فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام - الصفحة 37 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان . (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 25 - عددالزوار : 4183 )           »          تأملات قرآنية وتدبرية .....يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 25 - عددالزوار : 3886 )           »          المجموع شرح المهذب للنووي(كتاب الصيام)يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 25 - عددالزوار : 3350 )           »          مواعظ رمضانية... يوميا فى شهر رمضان المبارك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 25 - عددالزوار : 4106 )           »          الهمم الشبابية العالية والنفحات الإلهية والإيمانية في رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 25 - عددالزوار : 3917 )           »          أكلات رمضانية شهية بالصور والمقادير --- وصفات وأطباق رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 25 - عددالزوار : 2978 )           »          شرح كتاب الحج من صحيح مسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 45 - عددالزوار : 27084 )           »          قيام ليلة عيد الفطر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          حكم صلاة العيد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          التأخير لصلاة عيد الفطر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #361  
قديم 07-02-2025, 07:47 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 149,379
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ يُونُسَ
المجلد العاشر
الحلقة( 361)

من صــ 106 الى صـ 120





وأما " العموم اللفظي " فما أنكره أيضا إمام ولا طائفة لها مذهب مستقر في العلم ولا كان في " القرون الثلاثة " من ينكره؛ وإنما حدث إنكاره بعد المائة الثانية وظهر بعد المائة الثالثة وأكبر سبب إنكاره إما من المجوزين للعفو من " أهل السنة ". ومن أهل المرجئة من ضاق عطنه لما ناظره الوعيدية بعموم آيات الوعيد وأحاديثه فاضطره ذلك إلى أن جحد العموم في اللغة والشرع فكانوا فيما فروا إليه من هذا الجحد كالمستجير من الرمضاء بالنار. ولو اهتدوا للجواب السديد " للوعيدية ": من أن الوعيد في آية وإن كان عاما مطلقا فقد خصص وقيد في آية أخرى - جريا على السنن المستقيمة - أولى بجواز العفو عن المتوعد وإن كان معينا.
تقييدا للوعيد المطلق؛ وغير ذلك من الأجوبة وليس هذا موضع تقرير ذلك؛ فإن الناس قد قرروا العموم بما يضيق هذا الموضع عن ذكره. وإن كان قد يقال: بل العلم بحصول العموم من صيغه ضروري من اللغة والشرع والعرف والمنكرون له فرقة قليلة يجوز عليهم جحد الضروريات أو سلب معرفتها؛ كما جاز على من جحد العلم بموجب الأخبار المتواترة وغير ذلك من المعالم الضرورية. وأما من سلم أن العموم ثابت وأنه حجة.
وقال: هو ضعيف أو أكثر العمومات مخصوصة وأنه ما من عموم محفوظ إلا كلمة أو كلمات. فيقال له: " أولا " هذا سؤال لا توجيه له؛ فإن هذا القدر الذي ذكرته لا يخلو: إما أن يكون مانعا من الاستدلال بالعموم أو لا يكون، فإن كان مانعا فهو مذهب منكري العموم من الواقفة والمخصصة وهو مذهب سخيف لم ينتسب إليه. وإن لم يكن مانعا من الاستدلال فهذا كلام ضائع غايته أن يقال: دلالة العموم أضعف من غيره من الظواهر وهذا لا يقر؛ فإنه ما لم يقم الدليل المخصص وجب العمل بالعام. ثم يقال " ثانيا ": من الذي سلم لكم أن العموم المجرد الذي لم يظهر له مخصص دليل ضعيف؟ أم من الذي سلم أن أكثر العمومات مخصوصة؟ أم من الذي يقول ما من عموم إلا قد خص إلا قوله: {بكل شيء عليم}؟ فإن هذا الكلام وإن كان قد يطلقه بعض السادات من المتفقهة وقد يوجد في كلام بعض المتكلمين في أصول الفقه فإنه من أكذب الكلام وأفسده. والظن بمن قاله " أولا " أنه إنما عنى أن العموم من لفظ " كل شيء " مخصوص إلا في مواضع قليلة كما في قوله:
{تدمر كل شيء} {وأوتيت من كل شيء} {فتحنا عليهم أبواب كل شيء} وإلا فأي عاقل يدعي هذا في جميع صيغ العموم في الكتاب والسنة وفي سائر كتب الله وكلام أنبيائه وسائر كلام الأمم عربهم وعجمهم. وأنت إذا قرأت القرآن من أوله إلى آخره وجدت غالب عموماته محفوظة؛ لا مخصوصة. سواء عنيت عموم الجمع لأفراده أو عموم الكل لأجزائه أو عموم فهو مذهب منكري العموم من الواقفة والمخصصة وهو مذهب سخيف لم ينتسب إليه.
وإن لم يكن مانعا من الاستدلال فهذا كلام ضائع غايته أن يقال: دلالة العموم أضعف من غيره من الظواهر وهذا لا يقر؛ فإنه ما لم يقم الدليل المخصص وجب العمل بالعام. ثم يقال " ثانيا ": من الذي سلم لكم أن العموم المجرد الذي لم يظهر له مخصص دليل ضعيف؟ أم من الذي سلم أن أكثر العمومات مخصوصة؟ أم من الذي يقول ما من عموم إلا قد خص إلا قوله: {بكل شيء عليم}؟ فإن هذا الكلام وإن كان قد يطلقه بعض السادات من المتفقهة وقد يوجد في كلام بعض المتكلمين في أصول الفقه فإنه من أكذب الكلام وأفسده. والظن بمن قاله " أولا " أنه إنما عنى أن العموم من لفظ " كل شيء " مخصوص إلا في مواضع قليلة كما في قوله: {تدمر كل شيء} {وأوتيت من كل شيء} {فتحنا عليهم أبواب كل شيء} وإلا فأي عاقل يدعي هذا في جميع صيغ العموم في الكتاب والسنة وفي سائر كتب الله وكلام أنبيائه وسائر كلام الأمم عربهم وعجمهم. وأنت إذا قرأت القرآن من أوله إلى آخره وجدت غالب عموماته محفوظة؛ لا مخصوصة. سواء عنيت عموم الجمع لأفراده أو عموم الكل لأجزائه أو عموم الله؟ {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فهل في المغضوب عليهم والضالين أحد لا يجتنب حاله التي كان بها مغضوبا عليه أو ضالا؟ {هدى للمتقين} {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} الآية. فهل في هؤلاء المتقين أحد لم يهتد بهذا الكتاب؟ {والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك}. هل فيما أنزل الله ما لم يؤمن به المؤمنون لا عموما ولا خصوصا؟ {أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} هل خرج أحد من هؤلاء المتقين عن الهدى في الدنيا وعن الفلاح في الآخرة؟.
ثم قوله: {إن الذين كفروا} قيل: هو عام مخصوص وقيل: هو لتعريف العهد فلا تخصيص فيه؛ فإن التخصيص فرع على ثبوت عموم اللفظ؛ ومن هنا يغلط كثير من الغالطين يعتقدون أن اللفظ عام ثم يعتقدون أنه قد خص منه؛ ولو أمعنوا النظر لعلموا من أول الأمر أن الذي أخرجوه لم يكن اللفظ شاملا له ففرق بين شروط العموم وموانعه وبين شروط دخول المعنى في إرادة المتكلم وموانعه. ثم قوله: {لا يؤمنون} أليس هو عاما لمن عاد الضمير إليه عموما محفوظا؟ {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم} أليس هو عاما في القلوب وفي السمع وفي الأبصار وفي المضاف إليه هذه الصفة عموما لم يدخله تخصيص؟ وكذلك (ولهم) وكذلك في سائر الآيات إذا تأملته إلى قوله: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم} فمن الذين خرجوا من هذا العموم الثاني فلم يخلقهم الله له؟ وهذا باب واسع.
وإن مشيت على آيات القرآن كما تلقن الصبيان وجدت الأمر كذلك؛ فإنه سبحانه قال: {قل أعوذ برب الناس} {ملك الناس} {إله الناس} فأي ناس ليس الله ربهم؟ أم ليس ملكهم؟ أم ليس إلههم؟ ثم قوله: {من شر الوسواس الخناس} إن كان المسمى واحدا فلا عموم فيه وإن كان جنسا فهو عام فأي وسواس خناس لا يستعاذ بالله منه؟. وكذلك قوله: {برب الفلق} أي جزء من " الفلق " أم أي (فلق ليس الله ربه؟ {من شر ما خلق} أي شر من المخلوق لا يستعاذ منه؟ {ومن شر النفاثات} أي نفاثة في العقد لا يستعاذ منها؟ وكذلك قوله: {ومن شر حاسد} مع أن عموم هذا فيه بحث دقيق ليس هذا موضعه. ثم " سورة الإخلاص " فيها أربع عمومات: {لم يلد} فإنه يعم جميع أنواع الولادة وكذلك {ولم يولد} وكذلك {ولم يكن له كفوا أحد} فإنها تعم كل أحد وكل ما يدخل في مسمى الكفؤ فهل في شيء من هذا خصوص؟. ومن هذا الباب كلمة الإخلاص التي هي أشهر عند أهل الإسلام من كل كلام وهي كلمة " لا إله إلا الله " فهل دخل هذا العموم خصوص قط؟ فالذي يقول بعد هذا:
ما من عام إلا وقد خص إلا كذا وكذا إما في غاية الجهل وإما في غاية التقصير في العبارة؛ فإن الذي أظنه أنه إنما عنى: " من الكلمات التي تعم كل شيء " مع أن هذا الكلام ليس بمستقيم؛ وإن فسر بهذا؛ لكنه أساء في التعبير أيضا؛ فإن الكلمة العامة ليس معناها أنها تعم كل شيء؛ وإنما المقصود أن تعم ما دلت عليه أي ما وضع اللفظ له وما من لفظ في الغالب إلا وهو أخص مما هو فوقه في العموم وأعم مما هو دونه في العموم والجميع يكون عاما. ثم عامة كلام العرب وسائر الأمم إنما هو أسماء عامة والعموم اللفظي على وزان العموم العقلي وهو خاصية " العقل " الذي هو أول درجات التمييز بين الإنسان وبين البهائم.
فإن قيل: سلمنا أن ظاهر الكتاب والسنة يشمل النساء؛ لكن هذا العموم مخصوص؛ وذلك أن في حديث رؤية الله للرجال يوم الجمعة: {إن الرجال يرجعون إلى منازلهم فتتلقاهم نساؤهم فيقلن للرجل: لقد جئت وإن بك من الجمال أفضل مما فارقتنا عليه فيقول: إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار ويحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا به}. وهذا دليل على أن النساء لم يشاركوهم في الرؤية وإذا كان هذا في رؤية الجمعة ففي رؤية الغداة والعشي أولى؛ لأن هذا أعلى من تلك ومن لم يصلح للرؤية في الأسبوع فكيف يصلح للرؤية في كل يوم مرتين؟ وإذا انتفت رؤيتهن في هذين الموطنين ولم يثبت أن الناس يرونه في غير هذين الموطنين: فقد ثبت أن العموم مخصوص منه النساء في هذين الموطنين؛ وما سواهما لم يثبت لا للرجال ولا للنساء فلم يبق ما يدل على حصول الرؤية للنساء في موطن آخر فإما أن يبقى مطلقا عملا بالأصل النافي؛ وإما أن ينفى عن هذين الموطنين ويتوقف فيما عداهما ولا يحتج على ثبوتها فيه بتلك العمومات لوجود التخصيصات فيها. هذا غاية ما يمكن في تقرير هذا السؤال ولولا أنه أورد علي لما ذكرته لعدم توجهه. فنقول: الجواب من وجوه متعددة وترتيبها الطبيعي يقتضي نوعا من الترتيب لكن أرتبها على وجه آخر ليكون أظهر في الفهم الأول أنا لو فرضنا أنه قد ثبت أن النساء لا يرينه في الموطنين المذكورين لم يكن في ذلك ما ينفي رؤيتهن في غير هذين الموطنين فيكون ما سوى هذين الموطنين لم يدل عليه الدليل الخاص لا بنفي ولا بإثبات والدليل العام قد أثبت الرؤية في الجملة والرؤية في غير هذين الموطنين لم ينفها دليل فيكون الدليل العام قد سلم عن معارضة الخاص فيجب العمل به وهذا في غاية الوضوح. فإن من قال: رأيت رجلا فقال آخر:
لم تر أسود ولم تره في دمشق لم تتناقض القضيتان والخاص إذا لم يناقض مثله من العام لم يجز تخصيصه به فلو كان قد دل دليل على أن النساء لا يرينه بحال لكان هذا الخاص معارضا لمثله من العام أما إذا قيل: إنه دل على رؤية في محل مخصوص كيف ينفى بنفي جنس الرؤية؟ وكيف يكون سلب الخاص سلبا للعام؟ فإن قيل: لا رؤية لأهل الجنة إلا في هذين الموطنين قيل ما الذي دل على هذا؟ فإن قيل:لأن الأصل عدم ما سوى ذلك.
قيل: العدم لا يحتج به في الأخبار بإجماع العقلاء بل من أخبر به كان قائلا ما لا علم له به ولو قيل للرجل: هل في البلد الفلاني كذا وفي المسجد الفلاني كذا؟ فقال: لا؛ لأن الأصل عدمه كان نافيا ما ليس له به علم باتفاق العقلاء. ولو قال الآخر: الذين يرون الله كل يوم مرتين: هم النبيون فقط. لأن الأصل عدم رؤية غيرهم ولهم من الخصوص ما لا يشركون فيه كان هذا قولا بلا علم - إذا سلم من أن يكون كذبا - وليس هنا مفهوم يتمسك به كما في قوله: {فاجلدوهم ثمانين جلدة}. فإن الرسول لم يقل إن أهل الجنة لهم موطنان في الرؤية حتى يقول ذلك بنفي ما سواهما بل كلامه يدل على خلاف ذلك كما سنبينه ولو فرضنا أنه يجوز الحكم باستصحاب الحال في مثل هذا؛ فإن العموم والقياس حجتان مقدمتان على الاستصحاب أما " العموم " فبإجماع الفقهاء وأما " القياس " فعند جماهيرهم. ومعلوم أن " العموم " و " القياس " يقتضيان ثبوت الرؤية كما تقدم فلا يجوز نفيها بالاستصحاب وإن جاز تخصيص ذلك بنقص عقل النساء.
فينبغي أن يقال: " البله " و " أهل الجفاء " من الأعراب ونحوهم ممن يدخل الجنة لا يرى الله؛ فإنه لا ريب أن في النساء من هو أعقل من كثير من الرجال حتى إن المرأة تكون شهادتها نصف شهادة الرجل والمغفل ونحوه ترد شهادتهما بالكلية وإن لم يكن مجنونا؛ وقد {قال النبي صلى الله عليه وسلم كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع} أكمل ممن لم يكمل من الرجال؛ ففي أي معقول تكون الرؤية للناقص دون الكامل.
الجواب الثاني:


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #362  
قديم 07-02-2025, 07:55 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 149,379
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ يُونُسَ
المجلد العاشر
الحلقة( 362)

من صــ 121 الى صـ 135




أن نقول: نفس الحديث المحتج به دل على أن لأهل الجنة رؤية في مواطن عديدة فإنه {قال: وأعلى أهل الجنة منزلة من يرى الله كل يوم مرتين غدوة وعشية} فإذا كانت هذه للأعلى فمفهومه أن الأدنى له دون ذلك ولا يجوز أن يقصر ما دون ذلك على " رؤية الجمعة " لأنه لا دليل عليه؛ بل يجوز أن يراه بعضهم كل يوم مرة وبعضهم كل يومين مرة وبعضهم أكثر من ذلك والحكمة تقتضي ذلك؛ فإن " يوم الجمعة يشترك فيه جميع الرجال من الأعلين والمتوسطين ومن دونهم. وكل يوم مرتين للأعلين فالذين هم فوق الأدنين ودون الأعلين لا بد أن يميزوا عمن دونهم؛ كما نقصوا عمن فوقهم.
الجواب الثالث أنه قد جاءت الأحاديث برؤية الله في غير هذين الموطنين منها: ما رواه ابن ماجه في " سننه " والدارقطني في " الرؤية " عن الفضل بن عيسى بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: {قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رءوسهم فإذا الرب تبارك وتعالى أشرف عليهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة وهو قول الله: {سلام قولا من رب رحيم} فلا يلتفتون إلى شيء مما هم فيه من النعيم ما دام الله بين أظهرهم حتى يحتجب عنهم وتبقى فيهم بركته ونوره}
ورويناه من طريق أخرى معروفة إلى سلمة بن شبيب حدثنا بشر بن حجر حدثنا عبد الله بن عبيد الله عن محمد بن المنكدر عن جابر قال:
{قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما أهل الجنة في ملكهم ونعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رءوسهم فإذا الرب تبارك وتعالى قد أشرف عليهم من فوقهم فيقول: السلام عليكم يا أهل الجنة فذلك قوله تبارك وتعالى: {سلام قولا من رب رحيم} فينظرون إليه وينظر إليهم فلا يلتفتون إلى شيء من الملك والنعيم حتى يحتجب عنهم قال: فيبقى نوره وبركته عليهم وفي ديارهم}. وهذه الطريق تنفي أن يكون قد تفرد به الفضل الرقاشي وهذا الحديث بعمومه يقتضي أن جميعهم يروونه لكن لم يستدل به ابتداء لأن في إسناده مقالا والمقصود هنا أنه قد روى ذلك وهو ممكن ولا سبيل إلى دفعه في نفس الأمر والعمومات الصحيحة تثبت جنس ما أثبته هذا الحديث.
وأيضا فالحديث الصحيح {إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟ فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه}.

فهذا ليس هو نظر الجمعة؛ لأن هذا عند الدخول ولم يكونوا ينتظرونه ولا اجتمعوا لأجله ونظر الجمعة يقدمون إليه من منازلهم ويجتمعون لأجله كما جاءت به الأحاديث وبين هذا التجلي وذاك فرق تدل عليه الأحاديث؛ ولا هذا التجلي من المرتين اللتين تختص بالأعلين بل هو عام لمن دخل الجنة كما دل عليه الحديث موافقا لقوله: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} - {أولئك أصحاب الجنة}.
وأيضا فقد جاء موقوفا على ابن عباس وعن كعب الأحبار مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم {أنهم يرونه في كل يوم عيد}.
وأيضا فقد ثبت بالنصوص المتواترة في عرصات القيامة قبل دخول الجنة أكثر من مرة وهذا خارج عن المرتين؛ إلا أن يقال: وإن كان لم يقل: ولا في سؤال السائل ما يدل عليه فهو مبطل لحصره قطعا ومن أراد أن يحترز عنه يصوغ السؤال على غير ما تقدم وإنما صغناه كما أورد علينا.

