المقاصد الاقتصادية الإسلامية - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12547 - عددالزوار : 216171 )           »          معارج البيان القرآني ـــــــــــــ متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 7834 )           »          انشودة يا أهل غزة كبروا لفريق الوعد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 62 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4421 - عددالزوار : 859733 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3953 - عددالزوار : 394074 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 89 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 66 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 64 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 69 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 62 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > الملتقى العلمي والثقافي
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى العلمي والثقافي قسم يختص بكل النظريات والدراسات الاعجازية والثقافية والعلمية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 20-03-2024, 03:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي المقاصد الاقتصادية الإسلامية

المقاصد الاقتصادية الإسلامية (1)


أشرف دوابه


المقاصد لغة: جمع مقصد، يقصد قصداً ومقصداً، والمقصد هو الغاية والوجهة، ومهما تعددت التعابير وتنوعت المصطلحات حول مفهوم المقاصد فهي تدل على معنى واحد، سواء عبرنا عن ذلك بمقاصد الشريعة، أم المصالح المرسلة، أم أسرار الشريعة، أم المعاني والحكم؛ ذلك أن كل هذه الكلمات في النهاية تشير إلى تصور معين، وهو أنه ما شرعه الله تعالى من الأحكام لعباده إنما يستهدف أولاً تحقيق المصالح والمنافع البشرية؛ فالله تعالى هو الغني الصمد، ليس بحاجة إلينا بشيء.
يعرّف الإمام الشاطبي المقصد الشرعي من وضع الشريعة بأنه إخراج المكلف من داعية هواه حتـى يكون عبداً لله اختياراً، كما هو عبد لله اضطراراً؛ فهذه الشريعة المعصومة ليست تكاليفها موضوعة حيثما اتفق، لمجرد إدخال الناس تحت سلطة الدين؛ بل وضعت لتحقيق مقاصد الشارع في قيام مصالحهم في الدنيا والدين معاً.
ويبرز الإمام الغزالي مقاصد الشريعة بصورة تفصيلية بقوله: «لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة: أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم؛ فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة».
كما يبرز معرفة المصلحة الحقيقية وطريقة الوصول إليها بقوله: «لأننا رددنا المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع، ومقاصد الشرع تعرف بالكتاب والسُّنة والإجماع، فكل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصود ومهمّ من الكتاب والسُّنة والإجماع، وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشرع، فهي باطلة مطروحة، ومن صار إليها فقد شرّع».
كما يبين حقيقة ومصدر هذه المقاصد الخمسة بقوله: «وكون هذه المعاني مقصودة، فقد عرفت لا بدليل واحد، بل بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسُّنة وقرائن الأحوال وتفاريق الأمارات، وتسمى لذلك مصلحة مرسلة»، وأكد الشاطبي ذلك بقوله: «اتفقت الأمة -بل سائر الملل- على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس وعلمها عند الأمة كالضروري، ولم يثبت ذلك بدليل معين، ولا شهد أصل معين برجوعها إليه، بل عُلمت ملاءمتها للشريعة بمجموع أدلة لا تنحصر في باب واحد».
وقد اعتمد الشاطبي المقاصد الخمسة التي أقرها الإمام الغزالي، دون اهتمام بترتيبها وفقاً لأولويات معينة، وإنما اهتم اهتماماً تفصيلياً بالمدارج الثلاثة التي تسهم في تحقيق المقاصد التي تناولها الإمام الغزالي، والجويني، ممثلة في الضروريات والحاجيات والتحسينيات، ووضع تعريفاً للمقاصد بصورة دقيقة، حيث عرفها بأنها: «ما يرجع إليه قيام حياة الإنسان وتمام عيشه، ونيل ما تقتضيه أوصافه الشهوانية والعقلية على الإطلاق».
مقاصد "الاقتصاد الإسلامي"
ونظراً لأن مقاصد الشريعة تعكس غاياتها ممثلة في تحقيق المصالح ودرء المفاسد في الدين والدنيا، ولما كان علم الاقتصاد الإسلامي منبعه الشريعة الغراء، ويعني: العلم الذي يوفق بين حاجات الأفراد المادية والروحية وما استخلفهم الله تعالى فيه من موارد وفقاً لقيم وضوابط ومقاصد الشريعة لتحقيق الرفاه في الدنيا والآخرة؛ فإنه يمكن تعريف مقاصد علم الاقتصاد الإسلامي بأنها: المعاني والحكم والأسرار والغايات التي أرادها الشارع الحكيم في الاقتصاد، لتحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة.
وطبيعة علم الاقتصاد الإسلامي وما يفرزه من قضايا مستجدة تتطلب وضع مقاصد تناسبه بصورة تربط العصر بالنص، دون الاقتصار على ما ورد من مقاصد في المصنفات القديمة المتداولة، مع أهمية البناء عليها في الوقت نفسه، وكذلك أهمية التأكيد على دور العقل في التوصل للمقاصد وفهمها، وقد بيَّن الشاطبي أن أدلة العقل لا تعمل وحدها، بل متضامنة مع أدلة الشرع وشريكة له، والعقل إنما ينظر من وراء الشرع، كما ذكر العز بن عبدالسلام أن «معظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروف بالعقل وذلك في معظم الشرائع».
