بناء الجملة في شعر الخنساء - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         من فضائل النبي صلى الله عليه وسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 130 - عددالزوار : 15756 )           »          حرف القاف (نشيد للأطفال) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          نوادر الفقهاء في مدح سيد الشفعاء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          الجامع في أحكام صفة الصلاة 4 كتاب الكتروني رائع (اخر مشاركة : Adel Mohamed - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3959 - عددالزوار : 398311 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4428 - عددالزوار : 864455 )           »          أنماط من الرجال لا يصلحون أزواجاً (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »          أيها الأب صدر موعظتك بكلمة حب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          كيف تُحدِّين من دلع طفلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          المرأة في أوروبا الجديدة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 09-10-2019, 02:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,337
الدولة : Egypt
افتراضي بناء الجملة في شعر الخنساء

بناء الجملة في شعر الخنساء

زكريا إبراهيم زكي محمد

ملخص الرسالة

المقدمة


الحمد لله الذي منَّ بعلمه علينا، فأهدى قرآنَه إلينا، فأرشدنا سواء السبيل، ووضَّح لنا الطريق القويم، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسَلِين سيدنا ونبينا محمد- صلَّى الله عليه وسلَّم- وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:
فهذا بحث بعنوان: "بناء الجملة في شعر الخنساء" أردت من خلاله تحقيق بعض الأهداف، منها:
1- الوقوف على لغة الخنساء- رضي الله عنها- ومعرفة كيفية استخدامها للقواعد وتصرفها في الأساليب، والوقوف- أيضًا- على شواهد جديدة تفتح أمامنا أبوابًا في الاستعمال اللغوي.

2- دراسة بناء الجملة عندَ الخنساء من خلال قصائدها في ديوانها، وبيان أنواع هذه الجمل، وبيان حركة الجملة لديها من تقديم وتأخير، وذِكْر وحذف وربط، إلى آخر ما يظهر خصوصية استخدام الجملة لدى هذه الشَّاعرة، خاصَّة أنَّ للشعر لغتَه الخاصة المتوقِّدة بمجريات الانتقاء والاختيار؛ فبناء الجملة هو الذي يُظهر عبقرية الشاعر، ويكشف تفرُّده وامتيازه، والاعتماد على بناء الجملة الشعرية في دراسة النص وتفسيره لا محيد عنه، ولا بديلَ له لمن يريد أن يقدِّم دراسة نصية مقنعة[1].

إضافةً إلى أنَّ فهم أي نص وتحليله لا بدَّ من فهْم بنائه النحوي على مُستوى الجملة في المقام الأول.

3- توظيف النحو فيما وجد من أجله، وهو جلاء النَّصِّ وفهمه، الأمر الذي يعد مدخلاً جيِّدًا للوقوف على الطاقات الإبداعية لدى الخنساء.

4- ألا تعتمد الدراسة على المقولات النظرية المجرَّدة، وإنَّما على معرفة التطبيقات العملية للقواعد من خلال استقراء النص وتحليله عدديًّا.

ولعلَّ من الأسباب التي دَفَعت الباحث إلى تناوُل شعر الخنساء خاصَّة: ما تتمتع به الشاعرة المخضرمة من مكانة عالية، ومنزلة رفيعة في الشِّعر العربي، فقد قال لها النابغة بعد سماعه لشعرها: "اذهبي فأنت أشعر مِن كل ذات ثديَين..."[2]، وقال عنها بشار بن برد: "تلك التي غلبت الفحول من الشعراء"[3].

كما يرجع سبب اختيار الخنساء- رضي الله عنها- لدراسة شِعْرها إلى اهتمام النُّحاة بشعرها والاستشهاد به، فهي من شعراء عصور الاحتجاج، فقد استشهد إمامُ النحاة سيبويه بشعرها[4]، والمبرد[5]، والزجَّاجي[6]، وأبو علي الفارسي[7]، وابن جني[8]، وابن يعيش[9]، وعبدالقاهر الجرجاني[10]، والسيوطي[11]، وغيرهم من علماء النحو والبلاغة.

