بلاغة الفواصل القرآنية: قراءة في آيات العقيدة - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         خذوا ما آتيناكم بقوة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          فمهل الكافرين أمهلهم رويدًا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          لا تشغلنكم مصيبة عن دينكم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          الله يصنع لدينه.. فلا تحزنوا ولا تبتئسوا ولا تتباءسوا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 68 - عددالزوار : 822 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4412 - عددالزوار : 850185 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3942 - عددالزوار : 386318 )           »          الجوانب الأخلاقية في المعاملات التجارية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 65 )           »          حتّى يكون ابنك متميّزا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 60 )           »          كيف يستثمر الأبناء فراغ الصيف؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 57 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها > ملتقى الإنشاء

ملتقى الإنشاء ملتقى يختص بتلخيص الكتب الاسلامية للحث على القراءة بصورة محببة سهلة ومختصرة بالإضافة الى عرض سير واحداث تاريخية عربية وعالمية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 06-02-2020, 03:20 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,542
الدولة : Egypt
افتراضي بلاغة الفواصل القرآنية: قراءة في آيات العقيدة

بلاغة الفواصل القرآنية: قراءة في آيات العقيدة


د. عبدالله علمي





بلاغة الفواصل القرآنية

(قراءة في آيات العقيدة)



تقديم:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد خاتم المرسلين، وبعد:
شكَّلت الفواصل القرآنية ظاهرةً جديدة أمام العرب؛ حيث لم يكن لهم معرفةٌ بها، فالفاصلة بشكل عامٍّ هي: "آخر كلمةٍ في الآية القرآنية؛ كالقافية في الشعر، وقرينة السجع، قال القاضي أبو بكر ت 543 هـ: "الفواصل حروفٌ متشاكلة في المقاطع، توجب حُسنَ إفهام المعاني..."[1].


فالفاصلة في القرآن تأتي تابعة للمعنى، وحسب ما يتطلبه المقام، فلا تَحِلُّ فاصلةٌ محلَّ أخرى، "فالسجعات نازلة في مواضعها، ملائمة لموقعها، بريئة من التكلف، تَتبعُ فيها الألفاظُ المعاني، فلا نقص ولا زيادة، ولا تَكرار لضرورة السجع"[2].


وبالإضافة إلى الدورِ الإيقاعي الموسيقيِّ للفاصلة القرآنية، فهي تقوم بإحكام المعنى، وإبلاغ معانٍ مقصودة حسب المقام.


وإذا كان الإيقاع الصوتي للفاصلة القرآنيةِ يُعطي نغمًا محببًا للنفوس، تلذُّ له الأسماع العربية المجبولة على حبِّ القوافي في الأسجاع والأشعار، فإن للفاصلة القرآنية أغراضًا بلاغية كثيرة.


وقد وقف عندها علماءُ الإعجاز على اختلاف مشاربهم وتوجُّهاتهم الفكرية؛ حيث رفع مِن قيمتها المعتزلةُ؛ أمثال الزمخشري ت 538 هـ، ونوَّهوا بها، في حين ذهب الأشاعرةُ - وعلى رأسهم عبدالقاهر الجرجاني ت 471 هـ - إلى التقليل من قيمتها البلاغية.


وسنسعى في هذا المقال إلى مقاربة فواصل السُّوَر العقَدية المكية؛ التي تناقش قضية التوحيد، وسنُبيِّن أثرها في مخاطبة وِجدان ومشاعر المخالفين لعقيدة القرآن (الوحدانية).

واتخذت الفاصلة القرآنية في آيات العقيدة موقعَ التذييل والختام؛ مقدمةً معانيَ بلاغيةً شديدةَ الدقة، بشكل بلاغي إبلاغي يَمزُج بين القوة والصرامة والهدوء والاسترسال.


1- تأطير نظري: الفاصلة القرآنية وقضية الإعجاز:
أ‌- تحديد مصطلح الفاصلة:
الفاصلة لغةً: هي الحاجز بين الشيئين، نقول: فصل بينهما فصلًا، وانفصل الشيء؛ أي: قطعته فانقطع، والفصلُ: القضاء بين الحق والباطل[3].


واصطلاحًا: هي ما يتردَّد في باب السجع عن الفِقرة، ونعني بها الجملة التي تنتهي بها الفاصلة، وقد فرَّق السيوطي (ت 911 هـ) بين الفاصلة والسجع، فقال: "الفواصل بلاغة، والأسجاع عيبٌ"[4].
وحدد بعضهم الفاصلة في الكلمة الأخيرة من الفِقرة، ورأى البعضُ أن الفاصلة تشمل الجملة الختامية كلها.


يقول الزركشي ت 794 هـ: "الفاصلة هي كلمة آخر الآية"[5].
وربَّط الرُّمَّاني ت 384 هـ حدَّ الفواصل بتمام المعنى، فقال: "الفواصل حروف متشاكلة توجب حُسن إفهام المعاني"[6].
وأخرُجُ مِن هذا بقولي: الفاصلة هي ما خُتِمت به الآيات القرآنية من حروف أو كلمات، أو جُمَل تُلخِّص معاني النصوص.

سمات الفاصلة القرآنية:
ب1- أداء المعنى الدقيق:
نقلت الفواصل القرآنية معانيَ الآيات، وأبلغتْ دلالاتِها بشكل مُعجِز؛ حيث صوَّر القرآن انفعالات النَّفْس البشرية، فتبدأ الفاصلة من فاتحة السورة، ثم تنتهي في خاتمتها.


والمَواطن الرئيسة التي أتت للحِجاج العقدي حافلةٌ بهذه الانفعالات حسَب المواقف؛ يقول صاحب الظلال: "وإنك لتُحِسُّ لمسات الرحمة الندية ودَبيبها اللطيف في الكلمات والعبارات والظلال، كما تُحِس انتفاضات الكون وارتجافاته لوقْع كلمة الشِّرك التي لا تُطيقها فطرتُه"، فالفاصلة القرآنية تتماهى بشكل مُعجِز مع معاني آيات العقيدة:
ففي المواقف السهلة السلسة تُختَتم الآيات مثلًا بحروف تضارع معانيها؛ مثل حروف الياء والألف، عكس المواطن التي تقتضي الشدة والعنف، فهي تنتهي مثلًا بحروف قوية كحرف الزاي، نتمثل ذلك في سورة مريم عند قوله تعالى: ﴿ كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ﴾ [مريم: 1 - 6].


فالموقف موقف دعاء رقيق مِن نبي الله زكرياء إلى ربه، يستدعي الختم بحرف الياء والألف المصورِّيْنِ لهذه الحالة التي وُصِف فيها الدعاء بالخفاء؛ لأن السر في الدعاء أقربُ إلى اطمئنان النفس وإلى الإخلاص، كما أن زكرياء بلغ سنًّا متقدمةً تستدعي اللينَ.


وفي السورة نفسها تتلوَّن الفاصلة بحرف النون الباعث على معاني القوة والغِلظة في موقف إثبات العقيدة؛ قال تعالى في ختام السورة: ﴿ ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [مريم: 34، 35].


فالنص هنا جاء للحسم في قضية مريم وابنها عيسى عليهما السلام، وللفصل في مسألة نبوَّته، "يتغير نظامُ الفاصلة فتطول...، فتُصبح بحرف النون أو الميم، وقبلهما مدٌّ طويل، وكأنما هو في هذه الآيات الأخيرة يُصدر حُكمًا بعد نهاية القصة مستمدًّا منها، ولهجة الحكم تقتضي أسلوبًا موسيقيًّا غيرَ أسلوب الاستعراض - الذي سبَق في قص حكاية مريم - وتقتضي إيقاعًا قويًّا رصينًا بدل إيقاع القصة المسترسل"[7].





يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 06-02-2020, 03:21 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,542
الدولة : Egypt
افتراضي رد: بلاغة الفواصل القرآنية: قراءة في آيات العقيدة

بلاغة الفواصل القرآنية: قراءة في آيات العقيدة


د. عبدالله علمي








ب2- بلاغة الفاصلة شكلًا ومضمونًا:

لم تقتصر فواصل القرآن الكريم على إكساب البيان جمالًا واتساقًا فحَسْب، بل هي معجزة في معانيها؛ يقول الرماني ت 384 هـ: "فواصل القرآن كلها بلاغة وحكمة؛ لأنها طريق إلى إفهام المعاني التي يحتاج إليها في أحسن صورة يدل بها عليها"[8].



