الصنعة التعليمية ودورها في تحويل الأهداف التربوية إلى سلوك عملي - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 211 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 117 - عددالزوار : 28440 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 175 - عددالزوار : 60061 )           »          خطورة الوسوسة.. وعلاجها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 35 )           »          إني مهاجرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »          الضوابط الشرعية لعمل المرأة في المجال الطبي.. والآمال المعقودة على ذلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 30 - عددالزوار : 842 )           »          صناعة الإعلام وصياغة الرأي العام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 35 )           »          من تستشير في مشكلاتك الزوجية؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »          فن إيقاظ الطفل للذهاب إلى المدرسة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى التنمية البشرية وعلم النفس

ملتقى التنمية البشرية وعلم النفس ملتقى يختص بالتنمية البشرية والمهارات العقلية وإدارة الأعمال وتطوير الذات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 07-09-2021, 12:41 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي الصنعة التعليمية ودورها في تحويل الأهداف التربوية إلى سلوك عملي

الصنعة التعليمية ودورها في تحويل الأهداف التربوية إلى سلوك عملي (1)
عبدالرحمن بنويس







يعتبر المعلِّم في المنظومة التربويَّة الإسلامية الموجِّهَ والمحرِّكَ الفِعلي للعملية التعليمية؛ لأنَّه هو العامل على تبسيط المعرفة ونقلِها إلى عقول الناشئة بما يتكيَّف مع قُدراتهم العقلية والنفسيَّة والاجتماعية.

وإنَّ الآثار التي تحدَّثَت عن المعلِّم وفاعليته في المجتمع وفي مُؤدَّاه الرِّسالي كثيرةٌ ومتعددةٌ؛ منها هذا الحديث الطويل الذي رواه أبو داود في سننه عن كثير بن قيسٍ قال: كنتُ جالسًا مع أبى الدَّرداء في مسجد دمشق، فجاءه رجُلٌ فقال: يا أبا الدَّرداء، إنِّي جئتُك من مدينة الرَّسول صلى الله عليه وسلم لحديثٍ بلَغَني أنَّك تُحدِّثُه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما جئتُ لحاجةٍ، قال: فإنِّي سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: ((مَن سلَك طريقًا يطلُبُ فيه علمًا، سلَك الله به طريقًا من طُرُق الجنَّة، وإنَّ الملائكة لتضعُ أجنحتَها رضًا لطالب العلم، وإنَّ العالِم ليستغفر له مَن في السَّموات ومن في الأرض، والحيتانُ في جوف الماء، وإنَّ فضل العالِم على العابد كفَضل القمر ليلة البَدر على سائر الكواكب، وإنَّ العُلماء ورثَةُ الأنبياء، وإنَّ الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا دِرهمًا؛ [وإنَّما] ورَّثوا العلمَ، فمَن أخذه أخذ بحظٍّ وافرٍ))[1].

وحال الحديث هذا كحال المقولات التي سادَت في المجتمع؛ بفِعل تأثير المعلِّم على الواقع.
كاد المعلِّمُ أن يكون رَسولا

ولا يَخفى علينا ما للرَّسول من وظيفة تبليغ الدِّين، وأداءِ الأمانة، وتقديم النُّصح، ونشْر الصُّلح بين البشر - كل هذه الأدوار لها قاسمٌ مشترك مع المدرِّس أو المعلِّم في فصله التعليمي، وخصوصًا الاشتراكَ في خاصيَّة الأمانة والرسالة، وبإمكانه تعديلُ المجتمع وتغيير العقول من خلال مُتعلِّميه ما استطاع إلى ذلك سبيلًا؛ لأنَّهم رِجال الغَد، وحمَلَة العِلم، ومشعل المستقبل، ولا يتحقَّقُ هذا العمَل إلَّا إذا هيَّأنا المدرِّس وأكسبناه القدرةَ على حمْل أعباء الواقِع، وإصلاح ما استَطاع من الفساد، ودفْعِ الممكن من الضَّرر الذي يتوقَّع حصوله على المجتمع وأبنائه؛ بتوفير الوسائل اللَّازمة لذلك.

لذا سيدي القارئ؛ فأوَّل هذه الوسائل تَحديد أدوار العمليَّة التعليمية التعلُّمية باعتبارها المحرِّك الفعَّال لمخرجات المجتمع.

أولًا: أدوار المعلِّم:
لا نَختلف منهجًا وفِكرًا في أنَّ للمدرِّس التربوي أدوارًا رئيسة في تربية النَّشء على الدِّين الإسلامي، وبعْثِ الرُّوح في آمالهم الذَّاتيَّة، وتلقينهم الرِّسالةَ بكلِّ أمانة ومسؤولية؛ لكي يَنشَأ فيهم ومنهم جيل واعٍ وقادرٌ على تحمُّل المسؤوليَّة بما يتوافق وخصائص الشخصيَّة الإسلامية المتَّزنة والمتكامِلة، ومحاولة بلْوَرة تَرسيخ القِيَم فيهم لتُترجم بعد ذلك في الوسط الاجتماعي الإسلامي، هذه الخصلة التي غابَت – للأسف - في أوساط مُجتمعنا الإسلامي وانسلخَت في هويَّة وقِيَم الغرب؛ نتيجة تدفُّق غُبار العولَمة الفاسِدة على أجيالنا ومنازلِنا، وسيطرة وسائل الإعلام الغادِرة والمتكدِّرة بأنواع الأَوساخ والأسلاك الموحِشة الغادرة، فقلبَت الوضعَ عضًّا موحشًا.