والشعر القديم أحوج من غيره لدراسة بنائه القائم على بناء جُمَله؛ وذلك لما تتسم به الجملة في هذا الشعروهل يُمكن فَهْم الصورة الشعرية دون فهم تركيبها أولاً، أو دون الالتفات إلى هذا التركيب وطريقة بناء الجمل في القصيدة، وتدرج هذا البناء[12]؟ من نموٍّ وتداخُل، وإحكام تجعل ظاهر بناء الجملة فيه أدعى لإعادة النَّظر والتأمل،


وقد قامت إحدى الدِّراسات المعاصرة بدراسة شِعر الخنساء في ضوء عِلم اللغة التطبيقي[13]، تحدثتْ فيه صاحبةُ الدراسة عن مفهوم اللغة وعلم اللغة التطبيقي، والفونيم، ثم التعريف بالخنساء، وأسرتها وبيئتها من خلال شعرها، ثم تناولت صورَ الحيوان والطبيعة في شعر الخنساء، ثم تحدَّثت عن ثقافة الخنساء وتجاربها إلى غير ذلك، مما يتعلَّق بعلم اللغة التطبيقي.

واعتمد البحث في استخراج نصوص الدِّراسة على "ديوان الخنساء"، شرح وتحقيق: كَرَم البستاني، طبعة دار صادر، بيروت، 1960م.

وقد اقتضتْ طبيعة البحث أن يأتي في مقدِّمة، وتمهيد، وأربعة أبواب، وخاتمة وفهارس فنية، أمَّا المقدمة، فقد تناولت فيها أهداف الموضوع وأهميته وسبب اختياره.

واختص التمهيدُ بتقديم ترجمة موجزة للخنساء ولشعرها، ثم الحديث عن أسس التحليل النحوي للشعر.

وأمَّا الباب الأول: الجملة الخبرية، فقد وقع في ثلاثة فصول:
الفصل الأول: الجملة المثبتة: أنماطها ومكوناتها، ويضم ثلاثة مباحث.
المبحث الأول: الجملة الاسمية المطلقة: أنماطها ومكوناتها.
المبحث الثاني: الجملة الاسمية المقيدة: أنماطها ومكوناتها.
المبحث الثالث: الجملة الفعلية: أنماطها ومكوناتها.

الفصل الثاني: الجملة المنفية: أنماطها ومكوناتها.

الفصل الثالث: الجملة المؤكدة: أنماطها ومكوناتها.

والباب الثاني: الجملة الطَّلبية، جاء في ثلاثة فصول:
الفصل الأول: جملة النداء: أنماطها ومكوناتها.

الفصل الثاني: جملة الاستفهام: أنماطُها ومكوناتها.

الفصل الثالث: الجملة في الأساليب الخاصة: أنماطها ومكوناتها.

والباب الثالث: الجملة الشرطية، ويقع في فصلين:
الفصل الأول: الأنماط التركيبية للجملة الشرطية ومكوناتها.

الفصل الثاني: قضايا الجملة الشرطية، ويضم مبحثين:
المبحث الأول: القضايا التركيبية في الجملة الشرطية.
المبحث الثاني: القضايا الدلالية في الجملة الشرطية.

وأما الباب الرابع: مكملات الجمل، فقد وقع في فصلين:
الفصل الأول: مكملات الجمل الفعليَّة، ويشمل المفعول المطلق، المفعول لأجله، المفعول فيه، المستثنى، الحال، التمييز.

الفصل الثاني: المكملات المشتركة بين الجملتين الاسمية والفعلية، ويضم مبحثين:
المبحث الأول: الأسماء التي تعمل عمل الفعل، وتشمل: المصدر، اسم الفاعل، اسم المفعول، صيغ المبالغة، الصفة المشبَّهة.

