أي: ليست نتاج واقع ظرفي؛ سواء كان قديمًا أو حاضرًا، وهذه المرجعية هي -كما أسلفنا-: (الوحي الإلهي بمقرراته التي تمثِّل الحقيقة في القرآن والسنة الثابتة، والإجماع كدليل كاشف)، وهذا لا يعني أن المرجعيات الأخرى أيًّا كانت لا تشتمل على عناصر موضوعية معرفية وأيديولوجية، كلا، إن كل مرجعية تشتمل على بعض من هذه العناصر، والتراث ذاته يشتمل على هذه العناصر، لكن الأمر هنا هو أمر تعالٍ وأكملية:

- هل التراث هو الأولى بأن يهيمن على الواقع؛ لأنه يشتمل من العناصر الموضوعية معرفية وأيديولوجية على قَدْر أوفر وأوثق مما لدى عصرنا الذي اغترب فيه الإنسان حتى تاه عن حقيقة وجوده، كما يمكن أن يقول التراثيون؟

- أو أن الأمر بعكس ذلك: أن العصر بتوسعه المعرفي وتقدمه المتنوع أولى أن يخضع له التراث، مقدمًا بقاياه التي يحكم هذا العصر بنفعها وصلاحيتها، كما يمكن أن يطرحه المقابلون للأولين؟

في السلفية: الوحي بمقرراته فوق العصر والتراث معًا، بما فيهما من عناصر إيجابية، فالسلفية تنظر إلى موضوعها التراثي بعينين لا عين واحدة:

- عين الحقائق المستمدة من مرجعيتها الكتاب والسنة.

- وعين يحكمها البُعد التاريخي المدروس ولحاضر دارس التراث) (المصدر السابق، ص 345- 346 بتصرفٍ).

وفي السلفية: (فإن الوحي على الرغم من اللا زمنية في مبادئه وأحكامه؛ إلا أنه ليس مستحيل التطبيق؛ أي: ليس أحكامًا كاليوتوبيات التي تصوغها خيالات الفلاسفة؛ بل إنه واقعي، قابل للفهم والتطبيق في الحياة البشرية) (المصدر السابق، ص 347، بتصرف).

وفي السلفية: الفهم البشري للوحي مجرد من تحكم الأيديولوجيات البشرية بالنصوص، فالسلفية تقدِّم الحل متمثلًا بفهم السلف الصالح؛ صحابة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، بصفته الفهم الأمثل لهذا الوحي الذي قام عليه التطبيق الأول للإسلام، الذي يستحق أن يكون النموذج المحتذى لمَن بعدهم لأسبابٍ كثيرةٍ، مِن أبرزها:

- فصاحتهم اللغوية: حيث كانوا على مستوى خطاب الوحي من حيث الفهم؛ لأن الوحي نزل بلغتهم التي كانت في قمتها البيانية وقت البعثة.

- منهجهم الفطري في البحث والفهم والتلقي؛ حيث كانت فطرتهم حية لم تلوثها الفلسفات ولاهوتيات الأديان المحرَّفة التي تمثل مسبقات فكرية تحكم حركة عقل صاحبها وفهمه؛ ما حدث لكثيرٍ ممَّن تلاهم.

- أنهم كانوا أقرب الناس للرسول -صلى الله عليه وسلم- زمانًا ومكانًا، حيث كانت تتشكل تصوراتهم وحياتهم تحت توجيه الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكانوا يعيشون تلقيه للوحي وبيانه لهم، وتطبيقه في واقع حياته.

- أنهم بحكم فطرتهم وفهمهم الأصيل للدِّين ضبطوا موقع العقل البشري في دائرة الدين؛ أي: في علاقته مع الوحي الإلهي، دون إلغاء للعقل، ولا تطاول به على النصوص.

- إن الوحي ذاته زكَّى تراثهم، وجعله نموذج التطبيق الصحيح للفهم السليم للإسلام في بيانه -صلى الله عليه وسلم- أن الفرقة الناجية من الانحراف عن الدين، ومِن ثَمَّ مِن استحقاق النار، هي (مَا *أَنَا *عَلَيْهِ *وَأَصْحَابِي) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، ووجَّه -صلى الله عليه وسلم- المسلمين للتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعده (راجع المصدر السابق، ص 348). وفي تزكية معتقد الصحابة وأصولهم الإيمانية؛ قال -سبحانه وتعالى-: (*فَإِنْ *آمَنُوا *بِمِثْلِ *مَا *آمَنْتُمْ *بِهِ *فَقَدِ *اهْتَدَوْا) (البقرة:137).

(وهذه المرجعية المتمثِّلة بالوحي قرآنًا وسنة، وبفهم السلف من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتطبيقهم، تنطوي على المعالم المنهجية لحركة العقل في دراسته للتراث ونقده إياه، وهي المنهجية التي أبرزها العلماء المسلمون ابتداءً من الشافعي في (الرسالة) وحتى ابن تيمية في (الرد على المنطقيين)، وغيرهما مِن العلماء).

وليس المراد بالمنهجية السلفية هنا منهج استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية المعروف بأصول الفقه، وإنما المقصود: (ما هو أعم من ذلك مما يتعلَّق بإثبات القضايا وتصحيح النقول، وما يضبط حركة العقل وينظمها في مسلك منتج في أي ميدان سلكه، وتشمل هذه المنهجية تحديد مصادر المعرفة ومراتبها، والمسالك العقلية السليمة، والتفسير الإسلامي للوجود بعالميه: الغيب والشهادة، وغيرها من ضوابط الفكر في الإسلام، مع أن هذا لا يمنع أن يستثمر المسلم ما يستجد مِن الطرائق المنهجية - مما لا يعارض أدلة الوحي ومناهج الاستدلال المتفق عليها عند أهل السنة - التي يستطيع بها أن يحقق إدراكًا أوضح وأوثق لموضوعاته، وإمكانًا أكبر لصحة الحكم عليها) (المصدر السابق، ص 348 بتصرفٍ).

من معالم المنهجية السلفية في دراسة التراث:

1- الانطلاق من منظور ديني(إسلامي):

السلفية تنطلق (في قراءتها للتراث من منظور ديني يجعل العامل الروحي (الإيمان والعقيدة) المحرك الأساسي للتاريخ، والفاعل الأكبر في التراث، وبما أن هذا الدِّين منحدر إلينا من الماضي؛ أي: أنه جزء من التراث، فإن قراءة السلفية للتراث فهم تراثي للتراث).

أما في الفكر الليبرالي: فإنه ينظر إلى التراث العربي الإسلامي من الحاضر الذي يحياه حاضر الغرب الأوروبي (فيقرأه قراءة أوروبية النزعة)، أي: ينظر إلى التراث من مرجعية أوروبية؛ ولذا لا يرى فيه إلا ما يراه الأوروبي؛ فهي إذًا قراءة استشراقية) أما في الفكر اليساري (الماركسيون العرب): فينطلق (من المادية الجدلية (كأيديولوجية) قائمة يريدون أن يفرضوا على التراث الإسلامي قضاياها، فالتراث الإسلامي يجب أن يكون انعكاسًا للصراع الطبقي من جهة، وميدانًا للصراع بين المادية والمثالية من جهة أخرى، ويكون دور القراءة الماركسية هو: تعيين لأطراف وتحديد المواقع، وإذا استعصى عليه ذلك تذرع بصعوبة التحليل أمام هذا التعقيد البالغ الذي تتصف به أحداث التاريخ العربي) (راجع المصدر السابق، ص 330).

2- الشمولية:

الانتقائية خاصية من الخصائص المشتركة بين الدارسين للتراث في العصر الحاضر؛ نتيجة لضخامة وكثافة التراث العربي الإسلامي من جهة، ولتشعب الوجهات التي حملها التاريخ حتى يبدو التراث معها كأنه ممتلئ بالمتناقضات من جهة أخرى، ولكون التراث جهد بشري تراكمي يقوم على استيعاب الصور السابقة وتطويرها من جهة، ولاختلاف اتجاهات المفكرين في العصر الحاضر من جهة؛ لذا صار منهج الانتقاء والاختيار سمة لعامة الدراسات المتعلقة بالتراث بعثًا ونشرًا، أو قراءة ونقدًا (راجع المصدر السابق، ص 332، ص 354).

ويتبدى الانتقاء في صورتين:

الأولى: تتمثل في أحد منهجين:

أ- إما منهج إبراز الجوانب المشرقة -حسب رؤية الدارس- من خلال المنتجات الفكرية والتطبيقات العملية إبداعًا علميًّا، أو قيمًا سامية، أو رقيًّا حضاريًّا.

ب- أو منهج إبراز الجوانب السلبية -حسب رؤية الدارس أيضًا- في تصورات الناس ومواقفهم، وكشف آثارها على الحياة والحضارة؛ سواء كانت معرفية أو اجتماعية أو غير ذلك (المصدر السابق، ص 332).

ولا شك أن التباين سيحدث بين الدارسين هنا؛ مما يجعل التناقض في الأحكام بينهما قائمًا؛ فهذا (انتقاء تحكمي يمارسه الشخص من أجل أن يثبت وجهة نظر يعتمدها، أو يبرر به رغبة ذاتية لديه، فيأخذ من التراث ما يوافق هذه الرغبة ويهمل ما سواه أو يهمشه؛ بحيث لا يبدو على ما مستوى ما أبرزه) (المصدر السابق، ص 354).

الثانية: يتجه فيها الانتقاء إلى لون أو ألوان محددة من التراث تخدم غرضًا محددًا أو تلبي حاجة قائمة.

- فهناك مَن يتجه إلى تراث الفلاسفة لاستلهام القِيَم الإنسانية والاجتماعية من فلسفاتهم.

- وهناك مَن يرى أن التراث الذي يستحق البعث لكي يكون عماد النهضة للمسلمين هو العلوم الفقهية والأصولية، بصفتها العلوم الإسلامية الخالصة.

