نظرات في سورة الإخلاص - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         وما أدراك ما ناشئة الليل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          كف الأذى عن المسلمين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          انشراح الصدر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          فضل آية الكرسي وتفسيرها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          المسارعة في الخيرات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          أمة الأخلاق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          الصحبة وآدابها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          البلاغة والفصاحة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          مختارات من كتاب " الكامل في التاريخ " لابن الأثير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          ماذا لو حضرت الأخلاق؟ وماذا لو غابت ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 08-03-2020, 02:43 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي نظرات في سورة الإخلاص

نظرات في سورة الإخلاص




فادي عبداللطيف






قال تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1 - 4]



أ‌- مقدمة السورة:

نزلت سورة الإخلاص في مكة حين كانت تعلوها معتقدات الشرك وعبادة الأوثان ونظام الجاهلية؛ فجاءت آيات السورة الجامعة المانعة بمثابة إعلان لهوية رسالة الإسلام المتميزة، وتصريح بانفصالها عن عقيدة المجتمع وعبادته ونظامه، تبدأ السورة بتنزيه الله سبحانه عن الشرك والاحتياج ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ ﴾ [الإخلاص: 1، 2]، لا بصيغة الأمر بالإيمان، بل بصيغة الأمر بالإعلان؛ فقوله تعالى: ﴿ قُلْ ﴾ [الإخلاص: 1] أمر بالصدع والتصريح العام على الملأ، وهو يؤشر على أن عقيدة الإسلام عقيدة للجماعات والكيانات البشرية؛ فهي تخاطب الحياة العامة وشؤونها، ولا تقبل بطبيعتها الاعتزال في الزوايا، أو الانغلاق في وجدان الأفراد، ويكتسب هذه الإعلان أهمية خاصة بسبب موقعه؛ فمكة حينئذ كانت تعتبر مركزًا للقيادة الدينية والروحية بين العرب؛ لارتباطها بأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، ولكونها تضم الكعبة بيت الله الحرام الذي تحج إليه قبائل العرب من أنحاء الجزيرة، وهي فوق ذلك مركز تجاري تشد إليه رحال القبائل في رحلة الشتاء والصيف.



بيد أن السورة لم تقتصر على إعلان تمايز رسالة الإسلام عن عقائد الشرك لدى قريش والعرب فحسب، بل شملت الأديان السماوية المحرفة من يهودية ونصرانية؛ حيث نزهت الله عن الولد والوالد، وهو ما تزعمه النصارى وفرق من اليهود؛ ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴾ [الإخلاص: 3]، وشمولية الخطاب هذه لمختلف العقائد والأديان والأقوام، مؤشر على عالمية الإسلام في عقيدته ودعوته منذ البدايات الأولى للوحي، وهي كذلك مؤشر على تجاوز العقيدة والدعوة لجغرافيا المكان؛ فموضوع الخطاب وصفة المخاطب يتجاوز قريشًا ومكة، بل يتعدى العرب وجزيرتهم إلى ما وراءها شرقًا وغربًا.



ولهذه السور فضائل عدة وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

روى الترمذي عن أنس بن مالك أنه قال: أقبلت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع رجلًا يقرأ: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وجبت))، قلت: وما وجبت؟ قال: ((الجنة))[1].



وثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري: أن رجلًا سمع رجلًا يقرأ: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1] يرددها، فلما أصبح جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، وكأن الرجل يتقالُّها [أي يراها قليلة]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، إنها لتعدل ثلث القرآن))؛ (انظر ملحق رقم 1).



وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلًا على سريةٍ، فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم، فيختم بـ: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1]، فلما رجعوا، ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((سلوه لأي شيءٍ يصنع ذلك؟))، فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن عز وجل؛ فأنا أحب أن أقرأ بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أخبروه أن الله تعالى يحبه))، وفي رواية الترمذي: ((إن حبها أدخلك الجنة)).



وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلةٍ جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1]، و﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾ [الفلق: 1]، و﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾ [الناس: 1]، ثم مسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات.



وفي تسميتها بسورة الإخلاص أوجه، الراجح منها ما نقل عن عبدالله بن المبارك؛ "لأن فيها إخلاصًا لله من كل عيب، ومن كل شريك وولد"[2].



ب - التفسير:

﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1].

(قل): الأمر للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو عام يشمل أمته؛ وفق القاعدة المشهورة: (خطاب الرسول خطاب لأمته).

(هو) يسمى ضمير الشأن، ويستعمل في اللغة لأمر يراد منه التعظيم أو الاختصاص، ويكون موضع الاهتمام بالجملة التي بعده، والشأن هنا: ﴿ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1][3].

(الله) لفظ الجلالة، وهو اسم علم، وليس معرفًا للفظ الإله.

(أحد): الواحد، الذي لا شبيه له، ولا نظير ولا شريك[4].



والمعنى أن الله سبحانه منفرد بالخلق والألوهية؛ ردًّا على المشركين من الوثنيين والنصارى القائلين بالتثليث، والمجوس الثانوية؛ فتعدُّد الآلهة مستحيل عقلًا وواقعًا، ويشهد لذلك نظام الكون، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾ [الأنبياء: 22].



