علم الاجتماع: نزعة علمية مزيفة - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         العمل السياسي الديـموقراطي سيؤثر في الصرح العقائدي وفي قضية الولاء والبراء وهي قضية م (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          العمل التطوعي.. أسسه ومهاراته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 9 - عددالزوار : 124 )           »          طرائق تنمية الحواس الخمس لدى الطفل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 2 )           »          حقيقة العلاج بالطاقة بين العلم والقرآن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 20 )           »          الله عرفناه.. بالعقل! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          افتراءات وشبهات حول دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 7 - عددالزوار : 85 )           »          نتائج الالتزام بمنهج السلف وثمراته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 2 )           »          الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 67 - عددالزوار : 16182 )           »          كنز ثمين... وصّانا به رب العالمين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 27 - عددالزوار : 766 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العام > الملتقى العام

الملتقى العام ملتقى عام يهتم بكافة المواضيع

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 21-04-2019, 04:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,574
الدولة : Egypt
افتراضي علم الاجتماع: نزعة علمية مزيفة

علم الاجتماع: نزعة علمية مزيفة


د. أحمد إبراهيم خضر





اعترافات علماء الاجتماع


الحلقة الثامنة


علم الاجتماع: نزعة علمية مزيفة




كان أكبر وهْم غرقنا فيه منذُ اللحظات الأولى التي درسنا فيها علمَ الاجتماع وحتى الآن هو: (النظرة إلى علم الاجتماع على أنَّه علم)، ولو كان أساتذتنا حدَّدُوا لنا أنهم يقصدون بعِلميَّة (علم الاجتماع) أنَّه علمٌ بالمعنى الواسع للكلمة؛ أي: (المعرفة) - لخفَّت حدَّة المشكلة نوعًا ما، لكنَّهم أكَّدوا لنا أنَّه علمٌ بمعنى أنَّه منهج متخصِّص ووجهة نظر مشابهة لتلك التي للعلوم الطبيعيَّة، وأنَّه وإنْ نشأ في أحضان الفلسفة فإنَّه الآن قد تحرَّر منها.



والآن بعد مُضِيِّ أكثر من قرن ونصف القرن من الزمان على نشأة علم الاجتماع، ما زالت دراسة الظواهر الاجتماعيَّة تتخبَّط بين الفلسفة ومحاولة إخضاع هذه الظواهر لنفس مناهج العلوم الطبيعيَّة، تطبيق مناهج العلوم الطبيعيَّة على دراسة الظواهر الاجتماعيَّة يتعثَّر بشدَّة، وانحسرت النظرة إلى علم الاجتماع كعلمٍ طبيعي، وفي نفس الوقت لم تسقط النظرة الفلسفية في تفسير ظواهر الاجتماع، ويتعايَشُ الاتجاهان مع بعضهما، والذي خرجنا به بعد أنْ أدركنا هذا التخبُّط هو أنَّ النزعة العلميَّة (لعلم الاجتماع) إنما هي نزعةٌ مُزيَّفة على حدِّ قول المؤرِّخ الشهير (ديلثي)، الشروط التي حدَّدَها العلماء لاعتبار أيِّ معرفة علمًا لم تتحقَّق في علم الاجتماع، ما زالت مادَّة علم الاجتماع كما يقول (إيوبانك) مرتبطةً بأسماء أشخاص معيَّنين، هم الذين اخترعوا نظريَّاته ومدارسه الفكريَّة المختلفة، ليس لدَيْنا هذا الكيان الكبير من الحقائق المقبولة بصفةٍ عامَّة التي يمكن النظر إليها على أنها أحكامٌ نهائيَّة، نحن نرجع إلى رجال مُعيَّنين وليس إلى علمٍ محدَّد، هؤلاء الرجال هم الذين يتحدَّثون باسم علم الاجتماع أو علماء الاجتماع ككل، إنَّ علم الاجتماع كما يقول (كوليمان) ليس بعلمٍ دولي وليس بعلم لا بالمعنى القديم ولا الدقيق للكلمة.



ولا يزال هناك في جامعاتنا حتى الآن مَن ينكر إمكانيَّة وجود علم لدراسة المجتمع.



وتُعتَبر دراسة المجتمع في كثيرٍ من جامعات العالم من الدراسات الأدبيَّة أو الفنيَّة، وليست من الدراسات العلميَّة، أقسام علم الاجتماع مُلحَقة بكليَّات الآداب والفنون، وهناك من الكليات مَن لا يفرد قسمًا خاصًّا لدراسة المجتمع، بل يضمُّها داخل أقسام الفلسفة أو غيرها من فروع المعرفة، وحين يُذكَر العلم فنادرًا ما يَطرَأ على أذهان الناس، حتى أكثرهم معرفة وعلمًا، ومَن هم على مستوى المسؤولية - أنَّ دراسة المجتمع تدخُل في نِطاقه، وحينما تنشأ مجالس مُتخصِّصة لرعاية ضروب المعرفة المختلفة، تستبعد معرفة المجتمع من قائمة المعرفة العلميَّة بطريقة آليَّة، وتُضاف إلى المعرفة الفنيَّة والأدبيَّة، وما زال هناك من المثقَّفين من يرى أنَّ فهم المجتمع مسألة لا تتطلَّب أكثر من مجرَّد عمليَّة تأمُّل لما يدور حولهم، وقراءة لما يكتب في الصحف والمجلات، وأنَّ الأمر لا يحتاج تخصُّصًا وتأهُّلاً كالذي يتطلَّبه فهم التفاعُلات الكيميائيَّة أو الظواهر البيولوجيَّة.



الذي لا جِدال فيه هو أنَّ نشأة علم الاجتماع لم تكن نشأةً علميَّة، وأنَّ علماء الاجتماع الأوائل كانوا يلبسون ثوب الفلاسفة الأخلاقيين، وما كُتِبَ لأفكارهم البَقاء إلا لأنَّه نُظِرَ إليها على أنها فكر يحلُّ المشاكل.



لم تكن الأفكار والمفاهيم التي صاغَها كبار علماء الاجتماع الأوائل نتيجةَ تحليلٍ علمي كما نفهمه هذه الأيَّام، كان هؤلاء الكبار يعتمدون على الحدس والتخمين العميقين، كانوا يستجيبون لما يدورُ حولهم كما يستجيب الفنان.