- وكثير من المستشرقين ومثلهم كثير من الباطنيين والوجوديين اهتموا بإحياء تراث الصوفية والاتجاهات المنحرفة عن الإسلام، وهناك مَن حوَّل الاهتمام بالتراث إلى أدنى صوره المتمثلة بأزياء الملابس، والأثاث والمساكن، ونحوها مما يسمَّى (فلكلورًا)؛ إما تأثرًا بالاهتمام الغربي بهذه الأمور، أو لصرف الهمة عن التراث الحقيقي في جوانبه الدينية والثقافية والحضارية التي تتشكل من خلالها شخصية الأمة (راجع المصدر السابق، ص 332 - 333).

والسلفية بحكم مرجعيتها -الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح- التي تمثِّل الأقوى علميًّا وإيمانيًّا لدى المسلمين لا حاجة بها إلى هذه الصورة من الانتقاء؛ إذ كشف حقائق الرؤى التراثية المناقضة لمقررات الوحي كافٍ في إسقاطها بهذا التناقض معه موضوعيًّا في الميدان العلمي، ونفسيًّا في ميدان الإيمان لدى عموم المسلمين (راجع المصدر السابق، ص 355).

أما عدم اهتمام السلفيين بالتراث الفلسفي (لأنهم يرون أن هذه الفلسفة بتجاوزها بالعقل نصوص الوحي تمثِّل نقيضًا للسلفية)، و(أن الفلسفة بهذا التجاوز كانت نكبة حضارية وفسادًا في الدين).

وهذا لا ينافي أن المنهج السلفي بمرجعيته السلفية يمتاز بالشمولية في التعامل مع أي تراث كان، فالسلفية لا تقف في قراءتها للتراث عند مرحلة زمنية من التاريخ لا تتعداها -كما قد يصورها البعض-، ولا هي قاصرة على التراث الإسلامي متنكرة لتراث الأمم الأخرى- كما قد يصورها البعض-، فالسلفية بحكم منهجها المعرفي الذي يستوعب مجالات العلم المختلفة دينية وكونية وإنسانية، وبحكم رسالتها التقويمية للحياة البشرية تمتد بقراءتها لكلِّ زوايا التاريخ.

(يقول ابن تيمية وهو يقوم بفرز معياري للتراث في عصره جاعلًا الوحي أصلًا ثم مقسمًا المعارف الأخرى: (الحق الذي لا باطل فيه هو ما جاءت به الرسل عن الله، ويعرف بالكتاب والسنة والإجماع، وهو مبني على أصلين:

أحدهما: أن هذا جاء به الرسول.

والثاني: أن ما جاء به الرسول يجب اتباعه.

الأولى مقدمة علمية مبناها على العلم بالإسناد والعلم بالمتن؛ وذلك لأهل العلم بالكتاب والإجماع لفظًا ومعنى، وإسنادًا ومتنًا.

والثانية إيمانية وضدها الكفر والنفاق.

وما وراء ذلك قسمان:

الأول: ما أثر عن الأنبياء السابقين مما بأيدي المسلمين وأيدي أهل الكتاب كالإسرائيليات، وقد لبس حقه بباطله، فهو يسمع ويروي إذا علمنا موافقته لما علمناه؛ لأنه مُؤنِس مؤكَّد وقد علم أنه حق، وأما إثبات حكم بمجرده، فلا يجوز اتفاقًا.

الثاني: ما يروى عن الأوائل من الفلاسفة ونحوهم، وما يلقى في قلوب المسلمين يقظة ومنامًا، وما دلت عليه الأقيسة الأصلية أو الفرعية، وما قاله الأكابر من هذه الأمة؛ علماؤها وقراؤها، فهذا فيه الحق والباطل؛ لا يرد كله ولا يقبل كله، بل يقبل منه ما وافق الحق، ويرد منه ما كان باطلًا، والأقيسة العقلية الأصلية والفرعية الشرعية هي من هذا الباب؛ ليست كلها صحيحة، ولا كلها فاسدة) (راجع: مجموع الفتاوى 19/ 5-8 بتصرفٍ).

قال د. عبد الرحمن بن زيد الزنيدي: (ولقد قام الإمام ابن تيمية بدراسات نقدية مطولة ومتنوعة للتراث البشري الذي التقى في الحضارة الإسلامية وتنامى حتى وصل إلى عصر ابن تيمية؛ سواء كان من تراث الأديان السابقة أو من الفكر الفلسفي، أو مما تولد لدى المسلمين من علوم تتفاوت بحسب مستمدها والمؤثرات التي أحاطت بها. وهكذا كل مجدد سلفي تقتضي حركته التجديدية نقد التراث وتحديد القيمة الحقيقية لعناصره المعرفية ورؤاه الأيديولوجية من خلال المرجعية السلفية الكتاب والسنة (راجع: السلفية وقضايا العصر، ص 350).

3- مراعاة الواقع (الواقعية):

تنظر السلفية إلى التراث بعينين:

- عين الحقائق المستمدة من مرجعيتها القرآن والسنة.

- عين تنظر إلى الأشياء من خلال الإطارات الزمنية والظرفية التي تحكمها.

ولهذا كان من شروط المجتهد بإزاء فقه الشريعة، فقه الواقع الذي سينزل عليه الحكم؛ وعليه كان من القواعد المشهورة لدى السلف: (تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال، والنيات والعوائد) (راجع في ذلك: إعلام الموقعين لابن القيم، 3 /3).

ولنظر هذه العين الثانية زاويتان:

1- الزاوية الأولى: زاوية الظرف التاريخي الذي تمت فيه الواقعة التراثية؛ سواء كانت فكرة مصاغة أو واقعًا تطبيقيًّا.

ومن أهم وسائل تسديد النظر في هذا المجال: التبصر بالمصطلحات؛ فمع أن الوحي حاكم على أفكار الناس وسلوكهم، وله مصطلحاته التي تمثِّل الأصل؛ إلا أنه لا ينبغي في دراستنا للتراث المبادرة إلى حمل الألفاظ التي استخدمها أصحابه على المصطلح الشرعي ومحاكمتهم من خلالها، بل لا بد -كما يقول ابن تيمية- من شيئين:

أحدهما: معرفة معاني الكتاب والسنة.

والثاني: معرفة معاني الألفاظ التي ينطق بها هؤلاء المختلفون، حتى يحسن أن ينطبق بين معاني التنزيل ومعاني هؤلاء، ليكون الحكم على المعاني لا على مجرد الألفاظ) (راجع: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، 1/ 75).

ومن وسائله: معرفة الظروف التي نشأ فيها التراث وتبلور، ومعرفة الأصول التي استمد منها، والآثار التي نتجت عنه، ونحو ذلك.

وإذا تم تحديد الوضعية التراثية أمكن الحكم عليها شرعًا من خلال تلك الوضعية -أي: الظروف الزمانية والمكانية التي تمت فيها- وشخصية صاحبها، لا من خلال صورتها المطلقة، ولا من خلال وضعية كوضعية قارئ التراث.

2- الزاوية الثانية: هي واقع الشخص الدارس للتراث، فلا يفرض من المنجزات التراثية على واقعه شيئًا قبل أن يتبصر في هذا الواقع، من حيث قابليته وحاجته لهذا المنجز، حتى ولو كانت بالمعيار الشرعي مشروعة في ظرفيتها التاريخية السابقة؛ إذ قد يجد في الواقع ما ينفي شرعيتها إما بتغير الحكم فيها أو بتجاوز الحضارة الإنسانية لها (انظر في ذلك المصدر السابق، ص 352 - 353).

(مثلًا: ابن خلدون والعلماء في العصور السابقة أنكروا الكيمياء وعدوها مثل الفلسفة الإلهية في فسادها، وإذا تبصرنا بها وجدنا أن هذه الكيمياء تتمثل في أساليب سحرية خرافية يزعم أصحابها أنه بإمكانها تحويل المعادن الوضيعة إلى معادن نفيسة كأن يحولوا التراب ذهبًا، ولا ريب أن حكمها الشرعي التحريم؛ لما فيها من دجل وسحر، فهل نأتي إلى واقعنا ونقول بتحريم الكيمياء، كلا، ننظر في الكيمياء المعاصرة فنجدها علمًا يعنى بطبيعة المادة وترتيبها وتغيراتها من خلال المنهج التجريبي الذي هو منهج شهد الشرع باعتبار أصله، فنحكم بحكم مغاير، بالإباحة لها كحكم عام، وربما وجوبًا لمقتضيات مصلحية) (المصدر السابق، ص 353).

وعليه فإن من الضروري (أن يحمل الدارس للتراث التصور الصحيح للإسلام، والمنهجية السديدة، والوعي بعصرنا الذي نعيش فيه، حتى يتوفر في نتاج هذه الدراسات النضج الشرعي والملائمة الواقعية) (المصدر السابق، ص 363).

4- مراعاة الموضوعية:

يفتقر أصحاب الحداثة والأيديولوجيات المعاصرة ومَن في ركابهم في دراستهم للتراث إلى كثيرٍ من الموضوعية، منحازين إلى ما توحيه إليه تطلعاتهم وطموحاتهم، حيث يلجأ هؤلاء إلى (توظيف التراث لخدمة أيديولوجيتهم المعاصرة حتى لا تبدو غريبة على البيئة الإسلامية، وإنما تجد أسانيد في تراث هذه البيئة، وحتى يتحقق ذلك لا بد من القيام بهذه العملية التمويهية، وإصحابها بزخم من التأييد وتكريس دلائل صدقها، أو إصحابها بزخم مضاد إذا كانت معاكسة للأيديولوجية المرادة.

والسلفية ليست بحاجة لذلك فهي -كما أسلفنا- تستند على مرجعية أرسخ في واقع المسلمين - مبدئيًّا- من كلِّ صور التراث المنحدر إلينا من فكر المسلمين وتطبيقاتهم؛ فضلًا عن تراث غير المسلمين القريب والبعيد.

وعليه: فإن حسب السلفي أن يكشف عن الحقيقة التراثية بشكل موضوعي ثم يبيِّن موقعها الصحيح إسلاميًّا، أي: في ضوء تعاليم الوحي؛ لينصاع الناس -المسلمون- للحقيقة الإسلامية معرضين عما خالفها. مثلا: في دراسة كثير من المتأثرين بنظرية التطور العضوي لمقدمة ابن خلدون في حديثه عن مراتب الكائنات من الأدنى إلى الأعلى؛ جمادًا فنباتًا فحيوانًا فإنسانًا، ومن خلال عبارات -موهمة بلا ريب- حكم هؤلاء بأن ابن خلدون سبق دارون إلى القول بنظرية التطور العضوي، وتسلسل الإنسان من المخلوقات الدنيا؛ لأن ضغط الفكر المعاصر الذي يمثل مرجعية هؤلاء أملى عليهم هذا الحكم!