وللفواصل أثرٌ مهمٌّ في تحديد المعاني، يصل إلى حد الفصل بين الآراء الفقهية، وبيان الراجح من المرجوح أثناء استنباط الأدلة الشرعية؛ يقول القنوجي ت 1307 هـ: "لا يتأتى لأحدٍ معرفة معنى القرآن، ولا استنباط الأدلة الشرعية منه إلا بمعرفة الفواصل"[9].



وقد توهَّم بعضُ الباحثين حينما حصروا وقصَروا دور الفاصلة في الجمال الشكلي، وسنسعى إلى بيان عكس هذا في بحثِنا التطبيقي على آيات العقيدة؛ يقول تمام حسان ت 1432هـ: "الفاصلة القرآنية لا تدلُّ بالضرورة على تمام المعنى، ومِن ثَم تُصبح وظيفتها في القرآن غير نَحْوية ولا دلالية، فإن لم يكن للفاصلة غرض نَحْوي ولا دلالي، فماذا يكون الغرض منها إذًا؟ أغلب الظن أن الغرض منها جمالي صرف"[10].



الرأي نفسه انحاز إليه بعضُ أئمة اللغة مِن قبلُ؛ مثل الفراء ت 207 هـ أثناء توجيهه بعض فواصل الآيات، نذكر من ذلك قوله تعالى: ï´؟ وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ï´¾ [الضحى: 1 - 3]، فتَكتفي بالكاف الأولى من إعادة الأخرى، ولأن رؤوسَ الآيات بالياء، فاجتمَع ذَلِكَ فيه) ، لكن هذا الانزياح الأسلوبي لم يكن لغايةِ الفاصلة في حد ذاتها؛ كما قال الفراء، بل إن حذف كاف (وما قلى) له معنى دلالي لم ينتبه إليه، ويتجلى هذا إذا تتبَّعنا بناءَ النص والسياق الذي نزل من أجله؛ فالله سبحانه لم يُخاطب محمدًا صلى الله عليه وسلم بطريق مباشر؛ لأن الحالةَ النفسية للرسول صلى الله عليه وسلم لا تَسمَح بعد انقطاع الوحي، فالمقام مقام إيناس، ولفظة (قلى) تَحمل معنى الطرد والإبعاد الشديد؛ وهذا خليقٌ ألا يضاف لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا المقام، عكس لفظة (الوداع) التي تحمل معنى الفراق اللطيف على أمل الرجوع، والتي استعمل فيها الله تعالى كاف المخاطب.



إذًا: الفاصلة القرآنية تجمع بين جوهر المعنى أولًا، ثم حُسن الشكل ثانيًا، ولا تَعتد بألفاظ جميلة، أو تبحث عن مشاكلة فنية تَجور على المعنى لتحقيق زُخرف البديع.



ج- الفاصلة القرآنية وقضية الإعجاز:

يصطدم الباحث في إعجاز الفاصلة القرآنية برأي إمام البلاغة عبدالقاهر الجرجاني ت 471 هـ - قدَّس الله سرَّه - الذي ينفي جملةً وتفصيلًا إعجاز فواصل القرآن؛ يقول:

"إِنْ زعَم زاعم أن الوصف الذي تُحُدُّوا به هو أن يأتوا بكلام يجعلون له مقاطع وفواصلَ، كالذي تراه في القرآن؛ لأنه أيضًا ليس بأكثر من التعويل على مراعاة الوزن، وإنما الفواصل في الآي كالقوافي في الشعر، وقد علِمنا اقتدارهم على القوافي كيف هو، فلو لم يكن التحدي إلا إلى فصول من الكلام يكون لها أواخر أشباه القوافي، لم يُعْوِزهم ذلك، ولم يتعذَّر عليهم، وقد خُيِّل إلى بعضهم - إن كان الحكاية صحيحة - شيءٌ من هذا، حتى وضع على ما زعَموا فصولَ كلامٍ أواخرُها كأواخر الآي" [11].




نناقش هذا النص علَّنا نقف على قيمة الفاصلة في إعجاز القرآن:

هل الفاصلة في القرآن كالقوافي في الشعر كما قرَّر الجرجاني؟

هل يحق لنا أن نتحدث عن إعجاز الفاصلة القرآنية، أم أن هذا ضربٌ من الوهم والخيال بعبارة الجرجاني؟

ج 1- صواب عبدالقاهر الجرجاني:

الغرض الأساس الذي ألَّف من أجله عبدالقاهر كتاب دلائل الإعجاز هو الكشف عن وجوه الإعجاز القرآني، وبيان مواطن عجز العرب عن مناظرة القرآن، والمتتبِّع لكتاب الدلائل يتبيَّن له جليًّا أن عبدالقاهر لا يَحفِل بالمظاهر الشكلية للأسلوب؛ كالسجع وغيرها من ألوان البديع، بل يغوص في عمق المعاني، ولعل هذا هو السبب في عدم عده ضروب البديع من البلاغة.




وهذا رأي أُشايعه؛ لأن القرآن الكريم مُعجِز بمعانيه لا شكله، وهو كتاب يغوص في أعماق النفوس، ويخاطب جميع أنماط التفكير، ويبلغ مراد الله المحكم بلا زُخرف ولا كبير صنعةٍ، وهذا أُسُّ الإعجاز كما صرَّح بذلك الجرجاني بقوله: "وينبغي أن تكون موازنتهم بين بعض الآي، وبين ما قاله الناس في معناها؛ كموازنتهم بين قول الله سبحانه: ï´؟ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ï´¾ [البقرة: 179]، وبين "قتلُ البعض إحياءٌ للجميع" - خطأً منهم؛لأنَّا لا نعلَم لحديث التحريك والتسكين وحديث الفاصلة مذهبًا في هذه الموازنة"[12].




وقد أقمتُ موازنة مُفصَّلة حول تركيب القرآن وجميع صِيَغ العرب، فلم أجد معيار الصرف والفاصلة حاضرًا كما ذكر الجرجاني فعلًا، وهذا ملخص ما خلصت إليه:

ï´؟ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ï´¾ [البقرة: 179] الصيغ العربية البليغة:







القصاص يقي شر القتل ويَكُفُّه.

♦ القصاص يمنح حياة آمنة سعيدة.

♦ يدخل في القصاص كل ما يتعلق بالجنايات مِن قطع يد السارق وغيره.

♦ تضمين معنى العدل؛ لأن كلمة (القصاص) تعني: الأخذ من الجاني نفس ما سلب، خلاف التعبير العربي الذي لا يتضمن هذا المعنى الأساس الدقيق في التشريع.

♦ الفصاحة في التعبير: حيث جعل القصاص الذي هو موت حياة باعتبار ما يؤول إليه من ارتداع الناس عن قتل بعضهم بعضًا، وإبقاءً على أنفسهم، واستدامة لحياتهم.

♦ تخصيص نوع من القتل وهو القصاص لا معظم القتل كما جاء في التعبير العربي.

♦ عذوبة الألفاظ والتلطف في الخطاب، فلفظ (القتل) أقوى من لفظ (القصاص)، وأثقل على نفوس المخاطب.

♦ سلامة الألفاظ مما يُوحش سمع المخاطب، وربط القصاص بالحياة المرغوب فيها.

♦ استعمال الطباق المعنوي بين القصاص والحياة.

♦ تنافر حروف التعابير العربية، وتناسب حروف النص التشريعي.

♦ الجمل العربية فيها تَكرار للفظ القتل، وليس في النص هذا التكرار.




صيغ العرب

القتل يقي شر القتل ويكفُّه، هذا هو المعنى الوحيد للجُمَل العربية.

لكن الجرجاني لم يكتفِ بهذا الحد، بل أخرج مكونات البديع - وعلى رأسها الفاصلة - من النظم، قال بنبرة تقرير صارمة:

"فإذا بطَل أن يكون الوصف الذي أعجزهم من القرآن في شيء مما عددناه - يعني مكونات البديع ومنها الفاصلة - لم يبقَ إلا أن يكون في النظم"[13].