﴿ اللَّهُ الصَّمَدُ ﴾ [الإخلاص: 2]:

﴿ الصمد ﴾: الدائم، والمحتاج إليه[5].

ومعنى الصمد في اللغة: هو المقصود في الحوائج والمطالب والنوازل[6]، وجاء في تفسير الإمام الشوكاني: "هو الذي يُصمَدُ إليه في الحاجات؛ أي: يقصد؛ لكونه قادرًا على قضائها"، ونقل الإمام القرطبي والإمام ابن كثير عن ابن عباس رضي الله عنهما، قوله: "يعني: الذي يصمُدُ إليه الخلائقُ في حوائجهم ومسائلهم".



﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴾ [الإخلاص: 3]:

﴿ لَمْ يَلِدْ ﴾؛ أي: لم يتخذ ولدًا؛ لأن ذلك يقتضي زيادة بعد نقصان، وهو سبحانه مستغنٍ عن الولد؛ فمن احتاج للولد فهو ناقص، ومن يلد فهو زائل وفانٍ[7]، وأيضًا يلزم أن تكون له صاحبة؛ أي: مماثلة ومجانسة، وهو ما أبطله سبحانه في سورة الأنعام بقوله: ﴿ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ ﴾ [الأنعام: 101]، وفي هذه الآية رد مفحم بأسلوب السؤال الاستنكاري، الذي يضطر الخصم إلى الإقرار ببطلان زعمه بنفسه؛ فالتوالد من صفة المخلوقات من إنسان وحيوان وطير، وهو لا يكون إلا بزوجين؛ أي: إنكم تقرون أنه تعالى ليس له صاحبة، فكيف تنسبون له الولد، فتزعمون أمرًا تقرون بنقيضه، أو انعدام مقتضاه، وهو منافٍ لبديهيات العقل، ولا يليق بالعقلاء؟! (انظر ملحق رقم 2).



﴿ وَلَمْ يُولَدْ ﴾ [الإخلاص: 3]؛ فهو ليس بمحدَث؛ لأنه يقتضي وجودًا بعد عدم، والمولود محدَث؛ أي: وُجِد بعد أن لم يكن، والمولود هو أيضًا محتاج؛ لكونه يستند في وجوده إلى غيره.

وصفة الولادة - أيًّا كانت - تحتم المحدودية؛ حيث إن كل والد ومولود له جسم يجعله محدودًا في زمن وجوده، ومكان وجوده، وقدراته الحسية وجميع صفاته، كما أن من شأن الكائنات المتوالدة أن يعتريها التغير من حال إلى حال، فمن يلد يعتريه التمدد والزيادة، ثم الضعف والهرَم والفَناء، وكذلك مَن يولد يعتريه النمو والقوة، ثم الضعف، فالهرَم، والفَناء، وعليه يستحيل على من اتصف بصفة الولادة - بما تقتضيه من نقص واحتياج وحدوث وتغير - أن يكون خالقًا أزليًّا؛ لكونه محدودًا في وجوده زمانًا ومكانًا، في الحيز وفي القدرات، وذلك كله مستحيل في حق الله سبحانه؛ لاتصافه بصفات الكمال المطلق، وبهذا أعلمهم سبحانه أنه منزَّهٌ عن صفات النقص التي يتصف بها المخلوقات؛ فهو أحَدٌ صمَدٌ، منزَّه عن النقص والاحتياج والحدوث، أزلي ليس قبله شيء، وأبدي ليس بعده شيء، لا مثيل له ولا نظير ولا شريك، سبحانه وتعالى عما يصفون علوًّا كبيرًا.



قال الإمام القرطبي: "وقال ابن عباس: ﴿ لَمْ يَلِدْ ﴾ [الإخلاص: 3] كما ولدت مريم، ولم يولد كما وُلِد عيسى وعُزَير، وهو رد على النصارى، وعلى من قال: عزير ابن الله؛ (أي اليهود)"، وأورد الإمام الشوكاني في تفسيره عن قتادة قوله: "إن مشركي العرب قالوا: الملائكة بنات الله، وقالت اليهود: عُزَير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، فأكذبهم الله فقال: ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴾ [الإخلاص: 3]".



وروى الإمام ابن كثير في تفسيره عن عكرمة أنه قال: "لما قالت اليهود: نحن نعبد عزيرًا ابن الله، وقالت النصارى: نحن نعبد المسيح ابن الله، وقالت المجوس: نحن نعبد الشمس والقمر، وقالت المشركون: نحن نعبد الأوثان، أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1]".



﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 4]

الكفو: المثل والنظير[8]، والمعنى: لم يكن له مثلًا أحد، وهو قول ابن عباس وأُبَيِّ بن كعب وعطاء[9]، قال الإمام الشوكاني: "﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 4] هذه الجملة مقرِّرة لمضمون ما قبلها؛ لأنه سبحانه إذا كان متصفًا بالصفات المتقدمة، كان متصفًا بكونه لم يكافِئْه أحد، ولا يماثله ولا يشاركه في شيء".