أما السلفيون: فإنهم من خلال دراستهم الموضوعية لما كتبه ابن خلدون في تاريخه قد وصل بعضهم إلى أن حديثه إنما هو عن مراتب هذه الموجودات من حيث خصائصها، ولنفرض أن السلفي انتهت دراسته الموضوعية إلى أن ابن خلدون يقول بنظرية التطور العضوي في جانبها المنكر للخلق المستقل لآدم فإنه لا حاجة له إلى حدوس (من الحدس) يدرأ بها هذه النتيجة، وحسبه أن يكشف موقف الوحي بشأن خلق آدم، وبالتالي خطأ أي تصور مخالف كائنًا مَن كان قائله؛ ابن خلدون أو غيره (المصدر السابق، ص 358- 359).

5- سلامة الغاية:

غاية العصرانيين من دراسة التراث هي احتواؤه؛ ليوظفوه حسب أيديولوجيتهم في انطلاقتهم المواكبة للعصر الحاضر. أما غاية السلفية من دراسة التراث ونقده فهي: القضاء على عناصر الخلل في فساد العصرانيين المنهجي؛ لئلا يتسرَّب هذا الخلل إلى حياة المسلمين المعاصرة عبر بوابة التراث.

(إننا -كما يقول أكرم العمري- بحاجة في استيحاء التراث لتكوين المنظومة العقلية لمنهجنا، مستمدين ذلك من الكتاب والسنة ومناهج الأصوليين والفقهاء -التي لا تتعارض مع أدلة الوحي ومناهج أهل السنة في الاستدلال-.... إن إيجاد هذه المنظومة صار ضرورة حتمية، وإن رفض المنطق الغربي بسبب عوارضه الوثنية وجذوره المادية وتفلته من السياج الديني يحتاج إلى منظومة عقلية بديلة، وأحسب أن أساسها موجود في التراث) (المصدر السابق، ص 361 نقلًا عن (التراث والمعاصرة) أكرم العمري، 70 -71).


(إن الأمة ما لم ترتكز على تراثها؛ فإنها توشك أن تذوب و تضمحل هويتها، وما لم يكن التراث ممحَّصًا مطهَّرًا من عناصره التي انكشف زيفها؛ فقد يكون هو عامل تخلُّف وشلل، هذا بالنسبة للمسلمين، أما بالنسبة لغير المسلمين فيهدف من دراسة التراث إلى تمييز ما يدخل تحت ظل الإسلام ويمثِّل تعاليمه حسب الطاقة البشرية فهمًا وتطبيقًا، مما هو خارج عن الإسلام مخالف له، وإن انتسب إليه وانطوى تحت ما يسمى بالتراث الإسلامي، وذلك من أجل أن تقوم الحجة من قِبَل المسلمين على غيرهم؛ سواء كانوا من الدارسين للإسلام: كالمستشرقين، أو سواهم من الباحثين عن الحق) (المصدر السابق، ص 360 -361 بتصرفٍ).

وللحديث بقية إن شاء الله.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 17-01-2023, 11:01 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,607
الدولة : Egypt
افتراضي رد: التراث والتجديد من منظور السلفية

التراث والتجديد من منظور السلفية (3)

تطبيقات سلفية على أعمال تراثية










كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فتقوم الدراسات ذات المرجعية السلفية في التعامل مع التراث عبر التاريخ على الجمع بين التصور الصحيح للإسلام كما كانت عليه القرون الخيرية، مع الوعي بواقع العصر الذي يعيشه الدارس.

ويزخر التاريخ الإسلامي عبر العصور بصور تطبيقية لدراسات سلفية لأعمال تراثية، وقد أخذت تلك الدراسات السلفية للتراث مسالك متنوعة، منها:

1- دراسات لقضايا وردت في الأعمال التراثية:

حيث يتم تقرير القضية التي تناولها هذا العمل التراثي وَفْق صورتها الشرعية الصحيحة كما وردت في النصوص الشرعية في الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، والاستشهاد عليها بما ورد من قبل في تراث الأمة السلفي من كتابات وأقوال السلف الصالح، وأئمة الأمة المعتبرين، ثم القيام ببيان مواقف الفئات المخالفة في تلك القضية وأدلتهم، والرد عليها، ثم يؤخذ من هذا العمل التراثي ما يوافق الصورة الشرعية ولا يضادها، ويترك منه ما كان مصادمًا للشرع ولا يوافقه.

وهذه القضايا قد تكون قضايا منهجية، ومِن أبرز صور التعامل السلفي مع القضايا التراثية المنهجية: مؤلفات ابن تيمية في الرد على كتابات مَن سبقوه مِن أئمة علم الكلام في تقديم النقل على العقل: كالرازي، والجويني، وغيرهما، يتجلَّى ذلك في كتابه: (درء تعارض العقل والنقل)، والذي بناه على تحليل القاعدة المنهجية لعلماء الكلام، وهي تقديم العقل على النقل، ثم نقدها في إطار الكتاب والسنة، ومنهج وعقيدة السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وتابعي التابعين.

وقد تكون تلك القضايا قضايا موضوعية، تتناول موضوعات عقائدية: كإثبات وجود الله تعالى، أو القول بخلق القرآن، أو الخوض في أسماء الله تعالى الحسنى وصفاته العلى.

ومن أمثلة ذلك: كتاب: (العقيدة الواسطية) لابن تيمية، حيث يقرر القضية وَفْق صورتها الشرعية الصحيحة، ويسوق النصوص عليها، ويستشهد لها بما ورد في تراث السلف الصالح، ثم يبيِّن الفِرَق المخالفة وأدلتهم، ومِن ثَمَّ نقد أقوالهم.

ويعد ابن تيمية أبرز مَن يُقتدَى به في تناول الأعمال التراثية بالمنظور السلفي؛ إذ استوعب تراث مَن سبقوه؛ خاصة في ميادين العلم الشرعي المختلفة على كثرة ما كان فيها مِن انحرافاتٍ عقديةٍ صارت عند الكثيرين هي الأصل، وعاد معها الأصل الصحيح مستنكرًا!

فجاء ابن تيمية؛ فقرر في كلِّ القضايا التي تناولها بالدراسة، الصورة الشرعية الصحيحة، وساق عليها النصوص وعشرات النقول عن أئمة السلف الصالح، ثم نقد بها كتابات وآراء المخالفين.

ومن أمثلة ذلك أيضًا في تناول القضايا الموضوعية: تناول ابن القيم رحمه الله لقضية (السَّيْر إلى الله تعالى بالأعمال القلبية) التي تناولها أبو إسماعيل الهروي في كتابه: (منازل السائرين) الذي سبق به ابن القيم بنحو قرنين من الزمان، وتضمن بعض البدع والشطحات الصوفية التي تأثر بها كثيرون بعده، فعمد ابن القيم إلى الدراسة التحليلية لهذا الكتاب، ونقده مِن منظور المرجعية السلفية.

وقصة الكتاب: أن أبا إسماعيل الأنصاري الهروي الصوفي المتوفى عام 481هـ (أي: في القرن الخامس الهجري) ألَّف كتابًا بعنوان: (منازل السائرين)، قَسَّم فيه طريق سير المؤمن إلى الله إلى مائة منزلة، لكلِّ منزلة ثلاثة مفاهيم: مفهوم للعوام، ومفهوم للخواص، ومفهوم لخاصة الخاصة -على طريقة الصوفية-، وقد تكلَّف في هذه المفاهيم؛ فوقع في شطحات صوفية، مع أن للهروي كتبًا سلفية وردود على المنهج الكلامي.

فجاء ابن القيم المتوفى عام 751هـ (أي: في القرن الثامن الهجري)؛ فوجد أن بعض أهل البدع من الصوفية ممَّن يروجون لبعض البدع والشطحات الصوفية يستشهدون بكلام الهروي في كتابه: (منازل السائرين) على بدعهم وشطحاتهم؛ عندها رأى ابن القيم أن يقوم بدراسة تحليلية تفسيرية لكتاب منازل السائرين، هذا العمل التراثي في عصره، كي يغسل عن الكتاب ما فيه من وضر الصوفية، فكان كتابه: (مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد إياك نستعين) في مجلداته الثلاثة.

لقد أراد ابن القيم مِن دراسته التحليلية لكتاب هذا العَالِم أن ينقذه من بعض الانحرافات المنهجية ومن التفسيرات التي حملها عليه أصحاب الشطح الصوفي، إلى تفسير يتسق مع المنهج الإسلامي في العلاقة بالله تعالى، ومع النظرة الصحيحة للحياة؛ فإذا أقبل المحبون للهروي على كتابه من خلال هذا التفسير الصحيح، كان دليلهم نحو الحق والهدى.

(ومع ذلك تبقى الموضوعية والمعيارية الشرعية هي الأصل؛ فقد يقف ابن القيم أمام عباراتٍ للهروي تأبى التفسير وَفْق المنهج الإسلامي السوي؛ فهل يتمادى إلى تأويل ما لا يحتمل التأويل بما يوافق الشرع ولو كان على حساب الموضوعية، أي: ولو كان بإسقاطٍ لا تقبله عبارة الأصل، أي: بتحريف المدلول، أو يتخذ الموقف المعاكس، وهو: أخطر؛ بأن يبرر مراد الشيخ ولو كان خلاف الحق؟!

كلا، إن مرجعية ابن القيم السلفية تأبى عليه كلا المسلكين، فيعلنها صريحة أنه مع الحق، وأن الحق خلاف عبارة الهروي.