إنَّ الكثير من الأفكار التي كتبوا عنها كانت تدورُ في وجدانهم وعقولهم قبل أنْ يكتبوا عنها، وربما استمدُّوها من مُفكِّرين سابقين، أو كانت محصلة خِبرة شخصيَّة أو مشاعر تملَّكتهم كالإحساس بالوحدة والهامشية.



والذي لا جِدال فيه أيضًا هو أنَّ العلماء الاجتماعيين لا يَشعُرون في أعماقهم بأنهم علماء، أو أنهم ينتمون إلى فئة العلماء بالمعنى الدقيق للكلمة، لكنَّهم يصرُّون مع ذلك على أنهم علماء وخبراء في شُؤون المجتمع، يكتبون ويتحدَّثون عنه بلا تردُّد، ومنذ أن وُجِدَ علم الاجتماع كنسقٍ معرفي جديد ومحاولات المشتغِلين به لم تتوقَّف في السعي نحو إثبات أنَّه علم وأنهم علماء؛ ولهذا يبذلون جُهُودًا مستميتة في أنْ يكونوا أكثر صوريَّة وأكثر رياضيَّة، يستخدمون الأدوات ويُحسِنون في أدائها لوظيفتها، يحرصون على استِبدال الكيفيَّات (أي: الصفات التي لا تُقاس بكميَّات عدديَّة) بكميَّات وأرقام؛ لأنَّ الرياضة هي لغة العلم الآن؛ ومن ثَمَّ يُؤكِّدون أهميَّة المنهج العلمي في دراستهم.



شبحان دائمان كانا ماثِلَيْن أمامَ العلماء الاجتماعيين؛ أولهما: الشك الذي يُساوِر الناس في العلوم الاجتماعية وحظها القليل في خدمة البشرية، والثاني: هذه الهيبة العالية التي يتمتَّع بها علماء الطبيعة ودورهم في تدعيم الحضارة الصناعيَّة وخِدمة البشريَّة، وما يرتَبِط بها من ارتفاع مُستويات المعيشة، هذان الشبحان كانا وراء حمَّى اعتقاد العلماء الاجتماعيين بأنَّ الدراسة لا تُعتَبر علميَّة إلا إذا استُخدِمت فيها المناهج التجريبيَّة، وأنه لا بُدَّ من تحويل الموضوعات الاجتماعيَّة إلى كميَّات عدديَّة وعلاقات رياضيَّة.



كان نموذج العلم الطبيعي أمَلاً عزيزَ المنال يُحاوِل علماء الاجتماع الاقترابَ منه، النتائج الباهرة التي وصَلتْ إليها العلوم الطبيعيَّة في القُرون الثلاثة الأولى أوهمَتْهم بأنَّه من الممكن إعادة بناء الفكر وصِياغته على أساسٍ من العلم التجريبي، وأنَّ طريقة هذا العلم يمكن أنْ تمتدَّ إلى الناس والمجتمع، اعتَقَد العلماء الاجتماعيُّون أنَّ المناهج التي أثبتَتْ نجاحها في العلوم الطبيعيَّة هي المناهج التي تُناسِبُ دراسة الظواهر الاجتماعيَّة، فأصبح همُّهم الأوَّل هو التحكُّم التجريبي في شؤون المجتمع، ومنْح علم الاجتماع معايير العلم الطبيعي من ملاحظات موضوعيَّة، وأدوات منهجيَّة دقيقة، وفروض تُوجِّه البحث... إلخ.



أقنع العلماء الاجتماعيون أنفسهم بوحدة العلوم ووحدة مناهجها، وانطلاقًا من هذه المسلَّمة المخادعة اعتبروا أنَّ النظرية الطبيعية هي المثال الذي يجب أنْ يحتَذِيَه العالم الاجتماعي عند بِنائه لنظريَّاته الاجتماعيَّة، ومن ثَمَّ فإنَّ منهج العلم الطبيعي هو المنهج الوحيد الذي يتعيَّن عليه أنْ يتبعه، وهو المثل الأعلى لعلم الاجتماع، صدَّق الببغائيُّون في بلادنا هذه الخديعة، فهلوسوا قائلين: إنَّ منهج العلوم الطبيعيَّة هو أعظم مكتسبات الحضارة الأوربيَّة منذ عصر النهضة على الإطلاق، وأنَّه نموذجٌ لكلِّ فكر يريد أنْ يصبح علمًا؛ لأنَّه بفضل هذا المنهج استطاعت العقلية الأوروبية القضاءَ على الكثير من النظريات الذاتية الأسطورية الميتافيزيقية اللاهوتية، وأنَّه شرط اليقين والضامن للموضوعيَّة والكفيل بتقدُّم العلم، ظنَّ العلماء الاجتماعيون أنَّ دراسة الظواهر الاجتماعية يمكن أنْ تقوم على الملاحظة والاستنتاج واستقراء الحقائق مع صِياغة النتائج في كميَّات عدديَّة، أو رموز رياضيَّة، ورسوم بيانيَّة، وقوانين إحصائيَّة.



غالَى العلماء الاجتماعيون فيما اعتقدوا به؛ فعلَّمونا أنَّ أيَّ فهْم حقيقي للمجتمع الإنساني لا بُدَّ أنْ يتمَّ باتِّباع المنهج العلمي، وأن أيَّ محاولة للتحكُّم في ظواهر المجتمع وحل مشكلاته لا بُدَّ أنْ تقوم على منهج مبنيٍّ على الأسس العلميَّة لطبيعة هذه الظواهر، وأنَّ كلَّ فعل أو فكرة لا تخضع لمنهج التجريب هي غير علميَّة على الإطلاق.



كانت أوَّل كارثة أصابَتْنا من وراء هذه المسلَّمة الخادعة هو اعتِقادنا في صحَّة قولهم: إنَّ المعرفة في علم الاجتماع يجب أنْ تكون نتيجةً للانطِباعات الحسيَّة وما يترتَّب عليها، وإنَّ حقيقة الشيء تتوقَّف على إمكان حدوثه كليًّا أو جزئيًّا على هيئة مجموعةٍ من الانطباعات الحسيَّة، وإذا استطعنا - كما يقول كارل بيرسون - أنْ نقيم نظامًا على أساس هذه الانطباعات أمكننا أن نسنَّ قانونًا.