فالأستاذ الربَّاني أو المعلِّم الرِّسالي هو الذي يجنِّد نفسَه للتصدِّي لجميع هذه العوائق، التي تتَّجه بأبنائنا نحو الهاويَة، ويعتبرها وضعيَّاتٍ سياقيَّة يَنبغي إصلاحُها، وإيجاد الحلول الممكنة لقضاياها؛ باستخدام واعتماد ما تمَّ ذِكرُه من الوضعيات الموجودة في القرآن الكريم والسنَّةِ النبويَّة، أو التي حدثَت في زمن الصَّحابة والتابعين، أو التي ذَكَرَها العلماءُ في كتبهم.

ولا يَنبغي للمدرِّس - والحال ما ذَكَرنا - أن يَسأم من تصرُّفات الجيل الصَّاعد؛ بل يَنبغي عليه أن يتهيَّأ بالعتاد اللَّازم علميًّا ومنهجيًّا؛ لإقناع هذا الجيل الضَّائع وتحويله إلى الجيل الهادِف والرَّاشِد، وقديمًا اعتَبَر الفقهاءُ والأصوليُّون أنَّ من شروط المجتهد أن يكون مُحيطًا بالواقِع، وعالمًا بخباياه، وباهتمام الشَّباب ومتطلَّباتهم ومتمنَّياتهم؛ حتى يكون قادرًا على تحويل أهدافهم وأحلامهم إلى سلوكٍ عمَلي هادفٍ، ولا يَنبغي للمدرِّس في الوقت الرَّاهن أن يكون منغلِقًا على ذاته، منعزلًا عن النَّاس؛ بل المفروضُ أن يكون عالمًا بما يروَّج في وسائل الإعلام، وبما يدورُ في شبكات التواصل الاجتماعي، والتَّفاعل مع القضايا السَّاخِنة التي تَدور في السَّاحة؛ بل قد تكون هذه الأحداث الواقعيَّة المنطلَقَ الفعليَّ للدروس إذا تنبَّه المدرِّس لذلك، أو اعتبرها دعامات ووسائل مُساعدة على الفهم والإدراك.

ولا يَنبغي أن يُترَك الشباب أمام الأحلام الواهية، والنَّماذج الافتراضيَّة للشخصيات الكارتونيَّة، أو الهيئات الإعلاميةِ الظَّاهرة؛ بل الواجب أن يُعان التلميذُ على تكوين شخصيَّته، وبناء تَجربته، ومن خلالها يمكن له أن يكوِّن الملَكَةَ التي قد تُظهِرُ له المنهجَ الواضح للتطبيق العملي لأهدافه النظرية.

يتبع إن شاء الله.


[1] "سنن أبي داود"؛ لأبي داود سليمان السجستاني، باب الحث على طلب العلم، رقم الحديث (3643)، دار الكتاب العربي، بيروت ص (3 / 354).


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 26-10-2021, 04:41 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الصنعة التعليمية ودورها في تحويل الأهداف التربوية إلى سلوك عملي

الصنعة التعليمية ودورها في تحويل الأهداف التربوية إلى سلوك عملي (2)
عبدالرحمن بنويس







قد تناولتُ في مقال سابق المسائل التالية:

دور المنظومة التربوية وأثرها على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
دور المعلم ونهجه الفكري والسلوكي والمهني.

وسنتناول في هذا المقال: دور المعلم وتربية الناشئة على الدين، وأثر ذلك على الشخصيَّة المسلمة، ووظيفته في ترسيخ القيم الإسلامية، ومآل ذلك على تحويل العلم إلى سلوك عملي يؤتي أُكُلَه في الواقع.


المعلم وتربية الناشئة على الدين:
إن من المهام التي قد تُناطُ بالمدرس وهو يقومُ بهذه الوظيفة العُظْمى: مراعاةَ هذه المهمة التي قيد بها، ولا بدَّ وأن ينطلق في هذه الوظيفة الرساليَّة من تراثنا الإسلامي؛ إذ إن ديننا الحنيف أَولى عنايةً تامة لأطفالنا ومجتمعنا على السواء، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((علِّموا الصبي الصلاة ابن سبع [سنين]، واضربوه عليها ابن عشرٍ))[1]، وقال الضحاك بن قيس[2]: "يا أيها الناس، علِّموا أولادكم وأهاليكم القرآن"[3]، فمن هذا الحديث يتبيَّن أن التعليم حقُّ الجميع، وخصوصًا الأولاد والأهل، بل إذا كان بإمكان تخصيص مربٍّ ومعلم فإن ذلك سيكون أرقى وأجل.