ومن أمثلة ذلك: عند كلام الهروي في منزلة الرجاء: أن الرجاء وقوع في الرعونة، قال ابن القيم: شيخ الإسلام -يعني الهروي- حبيب إلينا، والحق أحب إلينا منه، وكل مَن عدا المعصوم صلى الله عليه وسلم فمأخوذ من قوله ومتروك، ونحن نحمل كلامه على أحسن محامله، ثم نبيِّن ما فيه) (مدارج السالكين، 2/ 37 بتصرفٍ، وراجع: السلفية وقضايا العصر، ص 359).

(ولكن هل إدانات ابن القيم السلفي لشطحات الهروي تحمله على الإدانة الشاملة لفكره كله أو للهروي نفسه؟ كلا، إنه يعترف بكلِّ ما للهروي من عِلْم حَسَن، وأفكار متسقة مع المنهج الإسلامي، والمنطق العقلي السليم، كما أنه يرجو للهروي أن يكون ما قدَّمه مِن عمل صالح وعلم نافع يكفِّر شطحاته تلك، فما وقع فيه الهروي (من الشطحات التي ترجى مغفرتها بكثرة الحسنات، ويستغرقها كمال الصدق، وصحة المعاملة، وقوة الإخلاص، وتجريد التوحيد، ولم تُضمَن العصمة لأحدٍ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم) (مدارج السالكين 2 /39، وراجع: السلفية وقضايا العصر، ص 359- 360).

2- دراسة الشخصيات التي لتراثها أثر في حياة المسلمين:

وذلك من خلال رصد وتتبع التطور الفكري، والمؤثرات التي شكَّلت شخصيات لها تأثير في حياة المسلمين، وكذلك التعرف على المرجعية الفكرية التي تعتنقها تلك الشخصية وتسخِّر جهدها العلمي والفكري للترويج لها وخدمتها، ومِن ثَمَّ يمكن نقد عطاء هذه الشخصية وتقييمها.

وقد تناول ابن تيمية في مؤلفاته العديد من الشخصيات التي سبقته، وتأثر بها كثيرٌ مِن المسلمين في عصره، من أئمة الأشاعرة، والمعتزلة، والصوفية، والفلاسفة، حيث كان يدرس الشخصية التي يتناولها دراسة وافية من حيث مكوناتها وعناصرها المعرفية، ومواقفها الأيديولوجية وينظر في مؤلفاتها وكتاباتها، وكتابات مَن سبقوه عنها، ثم يعرضها على مرجعيته السلفية، ومِن ثَمَّ يبيِّن ما لهذه الشخصية وما عليها بدرجة عالية من الإنصاف والعدل.

- فمن أمثلة ذلك: موقف ابن تيمية من تراث أبي حامد الغزالي، الذي عاش قبل ابن تيمية بأكثر من قرن ونصف قرن، ونظرًا لثقافة الغزالي الواسعة؛ فقد أسهم في كثيرٍ مِن ميادين الفكر المختلفة من التصوف والفقه وأصوله، وعلم الكلام والفلسفة، ونال شهرة واسعة في زمانه وبعده، وما يزال، وقد انقسم الناس حوله بين معظِّم له ومعارض؛ فجاء ابن تيمية فدرس شخصية أبي حامد الغزالي دراسة تفصيلية وافية، مبينًا مصادره الفكرية، وتأثُّره في علم الكلام وأصول الفقه: بالجويني، والباقلاني، وتأثره في الفلسفة: بابن سينا، وأصحاب رسائل الصفا، ورسائل أبي حيان التوحيدي، وتأثره في التصوف بكلام أبي طالب المكي، وكلام الحارث المحاسبي.

وتناول ابن تيمية آثار هذه المصادر على شخصية الغزالي؛ فبدت متناقضة: تكفِّر الفلاسفة وغلاة الصوفية في مواضع، ثم يتأثر بأقوالها في مواضع أخرى!

ويبيِّن ابن تيمية: كيف أسهم الغزالي في توطين التصوف والفلسفة، ودمجهما في الإسلام باستخدام عبارات إسلامية في التعبير عن مقاصد الفلاسفة، ويكشف ابن تيمية ضعف الغزالي في علم الحديث والذي أوقعه في ضعف علمي فيما يتعلَّق بالشرعيات؛ فتبنى أشياء مِن أغاليط الصوفية وترهاتهم ! وأكثر من ذكر أحاديث وآثار ضعيفة، بل وموضوعة؛ خاصة في كتابه: (إحياء علوم الدين).

أما عن شخصية الغزالي: (فإن ابن تيمية يعترف بذكاء الغزالي، ويرى أكبر عيوبه: جهله بالنصوص الشرعية)؛ الذي اعترف الغزالي به، (ومِن ثَمَّ عاد بعد تطوافه إلى النصوص -القرآن والسنة- يروي بها ظمأه، ويشفي بها علته؛ حتى مات وصحيح البخاري على صدره).

وقال ابن تيمية عن الغزالي: (إنه كان طالبًا للحق وجريئًا في الوقت نفسه؛ مما جعله يقتحم مختلف الميادين، التي تؤثِّر عليه فكريًّا ونفسيًّا، ولكنه في آخر عمره أدرك أن العقل البشري في مجال العلم الإلهي سلاح مفلول ما لم يستمد من المصدر الصحيح وهو الوحي، سواء تزيَّا هذا العقل بزي فلسفة تأملية أو مكاشفات صوفية أو جدليات كلامية، ومِن ثَمَّ عاد بعد تطوافه إلى النصوص).

ولا تخلو كتب ابن تيمية ومجموع فتاويه مِن تحليل كتب الغزالي وشخصيته، وتقويمها؛ خاصة كتاب ابن تيمية: (بغية المرتاد) فإن نصفه تقريبًا مخصص لمناقشة الغزالي كما يقول محققه موسى الدويش (راجع في ذلك: "السلفية وقضايا العصر" للدكتور عبد الرحمن الزنيدي، ص 365 - 369).

3- الدراسة الشمولية لتاريخ تفاعل المسلمين مع الإسلام:

وذلك بغرض التعرُّف على صور وتطورات تفاعل المسلمين مع الإسلام، والمؤثرات الطارئة عليهم عبر تاريخ الإسلام قديمًا وحديثًا، وتقييمها.

ومِن أمثلة ذلك:

- تتبع ابن تيمية لـ(الحركة العلمية في التاريخ الإسلامي)، وما استخلصه من أن الحركة العلمية تتراجع عبر التاريخ الإسلامي حتى انتهت في العصور المتأخرة إلى وضعٍ متردٍّ على أيدي أناسٍ لم يتحروا سبيلَ الصحابة والتابعين، ولا خبرة لهم بأقوالهم وأعمالهم؛ فهم لا يعلمون إلا ما هم عليه، وما عليه مَن ينازعهم مِن الطوائف الأخرى! فلا يعرفون ما قال السَّلَف في المسائل التي يدرسونها، وذلك من خلال دراسة تاريخ العلم لدى المسلمين، والتعرف على المؤثرات الكثيرة التي أربكت سيره، وحادت به يمينًا ويسارًا؛ مِن هنا يكون العلم لدى المسلمين قابلًا للتقويم والانطلاق الحضاري من جديد، ومن هذا المنطلق قام ابن تيمية بحركته السلفية التجديدية في عصره.

ذَكَر ابن تيمية في دراسته الشاملة للحركة العلمية في تاريخ المسلمين: أن الدِّين بدأ بالأصول من التوحيد في مكة، ولما صارت له قوة بالمدينة نزلت فروعه الظاهرة، مِن: الصلاة، والصيام، والجهاد، والواجبات والمحرمات؛ فالأصول تمد الدِّين بفروعه وتثبتها، وفروعه تكمل أصوله وتحفظها.

أما ظهور البدع في الأمة: فكان في أواخر عهد الخلفاء الراشدين، فكان ظهور بدعتي: الخوارج والرافضة، فلما ذهبت دولة الخلفاء الراشدين، وظهر الملك، وظهر النقص في الأمراء ظهر النقص في أهل العلم والدِّين.

وكان ملك معاوية رضي الله عنه ملكًا ورحمة، ثم جَرَت في إمرة ابنه يزيد: فتنة قَتْل الحسين بالعراق، وفتنة أهل الحرة بالمدينة، وحصار مكة، لمَّا قام فيها ابن الزبير، وبعد موت يزيد تفرَّقت الأمة؛ ابن الزبير بالحجاز، وبنو الحكم بالشام، ووثب المختار بن أبي عبيد بالعراق، وذلك في أواخر عهد الصحابة.

وظهرت بدعة القدرية والمرجئة بالتكلُّم في أعمال العباد من الطاعة والمعصية، والمؤمن والفاسق؛ فردَّها مَن كان باقيًا مِن الصحابة مع ما كانوا يردونه من البدع.

وفي أواخر الدولة الأموية: كان انقراض أكثر تابعي التابعين، ومع أوائل الدولة العباسية صار لكثيرٍ مِن الأعاجم ولاية للأمور، وعُرِّبَت بعض الكتب العجمية من كتب الروم والفرس والهند؛ فانتشر (الرأي) و(علم الكلام) و(التصوف)، وظهر التجهم ونفي الصفات، فكان جمهور (الرأي) في الكوفة مع ما كان فيهم من التشيع، وكثرة الكذب في الرواية، بينما كان جمهور (الكلام والتصوف) في البصرة.

أما أهل المدينة: فلم ينحرفوا انحراف الكوفيين والبصريين؛ إلا بعضهم، بينما كان الشاميون غالبهم مجاهدين وأهل أعمال قلبية؛ لذا فكُتُب الكلام والتصوف خَرَج أصلها من البصرة، ومتكلمة المعتزلة أئمتهم بصريون: كأبي الهذيل العلاف، وأبي على الجبائي، وكذلك متكلمي الكُلَّابية والأشاعرة: كسعيد بن كلاب، وأبي الحسن الأشعري، والباقلاني، وغيرهم.

وكذلك كتب الصوفية: كالمحاسبي، وأبي سعيد الأعرابي، وأبي طالب المكي، وقد شاركهم خلق آخرون من البغداديين والخراسانيين والشاميين، بينما كان عِلْم النبوة مِن القرآن والفقه والحديث، في الأمصار التي سكنها جمهور الصحابة: كالحرمين، والشام، والعراق؛ فمنها: القُرَّاء السبعة، وأئمة أهل الحديث، وأثبتهم كان في المدينة: كالزهري، ومالك (راجع في ذلك: السلفية وقضايا العصر، ص 369-375).