أما مكونات البديع، فإنني أُسلم للجرجاني، وأما الفاصلة فأُناقشه مناقشةً قد تُوقِعه في مأزق منهجي يُجهز على لُبِّ نظريته؛ إذ إن معيار الاختيار الذي ركَّز عليه الجرجاني كثيرًا في دلائله أجلى وأوضح في الكلمات الفواصل التي تُذيَّل بها نصوصُ القرآن!



وقد التمس فضل عباس ت 1432 هـ العذرَ للجرجاني قائلًا: "إن عبدالقاهر ينفي أن يكون وزن الفاصلة وجهًا مِن وجوه الإعجاز، أما اختيار الكلمة في الفاصلة كأن تختار كلمة يفقهون في الآية، ويعلمون في آية أخرى ...، فهذا يدخل في النظم الذي هو لُبُّ الإعجاز"[14].




وهذا التوجيه الأقرب إلى ما أُثيره في هذا المقال، فالفاصلة من أركان الإعجاز في القرآن بمعانيها الدقيقة التي تشيعها في مواطنها وسياقاتها، لكنها معجزة بوزنها وصياغتها، خلافًا لما ذهب إليه فضل عباس رحمه الله.




ج 2- شطط عبدالقاهر الجرجاني:

إن إخراج الفاصلة بشكل مطلق من نظرية الإعجاز، شططٌ وقع فيها الجرجاني وهو يقيم صرح المعاني على أنقاض المباني والتراكيب المسكوكة، فالفاصلة وجهٌ أساس من وجوه الإعجاز، ولكن بلاغتها أولًا لا من حيث الشكل والسجع كما في الشِّعر، بل في دقة معانيها.



أما قول الجرجاني: إن العرب لم يُبهَروا بالفاصلة، فقولٌ مطلق يفتقر إلى الدليل، فالسُّنة النبوية طافحةٌ بالأحاديث الصحيحة التي تُظهِر انبهار العرب بالفاصلة، مثل سماع ابن المغيرة للقرآن، وانبهار العرب بآيات سورة النجم.




وسنُبيِّن في الجزء التطبيقي من هذا المقال بلاغةَ الفاصلة القرآنية في آيات العقيدة، ونرد تقرير الجرجاني رحمه الله، والذي أرى أنه اتخذه نصرةً لمذهبه الفكري الأشعري لا غير.




2- بلاغة الفواصل القرآنية: قراءة في آيات العقيدة:

أدَّت الفاصلة القرآنية في آيات العقيدة وظيفةً رئيسة في إبلاغ رسائل القرآن؛ حيث تماهت جلُّ فواصل آيات العقيدة مع فحوى النص، فبالإضافة للدور الإيقاعي الذي هو بمثابة القفل للنصوص، والذي يجلب سمع المخاطبين - تناسقت الفواصل في آيات العقيدة استنادًا على المعاني والدلالات التي تؤديها النصوص.



يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 06-02-2020, 03:21 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,542
الدولة : Egypt
افتراضي رد: بلاغة الفواصل القرآنية: قراءة في آيات العقيدة

بلاغة الفواصل القرآنية: قراءة في آيات العقيدة


د. عبدالله علمي




أ‌- بلاغة الفاصلة وبناء عقيدة التوحيد.
ترتيب الفاصلة في بناء عقيدة التوحيد.
قدَّم الله تعالى العبادة على الاستعانة في مطلع سورة الفاتحة؛ ليبلغ ضرورة الاتكال المطلق الكامل عليه بعد الإيمان بعقيدة التوحيد؛ قال تعالى: ï´؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ï´¾ [الفاتحة: 2 - 5].


وليس السببُ في العدول عن تقديم الاستعانة هو التناسبَ الشكلي للفواصل؛ كما ذهب إلى ذلك أغلب المفسرين، بل السبب الرئيس هو ترسيخ مبدأ التوحيد في القلوب، فالمعبود المقدَّم هو وحده الجدير بالاستعانة؛ يقول الزمخشري: (فإن قلتَ: لِمَ قُدِّمت العبادة على الاستعانة؟ قلتُ: لأن تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة؛ ليستوجبوا الإجابة عليها)[15].


وعندنا اعتراض على قوله: (ليستوجبوا الإجابة عليها)، فلا أحد يستوجب على الله تعالى، وهذه زَلة معتزلي رحمه الله، فالتقديم في الفاصلة كما أكد الزمخشري تقديمُ علة على معلول، وقد يكون التقديم تقديم شرف ورِفعة؛ لأن العبادة من حقوق الله تعالى، والاستعانة من حقوق المستعين[16].


كما أن العبادة تقرُّبٌ للخالق تبارك وتعالى، فهي أجدرُ بالتقديم في المناجاة، وأما الاستعانة فهي لنفع المخلوق للتيسير عليه، فناسَب أن يقدِّم المناجي ما هو مِن عزمِه وصُنعه، على ما يسأله مما يُعين على ذلك[17].


وأصل المبتدأ أن يقدَّم على الخبر، لكن مراعاة للفاصلة وما تبلغه مِن دلالات تخدم قضية التوحيد، يَعْدِل القرآن عن هذا الأصل، فسورة الفلق التي تلخِّص وتقرِّر عقيدة القرآن في النفوس - خُتِمت فاصلتها بحرف (الدال) الساكن المقلقل؛ لتسكن النفس بعقيدة الوحدانية الواضحة، بعد الاضطراب الفكري الذي أبلغته القلقلة، والقلقلة حسب قواعد التجويد حركةٌ نطقية غايتها إيضاح الحرف؛ كضغط الحروف على آلة الرقن.


والغاية الثاوية وراء هذا كله، هي جعلُ عقيدة الوحدانية ظاهرةً فاعلة؛ لتَطمئن وحشةُ النفوس؛ قال تعالى: ï´؟ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ï´¾ [الإخلاص: 1 - 4]، فقوله:ï´؟ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ï´¾ نفيٌ قاطع للمساواة عن الله تعالى، وأصل التركيب: (لم يكن أحدٌ كفوًا لله)، لكن لَمَّا كان الغرض البلاغي نفيَ المكافأة، جيء مع الجار والمجرور، وجيء بالاسم نكرة مؤخَّرة، ومعلوم أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم، إذًا: أغرقت الآية في النفي الشامل بهذا التركيب، فليس أحدٌ كائنًا مِن كان ندًّا لله تعالى، وبهذا تضافر المكون الصوتي والظاهرة البلاغية لتبليغ رسالة النص العقدي.


كما قدم الله ذكر الآخرة على الدنيا رغم تقدُّم الحياة الفانية على الباقية زمنيًّا؛ ليبين أن ما هو أجلُّ وأعظم يقع تحت قدرة الله وحده، وأن الحُظوة الكبرى يوم القيامة للمؤمنين؛ قال تعالى: ï´؟ فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى ï´¾ [النجم: 25]، وليستِ الغايةُ هي إحداث التناغم الصوتي، والسيرَ على إيقاع الألف المقصورة التي انتهت بها السورة؛ كما ذهب إلى ذلك السيوطي بقوله: "الترتيب لرعاية الفاصلة، وهو تقديم ما هو متأخِّر في الزمان، ولولا مراعاة الفاصلة لقُدِّمت الأولى"[18]، بل تأخير فاصلة (الأولى) يبلغ معنًى دقيقًا لم ينتبه إليه السيوطي ومَن ذهب مذهبه.


وغاية التقديم الاهتمام بالآخرة، ورد أطماع المعارضين لعقيدة التوحيد بأن ينالهم خير يوم الفوز فيها، ولذا أردف الله ذلك بقوله: ï´؟وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًاï´¾ [النجم: 26]، وهذا إقناطٌ لهم عما طمِعوا به من شفاعة الملائكة عليهم السلام، موجب لإقناطهم عن شفاعة الأصنام بطريق الألوهية[19].


