التحسر على أيام الشباب - البارودي - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         معارج البيان القرآني ـــــــــــــ متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 7826 )           »          انشودة يا أهل غزة كبروا لفريق الوعد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 52 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4421 - عددالزوار : 859515 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3953 - عددالزوار : 393880 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12535 - عددالزوار : 215999 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 83 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 62 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 62 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 63 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 61 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها > ملتقى النقد اللغوي
التسجيل التعليمـــات التقويم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 30-08-2023, 06:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,062
الدولة : Egypt
افتراضي التحسر على أيام الشباب - البارودي

التحسر على أيام الشباب - البارودي
د. إبراهيم عوض


1– رَمَتْ بِخُيُوطِ النُّورِ كَهْرَبَة ُ الْفَجْرِ
ونمَّت بأسرار النَّدى شفة ُ الزهرِ
2– وسارت بأنفاسِ الخمائلِ نسمَةٌ
بَلِيلَةُ مَهْوَى الذيلِ، عاطرة ُ النَّشرِ
3– فَقُم نغتنِم صفوَ البكورِ، فإنَّها
غداة ُ ربيع، زهرُها باسِمُ الثغرِ
4– تَرَى بَيْنَ سَطْحِ الأَرْضِ والْجَوِّ نِسْبَةً
تُشَاكِلُ مَا بَيْنَ السَّحائِبِ والْغُدْرِ
5 - ففي الجوِّ هتَّان يسيلُ، وفي الثرى
سُيولٌ ترامى بينَ أوديةٍ غزرِ
6– غَمَامَانِ فَيَّاضَانِ: هَذَا بِأُفْقِهِ
يَسِيرُ، وهَذَا فِي طِبَاقِ الثَّرَى يَسْرِي
7– وقد ماجتِ الأغصانُ بينَ يدِ الصبا
كَمَا رَفْرَفَتْ طَيْرٌ بِأَجْنِحَةٍ خُضْرِ
8– كَأَنَّ النَّدَى فَوْقَ الشَّقِيقِ مَدَامِعٌ
تَجولُ بخدٍّ، أو جُمانٌ على تِبْرِ
9– إذا غازَلتها لمعَةٌ ذهبيَّةٌ
مِنَ الشَّمْسِ رَفَّتْ كالشَّرارِ عَلى الْجَمْرِ
10– ففي كلِّ مَرعى لحظةٍ وَشيُ دِيمَةٍ
وفي كلِّ مرمى خطوةٍ أجرعٌ مُثرِي
11– مروجٌ جلاها الزهرُ، حتَّى كأنَّها
سماءٌ تروقُ العينَ بالأنجمِ الزهرِ
12– كأنَّ صِحافَ النورِ والطلُّ جامدٌ
مَبَاسِمُ أَصْدَافٍ تَبَسَّمْنَ عَنْ دُرِّ


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 30-08-2023, 06:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,062
الدولة : Egypt
افتراضي رد: التحسر على أيام الشباب - البارودي


13– وَقَدْ شَاقني والصُبحُ في خدرِ أمِّهِ
حَنِينُ حَمَامَاتٍ تَجَاوَبْنَ فِي وَكْرِ
14– هَتَفْنَ فَأَطرَبْنَ الْقُلُوبَ، كَأَنَّمَا
تعلَّمنَ ألحانَ الصَّبابةِ من شعر
15– وقامَ على الجدرانِ أَعرفُ لم يزَل
يبدِّدُ أحلامَ النِّيامِ ولا يدري
16– تخايلَ في موشيَّةٍ عبقريَّةٍ
مُهدَّلةِ الأردانِ سابِغةِ الأُزرِ
17– لَهُ كِبْرَة ٌ تَبْدُو عَلَيْهِ، كَأَنَّهُ
مليكٌ عليهِ التَّاجُ ينظرُ عن شزر
18– فَسَارِعْ إِلى دَاعِي الصَّبُوحِ مَعَ النَّدَى
لتِجني بأيدي الَّلهوِ باكورة َ العمرِ
19– فقد نسَمَت ريحُ الشَّمالِ، فنبَّهت
عيونَ القماري وهي في سنةِ الفجرِ
20– وَنَادَى الْمُنَادِي للصَّلاةِ بِسُحْرَة
فَأَحْيَا الْوَرَى مِنْ بَعْدِ طَيٍّ إلى نَشْرِ
21– فبادِر لميقاتِ الصَّلاةِ، ومِل بنا
إلى القصفِ ما بينَ الجزيرةِ والنَّهرِ
22– إذا ما قضينا واجِبَ الدِّين حقَّهُ
فَلَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْخَلاَعَةِ مِنْ وِزْرِ
23– ألا رُبَّ يومٍ كانَ تاريخَ صبوةٍ
مضى غيرَ إثرٍ في المخيلةِ أو ذكرِ
24– عَصَيْتُ بِهِ سُلْطَانَ حِلْمِي، وَقَادَنِي
إِلى اللَّهْوِ شَيْطَانُ الْخَلاعَةِ والسُّكْرِ