كنَّا نُصدِّق هذا الزيف ولم نكن نعلم وقتَها أنَّ الهدف من كلِّ هذه (العلميَّة) المُغالَى فيها هو ألا نحاول التفكير في رد حركة الظواهر والعلاقات والتفاعلات الاجتماعية إلى إلهٍ أو دين أو عقيدة، فالدِّين والعلم عند علماء الغرب ورجال الاجتماع في بلادنا منفصلان، والاستناد إلى الدِّين - كما علَّمَنا أحمد الخشاب - استنادٌ إلى عقليَّة غيبيَّة، رجعيَّة تسلطيَّة، والوصول إلى نظرية اجتماعية عربية يتطلَّب أوَّل ما يتطلب الإطاحة بهذه العقلية وهذه العقيدة.



اكتشفنا أنَّ إصرار العلوم الاجتماعيَّة وعلم الاجتماع على أنْ تُطلِق على نفسها صفة العلم، وأن تتشبَّه بالعلم، ليس القصد منه دراسة الظواهر الاجتماعية دراسة موضوعية منزَّهة عن الميول والأهواء والتحيِّزات، وإنما المقصود به التمسَّك الشديد بتطبيق أساليب وطرق البحث المتَّبَعة في العلوم الرياضيَّة.



غابَ عنَّا أنَّ الجماعة الاجتماعيَّة ليست كالمجموعة الشمسيَّة، وأنَّ الناس ليسوا كالمواد الأرضية والأجرام السماوية من حيث: تكويناتها، وحركاتها، والتغيُّرات التي تطرأ عليها.



غابَ عنَّا أنَّ الإنسان ليس وحدةً مُتكرِّرةً، وليس كقطعةٍ من الحديد لا عقل له ولا إرادة، محكوم بقوانين ونظريَّات واحدة، لا تتبدَّل ولا تتغيَّر، ولا يختلف ظاهره عن باطنه، ونسينا أنَّه كائن حي، له إرادة، وخواطر، وظاهر، وباطن، ورغبات متجدِّدة، دائمة التغيير والتأثير والتأثُّر بالعلاقات مع الآخَرين.



غابَ عنَّا أنَّ التعامُل مع الظواهر الاجتماعية كأشياء هو عين طريقة تعامُل اليهود مع الأُمَميِّين، ومبدعها يهودي معروف، سليل أسرةٍ من الأحبار اليهود الذين يتعامَلُون مع غير اليهود كأنهم ذرَّات أو ذباب فاكهة، ونسينا أنَّنا نتعامَل مع بشرٍ نتحاور معهم ونتعاطَف، ونُشارِكهم، ويشاركوننا وجدانيًّا، وأنَّنا نتعامَل مع: حياة، وسلوك، وأفكار، وقِيَم.



غابَ عنَّا أنَّ هناك فارقًا بين ظواهر يمكن تفسيرها من خارجها، وبشرًا لا يمكن فهْم قَضاياهم إلا من داخِلهم، وأنَّ هناك فارقًا بين ظواهر تربطها علاقات علميَّة آليَّة وبشرًا يخضعون لقيم ويرتبطون بأهداف.



غابَ عنَّا أنَّ هناك فارقًا بين ظواهر يمكننا التحكُّم فيها من الألف إلى الياء، ونضعها تحت تصرفنا في أيِّ وقت نريد، وفي أيِّ مكان نريد، ووفق أيِّ هدف نسعى إليه، نُعدِّل فيها ونُبدِّل كما نرى، وبين بشرٍ لا نستطيع التعامُل معهم كما نتعامَل مع قطرات الماء، أو قطع الأحجار، أو ثاني أكسيد الكربون.



تصرَّفنا مع الناس والمجتمع كعلماء فيزياء أو كيمياء - بغضِّ النظر عن رأي هؤلاء العلماء فينا - واقتنعنا أنَّ الفارق بين علومهم وعلمنا هو فارقٌ في الدرجة، وانطلقنا نُفسِّر العلاقات بين البشر تفسيرًا كميًّا مُصاغًا في لغةٍ رياضيَّة لا يفهمها إلا نحن، على أمَل أنْ نخدع الآخَرين بأننا علماء، نتعامل مع الناس بلا هوى، وبلا تحيُّزات، وبلا ميول، وبلا مصالح، وأنَّه لا شيء يمكن أنْ يتلف نِزاعاتنا ويحملنا على التأثُّر بعوامل ذاتيَّة.



أخضعنا الناس للتجربة، وتجاهَلْنا أنَّ في ذلك انتهاكًا لحرماتهم، واعتداءً على حريَّتهم باسم العلم والمنهج العلمي، تعلَّمنا من أساتذتنا وعلَّمنا طلابنا خُرافة المجموعة التجريبيَّة والمجموعة الضابطة، وأنَّه بإمكانهم عزْل الظواهر الاجتماعيَّة صناعيًّا والتحكُّم فيها؛ حتى يتوصَّلوا إلى تحقيق الظروف المتماثلة، علَّمنا طلابَنا أنْ يقسموا مبحوثيهم إلى مجموعتين؛ إحداهما تجريبية والأخرى ضابطة، متشابهتان في كلِّ الظروف، يعرضون إحداهما لإجراءات التجريب والأخرى لا يعرضونها، ثم يقارنون ويلاحظون ويحاولون الوصول إلى حُكمٍ استقرائي بأنَّ الأثَر الواضح الحدوث بعد التجريب يُعزَى إلى العامل المستدخَل في عمليَّة التجريب، لم نكن نعرف أنَّ هذا المنهج عديم النفع بين البشر؛ لأنَّه ما دامت الظروف المتماثلة لا تتحقَّق إلا في حُدود مدَّة تاريخيَّة واحدة، فإنَّ عزل الظواهر الاجتماعيَّة صناعيًّا من شأنه أنْ يستبعد عوامل قد تكون لها أهميَّة كبيرة، وأنَّ مرور زمن معيَّن يُعَدُّ كافيًا لإدخال عوامل لا تجعل من السبب التجريبي العامل الأساس في التغيُّر الحادث في الظاهرة المدروسة، وباسم التجريب والمنهج العلمي راح العلماء الاجتماعيون يعبَثُون بالقِيَم، وأقاموا في الغرب تجارب جريئة قاسوا فيها الاستجابات في أثناء العملية الجنسيَّة على أشخاصٍ متطوعين من كلا الجنسَيْن، يقومون من تلقاء أنفسهم بممارسة العمليَّة الجنسيَّة تحت عيون الملاحظين وعدسات التصوير، واعتبروا أنَّ ذلك فتحًا جديدًا في الدراسات التجريبيَّة بين البشر، ولَمَّا ثار المحافظون على هذا العبث أجرى العلماء الاجتماعيُّون تجاربهم سرًّا، وراحت مراكز البحوث في بلادنا تحذو حذوَهم وتحاول خوض هذه التجارب على رجالنا ونسائنا.



