ورجلان تحابا في الله

[ابوالوليد المسلم]

ورجلان تحابا في الله

د. الجيلالي سبيع


وصف النبي " صلى الله عليه وسلم" في الحديث العظيم الذي رواه مسلم في صحيحه السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله بالرجال، والرجل مصطلح يحمل معاني القوة والأمانة والصدق والحلم والأناة، وفي إشارة لطيفة لأحد العلماء
فإن عدد المنعمين تحت ظل الرحمان ثمانية، لكن صار العدد سبعة لأن الحب في الله صهر المتحابين فيه فصارا رجلا واحدا وذاتا واحدة، وهذا ملحظ مهم يختصر مآل الصدق في محبة الغير بقصد طلب وجه الله تعالى.
وإذا كانت الأمور تشرف بمقاصدها وغاياتها، فإن الحب: نقيض البغض (1)، والحب: الوداد، وحببته أحبه بالكسر لغة، حبا بالضم والكسر، فهو محبوب، والتحبب: إظهار الحب.
قال النووي في شرح حديث ظل الرحمن (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه): «معناه: اجتمعا على حب الله وافترقا على حب الله، أي كان سبب اجتماعهما حب الله، واستمرا على ذلك حتى تفرقا من مجلسهما وهما صادقان في حب كل
واحد منهما صاحبه لله تعالى، حال اجتماعهما وافتراقهما» (2).
وقد أضاف الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام الحب إلى الله تعالى، وأنعم بها من إضافة وأنعم به من حب، وهو ما يفهمه المتأمل بعد من قوله «اجتمعا عليه وتفرقا عليه»، والمعنى اجتمعا على مرضاته وما يقرب إليه، ولم تجمعهم
أرحام ولا مصالح متبادلة.
وإذا كان الأصل في ذلك محبة الله لعبديه وتوفيقه لهما، فإن إضافة الحب لله تعالى إشارة خفية إلى المظهر الحقيقي للحب الذي تاهت العقول والفلسفات في إدراكه، مع ما في الاجتماع عليه من دلالات على مخبر الحب الذي لا يتوصل إليه إلا بالذوق
الذي لو عرفه المعرضون والمغرضون لجالدوا المتحابين عليه بالسيوف.
وإذا كان لكل معنوي ما يدل عليه من المحسوسات، فإن مظاهر الحب في الله عزوجل كثيرة، منها توصيف الإمام الأوزاعي الرائع: «الصاحب للصاحب كالرقعة للثوب، إذا لم تكن مثله شانته»، وفي ذلك إشارة إلى الموافقة التي تحصل بين المتحابين
لأن قصدهم واحد.
كما تنبغي محبة الشخص لذاته لأن ذلك أدعى إلى السمو بإنسانيته ورفع الاعتبار لشأنه؛ ما يكون رادا له عن سبيل الغي والهوى، فقد مر أبوالدرداء برجل قد أصاب ذنبا وكانوا يسبونه، فقال لهم: أرأيتم لو وجدتموه في قليب، ألم تكونوا مستخرجيه؟
قالوا: بلى. قال: فلا تسبوا أخاكم واحمدوا الله الذي عافاكم، قالوا: أفلا تبغضه؟ قال: إنما أبغض عمله، فإذا تركه فهو أخي» (3). ولهذا قال يحيى بن معاذ الرازي: «حقيقة المحبة أنها لا تزيد بالبر ولا تنقص بالجفاء» (4).
وقد سطر الصحابة الكرام صفحات مجيدة في سجل الحب في الله، وهم الذين جسدوه تجسيدا ما بعده تجسيد على أرض الواقع، وتتواتر الروايات حول محبة كل منهم الخير لأخيه وإيثاره له على نفسه، وما قصة من تعجب الله من صنيعهما، والسبعة
الذين دار قدح الماء بينهم في ساحة الوغى حتى هلكوا إلا نزر يسير في باب رقيت فيه الأنفس وتآلفت، طلبا لوجه ربها ومولاها.