والمقصد العام لعلم الاقتصاد الإسلامي واضح من تعريفنا لمقاصده، وكذلك من تعريفنا لعلم الاقتصاد الإسلامي نفسه؛ فهذا المقصد يتمثل في تحقيق مصالح الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة، أو بمعنى آخر تحقيق الرفاه للإنسان في الدنيا والآخرة، ويراعي هذا المقصد العام الجوانب المادية والروحية معاً، بما يحقق السعادة للإنسان في الدارين، وهو نواة تنطلق منه مجموعة من المقاصد الكلية الحاكمة لعلم الاقتصاد الإسلامي، أو بمعنى آخر المقاصد الاقتصادية الإسلامية التي تتمثل برأينا في مقاصد خمسة، هي: الاستخلاف، وحفظ المال وتنميته، والتنمية الاقتصادية، والتنمية الاجتماعية، والعدل.
أولاً: مقصد الاستخلاف:
خلق الله تعالى الإنسان واستخلفه في الأرض، لتحقيق العبودية الخالصة لله سبحانه، وتعمير الأرض بالقسط والعدل، ومن ثم فإن تحقيق مهمة الاستخلاف من المقاصد التي يسعى علم الاقتصاد الإسلامي لتحقيقها، من خلال ما هيَّأه الله تعالى للإنسان من مقومات لتحقيق تلك المهمة؛ فقد وهب الله تعالى الإنسان نعمة العقل والحواس والملكات التي يستخدمها للتعرف على الأرض وما فيها وما عليها، وتسخيرها بكلِّ ما يحقِّق الغاية من وجوده، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 30)، وقال جلَّ شأنه: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ (هود: 61)، وقال سبحانه: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾ (الأنعام: 165)، وقال عز وجل: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ (يونس: 14).
وعن أبي سعيد الخُدْريّ رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الدنيا حُلْوة خَضِرَةٌ، وإنَّ الله مستخلفُكم فيها فينظر كيف تعملون» (رواه مسلم).
ومقتضى الاستخلاف أن المال مال الله، والإنسان مستخلف فيه وفقاً لإرادة المالك الحقيقي وهو الله سبحانه وتعالى، فالله تعالى يقول: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى﴾ (طه: 6)، ويقول سبحانه: ﴿وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾ (النور: 33).
لقد استخلف الله عز وجل الإنسان في الأرض من أجل عمارتها، والاستفادة من مواردها وتنميتها واستثمارها بما يحقق النفع له ولمجتمعه، والمسلم يعتقد اعتقاداً جازماً أن ما لديه من مال ليس له حق التصرف المطلق فيه، وملكيته له هي ملكية حق الانتفاع به في إطار الحدود المرسومة له بصفته وكيلاً أو وديعاً عن المالك الحقيقي للمال وهو الله جل شأنه، وبهذا يحكم انتفاعه بالمال كسباً وإنفاقاً تنفيذ أوامر الله تعالى فيه، وتحقيق النظام الذي أمر به، مع تحمل تبعة المسؤولية عن ذلك أمام الله عز وجل.
وبذلك لا يحيد المسلم عن تحقيق إرادة الشارع من مقصد الاستخلاف في المال، ويكون الاستخلاف ضماناً لتوجيه المال واستثماره فيما يعود بالنفع عليه وعلى المجتمع؛ فالمسلم لا يستثمر في حرام، أو منكر، أو ضرر، وهو يتخذ من المال وسيلة لا غاية، فهو يكسبه من حلال، وينفقه في حلال، ويؤدي حق الله فيه، ويعترف بفضل الله عليه فيه، ولا يتفاخر أو يستعلي أو يستقوي به، متمثلاً قوله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ (القصص: 77).
والاستخلاف في حقيقته يقرر أن الملكية الفردية تنمو في حضن القيم الإيمانية، فإذا كان من أسس الاقتصاد الإسلامي إقرار الملكية الفردية كأمر فطري، ودافع من دوافع العمل والاستثمار، فإن هذه الملكية ليست على إطلاقها، فهي لا تعطي مطلق التصرف للمالك بأن يتصرف بها كيفما يشاء، بل هي ملكية نظيفة تحكمها مجموعة من القيود، من أهمها: أنها ليست امتيازاً تضفي مقاييس مادية للاحترام، بل هي مسؤولية تعود بالنفع على الفرد والمجتمع، التي من مقتضياتها عدم الإضرار بالآخرين، والالتزام بالتعاليم الإسلامية المتعلقة بحفظ المال وإعمار الأرض.
إن مفهوم الاستخلاف في المال طريقه واضح الحدود والمعالم لا مكان فيه للطغيان أو الظلم أو الاستغلال، ومبتغاه تحقيق الحياة الطيبة للفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة، وإيمان المسلم بقضية الاستخلاف تربي في نفسه أن ماله وديعة مستردة كما هو نفسه وديعة مستردة، وأن الله تعالى استخلفه في هذا المال ليتصرف فيه وفقاً لإرادة مالك الملك وحده، وأنه سبحانه سائله ماذا هو فاعل في هذا المال؟ فالله تعالى يقول: ﴿وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ (الأعراف: 129)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث؛ صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (رواه مسلم)، وبذلك ينفي الغرور عن قلبه، ويسعى إلى الاستفادة مما سخره الله في الكون من مقومات بتسخير عقله وعلمه، وجمع همه وإرادته، للانتفاع بهذه المقومات، واستثمار خيرها.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 20-03-2024, 03:10 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المقاصد الاقتصادية الإسلامية