ومن إثبات عقيدة التوحيد إثبات صفات الرب وأسمائه التي اتَّخذت الفاصلة أسلوبًا شديد الحساسية لرسمِها في القرآن الكريم، فمثلًا: الصفتان المشتقتان من الجذر اللُّغوي نفسه: (الرحمن والرحيم)، كل واحدة تأتي في خاتمة النصوص في موضعها، بل تُقدم الأهم مراعاةً للمعنى، وليس لمجرَّد الإيقاع الموسيقيِّ في الفاصلة؛ مثل قوله تعالى في مطلع سورة الفاتحة المؤسسة لعقيدة القرآن: ï´؟ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ï´¾ [الفاتحة: 3]؛ يقول الزمخشري: "فإن قلتَ: لِم قُدِّم ما هو أبلغ من الوصفين على ما هو دونه، والقياس الترقي من الأدنى إلى الأعلى؛ كقولهم: فلان نِحرير، وشجاع باسل، وجواد فياض؟! قلتُ: لَمَّا قال الرحمن، فتناول جلائل النعم، وعظائمها وأصولها، أردفه الرحيم كالتتمة والرديفة، ليتناول ما دقَّ فيها ولَطُفَ"[20].


والرحمن أَولى بالتقديم؛ لأنها دالة على الصفة القائمة بالله تعالى، أما الرحيم فهي صفة دالة على رحمته بخلْقه؛ يقول ابن القيم 751 هـ: "وأما الجمع بين الرحمن والرحيم، ففيه معنًى هو أحسن من المعنيينِ اللذين ذكرهما، وهو أن الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه، والرحيم دال على تعلُّقها بالمرحوم، فكان الأول للوصف والثاني للفعل، فالأول دال على أن الرحمة صفته، والثاني دال على أنه يرحَم خلقَه برحمتِه، وإذا أردت هذا فتأمَّل قوله: ï´؟ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ï´¾ [الأحزاب: 43]، وقوله: ï´؟ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ï´¾ [النور: 20]، ولم يَجِئ قط (رحمن بهم)، فعلم أن (رحمن) هو الموصوف بالرحمة، والرحيم هو الراحم برحمته، وهذه نكتةٌ لا تكاد تجدها في كتاب"[21]، وعمومًا: تقديم الصفة الخاصة بالله أولى؛ لأن الصفة الدالة على الاتصاف الذاتي أولى بالتقديم في التوصيف من الصفة الدالة على كثرة متعلقاتها[22].


دقة معاني الفواصل القرآنية في بناء عقيدة التوحيد:
تختم الآيات المؤسسة لعقيدة التوحيد فواصلها بذكر أسماء الله وصفاته حسب ما يقتضيه المعنى الدقيق للنص، لا ما يتطلبه الجرس الموسيقيُّ للآيات، وملخص هذا بالجدول البياني التالي:
النص العقدي
الفاصلة
المعنى البلاغي الدقيق
ï´؟ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ï´¾ [الأحزاب: 48] وكفى بالله وكيلًا لما كان موضوع الآية التوكل خُتِمت باسم الله (الوكيل)؛ لتَمنَح المخاطب بالاعتقاد الإسلامي قوةً؛ أي: إنك متَّكِل على مَن له الأمر كله؛ يقول القرطبي: "وفي قوة الكلام وعدٌ بنصره، والوكيل: الحافظ القائمٌ على الأمر"[23].
ï´؟ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ï´¾ [النساء: 85].
وكان الله على كل شيء مقيتًا
في مقام الشفاعة جاء بهذه الفاصلة؛ ليُبيِّنَ أنه سبحانه الوحيد المتحكم في الأقدار والأرزاق، وكل أسباب الحفظ، وحب الخير التي جُبل على حبها الإنسان، وليَحذر الناس باقي أنواع التوسل المفضي إلى بوابة الشِّرك؛ قال ابن الجوزي:"وفي المُقِيت سبعةُ أقوال: أحدهما أنه المقدر، والثاني: أنه الحفيظ، وبه قال قتادة والزجاج، وقال هو الحفيظ أشبه؛ لأنه مشتق من القوت، وقال: قُتُّ الرجلَ أقوته قوتًا، إذا حفِظ عليه نفسه بإعطائه ما يَقوته، والقوتُ: اسم الشيء الذي يَحفظ نفسه، ولا فضل فيه على قدر الحفظ، فمعنى المقيت: الحافظ الذي يعطي الشيء على قدر حاجته من الحفظ، والثالث: أنه الشهيد، والرابع: أنه الحسيب، والخامس: أنه الرقيب، والسابع: أنه معطي القوت؛ أي: الرزَّاق"[24]، وكل هذه الأوصاف تجعل الشفاعة بإذن الله وبيده.
ï´؟ اتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ï´¾ [الأحزاب: 2]
إن الله كان بما تعملون خبيرًا
لِمَّا كان موضوع الآية الأمرَ باتباع أمر الله، وأول أمر الله التزام عقيدته - جاءت الفاصلة لتؤكد أن الله خبيرٌ بالأعمال والقلوب؛ يقول الرازي: "لما قال: إنه عليم بما في قلوب العباد، بيَّن أنه عالم خبيرٌ بأعمالهم، فسَوُّوا قلوبكم وأصلِحوا أعمالكم"[25].
ï´؟ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ï´¾ [البقرة: 137].
وهو السميع العليم
أبلغت فاصلة هذا النص {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} علِم الله بالنيَّات، وسمِع الله للأقوال؛ لأن الإيمان بالمعتقد الذي جاءت الآية لتُرسخه يبنى على أساسين: الأقوال الظاهرة (الحجاج)، والنيات المضمرة (الإيمان)؛ يقول أبو حيان: "أي: وهو السميع لأقوالكم، العليم بنياتكم واعتقاداتكم، ولما كانت الأقوال الظاهرة لنا، الدالة على ما في الباطن، قُدِّمت صفة السميع على العليم"[26].
ï´؟ قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ï´¾ [سبأ: 27].
هو الله العزيز الحكيم
فالقرآن هنا في سياق مجادلة المخالفين لمعتقده بأحقية عبادة الله، وزَيف ما يُعبَد دونه؛ لذا بيَّن عزة الله وحكمته؛ يقول الرازي: "لا يُعبَد أحدٌ لاستحقاق العبادة غير الله، فقال: ï´؟ أَرُونِيَ... ï´¾ï´؟ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ï´¾؛ أي: هو المعبود لذاته واتصافه بالعزة وهي القدرة الكاملة، والحِكمة وهي العلمُ التام الذي عِلمُه موافقٌ له"[27].
ï´؟ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ï´¾ [إبراهيم: 19، 20].
وما ذلك على الله بعزيز
تؤكِّد هذه الآية وَحدانية الله ببيان قدرته المطلقة المتجسِّدة في خلقه السماوات والأرضَ، لذا جاءت الفاصلة بصيغتها الاسمية الثابتة؛ لتُثبت طلاقة القدرة الإلهية؛ يقول الشعراوي: "طلاقة قدرة الله تعالى يُمكن أن تفعل ما تشاء، فلا شيء يتأبَّى عن مرادات الحق سبحانه ولا على قدرته، فلا أحد يسبق إرادة الله أو مشيئته...، والله لا يُغلَب، وقد بيَّن لنا في جزئيات الحياة أنه يذهب بنبات ويأتي بنبات آخر، ويذهب بحيوان ويأتي بحيوان آخر؛ وكذلك يذهب بالجماعة من البشر ويأتي بغيرهم"[28]، فهو بهذه الفاصلة يَختم برهانه على وحدانيَّته بشكل بديع، يُبرز قدرته على إفناء المخاطبين، والإتيان بخلق جديد على صفتهم أو على غير صفتهم، وما ذلك بممتنع متعذر عليه[29].
ï´؟ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ï´¾ [المائدة: 40].
والله على كل شيء قدير
فالنص بيَّن أنه ما مِن شيء في السماوات والأرض إلا وقع تحت ملكه تعالى وتصرُّفه، فيُعذب مَن أراد أن يُعذبه، ويغفر لمن يشاء أن يغفر له، ولا شيء يُعجزه، فهو سبحانه صاحب القدرة المطلقة[30]، لذا جاءت الفاصلة مبيِّنةً أن الله تعالى قدير، فلا يُعجزه شيء، وهي تمكين يَمنح النص قوةً؛ ليَزدجر كلُّ مَن خالَف معتقد التوحيد.
ï´؟ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ï´¾ [آل عمران: 189].
والله على كل شيء قدير
يثبت هذا النص ملك الله المطلق على السماوات والأرض وكل المخلوقات التي بهما؛ لذا جاء بفاصلة تبلغ أن القدرة المطلقة له وحده؛ يقول النسفي: "ï´؟ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ï´¾ من المنع والإعطاء والإيجاد والإفناء"[31].


