تراث: الحنين إلى الأوطان - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4416 - عددالزوار : 852320 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3947 - عددالزوار : 387659 )           »          هل لليهود تراث عريق في القدس وفلسطين؟! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 33 - عددالزوار : 1050 )           »          أوليــاء اللــه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          المشكلات النفسية عند الأطفال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          هل المديرون بحاجة للحب؟هل تحب وظيفتك ومكان عملك؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          وأنت راكع وساجد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          لماذا تصاب المرأة بالقولون العصبي بــعد الــزواج؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          لطائف تأخير إجابة الدعاء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى الشعر والخواطر

ملتقى الشعر والخواطر كل ما يخص الشعر والشعراء والابداع واحساس الكلمة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 17-03-2019, 03:38 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,839
الدولة : Egypt
افتراضي تراث: الحنين إلى الأوطان

تراث: الحنين إلى الأوطان

لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ

لكل شيء من العلم، ونوع من الحكمة، وصنف من الأدب، سبب يدعو إلى تأليف ما كان فيه مشتتا، ومعنى يحدو على جمع ما كان منه متفرقا. ومتى أغفل حملة الأدب وأهل المعرفة تمييز الأخبار واستنباط الآثار، وضم كل جوهر نفيس إلى شكله، وتأليف كل نادر من الحكمة إلى مثله.. بطلت الحكمة، وضاع العلم، وأميت الأدب، ودرس مستور كل نادر.

ولولا تقييد العلماء خواطرهم على الدهر، ونقرهم آثار الأوائل في الصخر، لبطل أول العلم وضاع آخره. ولذلك قيل: «لا يزال الناس بخير ما بقي الأول يتعلم منه الأخير».

وإن السبب الذي بعث على جمع نتف من أخبار العرب في حنينها إلى أوطانها، وشوقها إلى تربها وبلدانها، ووصفها في أشعارها توقد النار في أكبادها، أني فاوضت بعض من انتقل من الملوك في ذكر الديار، والنزاع إلى الأوطان، فسمعته يذكر أنه اغترب من بلده إلى آخر أمهد من وطنه، وأعمر من مكانه، وأخصب من جنابه. ولم يزل عظيم الشأن جليل السلطان، تدين له من عشائر العرب ساداتها وفتيانها، ومن شعوب العجم أنجادها وشجعانها، يقود الجيوش ويسوس الحروب، وليس ببابه إلا راغب إليه، أو راهب منه؛ فكان إذا ذكر التربة والوطن حن إليه حنين الإبل إلى أعطانها، وكان كما قال الشاعر:

إذا ما ذكرت الثغر فاضت مدامعي

وأضحى فؤادي نهبة للهماهم

حنينا إلى أرض بها اخــضر شاربــي

وحلت بها عني عقود التمائم

وألطف قوم بالفتى أهل أرضه

وأرعاهم للمرء حق التقادم

فقلت: «لئن قلت ذلك لقد قالت العجم: من علامة الرشد أن تكون النفس إلى مولدها مشتاقة، وإلى مسقط رأسها تواقة».

وقالت الهند: «حرمة بلدك عليك كحرمة أبويك، لأن غذاءك منهما، وأنت جنين، وغذاءهما منه».

وقال آخر: «احفظ بلدا رشحك غذاؤه، وارع حمى أكنك فناؤه. وأولى البلدان بصبابتك إليه بلد رضعت ماءه، وطعمت غذاءه».

وكان يقال: «أرض الرجل ظئره، وداره مهده، والغريب النائي عن بلده المتنحي عن أهله، كالثور الناد عن وطنه، الذي هو لكل رام قنيصة».

وقال آخر: «الكريم يحن إلى جنابه، كما يحن الأسد إلى غابه».

وقال آخر: «الجالي عن مسقط رأسه ومحل رضاعه، كالعير الناشط عن بلده، الذي هو لكل سبع قنيصة، ولكل رام دريئة».

وقال آخر: «تربة الصبا تغرس في القلب حرمة وحلاوة، كما تغرس الولادة في القلب رقة وحفاوة».

وقال آخر: «أحق البلدان بنزاعك إليه بلد أمصك حلب رضاعه».

وقال آخر: «إذا كان الطائر يحن إلى أوكاره فالإنسان أحق بالحنين إلى أوطانه».

وقال الحكماء: «الحنين من رقة القلب، ورقة القلب من الرعاية، والرعاية من الرحمة، والرحمة من كرم الفطرة، وكرم الفطرة من طهارة الرشدة، وطهارة الرشدة من كرم المحتد».