وأورد الإمام ابن كثير عن مجاهد قوله: "﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 4] يعني: لا صاحبة له، وهذا كما قال تعالى: ﴿ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ ﴾ [الأنعام: 101]، والأول هو الراجح، وهو قول جمهور المفسرين؛ وذلك لأن معنى الكفؤ في اللغة[10] هو المثيل والنظير، والشرع لم يأتِ لها بمعنًى اصطلاحي آخر؛ فوجب اعتماد المعنى اللغوي، كما هو مقرر في علم التفسير؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [يوسف: 2].



وجاء في صحيح البخاري حول معاني السورة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا أحد أصبرُ على أذًى سمعه من الله؛ يجعلون له ولدًا وهو يرزقهم ويعافيهم))، وأخرج البخاري عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله تعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتَمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يُعيدني كما بدأني، وليس أولُ الخَلْق بأهونَ عليَّ من إعادته، وأما شتمُه إياي فقوله: اتخذ الله ولدًا، وأنا الأحد الصمد، لم أَلِدْ ولم أولد، ولم يكن لي كفوًا أحد)).



ج - سبب النزول:

ورد في سبب نزول هذه السورة: أنها جاءت ردًّا على سؤال اليهود والنصارى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قالوا: يا محمد، صِفْ لنا ربك، وروي أن المشركين أرسلوا عامر بن الطفيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: قل له: شقَقْتَ عصانا، وسبَبْتَ آلهتنا، وخالفت دين آبائك، فإن كنت فقيرًا أغنيناك، وإن كنت مجنونًا داويناك، وإن هوِيتَ امرأة زوجناكها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لست بفقيرٍ، ولا مجنونٍ، ولا هوِيتُ امرأةً، أنا رسول الله إليكم، أدعوكم من عبادة الأصنام إلى عبادته))، أرسلوه ثانية وقالوا له: قل له: بَيِّنْ لنا جنس معبودك؛ فأنزل الله هذه السورة[11].



وهذه عادة رؤوس الكفر في كل زمان ومكان؛ يظنون أن رسل الله ودعاة الإسلام يبتغون بدعوتهم غرضًا ماديًّا من مال هالك، أو منصب زائل، أو شهوة عابرة؛ ولذلك تراهم يساومون حملة الدعوة الإسلامية على دعوتهم، ويقدمون لهم الإغراءات المادية؛ لصرفهم عن منهجهم وقضيتهم وغايتهم.



وهذه الإغراءات والمنح لا تقل خطورة عن التعذيب والمحن، بل قد تكون أشد خطورة؛ لما فيها من فتنة خفية؛ فالتعذيب والمحن قد استعد لها الرسل وأتباعهم، وحملة الدعوة من بعدهم، بينما تأتي الإغراءات على حين غفلة، دون توقع أو استعداد، أو بعد طول شظف وإجهاد، فتجد لها وقعًا في النفوس بحجة "المصلحة" و"الحكمة" بعد طول إرهاق وتضحيات ونصَب، وقد بلغ من خطورة هذه القضية: أن أنزل الله سبحانه على نبيه الكريم آياتٍ فيها وعيد شديد لمن تسول له نفسه الركون إلى أعداء الإسلام ومساومتهم على دعوة الحق، أو التنازل لهم عما يكرهون من عقائد وتشريعات تشكل خطرًا على كيانهم أو سلطانهم أو مصالحهم؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ﴾ [الإسراء: 73 - 75]؛ (انظر ملحق رقم 3).



د - المعنى الإجمالي:

سورة الإخلاص هي بمثابة إعلان للوحدانية في بداية بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام، وهي جاءت في عصر علَتْ فيه رايات الشرك في جزيرة العرب وبلاد فارس والروم، وسائر الأمم، والمعنى من إعلان الوحدانية هو دعوة الناس إلى نبذ ما يعبدون ويقدسون من دون الله من الأوثان والآباء، من أصنام الحجر والبشر؛ فالله أحدٌ في كل صفاته؛ في قدرته وأزليته، وعلمه وحكمته، لا يمكن أن يقبل الشركة، حتى ولو كان الشريك ملَكًا مقربًا، أو نبيًّا مرسلًا، أو وليًّا صالحًا.



أما معنى الصمَدية فهو دعوة الناس إلى الالتجاء إلى الله وحده، وعدم الالتجاء إلى غيره من المخلوقات والعباد؛ لكونهم لا يملكون نفعًا ولا ضرًّا، ولا يملكون موتًا ولا حياة ولا نشورًا، بل هم أنفسهم محتاجون لمن يصرف عنهم السوء، ويقضي لهم حوائجهم، وكيف ينصرف الناس في تقديسهم وعبادتهم عن الخالق المستغني إلى من يتساوى معهم في صفات النقص والعجز والاحتياج من الجمادات والبشر؛ قال تعالى: ﴿ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ﴾ [المائدة: 75].