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 30-08-2023, 06:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,062
الدولة : Egypt
افتراضي رد: التحسر على أيام الشباب - البارودي


25– لَدَى رَوْضَةٍ رَيَّا الْغُصُونِ، تَرَنَّحَتْ
مَعَاطِفُهَا رَقْصًا عَلى نَغْمَةِ الْقُمْرِي
26– تَدُورُ عَلَيْنَا بِالْمُدَامَةِ بَيْنَها
تماثيلُ، إلا أنَّها بيْنَنا تَجري
27– تَرَى كُلَّ مَيْلاءِ الْخِمارِ مِنَ الصِّبَا
هَضِيمَةِ مَجْرَى الْبَنْدِ، نَاهِدَةِ الصَّدْرِ
28– إِذَا انْفَتَلَتْ فِي حَاجَةٍ خِلْتَ جُؤْذُرًا
أحسَّ بصيَّادٍ فأتلعَ من ذعرِ
29– لَوَى قَدَّهَا سُكْرُ الْخَلاَعَةِ والصِّبَا
فَمَالَتْ بِشَطْرٍ، واستقامَتْ عَلَى شَطْرِ
30– وعلَّمَهَا وَحْيُ الدلالِ كهانةً
فإنْ نَطَقَتْ جَاءتْ بشيءٍ مِنَ السِّحْرِ
31– أحسَّتْ بما في نفسِها من ملاحةٍ
فَتَاهَتْ عَلَيْنَا، وَالْمَلاَحَةُ قَدْ تُغْرِي
32– وَأَعْجَبَها وَجْدِي بِها، فَتَكَبَّرَتْ
عَليَّ دَلالًا، وَهْيَ تَصْدُرُ عَنْ أَمْرِي
33– فَتَاةٌ يَجُولُ السِّحْرُ فِي لَحَظَاتِهَا
مَجَالَ الْمَنَايَا فِي الْمُهَنَّدَةِ الْبُتْرِ
34– إذا نَظَرَتْ، أو أقْبَلَتْ، أو تهلَّلَتْ
فويلُ مهاةِ الرملِ، والغُصن والبَدْرِ
35– فَمَا زِلْنَ يُغْرِينَ الطِّلاَ بِعُقُولِنا
إلى أن سقطنا لليدينِ وللنَّحرِ
36– فمن واقع يهذي، وآخر ذاهل
لَهُ جَسَدٌ ما فِيهِ رُوحٌ سِوَى الْخَمْرِ

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 30-08-2023, 06:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,062
الدولة : Egypt
افتراضي رد: التحسر على أيام الشباب - البارودي