المبحث الثاني: التوابع، ويشتمل على: النعت، العطف، البدل.

وأخيرًا: الخاتمة، وتشتمل على أهمِّ النتائج التي توصَّل البحث إليها.

وبعد، فقد حاول البحثُ أن يحقق غايتَه المرجوَّة المتمثلة في دراسته لبناء الجملة في شِعر الخنساء، وبيان مدى أهمية تناول شعرها في الدِّراسات النحْوية.

وبهذا أرجو أن أكون قد أعطيتُ دراسة وافية عن بناء الجملة في شعر الخنساء، وأن تكون هذه الدِّراسة لبنةً مع غيرها من الدِّراسات التي تنظر للقضايا النحْوية من خلال نصوص لُغوية ناصعة، وليكون النَّص اللغوي هو أصلَ القاعدة، لا كما فعل النُّحاة -أحيانًا- بأن جعلوا النص فرعًا للقاعدة، كما أرجو أن أكونَ قد أسهمتُ بهذا الجهد في خدمة لغتنا العربية لغة القرآن الكريم.

ولا أدعي أنني قد بلغت في عملي الكمال، فإن الكمال لله، ولكن كل ما أرجوه من الله- عزَّ وجلَّ- أن أكون قد وُفِّقت فيما بذلت من جهد، وليلتمس لي كلُّ مَن وقف على قصور في العمل العذرَ.

وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب، وصلِّ اللهمَّ وبارِكْ على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلِّمْ.

أسس التحليل النحوي

للنص الشعري


اتِّصال النحو بالنص الشعري مجال خصب جدير بالبحث والدِّراسة المنهجية المتأنية، فهذا الاتِّصال يكشف عن كثير مما يزخر به النحوُ العربي من إمكانات تعبيريَّة، تتيح للشاعر التصرف في الأساليب، وتَمُدُّه بالتراكيب المختلفة والبدائل الأسلوبيَّة المتنوعة التي يختار من بينها ما يتناسب مع غرضه، ويتَّسق مع غايته، فالنحو جزء أساسي من ذكاء الشَّاعر وفطنته وروعته، وليس جانبًا خارجيًّا، ولا طلاء يطلي به المعنى، النحو جزء أساسي مما نُسميه نشاط الكلمات في الشِّعر، إن الشعراء يتخلَّون عن أنظمة نحوية كثيرة مُمكنة، ويصعدون إلى نظام نحوي لا يُمكن الغضُّ منه، ما دمنا حريصين على أن نقرأَ الشِّعر قراءة دقيقة..."[14].

فالشعر إبداع، وتتسم حركته الإبداعيَّة بأنَّها دائمًا متوقدة بمجريات الانتقاء والاختيار، فإذا كانت اللغة هي المادةَ الأساسيَّة للأديب، فإنَّ الشاعر له لغته الخاصَّة التي يُمكن أن نطلق عليها (لغة الشِّعر)؛ لأنَّها لغة إبداعية، فهو يستخدم ما يعرفونه من اللُّغة الإبداعية من قبل مفرداتٍ ونظامٍ، لكنَّه يستخدم ما يعرفونه بطريقة تختلف عن الطريقة التي يعرفون، فيتولَّد منها ما يدهش ويوقف على سرٍّ جديد من أسرار الرُّوح الإنساني الغامض، والحياة الإنسانيَّة الولود، ويكشف جانبًا من جوانب هذين العالَمَيْن: الروح والحياة، إنَّهم يعنون بذلك أنَّ لغة الشعر تختلف في أسلوبها عن لغة الكلام العادي، بما تكون عليه وبما تثيره فينا[15].

ففي لغة الشِّعر يُستهْلَك المضمونُ الشِّعري، ويُفْنَى في البناء اللُّغوي الذي يتضمنه؛ بحيث يستحيل الفصل بينهما، فالمشاعر والأحاسيس والأفكار، وكل العناصر الشُّعورية والذِّهنية تتحوَّل في الشِّعر إلى عناصر لُغوية، بحيث إذا تَقَوَّضَ البناء اللغوي في الشِّعر، تقوض معه الكيان النفسي والشُّعوري المتضمن فيه[16].