المقاصد الاقتصادية الإسلامية - حفظ المال وتنميته (2)


أشرف دوابه



بعد أن تناولنا مقصد الاستخلاف كأول مقصد للمقاصد المالية الإسلامية في عدد سابق من هذه السلسلة، نتناول في هذا العدد المقصد الثاني؛ وهو مقصد «حفظ المال وتنميته»؛ حيث إن حفظ المال ونماءه بتحقيق أرباح تحميه وتكتب له الاستمرارية من قوام كليات الشريعة؛ فحفظ المال هو أحد الضروريات الخمس التي جاءت الشريعة برعايتها، وهي: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
حفظ المال من الأهمية بمكان لباقي الضروريات لقدرته على المساهمة في تحقيقها؛ فالمال يساهم في حفظ الدين من خلال توجيهه لنشر الوعي بالدين، فضلاً عن أهميته في تحقيق أركان الإسلام؛ فالصلاة تحتاج إلى ملبس لسد العورة ومسجد للصلاة فيه، والمال هو ما يوفر ذلك، والزكاة قوامها المال، وسهم المؤلفة قلوبهم في الزكاة له قدرة كبيرة على تأليف القلوب والدخول في الإسلام، والصيام يحتاج للمال إفطاراً وسحوراً، والحج من موجباته الاستطاعة وفي مقدمتها الاستطاعة المالية.. إلخ.
والمال يحفظ النفس من الوقوع في براثن الفقر الذي قد يصل بالإنسان للانتحار بقتل النفس والكفر؛ لذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر» (رواه أحمد)، كما أن المال يعمل على تنمية العقل من خلال الاستثمار في التعليم والصحة ونحوها، فضلاً عن دوره في حفظ النسل من خلال تمكينه للإنسان من الزواج ومن ثم تكوين الأسرة المسلمة.
سبل حفظ المال
يقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: «أصل حفظ المال قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ﴾ (النساء: 29)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا» (رواه ابن ماجة)، وقوله: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس» (رواه الدارقطني)، وقوله: «من قُتل دون ماله فهو شهيد» (رواه البخاري)، وهو تنويه بشأن حفظ المال وحافظه وعظم إثم المعتدي عليه، وإذا كان ذلك حكم حفظ مال الأفراد، فحفظ مال الأمة أجلّ وأعظم».
ويضيف: «ونظام نماء الأموال وطرق دورانها هو معظم مسائل الحاجيات كالبيع والإجارة والسلم.. والمقصد الأهم هو حفظ مال الأمة وتوفيره لها، وأن مال الأمة لما كان كلاً مجموعياً، فحصول حفظه يكون بضبط أساليب إدارة عمومه، وبضبط أساليب حفظ أموال الأفراد، وأساليب إدارتها، فإن حفظ المجموع يتوقف على حفظ جزئياته، وإن معظم قواعد التشريع المالي متعلقة بحفظ أموال الأفراد، وآيلة إلى حفظ مال الأمة؛ لأن منفعة المال الخاص عائدة إلى المنفعة العامة لثروة الأمة، فالأموال المتداولة بأيدي الأفراد تعود منافعها على أصحابها، وعلى الأمة كلها، لعدم انحصار الفوائد المنجزة إلى المنتفعين بدوالها، وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً﴾ (النساء: 5)، فالخطاب للأمة أو لولاة الأمور منها، وأضاف الأموال إلى ضمير غير مالكيها، لأن مالكيها عناهم السفهاء المنهي عن إيتائهم إياها، وقوله: ﴿الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً﴾ يزيد الضمير وضوحاً ويزيد الغرض تبياناً، إذ وصف الأموال بأنها مجعولة قياماً لأمور الأمة».
كما أرسى الاقتصاد الإسلامي عدم تبديد الأموال في الطرق غير المشروعة، فأمر باختبار اليتامى قبل تسليمهم أموالهم، ونهى أولياءهم عن أكلها بالإسراف قبل أن يكبر أصحابها فيتسلموها، وحث غنيهم على العفة عن هذه الأموال، وفقيرهم عن الأكل منها بالمعروف، قال تعالى: ﴿وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيباً﴾ (النساء: 6).
ومن أجل حفظ المال شرع الإسلام أحكاماً تحميه في يد صاحبه، فحرم السرقة والنهب والغصب وشرع الحدود التي تكفل ذلك، كما حث على توثيق العقود المالية، وقد تعددت أساليب توثيق تلك العقود في الاقتصاد الإسلامي لتشمل الكتابة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ (البقرة: 282)، ﴿وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ﴾ (البقرة: 282)، والشهادة ﴿وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ (البقرة: 282)، والرهن ﴿فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ﴾ (البقرة: 283)، والضمان أو الكفالة ﴿وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ﴾ (يوسف: 72).