قال ابن تيمية عن الحركة العلمية بعد ذلك: (ثم المتقدمون الذين وضعوا طرق الرأي والكلام والتصوف، وغير ذلك، كانوا يخلطون ذلك بأصول من الكتاب والسنة والآثار؛ فأما المتأخرون فكثير منهم جرد ما وضعه المتقدمون، مثل: مَن صَنَّف في الكلام مِن المتأخرين، فلم يذكر إلا الأصول المبتدعة، وأعرض عن الكتاب والسنة، وجعلهما إما فرعين أو آمن بهما مجملًا، أو خرج به الأمر إلى نوع من الزندقة.

وكذلك مَن صَنَّف في الرأي فلم يذكر إلا رأي متبوعه وأصحابه، وأعرض عن الكتاب والسنة، ووزن ما جاء به الكتاب والسنة على رأي متبوعه، ككثيرٍ من أتباع المذاهب الأربعة، وغيرهم.

وكذلك مَن صَنَّف في التصوف والزهد، جعل الأصل ما روي عن متأخري الزُّهَّاد، وأعرض عن طريق الصحابة والتابعين، كما فعل صاحب الرسالة أبو القاسم القشيري، وغيره) (راجع المصدر السابق، ص 374-375 نقلًا عن مجموع الفتاوى بتصرفٍ).

- ومن أمثلة الدراسة الشمولية للتاريخ: دراسة مراحل تدوين المسلمين لتاريخ الإسلام لمعرفة مواطن الخلل في هذا التدوين، وقد بدأت كتابة التاريخ الإسلامي من خلال مدرستين كبيرتين:

المدرسة الأولى: (مدرسة الحجاز):

التي اهتمت بتدوين السيرة النبوية والغزوات، ورائدها: عروة بن الزبير، وتضمَّنت هذه المدرسة طبقة أبناء الصحابة: كعروة بن الزبير، وأبان بن عثمان بن عفان، ثم طبقة الزهري، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم، ثم طبقة موسى بن عقبة، وابن إسحاق، والواقدي. وهي أول مدرسة لتدوين التاريخ الإسلامي، وتُعرَف بمدرسة (المغازي).

وعن عروة أخذ الزهري؛ الذي كان واسع المعرفة بالأنساب، وعنه أخذ موسى بن عقبة، وابن إسحاق، وتلك المدرسة صاحبة أقدم وأوثق ملاحظات مدوَّنة عن عهد النبوة والغزوات، وقد جمع موسى بن عقبة بين مرويات الزهري ومروياته الخاصة في كتابه: (المغازي)، الذي ظل متداولًا لعِدَّة قرون، وعنه أخذ ابن سعد، والواقدي، والطبري.

أما كتاب ابن إسحاق الذي جَمَع فيه مروياته؛ فلم يصل إلينا أصله، ولكن وَصَل إلينا قسط كبير منه في سيرة (ابن هشام)، بينما جاء كتاب: (المغازي) للواقدي أكثر دقة في تحقيق تواريخ الأحداث من ابن إسحاق، لكن ميوله الشيعية أثَّرت عليه في تناوله للأحداث.

المدرسة الثانية: (مدرسة العراق في الكوفة والبصرة):

والتي اهتمت بتدريس المعارك والأنساب، وتميَّزت بجمع أخبار الأحداث المختلفة إلى جانب السيرة النبوية، ومن أبرز رجالها: أبو مخنف لوط بن يحيى الكوفي؛ الذي كان يميل تجاه العلويين ضد الأمويين، وقد تناول حروب الردة والفتوحات وأحداث الفتنة، وسيف بن عمر الذي اعتمد على روايات قبيلته تميم مع ميله للعلويين، ثم الشيعي نصر بن مزاحم الذي خاض في أخبار الجمل وصفين، ومقتل الحسن رضي الله عنه، وأورد الآثار في الحطِّ من معاوية رضي الله عنه ومَن معه.

وقد تطوَّرت كتابة التاريخ في القرن الثالث الهجري، فتميَّزت تلك المرحلة بتدوين التاريخ على أساس التسلسل الزمني، وجمع الأحداث المتعاقبة في كتابٍ واحدٍ، وتدوين تاريخ الفتوحات، وفيه كان كتاب الطبقات لابن سعد، وظهر عددٌ مِن المؤرخين الذين كان عملهم يقوم على النقد وانتقاء المادة.

ومن أبرز هؤلاء: خليفة بن خياط الملقَّب بشباب العصفري، وله كتاب: (التاريخ)، وهو أول كتاب على النظام الحولي، أي: كتابة الأحداث التي وقعت في عام (حول) معين، ومحمد بن سعد البغدادي كاتب الواقدي "صاحب الطبقات"، وهو أول كتاب على نظام الطبقات، وأحمد بن يحيى البلاذري، وله كتابان مشهوران: (فتوح البلدان) في تاريخ الفتوحات، و(أنساب الأشراف) في الأنساب، واليعقوبي صاحب كتاب: (البلدان)، تناول فيه تاريخ ما قبل الإسلام حتى سنة 259هـ، وكان علويًّا.

أما الطبري: فيعد قمة الكتابة التاريخية في هذه المرحلة، والذي كَتَب التاريخ العام من بدء الخليقة إلى سنة 302هـ.

وقد تميَّزت هذه المرحلة بالأسلوب المتأنق في الكتابة بعيدًا عن مجرد السرد مع تنوع في طرق التأليف.

وبعد هذا النضج في تدوين التاريخ، ظهرت الكتابة الموسوعية في التاريخ، كما في "البداية والنهاية" لابن كثير، والذي استفاد كثيرًا من الطبري؛ بالإضافة إلى مصادر أخرى، وكما في مقدمة ابن خلدون، وعرفت كتب التراجم، مثل: (سير أعلام النبلاء) للذهبي، و(الوافي بالوفيات) للصفدي، و(طبقات الشافعية) للسبكي، وعرف في أواخر القرن الثامن الهجري تدوين العمران، وتسجيل الحياة الاجتماعية كما في كتاب: (الخطط) للمقريزي.

ثم عرف الجمع بين الأدب والسياسة والسِّيَر في كتابة التاريخ، وظهرت الموسوعات المتعددة الأجزاء، ومن أشهرها: (نهاية الأرب في فنون الأدب) للنويري، ويضم أكثر من ثلاثين مجلدًا، تناول قسمًا كبيرًا منها الكتابة التاريخية، و(صبح الأعشى في صناعة الإنشاء) للقلقشندي المصري، الذي جمع الوثائق والمراسلات السلطانية في محفوظات ديوان الإنشاء الذي كان يعمل فيه إلى جانب مرويات أمهات الكتب في مختلف ميادين العلم والأدب في أربعة عشر مجلدًا (راجع في ذلك المقدمة الثانية من كتاب: "المقدمات العشر لقراءة وكتابة التاريخ"، تأليف: عبد الناصر الدياسطي).

وشهد هذا التاريخ الطويل من التدوين وجود مؤرخين قاموا بتشويه تاريخ المسلمين؛ في مقدمتهم أهل البدع والأهواء، مِن: الشيعة الرافضة، والباطنية الغلاة، والشعوبيين، وقد راجت كتاباتهم على الكثيرين، وتلقفها أعداء الإسلام في عصرنا الحاضر من المستشرقين والمبشرين، ومَن على دربهم مِن العلمانيين والقائلين بالحداثة.

ويمكن التعرف على هؤلاء المؤرخين من خلال دراسة التراث التاريخي على منهج السلف الصالح في ضبط الرواية والإسناد، ومن خلال دراسة سيرتهم الشخصية، وما كانوا عليه من مناصرة أهل الأهواء والبدع الضالة.

ومن أمثلة هؤلاء المؤرخين الذين شَوَّهوا بأكاذيبهم تاريخ المسلمين:

- أبو مخنف لوط بن يحيى: وهو وإن لم يصل لنا مِن كتبه شيء، لكن مروياته اعتمد عليها مؤرخون كبار بلا تمحيص: كالطبري، وابن الأثير، وقد تعدَّت رواياته في تاريخ الطبري 550 رواية؛ هذا رغم كونه شيعيًّا متعصبًا، بل هو عند الشيعة مِن أعظم مؤرخيهم، ورغم كونه عند علماء الجرح والتعديل ضعيفًا ليس بثقة؛ قال عنه يحيى بن معين: "ليس بشيء"، وقال عنه الدارقطني: "أخباري ضعيف".

وكان أبو مخنف حريصًا على تصوير الصحابة رضي الله عنهم على أنهم يتنافسون على السلطة، ويتقاتلون عليها، مشوِّهًا بذلك صورة صدر الإسلام.

قال ابن تيمية رحمه الله: (أما جمهور المصنفين في الأخبار والتواريخ والسِّيَر، والفتن، من رجال الجرح والتعديل، فمنهم مَن هو في نفسه متهم أو غير حافظ: كأبي مخنف لوط بن يحيى، وهشام بن السائب الكلبي، وإسحاق بن بشر، وأمثالهم من الكذابين، بل الواقدي خير من ملء الأرض مثل هؤلاء، وقد عُلِم ما قيل فيه -أي: الواقدي-) (راجع: "مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري" ص 44، نقلًا عن مجموع الفتاوى لابن تيمية، 1/ 16، والمقدمة الرابعة من المقدمات العشر للدياسطي).

والواقدي وإن كان أفضل حالًا من أبي مخنف بكثيرٍ، وسارت بمصنفاته الركبان، ولا يُستغنَى عنه في المغازي؛ إلا أنه ليس بثقة؛ فهو متهم بالكذب، فيه تشيع مع تقية، يروي أخبارًا تتفق مع تشيعه؛ خَلَط الغث بالسمين، ويروي عنه مجاهيل؛ لذا فمروياته تحتاج إلى مزيد تحقيق وتدقيق.

- محمد بن السائب الكلبي: وقد ذُكِر في أمهات كتب التاريخ باعتباره من أشهر الرواة، له روايات عند الطبري؛ روى أخبار المعارك في عهد علي ومعاوية رضي الله عنهما، وفي بني أمية، منها: أخبار المختار الثقفي، وابن الأشعث، وعُرِف بالتشيع، واتُّهِم بالكذب؛ فلا يحتج برواياته.