وحق لسورة الإخلاص أن تعدل ثلث القرآن، رغم قصر السورة وآياتها الموجزة، فقد حَوَتْ هذه الآيات المعدودة جوهر العقيدة الإسلامية بأساسها العقلي القاطع الدامغ، وكما أشار علماء التفسير فإن آيات القرآن تدور حول ثلاثة محاور، هي: العقائد، والأحكام، والقصص، قال الإمام البيضاوي في تفسيره: "جاء في الحديث أنها تعدِلُ ثلث القرآن؛ فإن مقاصده محصورةٌ في بيان العقائد، والأحكام، والقَصص".



وإذا تمعنا في سورة الإخلاص نجد أنها تضمنت إثباتين ونفيين:

1- إثبات الوحدانية، ونفي الشريك؛ ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1].

2- إثبات الاستغناء، ونفي الاحتياج؛ ﴿ اللَّهُ الصَّمَدُ ﴾ [الإخلاص: 2].

3- نفي المحدودية؛ ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴾ [الإخلاص: 3].

4- نفي المثيل؛ ﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 4].



هـ - فائدة:

إن توحيد الله في الاعتقاد توحيدًا شاملًا، وترجمة هذا التوحيد عمليًّا في سلوك الأفراد وعلاقات المجتمع وشؤون الدولة - إنما يكون بإفراد الله سبحانه في العبودية بتلقي التشريع؛ أي: التحليل والتحريم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حصرًا فيما بلغنا إياه من قرآن كريم وسنة شريفة؛ قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ﴾ [الزخرف: 84].


يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 08-03-2020, 02:44 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نظرات في سورة الإخلاص



والسورة على الأرجح مكية، وهي - كغيرها من السور المكية - تتمحور حول العقائد والتوحيد، وجدال المشركين وغيرهم، بنقض عقائدهم، وتثبيت العقيدة الإسلامية بطريق الحجج العقلية، والبراهين القائمة على الحس؛ ولذا، فعلى كل من يريد أن يحمل الدعوة الإسلامية اليوم، من أهل الفكر والعلم والدعوة، وخاصة الجماعات والأحزاب، أن يترسموا منهج القرآن، ويتأسَّوْا برسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقة حمله للدعوة الإسلامية في مكة، وفي المدينة؛ حيث تعرَّض لعقائد المجتمع، ونقَضها وبيَّن زيفها، ولم يظهر تجاهها أي مجاملة أو مساومة أو مهادنة، كما يفعل الكثيرون اليوم؛ حيث يتنكب البعض عن مواجهة العلمانية مثلًا ببيان زيفها ومناقضتها للإسلام، بينما يقوم البعض الآخر بتزيينها، بل والمشاركة فيها، وفي ملحقاتها من ديمقراطية ورأسمالية.



وهذه السورة وأمثالها من السور المكية التي تدور معاني آياتها حول العقائد الصحيحة: هي الركن الأول الذي انطلق منه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بناء شخصيات الصحابة الكرام، رضوان الله تعالى عليهم، فنقَّاهم من عقائد الشرك والوثنية، وركز فيهم التوحيد والإخلاص؛ فكرًا وسلوكًا، عقيدة وعبادة.



وهي أيضًا الأساس الذي أقام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم تكتل الصحابة الكرام، بعد أن صهرهم بمفاهيم الإسلام، وأزال عنهم روابط الجاهلية؛ ليتمكنوا من حمل الدعوة الإسلامية، والجهاد في سبيلها، مهما تطلب ذلك من تضحيات.



وهي كذلك الأساس الذي أسس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم المجتمع الإسلامي بين الأوس والخزرج، والمهاجرين والأنصار؛ فجعل العقيدة الإسلامية وحدها عماد العلاقات في المجتمع، ومصدر التشريع في الأمة والدولة.



وهذه السورة وأمثالها، بما جاءت به من العقائد والأفكار الإسلامية، هي ذاتها الأصل الذي أقام عليه الرسولُ الدولة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة؛ حيث جعل العقيدة الإسلامية أساسًا للدولة، وجعل القرآن والسنَّة المصدر الوحيد للدستور والقوانين وسائر الأحكام والتشريعات.



ملحق رقم 1:

يجدر هنا التنبيه إلى الفرق بين الجزاء والإجزاء؛ فالجزاء: هو الثواب الذي يعطيه الله تعالى على الطاعة، والإجزاء: هو أن يسد الشيء عن غيره، ويجزئ عنه؛ فقراءة: ï´؟ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ï´¾ [الإخلاص: 1] لها جزاء قراءة ثلث القرآن، إلا أنها لا تجزئ عن قراءة ثلث القرآن؛ فمن نذر - مثلًا - أن يقرأ ثلث القرآن، فلا يجزئه قراءة: ï´؟ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ï´¾ [الإخلاص: 1]؛ لأنها تعدل ثلث القرآن في الجزاء والثواب، لا في الإجزاء والإغناء عن قراءة ثلث القرآن.