وكل هذه الوسائل تؤدي إلى تحقيق ما ذكره القرآن الكريم ﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ﴾ (البقرة: 282)، فتوثيق العقود وكتابتها، والإشهاد عليها، وأخذ الضمانات لحمايتها أمر ضروري لحفظ المال، واستقرار المعاملات، وإيفاء الحقوق، وإغلاق أبواب النزاع والشقاق بين الأفراد، وقد استثنى الشارع الحكيم من الكتابة التجارة الحاضرة لطبيعتها القائمة على السرعة تيسيراً على المتعاملين ﴿إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا﴾ (البقرة: 282).
يقول السرخسي: «إنما شرع التوثيق بالكتابة لحِكم كثيرة، منها المحافظة على الأموال، ومنها قطع المنازعة بين المتعاملين، ومنها التحرز عن العقود الفاسدة، ومنها رفع الارتياب، ومنها التذكير بالحق».
تنمية المال
كما عُني الشارع الحكيم بتنمية المال من خلال الحث على الاستثمار والسعي في الأرض، ففي الترغيب في ذلك آيات كثيرة منها قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ (الملك: 15)، ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾ (المزمل: 20)، كما روي أَنَسٍ بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَزْرَعُ زَرْعاً، أَوْ يَغْرِسُ غَرْساً، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ، أَوْ إِنْسَانٌ، أَوْ بَهِيمَةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ» (رواه البخاري).
كما ربط الاقتصاد الإسلامي بين الملكية الفردية والعمل على تنمية المال، فأجاز التملك عن طريق العمل، وعن طريق الاستثمار المشروع الذي يحقق الرفاهية للفرد والمجتمع، وفي سبيل ذلك حث المسلم على تحقيق ربح يرضي نفسه -دون جشع أو أثرة أو طمع– ويلبي طموحه في استمرارية ونمو مشروعه، ويحقق معادلة «نعم المال الصالح للمرء الصالح» (رواه أحمد).
ويبدو حرص الاقتصاد الإسلامي على تنمية المال وتحقيق الربحية من خلال إيجابه استثمار المال وعدم تركه عاطلاً، وقد روى الإمام مالك في الموطأ أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه كان يقول: «اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة»، وفي قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً﴾ (النساء: 5) دعوة واضحة لتنمية المال؛ ففي الآية «ارْزُقُوهُمْ فِيهَا» وليس «منها»؛ وهو ما يعني استثمار المال ليكون الإنفاق عليه من الربح لا من رأس المال حتى لا يستهلك وينفد، كما أن من المبادئ الفقهية المعروفة أن «الربح وقاية لرأس المال»، وأن «الخسارة مصروفة إلى رأس المال»، وأن «النفقة مصروفة إلى الربح».
فالربح هو الذي يقي رأس المال من النقصان، وتحقيق الربح أمر ضروري لتغطية نفقات الاستثمارات، وتحقيق عوائد مرضية، وبدون هذه الأرباح ستتحمل الاستثمارات بتغطية نفقات تشغيلها، واستمرارية هذا الوضع سيؤدي تدريجياً إلى تناقص وتآكل رأس المال، ومن ثم تصفية تلك الاستثمارات.
والاستثمار في الاقتصاد الإسلامي يقوم على الربح الاحتمالي والتقليب والمخاطرة؛ لذلك فهو يوازن بين العوائد والمخاطر، ويأخذ في الاعتبار كل الوسائل اللازمة للمحافظة على المال، وعدم الدخول في مخاطر تؤدي إلى ضياع رأس المال، وفي هذا يقول الإمام الزمخشري في تفسيره: «إن الذي يطلبه التجار في متصرفاتهم شيئان؛ هما سلامة رأس المال والربح، والتجارة سبب يفضي إلى كل من الربح والخسران.. ومن لم يسلم له رأس ماله لا يوصف بالربح».
كما أن تنمية المال وتحقيق الأرباح في الاقتصاد الإسلامي ليست كلأ مستباحاً بكافة السبل دون مراعاة للاعتبارات الإيمانية والأخلاقية، فإذا كان الأصل في المعاملات الإباحة، فإن الاقتصاد الإسلامي تحكمه مجموعة من التدابير التي تحمي من الانحراف بالمال عن مقصده، وتؤدي إلى أكله بالباطل، وأهم هذه التدابير تحريم الربا، والقمار، والغرر، والاحتكار، والغش والتدليس والخديعة، والاكتناز، والإسراف، والتبذير، والترف وغيرها.
يتبع...