37– صَرِيعٌ يَظُنُّ الشُّهْبَ مِنْهُ قَرِيبَةً
فيَسْدُو بِكَفَّيْهِ إِلى مَطْلَعِ النَّسْرِ
38– إذا ما دعوتَ المرءَ دَارَ بِلحْظِه
إليكَ، وَغَشَّاهُ الذُّهُولُ عَنِ الْجَهْرِ
39– بعيدٌ عن الداعي وإن كانَ حاضرًا
كَأَنَّ بِهِ بَعْضَ الْهَنَاتِ مِنَ الْوَقْرِ
40– تحكَّمَتِ الصَّهْبَاءُ فيهم، فَغَيَّرَتْ
شمائلَ ما يأتي به الجدُّ بالهذْرِ
41– فَيَا سَامَحَ اللَّهُ الشَّبَابَ وَإِنْ جَنَى
عليَّ، وحيَّا عهدَهُ سبلُ القَطْرِ
42– ملكتُ به أمرِي، وجاريتُ صَبوتي
وَأَصْبَحْتُ مَرْهُوبَ الْحَمِيَّةِ وَالْكِبْرِ
43– إِذَا أَبْصَرُونِي فِي النَّدِيِّ تَحَاجَزُوا
عن القولِ واستغْنَوا عن العُرفِ بالنُّكرِ
44– وقالوا فتًى مالتْ به نشوةُ الصبا
وليسَ على الفتيانِ في اللهو من حجرِ
45– يخافونَ منِّي أن تثورَ حميَّتي
فيبغونَ عطفِي بالخديعةِ والمكرِ
46– أَلا لَيْتَ هَاتِيكَ اللَّيَالِي وَقَدْ مَضَتْ
تعودُ، وذاكَ العيشُ يأتي على قدْرِ
47– مواسِمُ لذَّاتٍ تقضَّتْ، ولم يَزَلْ
لها أثرٌ يطوي الفؤادَ على أُثْرِ
48– إذا اعْتَوَرَتْهَا ذُكْرَةُ النَّفْسِ أبصَرَتْ
لها صورةً تختالُ في صفحةِ الفكرِ

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 30-08-2023, 06:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,062
الدولة : Egypt
افتراضي رد: التحسر على أيام الشباب - البارودي


49– فذلكَ عصرٌ قد مَضَى لسبيلِهِ
وخلَّفَنِي أَرْعَى الكَوَاكِبَ في عَصْرِ
50– لَعَمْرُكَ مَا في الدَّهْرِ أَطْيَبُ لَذَّةً
مِنَ اللَّهْوِ فِي ظِلِّ الشَّبِيبَةِ والْيُسْرِ


تَدور هذه القصيدةُ التي لا تجري على مستوًى واحدٍ، بل تحلِّقُ عاليًا حينًا، وتَقْصُرُ عن ذاك حينًا آخر، على الموضوع الخالد الذي لا يخلو منه حديثُ الشيوخ، فهم إذا اجتمعوا حنوا إلى أيام الشباب والمتعة والفتوَّة، أيام أن كانت الحياة تمور في أجسادهم وأرواحهم قوية غلَّابة لا تعرف العجز ولا الحرمان، وإذا انفردَ كلٌّ منهم بنفسه غمرَتْه الذكرياتُ المنثالةُ من كل جانب، وتركته يعضُّ بَنانَ الحسرة والأسف، ولسانُ حاله يردد:
ألا ليتَ الشبابَ يعودُ يومًا *** فأخبرَه بما فعلَ المشيبُ!
وأولُ ما ينبغي الالتفاتُ إليه ما في هذه القصيدة من خُدعة (هي - فيما نفهمُ - خدعةٌ غير مقصودة، وإن كانت لها دلالتُها النفسية) لا نكتشفُها إلا في أربعةِ الأبيات الأخيرة؛ إذ الشاعر ينبِّهُنا إلى أن الصبحَ قد بزغَ، وتضوَّعَ الجوُّ عطرًا وطيبًا، وكلُّ شيءٍ طازجٌ نديٌّ يدعونا إلى أن نسارع فنقتطف لذَّاتِ الدنيا قبل أن تُوَلَّى، فالأغصان ترفرفُ كأنها الطيور، والندى فوق خدود الورد يوحي بالحب، حتى إن شعاعَ الشمس لَيغازله، فتصبغه حمرة الخجل، وفي عُشٍّ على شجرة هناك تهدل حمامات فتطرب القلوب وتصبيها، ثم ها هو الديكُ يقوم على الجدران، كلُّه إدلال بحسنه وأناقته، قد تهدلت أردانه وترامى من خلفه ذيلُ إزاره، وبدت عليه كبرياءُ ملك متوَّج.