وأيضا فقد قال تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} {قال النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر} فكيف يمكن أن يقال: إن من سوى الأعلين لا يرى الله قط إلا في الأسبوع مرة؟ ويقضي ذلك الدليل على ما قد أخفاه عن كل نفس؛ ونفى علمه من كل عين وسمع وقلب وفرق بين عدم العلم والعلم بالعدم. وبين عدم الدليل؛والدليل على العدم فإذا لم يكن مع الإنسان فيما سوى الموطن سوى عدم العلم وعدم الدليل لم يكن ذلك مانعا من موجب الدليل العام بالاضطرار وبالإجماع. ونكتة الجواب الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم. إذا قال: إن أهل الجنة يرون الله تعالى وفسر به قوله تعالى {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} إلى قوله:

{أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} فأعلمنا بهذا أن أصحاب الجنة لهم " الزيادة " التي هي النظر إليه وقد علمنا أن أهل الجنة وأصحاب الجنة منهم النساء المحسنات أكثر من الرجال. وقال لنا - مثلا -: يوم الجمعة يراه الرجال دون النساء وقال لنا أيضا: لا يراه كل يوم مرتين إلا أعلى أهل الجنة وفرضنا أن النساء لا يرينه بحال - كل يوم مرتين - ولا يوم الجمعة ولا فيما سوى ذلك قط وهذا وإن كان من وقف على هذا الكلام يعلم أنه لا خلاف بين العلماء؛ بل ولا بين العقلاء في أنه لا يدل على نفي جنس " الرؤية " ولا يخص ذلك اللفظ العام ولا يقيد ذلك المطلق - فإنما رددت الكلام فيه للمنازعة فيه فلا يظن أنا أطلنا النفس فيه لخفائه؛ بل لرده مع جلائه. ولك أن تعبر عن " هذا الجواب " بعبارات.
إن شئت أن تقول: " أحاديث الإثبات " أثبتت رؤية مطلقة للرجال وللنساء ونفي المقيد لا ينفي المطلق فلا يكون المطلق منفيا فلا يجوز نفي موجبه. وإن شئت أن تقول: " أحاديث الإثبات " تعم الرجال والنساء و " أحاديث النفي " تنفي عن النساء ما علم أنه للرجال أو ما ثبت أن فيه الرؤية أو تنفي عن النساء الرؤية في الموطنين اللذين أخبروا بالرؤية فيهما؛ لكن هذا سلب في حال مخصوص؛ لم يتعرض لما سواهما: لا بنفي ولا بإثبات؛ والمسلوب عنه لا يعارض العام.
وإن شئت أن تقول: القضية الموجبة المطلقة لا يناقضها إلا سلب كلي؛ وليس هذا سلبا كليا فلا يناقض ولا يجوز ترك موجب أحد الدليلين وإن شئت أن تقول: ليس في ذكر هذين الموطنين إلا عدم الإخبار بغيرهما وعدم الإخبار بثواب معين - من نظر أو غيره - لا يدل على عدمه كيف وهذا الثواب مما أخفاه الله؟ وإذا كان عدم الإخبار لا يدل على عدمه. والعموم اللفظي والمعنوي إما قاطع وإما ظاهر في دخول النساء لم يكن عدم الدليل مخصصا للدليل - سواء كان ظاهرا أو قاطعا - وكل هذا كما أنه معلوم بالعقل الضروري فهو مجمع عليه بين الأمة على ما هو مقرر عند العلماء في الأصول والفروع. وإنما ينشأ الغلط من حيث يسمع السامع ما جاء في الأحاديث في " الرؤية " عامة مطلقة ويرى أحاديث أخر أخبرت برؤية مقيدة خاصة فيتوهم أن لا وجود لتلك المطلقة العامة إلا في هذه المقيدة أو ينفي دلالة تلك العامة؛ لهذا الاحتمال كرجل قال: كنت أدخل أصحابي داري وأكرمهم. ثم قال في موطن آخر: أدخلت داري فلانا وفلانا من أصحابي في اليوم الفلاني فمن ظن أن سائر أصحابه لم يدخلهم - لأنه لم يذكرهم في هذا الموطن - فقد غلط وقيل له: من أين لك أنه ما أدخلهم في وقت آخر؟ فإذا قال: يمكن أنه أدخلهم ويمكن أنه ما أدخلهم فأنا أقف قيل له: فقد قال: كنت أدخل أصحابي داري وهذا يعم جميع أصحابه.
ونحن لا ننازع في أن " اللفظ العام " يحتمل الخصوص في الجملة مع عدم هذه القرينة فمع وجودها أوكد؛ لكن ننازع في " الظهور " فنقول: هذا الاحتمال المرجوح لا يمنع ظهور العموم كما تقدم فيكون العموم هو الظاهر - وإن كان ما سواه ممكنا - وأما سائر " الأجوبة " ففي تقرير أن " الرؤية " تقع في غير هذين الموطنين. الجواب الرابع أنا لو فرضنا أن " حديث المرتين كل يوم " يعارض ما قدمناه من النصوص الصحيحة العامة - لفظا ومعنى - لما كان الواجب دفع دلالة تلك الأحاديث بمثل هذا الحديث؛ لما تقدم " أولا " لما في إسناده من المقال؛ ولأنه يستلزم إخراج أكثر أفراد اللفظ العام بمثل هذا التخصيص وهذا إما ممتنع وإما بعيد ومستلزم تخصيص العلة بلا وجود مانع ولا فوات شرط وهذا ممتنع عند الجمهور؛ أو من غير ظهور مانع وهذا بعيد لا يصار إليه إلا بدليل قوي.



الجواب الخامس لو فرضنا أن لا رؤية إلا ما في هذين فمن أين لنا أن النساء لا يرين الله فيهما جميعا؟ وهب أنا سلمنا أنهن لا يرينه يوم الجمعة فمن أين أنهن لا يرينه كل يوم مرتين؟ وقول القائل: هذه أعلى وتلك أدنى فكيف يحرم الأدنى من يعطي الأعلى؟ فعنه أجوبة:أحدها: أن الذين ميزوا برؤية كل يوم مرتين شركوا الباقين في رؤية يوم الجمعة فصار لهم النوعان جميعا؛ فإذا كان فضلهم بالنوعين جميعا فما المانع في أن بعض من دونهم يشركهم في " الجمعة " دون " رؤية الغداة والعشي " والبعض الآخرون يشركونهم في " الغداة والعشي " دون " الجمعة "
ولا يكون من له الغداة والعشي دون الجمعة أعلى مطلقا؛ وإنما الأعلى مطلقا الذي له الجميع. لكن قد يقال: يلزم على هذا أن يكون النساء أعلى ممن له الجمعة دون " البردين " من الرجال فيقال: قد لا يلزم هذا؛ بل قد تكون الجمعة وحدها أفضل من " البردين " وحدهما. وقد يقال: فهب أن الأمر كذلك. أكثر ما فيه تفضيل النساء على مفضول الرجال وهذا الاحتمال وإن كان ممكنا؛ لكن يبعد أن تكون كل امرأة تدخل الجنة أفضل ممن لا يرى الله كل يوم مرتين؛ فإن ذلك مستلزم أن يكون مفضول النساء أفضل من مفضول الرجال فيترك هذا الاحتمال ويقتصر على الذي قيل وهو: أن الأعلى مطلقا الذي له المرتان مع الجمعة وإنما لزم هذا لأنا نتكلم بتقدير أن لا رؤية إلا هذين؛ ولا ريب أن هذا التقدير باطل قطعا. (الوجه الثاني: أنه من أين لكم أن " الرؤية كل يوم مرتين " أفضل من " رؤية الجمعة "؟ نعم هي أكثر عددا لكن قد يفضل ذلك في الكيفية فيكون أحد النوعين أكثر عددا والآخر أفضل نوعا: كدينار وخمسة دراهم ولا ريب أن هذا ممكن إمكانا قريبا؛ فإن الله يثيب عبده على: {قل هو الله أحد} مع قلة حروفها بقدر ما يثيبه على ثلث القرآن. وإذا كان الأمر كذلك. فيمكن في حق من حرم الأفضل في نوعه أن يعطى النوع المفضول وإن كثر عدده سواء كان فاضل النوع أفضل مطلقا أو كانا متكافئين عند التقابل؛ وفي أحاديث المزيد ما يدل على هذا؛ فإنهم يرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا فيقولون: إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار فيحق لنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا به. وفي حديث آخر: {فليسوا إلى شيء أحوج منهم إلى يوم الجمعة ليزدادوا نظرا إلى ربهم ويزدادوا كرامة}. ومن تأمل سياق " الأحاديث المتقدمة " علم أن التجلي يوم الجمعة له عندهم وقع عظيم لا يوجد مثله في سائر الأيام؛ وهذا يقتضي أن هذا النوع أفضل من الرؤية الحاصلة كل يوم مرتين وإن كانت تلك أكثر فإذا منع النساء من هذا الفضل لم يلزم أن يمنعن مما دونه وهذا بين لمن تأمله.
(الوجه الثالث: هب أن رؤية الله كل يوم مرتين أفضل مطلقا من رؤية الجمعة فلا يلزم حرمانهن من الثواب المفضول حرمان ما فوقه مطلقا؛ وذلك أن العبد قد يعمل عملا فاضلا يستحق به أجرا عظيما ولا يعمل ما هو دونه فلا يستحق ذلك الأجر وما زال الله سبحانه يخص المفضولين من كل صنف بخصائص لا تكون للفاضلين وهذا مستقر في الأشخاص من الأنبياء والصديقين وفي الأعمال.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #363  
قديم 07-02-2025, 08:03 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 149,379
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ يُونُسَ
المجلد العاشر
الحلقة( 363)

من صــ 136 الى صـ 150






ولو كان العمل الفاضل يحصل به جميع المفضول مطلقا لما شرع المفضول في وقت؛ فلا يلزم من إعطاء الأعلى إعطاء الأدنى مطلقا ولا يلزم منه منع الأعلى مطلقا فهذا ممكن إمكانا شرعيا في عامة الثوابات ألا ترى أن الذين في الدرجات العلى من أهل الجنة لا يعطون الدرجات الدنى ثم لا يكون هذا نقصا في حقهم؛ فإن الله سبحانه يرضي كل عبد بما آتاه فجاز أن يكون قد أرضى النساء بأعلى " الرؤية " عن مجموع أعلاها وأدناها. والذي يؤيد هذا أنه من الممكن أن تكون رؤية الجمعة جزاء على عمل الجمعة في الدنيا؛ ورؤية الغداة والعشي جزاء على عمل الغداة والعشي فهذا ممكن في العقل وإن لم يجئ به خبر؛ وإذا كان ممكنا لم يلزم من منعهن " رؤية الجمعة " لعدم المقتضي فيهن منعهن " رؤية البردين " مع قيام المقتضي فيهن.
ومن الممكن في العقل أنهن إنما لم يشهدن رؤية الجمعة لأنه مجتمع الرجال. والغيرة في الجنة؛ ألا ترى {أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الجنة ورأى قصرا وعلى بابه جارية قال: فأردت أن أدخل فذكرت غيرتك فقال عمر: أعليك أغار؟}. والله أعلم بحقائق الأمور فإذا كان كذلك فهذا منتف في رؤية الغداة والعشي؛لأن تلك الرؤية قد تحصل وأهل الجنة في منازلهم. ثم هذا من الممكن أن " الرؤية جزاء العمل " فإنه قد جاء في الأخبار ما يدل على أن الرؤية يوم الجمعة ثواب شهود الجمعة؛ بدليل أن فيها يكونون في الدنو منه على مقدار مسارعتهم إلى الجمعة وتفاوت الثواب بتفاوت العمل دليل على أنه مسبب عنه وبدليل أنه مذكور في غير حديث " إنه يكون بمقدار انصرافهم من صلاة الجمعة في الدنيا ".
وموافقة الثواب للعمل في وقته وفي قدره حتى يصير جزاء وفاقا: يقتضي أن العمل سببه؛ وبدليل أن ذلك مذكور في فضل يوم الجمعة في الدنيا والآخرة فعلم أن ارتباط ثوابه في الآخرة بعمله في الدنيا؛ وبدليل أن فيه عند منصرف الناس من الجمعة رجوع الصالحين إلى منازلهم ورجوع الأنبياء والصديقين والشهداء إلى ربهم.
وهذا مناسب لحالهم في الدنيا؛ فإن الصالح إذا انقضت الجمعة اشتغل بما أبيح له في الدنيا وأولئك اشتغلوا بالتقرب إليه بالنوافل فكانوا متقربين إليه في الدنيا بعد الجمعة فقربوا منه بعد الجمعة في الآخرة وهذه " المناسبة الظاهرة " المشهود لها بالاعتبار تقتضي أن ذلك التجلي ثواب أعمالهم يوم الجمعة وإذا كان كذلك فانتفاء الرؤية في حق النساء لعدم شهودهن الجمعة؛ ولهذا روي أنهن يرينه في العيد كما شرع لهن شهود العيد. فإن قيل: ما ذكرتموه من هذه الزيادة أمر غريب والأحاديث المشهورة المجمع عليها ليس فيها هذه الزيادة فلا يجوز الاعتماد عليها والناس كلهم قد سمعوا أحاديث الرؤية يوم الجمعة ولم يسمعوا هذه الزيادة.
قلنا: قد تقدم الجواب عن ذلك بما ذكرناه من طرق الحديث وحال أصله وزيادته وبينا أن الزيادة لا ينقص حكمها في الرؤية عن حكم أصل الحديث نقصا يمنع إلحاقها به؛ بل هي إما مكافئة أو قريبة أو فوق واجبنا عما قيل هنا وما لم يقل. فإن قيل: {فقد كن المؤمنات يشهدن صلاة الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم} فعلى قياس هذا ينبغي لمن شهد الجمعة من النساء أن يشهدن يوم المزيد في الجنة. قلنا: ما كان يشهد الجمعة والجماعة من النساء إلا أقلهن؛ لأن {النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن} متفق عليه. وقال: {صلاة إحداكن في مخدعها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في حجرتها أفضل من صلاتها في دارها وصلاتها في دارها أفضل من صلاتها في مسجد قومها وصلاتها في مسجد قومها أفضل من صلاتها معي - أو قال - خلفي} رواه أبو داود. فقد أخبر المؤمنات: أن صلاتهن في البيوت أفضل لهن من شهود الجمعة والجماعة إلا " العيد " فإنه أمرهن بالخروج فيه ولعله - والله أعلم - لأسباب:أحدها: أنه في السنة مرتين فقبل بخلاف الجمعة والجماعة.
الثاني: أنه ليس له بدل خلاف الجمعة والجماعة فإن صلاتها في بيتها الظهر هو جمعتها.

الثالث: أنه خروج إلى الصحراء لذكر الله فهو شبيه بالحج من بعض الوجوه؛ ولهذا كان العيد الأكبر في موسم الحج موقفة للحجيج ومعلوم أن الصحابيات إذا علمن أن صلاتهن في بيوتهن أفضل لم يتفق أكثرهن على ترك الأفضل؛ فإن ذلك يلزم أن يكون أفضل القرون على المفضول من الأعمال. فإن قيل: هذا التفضيل إنما وقع في حق من بعد الصحابيات لما أحدث النساء ما أحدثن ولأن من بعد الرسول من الأئمة لا يساويه؛ فأما الصحابيات فصلاتهن خلف النبي صلى الله عليه وسلم كانت أفضل ويكون هذا الخطاب عاما خرج منه القرن الأول؛ فإن تخصيص العموم جائز.
قلنا: هذا خلاف ما علم بالاضطرار من لغة العرب والعجم وخلاف ما علم بالاضطرار من دين المسلمين وخلاف ما فطر الله عليه العقلاء وخلاف ما أجمع المسلمون عليه؛ وذلك لأن قوله: {لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن} قد أجمع المسلمون على أن الحاضرين تحقق دخولهم فيه. واختلفوا في القرن الثاني والثالث هل يدخلون بمطلق الخطاب أم بدليل منفصل؟ فيه قولان فأما دخول الغائب دون الحاضر فممتنع باتفاق. ثم اللغة تحيله فإن قوله: {لا تمنعوا إماء الله} لا ريب أنه خطاب للصحابة - رضي الله عنهم - ابتداء فكيف تحيل اللغة أن لا يدخلوا فيه. ويدخل فيه من بعدهم؟ أهل اللغة لا يشكون أن هذا ممتنع.
ثم قد علمنا بالاضطرار أن أوامر القرآن والسنة شملت الصحابة ثم من بعدهم وقد يقال أو يتوهم في بعضها: أنها شملتهم دون من بعدهم فأما اختصاص من بعدهم بالأوامر الخطابية دونهم فهذا لا وجود له. وأما مخالفته " للفطر " فما من سليم العقل يعرض عليه هذا إلا أنكره أشد الإنكار ثم هب هذا أمكن في قوله: {لا تمنعوا إماء الله مساجد الله} فكيف بقوله: {صلاة إحداكن في مسجد قومها أفضل من صلاتها معي أو خلفي}؟ أليس نصا في صلاتهن في بيوتهن وفي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم خلفه؟ وصلى الله على محمد.

سئل - رحمه الله تعالى -:ما هو " لقاء الله سبحانه؟ " الذي وصف بظنه الخاشعين بقوله تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون} وأمر بعلمه المتقين في قوله تعالى {واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه} وبشر بالإقرار به عند المصيبة الصابرين وأشار إلى إتيان أجله للراجين بقوله تعالى: {من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت} واشتهر ذكره في غير حديث من كلام سيد المرسلين كقوله في دعائه: {لقاؤك حق} وقوله: {من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه} الحديث؟؟. وهل يصح قول بعض المفسرين من أنه متعلق بمحذوف تقديره جزاء ربهم أو نحوه بكونه مما لا يصح أن يضاف إلى الله تعالى حقيقة فيستحيل ظاهره ويكون المراد منه غير ظاهره ويصار فيه إلى تأويل معين؟ أم هو مستغن عن ذلك لجوازه في نفسه؟ وكيف يتصور منا محبة من لا نعرفه ولا نطلع عليه؟ أم كيف يتأتى شوقه وحنين القلوب إليه وإيثاره على ما سواه مما هو عندنا معروف ولقلوبنا مألوف؟ ولنا به منفعة عاجلة ولذة حاصلة.
وقد قالت عائشة رضي الله عنها كراهية الموت وكلنا نكره الموت. فرد صلى الله عليه وسلم قولها بما تضمنه الحديث {من رؤية المؤمن ما له عند الله من النعيم فأحب الله لقاءه} الحديث. وقد يعترض على هذا سؤال وهو أنه إذا كان حبه اللقاء لما رآه من النعيم فالمحبة حينئذ للنعيم العائد إليه لا لمجرد لقاء الله تعالى فكيف يجازى عليه بحب الله تعالى لقاءه ومحبته غير خالصة وإنما يتقبل الله من الأعمال ما كان خالصا. بينوا لنا هذه الأمور البيان الشافي بالجواب الصحيح الكافي طلبا للأجر الوافي إن شاء الله تعالى؟.
فأجاب - رضي الله عنه وأرضاه -:الحمد لله، " أما اللقاء " فقد فسره طائفة من السلف والخلف بما يتضمن المعاينة والمشاهدة بعد السلوك والمسير؛ وقالوا: إن لقاء الله يتضمن رؤيته سبحانه وتعالى واحتجوا بآيات " اللقاء " على من أنكر رؤية الله في الآخرة من الجهمية كالمعتزلة وغيرهم. وروي عن عبد الله بن المبارك أنه قال. في قوله: {فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} ولا يرائي أو قال: ولا يخبر به أحدا وجعلوا اللقاء يتضمن معنيين: أحدهما: السير إلى الملك والثاني معاينته. كما قال: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه} فذكر أنه يكدح إلى الله فيلاقيه والكدح إليه يتضمن السلوك والسير إليه واللقاء يعقبهما. وأما المعاينة من غير مسير إليه - كمعاينة الشمس والقمر - فلا يسمى لقاء. وقد يراد باللقاء الوصول إلى الشيء والوصول إلى الشيء بحسبه.
ومن دليل ذلك أن الله تعالى قد قال: {إذا لقيتم فئة فاثبتوا} {إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار} وقال: {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم} الآية. وقال: {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم} وقال: {وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم}. وقال تعالى: {قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين}. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا} وفي الصحيحين {عن أبي هريرة أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم في طريق من طرق المدينة وهو جنب فانفتل فذهب فاغتسل؛ ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فلما جاء قال: أين كنت؟ قال يا رسول الله لقيتني وأنا جنب فكرهت أن أجالسك حتى أغتسل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحان الله إن المؤمن لا ينجس} وفي لفظ:{لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم} وهو في مسلم عن حذيفة أيضا {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقيه وهو جنب فذكر معناه}. وفي صحيح مسلم عن بريدة {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال} الحديث. وفي حديث عتبة بن عبيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {القتلى ثلاثة: رجل مؤمن جاهد بماله ونفسه في سبيل الله حتى إذا لقي عدوا قاتلهم حتى يقتل فذلك الشهيد المفتخر في خيمة الله تحت ظل عرشه لا يفضله إلا النبيون بدرجة النبوة ورجل فرق على نفسه من الذنوب والخطايا جاهد بنفسه وماله في سبيل الله حتى إذا لقي العدو قاتل حتى قتل فمصمصة تحت ذنوبه وخطاياه إن السيف محاء للخطايا وأدخل من أي أبواب الجنة شاء فإن لها ثمانية أبواب ولجهنم سبعة أبواب وبعضها أفضل من بعض ورجل منافق جاهد بنفسه وماله حتى إذا لقي العدو قاتل في سبيل الله حتى قتل فإن ذلك في النار إن السيف لا يمحو النفاق} رواه أحمد وأبو حاتم في صحيحه ومثل هذا كثير في كلام العرب كقول الشاعر: متى ما تلقى فرد من ... ترجو وأبو السنل ويستعمل " اللقاء " في لقاء العدو ولقاء الولي ولقاء المحبوب ولقاء المكروه وقد يستعمل فيما يتضمن مباشرة الملاقي ومماسته مع اللذة والألم كما قال: {إذا التقى الختانان وجب الغسل} وفي الحديث الصحيح: {إذا قعد بين شعبها الأربع والتزق الختانان فقد وجب الغسل}.
ومن نحو هذا قوله: {إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم} وقوله: {فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا} وقوله: {أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما} ويقال: فلان لقي خيرا ولقي شرا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم {إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض}. وقد يقال: إن " اللقاء " في مثل هذا يتضمن معنى المشاهدة كما قال تعالى {ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه} لأن الإنسان يشاهد بنفسه هذه الأمور. وقد قيل: إن الموت نفسه يشهد ويرى ظاهرا.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #364  
قديم 07-02-2025, 08:10 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 149,379
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ يُونُسَ
المجلد العاشر
الحلقة( 364)

من صــ 151 الى صـ 165






وقيل: المرئي أسبابه. وقد جاء في الكتاب والسنة ألفاظ من نحو " لقاء الله " كقوله: {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة} وقوله: {ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا} وقوله: {وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة} وقوله: {إن ربك لبالمرصاد} وقوله: {إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه} وقوله: {كلا لا
وزر} {إلى ربك يومئذ المستقر} وقوله: {إن إلى ربك الرجعى} وقوله: {إنا لله وإنا إليه راجعون} وقوله: {إليه المصير} وقوله: {إن إلينا إيابهم} {ثم إن علينا حسابهم}. لكن يلزم هؤلاء " مسألة " تكلم الناس فيها وهي أن القرآن قد أخبر أنه يلقاه الكفار ويلقاه المؤمنون كما قال: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه} {فأما من أوتي كتابه بيمينه} {فسوف يحاسب حسابا يسيرا} {وينقلب إلى أهله مسرورا} {وأما من أوتي كتابه وراء ظهره} {فسوف يدعو ثبورا} {ويصلى سعيرا} وقد تنازع الناس في الكفار هل يرون ربهم مرة ثم يحتجب عنهم أم لا يرونه بحال تمسكا بظاهر قوله: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} ولأن الرؤية أعظم الكرامة والنعيم والكفار لا حظ لهم في ذلك.