وقد أشار سيبويه إمام النُّحاة إلى تميُّز لغة الشعر بما تحتمله ما لا يحتمله غيرُه من الأساليب؛ حيث عقد بابًا في كتابه سماه: هذا باب ما يحتمل الشِّعر[17]، وقد ختم هذا الباب بمبدأ عام كذلك هو قوله: "وليس شَيْءٌ يضطرون إليه إلاَّ وهم يُحاولون به وجهًا"[18]؛ أي: إنَّ ما يرد في الشِّعر محكوم بقوانين لغوية خاصَّة تسمح به وتجيزه في هذا المستوى من مستويات الكلام، وليس شيْءٌ يُلْجِئهم إليه الوزن، وتضطرهم نحوَه القافية، أو أنَّ هذه الأمور الجائزة متروكة لعَبثِ العابثين، ولغو اللاَّغين، بل إنَّها خصائص خاصَّة يُجيزها النظام اللغوي في هذا الضرب المخصوص من الكلام، ولها وجه يُطلب، ومعنى يراد[19].

ونتبين من هذا أن اللُّغة في الشعر لها خصوصيتها؛ لأنَّها ترتدي ثوب الشِّعر منذ اللحظة الأولى، فالإبداع والجمال وسيلة وغاية في الشِّعر، خاصَّة أنَّ الشعراء أمراءُ الكلام "يصرفونه أنَّى شاؤوا، وجائز لهم ما لا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده، ومن تصريف اللَّفظ وتعقيده، ومد مقصوره، وقصر الممدود، والجمع بين لُغاته، والتفريق بين صفاته، واستخراج ما كلَّت الألسن عن وصفه ونعته، والأذهان عن فهمه وإيضاحه"[20]، أو كما يرى الأستاذ الدكتور أحمد كشك: "تُعدُّ اللغة في بنيان الشعر قيمةً إيقاعية ومعنوية تمنح الشاعر فيضًا من العطاء، ويمنحها الشاعر من طاقته الإبداعيَّة وحسه الصادق مذاقًا خاصًّا، وهذا ما جعلها أحيانًا طوع يديه تخضع لسياقه، وإن خالفت نواميسها التي وضعت لها، والأصل أن تكون طاقة الشاعر الإبداعيَّة وإلهامه الصافي مع نظام اللُّغة والسياق الإيقاعي صنوَين متآلفين لا يخرج أحدهما عن ناموس الآخر"[21].

ومِن خلال هذا المزيج يُعاد صياغة الوجود على نحوٍ يتسم بالجمال والثَّراء، كذلك يكشف اتِّصال النحو بالنص الشعري عن وسائله التفسيرية التي تُعين الناظرَ في النصِّ الشعري على التوصُّل إلى دلالاته الخافية والوقوف على أسراره الكامنة في بنيته الداخليَّة، فإنَّ النص الأدبي: "فن لغوي قبل كل شيء وبعده، وإنَّ فهمه لن يكون على الصورةِ الصحيحة المفيدة، إلاَّ إذا كان هذا الفهم قائمًا في أول أمره على فهم بنائه، وبناء الشعر لا يقوم إلاَّ على بناء جمله المسلوكة في وزنه وقوافيه أو موسيقاه"[22].

أو كما يقول الدكتور إبراهيم خليل: "إنَّ النص الأدبي نسيجٌ من الألفاظ والعبارات التي تطَّرِد في بناء منظمٍ متناسق، يعالج موضوعًا أو موضوعات عدَّة في أداء يتميَّز على أنماط الكلام والكتابة غير الأدبية بالجمالية، التي تعتمد على التخيُّل والإيقاع والتصوير والإيحاء والرمز"[23].