ترسم فواصل القرآن الجوَّ الذي دار فيه النقاش حول عقيدة القرآن، وذلك باختيار صيغ الفواصل بدقة شديدة؛ كالتعبير عن ما يختلج صدور المخالفين لعقيدة الوحدانية؛ قال تعالى حكاية عنهم: ï´؟ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ï´¾ [ص: 5]، فبالإضافة للإيقاع الصوتي عبَّر الله تعالى بهذه الصيغة (عُجاب)؛ ليبلغ شدة عجبهم مِن أن تكون الآلهة المتعددة التي ظلوا عليها عاكفين باطلةً! وأن يكون هناك إله واحد لا إله غيره؛ يقول الألوسي: "إن (فُعَالًا) بناء مبالغة كرجل طُوال وسُراع، ووجه تعجُّبهم أنه خلاف ما ألْفَوْا عليه آباءَهم الذين أجمعوا على تعدُّد الآلهة وواظبوا على عبادتها، وقد كان مدارُهم في كل ما يأتون ويَذَرون التقليدَ، فيَعُدُّون خلاف ما اعتادوه عجبًا، بل محالًا"[32].


وتتماهى صيغ الفواصل مع مضمون النص والسياق الذي يأتي فيه، مثل الفاصلة التي أتت بصيغتي المبالغة (ظلوم) (كفار) عند قوله تعالى: ï´؟ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ï´¾ [إبراهيم: 34]؛ حيث أكدت هذه الفاصلة بصيغتها الاسمية ثبات وملازمة صفتي: الظلم والكفران للإنسان، "وهما خبران لـ(إن) مرفوعان بالضمة وهما صيغ مبالغة"[33]، وسياق النص يستدعي هذه الفاصلة؛ لأن القرآن قبل ذلك عدَّد نِعَم الله تعالى على الإنسان؛ قال تعالى: ï´؟ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ï´¾ [إبراهيم: 32 - 34]، فبعدما استعرض القرآن كل هذه النعم ختَم بهذه الصيغ؛ إذ بمقدار كثرة النعم يَكثُر كفر الكافرين بها إذا أعرضوا عن عبادة المنعم، وعبدوا ما لا يُغني عنهم شيء[34].


ب‌- بلاغة فاصلة آيات العقيدة وحجاج المعتقدات المخالفة:
• ترتيب فاصلة آيات العقيدة أثناء حجاج أصحاب المعتقدات المخالفة.
تتخذ الفاصلة القرآنية موقعها في نظم الآيات العقدية التي تسرُدُ مجادلة رسلِ الله لأقوامهم، من ذلك ما حكاه الله عن رسول اليهود موسى عليه الصلاة والسلام، في معرض مواجهته طاغية زمانه؛ قال تعالى: ï´؟ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى * فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى ï´¾ [النازعات: 15 - 25]؛ حيث قدَّم الله ذكر الآخرة على الأولى في هذا النص أيضًا، وليس الغرض الإيقاع الموسيقيَّ؛ كما ذهب إلى ذلك جل المفسرين، بل لغرض بلاغي ثانٍ؛ حيث أراد الله أن يبلغ عن طريقه أن غطرسة فرعون وما حكاه عنه في سياق هذا النص زائفةٌ، فالدار الثابتة (الآخرة) لله تعالى، وكذا الزائلة (الدنيا)، كما أن تقديم الآخرة رغم تأخُّرها زمنًا حقَّق غرض النظم في بيان أن مزاعم فرعون واستعراض قوته، وقوله: ï´؟ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ï´¾ سبب عقابه، وفيه إشارة إلى إمهال الله تعالى له؛ قال الرازي: "المقصود التنبيه على أنه ما أخذه بكلمته الأولى في الحال، بل أمهله أربعين سنة، فلما ذكر الثانية أخذ بها، وهذا تنبيهٌ على أنه تعالى يُمهل ولا يُهمل"[35].


وفي سياق جدال فرعون لموسى في سورة طه التي خُتمِت فواصلها بالألف المقصورة؛ قال تعالى: ï´؟ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى ï´¾ [طه: 67]؛ حيث نلاحظ تأخير الفاعل (موسى) إلى آخر الآية، والظاهر أن إيقاع سورة طه استدعى ذلك، لكن هذا الانزياح الأسلوبي له غرض ثانٍ؛ فللتأخير حِكمة أخرى: وهي أن النفس تتشوق لفاعل (أوجس)، فإذا جاء بعد أن أُخِّر وقَع بموقعٍ، وقد أُخر الفاعل عن موقعه رغم تقديم ضميره (نفسه).


كما أخَّر الله ذكر موسى في فاصلة قوله تعالى: ï´؟ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ï´¾ [طه: 70]، على عكس ما دأب عليه القرآن من تقديم موسى؛ لأنه هو الرسول؛ قال تعالى: ï´؟ سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ï´¾ [الصافات: 120]، ï´؟ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ï´¾ [الصافات: 114]، ï´؟ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ï´¾ [طه: 70].


فما السرُّ إذًا في انزياح الفاصلة في هذا النص عمَّا جرت به العادة من تقديم موسى على هارون عليهما السلام؟
الجواب هو: ليبقى التوحيد خالصًا لله وحده، ولا يرتبط بشخص موسى ولا غيره، فالموقف موقف انبهار بمعجزة العصا التي لا حولَ ولا قوة لموسى فيها، وعليه فالسحرةُ آمنوا برب هارون وموسى، ولا نماري في أن فاصلة سورة طه استدعت ذلك، لكن ليست هي الغرض الأساس كما سطرت ذلك كل مصادر التفسير؛ حسب ما اطلعت عليه.


فقد يكون ترتيب الفواصل مهمًّا، لكن برأيي يبقى المعنى البلاغي أهم في نظم الفواصل؛ حيث نلحظ مثلًا في ترتيب سورة القمر - التي استعرضت صراع عقيدة التوحيد مع المخالفين لها - ختم جميع الآيات بحرف الراء، حتى إن القرآن خالف الترتيب المعهود، فقدَّم أثناء تركيب الآيات أحيانًا المفعول به على الفاعل، وإنما جاء بهذا النظام في بعض فواصل آي "القمر" لأغراض أسلوبية، لا كما ذهب إليه أغلب اللغويين من أن الغرض هو تناسق الجرس الصوتي فحسب، نُمثل لهذا بقوله تعالى: ï´؟ وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ ï´¾ [القمر: 41]؛ حيث قدم المفعول به (آل فرعون) على الفاعل (النُّذُر)، وليس الغرض تناسق فواصل الراء فحسب، بل يحمل تقديم المفعول به معنى الاختصاص، فآل فرعون وبنو إسرائيل اختصوا بتلك النذر دون غيرهم، وهذا واضح بتتبُّعنا قصصَ الأنبياء في القرآن، فقصص موسى تأخذ النصيب الأكبر، وقد يكون غرض التقديم في فاصلة هذه الآية بيان أن قوم الحضارة الفرعونية أسبقُ في الزمن من رسالة موسى، وما أتى به من رسائل ونُذر بالألواح.





يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 06-02-2020, 03:22 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,542
الدولة : Egypt
افتراضي رد: بلاغة الفواصل القرآنية: قراءة في آيات العقيدة

بلاغة الفواصل القرآنية: قراءة في آيات العقيدة


د. عبدالله علمي








دقة معاني فواصل آيات العقيدة أثناء حجاج أصحاب المعتقدات المخالفة:
تتماهى فواصل آيات العقيدة أثناء مجادلة أهل الكتاب مع مضمون النص، فقد بيَّن الله لليهود منهجه، وأخذ منهم الميثاق عليه؛ قال تعالى: ï´؟ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ï´¾ [المائدة: 12]، فبما أن الآية ميثاق إيماني موجه إلى اليهود أولًا، واليهود عُرِفوا تاريخيًّا بنقض المواثيق، جاءت الفاصلة بلهجة قوية تُخوف اليهود، وتضمن المحافظة على ميثاق الله تعالى من طرف المسلمين؛ قال الطاهر بن عاشور: "ناسب ذكرُ ميثاق بني إسرائيل عقب ذِكر ميثاق المسلمين (وميثاقه الذي واثَقكم به) - تحذيرًا مِن أن يكون ميثاقنا كميثاقهم، ومحل الموعظة هو قوله:ï´؟ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ï´¾"[36].