ومن أروع صفحات الحب في الله ما كان بين المهاجرين والأنصار، ومما ميز علاقتهم القلبية المتينة نصح وإقالة عثرات بعضهم لبعض، فعن مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد، أن أبا الدرداء كتب إلى أخيه سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنهما: أن
هلم إلى الأرض المقدسة، فكتب إليه سلمان: «إن الأرض لا تقدس أحدا، وإنما يقدس الإنسان عمله، وقد بلغني أنك جعلت طبيبا، فإن كنت تبرئ فنعما لك، وإن كنت متطببا فاحذر أن تقتل إنسانا فتدخل النار» (5).
وحري بمن اجتمعا على الله أن ينزل أحدهما الآخر منزلة نفسه، ويعرف له حقه وفضله، فقد جاء رجل إلى أبي هريرة "رضي الله عنه" وقال: إني أريد أن أواخيك في الله، فقال: أتدري ما حق الإخاء؟ قال: عرفني، قال: أن لا تكون أحق بدينارك
ودرهمك مني، قال: لم أبلغ هذه المنزلة بعد، قال: اذهب عني» (6).
وقد وصل تلطف المتحابين في الله ببعضهم، والكرم بينهم درجة رفيعة تعجز الكلمات عن وصفها، وتعبر عنها مواقف من مثل قول أحدهم: «إذا طلبت من أخيك مالا فقال ماذا تصنع به، فقد ترك حق الإخاء» (7).
إن المواقف المعروضة وغيرها كثير مما حفلت به كتب السير والمغازي والأنساب والرقائق والآداب- دليل على إدراك ذاك الرعيل لقيمة الحب في الله وأهميته في العاجل والآجل.
فعن أبي هريرة "رضي الله عنه" قال: قال رسول الله " صلى الله عليه وسلم" : «إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي» (رواه مسلم).
قال ابن عبدالبر في المراد بظل الرحمن المبشر به: «وظل الله، عزوجل، في هذا الموضع رحمته -والله عزوجل أعلم- وجنته، وقيل ظل الله، عزوجل، ظل عرش الله... ومن كان في ظل الله، عزوجل، سلم من هول الموقف وشدته وما يلحق الناس
فيه من القلق والضيق والعرق» (8).
وتمثل هذه العطايا والمبشرات الربانية جعل الصادقين على وجه الأرض يستميتون في طلب هذا الحب المفقود، ويتشبثون بكل طريق مؤدية إليه، ولننظر كيف تصرف الصحابي الجليل معاذ "رضي الله عنه" حين انبرى أمامه شعاع من تلك المحبة
اللاحبة، وكيف تمسك بأهدابها في فهم وإيمان عميق بمواطن القرب والزلفى إلى الملك الوهاب.
فعن أبي إدريس الخولاني قال: «دخلت مسجد دمشق فإذا فتى شاب براق الثنايا، وإذا الناس معه، إذا اختلفوا في شيء أسندوا إليه وصدروا عن قوله، فسألت عنه، فقيل: هذا معاذ بن جبل، فلما كان الغد هجرت فوجدته قد سبقني بالتهجير، ووجدته
يصلي، قال فانتظرته حتى قضى صلاته، ثم جئته من قبل وجهه، فسلمت عليه، ثم قلت: والله لأحبك لله، فقال: آلله؟ فقلت: آلله، فقال: آلله؟ فقلت: آلله، فقال: آلله؟ فقلت: آلله، قال: فأخذ بحبوة ردائي فجبذني إليه، وقال: أبشر، فإني سمعت رسول الله
" صلى الله عليه وسلم" يقول: قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين في، والمتزاورين في، والمتباذلين في» (9).
وإذا كان كل صادق ولاشك يفني عمره - عبادة وذكرا وعملا وتقربا - طلبا لمحبة ربه ومولاه، وطلبا لسلامة قلبه، وأملا في الفوز بظله ورحمته وعفوه، فإن الحديث يدل على أقصر السبل وأسلكها في الباب، وطالما وصف بالسبيل السهل الذي
يقتضي حركة قلبية بسيطة، والأمر ليس كذلك إذا تعلق بقلوب قاسية طال عليها الأمد، وما يفعل لقلب نزعت الرحمة منه، كما جاء في البلاغ النبوي.