وقالت طوائف من أهل الحديث والتصوف: بل يرونه ثم يحتجب كما دل على ذلك الأحاديث الصحيحة التي في الصحيح وغيره من حديث أبي سعيد وأبي هريرة وغيرهما مع موافقة ظاهر القرآن قالوا وقوله: {لمحجوبون} يشعر بأنهم عاينوا ثم حجبوا ودليل ذلك قوله: {إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} فعلم أن الحجب كان يومئذ. فيشعر بأنه يختص بذلك اليوم وذلك إنما هو في الحجب بعد الرؤية. فأما المنع الدائم من الرؤية فلا يزال في الدنيا والآخرة.
قالوا: ورؤية الكفار ليست كرامة ولا نعيما؛ إذ " اللقاء " ينقسم إلى لقاء على وجه الإكرام ولقاء على وجه العذاب فهكذا الرؤية التي يتضمنها اللقاء. ومما احتجوا به الحديث الصحيح حديث سفيان بن عيينة حدثنا سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة: {هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟} وقد روى مسلم وأبو داود وأحمد في المسند وابن خزيمة في التوحيد وغيره قال: {قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تضارون في رؤية الشمس ليست في سحابة؟ قالوا: لا. قال: والذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما. قال: فيلقى العبد فيقول: أي فل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى. يا رب: قال فيقول: فظننت أنك ملاقي. فيقول: لا.
فيقول: فإني أنساك كما نسيتني. ثم قال يلقى الثاني فيقول له: مثل ذلك. فيقول: أي رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع. فيقول: هاهنا إذا. قال: ثم يقال الآن نبعث شاهدنا عليك ويتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد علي فيختم على فيه ويقال لفخذه انطقي؛ فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل فذلك المنافق ليعذر من نفسه وذلك الذي يسخط الله عليه وتمام الحديث قال: ثم ينادي مناد ألا تتبع كل أمة ما كانت تعبد فتتبع الشياطين والصليب أولياؤهم إلى جهنم وبقينا أيها المؤمنون فيأتينا ربنا فيقول: ما هؤلاء؟ فنقول:
من عباد الله المؤمنين آمنا بربنا ولم نشرك به شيئا وهو ربنا تبارك وتعالى وهو يأتينا وهو يثبتنا وهو ذا مقامنا حتى يأتينا ربنا فيقول: أنا ربكم. فيقول: انطلقوا. فننطلق حتى نأتي الجسر وعليه كلاليب من نار تخطف عند ذلك حلت الشفاعة لي اللهم سلم اللهم سلم فإذا جاوزوا الجسر فكل من أنفق زوجا من المال في سبيل الله مما يملك فتكلمه خزنة الجنة تقول: يا عبد الله يا مسلم هذا خير. فقال: أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله إن هذا عبد لا توى عليه يدع بابا ويلج من آخر؟ فضرب كتفه وقال: إني أرجو أن تكون منهم} قال سفيان بن عيينة حفظته أنا وروح بن القاسم وردده علينا مرتين أو ثلاثا. وسئل سفيان عن قوله: {ترأس وتربع} فقال كان الرجل إذا كان رأس القوم كان له الرباع وهو الربع. {وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم؛ حيث قال يا رسول الله إني على دين قال: أنا أعلم بدينك منك إنك مستحل الرباع ولا يحل لك}. وهذا الحديث معناه في الصحيحين وغيرهما من وجوه متعددة يصدق بعضها بعضا؛ وفيه أنه سئل عن الرؤية فأجاب بثبوتها ثم أتبع ذلك بتفسيره وذكر أنه يلقاه العبد والمنافق وأنه يخاطبهم. وفي حديث أبي سعيد وأبي هريرة {أنه يتجلى لهم في القيامة مرة للمؤمنين والمنافقين بعد ما تجلى لهم أول مرة ويسجد المؤمنون دون المنافقين} وقد بسط الكلام على هذه المسألة في غير هذا الموضع.
وأما الجهمية من المعتزلة وغيرهم فيمتنع على أصلهم لقاء الله؛ لأنه يمتنع عندهم رؤية الله في الدنيا والآخرة وخالفوا بذلك ما تواترت به السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وما اتفق عليه الصحابة وأئمة الإسلام من أن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة واحتجوا بحجج كثيرة عقلية ونقلية قد بينا فسادها مبسوطا وذكرنا دلالة العقل والسمع على جواز الرؤية.

وهذه " المسألة " من الأصول التي كان يشتد نكير السلف والأئمة على من خالف فيها وصنفوا فيها مصنفات مشهورة. والثاني: أن عندهم لا يتصور الكدح إليه ولا العرض عليه ولا الوقوف عليه ولا أن يحبه العبد ولا أن يجده ولا أن يشار إليه ولا أن يرجع إليه ولا يئوب إليه؛ إذ هذه الحروف تقتضي أن يكون حال العبد بالنسبة إليه في الآخرة - وبينهما فضل - يقتضي تقربا إليه ودنوا منه وأن يكون حال العبد بالنسبة إليه مخالف لحاله في الدنيا وهذا كله محال عندهم فإنهم لا يقرون بأن الخالق مباين للمخلوق - كما اتفق السلف والأئمة وصرحوا بأنه مباين للخلق؛ ليس داخلا في المخلوقات ولا المخلوقات داخلة فيه - بل تارة يجعلونه حالا بذاته في كل مكان؛ وتارة يجعلون وجوده عين وجود المخلوقات وتارة يصفونه بالأمور السلبية المحضة؛ مثل كونه غير مباين للعالم ولا حال فيه فهم بين أمرين: إما أن يصفوه بما يقتضي عدمه وتعطيله فينكرونه وإن كانوا يقرون به فيجمعون - في قولهم - بين الإقرار والإنكار والنفي والإثبات. وقد يصرح بعضهم بصحة الجمع بين النقيضين ويقول: إن هذا غاية التحقيق والعرفان.
وإما أن يصفوه بما يقتضي أنه عين المخلوقات أو جزء منها أو صفة لها وذلك أيضا يقتضي قولهم بعدم الخالق وتعطيل الصانع؛ وإن كانوا مقرين بوجود موجود غيره وإن جعلوه إياه. ثم يجدون في المخلوقات مباينا في ربوبية المخلوق فيقولون بالجمع بين النقيضين - كما تقدم -. وقد يقولون بعبادة الأصنام وإن عباد الأصنام على حق وعباد العجل على حق وإنه ما عبد غير الله قط؛ إذ لا غير عندهم؛ بل الوجود واحد ويقولون بامتناع الدعوة إليه وأنه يمكن أن يتقرب إليه ويصل إليه وهم يقولون: ما عدم في البداية فيدعى إلى الغاية؛ بل هو عين المدعو فكيف يدعو إلى نفسه؟. وكلام السلف والأئمة في ذم الجهمية وتكفيرهم كثير جدا.
وهؤلاء ومن وافقهم على بعض أقوالهم التي تنفي حقيقة اللقاء يتأولون " اللقاء " على أن المراد به لقاء جزاء ربهم ويقولون إن الجزاء قد يرى كما في قوله: {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} {قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين} {فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هذا الذي كنتم به تدعون} فإن ضمير المفعول في رأوه عائد إلى الوعد والمراد به الموعود أي فلما رأوا ما وعدوا سيئت وجوه الذين كفروا. ومن قال إن الضمير عائد هنا إلى الله فقوله ضعيف وفساد قول الذين يجعلون المراد " لقاء الجزاء " دون لقاء الله معلوم بالاضطرار بعد تدبر الكتاب والسنة يظهر فساده من وجوه: - (أحدها: أنه خلاف التفاسير المأثورة عن الصحابة والتابعين. (الثاني: أن حذف المضاف إليه يقارنه قرائن فلا بد أن يكون مع الكلام قرينة تبين ذلك كما قيل في قوله: {واسأل القرية التي كنا فيها} ولو قال قائل: رأيت زيدا أو لقيته مطلقا وأراد بذلك لقاء أبيه أو غلامه لم يجز ذلك في لغة العرب بلا نزاع ولقاء الله قد ذكر في كتاب الله وسنة رسوله في مواضع كثيرة مطلقا غير مقترن بما يدل على أنه أريد بلقاء الله لقاء بعض مخلوقاته من جزاء أو غيره. (الثالث: أن اللفظ إذا تكرر ذكره في الكتاب ودار مرة بعد مرة على وجه واحد وكان المراد به غير مفهومه ومقتضاه عند الإطلاق ولم يبين ذلك كان تدليسا وتلبيسا يجب أن يصان كلام الله عنه الذي أخبر أنه شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين وأنه بيان للناس وأخبر أن الرسول قد بلغه البلاغ المبين وأنه بين للناس ما نزل إليهم وأخبر أن عليه بيانه ولا يجوز أن يقال: ما في العقل دلالة على امتناع إرادة هذا المعنى هو القرينة التي دل المخاطبين على الفهم بها؛ لوجهين. أحدهما: أن يقال: ليس في العقل ما ينافي ذلك؛ بل الضرورة العقلية والبراهين العقلية توافق ما دل عليه القرآن كما قال: {ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق} وما يذكر من الحجج العقلية المخالفة لمدلول القرآن فهو شبهات فاسدة عند من له خبرة جيدة بالمعقولات دون من يقلد فيها بغير نظر تام. الثاني: أنه لو فرض أن هناك دليلا عقليا ينافي مدلول القرآن لكان خفيا دقيقا ذا مقدمات طويلة مشكلة متنازع فيها ليس فيها مقدمة متفق عليها بين العقلاء؛ إذ ما يذكر من الأدلة العقلية المخالفة لمدلول القرآن هي شبهات فاسدة كلها ليست من هذا الباب. ومعلوم أن المخاطب - الذي أخبر أنه بين للناس وأن كلامه بلاغ مبين وهدى للناس - إذا أراد بكلامه ما لا يدل عليه ولا يفهم منه إلا بمثل هذه القرينة لم يكن قد بين وهدى؛ بل قد كان لبس وأضل وهذا مما اتفق المسلمون على وجوب تنزيه الله ورسوله بل وعامة الصحابة والأئمة من ذلك.
الرابع: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {اللهم لك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن أنت الحق وقولك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد حق؛ اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وإليك حاكمت وبك خاصمت اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني أنت إلهي لا إله إلا أنت} وفي لفظ: {أعوذ بك أن تضلني؛ أنت الحي الذي لا تموت والجن والإنس يموتون}. ففي الحديث فرق بين لقائه وبين الجنة والنار. والجنة والنار تتضمن جزاء المطيعين والعصاة فعلم أن لقاءه ليس هو لقاء الجنة والنار. الخامس: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في غير حديث ما يبين لقاء العبد ربه كما في الصحيحين عن عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان؛ فينظر أيمن منه فلا يرى إلا شيئا قدمه وينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئا قدمه فتستقبله النار؛ فمن استطاع أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل فإن لم يستطع فبكلمة طيبة} إلى أمثال ذلك من الأحاديث.
السادس: أنه لو أريد " بلقاء الله " بعض المخلوقات - إما جزاء وإما غير جزاء - لكان ذلك واقعا في الدنيا والآخرة فكان العبد لا يزال ملاقيا لربه ولما علم المسلمون بالاضطرار من دين الإسلام أن لقاء الله لا يكون إلا بعد الموت: علم بطلان أن " اللقاء " لقاء بعض المخلوقات.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #365  
قديم 07-02-2025, 08:21 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 149,379
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ يُونُسَ
المجلد العاشر
الحلقة( 365)

من صــ 166 الى صـ 180




ومعلوم أن الله قد جازى خلقا على أعمالهم في الدنيا بخير وشر كما جازى قوم نوح وعاد وثمود وفرعون؛ وكما جازى الأنبياء وأتباعهم ولم يقل مسلم إن لقاء هذه الأمور في الدنيا لقاء الله ولو قال قائل إن لقاء الله جزاء مخصوص وهو الجنة مثلا أو النار لقيل له ليس في لفظ هذا لقاء مخصوص ولا دليل عليه وليس هو بأولى من أن يقال لقاء الله تعالى لقاء بعض ملائكته أو بعض الشياطين وأمثال ذلك من التحكمات الموجودة في الدنيا والآخرة؛ إذ ليس دلالة اللفظ على تعيين هذا بأولى من دلالته على تعيين هذا فبطل ذلك. الوجه السابع: أن " لقاء الله " لم يستعمل في لقاء غيره لا حقيقة ولا مجازا ولا استعمل لقاء زيد في لقاء غيره أصلا؛ بل حيث ذكر هذا اللفظ فإنما يراد به لقاء المذكور؛ إذ ما سواه لا يشعر اللفظ به فلا يدل عليه. الوجه الثامن: أن قوله:
{هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما} {تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما} فلو كان " اللقاء " هو لقاء جزائه لكان هو لقاء الأجر الكريم الذي أعد لهم وإذا أخبر بأنهم يلقون ذلك لم يحسن بعد ذلك الإخبار بإعداده؛ إذ الإعداد مقصوده الوصول فكيف يخبر بالوسيلة بعد حصول المقصود؟ هذا نزاع بين العي الذي يصان عنه كلام أوسط الناس فضلا عن كلام رب العالمين؛ لا سيما وقد قرن اللقاء بالتحية وذلك لا يكون إلا في اللقاء المعروف؛ لا في حصول شيء من النعيم المخلوق.
الوجه التاسع: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:

{من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه} أخبر فيه أن الله يحب لقاء عبد ويكره لقاء عبد وهذا يمتنع حمله على الجزاء؛ لأن الله لا يكره جزاء أحد ولأن الجزاء لا يلقاه الله؛ ولأنه إن جاز أن يلقى بعض المخلوق كالجزاء أو غيره جاز أن يلقى العبد فالمحذور الذي يذكر في لقاء العبد موجود في لقائه سائر المخلوقات فهذا تعطيل النص. وإما أن يقال: بل هو لاق لبعضها فيتناقض قول الجهمي ويبطل. ودلائل بطلان هذا القول لا تكاد تحصى يضيق هذا الاستفتاء عن ذكر كثير منها فضلا عن أكثرها.
(قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون (35)
فبين سبحانه بما هو مستقر في الفطر أن الذي يهدي إلى الحق أحق بالاتباع ممن لا يهتدي إلا أن يهديه غيره؛ فلزم أن يكون الهادي بنفسه هو الكامل؛ دون الذي لا يهتدي إلا بغيره. وإذا كان لا بد من وجود الهادي لغير المهتدي بنفسه فهو الأكمل وقال تعالى في الآية الأخرى: {أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا} فدل على أن الذي يرجع إليه القول ويملك الضر والنفع: أكمل منه. وقال إبراهيم لأبيه: {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا} فدل على أن السميع البصير الغني أكمل وأن المعبود يجب أن يكون كذلك. ومثل هذا في القرآن متعدد من وصف الأصنام بسلب " صفات الكمال " كعدم التكلم والفعل وعدم الحياة ونحو ذلك مما يبين أن المتصف بذلك منتقص معيب كسائر الجمادات وأن هذه الصفات لا تسلب إلا عن ناقص معيب.

وأما " رب الخلق " الذي هو أكمل من كل موجود فهو أحق الموجودات بصفات الكمال وأنه لا يستوي المتصف بصفات الكمال والذي لا يتصف بها؛ وهو يذكر أن الجمادات في العادة لا تقبل الاتصاف بهذه الصفات. فمن جعل الواجب الوجود لا يقبل الاتصاف: فقد جعله من جنس الأصنام الجامدة التي عابها الله تعالى وعاب عابديها. ولهذا كانت " القرامطة الباطنية " من أعظم الناس شركا وعبادة لغير الله؛ إذ كانوا لا يعتقدون في إلههم أنه يسمع أو يبصر أو يغني عنهم شيئا. والله سبحانه لم يذكر هذه النصوص لمجرد تقرير صفات الكمال له بل ذكرها لبيان أنه المستحق للعبادة دون ما سواه فأفاد (الأصلين اللذين بهما يتم التوحيد: وهما إثبات صفات الكمال ردا على أهل التعطيل وبيان أنه المستحق للعبادة لا إله إلا هو ردا على المشركين. والشرك في العالم أكثر من التعطيل؛ ولا يلزم من إثبات " التوحيد " المنافي للإشراك إبطال قول أهل التعطيل؛ ولا يلزم من مجرد الإثبات المبطل لقول المعطلة الرد على المشركين إلا ببيان آخر.
والقرآن يذكر فيه الرد على المعطلة تارة؛ كالرد على فرعون وأمثاله؛ ويذكر فيه الرد على المشركين وهذا أكثر لأن القرآن شفاء لما في الصدور. ومرض الإشراك أكثر في الناس من مرض التعطيل وأيضا فإن الله سبحانه أخبر أن له الحمد وأنه حميد مجيد وأن له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم ونحو ذلك من أنواع المحامد.
و " الحمد نوعان ": حمد على إحسانه إلى عباده. وهو من الشكر؛ وحمد لما يستحقه هو بنفسه من نعوت كماله وهذا الحمد لا يكون إلا على ما هو في نفسه مستحق للحمد وإنما يستحق ذلك من هو متصف بصفات الكمال وهي أمور وجودية فإن الأمور العدمية المحضة لا حمد فيها ولا خير ولا كمال. ومعلوم أن كل ما يحمد فإنما يحمد على ما له من صفات الكمال فكل ما يحمد به الخلق فهو من الخالق والذي منه ما يحمد عليه هو أحق بالحمد فثبت أنه المستحق للمحامد الكاملة وهو أحق من كل محمود بالحمد والكمال من كل كامل وهو المطلوب.
(ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62) الذين آمنوا وكانوا يتقون (63) لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم (64)
فصل:
و " أولياء الله " هم {الذين آمنوا وكانوا يتقون} كما ذكر الله تعالى في كتابه. وهم " قسمان ": المقتصدون أصحاب اليمين والمقربون السابقون. فولي الله ضد عدو الله قال الله تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} {الذين آمنوا وكانوا يتقون} وقال تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا} - إلى قوله - {ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} وقال تعالى: {لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} وقال: {ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون} وقال: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو} وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {يقول الله تعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه}.
و " الولي " مشتق من الولاء وهو القرب كما أن العدو من العدو وهو البعد. فولي الله من والاه بالموافقة له في محبوباته ومرضياته وتقرب إليه بما أمر به من طاعاته. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح الصنفين المقتصدين من أصحاب اليمين وهم المتقربون إلى الله بالواجبات والسابقين المقربين وهم المتقربون إليه بالنوافل بعد الواجبات. وذكر الله " الصنفين " في " سورة فاطر " و " الواقعة " و " الإنسان " و " المطففين " وأخبر أن الشراب الذي يروى به المقربون بشربهم إياه صرفا يمزج لأصحاب اليمين.
و " الولي المطلق " هو من مات على ذلك. فأما إن قام به الإيمان والتقوى وكان في علم الله أنه يرتد عن ذلك فهل يكون في حال إيمانه وتقواه وليا لله أو يقال لم يكن وليا لله قط لعلم الله بعاقبته؟ هذا فيه قولان للعلماء.