إن دور المدرس - في مثل هذه الحال - الاقتصارُ على تعليم الصبيان أمور دينهم وفق حاجاتهم ورغباتهم، وبما يتوافقُ مع ميولاتهم النفسيَّة والعقلية، مع اعتبار أن الأصل فيه أن يكون عالمًا بشروط التعلم التي ذكرها علماء الإسلام، قال الماوردي: "فأما الشروط التي يتوفَّر بها علمُ الطالب، وينتهي معها كمال الراغب، مع ما يلاحظ به من التوفيق ويمدُّ به من المعونة، فتسعة شروط:
أحدُها: العقلُ الذي يُدرك به حقائق الأمور.
والثاني: الفِطنةُ التي يتصور بها غوامض العلوم.
والثالث: الذَّكاء الذي يستقر به حفظ ما تصوره، وفهم ما علمه.
والرابع: الشهوة التي يدوم بها الطلب ولا يسرع إليه الملل...[4]

فإذا توفرت هذه الشروط - التي لها حظ من توفيق الله - واستعان بها في تربية الأجيال، فلا شكَّ أن المنتوج الذي سيظهر على الطلاب سيكون جيدًا ومُفرحًا، وتتحقق معه الأهداف المسطَّرة في المنهاج، وإنما ينبغي توفر الحكمة في تثبيت الأفكار في العقول؛ لذلكفرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((علِّموا، ولا تعنِّفوا؛ فإن المعلم خيرٌ من المعنِّف))[5]، وهذا يثبت لنا أن الوسيلةَ والأداة إذا كانت توافق فِطَرَ التلاميذ، فهي تربِّي فيه الحسَّ والشهوة التي تحدث عنها الإمام الماوردي، ومن ذلك يستطيع المدرس أن يكوِّن لنا مشاريعَ مستقبليَّة في صور تلاميذ.

المعلم وتربية الشخصية الإسلامية:
إن من الخصائص العامة في الشريعة الإسلاميةِ: المرونة والثبات، والتكامل والربانيَّة والشمول، لكن كيف يجعل المدرس نفسه منزلًا ومثبتًا لهذه الخصائص على طبائع المتعلِّمين؟!

لعلَّ الأهدافَ التي ينبغي على المدرس تحقيقُها من خلال عمله التعليمي؛ هي: تكوين أشخاص قادرين على معرفة الصالح من الطالح، ثم معرفة أنفسهم، وعلى خدمة مجتمعِهم، والسمو به نحو التقدم والازدهار، ومشاركة الفاعلين في نشر التوعية بين الناس بما يتوافق مع الفطرة التي خلَق الله الناسَ عليها، وبما يحقق الأغراض والمصالح التي تعود على الناس بالمنفعةِ، بجعلهم مشاركين في بناء الحضارة الإسلامية، وقادرين على الإبداع والعطاءِ في سبيل المنفعة العامة، وبما يخلف خدمةً للبلاد والعباد، ولا يتحقَّق ذلك إلا لمن توفرت فيه سمات الشخصية الإسلامية كما ذكرنا، المستقاة من نور القرآن ومشكاة النبوة، وذلك من خلال كونِ المدرسين قادةً وقدوة، وسمتهم تتوافق مع صفتهم، وعلمهم يتساوى مع عملهم... وهذه أعمدة وأجنحة عليها تُبنى الشخصية السامية التي تنفع البلاد والعباد وَفْق القول الرباني الإجمالي: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، مع ما يدخل تحتها من أعمال تابعةٍ، وغايات ووظائف أخرى.

المعلم وترسيخ القيم:
لعل الأدوارَ المتعدِّدة التي يلعبها المعلم داخل المنظومة التعليمية في الفكر الإسلامي جعلته يدعو إلى إثبات القيم في صدور المتعلمين، "وقد حدَّد الإسلام في إطار عام مجموعةً من القيم الاجتماعية والروحية والأخلاقية [التي ينبغي على المعلم أن يوجه إليها ويتحلَّى بها]، ولعل أهمها أنواعُ العبادات التي كانت مظهرًا مجسمًا لهذه القيم، ومحدِّدًا لها في سلوكٍ دائم لا ينقطع عنه الإنسان، ولا ينفكُّ منه إلا إذا خرج على عقيدتِه وتحلَّل من قدسيَّة الدين، ومن خلال هذه العَلاقات الدائمة بين العبد وربِّه تبدو المواقف الثانوية من النظر في الحياة والموت، في الحبِّ والكره، في الخلود والفناء، في الشجاعة والخوف، في النجاح والإخفاق، في العدلِ والظلم، في الفرح والحزن، وكل هذه المعاني مستقرة في الضمير الإنساني... منذ أن تبَلْورت التجربة الإنسانية في العقيدة الدينية... والإسلام منظم لكل هذه العلاقات، مرتقٍ بها إلى أقصى غايات السمو النفسيِّ والعقلي والروحي، وعلى الرغم من أنها استقرَّت في ذاكرة ذاك الإنسان التي تكوَّنت عبر التاريخ، وانطبعت آثارها في عاداته المجتمعيَّة فإن الإسلام وضع لها سبل الكمال، وجعلها محبَّبة إلى نفوس المؤمنين، كما يسَّرها عليهم، ففي الكلمة الطيبة صدقة، وفي إماطة الأذى عن الطريق صدقة، وفي النية الخالصة أجر"[6]، وكلها سلوكات من شأنها أن تربِّي في الناشئة آدابًا وقِيمًا يسهل ترجمتها على الواقع اليومي، وما المدرِّس لها في هذا السياق إلا موجِّهٌ تربوي، وهي الغاية التي يطبع بها على عقول المتعلِّمين، وغرس مجموعة من القيم الإسلامية التي تشعره بقيمة الانتماء إلى دينه أولًا - كما أشرنا سابقًا - ثم تربيته على ثقافة التوعية بالانضمام إلى كوكبة العقلاءِ الربَّانيِّين المحافظين على القيم الأصيلة، ومن ذلك الهوية الدينيَّة، والتشبث بقيم وتراث الأصالة والانفتاح على المعاصرة، والتحلِّي بتزكية النفس واحترام الغير والتواضع في التعامل، وعدم الارتكاز على الذات.