ومثل هذا في الشرع: ما أعطاه الشارع لمن صلى صلاة واحدة في الحرم المكي، وأنه له أجر مائة ألف صلاة، فهل يفهم أحد من هذا الفضل الرباني أنه لا داعي للصلاة عشرات السنين؛ لأنه صلى صلاة واحدة في الحرم تعدل مائة ألف صلاة؟

بل هذا في الجزاء والثواب، أما الإجزاء فشيء آخر، ثم إنه لم يقل أحد من أهل العلم: إنه ليس بنا حاجة لقراءة القرآن، وأن ï´؟ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ï´¾ [الإخلاص: 1] كافية عنه؛ ذلك أن القول الصحيح من أقوال أهل العلم أن هذه السورة كان لها هذا الفضل؛ لأن القرآن أنزل على ثلاثة أقسام: ثلث منها للعقائد، وثلث منها للأحكام، وثلث للقصص، والمسلم لا غنى له عن الأمرين الآخرين، وهما الأحكام والقصص، ولا يتم له معرفتهما إلا بالنظر في كتاب الله كاملًا، ولا يمكن لمن يقف عند سورة "الصمد" أن يعرف هذين الأمرين.



قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والثواب أجناس مختلفة، كما أن الأموال أجناس مختلفة؛ من مطعوم ومشروب وملبوس ومسكون ونقد وغير ذلك، وإذا ملك الرجل من أحد أجناس المال ما يعدل ألف دينار مثلًا لم يلزم من ذلك أن يستغني عن سائر أجناس المال، بل إذا كان عنده مال، وهو طعام، فهو محتاج إلى لباس ومسكن وغير ذلك، وكذلك إن كان من جنس غير النقد، فهو محتاج إلى غيره، وإن لم يكن معه إلا النقد فهو محتاج إلى جميع الأنواع التي يحتاج إلى أنواعها ومنافعها، والفاتحة فيها من المنافع: ثناءٌ ودعاءٌ مما يحتاج الناس إليه ما لا تقوم ï´؟ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ï´¾ [الإخلاص: 1] مقامه في ذلك، وإن كان أجرها عظيمًا، فذلك الأجر العظيم إنما ينتفع به صاحبه مع أجر فاتحة الكتاب؛ ولهذا لو صلى بها وحدها بدون الفاتحة: لم تصحَّ صلاته، ولو قدر أنه قرأ القرآن كله إلا الفاتحة: لم تصح صلاته؛ لأن معاني الفاتحة فيها الحوائج الأصلية التي لا بد للعباد منها؛ (مجموع الفتاوى، 17/131).



وقال رحمه الله: "فالقرآن يحتاج الناس إلى ما فيه من الأمر والنهي والقصص، وإن كان التوحيد أعظم من ذلك، وإذا احتاج الإنسان إلى معرفة ما أمر به وما نهي عنه من الأفعال، أو احتاج إلى ما يؤمر به، ويعتبر به من القصص والوعد والوعيد - لم يسد غيره مسده؛ فلا يسد التوحيد مسد هذا، ولا تسد القصص مسد الأمر والنهي، ولا الأمر والنهي مسد القصص، بل كل ما أنزل الله ينتفع به الناس ويحتاجون إليه، فإذا قرأ الإنسان: ï´؟ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ï´¾ [الإخلاص: 1]، حصل له ثواب بقدر ثواب ثلث القرآن، لكن لا يجب أن يكون الثواب من جنس الثواب الحاصل ببقية القرآن، بل قد يحتاج إلى جنس الثواب الحاصل بالأمر والنهي والقصص؛ فلا تسد: ï´؟ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ï´¾ [الإخلاص: 1] مسدَّ ذلك، ولا تقوم مقامه".



ثم أوضح أمرًا دقيقًا فقال: "فالمعارف التي تحصل بقراءة سائر القرآن لا تحصل بمجرد قراءة هذه السورة، فيكون من قرأ القرآن كله أفضل ممن قرأها ثلاث مرات من هذه الجهة؛ لتنوع الثواب، وإن كان قارئ ï´؟ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ï´¾ [الإخلاص: 1] ثلاثًا يحصل له ثواب بقدر ذلك الثواب، لكنه جنس واحد، ليس فيه الأنواع التي يحتاج إليها العبد؛ كمن معه ثلاثة آلاف دينار، وآخر معه طعام ولباس ومساكن ونقد يعدل ثلاثة آلاف دينار؛ فإن هذا معه ما ينتفع به في جميع أموره، وذاك محتاج إلى ما مع هذا، وإن كان ما معه يعدل ما مع هذا، وكذلك لو كان معه طعام من أشرف الطعام يساوي ثلاثة آلاف دينار، فإنه محتاج إلى لباس ومساكن، وما يدفع به الضرر؛ من السلاح والأدوية، وغير ذلك مما لا يحصل بمجرد الطعام"؛ (مجموع الفتاوى، 17/137 - 139).