فصل:
وأفضل أولياء الله هم أنبياؤه وأفضل أنبيائه هم المرسلون منهم وأفضل المرسلين أولو العزم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} وقال تعالى: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا} {ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما}.

وأفضل أولي العزم محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وإمام المتقين وسيد ولد آدم وإمام الأنبياء إذا اجتمعوا وخطيبهم إذا وفدوا صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون وصاحب لواء الحمد وصاحب الحوض المورود وشفيع الخلائق يوم القيامة وصاحب الوسيلة والفضيلة الذي بعثه بأفضل كتبه وشرع له أفضل شرائع دينه وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس وجمع له ولأمته من الفضائل والمحاسن ما فرقه فيمن قبلهم وهم آخر الأمم خلقا وأول الأمم بعثا كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم؛ فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه - يعني يوم الجمعة - فهدانا الله له: الناس لنا تبع فيه غدا لليهود وبعد غد للنصارى}. وقال صلى الله عليه وسلم {أنا أول من تنشق عنه الأرض} وقال صلى الله عليه وسلم {آتي باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن: من أنت. فأقول أنا محمد فيقول بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك}.

وفضائله صلى الله عليه وسلم وفضائل أمته كثيرة ومن حين بعثه الله جعله الله الفارق بين أوليائه وبين أعدائه فلا يكون وليا لله إلا من آمن به وبما جاء به واتبعه باطنا وظاهرا ومن ادعى محبة الله وولايته وهو لم يتبعه فليس من أولياء الله؛ بل من خالفه كان من أعداء الله وأولياء الشيطان قال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}.

قال الحسن البصري رحمه الله ادعى قوم أنهم يحبون الله فأنزل الله هذه الآية محنة لهم وقد بين الله فيها أن من اتبع الرسول فإن الله يحبه ومن ادعى محبة الله ولم يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم فليس من أولياء الله وإن كان كثير من الناس يظنون في أنفسهم أو في غيرهم أنهم من أولياء الله ولا يكونون من أولياء الله فاليهود والنصارى يدعون أنهم أولياء الله وأحباؤه. قال تعالى: {قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق} الآية. وقال تعالى: {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم} إلى قوله {ولا هم يحزنون}.
وكان مشركو العرب يدعون أنهم أهل الله لسكناهم مكة ومجاورتهم البيت وكانوا يستكبرون به على غيرهم كما قال تعالى {قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون} {مستكبرين به سامرا تهجرون} وقال تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك} إلى قوله {وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون} فبين سبحانه أن المشركين ليسوا أولياءه ولا أولياء بيته إنما أولياؤه المتقون.
فصل:
وأولياء الله على " طبقتين " سابقون مقربون وأصحاب يمين مقتصدون.
ذكرهم الله في عدة مواضع من كتابه العزيز في أول سورة الواقعة وآخرها وفي سورة الإنسان؛ والمطففين وفي سورة فاطر فإنه سبحانه وتعالى ذكر في الواقعة القيامة الكبرى في أولها وذكر القيامة الصغرى في آخرها فقال في أولها {إذا وقعت الواقعة} {ليس لوقعتها كاذبة} {خافضة رافعة} {إذا رجت الأرض رجا} {وبست الجبال بسا} {فكانت هباء منبثا} {وكنتم أزواجا ثلاثة} {فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة} {وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة} {والسابقون السابقون} {أولئك المقربون} {في جنات النعيم} {ثلة من الأولين} {وقليل من الآخرين} فهذا تقسيم الناس إذا قامت القيامة الكبرى التي يجمع الله فيها الأولين والآخرين كما وصف الله سبحانه ذلك في كتابه في غير موضع. ثم قال تعالى في آخر السورة: فلولا أي: فهلا {إذا بلغت الحلقوم} {وأنتم حينئذ تنظرون} {ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون} {فلولا إن كنتم غير مدينين} {ترجعونها إن كنتم صادقين}

{فأما إن كان من المقربين} {فروح وريحان وجنة نعيم} {وأما إن كان من أصحاب اليمين} {فسلام لك من أصحاب اليمين} {وأما إن كان من المكذبين الضالين} {فنزل من حميم} {وتصلية جحيم} {إن هذا لهو حق اليقين} {فسبح باسم ربك العظيم}.

وقال تعالى في سورة الإنسان: {إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا} {إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا} {إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا} {عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا} {يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا} {ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا} {إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا} {إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا} {فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا} {وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا} الآيات.

وكذلك ذكر في سورة المطففين فقال: {كلا إن كتاب الفجار لفي سجين} إلى أن قال: {كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين} {وما أدراك ما عليون} {كتاب مرقوم} {يشهده المقربون} {إن الأبرار لفي نعيم} {على الأرائك ينظرون} {تعرف في وجوههم نضرة النعيم} {يسقون من رحيق مختوم} {ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} {ومزاجه من تسنيم} {عينا يشرب بها المقربون}.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من السلف قالوا يمزج لأصحاب اليمين مزجا ويشرب بها المقربون صرفا وهو كما قالوا. فإنه تعالى قال {يشرب بها} ولم يقل: يشرب منها لأنه ضمن ذلك قوله يشرب يعني يروى بها فإن الشارب قد يشرب ولا يروى فإذا قيل يشربون منها لم يدل على الري فإذا قيل يشربون بها كان المعنى يروون بها فالمقربون يروون بها فلا يحتاجون معها إلى ما دونها؛ فلهذا يشربون منها صرفا بخلاف أصحاب اليمين فإنها مزجت لهم مزجا وهو كما قال تعالى في سورة الإنسان {كان مزاجها كافورا} {عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا}.
فعباد الله هم المقربون المذكورون في تلك السورة وهذا لأن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة؛ وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه} رواه مسلم في صحيحه.
وأولياء الله تعالى على نوعين: مقربون وأصحاب يمين كما تقدم. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عمل القسمين في حديث الأولياء فقال {يقول الله تعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها}. فالأبرار أصحاب اليمين هم المتقربون إليه بالفرائض يفعلون ما أوجب الله عليهم ويتركون ما حرم الله عليهم ولا يكلفون أنفسهم بالمندوبات؛ ولا الكف عن فضول المباحات. وأما السابقون المقربون فتقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض ففعلوا
الواجبات والمستحبات وتركوا المحرمات والمكروهات فلما تقربوا إليه بجميع ما يقدرون عليه من محبوباتهم أحبهم الرب حبا تاما كما قال تعالى: {ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه} يعني الحب المطلق كقوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} أي أنعم عليهم الإنعام المطلق التام المذكور في قوله تعالى {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا} فهؤلاء المقربون صارت المباحات في حقهم طاعات يتقربون بها إلى الله عز وجل فكانت أعمالهم كلها عبادات لله فشربوا صرفا كما عملوا له صرفا، والمقتصدون كان في أعمالهم ما فعلوه لنفوسهم فلا يعاقبون عليه ولا يثابون عليه فلم يشربوا صرفا؛ بل مزج لهم من شراب المقربين بحسب ما مزجوه في الدنيا.
ونظير هذا انقسام الأنبياء عليهم السلام إلى عبد رسول ونبي ملك وقد خير الله سبحانه محمدا صلى الله عليه وسلم بين أن يكون عبدا رسولا وبين أن يكون نبيا ملكا فاختار أن يكون عبدا رسولا فالنبي الملك مثل داود وسليمان ونحوهما عليهما الصلاة والسلام قال الله تعالى في قصة سليمان الذي {قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب} {فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب} {والشياطين كل بناء وغواص} {وآخرين مقرنين في الأصفاد} {هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب}أي أعط من شئت واحرم من شئت لا حساب عليك فالنبي الملك يفعل ما فرض الله عليه ويترك ما حرم الله عليه ويتصرف في الولاية والمال بما يحبه ويختار من غير إثم عليه. وأما العبد الرسول فلا يعطي أحدا إلا بأمر ربه ولا يعطي من يشاء ويحرم من يشاء بل روي عنه أنه قال {إني والله لا أعطي أحدا ولا أمنع أحدا إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت} ولهذا يضيف الله الأموال الشرعية إلى الله والرسول كقوله تعالى: {قل الأنفال لله والرسول} وقوله تعالى {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول} وقوله تعالى {واعلموا أنما
غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول}.
ولهذا كان أظهر أقوال العلماء أن هذه الأموال تصرف فيما يحبه الله ورسوله بحسب اجتهاد ولي الأمر كما هو مذهب مالك وغيره من السلف ويذكر هذا رواية عن أحمد وقد قيل في الخمس أنه يقسم على خمسة كقول الشافعي وأحمد في المعروف عنه وقيل: على ثلاثة كقول أبي حنيفة رحمه الله.
و " المقصود هنا " أن العبد الرسول هو أفضل من النبي الملك كما أن إبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا عليهم الصلاة والسلام أفضل من يوسف وداود وسليمان عليهم السلام كما أن المقربين السابقين أفضل من الأبرار أصحاب اليمين الذين ليسوا مقربين سابقين فمن أدى ما أوجب الله عليه وفعل من المباحات ما يحبه فهو من هؤلاء ومن كان إنما يفعل ما يحبه الله ويرضاه ويقصد أن يستعين بما أبيح له على ما أمره الله فهو من أولئك.

(فصل)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
أولياء الله المتقون هم المقتدون بمحمد صلى الله عليه وسلم فيفعلون ما أمر به وينتهون عما عنه زجر؛ ويقتدون به فيما بين لهم أن يتبعوه فيه فيؤيدهم بملائكته وروح منه ويقذف الله في قلوبهم من أنواره ولهم الكرامات التي يكرم الله بها أولياءه المتقين.
وخيار أولياء الله كراماتهم لحجة في الدين أو لحاجة بالمسلمين كما كانت معجزات نبيهم صلى الله عليه وسلم كذلك.

وكرامات أولياء الله إنما حصلت ببركة اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم فهي في الحقيقة تدخل في معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم مثل انشقاق القمر وتسبيح الحصا في كفه وإتيان الشجر إليه وحنين الجذع إليه وإخباره ليلة المعراج بصفة بيت المقدس وإخباره بما كان وما يكون وإتيانه بالكتاب العزيز وتكثير الطعام والشراب مرات كثيرة كما أشبع في الخندق العسكر من قدر طعام وهو لم ينقص في حديث أم سلمة المشهور وأروى العسكر في غزوة خيبر من مزادة ماء ولم تنقص وملأ أوعية العسكر عام تبوك من طعام قليل ولم ينقص وهم نحو ثلاثين ألفا ونبع الماء من بين أصابعه مرات متعددة حتى كفى الناس الذين كانوا معه كما كانوا في غزوة الحديبية نحو ألف وأربعمائة أو خمسمائة ورده لعين أبي قتادة حين سالت على خده فرجعت أحسن عينيه ولما أرسل محمد بن مسلمة لقتل كعب بن الأشرف فوقع وانكسرت رجله فمسحها فبرئت (*)
وأطعم من شواء مائة وثلاثين رجلا كلا منهم حز له قطعة وجعل منها قطعتين فأكلوا منها جميعهم ثم فضل فضلة ودين عبد الله أبي جابر لليهودي وهو ثلاثون وسقا. قال جابر: فأمر صاحب الدين أن يأخذ التمر جميعه بالذي كان له فلم يقبل فمشى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لجابر جد له فوفاه الثلاثين وسقا وفضل سبعة عشر وسقا ومثل هذا كثير قد جمعت نحو ألف معجزة.
__________
Qقال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 96 - 98):
المعروف أن هذا وقع لعبد الله بن عتيك رضي الله عنه في قتل ابن أبي الحقيق، فلعل هذا سبق قلم، فقد ورد في صحيح البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبى رافع اليهودى رجالا من الأنصار، فأمر عليهم عبد الله بن عتيك، وكان أبو رافع يؤذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعين عليه، وكان فى حصن له بأرض الحجاز، فلما دنوا منه، وقد غربت الشمس، وراح الناس بسرحهم فقال عبد الله لأصحابه اجلسوا مكانكم، فإنى منطلق، ومتلطف للبواب، لعلى أن أدخل. فأقبل حتى دنا من الباب ثم تقنع بثوبه كأنه يقضى حاجة، وقد دخل الناس، فهتف به البواب يا عبد الله إن كنت تريد أن تدخل فادخل، فإنى أريد أن أغلق الباب. فدخلت فكمنت، فلما دخل الناس أغلق الباب، ثم علق الأغاليق على وتد قال فقمت إلى الأقاليد، فأخذتها ففتحت الباب، وكان أبو رافع يسمر عنده، وكان فى علالى له، فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه، فجعلت كلما فتحت بابا أغلقت على من داخل، قلت إن القوم نذروا بى لم يخلصوا إلى حتى أقتله. فانتهيت إليه، فإذا هو فى بيت مظلم وسط عياله، لا أدرى أين هو من البيت فقلت يا أبا رافع. قال من هذا فأهويت نحو الصوت، فأضربه ضربة بالسيف، وأنا دهش فما أغنيت شيئا، وصاح فخرجت من البيت، فأمكث غير بعيد ثم دخلت إليه فقلت ما هذا الصوت يا أبا رافع. فقال لأمك الويل، إن رجلا فى البيت ضربنى قبل بالسيف، قال فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله، ثم وضعت ظبة السيف فى بطنه حتى أخذ فى ظهره، فعرفت أنى قتلته، فجعلت أفتح الأبواب بابا بابا حتى انتهيت إلى درجة له، فوضعت رجلى وأنا أرى أنى قد انتهيت إلى الأرض فوقعت فى ليلة مقمرة، فانكسرت ساقى، فعصبتها بعمامة، ثم انطلقت حتى جلست على الباب فقلت لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته فلما صاح الديك قام الناعى على السور فقال أنعى أبا رافع تاجر أهل الحجاز. فانطلقت إلى أصحابى فقلت النجاء، فقد قتل الله أبا رافع. فانتهيت إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فحدثته فقال «ابسط رجلك». فبسطت رجلى، فمسحها، فكأنها لم أشتكها قط).


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #366  
قديم 08-02-2025, 09:51 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 149,379
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ يُونُسَ
المجلد العاشر
الحلقة( 366)

من صــ 166 الى صـ 180






وكرامات الصحابة والتابعين بعدهم وسائر الصالحين كثيرة جدا: مثل ما كان " أسيد بن حضير " يقرأ سورة الكهف فنزل من السماء مثل الظلة فيها أمثال السرج وهي الملائكة نزلت لقراءته وكانت الملائكة تسلم على عمران بن حصين؛ وكان سلمان وأبو الدرداء يأكلان في صحفة فسبحت الصحفة أو سبح ما فيها وعباد بن بشر وأسيد بن حضير خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة فأضاء لهما نور مثل طرف السوط فلما افترقا افترق الضوء معهما. رواه البخاري وغيره.
وقصة {الصديق في الصحيحين لما ذهب بثلاثة أضياف معه إلى بيته وجعل لا يأكل لقمة إلا ربى من أسفلها أكثر منها فشبعوا وصارت أكثر مما هي قبل ذلك فنظر إليها أبو بكر وامرأته فإذا هي أكثر مما كانت فرفعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء إليه أقوام كثيرون فأكلوا منها وشبعوا}.
و " خبيب بن عدي " كان أسيرا عند المشركين بمكة شرفها الله تعالى وكان يؤتى بعنب يأكله وليس بمكة عنبة.
و " عامر بن فهيرة: قتل شهيدا فالتمسوا جسده فلم يقدروا عليه وكان لما قتل رفع فرآه عامر بن الطفيل وقد رفع وقال: عروة: فيرون الملائكة رفعته. وخرجت " أم أيمن " مهاجرة وليس معها زاد ولا ماء فكادت تموت من العطش فلما كان وقت الفطر وكانت صائمة سمعت حسا على رأسها فرفعته فإذا دلو معلق فشربت منه حتى رويت وما عطشت بقية عمرها. و " سفينة " مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الأسد بأنه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى معه الأسد حتى أوصله مقصده.

و " البراء بن مالك " كان إذا أقسم على الله تعالى أبر قسمه وكان الحرب إذا اشتد على المسلمين في الجهاد يقولون: يا براء أقسم على ربك فيقول: يا رب أقسمت عليك لما منحتنا أكتافهم فيهزم العدو فلما كان يوم " القادسية " قال: أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم وجعلتني أول شهيد فمنحوا أكتافهم وقتل البراء شهيدا.

و " خالد بن الوليد " حاصر حصنا منيعا فقالوا لا نسلم حتى تشرب السم فشربه فلم يضره.
و " سعد بن أبي وقاص " كان مستجاب الدعوة ما دعا قط إلا استجيب له وهو الذي هزم جنود كسرى وفتح العراق.
و " عمر بن الخطاب " لما أرسل جيشا أمر عليهم رجلا يسمى " سارية " فبينما عمر يخطب فجعل يصيح على المنبر يا سارية الجبل يا سارية الجبل فقدم رسول الجيش فسأل فقال يا أمير المؤمنين لقينا عدوا فهزمونا فإذا بصائح: يا سارية الجبل يا سارية الجبل فأسندنا ظهورنا بالجبل فهزمهم الله. ولما عذبت " الزبيرة " على الإسلام في الله فأبت إلا الإسلام وذهب بصرها قال المشركون أصاب بصرها اللات والعزى قالت كلا والله فرد الله عليها بصرها.
ودعا " سعيد بن زيد " على أروى بنت الحكم فأعمي بصرها لما كذبت عليه فقال: اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها واقتلها في أرضها فعميت ووقعت في حفرة من أرضها فماتت.
" والعلاء بن الحضرمي " كان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين وكان يقول في دعائه: يا عليم يا حليم يا علي يا عظيم فيستجاب له ودعا الله بأن يسقوا ويتوضئوا لما عدموا الماء والإسقاء لما بعدهم فأجيب ودعا الله لما اعترضهم البحر ولم يقدروا على المرور بخيولهم فمروا كلهم على الماء ما ابتلت سروج خيولهم؛ ودعا الله أن لا يروا جسده إذا مات فلم يجدوه في اللحد.
وجرى مثل ذلك " لأبي مسلم الخولاني " الذي ألقي في النار فإنه مشى هو ومن معه من العسكر على دجلة وهي ترمى بالخشب من مدها ثم التفت إلى أصحابه فقال: تفقدون من متاعكم شيئا حتى أدعو الله عز وجل فيه فقال بعضهم: فقدت مخلاة فقال اتبعني فتبعه فوجدها قد تعلقت بشيء فأخذها وطلبه الأسود العنسي لما ادعى النبوة فقال له: أتشهد أني رسول الله.

قال ما أسمع قال أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال نعم فأمر بنار فألقي فيها فوجدوه قائما يصلي فيها وقد صارت عليه بردا وسلاما؛ وقدم المدينة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فأجلسه عمر بينه وبين أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وقال الحمد لله الذي لم يمتني حتى أرى من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الله. ووضعت له جارية السم في طعامه فلم يضره. وخببت امرأة عليه زوجته فدعا عليها فعميت وجاءت وتابت فدعا لها فرد الله عليها بصرها.
(فصل في التنبيه على قاعدة تحرك القلوب إلى الله عز وجل)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
ولا بد من التنبيه على قاعدة تحرك القلوب إلى الله عز وجل فتعتصم به فتقل آفاتها أو تذهب عنها بالكلية بحول الله وقوته. فنقول اعلم أن محركات القلوب إلى الله عز وجل ثلاثة: المحبة والخوف والرجاء. وأقواها المحبة وهي مقصودة تراد لذاتها لأنها تراد في الدنيا والآخرة بخلاف الخوف فإنه يزول في الآخرة قال الله تعالى {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} والخوف المقصود منه الزجر والمنع من الخروج عن الطريق فالمحبة تلقى العبد في السير إلى محبوبه وعلى قدر ضعفها وقوتها يكون سيره إليه والخوف يمنعه أن يخرج عن طريق المحبوب والرجاء يقوده فهذا أصل عظيم يجب على كل عبد أن يتنبه له فإنه لا تحصل له العبودية بدونه وكل أحد يجب أن يكون عبدا لله لا لغيره.