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 20-03-2024, 03:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المقاصد الاقتصادية الإسلامية

المقاصد الاقتصادية الإسلامية - التنمية الاقتصادية.. والاجتماعية (3)

أشرف دوابه

بعد أن تناولنا في المقالين السابقين مقصدين من المقاصد الاقتصادية للإسلام، وهما: مقصد الاستخلاف، ومقصد حفظ المال وتنميته، نتناول في هذا المقال، مقصدين آخرين، وهما: مقصد التنمية الاقتصادية، ومقصد التنمية الاجتماعية.
3- مقصد التنمية الاقتصادية:
تعتبر التنمية الاقتصادية من المقاصد الكلية للاقتصاد الإسلامي؛ فإعمار الأرض تكليف شرعي لتحقيق استمرارية الحياة الطيبة، وبقدر كفاءة الاستثمارات وقدرتها على التخصيص الأمثل للموارد، وكذلك انضباط الحاجات، بقدر ما يساهم ذلك في تحقيق التنمية الاقتصادية.
ومن ثم حرص الإسلام على المواءمة بين الموارد والحاجات، وزيادة مصادر وموارد المجتمع ما أمكن، وتحقيق التوازن التنموي بين القطاعات المختلفة وكذلك بين الأقاليم المتعددة، فضلاً عن إعداد فئة من العمال المهرة، وترسيخ مفهوم الاعتماد على الذات لا التبعية للغير.
كما أنه في سبيل تحقيق مقصد التنمية الاقتصادية حث الإسلام على مراعاة الأولويات الإسلامية من ضروريات، وحاجيات، وتحسينات؛ إنتاجاً، وتوزيعاً، واستهلاكاً.
أولاً: الضروريات:
وتعني الأشياء التي لا بد منها لقيام مصالح الدين والدنيا من حفظ النفس والعقل والدين والعرض والمال، فالضروريات لازمة لقوام حياة الناس واستقامتها ولا غنى للناس عنها وإلا اختل نظام حياتهم.
ويأتي في مقدمة تلك الضروريات توجيه الأموال للاستثمار في مشروعات تحفظ للناس حياتهم وأمنهم، وتلبي أولوياتهم، كالمشروعات اللازمة لتوفير المأكل والمشرب والملبس والأمن والتعليم والصحة، فضلاً عن اعتماد أولويات الناس في استيفاء حاجتهم المعيشية والاستهلاكية على ذلك بصورة تحقق الرشادة الاقتصادية.
وأساس ذلك قول الله تعالى: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ {3} الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) (قريش)، وروى ابن ماجة عن سلمة بن عبيدالله بن محصن الأنصاري عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أصبح منكم معافى في جسده آمناً في سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا"، ويعتبر تحقيق تلك الضروريات من فروض الكفايات، التي تعمر بها الأرض، وتستكين عليها حياة الناس، والتقصير أو الإهمال فيها يعد إثماً لمخالفة ما أوجبه الله تعالى.
ثانياً: الحاجيات:
وهي التي تجعل حياة الناس أكثر يسراً وأقل عناء، فيحتاج إليها لرفع الضيق والحرج، فيمكن تحمل الحياة بدونها، ولكن بمشقة زائدة، وتوفير تلك الحاجيات يعتبر من قبيل المستحب.
ثالثاً: التحسينات أو الكماليات:
وهي التي تجعل حياة الناس أكثر رغداً ومتعة دون إسراف أو تبذير أو ترف، ويطلق عليها التحسينات؛ لأنها تشير إلى ما استحسن عادة من غير احتياج إليه، ومن أمثلتها المأكل والمشرب الطيب، والملبس الناعم، والمركب الهنيء، وغير ذلك من الأشياء التي تجعل الحياة على أحسن حال، وهي تتفق والمقاصد الشرعية في قوله صلى الله عليه وسلم: "من سعادة المرء الجار الصالح والمركب الهنيء والمسكن الواسع" (رواه أحمد)، وتوفيرها يعد من قبيل المباح.
وتبدو أهمية الالتزام بتلك الأولويات؛ إنتاجاً وتوزيعاً واستهلاكاً، مع أهمية تنويع مجالات الاستثمار من صناعة وزراعة وتجارة وخدمات، وكذلك توازن الاستثمارات بين الأقاليم، لسد الحاجات المقررة للمجتمع، حتى يكتفي المجتمع، ويستغني عن غيره.
ولا ينبغي الاهتمام بالكماليات على حساب الضروريات والحاجيات، أو الاهتمام بالسلع الاستهلاكية على حساب السلع الإنتاجية؛ لما يترتب على ذلك من خدمة شريحة أقل في المجتمع، ومن ثم ضياع جزء كبير من موارده، كان يمكن توجيهها لإنتاج السلع والخدمات التي تحتاج إليها الشريحة الكبرى فيه، التي تمثل لها ضرورة من الضروريات وحاجة من الحاجات؛ ما يؤثر سلباً على تخصيص الموارد.
4- مقصد التنمية الاجتماعية:
التنمية الاجتماعية والتنمية الاقتصادية وجهان لعملة واحدة، وهما من المقاصد الكلية للاقتصاد الإسلامي الذي يحرص على تحقيق الكفاءة في توزيع الدخل والثروة، وتقريب الفوارق بين طبقات المجتمع، ومعالجة مشكلة البطالة وتوفير فرص للتوظف، وتوفير المساكن الملائمة، وتحقيق الأمن النفسي والغذائي، وتوفير وسائل الصحة والتعليم.
ومن أن أهم ما يميز الاقتصاد الإسلامي تبنيه للمسؤولية الاجتماعية؛ فرسالته السامية تقتضي منه تحسس حاجات المجتمع، وتلبيتها، ومراعاة ما يعود على المجتمع من منافع، وتجنب ما يلحق به من أضرار، تطبيقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار"؛ فلا مجال –مثلاً- لتحقيق الضرر في المجتمع بإقامة مشروعات تؤدي إلى تلوث المياه، أو تلوث الهواء، أو التلوث الأخلاقي، ونحو ذلك.
والإسلام كذلك يحث على التوجه بالاستثمارات نحو الأنشطة الاقتصادية التي تولد نفعاً لأكبر عدد من الفقراء والمحتاجين لرفع كفايتهم، من خلال إعطاء الأولوية للاستثمارات التي تعطي وزناً أكبر للسلع الضرورية والحاجية التي ينفق الفقراء غالب دخلهم عليها؛ ما يساهم عادة في تخفيض أسعارها، وزيادة فائض المستهلك المتولد منها، فضلاً عن إعطاء وزن أكبر للدخل الذي يولده الاستثمار ويذهب للفقراء من خلال الزكاة، وهو في الوقت نفسه يعمل على استخدام وزن مناسب من زكاة الاستثمارات لتكون أداة تمويلية إنتاجية -وليست استهلاكية فحسب- لتحفيز الاستثمار لفقراء المسلمين، من خلال توجيهها لمن يستخدمها في إقامة مشروع صغير أو حرفي يكف به وجهه عن المسألة.
إن الاقتصاد الإسلامي بمقاصده السامية يجعل الفرد حريصاً على مصلحة الجماعة، ويجعل الجماعة حريصة على كرامة الفرد، ويوفر شبكة من أدوات التنمية الاجتماعية يكمل بعضها بعضاً، وترتبط بالإيمان زيادة ونقصاً؛ فهي لا تؤتي ثمارها إلا بقوة الدافع الإيماني بالدرجة الأولى، وكلما ضعف الدافع الإيماني في المجتمع ضعف أثر هذه الأدوات؛ لأنها ثمرة التربية الإسلامية، ومن هذه الأدوات: الزكاة، وصدقات التطوع، والوقف، والقرض الحسن، والنفقات الواجبة للأولاد والزوجة والأقارب، والكفارات، والأضحية، والعارية، وضمان الدولة لحد الكفاية، وحد الكفاية التامة للفرد ومن يعول من غير إسراف ولا تقتير.