كان جون ستيوارت مل من أشدِّ العلماء تعصُّبًا للمنهج التجريبي، ولكنَّه اضطرَّ بعد إعمال فكر واجتهاد كبير إلى الاعتراف بالإخفاق في البحث عن الحقيقة الاجتماعيَّة، وإلى الاعتراف بأنَّه من غير الممكن في الميادين الاجتماعيَّة حدوث ظرفين متعادلين تمامًا ومتكافئين من جميع النواحي إلا ناحية واحدة، وأنَّ ذلك لا يحدث ألبتَّة: لا طبيعيًّا، ولا تلقائيًّا، ولا افتعالاً، يُدبِّره ويصطنعه أيُّ باحث مهما كانت قدرته.



أمَّا الادِّعاء بأنَّ تطبيق مناهج العلوم الطبيعيَّة على الإنسان والمجتمع سوف يُحقِّق الموضوعيَّة، فهذا من قَبِيل التضليل.



الموضوعيَّة في العلوم الطبيعيَّة تُعالَج في ضوء هويَّتها الخاصَّة كمادَّةٍ للبحث وطرق أو مناهج للدراسة، أمَّا الموضوعيَّة في شُؤون الإنسان والمجتمع فهي موضوعيَّة نسبيَّة ناتجة عن نسبيَّة الرُّؤَى المختلفة للمُشتَغِلين بالعلوم الاجتماعيَّة.



ورغم اعتراف علماء الغرب بأنَّ العيوب التي يعاني منها علم الاجتماع حتى اليوم إنما ترجع إلى تقليده الأعمى للعلم الطبيعي، بحيث أصبحت النتيجة مُحزِنة، وأصبح حال علم الاجتماع يُرثَى له بسبب الإصرار على هذا التقليد، فما زال في بلادنا مَن يصرُّ على إخضاع ما هو غير علمي لشروط الفرض العلمي الذي يَقبَل التحقُّق من صحَّته، وما زال يطمع في الوصول إلى نموذجٍ اجتماعي علمي على غِرار الصورة الفيزيائيَّة للعالم، وبعضهم يستشهد بنجاح الغرب في الوصول إلى وحدات تحليليَّة وتركيبيَّة لصور اجتماعيَّة مختلفة كمصطلح (الكارزما) أو (الصفوة) أو (الطبقة)، ونسي هؤلاء أنَّ البشريَّة تعرف هذه الحقائق منذ زمن بعيد، وأنَّ ما قام به علماء الغرب لا يتعدَّى مرحلة الوصف العام، ولم ينجحوا حتى الآن في إقامة نماذج اجتماعية تُشبِه في دلالتها وانتظامها نماذج العلوم الطبيعيَّة.



أمَّا استخدام علم الاجتماع للإحصاء والرياضيَّات، واستعانته بالآلات الضابطة والتجارب المعمليَّة، فلم يُحقِّق له خصائص العلم؛ لأنَّه وإنْ كان بالإمكان التثبُّت من وُجود الظواهر التي يدرسها بالرجوع إلى الواقع، فإنَّ هذه الظواهر لا يطَّرد وقوعُها بغير استثناء؛ لأنها لا تجري على غِرار واحد دومًا، ويتدخَّل في سير مجراها عقل أو ضمير أو إرادة، فإذا تغيَّر مجرى الظاهرة استحالَ إخضاعُها لقانون علمي دقيق.



لقد اعترف علماء الاجتماع بأنَّ استِخدام الإحصاء في علم الاجتماع كان السبب في ضَحالة أغلب النتائج التي توصَّلوا إليها، وسطحيَّتها، وتفاهتها، وزيفها، وجدبها، أدَّى استخدام الإحصاء - كما يقول علماء الغرب - إلى تَتْفيه البشر والمجتمع، وتَتْفيه عقول علماء الاجتماع أيضًا، وفوق هذا كله لم يمكنهم من فهم الظواهر الاجتماعيَّة أو فهم علاقاتها السببيَّة، يقول (زيمرمان): "إنَّ لدينا عددًا كبيرًا من الأشخاص الذين يستَطِيعون القيامَ بحِساب معاملات الارتباط، لكنَّه لم يخبرنا أحدٌ ماذا تعني هذه المعاملات بالنسبة للتحليل السببي، إنَّه ما دامت العلوم الاجتماعيَّة قد أغرقت نفسها في مجرَّد جمع الحقائق وعلاجها الإحصائي، فإنها تتَّجِه إلى أنْ تكون مذهبًا تؤمن به طائفة مختارة من العلماء الاجتماعيين، هم الذين يستَطِيعون قراءة البحوث وفهمها؛ ومن ثَمَّ لا تصبح لهذه البحوث قيمةٌ في التوجُّه الاجتماعي".



هاجَم (سوروكن) الأسلوب الإحصائي، وقال: إنَّ هذا الأسلوب يجعل بإمكان أيِّ شخص أنْ يصبح باحثًا اجتماعيًّا؛ فهذا لن يكلفه سوى أنْ يأخذ عددًا من الأوراق ويملؤها بكلِّ أنواع الأسئلة، ثم يرسلها بالبريد ويتسلَّم الإجابات فيُصنِّفها ويُبوِّبها بآلة تبويب في عدَّة جداول، ثم يحسب آليًّا: النسب المئوية، ومعاملات الارتباط، والانحرافات المعيارية، والأخطاء الاحتمالية، ثم يقوم بكتابة تقريرٍ يملؤه بهذه الأعداد الضخمة والمؤثِّرة من الجداول والصيغ والمؤثرات وما إلى ذلك، حتى يتأكَّد القرَّاء أنَّه بحث موضوعي وكامل ودقيق، لأنَّ صاحبه اتَّبع طقوس البحث الكمي المعاصر في علم الاجتماع.



النظريَّات التي استعانَتْ بالرياضيات كانت عرضًا من الأعراض البارزة لما يسمَّى بهوس الاستخدام الكمي في العلوم الاجتماعية، وفي جملتها - كما يقول علماء الاجتماع - لم تضفْ إلى معلوماتنا أي جديد، ولم تفعل سوى أنها أعادت صياغة جهلنا.