وفي سياق ذكر مواثيق اليهود، أمر الله رسولَه صلى الله عليه وسلم بالتجاوز والرحمة عن بعض المنتهينَ عن هذه الخصلة التي بسببها لُعِنوا؛ قال تعالى: ï´؟ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ï´¾ [المائدة: 13]، وجاءت الجملة الفاصلة ï´؟ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ï´¾ ليِّنةً في الختام؛ كالتعليل للأمر بالتجاوز عن المنتهين، وهو تأكيدٌ على أن الله يحب المحسن منهم، ويقابله بالجميل كالمحسنين من المسلمين؛ "قال ابن عباس رضي الله عنهما: إذا عفوتَ فأنت محسنٌ، وإذا كنتَ محسنًا فقد أحبَّك الله"[37].


وجاءت الفاصلة عنيفة قاصفة أثناء مواجهة المعاندين المخالفين المُصرين على الاعتقاد الفاسد؛ قال تعالى: ï´؟ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ï´¾ [المائدة: 41]؛ فالنص موجَّه إلى اليهود المعاندين حسب سياق نزوله، وللمنافقين المسارعين في الكفر، لذا أوغَلت الفاصلة في التهديد الشديد اللهجة الذي حسَم مصيرهم المخزي في الدنيا والآخرة؛ يقول أبو حيان الأندلسي: "(لهم في الدنيا خزي)؛ أي: ذل وفضيحة، فخِزي المنافقين بهَتْك سترهم وخوفهم من القتل إن اطَّلعَ على كفرهم المسلمون، وخزي اليهود تَمَسْكُنُهم وضرب الجِزية عليهم، وكونُهم في أقطار الأرض تحت ذمَّة غيرهم وفي إيالته، (ولهم في الآخرة عذابٌ عظيم)، وُصِف بالعظم لتزايُدِه فلا انقضاءَ له، أو لتزايُدِ ألَمِه، أو لهما"[38].


فالفاصلة تأتي قوية صارمة مصرِّحة بالعذاب مع هذا النوع من المخالفين؛ مثل قوله تعالى: ï´؟ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ï´¾ [المائدة: 10]، فبعدما بيَّن جُرمَهم أخبر مباشرة أنهم خالدون في نار جهنم[39]، وتحمل الفاصلة معنى التهديد لمن سار على نهجهم، يقول البقاعي: "لَمَّا ذكر سبحانه وتعالى جزاء المطيعين المبادرين إلى الإذعان ترغيبًا، ذكَر جزاء مَن لم يفعل فعلَهم ترهيبًا، فقال: (والذين كفروا)؛ أي: ستروا ما أوضحتْه له عقولُهم من الدلالة على صحة ما دعتْهم إليه الرسلُ، (وكذَّبوا)؛ أي: عنادًا (بآيتنا)؛ أي: بالعلامات المضافة لعظمها إلينا (أولئك)؛ أي: البُعداء من الرحمة (أصحاب الجحيم)؛ أي: الذين لا يَنفكُّون عنها، لا غيرهم من العصاة المؤمنين وإن كثُرت كبائرُهم"[40].


ثم بيَّن الله لأهل الكتاب عقيدة التوحيد التي صحَّحت ما كانوا عليه من عقائد؛ قال تعالى: ï´؟ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ï´¾ [المائدة: 15]، وختم النص بهذه الفاصلة؛ ليؤكد سماحة عقيدة الإسلام وشموليتها التي وصفها بالنور والكتاب المبين.


كما توسَّل القرآن بالفاصلة في آيات العقيدة التي يجادل فيها المخالفين؛ ليُبرهن على أحقية وجهة نظره؛ كبيان قدرة الله المطلقة أثناء قوله: ï´؟ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ï´¾ [المائدة: 19]، فغرض النص إقناع المخالفين بضرورة الإيمان بمعتقد القرآن، وبيان أن الله سيحاسب الجميع في النهاية، فيُثيب الطائع، ويُعاقب المعاند، وعليه فالمعاقب أولى أن يمتلك القدرة المطلقة، وهذا ما أبلغتْه الفاصلة.


وحينما يُبطل القرآن عقيدة المخالف يُقرِّر مباشرة عقيدته بالاستعانة بالفاصلة، مثل قوله تعالى - في مَعرِض مواجهة عقيدة النصارى -: ï´؟ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ï´¾ [المائدة: 17]، فبعدما بيَّن بطلان عقيدة التثليث، وزعمهم أن عيسى عليه السلام ربٌّ يُعبَد مِن دون الله، بيَّن أن عيسى عليه السلام لا يقوى عن الدفاع عن نفسه في حال أراد الله أن يُهلكه، فكيف يكون إلهًا؟!

كما بيَّن عن طريق البرهان أن مُلك السماوات والأرض لله وحده دون سواه، وأنه سبحانه خلق عيسى وأمه عليهما السلام، ثم أتى بالفاصلة ï´؟ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ï´¾ التي تقرِّر عقيدة الألوهية الصحيحة، بطريقة غير مباشرة؛ وذلك بتأكيد طريق أسلوب التمكين وهو أنه سبحانه صاحب القدرة المطلقة، لا يُعجِزه شيء.


ومن أجل الإجابة عن سؤال حقيقة عيسى عليه السلام، وتفنيد عقيدة المخالفين القائلة: إنه مقتول ومصلوب - توسل القرآن بالفاصلة؛ قال تعالى: ï´؟ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ï´¾ [النساء: 157، 158]، فالفاصلة تبرهن على عقلانية ما أتى به القرآن؛ لأن مسألة الرفع قد يستنكرها العقل على إنسان عادي، لكن الله بعزَّته قادرٌ على رَفْعه، وبحكمته نجَّى عيسى من كيد الكائدين؛ يقول الرازي: "المراد من العزة كمال القدرة ومن الحكمة كمال العلم، فنبَّه بهذا على أن رفع عيسى عليه السلام من الدنيا إلى السماوات، وإن كان كالمتعذر على البشر، لكنه لا تعذُّر فيه بالنسبة إلى قدرتي وإلى حِكمتي"[41].


ويختار القرآن الفاصلة بعناية فائقة؛ لتواكِب نظمَ الآي؛ مثل قوله تعالى أثناء مجادلة المخالفين عقيدته: ï´؟ أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ ï´¾ [السجدة: 26، 27]، فالفاصلة في الآيتين صيغت صياغة الاستفهام الإنكاري: الأولى: ï´؟ أَفَلَا يَسْمَعُونَ ï´¾، والثانية: ï´؟ أَفَلَا يُبْصِرُونَ ï´¾.

لكن الله اختار في الأولى السمع؛ لأن أخبار الأمم السالفة تناقلَتْها الألسن سماعًا على مدار التاريخ، بينما اختار في الثانية البصر؛ لأن الماء المنَزَّل من السماء والمحيي الأرض بعد موتها، والمخرج الزرع، نعمةٌ تُبصرها الأعين!


كما اختار سبحانه صفتي (العلم) و(الفقه) لَمَّا عرض على المخالفين الحججَ العقلية التي تحتاج إلى التدبر والتفكر؛ قال تعالى: ï´؟ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ï´¾ [الأنعام: 97، 98]، فختم الآية الأولى بذكر العلم؛ لأن تحصيل معنى الآية يقتضي التعلم والمدارسة، والتجرِبة والبحث العلمي المادي، وهذا مَيدان علوم الفلك وعلوم البحار، وختم الآية الثانية بذكر الفقه؛ لأن التدبر والتفكر في أحوال النفوس البشرية - مِن خَلْق، ومراحل التطور والارتقاء، وغيرها من العلوم الإنسانية النسبية - تحتاج إلى الفقه.


ومدلول العلم أقرب إلى نتائج العلوم الحقة التي تسعى إلى الخروج بخلاصات حاسمة، بَيْدَ أن العلوم الإنسانية تسعى بوسيلة الفقه إلى ترك النتائج مفتوحةً يَطغى عليها طابع النسبية!