المعلم ودوره في تحويل العلم إلى سلوك واقعي:
مما سبق يمكن التأكيد بالقول: إن المدرس الفعَّال هو من يجعل من المتعلِّم مفكرًا ومبدعًا في العلوم التي تلقاها، وبها يتفاعل مع مجتمعه ويطوِّره، كما يحاول المدرس أن يخلق في النشء المسلم المساهمةَ الفعليَّة في حل مشكلات مجتمعه بطرق فعَّالة مبتكرة، ويعبِّئه على أن يصبح شخصية ذات أنماط متعددة، منها القدرة على القيام بالمسؤولية، واحترم الآخر في إطار التبادل الأخوي للآراء والأفكار، بعد تنمية قدراته، وتحصيل معلوماته، وصقل مهاراته الأساسية التي تؤهِّله إلى القيام بهذه المهمات العملية في الواقع، دون إغفال التمارين التطبيقية؛ نظرًا لما لها من ترسيخ آنيٍّ، ثم لكون الأشياء التطبيقية تَعلَق بالذهن أكثر من المعارف الكمِّيَّة، وفي هذا الإطار تم التركيز في منظومتنا التربوية على التدريس وفق المقاربة بالكفايات، واعتماد ثلاثة مداخل مهمة، عليها يقوم الفعلُ التربوي:
التربية على القيم.
ثم التربية على الاختيار.
وأخيرًا: التربية على الكفايات والمضامين.

وكل هذه المداخل لها حظُّها من الأنشطة التطبيقيَّة والأعمال الموازية التي تشرك التلميذ في بناء التعلمات، وهي فرصة لكي يتربَّى التلميذ على أن يحول مكنوناته الذاتية العلمية إلى سلوك عملي.

وختامًا: إن المدرس الناجح هو الذي يجعل من كل متعلم مشروعًا ثقيلًا يكوِّنه تكوينًا لائقًا به، من خلال تنوُّع الطرق التي يدرس بها، ويعدد الأنشطة المندمجة التي تساعده على فهم الواقع، والتأقلم معه في أحسن الظروف، كما لا يغفلُ المدرس عن تقويم تلامذتِه أو زملائه باعتبارهم مرآةً تعكس الصورة التي هي عليه في الواقع، ونسأل الله أن يصلح تعليمنا ويسدِّده.



[1] التفسير من سنن سعيد بن منصور؛ لأبي عثمان الجوزجاني، دراسة وتحقيق: د. سعد بن عبدالله بن عبدالعزيز آل حميد، دار الصميعي للنشر والتوزيع الطبعة: الأولى، 1417 هـ - 1997م (رقم 10) (ج1/59).

[2] وقيل: صخر بن قيس بن معاوية بن حصين بن عبادة بن النزال بن مرة بن عبيد بن الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، وأمه من باهلة، كان قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم... أسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ (الاستيعاب في معرفة الأصحاب) أبو عمر بن عبدالبر القرطبي (المتوفى: 463هـ) تحقيق: علي محمد البجاوي، دار الجيل، بيروت ط. الأولى، 1412 هـ - 1992 م (1/ 144 - 145).

[3] سنن سعيد بن منصور؛ لأبي عثمان سعيد بن منصور الجوزجاني (ت227هـ)، تحقيق د. سعد بن عبدالله بن عبدالعزيز آل حميد - دار الصميعي - الطبعة: الأولى، الرياض، 1414 - (1/ 59).

[4] أدب الدنيا والدين؛ لأبي الحسن علي بن محمد الماوردي (المتوفى: 450هـ) دار مكتبة الحياة، بدون طبعة، 1986م، ص: 66.

[5] مسند أبي داود الطيالسي المتوفى سنة 204 هـ، تحقيق: الدكتور محمد بن عبدالمحسن التركي بالتعاون مع مركز البحوث والدراسات العربية والإسلامية بدار هجر للطباعة والنشر، الطبعة: الأولى، 1419 هـ - 1999 م، قال البيهقي: تفرَّد به حميد هذا، وهو منكر الحديث: (4/ 269).