وتتوارد الأحاديث والآثار الدالة على ما أعده الله، عزوجل، وهو الكريم المنان للمتحابين بجلاله، فعن معاذ ابن جـــبل "رضي الله عنه" قـــال: «سمــعت رسول الله " صلى الله عليه وسلم" يقول: قال الله عزوجل: المتحابون في جلالي لهم منابر
من نور، يغبطهم النبيون والشهداء» (أخرجه الترمذي).
ومرتبة كتلك هي التي جعلت الحسن "رضي الله عنه" يقول: «إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأولادنا، لأن أهلنا يذكروننا بالدنيا، وإخواننا يذكروننا بالآخرة» (10).
وهذا ما حدا بالشرع الحنيف أن يرتقي بالحب في الله إلى مصاف الأعمال والقربات الجهادية العظيمة، قال رسول الله " صلى الله عليه وسلم" : «ألا أخبركم برجالكم من أهل الجنة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: النبي في الجنة، والصديق في
الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، ورجل زار أخاه في ناحية المصر؛ يزوره في الله في الجنة» (أخرجه البيهقي في شعب الإيمان).
وإذا كان من العجب أن يضرب الرجل اليوم أكباد الإبل كي يزور أخاه في ناحية المصر، فإنه يجب رعاية وتعهد ذاك الإحساس الذي ولد تحمل تلك المشاق، لأن المكنونات القلبية تزيد وتنقص، وهذا ما تنبه إليه رسول الله " صلى الله عليه وسلم"
في صناعته للرجال، - ومنهم معاذ "رضي الله عنه" الذي تبهر سيرته الألباب - حيث قال: «يا معاذ إني لأحبك» (أخرجه الإمام أحمد).
فهذا الاعتراف لبنة أولى في تعهد الحب في الله، بما يزرعه في قلب المحبوب من ثقة وإحساس بالاهتمام العاري عن أية دواع نفعية مادية مصلحية آنية، مما يولد في قلبه همة عالية في طلب المعالي.
وهو ما جسده الصالحون بعد رسول الأنام عليه أفضل الصلاة السلام، فقد روى الإمام أحمد: «أن أبا سالم الجيشاني، أتى أبا أمية في منزله فقال: إني سمعت أبا ذر، يقول: إنه سمع رسول الله " صلى الله عليه وسلم" يقول: «إذا أحب أحدكم
صاحبه فليأته في منزله فليخبره أنه يحبه لله عزوجل» وقد أحببتك فجئتك في منزلك» (أخرجه الإمام أحمد).
فالزيارة والاعتراف حق للمسلم على أخيه، ما يفتل في حبل العلاقات الأخوية التي تسمو بسمو القصد منها.
وإذا كان التفضل الرباني أصل أصول الحب في الله، لأنه هو الذي ألف بين القلوب (11)، فإن التضرع والدعاء من مظان صيانة ذاك الإحساس الرفيع وتعهده، ومن أدل ما يستدل به أن عمر بن الخطاب "رضي الله عنه" قال: «استأذنت النبي
" صلى الله عليه وسلم" في العمرة، فأذن وقال: لا تنسنا يا أخي من دعائك، فقال: كلمة ما يسرني أن لي بها الدنيا» (أخرجه أبوداود).
وإذا طُلب الدعاء من رسول الأنام، فمن دونه أولى بالطلب وأحوج، وهو ما تواترت الآثار حوله في صفحات مجيدة التقت فيها سماحة القلوب وصفاؤها بتوفيق من الله ورعايته.
وقد كان أبوالدرداء يدعو كل ليلة لجماعة من إخوانه، وقال الإمام أحمد بن حنبل لولد الشافعي: «أبوك من الستة الذين أدعو لهم كل ليلة وقت السحر» (12).