وقال آخر: «ميلك إلى مولدك من كرم محتدك».

وقال آخر: «عسرك في دارك أعز لك من يسرك في غربتك»، وأنشد:

لقرب الدار في الإقتار خير

من العيش الموسع في اغتراب

وقال آخر: «الغريب كالغرس الذي زايل أرضه، فقد شربه، فهو ذاو لا يثمر، وذابل لا ينضر».

والقول في حب الناس الوطن وافتخارهم بالمحال قد سبق، فوجدنا الناس بأوطانهم أقنع منهم بأرزاقهم.

ولذلك قال ابن عباس "رضي الله عنه" : «لو قنع الناس بأرزاقهم قناعتهم بأوطانهم ما اشتكى عبد الرزق». وترى الأعراب تحن إلى البلد الجدب، والمحل القفر، والحجر الصلد، وتستوخم الريف، حتى قال بعضهم:

أتجلين في الجــالين أم تتـــصـبري

على ضيق عيش والكريم صبور

فبالمصر برغوث وحمى وحصبة

وموم وطاعون وكل شرور

وبالبيد جوع لا يزال كأنه

ركام بأطراف الإكام يمور

وترى الخضري يولد بأرض وباء وموتان وقلة خصب، فإذا وقع ببلاد أريف من بلاده، وجناب أخصب من جنابه، واستفاد غنى.. حن إلى وطنه ومستقره.

ولو جمعنا أخبار العرب وأشعارها في هذا المعنى لطال اقتصاصه، ولكن توخينا تدوين أحسن ما سنح من أخبارهم وأشعارهم، وبالله التوفيق.

ومما يؤكد ما قلنا في حب الأوطان قول الله عزوجل حين ذكر الديار يخبر عن مواقعها من قلوب عباده فقال: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} (النساء:66)، فسوى بين قتل أنفسهم وبين الخروج من ديارهم. وقال تعالى: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} (البقرة:246).

وقال الأول: «عمر الله البلدان بحب الأوطان». وكان يقال: «لولا حب الناس الأوطان لخربت البلدان». وقال عبدالحميد الكاتب وذكر الدنيا: «نفتنا عن الأوطان، وقطعتنا عن الإخوان».

وقالت الحكماء: «أكرم الخيل أجزعها من السوط، وأكيس الصبيان أبغضهم للكتاب، وأكرم الصفايا أشدها ولها إلى أولادها، وأكرم الإبل أشدها حنينا إلى أوطانها، وأكرم المهارى أشدها ملازمة لأمها، وخير الناس آلفهم للناس».

وقال آخر: «من أمارات العاقل بره لإخوانه، وحنينه إلى أوطانه، ومداراته لأهل زمانه». واعتل أعرابي في أرض غربة فقيل له: «ما تشتهي؟». فقال: «حسل فلاة وحسو قلات». وسئل آخر فقال: «مخضا رويا، وضبا مشويا».

وقالت العرب: «حماك أحمى لك، وأهلك أحفى بك».

وقيل: «الغربة كربة، والقلة ذلة». وقال:

لا ترغبوا إخوتي في غربة أبدا

إن الغريب ذليل حيثما كانا

وقال آخر: «لا تنهض عن وكرك فتنغصك الغربة، وتضيمك الوحدة».

وقال آخر: «لا تجف أرضا بها قوابلك، ولا تشك بلدا فيه قبائلك».

وقال آخر: «يحن اللبيب إلى وطنه، كما يحن النجيب (1) إلى عطنه»، وقال:

«كما أن لحاضنتك حق لبنها، كذلك لأرضك حق وطنها».

وذكر أعرابي بلده فقال: «رملة كنت جنين ركامها، ورضيع غمامها، فحضنتني أحشاؤها، وأرضعتني أحساؤها».

وشبهت الحكماء الغريب باليتيم اللطيم الذي ثكل أبويه، فلا أم ترأمه، ولا أب يحدب عليه.

وقالت أعرابية: «إذا كنت في غير أهلك؛ فلا تنس نصيبك من الذل». قال الشاعر:

لعمري لرهط المرء خير بقية

عليه وإن عالوا به كل مركب

إذا كنت في قوم عدا لست منهم

فكل ما علفت من خبيث وطيب

وفي المثل: «أوضح من مرآة الغريبة» - وذلك أن المرأة إذا كانت هديا في غير أهلها تتفقد من وجهها وهيئتها ما لا تتفقده وهي في قومها وأقاربها - فتكون مرآتها مجلوة تتعهد بها أمر نفسها.