النظريات الاجتماعية ذاتها مُعقَّدة وغامضة، ولا يمكن استخدام الرياضيَّات إلا إذا أصبحت النظرية ذاتها أكثر تعقيدًا بحيث يَصعُب رؤية كلِّ ضمنيَّاتها، فما الذي نتوقَّعه إذًا إلا المزيد من الغموض واللبس والإبهام!



إنَّ استخدام الرياضيات في العلوم الاجتماعيَّة إمَّا أنْ ينتهي إلى عبارات رياضية لا تمسُّ إلا قدرًا يسيرًا من المشكلات الحقيقيَّة التي كان عليها أنْ تعالجها، أو أنْ تتمخَّض عن صِيَغٍ تافهة لا تُؤدِّي إلى أكثر ممَّا يمكن أنْ تؤدِّيه العبارات اللفظيَّة.



هذا، وقد اعترف العلماء الاجتماعيُّون بأنَّ استخدام الرياضيات في العلوم الاجتماعية قد كانت نتيجته: فقرًا في المنطق، وغُموضًا في الأفكار، وادِّعاء كاذبًا بالأصالة، يحاول صاحبه أنْ يخفيه ويخفي هذه العُيوب جميعًا بكساءٍ من أرقام، وعبارات غامضة تَعكِس خواءً في العلم أكثر ممَّا تعكس ثراءً فيه.



ومنذ نشأة علم الاجتماع وإلى اليوم وعُلَماؤه يتحدثون عن إمكانيَّة التوصُّل إلى القوانين التي تحكُم المجتمع البشري، أين هذه القوانين؟ ثلاثون عامًا ونحن نبحث عنها بلا جَدوَى، كلُّ ما دَرْسناه وندرسه لطلابنا ليس إلا مجرَّد أحكام عامَّة جاءتْ بعد جهود ضائعة وغير مثمرة، أحكامًا لا تخلو من العيوب والنقص، ليس في جملتها إلا أقوالاً بدهيَّة صِيغَتْ في كلمات طنَّانة غامضة جوفاء.



كنَّا نعتقد أنَّ هناك هدفًا نبيلاً من السعي المُتَواصِل لعلماء الاجتماع وإصرارهم على التوصُّل لهذه القوانين، ثم اكتشفنا أنَّ الهدف ليس السعي لاكتشاف سنن الله الاجتماعيَّة، وإنما هو تحويل المجتمع إلى آلةٍ كبيرة محكومة الحركة مضبوطة الأزرار، ثم فرض قواعد وقوالب مُعيَّنة على حركته الاجتماعيَّة، إنها قواعد اللعبة الاجتماعيَّة في منطقة محدَّدة وزمان محدَّد، لكنَّهم على أيَّة حال فشلوا في التوصُّل إلى هذه القوانين، وفشلوا في التنبُّؤ والتحكُّم في حركة المجتمع.



أحكامهم التي توصَّلوا إليها ليست دقيقةً ولا مضبوطة، احتماليَّة ترجيحيَّة تَعكِس أصحابها وتحيُّزاتهم وميولهم ومصالحهم، أحكامهم مرهونةٌ بالمدارس الفكريَّة التي ينتَمُون إليها، تفتقد إلى أوَّل شرطٍ من شُروط القانون، وهو العموميَّة التي لا تجعل صِدقَه مرهونًا بزمان أو مكان أو ظروف معيَّنة، أحكامهم لا دقَّة فيها ولا ضبط، تَكثُر فيها الحالات الاستثنائيَّة، والاستثناء ممتنعٌ في القانون العلمي، والشاهد السلبي الواحد يُرجِّح مِئات الشواهد الإيجابيَّة، الاستثناءات في العلوم الاجتماعيَّة أكثر من أنْ تُحصَى، ومن الضلال أنْ يُقال أنَّ الشاذ في علم الاجتماع لا يهدم القانون، فالحياة الاجتماعية مليئةٌ بالتعقيدات الهائلة التي تتدخَّل فيها الإرادة البشريَّة وتُغيِّرها وتُعدِّلها؛ ممَّا يتعذَّر معه إخضاعُها لقانونٍ علمي ثابت.



إنَّ واقع العلوم الاجتماعيَّة لَيَشهدُ أنَّ فكرة القانون لا يمكن أنْ تكون مساويةً لمعناها في العلوم الطبيعيَّة، إنَّ استقراء الماضي ليس أساسًا كافيًا لاستخلاص قانونٍ إذا أُرِيد الاحتفاظ بكلمة (القانون) بمعناها العلمي المعروف، وما اكتشفته العلوم الاجتماعيَّة ليس بقوانين؟ لأنَّنا عاجزون دومًا عن معرفة ما إذا كانت هذه القوانين صادقةً في الماضي، فليس لدينا من الوثائق ما يُثبِت ذلك، ولا نعرف أيضًا ما إذا كانت ستَصدُق في المستقبل أو لا.



إنَّ أهمَّ ما يُميِّز القانون العلمي هو استقلاله عن الإرادة الإنسانية وحدوثه سواء شاء الإنسان أو لم يشأ، فهل هناك حقًّا إلى جانب إرادة الإنسان عاملٌ خفيٌّ يوجه الحوادث في اتجاه معيَّن، أم أنَّ الإرادة الإنسانيَّة هي التي تقوم بذلك فعلاً؟ إذا صحَّ أنَّ إرادة الإنسان هي التي تقوم بذلك، وهي العامل الوحيد المتحكِّم في توجيه دفَّة الأمور، فما قيمة الإشارة إلى القانون؟ أليس في وسع إرادة الإنسان أنْ تكسر هذا القانون وتُوجِّهه متى شاءت وجهةً أخرى؟



إنَّ تعقيد الحياة الاجتماعيَّة الهائل لا يسمح لنا باكتشاف القوانين التي تحكمها، طالما أنَّ مُنطَلقاتنا لا تعترف بغير إرادة الإنسان في حركة المجتمع، فإذا كنَّا لم نستَطِع اكتشافها فمن العبث أنْ ندَّعي بأنها موجودةٌ ما لم نُغيِّر هذه المنطلقات.