ملحق رقم 2:

ينعَى الله تعالى في هذه الآية الكريمة: ï´؟ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ï´¾ [الأنعام: 101] على مشركي العرب زَعْمَهم أن الملائكة بنات الله، وعلى أهل الكتاب زعمهم بأن لله ولدًا؛ لتناقض هذا الزعم مع بديهيات العقل والإيمان الصحيح، فكيف يكون لله ولد وهو خالق كل شيء؟! والعقل يحتم أن يتصف الخالق بصفات الكمال، وهي تتناقض مع صفات المخلوقات من توالد؛ أي نقص وعجز، واحتياج وتغير، فكيف يكون للخالق من خلقه نظيرٌ يساميه، أو قريب يدانيه؟

والآية المذكورة: ï´؟ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ ï´¾ [الأنعام: 101] مثال من أمثلة كثيرة لآيات تضمنت براهينَ عقلية دامغة، وحججًا مفحمة، وهي سمة بارزة في السور المكية، خاصة في جدال المشركين؛ كقوله تعالى: ï´؟ قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ï´¾ [الإسراء: 50، 51]، وقوله تعالى: ï´؟ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ï´¾ [المؤمنون: 91]، وقوله جل وعلا: ï´؟ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ï´¾ [النساء: 82]، وقوله سبحانه فيما نزل في جدال اليهود والنصارى في المدينة: ï´؟ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ï´¾ [آل عمران: 65]؛ فقد وضعت هذه الآياتُ - بما فيها من قوة التحدي والبراهين الساطعة - العقلاءَ والحكماء من المشركين في مكة، والأحبار في المدينة، في حيرة وارتباك، وأظهرتهم بمظهر المتناقض أمام أتباعهم، ولقد شاءت حكمة الله البالغة أن تأتي هذه الحجج والبراهين في آيات تتلى عبر العصور والأجيال حتى قيام الساعة؛ ليستبين في عصرنا الحاضر منهج القرآن في الدعوة ونقض العقائد والمبادئ المادية والشيوعية والعلمانية والليبرالية وغيرها، وكان من جراء هذه الآياتِ المحاججةِ والمتسمةِ بالقوة والموضوعية في آن معًا: أن أضعفت مصداقية هؤلاء الزعماء من أصحاب القيادات الفكرية والروحية والسياسية في أقوامهم ومجتمعاتهم، سواء الوثنية أو الدينية، بل وزعزت ثقة الناس بهم، وحطمتها عندما ظهر للأتباع ضعف عقول زعاماتهم، وضلال تفكيرهم؛ ولذلك كان أعداء الإسلام غالبًا ما يتجنبون التحدي الفكري والبحث الموضوعي، وهم يلجؤون إلى أساليب الدعاية المضللة لتشويه الحقائق، فإن لم تنفع الدعايات المضللة في صد الناس عن سبيل الله، توسَّلوا بأساليب القمع والتعذيب الجسدي لمنع ظهور رسالة الإسلام، وانتشار أفكاره بين الناس، أما إذا أسقط في أيديهم ورأوا تعاظم الخطر على كياناتهم أو حضارتهم، شنوا الحروب المادية لمنع قيام نظام الإسلام، أو اتساع رقعة فتوحاته.



وعلى هذا النسق المذكور أعلاه، يسير القرآن في إقامة البرهان تلو البرهان على وحدانية الله جل وعلا، وبأساليب متنوعة، من كانت صفته الرحمن يستحيل عقلًا أن يكون له ولد، فمن له ولد ليس بخالق ولا أزلي؛ فالنقيضان لا يجتمعان أبدًا؛ قال الله تعالى : ï´؟ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا ï´¾[مريم: 88 - 92].