ويمضي الشاعر فيتذكَّرُ بعضَ صبواته وغزواته في دنيا المتع واللذائذ؛ ليفاجئنا في أربعة الأبيات الأخيرة بأن ذلك كلَّه ما هو إلا ذكريات الماضي الذي ولَّى، فليس إلى عودته من سبيل، تاركًا الشاعر وقد هَرِمَ وأَفْعَمَتْ قلبَه الحسراتُ، فيهتف من حرقة الحزن:
أَلا لَيْتَ هَاتِيكَ اللَّيَالِي وَقَدْ مَضَتْ تعودُ... إلخ.

وهي الأمنية الخالدة والمستحيلة في آن، فنحن المخلوقين نعيش في إسار الزمن، والله وحده - سبحانه - هو المتعالي على الزمن والصيرورة والفناء، إنها محنة الحياة وسر لذَّتِها!

ودلالة هذه الخدعة، فيما نُقَدِّر، أن الشاعر - عن غير قصد - يريد أن يهرب من حاضره العاجز إلى ماضيه المنطلق المستمتع، حين كانت الدنيا مقبلةً عليه، تعطيه لَذَّاتُها أفاويقَ ممزوجة عسلًا وطيبًا، فهو ينسى، أو يتناسى، أنه قد صار شيخًا هرمًا لم يبق بينه وبين هذه الأفاويق من سبب، ويتوهم أنه لا يزال على العهد القديم، شابًّا كله حيوية، يدعو الصحاب إلى الاستجابة لنداء الطبيعة والجمال والنشوة، واقتناص اللَّذَّات المتاحة، ليفيق في نهاية المطاف، ونفيق معه نحن أيضًا إلى الواقع المر، ونرتطم بالحقيقة الصلبة، تلك الحقيقة التي سنرتطم بها كَرَّةً أخرى حين يهجم علينا نحن أيضًا المشيب، فنهتف في عجز وانكسار:
ألا ليتَ الشبابَ يعودُ يومًا *** فأخبرَه بما فعلَ المشيبُ!

أَلا لَيْتَ هَاتِيكَ اللَّيَالِي وَقَدْ مَضَتْ *** تعودُ، وذاكَ العيشُ يأتي على قدْرِ
والقصيدةُ يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: وفيه يصف البارودي استيقاظ الطبيعة من رُقادها الشتوي والليلي معًا، نورًا ومراعيَ وأغصانًا وحمامًا وديكةً وسحابًا وجداولً وأنداءً ونسيمًا.

ونظرة إلى الأفعال المستخدمة هنا تُرِيك أنها جميعًا تدل على اليقظة والحركة: «رمت، نمَّت، سارت، يسيل، ترامى، يسري، ماجت، رفرفت، تجول، رفت... إلخ».

وهو في هذا القسم يُلِحُّ على صاحبه أن يفيقَ ويبادر إلى اهتبالِ الفرصة السانحة:
فقم نغتنم صفو البكور، فإنها *** غداة ربيع زهرها باسم الثغر
.......
فسارع إلى داعي الصبوح مع الندى *** لتجني بأيدي اللهو باكورة العمر
.......
فبادر لميقات الصلاة، ومل بنا *** إلى القصف ما بين الجزيرة والنهر
وهذا الإلحاحُ منه في النداء ينمُّ على أن الطبيعة قد تبدت في أجمل حللها، تفتن الأبصارَ والأسماعَ والألباب، وينم كذلك على لهفته إلى الاستمتاع بهذه الفتنة والجمال، ولهفته أيضًا إلى أن يشاركه صاحبه هذه المتع.