أمَّا الادِّعاء بأنَّ علم الاجتماع ما زال في مهده، وأنَّه سيُحقِّق إمكانيَّة الوصول إلى هذه القوانين بعد أنْ ينضج، فإنَّه ادِّعاء ساذج؛ لأنَّ الزعم بعدم النُّضج هذا قد استمرَّ لفترةٍ طويلة من الزمان دون أنْ تظهر على العلم أيُّ علامة من علامات النمو.



وهناك من علماء الاجتماع مَن يقرُّ بأنَّ علم الاجتماع لم يتوصَّل إلى قوانين، وإنما توصَّل إلى ما أسموه (بالتعميمات الأمبريقيَّة) التي يتمُّ التوصُّل إليها عند فحص العلاقة بين متغيِّرين، هذه التعميمات لا يمكن الأخْذ بها، وهي غير ذات نفْع في علم الاجتماع؛ لأنَّه لا يوجد في المجتمع اطِّراد طويل الأمَد يَصلُح أنْ يكون أساسًا للتعميمات بعيدة المدى - بغضِّ النظر عن الاضطرار في الأمور التافهة - إنَّ افتراض صدق التعميمات في علم الاجتماع أمرٌ كاذب ومُضلِّل إلى حدٍّ كبير؛ لأنَّه ينكر أنْ يطرأ على المجتمع أيُّ تغيُّر أو تطوُّر، ويُنكِر أيضًا أنْ يكون للتطوُّرات الاجتماعيَّة - إنْ وُجِدت - أيُّ أثَر في الأمور المنتظِمة الأساسيَّة في الحياة الاجتماعيَّة.



إنَّ كثيرًا من التعميمات التي أطلقها علماء الاجتماع ليست إلا أقوالاً بدهيَّة لا تَرقَى إلى مستوى القوانين، ولا تلبثْ عموميَّتها أنْ تنهار أمام الفحص الدقيق، كما أنَّ كلَّ التعميمات التي توصَّلَ إليها علماء الاجتماع مبهمة غامضة فضفاضة، وعلى فرض صِدقها فإنها ليست سوى مجرَّد تكرار لمعانٍ جزئيَّة، وإبرازٍ لأشياء عادية مألوفة في صورة أخرى، تأخُذ شكلاً استدلاليًّا تافهًا وساذجًا.



وإذا اعتقد علماء الاجتماع أنَّه باستِطاعتهم الوصول عن طريق تحليلهم للحياة الاجتماعيَّة إلى اكتشاف السبب في وقوع حادثٍ معيَّن على نحوٍ معيَّن، وإلى إدراك هذا السبب وكيفيَّة وُقوعِه، بحيث يقولون: إنهم توصَّلوا إلى فَهْمٍ واضح لعِلَلِه ونتائجه؛ أي: القُوَى التي سبَّبَتْه، وآثاره التي لحقَتْ بغيره من الحَوادِث، فإنهم رغم ذلك لا يستطيعون الادِّعاء بأنهم توصَّلوا إلى قانونٍ يصلح لوصف مثل هذه العلاقات بوجْه عام؛ لأنَّه قد لا يوجد من المواقف الاجتماعيَّة ما يصحُّ تفسيره بتلك القوى المعيَّنة التي اكتشفوها غير الموقف الوحيد المعيَّن الذي وُفِّقوا إلى تفسيره، وقد تكون هذه القوى فريدةً في نوعها؛ بمعنى: أنها لا تظهر إلا مرَّة واحدة، ولن تعود إلى الظهور مرَّة أخرى.



وباختصار: إنَّه لا يمكن التوصُّل في علم الاجتماع والعلوم الاجتماعيَّة إلى نسقٍ نظري متَّسق ونهائي، كذلك القائم في العلوم الطبيعيَّة، رغم اهتزاز هذه القاعدة فيها الآن.



تعلَّمنا وعلَّمنا طلابنا أنَّ علم الاجتماع نسق نظري؛ بمعنى: أنَّ غايته تفسير الحوادث والتنبُّؤ بها بواسطة النظريَّات أو القوانين الكليَّة التي يُحاوِل اكتشافها، لكنَّنا تيقنَّا الآن أنَّ علم الاجتماع لن يصل مطلقًا إلى دقَّة التنبُّؤات الفلكيَّة مثلاً؛ لاستِحالة فكرة التقويم الدقيق للأحداث الاجتماعيَّة.



إنَّ فكرة التقويم الدقيق المفصَّل للأحداث الاجتماعيَّة فكرةٌ متناقضة، والتنبُّؤات الاجتماعيَّة الدقيقة مستحيلةٌ بسبب تعقُّد الأبنية الاجتماعيَّة، وتبادُل التأثير والتأثُّر بين التنبُّؤات والأحداث المتنبَّأ بها، ويمكن بالمنطق وحدَه إثباتُ ذلك، لو أمكن عملُ تقييمٍ للحوادث الاجتماعيَّة واطَّلَع الناس على هذا التقييم؛ لأنَّه لن يكون سِرًّا مكتومًا لمدَّة طويلة، وبقدرة أيِّ إنسان أنْ يكتشفه، لكان في ذلك - بدون شك - مَن يحاولون القيامَ بأعمالٍ من شأنها أنْ تفسد التنبُّؤات، فإذا تنبَّأ أحدٌ بأنَّ سعر الأسهُم سيرتفع على مَدَى ثلاثة أيَّام ثم يهبط بعدَها، فمن الواضح أنَّ كلَّ مَن له صلةٌ بالسوق سوف يبيع أسهمه في اليوم الثالث، ويتسبَّب ذلك في هبوط الأسعار ويكذب التنبُّؤ.



التنبُّؤ حادثٌ اجتماعي قد يتأثَّر بغيره من الحوادث ويُؤثِّر فيها، ومن بين هذه الحوادث الحادث المتنبَّأ به، قد يُساعِد التنبُّؤ بالإسراع في وُقوع هذا الحادث، وقد يُؤثِّر فيه على نحوٍ آخَر، بل قد يُؤدِّي إلى إحداث الحادث الذي تَمَّ التنبُّؤ به؛ بمعنى: أنَّ الحادث ما كان ليقع أصلاً لو لم يحدث التنبُّؤ، إنَّ العالم الاجتماعي قد يتنبأ مثلاً بأمرٍ ما وهو مدركٌ في الوقت نفسه أنَّ تنبُّؤه هذه سوف يكون سببًا في وقوعه، وقد ينفي وقوع حادثٍ ما في المستقبل فيمنع ذلك من حُدوثه، وإذا كان العالم الاجتماعي قد قال الحقَّ في الحالتين فلا يعني هذا أنَّه لم يخرج عن الموضوعيَّة؛ لأنَّه حين تنبَّأ (وجاء المستقبل مؤيِّدًا له) قد يكون عمل على الاتجاه بالحوادث في الوجهة التي يُفضِّلها شخصيًّا.