وكون النقيضين لا يجتمعان هو من المسلمات العقلية عند جميع العقلاء من بني البشر، رجالًا ونساء، علماء وعامة، كبارًا وصغارًا، متعلمين وأميين، فإن قال قائل: إن فلانًا موجود في المنزل والمستشفى في آن معًا، فهو مخالف لمسلمات العقل؛ فقوانين الزمان والمكان في الوجود تحتم استحالة وجود الشخص أو الشيء في مكانين مختلفين في ذات الوقت، وكذلك القول: إن فلانًا حي وميت، هو مناقض لمسلمات العقل، أو وصف ذات الشيء بأنه تراب وطائر؛ أي: جماد وكائن حي، فإن ذلك جمع بين المتناقضات، وهو مستحيل؛ ولذلك نعى الله سبحانه على الكفار إنكارهم لوجود الله ووحدانيته، وهو ما تشهد له مسلمات العقل لدى كل إنسان أعمل عقله بتجرد عن الهوى والتقليد والتعصب؛ ولذلك أيضًا وصفهم سبحانه بأنهم كالأنعام: ï´؟ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ï´¾ [الفرقان: 44]؛ فهم قد عطلوا العقل - أي المسلمات العقلية لدى جميع البشر - في قضية الإيمان والحكم على الوجود والحياة؛ فكانوا والأنعام سواءً؛ وذلك لأن الأنعام ليس لها عقل وفكر لتحاكم الأشياء وتستنبط الأفكار وتستدل على العقائد فتتبين الحق من الباطل، ولا تملِكُ دماغًا يتمتع بخاصية الربط بين المعلومات عن الأشياء وتحليلها، واستنباط النتائج للخروج بأحكام وأفكار وتصورات جديدة، وبمعنى آخر فإن الأنعام تسير غرائزيًّا في إشباع حاجاتها وسائر تصرفاتها؛ من تكاثر، واتقاء للخطر، وعدوان؛ ولذلك فمن عطَّل العقل وحكَّم هواه في عقيدة الحياة، فقد انحط عن مستوى الإنسان إلى مستوى الحيوان؛ فتعطيل العقل متلازم ولا بد بتحكيم الهوى؛ ولذلك قال تعالى في الآية التي قبلها: ï´؟ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ï´¾ [الفرقان: 43، 44]، إلا أن القضية أخذت بُعدًا أخطر من ذلك، والسبب أن إنكار وجود الله ووحدانيته لم يقتصر على مخالفة المسلمات العقلية لدى العقلاء، بل تجاوزه ليتناقض مع المسلمات الفطرية، حتى لدى الأطفال، ألا ترى أن الطفل الصغير يبكي إن غادر أبوه المنزل ولم يأخذه معه؛ لكونه - بحكم الفطرة - يدرك أنه لا يمكن أن يوجد، في الوقت ذاته، في مكانين: حضن أمه في المنزل، وبصحبة أبيه في الخارج، وكذلك الطفل الصغير يبكي إن جاء طفل آخر أو شخص ما ونزع منه لعبته؛ لكونه - بحكم الفطرة - يدرك أنه لا يمكن لذات اللعبة أن تكون بيده وبيد شخص آخر في ذات الوقت؟! فالنقيضان لا يجتمعان، والفطرة، وليس بديهيات العقل فقط، تهدي الإنسان منذ طفولته، وقبل بلوغ سن التمييز، حيث يبدأ في عقل الأشياء، تهديه إلى سنن الوجود وقوانين الزمان والمكان، التي يخضع لها الإنسان وجميع الأشياء في هذا العالم.



ومن هنا نجد أن الله سبحانه لم يصف هؤلاء الجاحدين المعاندين بأنهم كالأنعام فقط، بل جعلهم أضل من الأنعام؛ حيث قال عز وجل: ï´؟ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ï´¾ [الفرقان: 44]؛ فالأنعام تهتدي لمراعيها، وتعرف - بحُكم الفطرة - ما ينفعها وما يضرها، وتستشعر الأخطار فتتقيها، بما حباها الله به من حواسَّ وقدرات، أما هؤلاء فلم ينتفعوا بما حباهم به خالقهم من نعمة العقل، ولم ينتفعوا حتى بما لديهم من فطرة سليمة تحفز العقل وترشده للاهتداء إلى الإيمان بالخالق المدبر، بل إنهم - بدلًا من أن يحكموا العقل في قضية سبب الوجود والغاية منه - انسلخوا من فطرتهم، واتبعوا الهوى؛ فأردى بهم في الضلال والمعيشة الضنكى في الحياة الدنيا، وجلب لهم الخزي والعذاب في الدار الآخرة.



والخلاصة أن هؤلاء الكفار:

1) حكَّموا الهوى، ثم

2) عطَّلوا عقولهم،

3) فتساوَوْا بالأنعام، بل

4) كانوا أضل منها.



ولذا؛ فقد استحقوا وصف الله تعالى لهم بأنهم كالأنعام، بل هم أضل منها؛ لكونها تميزت عنهم بانتفاعها بفطرتها، بينما كان الواجب أن يتميز هؤلاء - بحكم إنسانيتهم - عن الأنعام بأن فضلهم ربهم وأكرمهم بنعمة العقل، فهل بعد هذا الضلال من ضلال؟

والسؤال الذي لا يزال يحير الكثيرين: كيف أصبح هؤلاء الكفار أضلَّ من الأنعام، مع أنهم أقاموا صناعات، وشيدوا حضارات وممالك؛ كفارس والروم، ودول الغرب الرأسمالي في هذا العصر أحدثوا تحولات هائلة في مجال العلوم والتكنولوجيا والصناعة؟

والجواب - بإيجاز -: أنهم عطلوا عقولهم في قضية الإيمان فضلُّوا، واستعملوا عقولهم في العلوم والصناعة فتقدموا؛ لأخذهم بالأسباب المادية، وسيرهم وفق قوانين الطبيعة؛ بيد أنهم تقدموا في وسائل الحياة ورفاهيتها، وتراجعوا بل أخفقوا في تحقيق السعادة للإنسان، وإقامة العدل بين الناس، وأقاموا بنيان حضارتهم على شفا جرف هارٍ يكاد يهوي بهم، لكنه ينتظر خروج خير أمة أخرجت للناس، فتعي ما أخرجت له، وتتلبس بما أخرجت به، فتستأنف حمل الدعوة الإسلامية للعالم، فتقيم فيه حكم الإسلام، وتشيع فيه الهداية والعدل، وتسعى لإنقاذ البشرية في الدنيا، وفلاحها في الآخرة، ولعله يكون قريبًا بإذن الله تعالى.