كما تمتد يد الدولة لتحقيق التوازن الاجتماعي بين أفراد المجتمع في مستوى المعيشة عندما يختل اختلالاً كبيراً وبيّناً يجعل المال دُولَةً بين فئة دون بقية المجتمع، كما هي عليه الحال في النظام الرأسمالي، ويسلك الإسلام لتحقيق التوازن الاجتماعي مسالك شتى منها فرض الزكاة، ونظام الميراث، ووجوب تداول الثروة.
وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على مراعاة التوازن الاجتماعي بعد هجرته للمدينة مباشرة بالإخاء بين المهاجرين -الذين تركوا متاع الدنيا بمكة وهاجروا طاعة لله ورسوله- والأنصار أهل دار الهجرة والثروة، وقد حكى القرآن الكريم عن تلك الصورة المضيئة في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (الحشر: 9).
كما حرص النبي صلى الله عليه وسلم على مراعاة التوازن الاجتماعي بعد غزوة بني النَّضِيْر حيث وزَّع فيئها على المهاجرين خاصة، عدا رجلين فقيرين من الأنصار، وكان هذا بوحي من الله عز وجل، قال تعالى: (مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ) (الحشر: 7).
وتحقيقاً للتوازن الاجتماعي يرغب الإسلام في مراعاة التوازن الاجتماعي الإقليمي من خلال مراعاة التوازن التنموي بين الأقاليم، فضلاً عن التوازن الاجتماعي بين الأجيال من خلال الموازنة بين ثروات الأجيال الحالية والقادمة؛ لأن الأجيال القادمة لها حق في ثروات الأجيال الحاضرة، فالإسلام يحث الآباء على ترك أولادهم أغنياء لا فقراء، وفي هذا روى البخاري وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قائلاً: "إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس".
وقد راعى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه التوازن الاجتماعي بين الأجيال في تقسيم الأرض التي افتتحت عنوة بين المسلمين، حينما قال له معاذ رضي الله عنه: والله إذن ليكوننَّ ما تكره؛ إنك إن قسمتها صار الرَّيْع العظيم في أيدي القوم، ثم يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد أو المرأة، ثم يأتي من بعدهم قومٌ يسدُّون من الإسلام مسدّاً، وهم لا يجدون شيئاً، فانظر أمراً يسع أوَّلهم وآخِرَهُمْ"، فصار عمر إلى قول معاذ.
والإسلام يرجو من وراء كل ذلك تحقيق الرفاه والسعادة للفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة، من خلال التوازن بين مصلحة الفرد والمجتمع، بضمان حد الكفاية للأفراد، وتوفير السبل لإشباع كافة الحاجات الإنسانية الأساسية، وبناء وتنمية العنصر البشري الصالح الذي يعد أساس التنمية، ومن ثم تحسين مستوى الحياة على الصعيدين المادي والروحي.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 20-03-2024, 03:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المقاصد الاقتصادية الإسلامية