إلا أن ثمة شيئًا طريفًا في ثالث نداء، أن الشاعر لا يُغفل أيَّ شيء مما يواكب يقظة الطبيعة في الصباح، فقد ذكر الديك وهديل الحمائم، وخيوط النور... إلخ، وهذا طبيعي ومفهوم، ولكن ريشته لم تنس أيضًا أن تلتقط صوت المؤذن يدعو الورى لصلاة الفجر، ويزيد الأمر طرافة أن أذان المؤذن قد عقب أذان الديك (وإن كان الشاعر لم ينص على أن الديك يؤذن، وإنما... يبدد أحلام النيام ولا يدري)، أما الطريف في هذا النداء فهو أن الشاعر - على الرغم من أنه يوقظ صديقه؛ لينتهب من لذات الدنيا قبل أن تولي مع الأيام، وليشرب الصبوح مع الندى - لا ينسى مع ذلك حق ربه عليه، وهو موقف مصري أصيل، يعبر عنه المثل الشعبي القائل: «ساعة لقلبك، وساعة لربك»! ووجه الطرافة هنا - كما لا يخفى - هو حرص الشاعر على أن يرضي الله والشيطان معا في آن.

وهذا المزج بين الاهتمام بتأدية الواجب ومقارفة اللذات الآثمة - فيما يبدو لي - جديد، أو على الأقل غير شائع في الشعر العربي، وهو يضفي على هذه اللذات شيئًا من الرقة من شأنه أن يذهب عنها بعض ما فيها من الغلظ والخشونة، كما أنه يسهل على المتدين أن يستمتع بما في هذه القصيدة من جمال دون أن يستشعر تحرُّجًا؛ إذ يجعله يرى في الإشارة إلى الخمر والجواري الحسان رمزًا على اللذة المجردة التي تهفو قلوبنا جميعًا إليها، متدينين وفجارًا، والتي يعدنا بها الدينُ صافيةً من كل كدر وشائبة في دار النعيم في الحياة الآخرة.

ومن الطريف كذلك في هذا القسم تشبيه ضوء الفجر بالكهرباء (أو الكهربة - على حد تعبيره - نزولا على مقتضى الوزن فيما نرجح)؛ إذ كان الأولى هو العكس، أي تشبيه الكهرباء بضوء الفجر، فإن نور النهار لا يزال حتى الآن أقوى من نور الكهرباء، ولعل الذي جعل الشاعر يفترع هذه الصورة الطريفة هو أن نور الكهرباء كان حدثًا في ذلك الوقت، سواء في مصر أم في العالم كله، فرأى البارودي في التشبيه به تجديدًا في الصورة من شأنه أن يلفت الأنظار، ويحدث في النفس هزة المفاجأة.

كذلك يبدو لي أن خيال الشاعر، الذي رأى في الأغصان المورقة، وقد هبَّت الريح تموجها، طيورًا مرفرفة ذات أجنحة خضر هو خيال عبقري، فإني لا أذكر أني وقعت من قبل على هذه الصورة ولا ما يقابلها طرافةً وجمالًا ورفرفةَ خيالٍ؛ إذ جعل الأوراقَ - وهي ملتصقة بغصونها لا تريم ولا تستطيع - أجنحةَ طيورٍ مرفرفة. فانظر كيف بلغ به الوهم أن بَثَّ في الجماد حياةً جعلته يرفرف ويطير.

أما صورة الندى فوق الشقيق، التي جعلته يتخيل أنها مدامع تسيل على خد حسناء، فهي لا تلائم جوَّ البهجة والحبور الذي ترسمه القصيدة لنا وتغرينا به، كذلك فإني لا أستطيع أن أجد في تشبيه هذا المنظر بجمان على تبر أيَّ جديدٍ أو طريفٍ، وإن عاد الشاعر في البيت الذي يلِي ذلك، فأتى بصورة لا تخلو من جمال وحيوية، فضلًا عن مُشَاكَلَتِها للجو العام في القصيدة؛ إذ يبلغ من جمال قطرات الندى على أوراق الزهر أن يغازلها شعاعُ الشمس فتحمرُّ حياءً وخفرًا، فأيُّ منظرٍ بديع!