ولا يكتفي القرآن بهذا التدقيق في الفواصل التي يجادل بها المخالفين للعقيدة التي يدافع عنها، بل يضع الفواصل المتقاربة كل واحدةٍ في مقامها حسب ما يقتضيه معنى النظم القرآني، فأثناء دعوته المخالفين للتفكر والتدبر في قوله تعالى: ï´؟ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ï´¾ [الرعد: 3، 4].


أتت الفاصلة الأولى كالآتي: ï´؟ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ï´¾؛ لأنها تتحدَّث عن علم التربة والصخور والأنهار، وأنواع الثمار التي تتلون بتعاقُب الليل والنهار، وهذا يُدرَك بالتفكر الخاص بنخبة العلماء، أما الآية الثانية فتحدَّثت عن أنواع الثمار التي تَخرج من أشجار متنوعة؛ منها ذات الأغصان الكثيفة وغير ذلك، وعن مذاقها، وهذا يُدرِكه كل إنسان بالنظر السطحي، وبعملية التذوق الحسي التي تتكرَّر أثناء الأكل.


بلاغة صيغ فواصل آيات العقيدة أثناء حجاج أصحاب المعتقدات المخالفة:
تتخذ الفاصلة القرآنية أثناء حجاج أصحاب المعتقدات المخالفة صيغًا متباينة، حسب ما يقتضيه المقام؛ قال فرعون - أثناء عرض موسى عليه السلام عقيدته عليه -: ï´؟ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى ï´¾ [طه: 49]، فالخطاب موجَّه لمثنًّى: موسى وهارون، لكن فرعون اختص موسى وحده خارجًا على أصل الصيغة في فاصلة هذه الآية، مع أنه ابتدأ الخطاب لموسى بصيغة المثنى: (ربكما)، فإضافة إلى تَحقُّق إيقاع الفاصلة، أراد فرعون في موقف المناظرة أن يشعر موسى أنه وحيد في دعواه؛ ليهزمه حجاجيًّا وينتصر لعقيدته.

وفي محاورة النصارى عوَّضت الفاصلة القرآنية صيغةَ التأنيث بصيغة التذكير خروجًا عن الأصل، عند قوله تعالى في وصف مريم العذراء عليها السلام: ï´؟ وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ï´¾ [التحريم: 12]؛ حيث خاطَب مريم بصيغة المذكر (القانتين) بدل القانتات.


ولا يقتصر أسلوب الإحلال هذا على مواءمة الفواصل السالفة والآتية (الداخلين، الظالمين...)، فمريم بلَغت درجة الصِّديقين، وهي درجة لم يَصِلْها كثير من الرجال، بَلْهَ النساء اللواتي لم تكتمل منهن عقلًا سوى القليل؛ كما جاء في الحديث المرفوع عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كَمُلَ مِن الرجال كثيرٌ، ولم يَكمُلْ من النساء إلا آسيةُ امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثَّرِيد على سائر الطعام))[42]، فالرسول صلى الله عليه وسلم حدَّد هذه المرتبة التي ترتقي إليها المرأة، ولم يُدخل عائشة عليها السلام رغم مكانتها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل جاء بالصورة التشبيهية المقارنة بينها وبين باقي أنواع النساء، وقد تدخل خديجة وفاطمة عليهما السلام بالنظر إلى سلوكهما داخل المجتمع، وقد جاء هذا في بعض الأحاديث الضعيفة، وهذا يظهر لنا سرُّ هذا الإحلال في صيغة هذه الفاصلة.


كما توسل القرآن الكريم إلى الفاصلة أثناء مجادلة المخالفين ببعض الصيغ؛ لإكساب دعوة التوحيد قوةً؛ قال تعالى بعد مجادلة المخالفين: ï´؟ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا ï´¾ [الإسراء: 45]، والأصل في الصيغة: حجابًا ساترًا، لكن القرآن اختار هذه الصيغة ليس لمجرد الإيقاع الصوتي المناسب للفواصل: (غفورًا، نفورًا، مسحورًا)، بل الغرض الأساس: المبالغة في وصف الحجاب نفسه بالستر؛ لأنه إذا كان الحجاب نفسه مستورًا، كان المحجَب به وهو المؤمن أشد سترًا، وهذا بَعث للروح القوية في نفسية المعتقدين عقيدةَ التوحيد عن طريق الفاصلة.




يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 06-02-2020, 03:22 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,542
الدولة : Egypt
افتراضي رد: بلاغة الفواصل القرآنية: قراءة في آيات العقيدة

بلاغة الفواصل القرآنية: قراءة في آيات العقيدة


د. عبدالله علمي






تقويم:
نَخلُص من خلال هذه المدارسة لفواصل آيات العقيدة أثناء بناء عقيدة التوحيد، وحجاج المخالفين لها إلى النتائج التالية:
1- نتائج عامة:
• الفاصلة القرآنية أُسُّ إعجاز نصوص العقيدة، وهي مكون مهمٌّ من مكونات الإعجاز عكس ما قرَّره الجرجاني، وإنما دفع الإمامَ عبدَالقاهر لهذا الحكم انتصارُه لمذهبه العقدي (الأشعري) الذي لا يَحفِل بالمظاهر اللفظية، وهذا يرتبط بالقضية البلاغية النقدية (اللفظ والمعنى) التي دار حولها جدل كبير لأسباب عقدية بحتة.


وقد جار الجرجاني على الفاصلةِ القرآنية حينما أخرجها بشكل قاطع من نظرية الإعجاز التي ظلت تبحثُ عن أسرار الأساليب في بناء المعنى التامِّ، وهذا أوقعه في تناقض صارخ بيَّناه في الشق التطبيقي، بالبرهنة على دقة اختيار الفواصل لأغراض دلالية بلاغية لا عَلاقة لها بضرورة السجع والجمال الصوتي.


• الفاصلة القرآنية في آيات العقيدة لا تبحث عن التناسب الصوتي والسجع الإيقاعي على حساب المعنى، عكس ما ذهب إليه أغلبُ الدارسين المنساقين وراء نظرة الجرجاني، بل المقصد البلاغي الأهم.


• جمع فواصل آيات العقيدة بين جمال الشكل: الإيقاع الصوتي الذي يجذب الأسماع، ويؤثر في النفوس، ودقة المعنى البلاغي الملخص لمعنى النص.


• تلوين الفاصلة القرآنية في آيات العقيدة حسب سياق النص الداخلي: (السباق واللحاق)، والسياق الخارجي (أسباب النزول)، فالفاصلة تأتي أحيانًا لينةً سهلة، وأخرى قوية قاصفة.


2- نتائج خاصة:
أسهمت الفاصلة القرآنية في إبلاغ عقيدة التوحيد؛ مثل التركيز على ضرورة الاتكال التام على الله تعالى، بتوظيف أسلوب الترتيب في فاصلة آية الاستعانة ï´؟ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ï´¾ [الفاتحة: 5].


كما بعثت الفواصل الطمأنينة في نفوس معتنقي عقيدة القرآن، وذلك بدقة اختيار الحروف، التي تختتم بها النصوص العقدية التي تعمل على ذلك، كحرف (الدال) المتكرر في فواصل سورة (التوحيد).


وعمِلت الفاصلة على بيان أسماء الله وصفاته، وهي ركنٌ أساس من أركان التوحيد بشكل شديد الدقة؛ كالبَدْء باسم الله الدال على رحمة (الرحمن) بعد ذكر اسم (الرحيم) لارتباط الأول بالله وحده، وارتباط الثاني بالبشر المحتاجين للرحمة، فالله تعالى رحمن ورحيم بخلقه.


واختتمت فاصلة النص الحاث على التوكل المطلق على الله باسم الله (الوكيل)، وفاصلة النص المُفصِّل في قضية الشفاعة ذُيِّلت (بالمُقيت)، والنص الحامل للتحدي انتهت (بالعزيز الحكيم)، والمبين لقدرة الله المطلقة يفصل القول بفاصلة (إن الله على كل شيء قدير).


صياغة فواصل آي العقيدة في قالَبٍ يُلخِّص مضمون النص، كختمِ النص الذي استعرض نعم الله بصيغة المبالغة: ï´؟ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ï´¾ [إبراهيم: 34]؛ لبيان جحود الكافرين، وتذكير وصف مريم عليها السلام بالقنوت في فاصلة: (كانت من القانتين) التي عدَلت عن صيغتها الأصلية، فبدل التعبير بالقانتات عبرت بالقانتين؛ لتأكيد كمال مريم عليها الصلاة والسلام، وبيان أنها بلغت مرتبة الصديقين المقربين من الله.