[6] طرق تدريس التربية الإسلامية نماذج لإعداد دروسها؛ د. عبدالرشيد عبدالعزيز سالم، نشر وكالة المطبوعات الطبعة 2، 1402هـ - 1982م ص: 53 بتصرف.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 01-11-2021, 03:57 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الصنعة التعليمية ودورها في تحويل الأهداف التربوية إلى سلوك عملي

الصنعة التعليمية ودورها في تحويل الأهداف التربوية إلى سلوك عملي (3)
عبدالرحمن بنويس




في العدد السابق من هذا الموضوع، تناولتُ الصنعة التعليمية في القضايا التالية:
المعلم وتربية الناشئة على الدِّين، وأثر ذلك على الشخصية المسلمة، ودور المربِّي في ترسيخ القِيَم في الفِطَر السليمة كإحدى الأدوات التعليمية المهمَّة، وختمت بحنكة المعلم في تنزيل العلم إلى سلوك عملي، وفي هذا العدد أركِّز على الدَّعائم النفسيَّة التحفيزية وأثرها في الصنعة التعليمية، وأختم بتمثلات التلاميذ وأهدافهم وعملهم على ترجمتها إلى حقيقة واقعية.

ماذا تمثِّل الصنعة التعليمية؟
إنَّ الحديث عن الصنعة التعليمية بهذا المفهوم التربوي، وبعد إدراك قيمة المهام المهنية والعلمية للتدريس - تتطلَّب من المدرس تقريبَ المتعلم إليه، وسقيَه من حنان علمه، وتزويده من خالص أدبه، وفي قصَّة أم الإمام مالك رحمهما الله ما يعبِّر عن أثر ذلك: "انظر إلى أدب ربيعة قبل أن تأخذ من علمه"، وقد سبق أن ذكَرْنا مسؤوليَّة المعلم في تربية القادة من التلاميذ، وتمهيرهم التعلم كصنعة تربوية، وقد حان الوقت للحديث عن الكواليس التي ينبغي أن يقوم بها المدرِّس في إعداد الصنَّاع تخطيطًا وتنفيذًا وتقويمًا، وفي هذا المقام سأركز على العنصر الأول فقط.

في المفهوم البيداغوجي يعتبر التحضير للدروس والتهيُّؤ السابق للعمل من موجبات المهام التي تُناط بالمدرسين؛ وذلك لما له من مساعدة على الضبط التنزيلي للعمل في التنفيذ والتطبيق، ومن خلال التجارب المهنية فإنَّ الإعداد يسهِّل تنزيل بنود الدروس والمضامين في استيعاب التلاميذ والطلبة لتحقيق الكفاية المرغوبة، فتتحوَّل الأهداف بذلك من سلوكٍ نظري إلى عمل واقعي.

أما وأن يأتي الأستاذ إلى الحصَّة وهو تلميذٌ مجتهد، فإنَّ ذلك من شأنه أن يجعله متذبذبًا في تنزيل بنود المادَّة، غير متقِن لما يمليه على أبنائه، وبالتالي سيُخرج لنا صنَّاعًا مختلين، نتيجة إخلاله بتعليمه ومهامه.

ويساعد على هذا الأمر، تقريب الدارسين إلى شخصية المربي، وهي التي أسلفنا سابقًا في المقالات السابقة بذكرها ضمن "شروط التعلُّم والتعليم"؛ ومنها الرغبة والإرادة، والشهوة الدائمة، وغياب القواطع المذهلة؛ ومعرفة ذلك يسهم في أن يجعل المربي متواضعًا مع تلاميذه حقَّ التواضع؛ كما كان يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الأعراب الذين أتَوا من خشونة الصحراء، فيُفهمهم الموضوع بالليونة والحكمة والتؤدة، مع ضرورة الانخراط في معرفة وفهم أوضاعهم والتطلُّع إلى أحوالهم، وبهذا النموذج يجب الاقتداء في التربية؛ ولذلك فقد تؤدِّي الضرورة إلى مساعدة ومخالطة مَشاكل التلاميذ وتبنِّي أفكارهم حتى يتجاوزوها، وقلَّة الاختلاط بهم ستكلِّفهم مغبَّة مسارهم الدراسي، إن لم تعرِّضهم لمهلكات القضايا التربوية؛ من العنف أو الانقطاع أو التشرُّد... وكثيرًا ممن هم ضحايا هذا الأمر، ولا حول ولا قوة إلَّا بالله، وكم منهم مَن كان قويًّا بذكائه، حريصًا بسند أستاذه، مأمولًا صانعًا في مستقبله، لكن للأسف وبتهاون المسؤول المباشر عنه وتهميشه ضاع وضاعَتِ الأمَّة من ورائه، وأصبح مستقبله إلى ماضٍ يذكر ولا يرغب في الترحُّم عليه؛ لأن ذلك يُشعره بنوع من الاشمئزاز والضنك.

الصنعة التعليمية تتطلَّب مجهودًا كبيرًا من المعرفة بعلم النَّفس وعلم الاجتماع... وكلما زاد العلم فهو أفضل مساعد؛ وبذلك يحصل التكامل الذي أصبح يذكر في خبر كان، بعد أن رحل وأُقبِر من مقرَّراتنا ومناهجنا إلَّا من تنبَّه من الصنَّاع فأدرجه ضمن ما يسمَّى بالكفايات الممتدة بإحياء الروابط بالمعارف السابقة.