وتبقى في هذا القسم هذه الصورةُ الأنيقة المعجبة التي رسم الشاعر فيها الديكَ، وقد قام على الجدران يُوقِظُ النيام، مبددًا أحلامهم لا يبالي، وكيف يبالي وهو المدلُّ بجماله وأناقته؟ وكيف لا يدل بأناقته وجماله وقد...

تخايلَ في موشيَّةٍ عبقريَّةٍ
مُهدَّلةِ الأردانِ سابِغةِ الأُزرِ
لَهُ كِبْرَة ٌ تَبْدُو عَلَيْهِ، كَأَنَّهُ
مليكٌ عليهِ التَّاجُ ينظرُ عن شزر؟


وهل رأيتَ أو سمعتَ، بل هل قرأتَ عن مليك عليه التاج قد تهدلت منه الأردان وسبغ الإزار لم يداخله العجب أو تأخذه الكبرة فيخال أن ليس في العالم سواه؟!

أما تلك التفصيلة التي يذكر فيها الشاعر تجاوب الحمائم على الأغصان وتهييجها حنينه فهي - وإن لم يكن فيها جديد - تؤازر دعوة القصيدة إلى الإقبال على متع الحياة، فهذا حنين وذاك حنين، فضلًا عن أن حنين الحمائم هو حنين رقيق يمسح عن اللذات التي يدعونا الشاعر إلى اقتناصها بعض ما يعلق بها في نفوس المتحرجين من غلظ وخشونة.

وبالنسبة للتفصيلات المتعلقة بالسحاب والمطر والجداول وما إلى ذلك فإنها تسهم في تجليةِ صورة الطبيعةِ أمام أبصارنا، برغم أنها تخلو من لمسات الفن المبدع، وبرغم أن المحسنات البديعية فيها ثقيلةٌ جاثمةٌ.

أما القسم الثاني، الذي يبدأ بالبيت التالي:
ألا رب يوم كان تاريخ صبوة *** مضى غير إثر في المخيلة أو ذكر
ففيه يسترجع البارودي بعض ذكريات الشباب الحلوة، من غير أن يصرح بأنه قد هرم وشَابَ عن لذَّات هذه الفترة من العمر، إلا أننا حينما نفاجأ في أواخر القصيدة (كما سبق القول) بتحسره على فوات الشباب وعجزه عن أن يستمتع بهذه اللذائذ بعد أن أصبح هَرِمًا لا سلوة له إلا ذكريات الأيام التي تولت إلى الأبد، ونعود القهقرى إلى أبيات هذا القسم، نتنبَّه إلى أنه قد مهد بها للقسم الثالث والأخير؛ لتكون هذه مفاجأة أخرى لنا، وهي مفاجأة حلوة تدل على مهارة فنية.

وفي هذا القسم الثاني يطيل القول في وصف الساقية وسحر جمالها ودلالها، وهو وصف عادي، على ما فيه من براعة الصياغة، تستطيع أن تجد مثله كثيرًا في الخمريات القديمة، ثم إن الصورَ التي فيه تجنح إلى التجريد والتقليدية؛ ولذلك لن أتوقف عنده كثيرًا. ولكني أحب أن أَتَرَيَّثَ طويلًا أمام الوصف الباهر لحالِ الشاعر ورفاقه، وقد سَرَتْ في عروقهم الخَمْرُ؛ فخدَّرت منهم العقول والأطراف، وجعلت العالم من حولهم يفقد سماته المعروفة.

والذي يبهر في هذه الأبيات هو التفصيلاتُ الواقعية الحية، وبراعة الشاعر في التقاط حركات السكارى المصروعين، فتحسُّ كأنك ترى ذهولهم بأُمِّ عينيك، وتسمع هذيانهم بأذنيك وتكاد تتفجر ضحكًا على ما يأتون من تصرفات لا يحكمها عقل ولا توجهها إرادة واعية:

فما زلن يغرين الطلا بعقولنا
إلى أن سقطنا لليدين وللنحر
فمن واقع يهذي، وآخر ذاهل
له جسد ما فيه روح سوى الخمر
صريع يظن الشهب منه قريبة
فيسدو بكفيه إلى مطلع النسر
إذا ما دعوت المرء دار بلحظه
إليك، وغشاه الذهول عن الجهر

... إلخ
ولست أدعي أنك لن تجد شيئًا شبيهًا بهذا في خمريات أبي نواس مثلًا، بيد أن التفصيلات الواقعية، وهذا الوصف اللاقط الموحي، ونجاح الشاعر في أن يصور لنا جوَّ الخدر والذهول يخيِّل إلينا أننا لم نقع على شيء مثل هذا من قبل.