كانت العرب إذا غزت، وسافرت، حملت معها من تربة بلدها رملا وعفرا (2) تستنشقه عند نزلة أو زكام أو صداع، أنشد لبعض بني ضبة:

نسير على علم بكنه مسيرنا

بعفة زاد في بقايا المزاود

ولابد في أسفارنا من قبيصة

من الترب نسقاها لحب الموالد

وقيل لأعرابي: «كيف تصنع في البادية إذا اشتد القيظ وانتعل كل شيء ظله؟»، قال: «وهل العيش إلا ذاك؟! يمشي أحدنا ميلا فيرفض عرقا، ثم ينصب عصاه ويلقي عليها كساءه، ويجلس في فيئه يكتال الريح، فكأنه في إيوان كسرى».

وقيل لأعرابي: «ما أصبركم على البدو؟»، قال: «كيف لا يصبر من وطاؤه (3) الأرض، وغطاؤه السماء، وطعامه الشمس، وشرابه الريح؟! والله لقد خرجنا في إثر قوم قد تقدمونا بمراحل ونحن حفاة، والشمس في قلة السماء، حيث انتعل كل شيء ظله، وإنهم لأسوأ حالا منا: إن مهادهم للعفر، وإن وسادهم للحجر، وإن شعارهم للهواء، وإن دثارهم (4) للخواء:

إذا ما أصبنا كل يوم مذيقة

وخمس تميرات صغار كوانز

فنحن ملوك الأرض خصبا ونعمة

ونحن أسود الغاب عند الهزاهز

وكم متمن عيشنا لا يناله

ولو ناله أضحى به حق فائز»

ولهذا الشعر خبر طويل وصف فيه نوقا أضلها، واقتصرنا منه على ما وصف من قناعته بوطنه.

وحدثنا سليمان بن معبد، أن الوليد بن عبدالملك أراد أن يرسل خيله، فجاء أعرابي له بفرس أنثى، فسأله أن يدخلها مع خيله، فقال الوليد لقهرمانه أسيلم ابن الأحنف: «كيف تراها يا أسيلم؟»، فقال: «يا أمير المؤمنين، حجازية، لو ضمها مضمارك ذهبت». قال الأعرابي: «أنت والله منقوص الاسم، أعوج اسم الأب». فأمر الوليد بإدخال فرسه، فلما أجريت الخيل سبق الأعرابي على فرسه، فقال الوليد: «أواهبها لي أنت يا أعرابي؟»، فقال: «لا والله، إنها لقديمة الصحبة، ولها حق، ولكن أحملك على مهر لها سبق عاما أول وهو رابض». فضحك الوليد وقال: «أعرابي مجنون!»، فقال: «وما يضحككم؟ سبقت أمه عاما أول وهو في بطنها». فاستظرفه واحتبسه عنده، فمرض، فبعث إليه الوليد بالأطباء، فأنشأ يقول:

جاء الأطباء من حمص تخالهم

من جهلهم أن أداوى كالمجانين

قال الأطباء: ما يشفيك قلت لهم

دخان من التسرير يشفيني

إني أحن إلى أدخان محتطب

من الجنينة جزل غير موزون

فأمر الوليد أن يحمل إليه سليخة، من رمث فوافوه وقد مات فهو عند الخليفة، وببلد ليس في الأقاليم أريف منه، ولا أخصب جنابا، فحن إلى سليخة رمث وحبا للوطن.

وحكى أبوعبدالله الجعفري عن عبدالله بن إسحق الجعفري قال: «أمرت بصهريج لي في بستان عليه نخل مطل أن يملأ، فذهبت بأم حسانة المرية وابنتها - وهي زوجتي - فلما نظرت أم حسانة إلى الصهريج قعدت عليه وأرسلت رجليها في الماء، فقلت لها: ألا تطوفين معنا على هذا النخل، لنجني ما طاب من ثمره؟ فقالت: ههنا أعجب إلي. فدرنا ساعة وتركناها، ثم انصرفنا وهي تخضخض رجليها في الماء وتحرك شفتيها، فقلت: يا أم حسانة، لا أحسبك إلا وقد قلت شعرا. قالت: أجل. ثم أنشدتني:

أقول لأدنى صاحبي أسره

وللعين دمع يحدر الكحل ساكبه

لعمري لنهي باللوى نازح القذى

نقي النواحي غير طرق مشاربه

بأجرع مجراع كأن رجاجه

سخاب من الكافور والمسك شائبه

أحب إلينا من صهاريج ملئت

للعب فلم تملح لدي ملاعبه

فيا حبذا نجد وطيب ترابه

إذا هضبته بالعشي هواضبه

وريح صبا نجد إذا ما تنسمت

ضحى أوسرت جنح الظلام جنائبه».