المقاصد الاقتصادية الإسلامية (4)
مقصد العدل
د. أشرف دوابه

العدل هو الميزان الذي أنزل الله تعالى الكتاب به ليقوم الناس بالقسط، وأمر به، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد: 25)، {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} (النحل: 90)، {وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} (الرحمن)، فلا طغيان ولا إخسار.

جميع المعاملات في الشريعة مبنية على أصل العدل ومنع الظلم، يقول ابن تيمية: «الأصل في المعاوضات والمقابلات التعادل من الجانبين؛ فإن اشتمل أحدهما على غرر أو ربا دخلها الظلم فحرمها الله الذي حرم الظلم على نفسه، وجعله محرماً على عباده».

فالعدل مقصد للاقتصاد الإسلامي به تعمر الدنيا ويأمن المجتمع ويتآلف، وتحفظ المصالح العامة وتدفع الأضرار، وقد حافظ الاقتصاد الإسلامي على العدل في العلاقة التعاقدية بين العمال وأصحاب الأعمال؛ فلا تسويف ولا استغلال، ورسخ للعدل بين الشركاء وبعضهم بعضاً؛ فلا مغنم لأحدهما ومغرم للآخر، بل الغُنْم بالغُرْم، وحث على التوازن الإقليمي والتوازن بين الأجيال، وجعل للفقراء حقاً في مال الأغنياء من خلال فريضة الزكاة.

والاقتصاد الإسلامي لا يعرف للتوازن المصطنع أو المغشوش سبيلاً، فأباح نظامُه الرباني وحرَّم بما يقيم ميزان العدل والقسط؛ حيث أباح الكسب والإنفاق الحلال، وشرع فريضة الزكاة في جانب المأمورات، وحرم الربا والمقامرة والغرر والاحتكار والنجش والغش والتدليس والخديعة وغيرها من صور أكل المال بالباطل في جانب المنهيات.

كما وازن بين الدنيا والآخرة؛ فلا عمران للدنيا على حساب خراب الآخرة، ولا عمران للآخرة إلا بعمران الدنيا، قال تعالى: {لْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} (الكهف: 46).

ووازن بين التنمية الإيمانية والتنمية الاقتصادية؛ {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} (الأعراف: 96)، ووازن بين الإسراف والتقتير بالاقتصاد؛ {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً}(الفرقان: 67).

ووازن بين الجهاد في سبيل الله والسعي في طلب المعيشة؛ {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (المزمل: 20)، ووازن بين المادية والروحية باعتبارهما مكونات الإنسان ذاته، فلا يهمل الجوانب المادية على حساب الجوانب الروحية، أو يهمل الجوانب الروحية ويقدس الجوانب المادية النفعية، كما هي الحال في النظم الوضعية؛ {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الجمعة: 10)، حتى لا يقع الإنسان أسير الرهبانية أو في سعير الشهوانية المادية، وبذلك لا مكان فيه لفكر الرأسمالية التي نحَّت الدين جانباً وجعلت هدفها المنفعة المادية واللذة الدنيوية، أو فكر الاشتراكية التي جعلت الإنسان ترساً في آلة وأنكرت وجود الله بتطرفها المقيت وتنكرت للدين واعتبرته أفيون الشعوب، وركزت على التطور المادي للحياة، ومحت مشاعر الإخاء في النفوس البشرية، وأشعلت نار الاقتتال بين الطبقات في المجتمعات.

كما وازن الاقتصاد الإسلامي بين المصلحة الخاصة والمصلحة والعامة؛ فلا تجاوز للفرد على مصلحة الجماعة، ولا طغيان للجماعة على مصلحة الفرد؛ ولا ذوبان للفرد ولا إهدار لحريته ومصلحته وحرمانه من ثمرة جهده وكدحه لصالح رجال الحزب كما في الاشتراكية، ولا تقديس لمصلحة الفرد ولو على حساب الجماعة والدين والأخلاق بترك الحرية له بلا قيود أخلاقية أو ضوابط إيمانية كما فعلت الرأسمالية من تقديسها لمنفعة ولذة الفرد وإشباع رغباته وممارسة نشاطه الاقتصادي بغض النظر عن كون هذه الرغبة، أو النشاط نافعاً، أو ضاراً بالصحة، أو ملوثاً للأخلاق من انحلال وفساد، طالما يحقق نفعاً مادياً.

إن الاقتصاد الإسلامي ينظر للفرد على أنه جزء لا يتجزأ من المجتمع، وينظر للمجتمع على أنه حاضن الفرد، فكل منهما يتكاملان -لا يتصارعان كما تصور المذاهب الوضعية-، وإذا كان ثمة تعارض بين المصلحتين وتعذر تحقيق التوازن أو التوفيق بينهما فيقدم الاقتصاد الإسلامي مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد مع تعويض الفرد عما لحقه من أضرار، حيث «يُتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام».


إن سيادة التوازن بالقسط في الاقتصاد الإسلامي وبما يتضمنه من التوازن بين الروح والمادة، والدنيا والآخرة، والعبادة والمعاملة، والفرد والجماعة، والتنمية والرعاية الاجتماعية، يحقق السمو للمجتمع؛ فينجو من الإفراط الذي يمزقه، والتفريط الذي يضيعه، وتعلو فيه القيم، وتحترم فيه الحوافز والرغبات والملكيات، والسعي نحو العمل الصالح الذي يقود إلى الفلاح في الدنيا والآخرة.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 92.82 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 89.72 كيلو بايت... تم توفير 3.10 كيلو بايت...بمعدل (3.34%)]