ولا أحب لك أن تغفل عن الصورة الطريفة الآتية: «ما زلن يغرين الطلا بعقولنا»، وكأن الخمر كائنٌ ذو عقل وإرادة، يُغرى فيستجيب للإغراء، أو عن هذه العبارة: «ما زلن... حتى»، بما توحيه من أن الخمر أخذت تدبُّ وتنتشر في أجسادهم وعقولهم رويدًا رويدًا، على نحو لا يحس ولا يمكن مقاومته، أو عن هذه الكناية: «سقطنا لليدين وللنحر»، التي توحي بأنهم قد سكروا «طينة» (بالتعبير الشعبي)، والتي تردد بعضًا من أصداء التعبير المشهور: «لليدين والفم»، الدال على الهلاك، فكأنهم حين سكروا هذا السكر الفاحش قد هلكوا، ألم تغتَلِ الخمرُ عقولَهم وأرواحَهم حتى أصبحت هي نفسها أرواحهم؟!

وهو ما ترسمه لنا الصورة البارعة التالية:
..................، وآخر ذاهل له جسد ما فيه روح سوى الخمر

وما دامت الخمرُ قد أصبحت هي روحَه، أي عقله وإحساسه وخياله، فهل ثمة غرابة في أن نراه:
........... يظن الشهب منه قريبة فيسدو بكفيه إلى مطلع النسر؟

لقد استحال جسدًا؛ فهو يتحرك ولكنها حركةٌ مختلةٌ؛ لأن المقياس الذي ترتكن إليه هذه الحركة هو مقياس فاسد؛ إذ إن أداة القياس الصحيح غائبة.

كذلك ففي البيت الذي يلي ذلك:
إذا ما دعوت المرء دار بلحظه إليك، وغشاه الذهول عن الجهر

نجد الشيء نفسه، فهذا الصريع تصدر منه الحركات الجسدية فقط، التي لا تواكبها حركة النفس أو العقل، إذ لا عقل ولا نفس، فهو يدور بلحظه (وهذه حركة الجسد)، ولكن الذهول يغلبه على نفسه فلا يستطيع نطقًا؛ (لأن عقله ومشاعره قد توقفت فلا تتحرك).

ثم يمضي الشاعر فيفتخرُ بفتوته في أيام شبابه، ورهبة الناس إياه، حتى إن أيًّا منهم لا يستطيع أن يلومه على خلاعاته وصبواته، وهو فخر يذكرنا - مع الفارق - بما قاله طَرَفَةُ عن نفسه.

ونصلُ إلى القسم الأخير من القصيدة، وهو مسكُ الختام؛ إذ إن الشاعر بعد أن حلق بنا في آفاق الشباب السامقة، إذا به فجأة يقذف بنا من حالق؛ لنقع على صخور المشيب الصلبة المدببة.

ولكن أليست هذه الحياة؟
أليست الحياة، مهما تغدق علينا من لذاتها ومتعها، منتهيةً بنا إلى المشيب والعجز والتندم على مواسم اللذات التي تقضت ولن تعود؟
فذلك عصر قد مضى لسبيله
وخلفني أرعى الكواكب في عصر
لعمرك ما في الدهر أطيب لذة
من اللهو في ظل الشبيبة واليسر

إن الشاعر يفيق من سكره في شبابه ليجد ماذا؟
ليجد حرمان الهرم، وحسرة المشيب!


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 97.76 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 94.20 كيلو بايت... تم توفير 3.55 كيلو بايت...بمعدل (3.63%)]