قال ابن حجر رحمه الله: "متهم بالكذب ورُمِي بالرفض".

وقال ابن حبان: "سبئي".

وقال ابن معين: "مذهبه في الدِّين ووضوح الكذب فيه، أظهر مِن أن يحتاج إلى الإغراق في وصفه، ولا يحل ذكره في الكتب؛ فكيف بالاحتجاج به؟!".

وقال الثوري: "اتقوا الكلبي.

وقال ابن الجوزي: "لا يحل الاحتجاج به".

- سيف بن عمر التميمي: له مؤلفات كثيرة، وقد اشتهر بسبب اعتماد الطبري عليه في التاريخ؛ روى الطبري عنه أكثر من 800 رواية، ويتشبث برواياته بعض المستشرقين، وهو متهم بالكذب، ووضع الأخبار المكذوبة، وقد ذكر شناعاتٍ عن أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم؛ لا يحتج بما انفرد به من الروايات.

قال فيه يحيى بن معين: "ضعيف الحديث".


وقال ابن حبان: "يروي الموضوعات عن الأثبات، اتهم بالزندقة، وكان يضع الحديث".

وقال الحاكم النيسابوري: "متروك الحديث، اتهم بالزندقة، وهو في الرواية ساقط" (راجع: المصدر السابق).

وهذا كله يبيِّن مدى حاجتنا لإعادة النظر في تراثنا التاريخي، وحذف كل ما وقع فيه من تشويه أهل الأهواء قديمًا وحديثًا.

وللحديث بقية إن شاء الله.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 28-01-2023, 12:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,607
الدولة : Egypt
افتراضي رد: التراث والتجديد من منظور السلفية

التراث والتجديد من منظور السلفية (4)

(الحداثة والتراث)










كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فالحداثة مفهوم غربي (تقتضي أول ما تقتضي قطع الصلة بالماضي وآثاره لما انطبع في ذاكرة الغربيين من أشكال التخلف التي عانوها في القرون الوسطى؛ حتى أصبحوا يفرون من كلِّ ماضٍ ولو كان ماضيهم القريب، فرارهم من الموت!) (رسالة: التراث والتجديد، د. أحمد الطيب شيخ الأزهر - هدية مجلة الأزهر - عدد شعبان 1435هـ، المقدمة ص 15 بتصرفٍ يسيرٍ).

ويحرص المتأثرون بهذه الحداثة الغربية في بلادنا على قطع صلة أمتنا بتراثها بصورة صريحة مباشرة، أو بطرق فيها مواربة؛ رغم الفارق الكبير بين حالة الغرب في القرون الميلادية الوسطى وحالة أمتنا فيها، ورغم أن حالة الغرب في هذه المرحلة (لا تنطبق على ذاكرة المسلمين؛ لأن هذه القرون كانت تشهد على تحضرهم، فقد أبى بعض الدارسين إلا أن يبنوا على هذه الحالة الغربية أن الأمة المسلمة ينبغي أن تحذو في علاقاتها بتراثها وتاريخها حذو الغرب في علاقته بتراثه وتاريخه!).

(هذا إضافة إلى أن الواقع الأوروبي الذي نَتَج عنه المنهج الحداثي، كان واقع صراع مرير بيْن المفكرين والأدباء والفلاسفة من ناحية، والدِّين والكنيسة ورجالها من ناحية أخرى، وتكشف الصراع عن انتصار ساحق لرجال الأدب والفلسفة، وسموا فلسفتهم: (الفلسفة التنويرية) في إشارة صريحة إلى أن فلسفة خصومهم من رجال الدين والكنيسة فلسفة ظلام وجهل وتخبط، يجب أن تنجلي غمتها عن الناس.

ومن هنا لم يتردد فلاسفة التنوير الغربي في أن يصدعوا بأن الفكر الحداثي يشتغل بالإنسان، وينفض يديه من (الإله) جملة وتفصيلًا، وأن العقل وحده هو المرجع وليس الوحي الإلهي، وأن الدنيا هي محور تعلُّق الإنسان وتوجهه واشتغاله، وليس الآخرة) (المصدر السابق، ص 15- 16، نقلًا عن: "روح الحداثة... المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية"، تأليف طه عبد الرحمن - المركز الثقافي العربي - المغرب 2006م، ص 189، وهذا الكتاب كتاب بالغ الأهمية في نقد الحداثيين العرب في قضية التراث).

(وأصحاب هذا التوجُّه ينطلقون من التسوية بين النص القرآني المقدس والنصوص التاريخية، ونصوص التوراة والإنجيل في خضوعها للقراءات الحداثية، غير عابئين بالفروق الدقيقة الحاسمة بين نصِّ القرآن وهذه النصوص، مِن حيث اختلاف طبيعة المصدر؛ فهو في القرآن إلهي مقدس، وفي غيره كتابات أو إلهامات مؤلَّفة ومدوَّنة، ونص القرآن الكريم لم يتعرَّض لتدخل بشري بالرواية بالمعنى، أو باستحضار الحداثة أو بالصياغة بعد موت صاحب النص أو بوحي من تأثير البيئة والواقع التاريخي، ولم يكن للنبي -صلى الله عليه وسلم- أيُّ دور إلا نقله وتبليغه للناس كما سمعه ووعاه عن الوحي حرفًا حرفًا، وكلمة كلمة.

ثم إن النص القرآني قد توفرت له طرق عجيبة في توثيق النص وحفظه، وصيانته وخلوده، لم تتوفر لأي نص آخر من النصوص التاريخية أو الدينية أو الأدبية، أو غيرها، وهذه الفروق الكبرى هي التي سوَّغَت للغربيين أن يخضعوا هذه النصوص التي يتدخل فيها العمل البشري للقراءات الحداثية) (التراث والتجديد، المقدمة، ص 14).

وقد تنوعَّت نظرة الحداثيين العرب للتعامل في الظاهر مع التراث، مع الاتفاق على نبذه أو تغييره وتفريغه من محتواه:

- فمنهم مَن يرى أن التراث عنصر جامد معوق، وحينئذٍ يحق للمشروع النهضوي أن يبدأ من الفراغ، ويحق له أن يتجه إلى الغرب يقتبس منه ما يستطيع اقتباسه، وهضمه بلا حرج وتردد، وبلا نظر لدين وشريعة وحضارة إسلامية أو عربية.

- ومنهم مَن حصر التراث أصولًا وفروعًا في مرحلة تاريخية منتهية.

- ومنهم مَن أحال التراث برمته إلى أصول مادية، باعتبار وحي القرآن والسنة كان نتيجة لحراك الواقع المادي، فالوحي عندهم مرتبط بالواقع الذي نزل فيه ارتباط السبب بمسببه، والعلة بمعلولها، فالواقع هو الذي يغيِّر الوحي حين يتغير، وهو الذي كان يتحكم فيه نزولًا وتغييرًا، وحذفًا وتعديلًا؛ وعليه يسلكون بالتراث في درب المذاهب المادية التي تتوقف عند حدود المحسوس، ولا تعترف بما وراء العالم المادي.

- ومنهم مَن جرد التراث مِن أخص خصائصه، وهو قداسة النص، أي: انتزاع القداسة من النصوص الأصول في التراث: القرآن الكريم والسنة النبوية، واستبدل بها ما يسمَّى عندهم بـ(تفكيك المقدس).

- ومنهم مَن لجأ إلى تطبيق علم (الهيرمينوطيقا) في تفسير النص القرآني وتأويله، والهيرمينوطيقا: علم التأويل والمدرسة الفلسفية التي تشير إلى تطور دراسة نظريات تفسير وفهم النص، في فقه اللغة واللاهوت، والنقد الأدبي؛ فينادون بأن فهم النص غير ثابت وليس نهائيًّا، وأن قراءته مفتوحة، ولا فرق في ذلك بين نصٍّ أدبي أو نص ديني! والقرآن عندهم نص لغوي تكوَّن في ثقافة عصره وظروفها وتاريخها، ولا يمكن فصله عن بيئته وثقافته التي نَزَل فيها؛ فيتساوى عندهم النص القرآني المقدس مع غيره من النصوص الأخرى في التعامل معها!

والحداثيون في ذلك كله يدعون أن التراث لا يصلح لهذا العصر، ولا بد من إعادة إنتاجه وتوظيفه عبر التجديد، وهذا التجديد يكون من خلال الاجتهاد في التعامل مع النص، وهم يطلقون حق هذا الاجتهاد لكلِّ مفكر ومثقف، حتى لو كان غير مؤهل وغير مستوفٍ لشروط الاجتهاد وضوابطه كما بيَّنها العلماء، بل زعم هؤلاء أنهم الجديرون بحركة إحياء التراث. والغاية من زعمهم أن لهم حق الاجتهاد في التعامل مع التراث، هي: تطويع التراث لمستجدات العصر. (راجع في ذلك: المصدر السابق، ص 13-17).

ويذهب الحداثيون المصريون إلى التخلي عن عنوان: (تجديد التراث)، ويقدِّمون عليه عنوان: (التراث والجديد)؛ لأن (تجديد التراث يعني التعامل مع التراث القديم كحقيقة موضوعية قابلة للتجديد، مع المحافظة على بقاء الأصول ثابتة، كما هو الحال في كلِّ عمليات التجديد؛ بمعنى أن نفرِّق في دائرة الموروث بين ثوابت وبين متغيرات، نستبقي الأولى كما هي، وننطلق في ضوء بقائها وثباتها إلى تجديد الثانية، ونحقق من خلالهما معًا حركة التطور، أو ما يسمى: (الأصالة والمعاصرة)، لكن التجديد بهذا المعنى لا يحقق الأهداف المقصودة لمدرسة (التراث والتجديد)؛ لأن التراث في هذه المدرسة هو نقطة البدء، أما التجديد فهو إعادة تفسير التراث حسبما تقتضي متطلبات العصر وحاجاته).