فإن قيل فالعبد في بعض الأحيان قد لا يكون عنده محبة تبعثه على طلب محبوبه فأي شيء يحرك القلوب؟ قلنا يحركها شيئان - أحدهما كثرة الذكر للمحبوب لأن كثرة ذكره تعلق القلوب به ولهذا أمر الله عز وجل بالذكر الكثير فقال تعالى {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا} {وسبحوه بكرة وأصيلا} الآية. والثاني: مطالعة آلائه ونعمائه قال الله تعالى {فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون} وقال تعالى {وما بكم من نعمة فمن الله}.
وقال تعالى {وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة} وقال تعالى {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} فإذا ذكر العبد ما أنعم الله به عليه من تسخير السماء والأرض وما فيها من الأشجار والحيوان وما أسبغ عليه من النعم الباطنة من الإيمان وغيره فلا بد أن يثير ذلك عنده باعثا وكذلك الخوف تحركه مطالعة آيات الوعيد والزجر والعرض والحساب ونحوه وكذلك الرجاء يحركه مطالعة الكرم والحلم والعفو وما ورد في الرجاء والكلام في التوحيد واسع.
وإنما الغرض مبلغ التنبيه على تضمنه الاستغناء بأدنى إشارة والله - سبحانه وتعالى - أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون (66)
وقال:
هذه تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد في طائفة من كتب التفسير إلا ما هو خطأ فيها،
منها قوله: {وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء} ظن طائفة أن (ما) نافية وهو خطأ. بل هي استفهام فإنهم يدعون معه شركاء كما أخبر عنهم في غير موضع. فالشركاء يوصفون في القرآن بأنهم يدعون لأنهم يتبعون وإنما يتبع الأئمة. ولهذا قال: {إن يتبعون إلا الظن} ولو أراد النفي لقال: إن يتبعون إلا من ليسوا شركاء بل بين أن المشرك لا علم معه إن هو إلا الظن والحرص كقوله: {قتل الخراصون}.

(قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون (89)
المأموم إذا أمن كان داعيا قال الله تعالى لموسى وهارون: {قد أجيبت دعوتكما} وكان أحدهما يدعو والآخر يؤمن.

(حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين (90)
(فصل في الرد على من زعم أن فرعون كان مؤمنا وأنه لا يدخل النار)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
وزعمت طائفة من هؤلاء الاتحادية - الذين ألحدوا في أسماء الله وآياته - أن فرعون كان مؤمنا وأنه لا يدخل النار وزعموا أنه ليس في القرآن ما يدل على عذابه بل فيه ما ينفيه كقوله: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} قالوا: فإنما أدخل آله دونه. وقوله: {يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار} قالوا إنما أوردهم ولم يدخلها قالوا: ولأنه قد آمن أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ووضع جبريل الطين في فمه لا يرد إيمان قلبه.

وهذا القول كفر معلوم فساده بالاضطرار من دين الإسلام لم يسبق ابن عربي إليه - فيما أعلم - أحد من أهل القبلة؛ بل ولا من اليهود ولا من النصارى؛ بل جميع أهل الملل مطبقون على كفر فرعون. فهذا عند الخاصة والعامة أبين من أن يستدل عليه بدليل فإنه لم يكفر أحد بالله ويدعي لنفسه الربوبية والإلهية مثل فرعون.

ولهذا ثنى الله قصته في القرآن في مواضع فإن القصص إنما هي أمثال مضروبة للدلالة على الإيمان وليس في الكفار أعظم من كفره والقرآن قد دل على كفره وعذابه في الآخرة في مواضع: (أحدها قوله تعالى في القصص: {فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين} إلى قوله: {وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين}. فأخبر سبحانه أنه أرسله إلى فرعون وقومه وأخبر أنهم كانوا قوما فاسقين وأخبر أنهم {قالوا ما هذا إلا سحر مفترى} وأخبر أن فرعون: قال: {ما علمت لكم من إله غيري} وأنه أمر باتخاذ الصرح ليطلع إلى إله موسى وأنه يظنه كاذبا وأخبر أنه استكبر فرعون وجنوده وظنوا أنهم لا يرجعون إلى الله وأنه أخذ فرعون وجنوده فنبذهم في اليم؛ فانظر كيف كان عاقبة الظالمين وأنه جعلهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون وأنه أتبعهم في الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين.
فهذا نص في أن فرعون من الفاسقين المكذبين لموسى الظالمين الداعين إلى النار الملعونين في الدنيا بعد غرقهم المقبوحين في الدار الآخرة. وهذا نص في أن فرعون بعد غرقه ملعون وهو في الآخرة مقبوح غير منصور وهذا إخبار عن غاية العذاب وهو موافق للموضع الثاني في سورة المؤمن وهو قوله: {وحاق بآل فرعون سوء العذاب} {النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} وهذا إخبار عن فرعون وقومه؛ أنه حاق بهم سوء العذاب في البرزخ وأنهم في القيامة يدخلون أشد العذاب وهذه الآية إحدى ما استدل به العلماء على عذاب البرزخ. وإنما دخلت الشبهة على هؤلاء الجهال: لما سمعوا آل فرعون فظنوا أن فرعون خارج منهم؛ وهذا تحريف للكلم عن مواضعه بل فرعون داخل في آل فرعون بلا نزاع بين أهل العلم بالقرآن واللغة يتبين ذلك بوجوه: - (أحدهما) أن لفظ آل فلان في الكتاب والسنة يدخل فيها ذلك الشخص مثل قوله في الملائكة الذين ضافوا إبراهيم: {إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين} {إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين} {إلا امرأته} ثم قال: {فلما جاء آل لوط المرسلون} {قال} يعني لوطا: {إنكم قوم منكرون} وكذلك قوله: {إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر} ثم قال بعد ذلك: {ولقد جاء آل فرعون النذر} {كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر}.
ومعلوم أن لوطا داخل في آل لوط في هذه المواضع، وكذلك فرعون: داخل في آل فرعون المكذبين المأخوذين ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم {قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم} وكذلك قوله: {كما باركت على آل إبراهيم} فإبراهيم داخل في ذلك وكذلك قوله للحسن: {إن الصدقة لا تحل لآل محمد}. وفي الصحيح عن عبد الله بن أبي أوفى قال: {كان القوم إذا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة يصلي عليهم فأتى أبي بصدقة فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى} وأبو أوفى هو صاحب الصدقة.
ونظير هذا الاسم أهل البيت فإن الرجل يدخل في أهل بيته كقول الملائكة: {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت} وقول النبي صلى الله عليه وسلم {سلمان منا أهل البيت} وقوله تعالى {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} وذلك لأن آل الرجل من يئول إليه ونفسه ممن يئول إليه وأهل بيته هم من يأهله وهو ممن يأهل أهل بيته. فقد تبين أن الآية التي ظنوا أنها حجة لهم: هي حجة عليهم في تعذيب فرعون مع سائر آل فرعون في البرزخ وفي يوم القيامة ويبين ذلك:
أن الخطاب في القصة كلها إخبار عن فرعون وقومه.
قال تعالى: {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين} {إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب} إلى قوله: {قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} إلى قوله: {وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب} {أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى} إلى قوله: {وحاق بآل فرعون سوء العذاب}{النار يعرضون عليها غدوا وعشيا} إلى قوله {قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد}. فأخبر عقب قوله: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} عن محاجتهم في النار وقول الضعفاء للذين استكبروا وقول المستكبرين للضعفاء: {إنا كل فيها} ومعلوم أن فرعون هو رأس المستكبرين وهو الذي استخف قومه فأطاعوه ولم يستكبر أحد استكبار فرعون فهو أحق بهذا النعت والحكم من جميع قومه. (الموضع الثاني) - وهو حجة عليهم لا لهم - قوله تعالى تعالى: {فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد} {يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود} إلى قوله: {بئس الرفد المرفود} فأخبر أنه يقدم قومه ولم يقل يسوقهم وأنه أوردهم النار.
ومعلوم أن المتقدم إذا أورد المتأخرين النار: كان هو أول من يردها وإلا لم يكن قادما؛ بل كان سائقا؛ يوضح ذلك أنه قال: {وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة} فعلم أنه وهم يردون النار وأنهم جميعا ملعونون في الدنيا والآخرة. وما أخلق المحاج عن فرعون أن يكون بهذه المثابة فإن المرء مع من أحب {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} وأيضا فقد قال الله تعالى: {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا} يقول: هلا آمن قوم فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس.
وقال تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض} إلى قوله: {سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون} فأخبر عن الأمم المكذبين للرسل أنهم آمنوا عند رؤية البأس وأنه لم يك ينفعهم إيمانهم حينئذ وأن هذه سنة الله الخالية في عباده. وهذا مطابق لما ذكره الله في قوله لفرعون: {آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} فإن هذا الخطاب هو استفهام إنكار أي الآن تؤمن وقد عصيت قبل؟ فأنكر أن يكون هذا الإيمان نافعا أو مقبولا فمن قال: إنه نافع مقبول فقد خالف نص القرآن وخالف سنة الله التي قد خلت في عباده. يبين ذلك أنه لو كان إيمانه حينئذ مقبولا: لدفع عنه العذاب كما دفع عن قوم يونس فإنهم لما قبل إيمانهم متعوا إلى حين فإن الإغراق هو عذاب على كفره فإذا لم يكن كافرا لم يستحق عذابا. وقوله بعد هذا: {فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية} يوجب أن يعتبر من خلفه ولو كان إنما مات مؤمنا لم يكن المؤمن مما يعتبر بإهلاكه وإغراقه.
وأيضا فإن {النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره ابن مسعود بقتل أبي جهل قال: هذا فرعون هذه الأمة} فضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل في رأس الكفار المكذبين له برأس الكفار المكذبين لموسى.
فهذا يبين أنه هو الغاية في الكفر فكيف يكون قد مات مؤمنا؟ ومعلوم أن من مات مؤمنا: لا يجوز أن يوسم بالكفر ولا يوصف؛ لأن الإسلام يهدم ما كان قبله وفي مسند أحمد وإسحاق وصحيح أبي حاتم عن عوف بن مالك عن عبد الله بن عمرو {عن النبي صلى الله عليه وسلم في تارك الصلاة: يأتي مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف}.
(فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ... (94)
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يشك ولم يسأل؛ ولكن هذا حكم معلق بشرط والمعلق بالشرط يعدم عند عدمه وفي ذلك سعة لمن شك أو أراد أن يحتج أو يزداد يقينا.
[فصل: إثبات أن عند أهل الكتاب ما يثبت صدق محمد صلى الله عليه وسلم]
قالوا: وقال أيضا: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين} [الفاتحة: 94 - 28981] فيقال: لهم من المعلوم بالاضطرار أنه ليس المراد بهذا النصارى فقط ; كما تقدم، بل اليهود يقرءون الكتاب من قبلنا والنصارى يقرءون الكتاب من قبلنا، والكتاب اسم جنس ; كما تقدم نظائره في قوله: {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا} [الأنعام: 156] وقوله: {وطعام الذين أوتوا الكتاب} [المائدة: 5] وقوله: {ياأهل الكتاب} [آل عمران: 64] في غير موضع، وقوله:

{لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين} [البينة: 1] وقوله - تعالى -: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم - إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب - فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد} [آل عمران: 18 - 20]
وقد قال - تعالى -: {ياأيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا} [النساء: 47]. وتناول لفظ أهل الكتاب هنا لليهود أظهر من تناوله للنصارى لذكره لعنة أصحاب السبت، وكذلك قوله - تعالى -: {وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون} [آل عمران: 72] فهذا خبر عن طائفة من اليهود قالوا: ذلك وقال - تعالى -: {ياأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين} [آل عمران: 100]

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #367  
قديم 08-02-2025, 10:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 149,379
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ هُودٍ
المجلد العاشر
الحلقة( 367)

من صــ 196 الى صـ 210





وسبب نزولها أنه أراد طائفة من اليهود إلقاء الفتنة بين المسلمين. فهم داخلون قطعا، وإن كان الخطاب مطلقا يتناول الطائفتين.
وأمره تعالى بسؤال الذين يقرءون الكتاب من قبله على تقدير الشك لا يقتضي أن يكون الرسول شك ولا سأل، إن قيل الخطاب له، وإن قيل لغيره فهو أولى وأحرى؛ فإن تعليق الحكم بالشرط لا يدل على تحقيق الشرط بل قد يعلق بشرط ممتنع لبيان حكمه.
قال - تعالى -: {ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين - وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين - وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين} [الأنعام: 84 - 86] فأخبر أنهم لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون مع انتفاء الشرك عنهم، بل مع امتناعه لأنهم قد ماتوا ; لأن الأنبياء معصومون من الشرك به.
وقال - تعالى -: {قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين - بل الله فاعبد وكن من الشاكرين} [الزمر: 64 - 66] فهذا خطاب للجميع. وذكر هنا لفظ إن لأنه خطاب لموجود. وهناك خبر عن ميت وكذلك قوله: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل} [يونس: 94] لا يدل على وقوع الشك، ولا السؤال، بل النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن شاكا ولا سأل أحدا منهم بل روي عنه أنه قال: «والله لا أشك ولا أسأل».

ولكن المقصود بيان أن أهل الكتاب عندهم ما يصدقك فيما كذبك فيه الكافرون.
كما قال - تعالى -: في الآية الأخرى {قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب} [الرعد: 43] وقال - تعالى -: {قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} [الأحقاف: 10] وقال - تعالى -: {أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل} [الشعراء: 197] وقال - تعالى -: {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين} [القصص: 52] وقال: {إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا - ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا} [الإسراء: 107 - 109].
وقال - تعالى -: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين} [المائدة: 83] وقال - تعالى -: {لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك} [النساء: 162] وقال - تعالى -: {وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [الأنبياء: 7] وقال - تعالى -: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} [البقرة: 146] فالمقصود بيان أن أهل الكتاب عندهم ما يصدقك فيما كذبك فيه الكافرون وذلك من وجوه.
أحدها: أن الكتب المتقدمة تنطق بأن موسى وغيره دعوا إلى عبادة الله وحده ونهوا عن الشرك فكان في هذا حجة على من ظن أن الشرك دين.
ومثل هذا قوله - تعالى -:.
{واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} [الزخرف: 45].
وقوله - تعالى -: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء: 25] وقوله - تعالى -: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} [النحل: 36].
الوجه الثاني: أن أهل الكتاب يعلمون أن الله إنما أرسل إلى الناس بشرا مثلهم لم يرسل إليهم ملكا، فإن من الكفار من كان يزعم أن الله لا يرسل إلا ملكا أو بشرا معه ملك ويتعجبون من إرسال بشر ليس معه ملك ظاهر ; كما قال - تعالى -: {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا} [الإسراء: 94] قل {لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا} [الإسراء: 95] وقال - تعالى -: {ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون - فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين} [المؤمنون: 23 - 24]

وقال - تعالى -: {كذبت ثمود بالنذر فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر} [القمر: 23] وكذلك قال الذين من بعدهم {ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون} [المؤمنون: 33] وكذلك قال قوم فرعون لموسى وهارون {أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون} [المؤمنون: 47] وقال: فرعون {أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين} [الزخرف: 52] وكذلك قالوا: لمحمد وقال:
تعالى {الر تلك آيات الكتاب الحكيم أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين} [يونس: 1] وقال - تعالى -: {وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون - ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون} [الأنعام: 8 - 9].
فبين سبحانه أنكم لا تطيقون التلقي عن الملك فلو أنزلناه ملكا لجعلناه في صورة بشر وحينئذ كنتم تظنونه بشرا فيحصل اللبس عليكم فأمر الله تعالى بسؤال أهل الكتاب عمن أرسل إليهم أكان بشرا أم كان ملكا ليقيم الحجة بذلك على من أنكر إرسال بشر ; كما قال - تعالى -: وما {أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون - وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين - ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين} [الأنبياء: 7 - 9] وأهل الذكر هم أهل الذكر الذي أنزله الله تعالى.
الوجه الثالث: أنهم يسألون أهل الكتاب عما جرى للرسل مع أممهم وكيف كان عاقبة المؤمنين بهم، وعاقبة المكذبين لهم.
الوجه الرابع: يسألون أهل الكتاب عن الدين الذي بعث الله به رسله وهو دين الإسلام الذي اتفقت عليه الرسل كالأمر بالتوحيد والصدق والعدل وبر الوالدين وصلة الأرحام والنهي عن الشرك والظلم والفواحش.
الوجه الخامس: يسألونهم عما وصفت به الرسل ربهم هل هو موافق لما وصفه به محمد أم لا؟ وهذه الأمور المسؤول عنها متواترة عند أهل الكتاب معلومة لهم ليست مما يشكون فيه وليس إذا كان مثل هذا معلوما لهم بالتواتر فيسألون عنه يجب أن يكون كل ما يقولونه معلوما لهم بالتواتر.
وأيضا، فإنهم يسألون أيضا عما عندهم من الشهادات والبشارات بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وقد أخبر الله بذلك في القرآن فقال تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون - الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} [الأعراف: 156 - 157].

وقال - تعالى -: {وإذ قال عيسى ابن مريم يابني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين} [الصف: 6]
فقد أخبر عن عيسى أنه صدق بالرسول والكتاب الذي قبله وهو التوراة وبشر بالرسول الذي يأتي بعده وهو أحمد. قال - تعالى -: {فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون} [البقرة: 144] إلى قوله: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون} [البقرة: 146] وقال - تعالى -: {وإنه لتنزيل رب العالمين - نزل به الروح الأمين - على قلبك لتكون من المنذرين - بلسان عربي مبين - وإنه لفي زبر الأولين - أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل} [الشعراء: 192 - 197] وقال - تعالى -: عن من أثنى عليه من النصارى {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا} [المائدة: 83]

وقال - تعالى -: {وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا - قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا - ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا} [الإسراء: 106 - 109] وقال - تعالى -: {أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين} [الأنعام: 114] وقال - تعالى -: {ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون - الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون - وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين - أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون} [القصص: 51 - 54] وقال - تعالى -: في سورة الأنعام {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون} [الأنعام: 20]
وقال - تعالى -: {ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين} [البقرة: 89] والأخبار بمعرفة أهل الكتاب بصفة محمد - صلى الله عليه وسلم - عندهم في الكتب المتقدمة متواترة عنهم.
وكان قبل أن يبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - تجري حروب وقتال بين العرب وبين أهل الكتاب فتقول أهل الكتاب قد قرب مبعث هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمي الذي يبعث بدين إبراهيم فإذا ظهر اتبعناه وقتلناهم معه شر قتلة فلما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - كان منهم من آمن به ومنهم من كفر به فقال تعالى: {وكانوا من قبل يستفتحون} [البقرة: 89] أي يستنصرون بمحمد - صلى الله عليه وسلم - على الذين كفروا {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين} [البقرة: 89] ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطابه لأهل الكتاب يقول لهم «والله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله» وكذلك من أسلم منهم كعبد الله بن سلام كان يقول لغيره من أهل الكتاب والله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا أمر معروف في الأحاديث الصحاح المخرجة في الصحيحين وغيرهما فظهر بما ذكرناه تحريف هؤلاء لكلام الله وأنه لا حجة لهم فيما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - ; كما تقدم نظائر ذلك.

(وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم (107)
(فصل)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
الثالث: أن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضرر؛ ولا عطاء ولا منع؛ ولا هدى ولا ضلال؛ ولا نصر ولا خذلان؛ ولا خفض ولا رفع؛ ولا عز ولا ذل؛ بل ربه هو الذي خلقه ورزقه؛ وبصره وهداه وأسبغ عليه نعمه؛ فإذا مسه الله بضر فلا يكشفه عنه غيره؛ وإذا أصابه بنعمة لم يرفعها عنه سواه؛ وأما العبد فلا ينفعه ولا يضره إلا بإذن الله؛ وهذا الوجه أظهر للعامة من الأول؛ ولهذا خوطبوا به في القرآن أكثر من الأول؛ لكن إذا تدبر اللبيب طريقة القرآن؛ وجد أن الله يدعو عباده بهذا الوجه إلى الأول. فهذا الوجه يقتضي؛ التوكل على الله والاستعانة به. ودعاءه.