ولما حملت نائلة بنت الفرافصة الكلبية إلى عثمان بن عفان "رضي الله عنه" ، كرهت فراق أهلها، فقالت لضب أخيها:

«ألست ترى بالله يا ضب أنني

مرافقة نحو المدينة أركبا

أما كان في أولاد عوف بن عامر

لك الويل ما يغني الخباء المطنبا

أبى الله إلا أن أكون غريبة

بيثرب لا أما لدي ولا أبا».

وقال آخر:

«ألا يا حبذا وطني وأهلي

وصحبي حين يُدَّكر الصحاب

وما عسل ببارد ماء مزن

على ظمأ لشاربه يشاب

بأشهى من لقائكم إلينا

فكيف لنا به ومتى الإياب».

قال: «ومن هذا أخذ الطائي قوله:

كم منزل في الأرض يألفه الفتى

وحنينه أبدا لأول منزل».

... وأنشد أبو عمرو البجلي:

تمتع من شميم عرار نجد

فما بعد العشية من عرار

ألا يا حبذا نفحات نجد

وريا روضه غب القطار

وعيشك إذ يحل القوم نجدا

وأنت على زمانك غير زاري

شهور ينقضين وما شعرنا

بأنصاف لهن ولا سرار

فأما ليلهن فخير ليل

وأقصر ما يكون من النهار

وأنشد للمجنون:

إلى عامر أصبو، وما أرض عامر

هي الرملة الوعساء والبلد الرحب

معاشر بيض لو وردت بلادهم

وردت بحورا ماؤها للندى عذب

إذا ما بدت للناظرين خيامهم

فثم العتاق القب والأسل القضب

وأنشدنا المازني:

اقرأ على الوشل السلام وقل له

كل الموارد مذ هجرت ذميم

جبل ينيف على الجبال إذا بدا

بين الغدائر والرمال مقيم

تسري الصبا فتبيت في ألواذه

ويبيت فيه من الجنوب نسيم

سقيا لظلك بالعشي وبالضحى

ولبرد مائك والمياه حميم

لو كنت أملك برد مائك لم يذق

ما في قلاتك ما حييت لئيم

وقال آخر:

ألا ليت شعري والحوادث جمة

متى تجمع الأيام يوما لنا الشملا

وكل غريب سوف يمسي بذلة

إذا بان عن أوطانه وجفا الأهلا

وقال آخر:

وأنزلني طول النوى دار غربة

إذا شئت لاقيت امرأ لا أشاكله

فحامقته حتى يقال سجية

ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله

ولو كنت في قومي وجل عشيرتي

لألفيت فيهم كل خرق أواصله

وأنشد لذي الرمة:

إذا هبت الأرواح من نحو جانب

به أهل مي هاج قلبي هبوبها

هوى تذرف العينان منه، وإنما

هوى كل نفس حيث حل حبيبها

وقال أبوعثمان: «رأيت عبدا أسود حبشيا لبني أسيد - قدم من شق اليمامة - فصار ناطورا (5)، وكان وحشيا مجنونا لطول الغربة مع الإبل، وكان لا يلقى إلا أكرة، فلا يفهم عنهم ولا يستطيع إفهامهم، فلما رآني سكن إلي، وسمعته يقول: لعن الله أرضا ليس بها عرب، قاتل الله الشاعر حيث يقول: «حر الثرى مستعرب التراب».

أبا عثمان، إن هذه العُريب في جميع الناس كمقدار القرحة في جلد الفرس، فلولا أن الله رق عليهم فجعلهم في حشاة لطمست هذه العجم آثارهم. أترى الأعيار (6) إذا رأت العتاق لا ترى لها فضلا، والله ما أمر الله نبيه " صلى الله عليه وسلم" بقتلهم، إذ لا يدينون بدين، إلا لضنه بهم، ولا ترك قبول الجزية منهم إلا تنزيها لهم».

وقيل لأعرابي: «ما السرور؟»، فقال: «أوبة بغير خيبة، وألفة بعد غيبة».