فالتخصُّص الدقيق مطلوبٌ لصناعة الفرد في المهام المرغوب لها، لكنه لا يفيد إن استقلَّ عن غيره، والحالة هذه، فمن الواجب - وخصوصًا في مهنة الأستاذية - أن يكون لهم زاد من هذه العلوم ولو من قشورها؛ لأنَّ العلم كثير ويصعب تحصيل لبِّه في الغالب، والعمر قصير، وخيرُ ما فيه مرحلة الطلب والتعلُّم، والتعلم في الصِّغر كالنقش على الحجر، ومن هذا السبب فيمكن للتعليم أن يكون صنعة إذا اشتُغل عليه في المنظومة وجعله قالبًا أولويًّا؛ لأنَّ مما يساعد الـمُعَدَّ للتكوين على تحديد أهدافه: دقَّةَ المرامي المصنوعة في المنهاج، والتي تحدِّدها الوزارة الوصيَّة، والمترجم الحقيقي لتنزيلها وتطبيعها في أذهان المكوَّنين هو الأستاذ، وللممارس أن يدرك ذلك حينما يسأل عن هدف كل تلميذ، فإنَّ الجواب أعمق من السؤال؛ فهذا يريد أن يكون فلكيًّا وهو في قريته، وهذا يريد أن يكون طيارًا في قرية جبليَّة، وهذا يريد أن يكون أستاذًا في أسرة لم تجد حتى الخبز والماء، وهذا يريد أن يكون فلاحًا في أسرة غنية... والموازين تُنصب وتحتاج إلى المساعدة والإنصات والإعانة لترجمتها على الواقع.

أيها المكون الصانع؛ لعلك تدرِك من عوادي الزمن وتعب المهنة أنَّ مَن له نفَس طويل مع التلاميذ سيدرك أن منهم من يحتاج إلى تشجيعٍ أمام زملائه، وتنويه بعمله، يُشعره بالفخر؛ فأبو سفيان رضي الله عنه يحب الفَخر كما في أخبار السير، فكيف بالصغار؟ وهم الجيل الصاعد، وبه تتقدَّم الصنائع، ومن أراد التبحُّر في هذا الميدان فليرجع إلى كتاب "مقدمة ابن خلدون" وما حواه كتابه من الصنائع وأثر الصبيان في تعلُّمها.


لنعُدْ إلى الأهداف وما تضمنته الفطر السليمة من رغبات وميول في أعماق التلاميذ؛ فمنهم من يحدِّد مهنته وهو في نعومة أظفاره بأن يصبح معلمًا فذًّا، أو أستاذًا مجدًّا، وهذا النوع من شدة حبِّه فإنه يبقى حريصًا متابعًا لسلوك أستاذه، مقلدًا إياه في الصغيرة والكبيرة؛ بل منهم من يردِّد ما يقوله أستاذه بالحرف؛ لأنَّه الشخصية المثلى التي يتمنى أن يرى نفسَه عليها، وبالطبع فهذا النموذج تصدُق فيه الصنعة التعليمية، وهو المأمول إلى سعيه بأخذها بجد، من خلال المواظبة على إنجاز الدروس بحيوية ونشاط، والبحث عن الأفضل وما حذاه، بل الاجتهاد أكثر من أجل تحقيق الهدف، ويصبح المصنوع صانعًا محترفًا؛ وهو بهذا الصنيع قد ترجم أهدافه إلى سلوك عملي.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 06-11-2021, 04:05 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الصنعة التعليمية ودورها في تحويل الأهداف التربوية إلى سلوك عملي

الصنعة التعليمية ودورها في تحويل الأهداف التربوية إلى سلوك عملي (4)
عبدالرحمن بنويس




"خطوات منهجية لتربية ملكة الصنعة التعليمية" [1]




سلف معنا في العدد السابق الحديثُ عن تَمثيلية الصنعة في ذات المتعلم، من خلال إحاطته ما استطاعَ بالعلوم الاجتماعيةِ وكل ما فيه إفادة؛ لأن ذلك من شأنه أن يُسهم في تكوين الصنعة التعليمية، وفي هذا العددِ سنتطرق - إن شاء الله - إلى ما تحتاجُه الصناعة من ضبطِ المعرفة وتبسيطِها، وعلاقته بعناصر المنهاج، وما ينبغي أن يتوفر عليه من ليونةٍ واستمرار.



أستعيرُ قولةً للعلامة المرحوم فريد الأنصاري في أحد شرائطه متحدِّثًا عن الصَّنعة بالقول: "الصناعةُ هي إدراكُ سرائرِها"؛ أي: إدراك مقاصدها وغاياتها وأعمدتِـها، ومن هذا فالذي له نظرٌ من الوعي يكاد يجزِم بأن أيَّ صناعة لا بد وأن تكون مضبوطةً متقَنةً لتوجهها العام؛ من البداية إلى النهاية، فمثلًا: العامل في حقل الزراعة تراه ضابطًا لأوقاتها (بردًا وصيفًا، شتاءً وخريفًا)، خبيرًا بأنواعِ الفواكه ولأوقاتِها، ويمكن قياسُ هذا الأمر على جميع الصنائع، ومن بينها (التعليم والتدريس)، وهذا الأمر على العموم يتطلب مجموعة أمورٍ:

ضبط المعرفة التعليمية: المعرفةُ راحة كسبية، فمعرفة المدخلات تسهِّل توقُّع المخرَجات؛ لذا فالأستاذ يكونُ فنانًا في تصريف المعرفة، وتصبح ليِّنة بضبطها ابتداء وانتهاء.