ومسألته، دون ما سواه. ويقتضي أيضا محبة الله وعبادته لإحسانه إلى عبده، وإسباغ نعمه عليه؛ وحاجة العبد إليه في هذه النعم، ولكن إذا عبدوه وأحبوه؛ وتوكلوا عليه من هذا الوجه؛ دخلوا في الوجه الأول؛ ونظيره في الدنيا من نزل به بلاء عظيم أو فاقة شديدة أو خوف مقلق؛ فجعل يدعو الله ويتضرع إليه حتى فتح له من لذة مناجاته ما كان أحب إليه من تلك الحاجة التي قصدها أولا؛ ولكنه لم يكن يعرف ذلك أولا حتى يطلبه ويشتاق إليه. والقرآن مملوء من ذكر حاجة العباد إلى الله دون ما سواه، ومن ذكر نعمائه عليهم؛ ومن ذكر ما وعدهم في الآخرة من صنوف النعيم واللذات، وليس عند المخلوق شيء من هذا؛ فهذا الوجه يحقق التوكل على الله والشكر له ومحبته على إحسانه.
سُورَةُ هُودٍ
(كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير (1)
فصل:
وقوله تعالى {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت} فقد فصله بعد إحكامه؛ بخلاف من تكلم بكلام لم يحكمه وقد يكون في الكلام المحكم ما لم يبينه لغيره؛ فهو سبحانه أحكم كتابه ثم فصله وبينه لعباده كما قال: {وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين} وقال: {ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون} فهو سبحانه بينه وأنزله على عباده بعلم ليس كمن يتكلم بلا علم. وقد ذكر براهين التوحيد والنبوة قبل ذكر الفرق بين أهل الحق والباطل فقال: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات} إلى قوله: {فهل أنتم مسلمون} فلما تحداهم بالإتيان بعشر سور مثله مفتريات هم وجميع من يستطيعون من دونه: كان في مضمون تحديه أن هذا لا يقدر أحد على الإتيان بمثله من دون الله كما قال: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا}.

وحينئذ: فعلم أن ذلك من خصائص من أرسله الله وما كان
مختصا بنوع فهو دليل عليه؛ فإنه مستلزم له وكل ملزوم دليل على لازمه كآيات الأنبياء كلها فإنها مختصة بجنسهم. وهذا القرآن مختص بجنسهم ومن بين الجنس خاتمهم لا يمكن أن يأتي به غيره وكان ذلك برهانا بينا على أن الله أنزله وأنه نزل بعلم الله؛ هو الذي أخبر بخبره وأمر بما أمر به كما قال: {لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه} الآية. وثبوت الرسالة ملزوم لثبوت التوحيد وأنه لا إله إلا الله من جهة أن الرسول أخبر بذلك ومن جهة أنه لا يقدر أحد على الإتيان بهذا القرآن إلا الله فإن من العلم ما لا يعلمه إلا الله إلى غير ذلك من وجوه البيان فيه كما قد بسط ونبه عليه في غير هذا الموضع؛ ولا سيما هذه السورة فإن فيها من البيان والتعجيز ما لا يعلمه إلا الله وفيها من المواعظ والحكم والترغيب والترهيب ما لا يقدر قدره إلا الله.

و " المقصود هنا " هو الكلام على قوله: {أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد} حيث سأل السائل عن تفسيرها وذكر ما في التفاسير من كثرة الاختلاف فيها وأن ذلك الاختلاف يزيد الطالب عمى عن معرفة المراد الذي يحصل به الهدى والرشاد فإن الله تعالى إنما نزل القرآن ليهتدى به لا ليختلف فيه والهدى إنما يكون إذا عرفت معانيه فإذا حصل الاختلاف المضاد لتلك المعاني التي لا يمكن الجمع بينه وبينها لم يعرف الحق ولم تفهم الآية ومعناها ولم يحصل به الهدى والعلم الذي هو المراد بإنزال الكتاب.
قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن: عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا. وقال الحسن البصري: ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم في ماذا نزلت وماذا عني بها.
وقد قال تعالى {أفلا يتدبرون القرآن} وتدبر الكلام إنما ينتفع به إذا فهم. وقال: {إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون}. فالرسل تبين للناس ما أنزل إليهم من ربهم وعليهم أن يبلغوا الناس البلاغ المبين؛ والمطلوب من الناس أن يعقلوا ما بلغه الرسل والعقل يتضمن العلم والعمل فمن عرف الخير والشر فلم يتبع الخير ويحذر الشر لم يكن عاقلا؛ ولهذا لا يعد عاقلا إلا من فعل ما ينفعه واجتنب ما يضره فالمجنون الذي لا يفرق بين هذا وهذا قد يلقي نفسه في المهالك وقد يفر مما ينفعه.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #368  
قديم 08-02-2025, 10:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 149,379
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ هُودٍ
المجلد العاشر
الحلقة( 368)

من صــ 211 الى صـ 225





(وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين (6)
سئل شيخ الإسلام عن الرزق: هل يزيد أو ينقص؟ وهل هو ما أكل أو ما ملكه العبد؟
فأجاب: الرزق نوعان:
أحدهما: ما علمه الله أنه يرزقه فهذا لا يتغير.
والثاني ما كتبه وأعلم به الملائكة فهذا يزيد وينقص بحسب الأسباب فإن العبد يأمر الله الملائكة أن تكتب له رزقا وإن وصل رحمه زاده الله على ذلك كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من سره أن يبسط له في رزقه. وينسأ له في أثره فليصل رحمه}. وكذلك عمر داود زاد ستين سنة فجعله الله مائة بعد أن كان أربعين.

ومن هذا الباب قول عمر: اللهم إن كنت كتبتني شقيا فامحني واكتبني سعيدا فإنك تمحو ما تشاء وتثبت.
ومن هذا الباب قوله تعالى عن نوح: {أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون} {يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى}. وشواهده كثيرة. والأسباب التي يحصل بها الرزق هي من جملة ما قدره الله وكتبه فإن كان قد تقدم بأنه يرزق العبد بسعيه واكتسابه ألهمه السعي والاكتساب وذلك الذي قدره له بالاكتساب لا يحصل بدون الاكتساب وما قدره له بغير اكتساب كموت موروثه يأتيه به بغير اكتساب والسعي سعيان: سعي فيما نصب للرزق؛ كالصناعة والزراعة والتجارة. وسعي بالدعاء والتوكل والإحسان إلى الخلق ونحو ذلك؛ فإن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
فصل:

والرزق يراد به شيئان: أحدهما ما ينتفع به العبد.
والثاني: ما يملكه العبد فهذا الثاني هو المذكور في قوله: {ومما رزقناهم ينفقون} وقوله: {وأنفقوا من ما رزقناكم} وهذا هو الحلال الذي ملكه الله إياه.
وأما الأول: فهو المذكور في قوله: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} وقوله صلى الله عليه وسلم {إن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها} ونحو ذلك. والعبد قد يأكل الحلال والحرام فهو رزق بهذا الاعتبار؛ لا بالاعتبار الثاني وما اكتسبه ولم ينتفع به هو رزق بالاعتبار الثاني دون الأول. فإن هذا في الحقيقة مال وارثه لا ماله والله أعلم.

وسئل عن الخمر والحرام:
هل هو رزق الله للجهال؟ أم يأكلون ما قدر لهم؟.
فأجاب:
أن لفظ " الرزق " يراد به ما أباحه الله تعالى للعبد وملكه إياه ويراد به ما يتغذى به العبد. (فالأول كقوله: {وأنفقوا من ما رزقناكم} {ومما رزقناهم ينفقون} فهذا الرزق هو الحلال والمملوك لا يدخل فيه الخمر والحرام.
و (الثاني كقوله: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها}. والله تعالى يرزق البهائم ولا توصف بأنها تملك ولا بأنه أباح الله ذلك لها إباحة شرعية؛ فإنه لا تكليف على البهائم - وكذلك الأطفال والمجانين - لكن ليس بمملوك لها وليس بمحرم عليها وإنما المحرم بعض الذي يتغذى به العبد وهو من الرزق الذي علم الله أنه يتغذى به وقدر ذلك بخلاف ما أباحه وملكه كما في الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الملك فيؤمر بأربع كلمات فيقال اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح. قال: فوالذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها}. والرزق الحرام مما قدره الله وكتبته الملائكة وهو مما دخل تحت مشيئة الله وخلقه وهو مع ذلك قد حرمه ونهى عنه فلفاعله من غضبه وذمه وعقوبته ما هو أهله - والله أعلم.

(وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ... (7)
وقد ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء} " فأخبر صلى الله عليه وسلم أن تقدير خلق هذا العالم المخلوق في ستة أيام وكان حينئذ عرشه على الماء. كما أخبر بذلك القرآن والحديث المتقدم الذي رواه البخاري في صحيحه؛ عن عمران رضي الله عنه.
ومن هذا: الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وغيرهما عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " {أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب قال: وما أكتب.

قال: ما هو كائن إلى يوم القيامة} " فهذا القلم خلقه لما أمره بالتقدير المكتوب قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان مخلوقا قبل خلق السموات والأرض وهو أول ما خلق من هذا العالم وخلقه بعد العرش كما دلت عليه النصوص وهو قول جمهور السلف كما ذكرت أقوال السلف في غير هذا الموضع.
(أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون (17)
وقال:
فصل:

وقوله تعالى {أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه} وهذا يعم جميع من هو على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه. فالبينة العلم النافع والشاهد الذي يتلوه العمل الصالح وذلك يتناول الرسول ومن اتبعه إلى يوم القيامة فإن الرسول على بينة من ربه ومتبعيه على بينة من ربه. وقال في حق الرسول: {قل إني على بينة من ربي} وقال في حق المؤمنين: {أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم} فذكر هذا بعد أن ذكر الصنفين في أول السورة فقال: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم} {والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم} {ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم} الآيات. إلى قوله: {أفمن كان على بينة من ربه}.

وقال أبو الدرداء: لا تهلك أمة حتى يتبعوا أهواءهم ويتركوا ما جاءتهم به أنبياؤهم من البينات والهدى وقال تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} فمن اتبعه يدعو إلى الله على بصيرة والبصيرة هي البينة. وقال: {أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس} الآية. فالنور الذي يمشي في الناس هو البينة والبصيرة وقال: {الله نور السماوات والأرض} الآية. قال أبي بن كعب وغيره: هو مثل نور المؤمن وهو نوره الذي في قلب عبده المؤمن الناشئ عن العلم النافع والعمل الصالح. وذلك بينة من ربه.
وقال: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه} فهذا النور الذي هو عليه وشرح الصدر للإسلام هو البينة من ربه وهو الهدى المذكور في قوله: {أولئك على هدى من ربهم} واستعمل في هذا حرف الاستعلاء لأن القلب لا يستقر ولا يثبت إلا إذا كان عالما موقنا بالحق فيكون العلم والإيمان صبغة له ينصبغ بها كما قال: {صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة} ويصير مكانة له كما قال: {قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون} والمكان والمكانة قد يراد به ما يستقر الشيء عليه وإن لم يكن محيطا به كالسقف مثلا وقد يراد به ما يحيط به.
فالمهتدون لما كانوا على هدى من ربهم ونور وبينة وبصيرة صار مكانة لهم استقروا عليها وقد تحيط بهم بخلاف الذين قال فيهم: {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه} فإن هذا ليس ثابتا مستقرا مطمئنا بل هو كالواقف على حرف الوادي وهو جانبه فقد يطمئن إذا أصابه خير وقد ينقلب على وجهه ساقطا في الوادي. وكذلك فرق بين من {أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان} وبين {من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم} وكذلك الذين كانوا على شفا حفرة من النار فأنقذهم منها وشواهد هذا كثير. فقد تبين أن الرسول ومن اتبعه على بينة من ربهم وبصيرة وهدى ونور وهو الإيمان الذي في قلوبهم والعلم والعمل الصالح ثم قال: {ويتلوه شاهد منه} والضمير في (منه عائد إلى الله تعالى أي: ويتلو هذا الذي هو على بينة من ربه شاهد من الله والشاهد من الله كما أن البينة التي هو عليها المذكورة من الله أيضا.
وأما قول من قال: " الشاهد " من نفس المذكور وفسره بلسانه أو بعلي بن أبي طالب فهذا ضعيف لأن كون شاهد الإنسان منه لا يقتضي أن يكون الشاهد صادقا فإنه مثل شهادة الإنسان لنفسه بخلاف ما إذا كان الشاهد من الله فإن الله يكون هو الشاهد وهذا كما قيل في قوله: {قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب} إنه علي فهذا ضعيف لأن شهادة قريب له قد اتبعه على دينه ولم يهتد إلا به لا تكون برهانا للصدق ولا حجة على الكفر بخلاف شهادة من عنده علم الكتاب الأول فإن هؤلاء شهادتهم برهان ورحمة كما قال في هذه السورة: {ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة} وقال: {وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله} وقال: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك} الآية.
وقال: {والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق} وهذا الشاهد من الله هو القرآن.
ومن قال: إنه جبريل فجبريل لم يقل شيئا من تلقاء نفسه بل هو الذي بلغ القرآن عن الله وجبريل يشهد أن القرآن منزل من الله وأنه حق كما قال: {لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا} والذي قال هو جبريل. قال: يتلوه أي يقرؤه كما قال: {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} أي إذا قرأه جبريل فاتبع ما قرأه. وقال: {علمه شديد القوى}.
ومن قال: الشاهد لسانه وجعل الضمير المذكور عائدا على القرآن ولم يذكر لأنه جعل البينة هي القرآن ولو كانت البينة هي القرآن لما احتاج إلى ذلك وقد قال: على بينة من ربه فقد ذكر أن القرآن من الله وقد علم أنه نزل به جبريل على محمد وكلاهما بلغه وقرأه فقوله: {ويتلوه} جبريل أو محمد تكرير لا فائدة فيه ولهذا لم يذكر مثل ذلك في القرآن.
وأيضا فكونه على القرآن لم نجد لذلك نظيرا في القرآن فإن القرآن كلام الله واحد لا يكون عليه وإذا كان المراد على الإيمان بالقرآن والعمل به فهذا الذي ذكرناه: أن البينة هي الإيمان بما جاء به الرسول وهو إخباره أنه رسول الله وأن الله أنزل القرآن عليه. ولما أنزلت هذه السورة وهي مكية لم يكن قد نزل من القرآن قبلها إلا بعضه وكان المأمور به حينئذ هو الإيمان بما نزل منه فمن آمن حينئذ بذلك ومات على ذلك كان من أهل الجنة.
وأيضا فتسمية جبريل شاهدا لا نظير له في القرآن وكذلك تسمية لسان الرسول شاهدا وتسمية علي شاهدا لا يوجد مثل ذلك في الكتاب والسنة بخلاف شهادة الله فإن الله أخبر بشهادته لرسوله في غير موضع وسمى ما أنزله شهادة منه في قوله: {ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله} فدل على أن كلام الله الذي أنزله وأخبر فيه بما أخبر شهادة منه.
وهو سبحانه يحكم ويشهد ويفتي ويقص ويبشر ويهدي بكلامه ويصف كلامه بأنه يحكم ويفتي ويقص ويهدي ويبشر وينذر كما قال: {قل الله يفتيكم فيهن} {قل الله يفتيكم في الكلالة} وقال: {إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون} وقال: {نحن نقص عليك أحسن القصص} وقال: {قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين} وقال: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}. وكذلك سمى الرسول هاديا فقال: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} كما سماه بشيرا ونذيرا وسمى القرآن بشيرا ونذيرا فكذلك لما كان هو يشهد للرسول والمؤمنين بكلامه الذي أنزله وكان كلامه شهادة منه: كان كلامه شاهدا منه كما كان يحكم ويفتي ويقص ويبشر وينذر.
ولما قيل لعلي بن أبي طالب حكمت مخلوقا قال: ما حكمت مخلوقا وإنما حكمت القرآن. فإن الذي يحكم به القرآن هو حكم الله والذي يشهد به القرآن هو شهادة الله عز وجل. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم - وقد كان إماما وأخذ التفسير عن أبيه زيد وكان زيد إماما فيه ومالك وغيره أخذوا عنه التفسير وأخذه عنه عبد الله ابن وهب صاحب مالك وأصبغ بن الفرج الفقيه. قال - في قوله تعالى {أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه} : قال رسول الله: " كان على بينة من ربه " والقرآن يتلوه شاهد أيضا؛ لأنه من الله. وقد ذكر الزجاج فيما ذكره من الأقوال: ويتلو رسول الله القرآن وهو شاهد من الله.
وقال أبو العالية: {أفمن كان على بينة من ربه} هو محمد {ويتلوه شاهد منه} القرآن قال ابن أبي حاتم وروي عن ابن عباس ومحمد بن الحنفية ومجاهد وأبي صالح وإبراهيم وعكرمة والضحاك وقتادة والسدي وخصيف وابن عيينة نحو ذلك. وهذا الذي قالوه صحيح؛ ولكن لا يقتضي ذلك أن المتبعين له ليسوا على بينة من ربهم؛ بل هم على بينة من ربهم. وقد قال الحسن البصري: {أفمن كان على بينة من ربه} قال: المؤمن على بينة من ربه ورواه ابن أبي حاتم وروي عن الحسين بن علي {ويتلوه شاهد منه} يعني محمدا شاهد من الله؛ وهي تقتضي أن يكون الذي على البينة من شهد له.
وقول القائل: من قال هو محمد كقول من قال هو جبريل؛ فإن كلاهما بلغ القرآن والله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس فاصطفى جبريل من الملائكة واصطفى محمدا من الناس. وقال في جبريل: {إنه لقول رسول كريم} وقال في محمد: {إنه لقول رسول كريم} وكلاهما رسول من الله؛ كما قال {حتى تأتيهم البينة} {رسول من الله يتلو صحفا مطهرة} {فيها كتب قيمة} فكلاهما رسول من الله بلغ ما أرسل به وهو يشهد أن ما جاء به هو كلام الله وأما شهادتهم بما شهد به القرآن فهذا قدر مشترك بين كل من آمن بالقرآن فإنه يشهد بكل ما شهد به القرآن؛ لكونه آمن به سواء كان قد بلغه أو لم يبلغه.
ولهذا كان إيمان الرسول بما جاء به غير تبليغه له وهو مأمور بهذا وبهذا وله أجر على هذا وهذا كما قال: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون} ولهذا كان يقول أشهد أني عبد الله ورسوله فشهادة جبريل ومحمد بما شهد به القرآن من جهة إيمانهما به لا من جهة كونهما مرسلين به فإن الإرسال به يتضمن شهادتهما أن الله قاله وقد يرسل غير رسول بشيء فيشهد الرسول أن هذا كلام المرسل وإن لم يكن المرسل صادقا ولا حكيما؛ ولكن علم أن جبريل ومحمدا يعلمان أن الله صادق حكيم فهما يشهدان بما شهد الله به.
وكذلك الملائكة والمؤمنون يشهدون بأن ما قاله الله فهو حق وأن الله صادق حكيم لا يخبر إلا بصدق ولا يأمر إلا بعدل {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا}. فقد تبين أن شهادة جبريل ومحمد هي شهادة القرآن وشهادة القرآن هي شهادة الله تعالى والقرآن شاهد من الله وهذا الشاهد يوافق ويتبع ذلك الذي على بينة من ربه؛ فإن البينة والبصيرة والنور والهدى الذي عليه النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون قد شهد القرآن المنزل من الله بأن ذلك حق. {ويتلوه} معناه يتبعه كما قال: {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته} أي يتبعونه حق اتباعه وقال: {والقمر إذا تلاها} أي تبعها وهذا قفاه إذا تبعه. وقد قال: {ولا تقف ما ليس لك به علم} فهذا الشاهد يتبع الذي على بينة من ربه فيصدقه ويزكيه ويؤيده ويثبته كما قال: {قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا} وقال: {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك} وقال: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه}.
وقد سمى الله القرآن سلطانا في غير موضع فإذا كان السلطان المنزل من الله يتبع هذا المؤمن كان ذلك مما يوجب قوته وتسلطه علما وعملا وقال: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين}{وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا} الآية. وقال جندب بن عبد الله وعبد الله بن عمر: تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا فهم كانوا يتعلمون الإيمان ثم يتعلمون القرآن. وقال بعضهم في قوله: {نور على نور} قال: نور القرآن على نور الإيمان كما قال: {ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا} وقال السدي في قوله: {نور على نور} نور القرآن ونور الإيمان حين اجتمعا فلا يكون واحد منهما إلا بصاحبه.
فتبين أن قوله: {أفمن كان على بينة من ربه} يعني هدى الإيمان {ويتلوه شاهد منه} أي من الله يعني القرآن شاهد من الله يوافق الإيمان ويتبعه وقال: {يتلوه} لأن الإيمان هو المقصود؛ لأنه إنما يراد بإنزال القرآن الإيمان وزيادته.
ولهذا كان الإيمان بدون قراءة القرآن ينفع صاحبه ويدخل به الجنة والقرآن بلا إيمان لا ينفع في الآخرة؛ بل صاحبه منافق؛ كما في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " {مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها} ". ولهذا جعل الإيمان " بينة " وجعل القرآن شاهدا؛ لأن البينة من البيان و " البينة " هي السبيل البينة وهي الطريق البينة الواضحة وهي أيضا ما يبين بها الحق فهي بينة في نفسها مبينة لغيرها وقد تفسر بالبيان وهي الدلالة والإرشاد؛ فتكون كالهدى كما يقال: فلان على هدى وعلى علم؛ فيفسر بمعنى المصدر والصفة والفاعل.
ومنه قوله: {أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى} أي بيان ما فيها أو يبين ما فيها أو الأمر البين فيها وقد سمى الرسول بينة كما قال: {حتى تأتيهم البينة} {رسول من الله} فإنه يبين الحق والمؤمن على سبيل بينة ونور من ربه والشاهد المقصود به شهادته للمشهود له فهو يشهد للمؤمن بما هو عليه وجعل الإيمان من الله كما جعل الشاهد من الله لأن الله أنزل الإيمان في جذر قلوب الرجال كما في الصحيحين عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " {إن الله أنزل الإيمان في جذر قلوب الرجال فعلموا من القرآن وعلموا من السنة} ".
وأيضا: فالإيمان ما قد أمر الله به.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #369  
قديم 08-02-2025, 10:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 149,379
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ هُودٍ
المجلد العاشر
الحلقة( 369)

من صــ 226 الى صـ 240






وأيضا فالإيمان إنما هو ما أخبر به الرسول وهذا أخبر به الرسول لكن الرسول له وحيان وحي تكلم الله به يتلى ووحي لا يتلى فقال:{وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا} الآية. وهو يتناول القرآن والإيمان. وقيل الضمير في قوله: {جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا} يعود إلى الإيمان ذكر ذلك عن ابن عباس. وقيل: إلى القرآن. وهو قول السدي وهو يتناولهما وهو في اللفظ يعود إلى الروح الذي أوحاه وهو الوحي الذي جاء بالإيمان والقرآن.