كما توسلت آيات العقيدة بصيغ المبالغة، مثل التعبير بصيغة: (مستورًا) في وصف الفرقان بين أهل الحق (التوحيد) والباطل (الشرك) في قوله تعالى: (حجابًا مستورًا)، والأصل حجابًا ساترًا، ولكنه بالغ لمنح عقيدة الوحدانية قوة ظاهرة.


وواكبت الفاصلة نظم النصوص العقدية أثناء حجاج المخالفين لطرح القرآن، فحينما تحاجج النصوص بأمور علمية دقيقة، تُوجِّه الفاصلة خطابها للعلماء، مثل فاصلة: ï´؟ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ï´¾ [الأنعام: 97]، وحينما يدعو النص العقدي إلى تأمُّل أمورٍ سطحية واضحة، تُوجِّه الفاصلة خطابها لجميع مَن يَعقِل مِن العامة، مثل فاصلة: ï´؟ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ï´¾ [الرعد: 4].


المصادر والمراجع:
أ:
♦ أبجد العلوم الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم، صديق القنوجي، تحقيق: عبدالجبار زكار، بيروت، دار الكتب العلمية، 1978م.
♦ إرشاد العقل السليم، القاضي، أبو السعود محمد العمادي، وضع حواشيه عبداللطيف عبدالرحمن، دار الكتب العلمية بيروت لبنان، 1999م.
♦ إعجاز القرآن الكريم، فضل إحسان عباس، دار النفائس للنشر والتوزيع.
♦ الإعراب المفصل لكتاب الله المرتل، لبهجت عبدالواحد صالح، دار الفكر للنشر والتوزيع.
♦ الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين السيوطي، المكتبة العصرية، بيروت لبنان، 2003م.

ب:
♦ البرهان في علوم القرآن، بدر الدين الزركشي، دار عالم الكتب، المملكة العربية السعودية، 2003م.
♦ البيان في روائع القرآن، دراسة لغوية وأسلوبية للنص القرآني، تمام حسان، عالم الكتب، ط 1، 1993م.
♦ بدائع الفوائد، ابن قيم الجوزية، تحقيق: سيد عمران وعامر صلاح، دار الحديث، القاهرة، 2002م.
♦ البحر المحيط في التفسير، أبو حيان الغرناطي، دار الفكر، 1992م.

ج:
♦ الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.

ت:
♦ التصوير الفني في القرآن، دار الشروق، القاهرة، الطبعة/ 18، 2006م.
♦ التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر والتوزيع، والدار الجماهرية للنشـر والتوزيع، بدون تاريخ.
♦ تفسير القرآن العظيم، لأبي الفداء الحافظ ابن كثير، ضبطه حسين إبراهيم زهران، دار الفكر، الطبعة الأولى، 1999م.
♦ التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، وهبة الزحيلي، دار الفكر دمشق وآفاق معرفة متجددة، الطبعة الثانية، 2003م.

ث:
ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، للإمام الرماني والإمام الخطابي والإمام عبدالقاهر الجرجاني، حققها وعلق عليها: محمد خلف ومحمد زغلول سلام، دار المعارف مصر، الطبعة الثالثة.

د:
♦ دلائل الإعجاز، عبدالقاهر الجرجاني، دار المعرفة، بيروت لبنان، الطبعة الثالثة.

ر:
♦ روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، أبو الفضل محمد الألوسي، دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية، 2005م.

ز:
♦ زاد المسير في علم التفسير، لابن الجوزي، المكتب الإسلامي، الطبعة الرابعة، 1987م.

س:
♦ سجع القرآن الفريد، لأحمد الحوفي، مقال بمجلة مجمع اللغة العربية، عدد: 28، نوفمبر، 1971م.
♦ سلسلة الأحاديث الصحيحة، ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع بالرياض.

ص:
♦ صحيح البخاري، أبو عبدالله محمد البخاري، موافقة لترتيب محمد فؤاد عبدالباقي، مع ذكر أطراف الحديث وبيان ما اتفق عليه الشيخان البخاري ومسلم، وبيان من أخرج الأحاديث من أصحاب الكتب الستة، وبيان ما انفرد به البخاري، اعتنى به: محمود بن الجميل، مكتبة الصفا، 2003م.

ك:
♦ تفسير الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، جار الله الزمخشري، رتبه وضبطه وصححه محمد عبدالسلام شاهين، دار الكتب العلمية، الطبعة الخامسة، 2009 م.

ل:
♦ لسان العرب، للإمام أبي الفضل جمال الدين بن منظور، دار صادر، بيروت، لبنان.

م:
♦ التفسير الكبير أو مفاتح الغيب، الفخر الرازي، دار الكتب العلمية، طهران، إيران.
♦ مختصر تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أعده وقدم له عبدالرحيم متولي الشعراوي، دار التوقيفية للتراث، القاهرة، 2011م.
♦ معاني القرآن، الفراء، عالم الكتب بيروت لبنان، الطبعة الثالثة، 1983م.
♦ تفسير النسفي المسمى مدارك التنزيل وحقائق التأويل، لأبي البركات عبدالله النسفي، تحقيق: سيد زكريا، مكتبة نزار مصطفى الباز، الطبعة الأولى، 2000م.

ن:
♦ نظم الدرر في تناسب الآي والسور، برهان الدين البقاعي، دار الكتاب الإسلامي القاهرة، 1984م.


[1] البرهان في علوم القرآن،1 / 83 - 84.

[2] سجع القرآن الفريد، ص: 96.

[3] لسان العرب، 11 / 622.

[4] الإتقان في علوم القرآن، 2 / 97.

[5] البرهان في علوم القرآن، 1 / 53.

[6] ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، ص: 97.

[7] التصوير الفني في القرآن، ص: 109.

[8] النكت في إعجاز القرآن، ص:98.

[9] أبجد العلوم الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم، 2/ 570.

[10] البيان في روائع القرآن دراسة لغوية وأسلوبية للنص القرآني، ص: 285 - 283.

[11] دلائل الإعجاز، ص: 387.

[12] دلائل الإعجاز، ص: 389 - 390.

[13] دلائل الإعجاز، ص: 391.

[14] إعجاز القرآن الكريم، ص: 81.

[15] الكشاف، 1/ 65.

[16] إرشاد العقل السليم، 1/ 19.

[17] التحرير والتنوير، 1/ 189.

[18] الإتقان في علوم القرآن، 3/ 252.

[19] روح المعاني، 27/ 58.

[20] الكشاف، 1/ 45.

[21] بدائع الفوائد، 1/ 32

[22] التحرير والتنوير، 1/ 172؛ بتصرف.

[23] الجامع لأحكام القرآن، 14/ 179

[24] زاد المسير في علم التفسير، 2/ 151.

[25] التفسير الكبير، 25/ 191.

[26] البحر المحيط، 1/ 111.

[27] التفسير الكبير، 25/ 258.

[28] تفسير الشعراوي، 1/ 4657.

[29] التفسير المنير، 13/ 232، (بتصرف).

[30] تفسير القرآن العظيم، 2/ 67.

[31] تفسير النسفي، 1/ 288.

[32] روح المعاني، مج: 8، ج: 12، ص: 159.

[33] الإعراب المفصل لكتاب الله المرتل، 6/ 45.

[34] التحرير والتنوير، 13/ 237.

[35] التفسير الكبير، 3/ 43.

[36]التحرير والتنوير، مج: 4، 6/ 139.

[37] التفسير الكبير، 11/ 149 - 150.

[38] البحر المحيط، 3/ 501.

[39] تفسير القرآن العظيم، 2/ 37 - 38.

[40] نظم الدرر في تناسب الآي والسور، 2/ 525.

[41] التفسير الكبير، 11/ 103.

[42] صحيح البخاري، تحت رقم: 3411، وأخرجه مسلم، وأحمد، والترمذي، وابن ماجه، صحيح الجامع، 2/ 840.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 148.42 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 144.64 كيلو بايت... تم توفير 3.78 كيلو بايت...بمعدل (2.54%)]