فالتجديد هو الغاية، والتراث (ليس هدفًا تتحرك في إطاره إعادة البناء)؛ لذا فعندهم (أمر طبيعي أن يتجرد التراث حالتئذٍ مِن كلِّ قيمة ذاتية أو خصائص ثابتة، لا على مستوى الأصول ولا على مستوى الفروع) (المصدر السابق، ص 28-29 بتصرفٍ).

فهؤلاء لا يرون التراث هو الكتب المطبوعة، ولا هو الحقائق المستقلة القادمة من الماضي لتغير الواقع، بحيث لو شكَّل الواقع خطرًا عليها يجب الدفاع عنها في مواجهة الواقع؛ هذا عندهم مرفوض؛ لأن التراث نفسه هو تعبير عن واقع سابق كان في الماضي، فهذا الواقع السابق هو جزء من مكونات هذا التراث، والناس يحملون هذا التراث كمخزون نفسي، فهم الممثلون للتراث أو الحاملون لتأثيرات التراث، لا فارق في ذلك بين تراث شعبي من فنون الغناء والقصص الشعبية: كأبي زيد الهلالي مثلًا، وبين التراث الديني في تكوين نفسية الجماهير، فكلاهما رافد من روافد ثقافة الأمة، وعنصر مكوِّن لنسيج هذه الثقافة (وغاية ما هنالك أن هذا فن ديني وذاك فن شعبي!).

يقول د. "أحمد الطيب" شيخ الأزهر في ردِّ هذا التصور الفاسد للتراث: (إن هذه التسوية تهدف إلى تحطيم متعمد للحواجز الفاصلة في نفوس الجماهير بين جانب مقدس وجانب لا يحظى بأي صورة من صور التقديس، وإن حظي باهتمام الجماهير ولهوها به ليل نهار).

ويضيف منكرًا: (ومن الغريب حقًّا أن صاحب (التراث والتجديد) بالرغم أنه لا يكف عن دعوى أحقيته في الحديث عن الجماهير والدفاع عنها؛ إلا أنه يتناسى أن الجماهير التي يتحدث عنها قد صمم فكرها وشعورها ووجدانها، ومخزونها النفسي على رفض هذا الخلط، وأنها لا تعرف فنًّا دينيًّا بالمعنى الذي صوَّره لنا صاحب (التراث والتجديد)، وإنما تعرف دينًا له قدسيته وحرمته في القلوب، وتعي الفرق الذي يتخطاه صاحب (التراث والتجديد) بين الدِّين كحقائق إلهية وبين قصص شعبي لا ندري إن كان مصدره واقعًا أو أساطير لا تمت إلى الواقع بأدنى صلة أو سبب).

ويضيف: (ومن الغريب غير المفهوم أيضًا: أنه بالرغم من تأكيد صاحب (التراث والتجديد) على أهمية الفنون الشعبية في نفوس الأمة وخطورتها التي تضارع خطورة الدين في وعيها وثقافتها؛ فإنه يصمت صمت القبور عن (الفنون الشعبية)، ولا يرى أنها مسئولة من قريب أو بعيد عن الواقع المتردي لجماهير الأمة، بينما يعود بالتأثير كله على القسم الديني فقط من هذا التراث، ويحمله المسئولية كاملة عن كل ما أصاب أمتنا في عصرنا الحديث من جهل وفقر وتخلُّف؛ مما يؤكِّد لنا: أن التنظير بين الدين -أو القرآن الكريم- وبين الفنون الشعبية في هذا الموضع لم يكن من التحليل العلمي الذي يتسق فيه استنباط النتائج من مقدماتها، بقدر ما كان محاولة لخلخلة قدسية الدين في نفوس الجماهير ليصبح معطى تاريخيًّا قابلًا -برمته- لإعادة التشكيل، لا كمعطى إلهي فيه الثابت الذي لا يتغير، والمتغير القابل للتجديد) (المصدر السابق، ص 31 - 32).

التراث والواقع:

يرى الحداثيون أن التراثَ لا يستمد قيمته من كونه متعاليًا على الواقع الذي نحن فيه، وإنما يستمد قيمته من كونه يعكس الواقع الماضي الذي ظَهَر فيه، فالواقع الماضي الذي نشأ فيه التراث يعتبر بذاته جزءًا من ماهية هذا التراث، (والنتيجة الحتمية لهذه النظرة هي محدودية التراث في مرحلة تاريخية ارتبط بالتعبير عنها والتعامل معها، فإذا ما تخطاها الواقع وجب تغيير محاوره وإعادة تشكيلها حسب أنماط التغير الاجتماعي الجديد، حتى لو أدَّى الأمر إلى نشوء محاور تراثية جديدة تتناقض مع محاور التراث القديم) (المصدر السابق، ص 33).

فأخص وصف للتراث عند أصحاب (التراث والتجديد) أنه منحصر في قياس نبض الواقع الذي ظهر فيه، وبالتالي ينتفي وصف الثبوت والاضطراد عن التراث مع تغير الواقع وتبدله.

ويرفض هؤلاء أن يكون للتراث مفاهيم كلية ثابتة يكون لها تأثير لتساهم في حلِّ مشكلات الحياة المعاصرة وإعادة تشكيل مفاهيم الواقع الجديد، فعملية التغيير عندهم تتم لصالح الواقع الجديد لا لصالح التراث على حساب الواقع الحالي المستقر؛ لأن الواقع عندهم هو المصدر الأول والأخير لكل فكر.

قال د. حسن حنفي رائد مدرسة (التراث والتجديد) في مصر: (ليس التراث موجودًا صوريًّا له استقلال عن الواقع الذي نشأ فيه، وبصرف النظر عن الواقع الذي يهدف إلى تطويره، بل هو تراث يعبِّر عن الواقع الأول الذي هو جزء من مكوناته) (المصدر السابق، ص 34 نقلًا عن كتاب: "التراث والتجديد"، د. حسن حنفي، ص 13).

وقال أيضًا: (ليس التراث مجموعة من العقائد النظرية الثابتة والحقائق الدائمة التي لا تتغير، بل هو مجموعة تحقيقات هذه النظريات في ظرفٍ معينٍ، وفي موقف تاريخي محددٍ، وعند جماعة خاصة تضع رؤيتها، وتكوِّن تصوراتها للعالم) (المصدر السابق)، ويجمل ذلك بقوله: "إن الواقع هو المصدر الأول والأخير لكلِّ فكرٍ) (المصدر السابق).

وهذا يعني بوضوح أن التراث يعود إلى مصدر مادي هو الواقع الذي نشأ فيه، وعليه:

- فالتراث الإسلامي القديم ارتبط بواقعه الذي نشأ فيه زمانًا ومكانًا ارتباطًا عضويًّا.

- أن الواقع هو مصدر التراث، والتراث جزء من الواقع.

- التراث ليس حقيقة موضوعية دائمة، وإنما تعبير عن موقف تاريخي محدد، وعن تصور معين لجماعة خاصة.

وعلى هذا التفسير والفهم للتراث عندهم (يصبح من اللازم وقد تغيَّر الواقع مرارًا عديدة أن يكون لنا الآن تراث مختلف يعبر عن واقعنا الذي نعيش فيه، وأن يكون تراثنا القديم المرتبط مرحليًّا بواقع مضى وتولى قد ذهب هو الآخر مع واقعه الذي تخطاه التاريخ) (المصدر السابق، ص 35)، وهكذا يفرض على تراثنا الإسلامي أوصاف وأحكام تضاد حقيقة هذا التراث.

ويصل الشطط بهؤلاء إلى تصور أن وجود أسباب نزول للآيات ووقوع نسخ لبعض أحكام الشريعة في عهده -صلى الله عليه وسلم- يؤكِّدان تبعية التراث للواقع في زمنه، وارتباط التراث بالواقع قوة وضعفًا.

يقول رائدهم: (ما عَبَّر عنه القدماء باسم أسباب النزول؛ لهو في الحقيقة أسبقية الواقع على الفكر ومناداته له، كما أن ما عبَّر عنه القدماء باسم الناسخ والمنسوخ ليدل على أن الفكر يتحدَّد طبقًا لقدرات الواقع وبناءً على متطلباته؛ إن تراخى الواقع تراخى الفكر، وإن اشتد الواقع اشتد الفكر).

وقال: (نزل الوحي حسب متطلبات الواقع، أو كما يقول علماء الأصول: طبقًا لأسباب النزول، وتبعًا لإمكانيات تقبُّله، وكثيرًا ما كان الوحي يعدل حسب الواقع كما يقول بذلك علماء النسخ) (المصدر السابق).

وبذلك تحول الوحي عنده إلى مقترحات وحلول من الأفراد أو الجماعة، أو فرض من الواقع أيدها الوحي، وكأن لكل آية في القرآن سبب نزول، وأن نزول كل آية جاء عقب سبب من الأسباب لتأييد الواقع وإقراره.

وهذا مما لا يعرفه تراث الإسلام ويأباه، فمعلوم أن نزول الآيات كان على قسمين: قسم نزل ابتداء، وقسم نزل عقب واقعة أو سؤال. وهناك آيات ذكر لها المفسِّرون أكثر من سبب للنزول، وأحيانًا تكون هذه الأسباب المذكورة متضاربة، فيعد البعض ذلك الاختلاف من تفسير الآيات لا مِن أسباب النزول؛ خاصة مع توسُّع البعض في تلمس أسباب النزول، ولهذا كان المعوَّل عليه في معرفة الوقائع التي تعد أسبابًا حقيقية لنزول بعض الآيات، هو مدى صحة الرواية وثبوتها.

ويدل على بطلان ما يذكره الحداثيون:

- إنه (ليس صحيحًا ما يُقَال من أن أسباب النزول استوعبت الكتاب الكريم وتحكمت في نزوله، وأن القرآن نزل طبقًا لهذه الأسباب وتبعًا لمتطلبات الواقع، بل الصحيح المتعارف عليه هو أن قدرًا كبيرًا جدًّا من القرآن الكريم نزل ابتداءً بلا أسباب أو مقتضيات من الواقع؛ بمعنى أن هذا القدر الكبير لم يكن إجابة عن أسئلة أو ردود فعل لمثيرات معينة أثارها واقع المجتمع المكي أو المدني في عصر الرسالة) (المصدر السابق، ص 41).