فالنَّص: "حدث لغوي متماسك نحويًّا ودلاليًّا، مؤلف من جزء واحد أو أكثر، وهذه الأجزاء مقسمة تبعًا لمعايير نحوية ودلالية"[24].

ولا شكَّ أن هناك دراسات قديمة اتَّصلت بالنص الأدبي تتناوله من حيثُ الصِّحة اللغوية، وتحاول أن تستمد منه كثيرًا من الشواهد التي تفيد في مجال الدَّرس النحوي، وأن تتخذه دليلاً على صحة رأيٍ معيَّن أو قاعدة خاصَّة، وهناك دراسات أخرى تجاوزت مسألة الصواب والخطأ، واتصلت بالعملية الإبداعية بدءًا بالمفرد، وصولاً إلى الجملة مع ربطها بالطاقة التعبيريَّة في اللغة من ناحية والطاقة العاطفية في المبدع من ناحية أخرى، انطلاقًا من الحقيقة الفنيَّة للصياغة، وهي كونها تعبر وتؤثر في آن واحد"[25].

إنَّ المتتبع لكتبِ النحو يرى أنَّهم قد حاولوا وصفَ النظام اللغوي الموجود في النصوص الأدبيَّة، والبحث عن عِلل مجيئه على هذا النحوِ دون سواه، كما حاولوا تفسيرَ الشاذِّ، أو ما يتسم بالخروج عن القاعدة بردِّه إليها، أو بعلل أُخر تعود إلى النِّظام نفسه في نهاية الأمر، "وقد أوجد النظام اللغوي عددًا من وسائل الترابط في الجملة، بعضها يعتمد على الفَهْم والإدراك الخفي للعلاقات، وبعضها الآخر يعتمد على الوسائل اللغوية المحسوسة، وسواء أكانتْ هذه الوسائل المعنوية واللفظية بين العناصر الإسنادية في الجملة، أم بين العناصر الإسنادية وغير الإسنادية في الجملة، فإنَّها تؤدِّي غايتها بالقدر المقسوم لها"[26].

ورَغْمَ أنَّ هذه المعالجة والكشف عن وسائل الترابُط كانت على مستوى الجملة، فإنَّ هذا يُمثل اللبنة الأولى في البحث عن وسائل الترابط على مستوى النص، وأنَّ النص ليس إلا تتابع سلسلة من الجمل، كل منها يفيد السامع فائدةً يحسن السكوت عليها، والنصُّ مجرَّد حاصل جمع لهذه الجمل، والنَّاظر في كتاب "دلائل الإعجاز" لعبدالقاهر الجرجاني يرى أنَّه كان يحتفل بالنَّظْم احتفالاً بالغًا، والنظم عنده كما هو معلوم ليس إلاَّ أن تضع كلامَك الموضع الذي يَرتضيه علمُ النحو[27].

وبطبيعة الحال، فإنَّ الكشف عن هذا النظام يعني الكشف عن البنية الحقيقيَّة للنص، ويترتَّب على هذا تحديدُ العلاقات بين البنية النحويَّة التي تصل بين الدوالِّ أو بين التراكيب، ثم تفسيرها في الوقت نفسه، وعلى هذا فجزئيات التراكيب لا يُمكن إدراكها حقيقةً إلاَّ من خلال تعلقها بغيرها؛ أي: من خلال دَورِها في خَلْق النظم، فالوقوف عند الجزئيات لا يُفيد كثيرًا؛ لأنَّنا لا نتكلَّم لنفهم المتلقي معنى كلِّ جزئية على حدة، بل لننقل إليه الدلالةَ المفادة من شبكة العلاقات النحويَّة[28].

وقد أدرك عبدالقاهر الجرجاني: "أنه من خلال النحوِ يمكنه أن يُدرِك نظام اللغة، وهو نظام يختلف في تركيبه من جنس إلى جنس، فالشِّعر له نظامه النحوي الذي تكاد تكون إمكاناته نسقًا مغلقًا على ذاته، بحيث لا يتداخلُ هذا النسق مع غيرِه من أنساق فنون القول"[29].