هذا، وقد اصطُلِح على تسمية الاتجاه الذي يقوم على: التجربة، أو الملاحظة، أو التجريب والاعتماد على: الخبرة الحسيَّة، والرياضيات، والإحصاء، واستِنتاج العلاقة بين مُتغيِّر وآخَر عند دراسة أجزاء من الواقع الاجتماعي (بالاتجاه الأمبريقي)، يجمع الباحثون المعلومات عنه من خلال إجراء مُقابَلات مع عددٍ من الأفراد يُختارون عبر عيِّنةٍ ما، ثم تُصنَّف إجاباتهم وتُنسَّق وتُرتَّب وتُحوَّل إلى بطاقاتٍ مثقوبة، ثم تُترجَم النتائج ترجمةً إحصائيَّة يُعبَّر عنها بنسب مئويَّة بهدف الوصول إلى نظريَّة تُركِّز على تَراكُم النتائج المُستَنبَطة من الدراسة الواقعيَّة لموضوعاتٍ مختارة.



دخَلَ هذا الاتجاه إلى بلادنا مع غُروب دور أساتذة الاجتماع التابِعين للمدرسة الإنجليزية والفرنسية، وظهور هذا الجيل التابع للمدرسة الأمريكيَّة ونزعتها الأمبريقية، وهكذا سارَت الدراسات العُليَا في بلادنا على نفس المنوال الذي تسير عليه في الولايات المتحدة؛ حيث يُسَيطِر الأساتذة سَيْطرةً كاملة على الطلاب الذين يُلقِّنونهم بأنَّ الأصالة هي صياغة مشكلة أو القدرة على اكتشاف جانبٍ منها، وأنَّ الكفاءة هي جمْع أكبر قدرٍ من المعلومات الجديدة والموثَّقة حول هذه المشكلة، ويُنبِّه على الباحث بأنْ يبذل مجهودًا مرضيًا في فحص الأدلَّة واستكمال البحث، والحصول على معرفة منظَّمة بالمشكلة والقضايا والمناقشات التي تدورُ حولها.



خُدِعنا بهذه الاتِّجاه الأمبريقي، وقالوا لنا: إنَّه أفضل الطرق الموافقة لرُوح العصر التي يمكن الحصول بها على نتائج واقعيَّة مستقلَّة عن أيِّ اتجاه مُعارِض لدِينٍ أو عقيدة، ثم اكتشفنا أنَّ هذه الأمبريقيَّة تستَنِد إلى ما يَسُود العلوم الاجتماعيَّة بوجْهٍ عام من اتِّجاه علماني، ومن اهتِمام بمسائل علمانيَّة، ولأنَّ الأمبريقيَّة تعتمد فقط على الأساليب الفنيَّة، فإنها ترفُض أيِّ فكر، وتبدأ من الواقع وتنتهي إلى الواقع، وترى بصراحةٍ (أنَّ كلَّ ما لا يخضع للتجريب فهو باطل).



سدَّ (لندبرج) - عالم الاجتماع المعروف الذي لُقِّب بنبيِّ العهد الجديد - الطريقَ أمام إنقاذ البشريَّة إلا من طريق تطبيق العلم الطبيعي ومناهجه على محاولات فهْم المجتمع، وكان من أشدِّ المتطرِّفين في هذا الاتجاه، وكان يخاطب الشاكِّين وغير المتحمِّسين لوُعُود العلوم الاجتماعية بقوله: "إنَّنا إذا لم نؤمن بالعلوم الاجتماعية فبمَن نؤمن؟".



إلا أنَّ علماء الغرب أنفسهم هاجموه وقالوا: إنَّه ترك الإنسان بلا أمل، وحوَّل قيمه وغاياته إلى نوعٍ من التوتُّرات التي تحتاج إلى تخفيفٍ... إنَّ الإنسان والمجتمع لا يمكن أنْ نُماثِلهما بجزئيَّات أو ذرَّات، ولا يمكن تمثيل سلوك الإنسان بحركة هذه الأجزاء، وإلاَّ فإنَّنا نُجرِّد الحياة الاجتماعيَّة من حيويَّتها وقيمتها.



ونستعرض هنا بعضًا من أقوال علماء الغرب الرافضة تطبيقَ مناهج العلوم الطبيعيَّة على الإنسان والمجتمع.



قال (إلوود): "إنَّ مناهج العلوم الطبيعيَّة بما في ذلك الإحصاء لا تُمكِّننا من فهْم الظواهر الاجتماعيَّة".



قال (وليم توماس): "إنَّ السلوك الإنساني يتَّصِف بالتعقيد والتنوُّع بحيث تُصبِح مقارنته بالظواهر الطبيعيَّة نوعًا من العبث".



وأرجَعَ (باسي) فشَلَ العلوم الاجتماعيَّة الحديثة في دراسة الإنسان دراسةً كليَّة شاملة إلى حِرصها الشديد على تبنِّي الأساليب الوضعيَّة.



أمَّا (فيلبسون) فقد قال: "إنَّ الظواهر الطبيعية تختلف عن الظواهر الاجتماعية اختلافًا بيِّنًا، وعالم الطبيعة يدرس أصلاً ظواهر لا تتَّخذ بناء معرفيًّا مسبقًا، فهي ظواهر لا تعرف القصد والإرادة، وعلاقته بهذه الظواهر علاقة خارجيَّة تختلف تمامًا عن علاقة العالم الاجتماعي بالظواهر التي يدرسها".



ويقول (رد فيلد): "إنَّ هناك فارقًا بين ما هو إنساني وما هو غير إنساني، إنَّ دراسة الثقافة في ضوء مفاهيم الفيزياء تعني: تفتيت الإنسانية إلى أجزاء ليست هي الأفراد والجماعات، إنَّ تبنِّي نظريَّات ونماذج العلوم الطبيعيَّة وتطبيقها في المجال الاجتماعي يُصاحِبه تقدُّم في معرفتنا بالمجتمعات".