فقد تبين أن كلاهما من الله نور وهدى ومنه هذا يعقل بالقلب؛ لما قد يشاهد من دلائل الإيمان مثل دلائل الربوبية والنبوة وهذا يسمع بالآذان والإيمان الذي جعل للمؤمن هو مثل ما وعد الله به في قوله: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} أي أن القرآن حق فهذه الآيات متأخرة عن نزول القرآن وهو مثل ما فعل من نصر رسوله والمؤمنين يوم بدر وغير يوم بدر فإنه آيات مشاهدة صدقت ما أخبر به القرآن ولكن المؤمنون كانوا قد آمنوا قبل هذا.
وقيل: نزول أكثر القرآن الذي ثبت الله به لنبيه وللمؤمنين؛ ولهذا قال: {أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} فهو يشهد لرسوله بأنه صادق بالآيات الدالة على نبوته وتلك آمن بها المؤمنون ثم أنزل من القرآن شاهدا له ثم أظهر آيات معاينة تبين لهم أن القرآن حق.
فالقرآن وافق الإيمان والآيات المستقبلة وافقت القرآن والإيمان؛ ولهذا قال: {ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة} فقوله: {ومن قبله} يعود الضمير إلى الشاهد الذي هو القرآن كما قال تعالى: {قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله} الآية ثم قال: {ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة} الآية. فقوله {ومن قبله} الضمير يعود إلى القرآن أي: من قبل القرآن كما قاله ابن زيد. وقيل: يعود إلى الرسول كما قاله مجاهد وهما متلازمان.
وقوله: {ومن قبله كتاب موسى} فيه وجهان قيل: هو عطف مفرد وقيل: عطف جملة. قيل المعنى {ويتلوه شاهد منه} ويتلوه أيضا من قبله كتاب موسى فإنه شاهد بمثل ما شهد به القرآن وهو شاهد من الله وقيل: {ومن قبله كتاب موسى} جملة؛ ولكن مضمون الجملة فيها تصديق القرآن كما قال في الأحقاف.
وقوله تعالى {أولئك يؤمنون به} يدل على أن قوله: {أفمن كان على بينة من ربه} تتناول المؤمنين فإنهم آمنوا بالكتاب الأول والآخر كما تتناول النبي صلى الله عليه وسلم وأولئك يعود إليهم الضمير فإنهم مؤمنون به بالشاهد من الله فالإيمان به إيمان بالرسول والكتاب الذي قبله.
ثم قال: {ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} وروى الإمام أحمد وابن أبي حاتم وغيرهما عن أيوب عن سعيد بن جبير قال: ما بلغني حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه إلا وجدت تصديقه في كتاب الله؛ حتى بلغني أنه قال: " {لا يسمع بي أحد من هذه الأمة لا يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بما أرسلت به إلا دخل النار} " قال سعيد: فقلت أين هذا في كتاب الله حتى أتيت على هذه الآية: {ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} قال الأحزاب هي الملل كلها. وقوله تعالى {أولئك يؤمنون به} أي كل من كان على بينة من ربه فإنه يؤمن بالشاهد من الله والإيمان به إيمان بما جاء به موسى قال: {أولئك يؤمنون به} وهم المتبعون لمحمد صلى الله عليه وسلم من أصحابه وغيرهم إلى قيام الساعة ثم قال: {ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} والأحزاب هم أصناف الأمم الذين تحزبوا وصاروا أحزابا كما قال تعالى: {كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه}.
وقد ذكر الله طوائف الأحزاب في مثل هذه السورة وغيرها وقد قال تعالى عن مكذبي محمد صلى الله عليه وسلم {جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب} وهم الذين قال فيهم: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} {منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين} {من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون} وقال عن أحزاب النصارى: {فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم} الآيات. وأما من قال: الضمير في قوله: {أولئك يؤمنون به} يعود على أهل الحق قال: إنه موسى وعيسى ومحمد. فإنه إن أراد بهم من كان مؤمنا بالكتابين قبل نزول القرآن فلم يتقدم لهم ذكر والضمير في قوله (به مفرد ولو آمن مؤمن بكتاب موسى دون الإنجيل بعد نزوله وقيام الحجة عليه به لم يكن مؤمنا.
وهذان القولان حكاهما أبو الفرج ولم يسم قائلهما والبغوي وغيره لم يذكروا نزاعا في أنهم من آمن بمحمد ولكن ذكروا قولا إنهم من آمن به من أهل الكتاب وهذا قريب. ولعل الذي حكى قولهم أبو الفرج أرادوا هذا وإلا فلا وجه لقولهم. ومن العجب أن أبا الفرج ذكر بعد هذا في الأحزاب أربعة أقوال: " أحدها " أنهم جميع الملل قاله سعيد بن جبير.
و " الثاني " اليهود والنصارى قاله قتادة. و " الثالث " قريش قاله السدي. و " الرابع " بنو أمية وبنو المغيرة. قال - أي - أبي طلحة بن عبد العزى قاله مقاتل. وهذه الآية تقتضي أن الضمير يعود إلى القرآن في قوله: {ومن يكفر به} وكذلك: {أولئك يؤمنون به} إنه القرآن ودليله قوله تعالى {فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك} وهذا هو القرآن بلا ريب وقد قيل: هو الخبر المذكور وهو أنه من يكفر به من الأحزاب وهذا أيضا هو القرآن فعلم أن المراد هو الإيمان بالقرآن والكفر به باتفاقهم وأنه من قال في أولئك إنهم غير من آمن بمحمد لم يتصور ما قال. وقد تقدم في قوله: {ومن قبله كتاب موسى} وجهان.
هل هو عطف جملة أو مفرد؛ لكن الأكثرون على أنه مفرد. وقال الزجاج المعنى: وكان من قبل هذا كتاب موسى. دليل على أمر محمد فيتلون كتاب موسى عطفا على قوله: {ويتلوه شاهد منه} أي ويتلو كتاب موسى؛ لأن موسى وعيسى بشرا بمحمد في التوراة والإنجيل ونصب إماما على الحال.
قلت: قد تقدم أن الشاهد يتلو على من كان على بينة من ربه أي يتبعه شاهدا له بما هو عليه من البينة.
وقوله: {أفمن كان على بينة من ربه} كمن لم يكن قال الزجاج: وترك المعادلة؛ لأن فيما بعده دليلا عليه وهو قوله: {مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع} قال ابن قتيبة: لما ذكر قبل هذه الآية قوما ركنوا إلى الدنيا وأرادوها جاء بهذه الآية وتقدير الكلام: أفمن كانت هذه حاله كمن يريد الدنيا؟ فاكتفى من الجواب بما تقدم إذ كان دليلا عليه وقال ابن الأنباري: إنما حذف لانكشاف المعنى وهذا كثير في القرآن. قلت: نظير هذه الآية من المحذوف: {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا} كمن ليس كذلك وقد قال بعد هذا:

{ومن يكفر به من الأحزاب} وهذا هو القسم الآخر المعادل لهذا الذي هو على بينة من ربه وعلى هذا يكون معناها {أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم} ويكون أيضا معناها: {أفمن كان على بينة من ربه} أي بصيرة في دينه كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها وهذا كقوله: {أومن كان ميتا فأحييناه} الآية. وكقوله {أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله} وقوله: {أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي} الآية.
والمحذوف في مثل هذا النظم قد يكون غير ذلك كقوله: {أومن ينشأ في الحلية} أي تجعلون له من ينشأ في الحلية ولا بد من دليل على المحذوف وقد يكون المحذوف مثل أن يقال: أفمن هذه حاله يذم أو يطعن عليه أو يعرض عن متابعته أو يفتن أو يعذب كما قال: {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء}.
وقد قيل في هذه الآية إن المحذوف: {أفمن زين له سوء عمله} فرأى الباطل حقا؟ والقبيح حسنا كمن هداه الله فرأى الحق حقا والباطل باطلا والقبيح قبيحا والحسن حسنا؟ وقيل: جوابه تحت قوله: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} لكن يرد عليه أن يقال: الاستفهام ما معناه إلا أن تقدر. أي: هذا تقدر أن تهديه أو ربك؟ أو تقدر أن تجزيه كما قال: {أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا} ولهذا قال: {فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء} وكما قال: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم} الآية. وعلى هذا يكون معناها كمعنى قوله: {أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله}.
وعلى هذا فالمعنى هنا: {أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى} يذم ويخالف ويكذب ونحو ذلك كقوله: {قل إني على بينة من ربي وكذبتم به} وحذف جواب الشرط وكقوله: {أرأيت إن كان على الهدى} {أو أمر بالتقوى} {أرأيت إن كذب وتولى}. فقد تبين أن معنى الآية من أشرف المعاني وهذا هو الذي ينتفع به كل أحد وأن الآية ذكرت من كان على بينة من ربه من الإيمان الذي شهد له القرآن فصار على نور من ربه وبرهان من ربه على ما دلت عليه البراهين العقلية والسمعية كما قال: {وأنزلنا إليكم نورا مبينا} فالنور المبين المنزل يتناول القرآن.
قال قتادة: بينة من ربكم وقال الثوري: هو النبي صلى الله عليه وسلم وقال البغوي: هذا قول المفسرين ولم أجده منقولا عن غير الثاني ولا ذكره ابن الجوزي عن غيره.
وذكر في البرهان ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الحجة. والثاني: أنه الرسول وذكر أنه القرآن عن قتادة. والذي رواه ابن أبي حاتم عن قتادة بالإسناد الثابت أنه بينة من الله والبينة والحجة تتناول آيات الأنبياء التي بعثوا بها فكل ما دل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فهو برهان. قال تعالى: {فذانك برهانان من ربك} وقال لمن قال: لا يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى قل: هاتوا برهانكم. ومحمد هو الصادق المصدوق قد أقام الله على صدقه براهين كثيرة وصار محمد نفسه برهانا فأقام من البراهين على صدقه؛ فدليل الدليل دليل وبرهان البرهان برهان وكل آية له برهان والبرهان اسم جنس لا يراد به واحد كما في قوله: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} ولو جاءوا بعده ببراهين كانوا ممتثلين. و " المقصود " أن ذلك البرهان يعلم بالعقل أنه دال على صدقه وهو بينة من الله كما قال قتادة وحجة من الله كما قال مجاهد والسدي: المؤمن على تلك البينة ويتلوه شاهد من الله وهو النور الذي أنزله مع البرهان. والله أعلم.
فصل:
وأما من قال: {أفمن كان على بينة من ربه} إنه محمد صلى الله عليه وسلم كما قاله طائفة من السلف فقد يريدون بذلك التمثيل لا التخصيص فإن المفسرين كثيرا ما يريدون ذلك ومحمد هو أول من كان على بينة من ربه وتلاه شاهد منه وكذلك الأنبياء وهو أفضلهم وإمامهم والمؤمنون تبع له وبه صاروا على بينة من ربهم.

والخطاب قد يكون لفظه له ومعناه عام كقوله: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك} {لئن أشركت ليحبطن عملك} {فإذا فرغت فانصب} {قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي} ونحو ذلك وذلك أن الأصل فيما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما أمر به ونهي عنه وأبيح له سار في حق أمته كمشاركة أمته له في الأحكام وغيرها حتى يقوم دليل التخصيص فما ثبت في حقه من الأحكام ثبت في حق الأمة إذا لم يخصص هذا مذهب السلف والفقهاء ودلائل ذلك كثيرة كقوله: {فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها} الآية ولما أباح له الموهوبة قال: {خالصة لك من دون المؤمنين} الآية. فإذا كان هذا مع كون الصيغة خاصة فكيف تجعل الصيغة العامة له وللمؤمنين مختصة به؟ ولفظ " من " أبلغ صيغ العموم؛ لا سيما إذا كانت شرطا أو استفهاما كقوله: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} {ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} وقوله: {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا} وقوله: {أومن كان ميتا فأحييناه} وقوله {أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله}.
و " أيضا ": فقد ذكر بعد ذلك قوله: {أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} وذكر بعد هذا: {مثل الفريقين} وقد تقدم قبل هذا ذكر الفريقين وقوله: {أولئك يؤمنون به} إشارة إلى جماعة ولم يقدم قبل هذا ما يصلح أن يكون مشارا إليه إلا (من) والضمير يعود تارة إلى لفظ (من) وتارة إلى معناها كقوله: {ومنهم من يستمع إليك} {ومنهم من يستمعون إليك} {ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى} {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة} الآية. وأما الإشارة إلى معناها فهو أظهر من الضمير. فقوله: {أولئك يؤمنون به} دليل على أن الذي على بينة من ربه كثيرون لا واحد قال ابن أبي حاتم: ثنا عامر بن صالح عن أبيه عن الحسن البصري: {أفمن كان على بينة من ربه}.
قال: المؤمن على بينة من ربه وهذا الذي قاله الحسن البصري هو الصواب والرسول هو أول المؤمنين كما قال: {وأمرت أن أكون من المؤمنين}.
ومن قال: إن الشاهد من الله هو محمد كما رواه ابن أبي حاتم ثنا الأشج ثنا أبو أسامة عن عوف عن سليمان الفلاني عن الحسين بن علي: {ويتلوه شاهد منه} يعني محمدا شاهدا من الله فهنا معنى كونه شاهدا من الله هو معنى كونه رسول الله وهو يشهد للمؤمنين بأنهم على حق وإن كان يشهد لنفسه بأنه رسول الله فشهادته لنفسه معلومة قد علم أنه صادق فيها بالبراهين الدالة على نبوته وأما شهادته للمؤمنين فهو أنها إنما تعلم من جهته بما بلغه من القرآن ويخبر به عن ربه فهو إذا شهد كان شاهدا من الله.
وأما شهادته عليهم بالإيمان والتصديق وغير ذلك فكما في قوله: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} {ويكون الرسول عليكم شهيدا} لكن من قال هذا فقد يريد بالبينة القرآن فإن المؤمن متبع للقرآن ومحمد شاهد من الله يتلوه كما تلاه جبريل. ومن قال إن الشاهد لسان محمد فهو إنما أراد بهذا القول التلاوة أي: أن لسان محمد يقرأ القرآن وهو شاهد منه أي من نفسه فإن لسانه جزء منه وهذا القول ونحوه ضعيف. والله أعلم. هذا إن ثبت ذلك عمن نقل عنه فإن هذا وضده ينقلان عن علي بن أبي طالب.
وذلك أن طائفة من جهال الشيعة ظنوا أن عليا هو الشاهد منه أي من النبي صلى الله عليه وسلم كما قال له: " {أنت مني وأنا منك} ". وهذا قاله لغيره أيضا فقد ثبت في الصحيحين أنه قال " {الأشعريون هم مني وأنا منهم} ".
وقال عن جليبيب: " {هذا مني وأنا منه} "
وكل مؤمن هو من النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الخليل: {فمن تبعني فإنه مني} وقال: {ومن لم يطعمه فإنه مني} ورووا هذا القول عن علي نفسه وروي عنه بإسناد أجود منه أنه قال كذب من قال هذا قال ابن أبي حاتم: ذكر عن حسين بن زيد الطحان ثنا إسحاق بن منصور ثنا سفيان عن الأعمش عن المنهال عن عباد بن عبد الله قال: قال علي: ما من قريش أحد إلا نزلت فيه آية قيل فما أنزل فيك؟ قال: {ويتلوه شاهد منه} وهذا كذب على علي قطعا. وإن ثبت النقل عن عباد هذا فإن له منكرات عنه كقوله: أنا الصديق الأكبر أسلمت قبل الناس بسبع سنين. وقد رووا عن علي ما يعارض ذلك قال ابن أبي حاتم؛ ثنا أبي ثنا عمرو بن علي الباهلي ثنا محمد بن شواص ثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن عروة عن محمد بن علي - يعني ابن الحنفية - قال: قلت لأبي: يا أبة {ويتلوه شاهد منه} إن الناس يقولون: إنك أنت هو قال: وددت لو أني أنا هو.
ولكنه لسانه؟ قال ابن أبي حاتم: وروي عن الحسن وقتادة نحو ذلك.
قلت: وقد تقدم عن الحسين ابنه أن " الشاهد منه " هو محمد صلى الله عليه وسلم وإنما تكلم علماء أهل البيت في أنه محمد ردا على من قال من الجهلة: إنه علي؛ فإن هذه السورة نزلت بمكة وعلي كان إذ ذاك صغيرا لم يبلغ. وكان ممن اتبع الرسول ولو كان ابن رسول الله ليس ابن عمه لم تكن شهادته تنفع.
لا عند المسلمين ولا عند الكفار؛ بل مثل هذه الشهادة فيها تهمة القرابة. ولهذا كان أكثر العلماء على أن شهادة الوالد وشهادة الولد لوالده لا تقبل فكيف يجعل مثل هذا حجة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم مؤكدا لها؟ ولذلك قالوا في قوله تعالى {ومن عنده علم الكتاب} إنه علي وهم مع كذبهم هم أجهل الناس فإنهم نسبوا الله والرسول إلى الاحتجاج بما لا يحتج به إلا جاهل فأرادوا تعظيم علي فنسبوا الله والرسول إلى الجهل وعلي إنما فضيلته باتباعه للرسول فإذا قدح في الأصل بطل الفرع. وأما قول من قال من المفسرين: إن " الشاهد " جبريل عليه السلام فقد روى ذلك عكرمة عن ابن عباس ذكره ابن أبي حاتم عنه وعن أبي العالية وأبي صالح ومجاهد في إحدى الروايات عنه وإبراهيم وعكرمة والضحاك وعطاء الخراساني نحو ذلك.
وهؤلاء جعلوا {ويتلوه} بمعنى يقرؤه أي: ويتلو القرآن الذي هو البينة: شاهد من الله هو وقيل: بل معنى قولهم: إن القرآن يتلوه جبريل هو شاهد محمد صلى الله عليه وسلم أي الذي يتلوه جاء من عند الله.
وقد تقدم بيان ضعف هذا القول فإن كل من فسر يتلوه بمعنى يقرؤه جعل الضمير فيه عائدا إلى القرآن وجعل الشاهد غير القرآن. والقرآن لم يتقدم له ذكر إنما قال: {أفمن كان على بينة من ربه} والبينة لا يجوز أن يكون تفسيرها بحفظ القرآن فإن المؤمنين كلهم على بينة من ربهم وإن لم يحفظوا القرآن؛ بخلاف البصيرة في الدين فإنه من لم يكن على بصيرة من ربه لم يكن مؤمنا حقا بل من القائلين - لمنكر ونكير - آه آه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته.
والقرآن إنما مدح من كان على بينة من ربه فهو على هدى ونور وبصيرة سواء حفظ القرآن أو لم يحفظه وإن أريد اتباع القرآن فهو الإيمان وأكثر القرآن لم يكن نزل حين نزول هذه الآية وقد تقدم إنما يختص به جبريل ومحمد فهو تبليغ الرسالة عن الله وصدقهما في ذلك.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #370  
قديم 08-02-2025, 10:36 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 149,379
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ هُودٍ
المجلد العاشر
الحلقة( 370)