إن المعرفة شيءٌ مهم في صناعة العقول، وهي أول ما يشترط في المربي إضافة إلى الكافي من علم التدريس، ثم الثقافة العامة في العلوم الأخرى (طبيعية، إنسانية، واقعة...)، ولا شك أن الماهر في ضبط المعرفة يعرف كيفيةَ توجيهها على الوجه اللائق بها.



خصائص المعرفية في الصنعة التعليمية التعلمية:

لعل من أهم المميزات التي تجعلك في مرقى موجه للمعرفة المسائلَ الآتية:

معرفة عقلية أو بالأحرى إدراك المتعلمين، حتى تصرف إليهم المعرفة التي تلائم قدراتِهم العقليةَ والفكرية والنفسية.

القدرة على التوجيه المعرفيِّ الصحيح بالطرُق المقبولة، البعيدة عن الذاتية والاستفزازية.

الاستناد إلى المظانِّ الموسعة، والإرشاد إليها، وتحريض المتعلمين عليها بنوعٍ من الشوق والتحبيب، والتوجيه إلى القدرة على تكوين ملَكة فكرية قوية.



الاستناد إلى الدليل (مادي/ معنوي، سمعي/ نقلي/ فكري..) في الخطاب مع المتعلمين، وهذه الخاصية يستفاد منها تربويًّا:

تربية المتعلمين على الاستدلال.

تربية وبناء الفكر على دلائلَ مادية معززة، مستحضرًا أننا "أمَّة الدليل".

تعليم القدوة المبني على فكرٍ حر ضابط، مربيًا فيهم "التفكير النقدي" "والإبداع العلمي".



وقديمًا؛ وصَف لنا عالِم الاجتماع العلامةُ ابن خلدون في "المقدمة" بعضًا من سمات التعامل مع المعرفة، ضاربًا لنا مثالًا حيًّا من حياة المتعلمين وشأنهم بالكتابة والقراءة قائلًا: "نجد أكثر البدو أميِّين لا يكتُبون ولا يقرؤون، ومن قرأ منهم أو كتَب فيكون خطُّه قاصرًا، أو قراءته غير نافذة، ونجد تعليم الخط في الأمصار الخارج عمرانها عن الحد أبلغَ وأحسن وأسهل طريقًا؛ لاستحكام الصَّنعة فيها، كما يُحكى لنا عن مصر لهذا العهد، وأن بها معلمين منتصبين لتعليم الخط يُلقُونَ على المتعلم قوانين وأحكامًا في وضع كل حرف، ويزيدون إلى ذلك المباشرة بتعليم وضعه، فتعتضد لديه رتبة العلم والحس في التعليم، وتأتي ملَكته على أتم الوجوه، وإنما أتى هذا من كمال الصنائع ووفورها بكثرة العمران وانفساح الأعمال، وقد كان الخط العربي بالغًا مبالغه من الإحكام والإتقان والجودة..."[2]، وفي هذا النص فائدتان مهمتان:

الأولى: أن الصنعة تحدُث في الإنسان من خلال الرغبة في حب الاكتشاف، والتطلُّعِ إلى البحث عن المجهول، والرغبة في تعلُّم حقائق الأمور، ومنها معرفة منهج الكتابة (وأقصد بذلك الشكل المنهجي).



الثانية: أن الصنعة يُؤَثِّرُ في تربيتها المدرسُ بشكل فعَّال؛ لأن المتعلِّم فيه بعض الأشياء مصنوعة في ذاته، وقد تكون فطريَّة كالموهبة، وأشياء أخرى تكون مطبوعة من خلال النماذج التي يكتشفها المتعلمُ ويقلدها، والمدرس في ميدانه من بَيْنِ أكثر الشخصيات النموذجية، رغم أنه للأسف أصبح المتعلمون يقلِّدون بعض سفلة الأفلام غير الرِّسالية، أو بعض اللاعبين، إما في أجسامهم أو أشكالهم، دون معرفة حالهم.



وتفاديًا لذلك فقد حثَّ ابن خلدون المدرِّسين في هذه المهمة على شيء مهم، وهو: المعرفة المتقنة بالفن المدرَّس؛ حتى يَنقُشَ في ذهن المتعلم معرفة يصعُب إزالتها، لا كما قال بأن هناك معلمين يقتلون حب العلم في طلَبَتِهم؛ نظرًا لرتابة معارفهم وأدائهم.