- إن (آيات التوحيد لم ترتبط في نزولها بسبب ولا مقتض ولا باعث من الواقع، بل نزلتْ أساسًا لتدمير واقع المجتمع الجاهلي ولتنشئ على أطلاله مجتمعًا من نوع آخر).

قال الشيخ محمد عبده: (إن سبب النزول إنما يحتاج إليه في آيات الأحكام؛ لأن معرفة الوقائع والحوادث التي نزل فيها الحكم تُعِين على فهمه، وفِقْه حكمته ويسره... وأما الآيات المقررة للتوحيد، وهو المقصود الأول من الدِّين؛ فلا حاجة إلى التماس أسباب لنزولها، بل هي لا تتوقف على انتظار السؤال) (المصدر السابق، ص 41 - 42 نقلًا عن تفسير المنار لرشيد رضا، 2/ 56).

- إن كتب أسباب النزول (لم تقدِّم لنا سبب نزول لكل آية، وهذا وحده كافٍ في دحض المقولة التي تُخضِع القرآن للواقع، وتربطه به اشتدادًا وضعفًا، وإمكانًا للقبول أو الامتناع. وحسبنا دليلًا أيضًا: الأمثلة العديدة التي يجدها قارئ (أسباب النزول) للواحدي، والتي يربط فيها بين نزول الآية وبين ما يعد من التفسير، لا من أسباب النزول، ويدخل تحت هذا النوع العشرات مما سموه: أسبابًا للنزول، فسبب النزول كما يعبِّر الشيخ رشيد رضا: (ليس أكثر من فهم للمروي عنه في الآية، ورأي في تفسيرها يخطئ فيه ويصيب، ولا يلزم أحدًا أن يتبعه فيه، بل لمن ظهر له خطؤه أن يرده عليه، ولا سيما إذا كان ما يتبادر من معنى الآيات يأباه) (المصدر السابق، ص 42 - 43 بتصرفٍ، وتفسير المنار، 5/ 320).

- فقول بعض السلف عن آية: "إنها نزلت في كذا" يُرَاد به أنها تضمنت هذا الحكم؛ يقول الزركشي في (البرهان في علوم القرآن) (1/ 32-33): (عرف من عادة الصحابة والتابعين أنه إذا قال: نزلت هذه الآية في كذا؛ فإنه يريد أن الآية تتضمن هذا الحكم، لا أن هذا كان السبب في نزولها) (المصدر السابق، ص 49، نقلًا عن الإتقان 1/83، وأيضًا: التحرير والتنوير لابن عاشور، 1/50).

- إن القاعدة الأصولية المتفق عليها: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (تنسف من الجذور محاولة ربط القرآن بالواقع ربط معلول بعلة؛ إذ في ضوء هذه القاعدة لا يصح الوقوف بمحتوى الآية عند حدود الحادثة التي نزلت الآية في جوها، بل تتخطى دلالة الآية بما هي خطاب إلهي حدود المكان والزمان التي أحاطت بتنزلات الآيات القرآنية) (المصدر السابق، ص 43).

يقول د. أحمد الطيب ردًّا على ضلالات حسن حنفي: (إن الحقيقة البسيطة التي يعلمها الأستاذ إذا التزم بمنطق هذا التراث -أصولًا وفروعًا- هي: أن القرآن الكريم موجَّه للواقع ومؤثِّر فيه وحاكم عليه، بقطع النظر عما صاحب نزول بعض الآيات أو تقدَّم على نزولها من ظروف وملابسات، وأنه ليس من الحوادث أو الوقائع بعلة في نزول شيء من القرآن؛ بمعنى أنه كلما افترضنا عدم حدوث السبب؛ فلا بد من أن نفترض معه ضرورة انقطاع هذه الآية أو تلك، أو احتجابها عن النزول، فمثل هذا التفكير قلب لأبسط قواعد فهم القرآن رأسًا على عقب، ولا يمكن الجمع -بحال من الأحوال- بين القول بأن القرآن وحي من الله تعالى والقول بأن القرآن جزء من الواقع أو مدلوله؛ اللهم إلا إذا كان القصد الخفي وراء هذه المتناقضات هو استبعاد القرآن الكريم من أن يكون عنصرًا مقومًا في مشروع النهضة والتجديد) (المصدر السابق، ص 44).

ويضيف: (وأن القول باختصاص القرآن بالواقع الذي نزل فيه فوق أنه افتئات على الحقيقة التي يعرفها المسلمون جميعًا هو قول لا يمكن أن يقول به عاقل).

وفي هذا المعنى قال ابن تيمية: (وقد يجيء كثيرًا من هذا الباب قولهم: هذه الآية نزلت في كذا، لا سيما إن كان المذكور شخصًا... فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية مختص بأولئك الأعيان دون غيرهم، فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق، والناس إن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه أم لا؟ فلم يقل أحدٌ من علماء المسلمين إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين، وإنما غاية ما يقال: إنها تختص بنوع ذلك الشخص فيعم ما يشبهه، ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ، والآية التي لها سبب معين إن كانت أمرًا أو نهيًا لذلك الشخص ولغيره ممَّن كان في منزلته، وإن كانت خبرًا بمدح أو ذم؛ فهي متناولة لذلك الشخص وغيره ممَّن كان بمنزلته أيضًا) (المصدر السابق، ص 45-46، نقلًا عن مجموع الفتاوى، 13/ 181-182، وانظر: الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، 1/ 85).

ويؤكِّد الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، وهو أحد أئمة تفسير القرآن الكريم في العصر الحاضر، على هذا المعنى الواضح فيقول: (فإن القرآن جاء هاديًا إلى ما به صلاح الأمة في أصناف الصلاح، فلا يتوقف نزوله على حدوث الحوادث الداعية إلى تشريع الأحكام) (المصدر السابق، ص 46، نقلًا عن التحرير والتنوير لابن عاشور، 1/ 46).

صاحب التراث والتجديد يناقض نفسه:

والأعجب والأغرب أن يناقض هذا الكاتب نفسه كلامه الذي ذكره في مواضع أخرى من كتاباته، فيقرر خلاف ما قال من قبل، فيقول: (لا يهمنا في تفسير الآيات القرآنية الرجوع إلى الوقائع التاريخية المحددة التي كانت وراء أسباب النزول، فذلك يهدف فقط إلى ضبط معاني الآيات) (راجع المثقفون العرب والتراث، لجورج طرابيشي، ص 109، نقلًا عن كتاب: في اليسار الإسلامي، لحسن حنفي، ص 100).

وقال مبيِّنًا الظواهر الإيجابية -في علومنا العقلية في رأيه- أنها تلك التي (تصدر من النص الديني بعد فهمه أو تفسيره، دون أن يكون لها بقايا يرجع أصلها إلى التاريخ أو إلى بيئة ثقافية أخرى) (المصدر السابق نقلًا عن اليسار الإسلامي، ص 43).

وقد خصص جورج طربيشي قسمًا كبيرًا من كتابه: (المثقفون العرب والتراث) لتحليل تناقضات مدرسة التراث والتجديد في الموقف المنهجي، والموقف من القضايا والوقائع، والنصوص والأشخاص. (راجع الكتاب، ص 105- 127).

بينما يعلِّق فؤاد زكريا على تناقضات مدرسة التراث والتجديد بقوله: (وإذا فرضنا أن مؤرخًا أراد في المستقبل أن يحدد الموقف العام لحسن حنفي من هذه المسألة، فهل سيظل هذا المؤرخ بقواه العقلية سليمة بعد أن يتراقص مع كاتبنا في حلقة المتناقضات الجنونية التي تدور فيها معالجته للموضوع؟!) (انظر: التراث والتجديد، د. أحمد الطيب، هامش ص 52، نقلًا عن: الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة، ص 57).

ومن إشكاليات صاحب مدرسة التراث والتجديد أيضًا: أنه نَسَب ما عليه المسلمون من سلوكيات خاطئة إلى التراث وتأثيراته العميقة! فالتراث فيما يراه (هو العلة الحقيقية لكلِّ مشكلاتنا المعاصرة التي ظهر فيها عجزنا وانحطاطنا، وتخلفنا فيما نعانيه الآن من اللا مبالاة والسلبية، والتواكل هو أثر الإيمان بالقضاء والقدر في التراث!)، فشاء (عامدًا أو متغافلًا أن يزيل الحدود والحواجز في خطة التجديد بين هذه الأصول كثوابت، وبين سلوكيات وتفسيرات خاطئة التصقت بالتراث الإسلامي، وحُسِبت عليه ظلمًا وعدوانًا)؛ فيقرر صراحة -أو ضمنًا-: أن التواكل والسلبية واللا مبالاة من آثار الإيمان بالقضاء والقدر، فـ(يخلط الأوراق في أذهاننا إلى الحدِّ الذي يحدثنا فيه عن ممارسات خاطئة لمفاهيم صحيحة، وهو يظن أنه يحدثنا عن عيوب في المفاهيم ذاتها!)، (في تعميم كاسح من شأنه أن يثير ريبة وشكًّا في جدية المشروع بأكمله) (المصدر السابق، ص 57، 58 بتصرفٍ).


وهكذا لم يشأ (أن يفرِّق بين ما هو أصيل وصحيح ومطلوب، وبين ما هو طفيلي وزائف ومطلوب القضاء عليه في تجديده للتراث، والسبب في هذا الخلط) أنه (لم يرَ مِن تراثنا القديم في هذا الموضع إلا سلوكيات معاصرة، ثم راح يحاكمها بهذا التراث نفسه، مع أنه أول مَن يتيقَّن أنها تطبيقات سيئة للتراث وليست تراثًا، وأن محاكمة المبدأ بتطبيقات تنحرف عن المبدأ نفسه ليست من البحث العلمي المنصف في شيء؛ اللهم إلا إذا اعتبر) (مشروع التجديد أن المحتوى الداخلي للتراث ليس إلا السلبية، والنفاق والخنوع!) (المصدر السابق، ص 59 بتصرفٍ).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 160.69 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 157.42 كيلو بايت... تم توفير 3.26 كيلو بايت...بمعدل (2.03%)]