وقال المؤرِّخ الشهير (ديلثي): "إنَّ علم الاجتماع لن يكون علمًا على الإطلاق، وإنَّ مناهج العلوم الطبيعيَّة التي تعتمد أساسًا على التفسير ليستْ كافيةً لفهم الظواهر الاجتماعيَّة فهمًا عميقًا"، وقال في موضع آخَر: "إنَّ هناك فارقًا كبيرًا بين العلوم الطبيعية التي تفسر ظواهرها من الخارج، والعلوم الاجتماعية التي تحاول فهم قَضاياها من الداخل؛ لهذا يبدو علم الاجتماع وكأنَّه بحث مصطنع يحاول دراسة المجتمع بالاعتماد على مناهج لا تصلح إلا لدراسة الطبيعة".



وهاجم (هوسرل) سَيْطرة هذه النزعة المتطرِّفة التي أدَّت في نظره إلى تحوُّل العالم الحقيقي المتمثِّل في الحياة اليوميَّة إلى مجموعة من المقولات الرياضيَّة المجرَّدة.



أمَّا (رايت ميلز): الذي قال عنه علماء الاجتماع: "إنَّه إذا كان القرن التاسع عشر قد أنجب ماركس وفيبر، فإنَّ القرن العشرين لم ينجب سوى ميلز"، فقد وجه انتقادات حادَّة للنزعة الأمبريقية السائدة في العلوم الاجتماعية وقال: "إنَّ علم الاجتماع بتبنِّيه لهذه النزعة الضيِّقة إنما يحكُم على نفسه بافتقاد تصوُّر حقيقي للإنسان والمجتمع، فبدلاً من محاولة الوصول إلى مثل هذا التصوُّر، يحاول الأمبريقيون تحويل علم الاجتماع إلى علم طبيعي يستخدم نفس المعادلات الرياضية الشائعة في الفيزياء... إنَّ الاتجاه الأمبريقي يحاول إخضاع الحقيقة الاجتماعيَّة للمعالجة الإحصائية والمعملية، وبجرْد المشاكل الاجتماعية من صِفتها السوسيولوجية ويفسرها بعوامل سيكولوجية".



هذا، وقد هُوجِمت الأمبريقية من زوايا أخرى مختلفة نذكر منها ما يلي:

أولاً: أنها تخلو من أيِّ قضايا لها قوَّة التوجيه، فتفتَقِد بذلك الرؤية الواضحة والفهم الجيِّد لطبيعة الإنسان والمجتمع، ولا تُقدِّم عنهما أيَّ حقائق، بل فشلتْ بصفةٍ عامَّة في إقامة علاقة قويَّة بين المعرفة والعمليَّات الاجتماعيَّة، وفصلت فصلاً شديدًا بين الواقع والقِيَم.



ثانيًا: تعمد الأمبريقية إلى التجزئة، فتدرس ظواهر معيَّنة منفصلة ومنزوعة من سياق المجتمع.



ثالثًا: تبسط الأمبريقية قوانين المجتمع لتصبح أقوالاً وقضايا تكراريَّة ليست على درجةٍ عالية من التعميم، فيتعذَّر تطبيقها على المشاكل الكبرى.



رابعًا: أنَّ الأمبريقية تُعبِّر عن موقفٍ إداري أكثر منه موقف عملي، فما تتمتَّع به من قوَّة إدارية تُخفِي ما تُعانِيه من نقصٍ عقلي، وقد انتقل البحث بالأمبريقية من الوحدات الكبرى إلى بحث الوحدات الصُّغرى، وهذا الاتجاه من شأنه أنْ يُؤدِّي إلى تصفيةٍ تدريجيَّة لعلم الاجتماع.



خامسًا: أنَّ محاولات إجراء دراسة أمبريقيَّة عن الواقع الاجتماعي تُشِير إلى أنَّ أصحابها لديهم تصوُّرات معيَّنة عنه؛ ومن ثَمَّ فإنَّ هذه الافتراضات السابقة سوف تُؤثِّر على طابع الدراسة التي يجرونها على الواقع، وأنَّه إذا كان الهدف الأسمى من علم الاجتماع هو اكتشاف طبيعة العالم الاجتماعي، فكيف يقوم ذلك على افتراضات مسبقة عن هذا الواقع؟!



إنَّ علماء الاجتماع سينظمون أبحاثهم في ضوء هذه الافتراضات المسبقة، وسوف يعتمد طابع علم الاجتماع عليها، وسوف يتغيَّر إذا تغيَّرت.



سادسًا: أنَّ النَّزعة الأمبريقية أغرقَتْنا في التفصيلات الوصفيَّة الجزئيَّة عندما اهتمَّت بمشكلات الإدارة والانحِراف والحراك الاجتماعي، لقد عجزتْ أنْ تُقدِّم - باستثناءاتٍ محدودة - إسهامًا حقيقيًّا في فهم البناء الاجتماعي.



سابعًا: عن الادِّعاء بإمكانيَّة الاستفادة من نتائج بحوث الدراسات الأمبريقيَّة في مشروعات رجال الأعمال وغيرهم، يقول علماء الاجتماع: "إنَّ علم الاجتماع عندما يُقدِّم خدماته لرجال الأعمال لا يستطيع أنْ يستخلص لهم نتائج على درجةٍ عالية من التخصُّص أو النوعيَّة ذات القدر من الثَّبات أو العموميَّة، بل يعجز عن تقديم نظرية مجرَّدة يمكن تطبيقها على نطاق المشروع".



ورغم فشل وسُقوط الأمبريقية في بلادها ومسقط رأسها، فإنَّ طلابنا وباحثينا لا يزال البعض منهم غارقًا حتى أذنيه في هذه الأمبريقية، ولا نجد بحثًا ولا رسالة إلا محشوة باستمارة استبيان وفُروض بحث، ومتغيرات مستقلَّة وأخرى معتمدة، وجماعة تجريبية وأخرى ضابطة، وجداول ورسوم بيانية ونسب مئوية، ومعاملات ارتباط.. إلى آخِر هذا المسلسل الذي لا يخرج البحث والرسالة منه إلا بنتيجة حقيقية واحدة وهي: (أنَّ النزعة العلمية في علم الاجتماع نزعة مزيَّفة).



المصدر:

حلقات من كتاب (اعترافات علماء الاجتماع، عقم النظرية وقصور المنهج في علم الاجتماع).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 85.77 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 83.84 كيلو بايت... تم توفير 1.93 كيلو بايت...بمعدل (2.25%)]