ملحق رقم 3:

ولا تزال نظريات الباحثين الغربيين تدور حول هذه التفسيرات السطحية والمغرضة، التي روج لها مشركو قريش ضد نبي الإسلام وأتباعه منذ أربعة عشر قرنًا؛ فهم حين يتعرضون لظاهرة اعتناق الآلاف من الغربيين في أوروبا وأمريكا للإسلام، ونبذهم للحضارة الغربية وفسادها، لا يفتؤون يرددون أن السبب هو إما المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، أو الاضطرابات النفسية وتدني المستوى التعليمي، أو الرغبة في الزواج من رجل مسلم أو فتاة مسلمة، ويريدون بذلك الإيهام بأن دافع هؤلاء لاعتناق الإسلام هو الغريزة، أو الضَّياع وفقدان البديل، أو ما شابه، ما يعني ضمنًا أمرين: الأول أن هذ الإقبال المتصاعد لا دلالة فيه على "احتمال" أن يكون الإسلام هو الدين الحق، والنظام الصالح لبني الإنسان، وأن خيار هؤلاء الغربيين ليس مؤشرًا على أن في الإسلام قوة إنسانية جاذبة تحقق الطمأنينة والسعادة والاستقرار، والثاني: أن هؤلاء المسلمين جاؤوا من طبقة مهمشة لا يعتد بها؛ فهي مشكوك في سلامتها أو توازنها العقلي والنفسي، وما دفعها للإسلام إلا ظروف ناتجة عن تخلف المجتمع وإهمال الدولة؛ فهي طبقة تائهة تبحث عن مأوى، وتلجأ إلى الدين هربًا من مشاكلها الحياتية، وهم - بنظريتهم تلك - يضاهئون قول الذين كفروا من قبل من قوم نوح عليه السلام؛ حيث أخبر الله تعالى عنهم: ï´؟ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ï´¾ [هود: 27].



ولا يقتصر الأمر على تفسير ظاهرة الإقبال اللافت على الإسلام من قِبَل المسلمين الغربيين، بل إن نظريات التفسير المادي، التي يعتمدها المستشرقون من المفكرين والباحثين الغربيين، تستخدم أصلًا لتفسير التحول الحضاري والتوجه المتسارع، الذي تشهده شعوب العالم الإسلامي نحو الإسلام عقيدة ونظام حياة، حضارة ودولة، وهو ما يطلقون عليه خداعًا وتضليلًا "أصولية"، و"إسلامًا سياسيًّا"، فيبحثون عن تفسيرات مادية وأسباب اقتصادية واجتماعية، كالفقر والبطالة والتخلف العلمي والمدني، وتدني مستوى التعليم، لتفسير عودة الشعوب إلى الإسلام، وانصرافها عن المبادئ والأفكار والمذاهب التي نشرها الغرب المستعمر في المنطقة، قبل وبعد استعماره العسكري في القرنين التاسع عشر والعشرين، من مثل العلمانية والقومية والرأسمالية والديمقراطية والحريات العامة.



وفي سبب النزول لهذه السورة، وغيرها، دليل ومثال على أن القرآن كان يتنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم حسب الوقائع والأحوال، سواء في تقرير العقائد نفيًا وإثباتًا، أو في تشريع الأحكام تحليلًا وتحريمًا، وهكذا يجب على المسلمين أن يحملوا الإسلام اليوم؛ التزامًا بمنهج القرآن، واتباعًا لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، في حمل دعوة الإسلام للناس، مسلمين وغير مسلمين، فيحملونه - عقيدة وأحكامًا - حملًا حيويًّا عمليًّا يسير مع شؤون الحياة الفكرية والثقافية والاقتصادية والسياسية والتشريعية والاجتماعية ... لا أن يعكفوا على حفظ نصوص الإسلام حفظًا جامدًا، أو دراسته دراسةً علمية نظرية، أو يحملونه حملًا روحيًّا مجردًا، كأن الإسلام معتقدات وجدانية ومواعظ أخلاقية تُعْنَى بالفرد وعلاقته بخالقه فقط، متجاهلين تشريعات الإسلام التي تنظم علاقات المجتمع وشؤون الدولة، أو متغافلين عن حقيقة أنه نظام يعالج مشاكل الحياة، ويبين الحلول العملية الناجعة للإنسان، فردًا كان أو جماعة أو دولة.





[1] قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.




[2] أبو حيان الأندلسي.




[3] الزمخشري، والنسفي، وابن عاشور.




[4] القرطبي، وابن كثير، والماوردي.




[5] القرطبي، والطبري، وابن كثير، والزمخشري.




[6] القرطبي، والزمخشري، والبيضاوي، والنسفي، والماوردي.




[7] الطبري.




[8] الطبري، الشوكاني، أبو حيان الأندلسي.





[9] القرطبي، الطبري، النسفي، الزمخشري.




[10] لسان العرب، ابن منظور.




[11] الماوردي، والرازي.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 96.70 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 94.53 كيلو بايت... تم توفير 2.17 كيلو بايت...بمعدل (2.25%)]