والنحو ليس غايةً في ذاته، بل هو وسيلة لاستكناه الطاقات الإبداعيَّة للنصِّ، سواء أكان شعرًا أم كان نثرًا، فالنحو إبداع، وقد ميَّز المتقدِّمون بين مستويين للدراسة النحوية، يتمثَّل المستوى الأول في رصْد الصَّواب والخطأ في الأداء، أمَّا المستوى الثاني فيتجاوز هذا المجالَ إلى ناحية الجمال والإبداع، فمِن المعروف أنَّ حيوية النحو في القديم نبعتْ من أنه علمٌ نصي، وغير خافٍ أنه نشأ في حِضْنِ القرآن الكريم، ومِن أنَّ النحاة لم يوقفوا دراستَهم على الجانب النظري فحسب، بل تخطوا ذلك إلى الجانب التطبيقي، وقد اتَّخذوا من القرآن الكريم والشِّعر القديم وشِعر معاصريهم- أحيانًا- مادة خصبة للتطبيق النحوي[30].

وإذا كان النحو يُعنى بدراسةِ العلاقات التي تربط بين الكلمات في الجملة الواحدة، وبيان وظائفها؛ إذ إنَّه وسيلة نحو التفسير النهائي لتعقيدات التركيب اللغوي[31]، فإنَّ الدلالة كذلك تؤدي دورًا كبيرًا في التفرقة بين التركيب، فالنحو والدلالة إذًا لا يستغني أحدهما عن الآخر في توضيح النص وتفسيره وإنارته[32].

خلاصة القول: إنَّ النحو عند المتقدمين تجاوُز مستوى الصَّواب والخطأ ليُحلِّق في سماء الإبداع[33]، أو كما يقول الأستاذ الدكتور مصطفى ناصف: "فالنَّحو ليس موضوعًا يحفل به المشتغلون بالمثل اللغوية، والذين يروْن إقامة الحدود بين الصواب والخطأ، أو يرون الصواب رأيًا واحدًا، فالنحو مشغلة الفنانين والشُّعراء، والشعراء والفنانون هم الذين يفهمون النحو، أو هم الذين يُبدعون النحو، فالنحو إبداع"[34].

وفي العصر الحديث ظهرتِ المدرسة التحويليَّة التوليدية التي اهتمت بالجانبين: الإبداعي المعنوي في اللُّغة، فأعادتْ إلى المعنى مكانتَه من الدراسة، ولجوهرية اللغة أهميتها في النظر، وكان على رأسِ هؤلاء تشومسكي، وتشارلز فليمور[35].

ويوضح الدكتور محمد حماسة رؤيةَ المدرسة التحويليَّة التوليدية لمهمَّة النحو، فيقول: "لقد صارت مهمة النحو هي الربطَ بين عالمي (الأفكار)، و(الأصوات)، والاهتمام بوسائل الربط بين هذين العالَمين والكشف عنها[36]، ويتَّسم البحث النحْوي التوليدي بإدراكه لِمَا يُسمَّى بالإبداع اللغوي، ومحاولة الوصول إلى النِّظام والقانون الذي يحكم هذا الإبداع، كما يقول جون ليونز مفسرًا المقصود بهذا الإبداع اللغوي: "والإبداع اللغوي من وجهة نظر تشومسكي خاصَّة إنسانية مميزة، تُميِّز البشر عن الماكينات كما تميزه إلى الحدِّ الذي تعرفه عن سائر الحيوانات، لكنَّه إبداع يحكمه قانون، وهو ما يبحثه النحو التوليدي"[37].

وهنا تلتقي النظرية التوليدية من حيثُ المفهوم والغاية في إجمال مع النحو العربي بالمفهوم الذي قدَّمه سيبويه وابن جني، وغيرهما من نحاتنا الأوائل؛ حيث كان مفهوم النحو وغايته يتَّسمان عندهم بالنضج[38]، كما يقول صاحب النحو والدلالة.