فالحب في الله وفاء ومروءة، قال يحيى بن معاذ: «بئس الأخ أخ تحتاج أن تقول له: اذكرني في دعائك» (13). وفي ذلك عربون على المحبة المبتغية وجه الله تعالى، التي سمى رسول الله " صلى الله عليه وسلم" المجتمعين عليها بأبناء
الآخرة، حيث قال لعلي بن أبي طالب "رضي الله عنه" : «يا علي، استكثر من المعارف من المؤمنين، فكم من معرفة في الدنيا بركة في الآخرة». فمضى علي "رضي الله عنه" فأقام حينا لا يلقى أحدا إلا اتخذه للآخرة، ثم جاء من بعد، فقال له
رسول الله " صلى الله عليه وسلم" : «ما فعلت فيما أمرتك؟» فقال: قد فعلت يا رسول الله، فقال له عليه الصلاة والسلام: «اذهب فابل أخبارهم» فأتى علي النبي " صلى الله عليه وسلم" وهو منكس رأسه، فقال له النبي " صلى الله عليه
وسلم" وهو يتبسم: «ما أحسب يا علي ثبت معك إلا أبناء الآخرة». فقال له علي: لا والذي بعثك بالحق. فقال له النبي " صلى الله عليه وسلم" : {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}( الزخرف:67) يا علي، أقبل على شأنك، واملك لسانك، واعقل من تعاشره من أهل زمانك تكن سالما غانما» (أخرجه أبونعيم في الحلية).
فما أحوج الأمة إلى إحياء هذه المعاني السامية في النفوس، في زمن طغيان المادة وضمور الربانية، وهي معان تجعل للعلاقات الإنسانية امتدادا في الآخرة، حين يكون الخل عدوا لخله إلا المتقين، فالحب في الله وفاء في الدنيا، تصلح به أواصر الصلة
بين الأخ وأخيه، ومواقف ثبات يباركها الرحمن، تمتد آثارها بخير في حياة الخلود، حياة الآخرة، ومن صفى، صفي له، ومن كدر، كدر عليه، ومن أحسن في ليله، كوفئ في نهاره، ومن أحسن في نهاره، كوفئ في ليله. كما قال أبوسليمان الداراني، رحمه
الله (14).
يقول أحد العارفين بالله مستنهضا الهمم في الباب: «يا غافل، هذا عمرك يتصرم، فماذا أسست من صداقات، وماذا بنيت لآخرتك من معارف، وما شغف قلبك من أحباب؟ أنت مع أولئك يوم القيامة، وأنت من ذلك الصنف أيا كان، فالأرواح جنود
مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف كما روى مسلم وأبوداود عن أبي هريرة مرفوعا.


الهوامش
(1) تاج العروس من جواهر القاموس، الزبيدي، من ص 212/2 إلى ص 219/2، مجموعة من المحققين، دار الهداية.
(2) شرح النووي على مسلم، ص 121/7، باب فضل إخفاء الصدقة، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، أبوزكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (676هـ)، ط 2، 1392 هـ، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
(3) التبصرة لابن الجوزي، جمال الدين أبوالفرج بن الجوزي، ص 305/2، ط 1، 1406 هـ - 1986 م، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
(4) صفة الصفوة، ابن الجوزي، تحقيق: أحمد بن علي، ص 293/2، ط 1421 هـ - 2000 م، دار الحديث، القاهرة، مصر.
(5) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبونعيم الأصبهاني، ص 205/1، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت.
(6) الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية، محماس الجلعود، ص 296/1، ط 1، 1407 هـ - 1987م، دار اليقين للنشر والتوزيع، وقد أحال على مخطوط فضيلة الألفة والأخوة، بقسم المخطوطات بجامعة الرياض، رقم
(1605) فيلم (556/ 6) الورقة (37) المؤلف غير معروف، كتبت في القرن التاسع الهجري تقريبا، والأثر موجود بقوت القلوب، والإحياء، وأدب الدنيا والدين.
(7) إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، ص 180/2، دار المعرفة، بيروت.
(8) الاستذكار، أبوعمر يوسف بن عبدالبر القرطبي، تحقيق سالم محمد عطا ومحمد علي معوض، ص 448/8، ط 1، 1421هـ - 2000م، دار الكتب العلمية، بيروت.
(9) الاستذكار، ص 451/8.
(10) إحياء علوم الدين، الغزالي، ص 171/2.
(11) قال تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِ ينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)} (الأنفال:62-63).
(12) صيد الخاطر، ابن الجوزي، عناية حسن المساحي سويدان، ص 30/1، ط1، 1425هـ - 2004م، دار القلم، دمشق.
(13) صيد الخاطر، ص 391/1.
(14) صيد الخاطر، ص 31/1.