من صــ 241 الى صـ 255





وأما كون رسالة الله حقا فهذا هو المشهود به من كل رسول وهما لا يختصان بذلك بل يؤمنان به كما يؤمن بذلك كل ملك وكل مؤمن وشهادتهما بأن النبي والمؤمنين على حق من هذا الوجه الثاني المشترك ولو قال: ويبلغه وينزل به رسول من الله لكان ما قالوه متوجها كما قال:
{قل نزله روح القدس} {نزل به الروح الأمين} {فإنه نزله على قلبك بإذن الله} أما كونه شاهدا يقرؤه فهذا لا نظير له في القرآن. و " أيضا " فالشاهد الذي هو من الله هو الكلام فإن الكلام نزل منه كما يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ويقال في الرسول إنه منه كما قال رسول من الله ويقال في الشخص الشاهد فيقال فيه هو من شهداء الله وأما كونه يقال فيه شاهد من الله أنها برهان من الله وآيات من الله في الآيات التي يخلقها الله تصديقا لرسوله: فهذا يحتاج استعماله إلى شاهد.
والقرآن نزل بلغة قريش الموجودة في القرآن فإنها تفسر بلغته المعروفة فيه إذا وجدت لا يعدل عن لغته المعروفة مع وجودها وإنما يحتاج إلى غير لغته في لفظ لم يوجد له نظير في القرآن كقوله: {ويكأن الله} {ولات حين مناص} {وكأسا دهاقا} {وفاكهة وأبا} و {قسمة ضيزى} ونحو ذلك من الألفاظ الغريبة في القرآن والذين قالوا هذه الأقوال: إنما أتوا من جهة قوله: {ويتلوه} فظنوا أن تلاوته هي قراءته ولم يتقدم للقرآن ذكر.
ثم جعل هذا يقول جبريل تلاه وهذا يقول محمد وهذا يقول لسانه. والتلاوة قد وجدت في القرآن واللغة المشهورة بمعنى الاتباع. وكثير من المفسرين لا يذكر في هذه الآية القول الصحيح فيبقى الناظر الفطن حائرا ولم يذكر في الذي على بينة من ربه إلا أنه الرسول ويذكر في الشاهد عدة أقوال. ثم من العجب أنه يقول: {أولئك يؤمنون} أولئك أصحاب محمد. وقيل: المراد الذين أسلموا من أهل الكتاب وهو على ما فسره لم يتقدم لهم ذكر فكيف يشار إليهم بقوله: {يؤمنون به} وأبو الفرج ذكر قولا أنهم المسلمون ولم يذكر أن الآية تعم النبي والمؤمنين ولما ذكر قول من قال: إنهم المسلمون قال: وهذا يخرج على قول الضحاك في البينة أنها رسول الله. وقد ذكر في " البينة " أربعة أقوال: أنها الدين ذكره أبو صالح عن ابن عباس وأنها رسول الله قاله الضحاك وأنها القرآن قاله ابن زيد وأنها البيان. قاله مقاتل. ثم قال: فإن قلنا: المراد من كان على بينة من ربه المسلمون فالمعنى أنهم يتبعون الرسول وهو البينة ويتبع هذا النبي شاهد منه يصدقه والمسلمون إذا كانوا على بينة فهي الإيمان بالرسول ليست البينة ذات الرسول والرسول ليس هو مذكورا في كلامه فقوله: {ويتلوه} لا بد أن يعود إلى {منه} (1) لكن إعادته إلى البينة أولى.
وفسر البينة بالرسول وجعل الشاهد يشهد له بصدقه. ثم الشاهد جبريل أو غيره فلو قال: الشاهد هو القرآن يشهد للمؤمنين فإنه يتبعهم كما يتبعونه كان قد ذكر الصواب. وهو قد ذكر أقوالا كثيرة لم يذكرها غيره وذكر في يتلوه قولين " أحدهما " يتبعه. و " الثاني " يقرؤه وهما قولان مشهوران. وذكر في " هـ " يتلوه قولين: أنها ترجع إلى النبي. و " الثاني " أنها ترجع إلى القرآن.
والتحقيق: أنها ترجع إلى " من " أو ترجع إلى البينة والبينة يراد بها القرآن فيكون المعنى أن الشاهد من القرآن وإذا رجع الضمير إلى " من " فإن جعل مختصا بالنبي صلى الله عليه وسلم - وهو القول الذي تقدم بيان فساده - عاد الضمير إلى البينة - وإن كان " من " تتناول كل من كان على بينة من ربه من المؤمنين ورسول الله أولى المؤمنين تناول الجميع.
ومما يوضح ذلك: أن رسول الله جاء بالرسالة من الله وهذا يختص به وتصديق هذه الرسالة والإيمان بها واجب على الثقلين والرسول هو أول من يجب عليه الإيمان بهذه الرسالة التي أرسله الله بها ولهذا قال في سورة يونس: {قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين}. وقال: {قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم} إلى غير ذلك من الآيات. فهو صلى الله عليه وسلم يتعلق به أمران عظيمان. " أحدهما " إثبات نبوته وصدقه فيما بلغه عن الله وهذا مختص به.
و " الثاني " تصديقه فيما جاء به وأن ما جاء به من عند الله حق يجب اتباعه وهذا يجب عليه وعلى كل أحد فإنه قد يوجد فيمن يرسله المخلوق من يصدق في رسالته؛ لكنه لا يتبعها؛ إما لطعنه في المرسل وإما لكونه يعصيه وإن كان قد أرسل بحق فالملوك كثيرا ما يرسلون رسولا بكتب وغيرها يبلغ الرسل رسالتهم فيصدقون بها.
ثم قد يكون الرسول أكثر مخالفة لمرسله من غيره من المرسل إليهم ولهذا ظن طائفة منهم القاضي أبو بكر أن مجرد كونه رسولا لله لا يستلزم المدح. ثم قال: إن هذا قد يقال فيمن قبل الرسالة وبلغها وفيمن لم يقبل لكن هذا غلط فإن الله لا يرسل رسولا إلا وقد اصطفاه فيبلغ رسالات ربه.
ورسل الله هم أطوع الخلق لله وأعظم إيمانا بما بعثوا به بخلاف المخلوق فإنه يرسل من يكذب عليه ومن يعصيه ومن لا يعتقد وجوب طاعته والخالق منزه عن ذلك. لكن هؤلاء الذين قالوا هذا يجوزون على الرب أن يرسل كل أحد بكل شيء ليس في العقل عندهم ما يمنع ذلك وإنما ينزهون الرسل عما أجمع المسلمون على تنزيههم عنه عندهم مما ثبت بالسمع لا من جهة كونه رسولا كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع وبين أن هذا الأصل خطأ. ولما كان هو صلى الله عليه وسلم يتعلق به الأمران.
في " الأول " يقال: آمنت له كما قال تعالى: {فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه} وقوله: {يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين} {وما أنت بمؤمن لنا}. وفي " الثاني " يقال: آمنت بالله فعلينا أن نؤمن له ونؤمن بما جاء به والله تعالى ذكر هذين.
فذكر " أولا " ما يثبت نبوته وصدقه بقوله: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين} {فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو} كما تقدم التنبيه على ذلك.
ولما كان الذي يمنع الإنسان من اتباع الرسول شيئان: إما الجهل وإما فساد القصد ذكر ما يزيل الجهل وهو الآيات الدالة على صدقه ثم ذكر أهل فساد القصد بقوله: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون} {أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون} فهؤلاء أهل فساد القصد. فهذان الأمران هما المانعان للخلق من اتباع هذا الرسول كما أنه في البقرة ذكر ما يوجب العلم وحسن القصد فقال: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين}. ثم قال: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين}.
فلما أثبت هذين الأصلين: أخذ بعد هذا في بيان الإيمان به وحال من آمن ومن كفر فقال: {أفمن كان على بينة من ربه} الآية. ثم قال: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم} وهذا يتناول كل كافر ممن كذب على الله بادعاء الرسالة كاذبا ويتناول كل من كذب رسولا صادقا فقال: إن الله لم يرسل هذا ولم يأمر بهذا فكذب على الله وهذا إنما يقع ممن فسد قصده بحب الدنيا وإرادتها وممن أحب الرئاسة وأراد العلو في الأرض من أهل الجهل.
وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " {إن الله يدني المؤمن منه يوم القيامة حتى يلقي عليه كنفه ويقول فعلت يوم كذا كذا وكذا ويوم كذا كذا وكذا فيقول: نعم. فيقول: إني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه} ".
وأما الكفار والمنافقون: ف {ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين} ثم ذكر تعالى الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم ذكر مثل الفريقين فمن تدبر القرآن وتدبر ما قبل الآية وما بعدها وعرف مقصود القرآن: تبين له المراد وعرف الهدى والرسالة وعرف السداد من الانحراف والاعوجاج.
وأما تفسيره بمجرد ما يحتمله اللفظ المجرد عن سائر ما يبين معناه فهذا منشأ الغلط من الغالطين؛ لا سيما كثير ممن يتكلم فيه بالاحتمالات اللغوية. فإن هؤلاء أكثر غلطا من المفسرين المشهورين؛ فإنهم لا يقصدون معرفة معناه كما يقصد ذلك المفسرون. وأعظم غلطا من هؤلاء وهؤلاء من لا يكون قصده معرفة مراد الله؛ بل قصده تأويل الآية بما يدفع خصمه عن الاحتجاج بها وهؤلاء يقعون في أنواع من التحريف ولهذا جوز من جوز منهم أن تتأول الآية بخلاف تأويل السلف وقالوا: إذا اختلف الناس في تأويل الآية على قولين جاز لمن بعدهم إحداث قول ثالث؛ بخلاف ما إذا اختلفوا في الأحكام على قولين وهذا خطأ فإنهم إذا أجمعوا على أن المراد بالآية إما هذا وإما هذا كان القول بأن المراد غير هذين القولين خلافا لإجماعهم؛ ولكن هذه طريق من يقصد الدفع لا يقصد معرفة المراد وإلا فكيف يجوز أن تضل الأمة عن فهم القرآن ويفهمون منه كلهم غير المراد [ويأتي] (2) متأخرون يفهمون المراد فهذا هذا والله أعلم.
فصل:
وقوله: {أفمن كان على بينة من ربه} كما تقدم هو كقوله: {قل إني على بينة من ربي} وقوله: {أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم} وقوله: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه} وقوله {أولئك على هدى من ربهم}.

فإن هذا النوع يبين أن المؤمن على أمر من الله فاجتمع في هذا اللفظ حرف الاستعلاء وحرف (من) لابتداء الغاية وما يستعمل فيه حرف ابتداء الغاية فيقال: هو من الله على نوعين فإنه إما أن يكون من الصفات التي لا تقوم بنفسها ولا بمخلوق فهذا يكون صفة له وما كان عينا قائمة بنفسها أو بمخلوق فهي مخلوقة.
" فالأول " كقوله: {ولكن حق القول مني} وقوله: {يعلمون أنه منزل من ربك بالحق} كما قال السلف: القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود. " والنوع الثاني " كقوله: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} وقوله: {وما بكم من نعمة فمن الله} و {ما أصابك من حسنة فمن الله} وكما يقال: إلهام الخير وإيحاؤه من الله وإلهام الشر وإيحاؤه من الشيطان والوسوسة من الشيطان. فهذا نوعان. تارة يضاف باعتبار السبب وتارة باعتبار العاقبة والغاية.
فالحسنات هي النعم والسيئات هي المصائب كلها من عند الله لكن تلك الحسنات أنعم الله بها على العبد فهي منه إحسانا وتفضلا وهذه عقوبة ذنب من نفس العبد فهي من نفسه باعتبار أن عمله السيئ كان سببها وهي عقوبة له؛ لأن النفس أرادت تلك الذنوب ووسوست بها. وتارة يقال باعتبار حسنات العمل وسيئاته وما يلقى في القلب من التصورات والإرادات فيقال للحق: هو من الله ألهمه العبد ويقال للباطل: إنه من الشيطان وسوس به ومن النفس أيضا لأنها أرادته كما قال عمر وابن عمر وابن مسعود فيما قالوه باجتهادهم: إن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمنا ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه.
وهذا لفظ ابن مسعود في حديث بروع بنت واشق قال: إن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان لأنه حكم بحكم فإن كان موافقا لحكم الله فهو من الله لأنه موافق لعلمه وحكمه فهو منه باعتبار أنه سبحانه ألهمه عبده لم يحصل بتوسط الشيطان والنفس وإن كان خطأ فالشيطان وسوس به والنفس أرادته ووسوست به وإن كان ذلك مخلوقا فيه والله خلقه فيه؛ لكن الله لم يحكم به وإن لم يكن ما وقع لي من إلهام الملك كما قال ابن مسعود:
إن للملك بقلب ابن آدم لمة وللشيطان لمة؛ فلمة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق " فالتصديق من باب الخبر والإيعاد بالخير والشر من باب الطلب والإرادة. قال تعالى: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم}. فهذه حسنات العمل من الله عز وجل بهذين الاعتبارين. " أحدهما " أنه يأمر بها ويحبها وإذا كانت خيرا فهو يصدقها ويخبر بها فهي من علمه وحكمه وهي أيضا من إلهامه لعبده وإنعامه عليه لم تكن بواسطة النفس والشيطان؛ فاختصت بإضافتها إلى الله من جهة أنها من علمه وحكمه وأن النازل بها إلى العبد ملك كما اختص القرآن بأنه منه كلام وقرآن مسيلمة بأنه من الشيطان فإن ما يلقيه الله في قلوب المؤمنين من الإلهامات الصادقة العادلة هي من وحي الله وكذلك ما يريهم إياه في المنام قال عبادة بن الصامت: رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في منامه وقال عمر:
اقتربوا من أفواه المطيعين واسمعوا منهم ما يقولون فإنهم يتجلى لهم أمور صادقة وقد قال تعالى: {وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي} {وأوحينا إلى أم موسى} {وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا} وقال: {فألهمها فجورها وتقواها} على قول الأكثرين وهو أن المراد أنه ألهم الفاجرة فجورها والتقية تقواها فالإلهام عنده هو البيان بالأدلة السمعية والعقلية.
وأهل السنة يقولون: كلا النوعين من الله هذا الهدى المشترك وذاك الهدى المختص وإن كان قد سماه إلهاما كما سماه هدى كما في قوله: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} وكذلك قد قيل في قوله: {وهديناه النجدين} أي بينا له طريق الخير والشر وهو هدى البيان العام المشترك. وقيل: هدينا المؤمن لطريق الخير والكافر لطريق الشر؛ فعلى هذا يكون قد جعل الفجور هدى كما جعل أولئك البيان إلهاما. وكذلك قوله {إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا} قيل هو الهدى المشترك وهو أنه بين له الطريق التي يجب سلوكها والطريق التي لا يجب سلوكها. وقيل بل هدى كلا من الطائفتين إلى ما سلكه من السبيل {إما شاكرا وإما كفورا}.
لكن تسمية هذا هدى قد يعتذر عنه بأنه هدى مقيد لا مطلق كما قال: {فبشرهم بعذاب أليم} وكما قال: {يؤمنون بالجبت والطاغوت} وأنه {يقول الحق} و {يأمر بالعدل} فهو موافق لقوله وأمره لعلمه وحكمه كما أن القرآن وسائر كلامه كذلك وباعتبار أنه أنعم على العبد بواسطة جنده بالملائكة.
ويقال لضد هذا - وهو الخطأ - هذا من الشيطان والنفس؛ لأن الله لا يقوله ولا يأمر به؛ ولأنه إنما ينكته في قلب الإنسان الشيطان ونفسه تقبله من الشيطان؛ فإنه يزين لها الشيء فتطيعه فيه وليس كل ما كان من الشيطان يعاقب عليه العبد؛ ولكن يفوته به نوع من الحسنات كالنسيان فإنه من الشيطان والاحتلام من الشيطان والنعاس عند الذكر والصلاة من الشيطان والصعق عند الذكر من الشيطان ولا إثم على العبد فيما غلب عليه إذا لم يكن ذلك بقصد منه أو بذنب. فقوله: {إني على بينة من ربي} وشبهها مما تقدم ذكره:
من هذا الباب وكذلك قوله: {ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم} فإن المؤمنين على تصديق ما أخبر الله به وفعل ما أمر الله ابتداء وتبليغا كالقرآن وقد قال: " إن الله أنزل الأمانة في جذر قلوب الرجال " فهي تنزل في قلوب المؤمنين من نوره وهداه وهذه حسنات دينية وعلوم دينية حق نافعة في الدنيا والآخرة وهو الإيمان الذي هو إفضال المنعم، وهو أفضل النعم.
وأما قوله: {ما أصابك من حسنة فمن الله} فقد دخل في ذلك نعم الدنيا كلها كالعافية والرزق والنصر وتلك حسنات يبتلي الله العبد بها. كما يبتليه بالمصائب هل شكر أم لا؟ وهل يصبر أم لا؟ كما قال تعالى: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات} وقال: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه} الآيات.

وقد يقال في الشيء إنه من الله وإن كان مخلوقا إذا كان مختصا بالله كآيات الأنبياء كما قال لموسى: {فذانك برهانان من ربك} وقلب العصا حية وإخراج اليد بيضاء من غير سوء مخلوق لله لكنه منه لأنه دل به وأرشد إلى صدق نبيه موسى وهو تصديق منه وشهادة منه له بالرسالة والصدق فصار ذلك من الله بمنزلة البينة من الله والشهادة من الله وليست هذه الآيات مما تفعله الشياطين والكهان كما يقال: هذه علامة من فلان وهذا دليل من فلان وإن لم يكن ذلك كلاما منه.
وقد سمى موسى ذلك بينة من الله فقال: {قد جئتكم ببينة من ربكم} فقوله: ببينة من ربكم كقوله: {فذانك برهانان من ربك}.
وهذه البينة هنا حجة وآية ودلالة مخلوقة تجري مجرى شهادة الله وإخباره بكلامه كالعلامة التي يرسل بها الرجل إلى أهله وكيله قال سعيد بن جبير في الآية: هي كالخاتم تبعث به فيكون هذا بمنزلة قوله صدقوه فيما قال أو أعطوه ما طلب. فالقرآن والهدى منه وهو من كلامه وعلمه وحكمه الذي هو قائم به غير مخلوق وهذه الآيات دليل على ذلك كما يكتب كلامه في المصاحف؛ فيكون المراد المكتوب به الكلام يعرف به الكلام قال تعالى: {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا}. ولهذا يكون لهذه الآيات المعجزات حرمة: كالناقة وكالماء النابع بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك. والله سبحانه أعلم.
__________
Q (1) في المطبوعة " من " والتصويب من التفسير الكبير لابن تيمية، تحقيق د. عبد الرحمن عميرة 5 / 32

Q (2) بياض في الأصل، والزيادة مستفادة من محققي التفسير الكبير لابن تيمية، الدكتور محمد الجلنيد 3 / 249، والدكتور عبد الرحمن عميرة 5 / 37.
قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 132) :
لعل موضع البياض [ثم يأتي] ، فتكون العبارة (ويفهمون كلهم غير المراد [، ثم يأتي] متأخرون يفهمون المراد) ، أو نحو هذه العبارة، والله أعلم.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 294.16 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 288.35 كيلو بايت... تم توفير 5.81 كيلو بايت...بمعدل (1.97%)]