فقد كان هَمُّ تشومسكي موجَّهًا إلى ربط اللغة بالجانب العقلي في محاولة توفيقية لحلِّ الإشكال نفسِه، الذي سبق أن واجه عبدالقاهر، وقد تبلوَر جهد كل منهما في إعطاء النحو إمكاناتٍ تركيبيةً مستمدة من قواعده العقلية[39].

إذًا؛ ثبت لدينا العلاقة الوثيقة بين النحو والدلالة، فتجاوز النحو مستوى الصواب والخطأ هو أمر مفروغ منه، وإذا كان النصُّ يتكون من جمل، فإنَّه يختلف عنها نوعيًّا، فالنص وَحدة دلالية، وليست الجمل إلاَّ الوسيلة التي يتحقَّق بها النص، أضفْ إلى هذا أنَّ كل نص يتوفَّر على خاصية كونه نصًّا يُمكن أن يطلق عليه "النصية"، وهذا ما يميزه عمَّا ليس نصًّا، فلكي يكون لأي نص نصية ينبغي أن يعتمدَ على مجموعة من الوسائل اللُّغوية التي تخلق النصية، بحيث تُسْهِم هذه الوسائل في وحدته الشاملة[40].

وإذا كان نحو النص يُعنى- فيما يُعنى به- برصْد الإمكانات النحوية ودورها في خلق الدلالة، فإن هناك تبادلاً بين النحو بمعناه التقعيدي والنحو بمعناه الجمالي، بل إنَّ العلاقة بينهما قد أخذت شكلاً جدليًّا بهدف إيجاد رابطة بين المعنى العقلي، أو ما يدور في الباطن تشكيلاً للدلالة والصياغة الملفوظة التي تُجسِّد هذا التشكيل الباطني، وقد وجد الجرجاني هذه الرَّابطة في العلاقات القائمة بين الألفاظ ذاتها، وعلى هذا أصبح التعبيرُ الأدبي ذا مكونات شبيهة بالعَلاقات ينشأ بتعليق بعضها ببعض نظام أو نظم، واكتشاف هذا النِّظامِ يقتضي الكشفَ عن هذه العَلاقات أولاً، ثم ربطها برموزها اللفظيَّة ثانيًا، وهذا يُتيح لنا تجميعَ خيط نظري لنظرية متكاملة في فَهْم النص الأدبي، من خلال صياغته، بالرجوع إلى الحركة العقلية للمعنى، ثم العودة إلى طريقة التنفيذ أو التجسيد اللفظي له[41].

هكذا نرى تركيز علمائنا على النحو باعتباره المدخلَ الصحيح للنص، ويقصد بالنحو هنا "النحو باعتباره البنية العميقة التي تعطي الجملة معناها، والنحو كما قدَّمه علماؤنا الأُول عِلم نصي؛ لأنه يتعامل مع التراكيب، ولا يُمكن فهْم تركيبٍ ما إلاَّ من خلال بنيته النحوية، فبالنحو تنكشف (حجب المعاني)، وبه تتم (جلوة المفهوم) كما يقول ابن مالك[42]، والنحو هو الركيزةُ الأساسية للمعنى كما يقرر جاكبسون،[43]Rene Wellek في "مفاهيم نقدية"[44]. ولا بدَّ لدارس الأسلوب أن يعتمد عليه؛ لأنه لا يُمكنه التقدمُ في حقله ما لم يلمَّ بالنحو بكل فروعه: الصوتيات، وعلم الأصوات الدالة بالصَّرْف والتراكيب، وعلم المعاجم، وعلم المعاني- كما يقول رينيه ويلك
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 119.15 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 117.39 كيلو بايت... تم توفير 1.76 كيلو بايت...بمعدل (1.48%)]