وقيل لآخر: «ما السرور؟»، فقال: «غيبة تفيد غنى، وأوبة تعقب منى». وأنشأ يقول:

وكنت فيهم كممطور ببلدته

يسر أن جمع الأوطان والمطرا

وأحسن ما سمعنا في حب الوطن وفرحة الأوبة قوله:

وباشرتها فاستعجلت عن قناعها

وقد يستخف الطامعين المياسر

مشمرة عن ساق حولاء جسرة

تجاري بنيها مرة وتحاضر

وخبرها الوراد أن ليس بينها

وبين قرى نجران والدرب صافر

فألقت عصاها واستقرت بها النوى

كما قر عينا بالإياب المسافر

وقيل لبعض الأعراب: «ما الغبطة؟»، فقالوا: «الكفاية مع لزوم الأوطان، والجلوس مع الإخوان». قيل: «فما المذلة؟»، قال: «التنقل في البلدان، والتنحي عن الأوطان».

وقال آخر:

طلب المعاش مفرق

بين الأحبة والوطن

ومصير جلد الرجا

لـ إلى الضراعة والوهن

حتى يقاد كما يقا

د النضو في ثني الرسن

ثم المنية بعده

فكأنه ما لم يكن

ووجدنا من العرب: من قد كان أشرف على نفسه، وأفخر في حسبه، ومن العجم: من كان أطيب عنصرا وأنفس جوهرا أشد حنينا إلى وطنه، ونزاعا إلى تربته.

وكانت الملوك على قديم الدهر لا تؤثر على أوطانها شيئا.

وحكى الموبذ أنه قرأ في سيرة إسفنديار بن يستاسف ابن لهواسف، بالفارسية، أنه لما غزا بلاد الخزر ليستنقذ أخته من الأسر، اعتل بها، فقيل له: «ما تشتهي؟»، فقال: «شمة من تربة بلخ، وشربة من ماء واديها».

وهؤلاء الأعراب مع فاقتهم وشدة فقرهم يحنون إلى أوطانهم، ويقنعون بتربهم ومحالهم.

ورأيت المتأدب من البرامكة المتفلسف منهم، إذا سافر سفرا أخذ معه من تربة مولده في جراب يتداوى به.

ومن أصدق الشواهد في حب الوطن، أن يوسف - عليه السلام - لما أدركته الوفاة أوصى أن تحمل رمته إلى موضع مقابر أبيه وجده يعقوب وإسحق وإبراهيم عليهم السلام.

وروي لنا أن أهل مصر منعوا أولياء يوسف من حمله، فلما بعث الله موسى - عليه السلام - وأهلك على يديه فرعون وغيره من الأمم، أمره أن يحمل رمته إلى تربة يعقوب بالشام، وقبره معلوم بأرض بيت المقدس بقرية تسمى حسامي.

وكذلك يعقوب، مات في مصر فحملت رمته إلى إيلياء (قرية بيت المقدس)، وهناك قبر إسحق بن إبراهيم - عليهما السلام.

ومن حب الناس للوطن، وقناعتهم بالعطن، أن إبراهيم لما أتى بهاجر أم إسماعيل مكة فأسكنها، وليس بمكة أنيس ولا ماء، ظمئ إسماعيل فدعا إبراهيم ربه فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} (إبراهيم:37)، فأجاب الله دعاءه، إذ رضى به وطنا، وبعث جبريل - عليه السلام - فركض موضع زمزم برجله، فنبع منه زمزم.

ومر بإسماعيل وأمه فرقة من جرهم، فقالوا: «أتأذنون لنا أن ننزل معكم؟»، فقالت هاجر: «نعم، ولا حق لكم في الماء»، فصار إسماعيل وولده قطان مكة، لدعوة إبراهيم عليهما السلام.

نعم، وهي مع جدوبتها خير بقاع الأرض، إذ صارت حرما، ولإسماعيل وولده مسكنا، وللأنبياء منسكا ومجمعا على غابر الدهر.

وقال آخر في حب الوطن:

سقى الله أرض العاشقين بغيثه

ورد إلى الأوطان كل غريب

وأعطى ذوي الهيئات فوق مناهم

ومتع محبوبا بقرب حبيب


الهوامش


(1) النجيب: الفرس الكريمة الجيدة.

(2) العفر: وجه الأرض.

(3) الوطاء: هد الفراش.

(4) الدثار: الثوب الذي يكون فوق الشعار، وهو ما يلي الجسد.

(5) الناطور: حارس الزرع.

(6) الأعيار: جمع: عير، وهو البعير.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 66.22 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 64.33 كيلو بايت... تم توفير 1.89 كيلو بايت...بمعدل (2.86%)]