من متطلبات الصنعة: المعرفة في علاقتها بأهل ذوي الخبرة والتجربة:

لا ريب أن المعرفة مقودُ أي مهنة، والتعليم في شكله ومضمونه يتطلب زادًا معرفيًّا، ولو على الأقل الضروري من الفنون، وإن المقصود بالأصالة من هذا المطلب هو: أن يرتبط المدرسون بذوي الخبرة ممن سبَقهم في العلم والتعلم؛ لأن ذلك لا شك بأنه مرقاة لتجويد الأداء، وتربية حب الاكتساب عند المتعلمين، ولعله بسبب هذا التواضع وحسن الأداء في التدريس قد يزيد من توطيد العلاقة بين الفاعلين في جماعة الفصل، فالتقديرُ من جانب المتعلمين يكون بقدر جهد الأستاذ في توصيل المعرفة إلى ذهن الطالب بدون تعقيد.



نتاجُ المعرفةِ مسار إلى توجيه المتعلمين لامتلاك الصناعة:

ذكرنا سلفًا بأن المعرفة سهمٌ منهجي ييسرُ على المتعلم أداء دوره المهني على أجمل صورة، وضبطُ المعرفة منهجيًّا ومضمونًا من شأنه أن يوجه المتعلِّمين في المسارات الأخيرة من مراحلهم الدراسية - وأقصد بذلك: في مراحل التقييم الأخيرة - لاختيار التخصص الدقيق في الجامعة أو الدراسات العليا؛ لأن المدرس بخبرته وتوجُّهه المعرفي يستطيع أن يُقَوِّمَ مجهودات تلامذته في مسارهم الأكاديمي أو المهني، وجزى الله خير الجزاء أساتذتنا على توجيههم الفعال - أتذكَّر وأنا في مرحلة الثانوي، توجهت إلى أحد أساتذة الإنجليزية - رحمه الله تعالى وأوسع مدخله - قصد أخذ رأي منه في اختيار شعبة الإنجليزية كمسار جامعي، فقال لي: فمن خلال تقييمي لمستواك فأنت تحتاج إلى مجهود، وهذا المستوى لا يؤهلك لاختيار شعبة الإنجليزية، وقد أدركتُ حقيقة ما قال لي لما علل توجيهه التقييمي، ولما اخترت شعبة تميل إليها نفسي بعد استشارة أهل التخصص.



الإخلاص في العمل يكسب روح المتعلمين ويَقِيهِم من العشوائية إلى إدراك المعلومة:

يخطئ الكثير من الأساتذة لما ينظرون إلى التلميذ باعتباره صغيرًا غير مدرِك لحقيقته دماغه وسيرورته، والحقيقة أن التلاميذ في العصر هم المشرفون المقوِّمون لأداء الأستاذ، وهم الحَكَمُ على مخرجاته، وبواسطتهم تعرف هل الأستاذ "ناجح في أدائه أم لا؟"؛ لذلك لا ينبغي الاستهانة بذلك؛ ولذلك فالأستاذ ليس مصدرًا أو مترجمًا للمعرفة فقط، بل المعرفة في العصر الحاضر موجودةٌ ويَعجِز الإنسانُ عن حصرها؛ وإنما الشأنفي كيفية التوظيف، وهذه المَهمة في نظري أهم إجراء منهجي ينبغي أن ينصبَّ عليه مهام المدرس، وذلك يتجلى ابتداءً من خلال ضبط سلوك المتعلمين وتحلِّيهم بالأخلاق المعرفية والتوجيهية، وأن ينزل عند مستواهم حتى تتضح له مناهجُ تفكيرهم، ويزيل عنهم أهم التمثلات الخطيرة التي تعقم من تنمية أفكارهم، وبناء منهجهم على سلوكٍ منتظم، باعتماد الفهم، وتقدير مستواهم، والرفع من معنوياتهم وتحفيزهم، للأسف فالكثير من تلامذتنا لا ينقصهم الذكاءُ، بل الذي ينقصهم هو من يساعدهم على اكتشاف مواهبهم وقدراتهم، والأستاذ الناجح هو من يساعد على البناء، ويشخِّص النقائص، ويشجِّع المتعلمين على تجاوزها في إطار تربوي واعٍ.



ولعمري هذا إسهامٌ منهجي يساعد في تنزيل بعض طموحات المتعلمين إلى حقائقَ واقعية، وكثيرة هي قَصص بعض زملائنا، مَن بصم فيهم أساتذتهم منهج الحياة، فصاروا اليوم ينظرون إلى أهدافهم المثالية بعين الحقيقة الواقعية، وهذا - في نظري - مبتغى أي تلميذ، وخصوصًا من ننظر إليهم على أنهم منحرفون، والحقيقة أنهم سلكوا ذلك المنهجَ؛ لظنهم أنهم في عالم غير عالمنا؛ لأنهم لم يجدوا من يهتمُّ بهم ويساعدهم توجيهًا وتقديرًا، نسأل الله أن يهديَ شبابنا، وفي المقال المقبل - إن شاء الله - سأتطرَّق إلى الإجراءات العملية للصنعة التعليمية على مستوى الأهداف، وتنزيلها على الواقع.





[1] عبدالرحمن بنويس: باحث متخصص في ديداكتيك تدريس العلوم الشرعية.




[2] انظر مقدمة عبدالرحمن بن خلدون، دار إحياء التراث، بيروت لبنان (1 /418) بتصرف.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 97.74 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 94.43 كيلو بايت... تم توفير 3.31 كيلو بايت...بمعدل (3.39%)]