المراد الأسمى من القصص الأعلى (3) - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         الاكتفاء بسماع أذكار الصباح والمساء عند قولها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          الفرق بين صلاة التراويح وصلاة القيام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          قراءة القرآن بصوت مرتفع في المسجد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          الفرصة الأخيرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          ترزقوا وتنصروا وتجبروا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          لا سمَرَ إلَّا لِمُصَلٍّ ، أوْ مُسافِرٍ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          على أبواب العشر الأواخر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          رمضان شهر الإقبال على مجالس العلم والعبادة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          التغيير الشامل في رمضان .. هل هو ممكن؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          تاريخ غزوة بدر .. الميلاد الثاني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 19-10-2020, 11:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,505
الدولة : Egypt
افتراضي المراد الأسمى من القصص الأعلى (3)

المراد الأسمى من القصص الأعلى (3)








تابع جماليات القصص القرآني



محمد صادق عبدالعال


أما عن تعدد الورود للقصة الواحدة في القرآن الكريم مرة بالتفصيل ومرة بالإيجاز:

فإنها تُعَدُّ من البلاغة بمكانة عالية، والمِنَحِ البيانية التي يحويها المصحف الشريف، ولله المثل الأعلى، هذا على سبيل التقريب لا المشابهة ولا التنظير - عياذًا بالله - فالمعلم في الفصل حين يُقدِمُ على شرح درس جديد، فإنه يعطي طلابه الأفكار الرئيسة للموضوع والعناصر الأساسية، وفي لقاء ثانٍ يشرع في الشرح والتفصيل، ثم يُولِي الدرس ضرورة التقييم والمقارنة بينه وبين غيره، ويدلِفُ إلى الأسئلة حول الشرح السابق، منتظرًا من طلابه النجباء الاستنتاج والإخبار عما وصلت إليه عقولهم ومُدرَكَاتِهم، ثم يعْرُجُ لدرس آخر بنفس المنوال، ثم يعمِدُ للنجيب الذكي، فيربط بين درس سابق وآخر لاحق، ويبين وجه الشبه والمقاربة بينهما، حتى إذا أنهى فترة الدرس، امتحن طلابه في عموم الاستيعاب للمنهج كله، ظافرًا بنظريات جديدة في المنهج المدروس، والعلاقات والقيم المرغوبة.



فكذلك المُطَّلع بعين البصيرة لقصص القرآن الكريم، يجد أن القصة الواحدة قد توارد الحديث عنها في سور متعددة؛ مرة بالتفصيل، وأخرى بالإجمال، ومرة بالتلميح، وأخرى بالتصريح ليذكِّر به، ومرة بالجمع مع تشابه المصائر؛ وبمثال مشرق من قصص القرآن الكريم: قصة نبي الله نوح عليه السلام (شيخ الأنبياء)، وجهاده مع قومه، وابتلائه بكفر ولده، وصُنْع السفينة واستقرارها على الجُوْدِيِّ بعد الطوفان - نجد أن أكثر من سورة كريمة تناولت قصة نبي الله نوح في سور [آل عمران الآية 33، وسورة النساء من الآيات 163، والأنعام 84، الأعراف 59 – 60، يونس 71، هود 25 – 49، الأنبياء 76 - 77، الفرقان 37، الشعراء 105 – 122، العنكبوت 14 – 15، الصافات 75 – 82، نوح 1 – 28، القمر 9 -16، المؤمنون 23 – 31]، وفي كل موضع من تلك المواضع النورانية درسٌ وعِبرة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم؛ كي يصبر وتقْوَى عزائمه، وعزائم الموحدين معه[1].



وحينما تقرأ القرآن بعناية وتركيز وبين يديك أسبابُ نزول الآيات لتلك المواضع المذكورة - تجد حكمة بالغة، وبلاغة عالية في الآيات القصصية متى فُصِّلت ومتى أُجملت، ومتى جاءت على محمل التلميح أو التصريح؛ فحكمة الله عالية لا يدركها إلا الراسخون في العلم.



ولو ضربنا مثلًا لمتابع ودارس بأن ذِكْرَ القرآن الكريم للأمم الغابرة جاء بحسب مراد الله من حكمة نزولها على قلب نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم؛ كقوم عاد وهود، وهلاك عاد بذنوبها، ودور ثمود في الظهور وانتقال الملك إليها، وتعمير الأرض، وتفجير العيون، ونحت البيوت في الجبال ليأمنوا غوائل الدهر، ولكنهم لم يتعلموا الدرس، ولم يستوعبوا ما حدث لأسلافهم؛ فلجُّوا فيما لجَّ فيه من سبقوهم، فدعاهم نبيهم صالح، وكلنا يعلم قصته مع قومه، ونحرهم للناقة، وفي هذا الإيراد وتكرار التذكير بالطاعة والانصياع لمرادت الخالق جلت قدرته وتعالى جَدُّه - آياتٌ لمن أراد أن يتقيَ بوجهه النار، ولو أنك تدبَّرت جيدًا الإيجاز مع الإفادة في سورة الشمس لقصة ثمود وناقة سيدنا صالح عليه السلام - ومعلوم أن ثمود قد ذكر القرآن قصصها بسور قرآنية كريمة عديدة كما في سورة هود، الأعراف، الشعراء، النمل، القمر، وأخيرًا الشمس - تلحظ في سورة الشمس عظمة بيانية وتهيئة روحية بقَسَمِ الله بالنِّعَمِ التي أولانا إياها، ثم بإرداف الحكمة قبل الشروع في القصِّ؛ ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9، 10]،ثم الولوج مباشرة فيمن ينطبق عليهم الحكم الإلهي: ﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ﴾ [الشمس: 11] إلى آخر الآيات، وقد بيَّن لك الحق أن ثمود قد وقعت في عقبى الثانية؛ وهي الفجور بعقر الناقة التي هي آية الله لهم، ولك أن تنتبه جيدًا إلى التتالي والفاء التي تفيد السرعة والتعاقب في مفردات القصة: [فقال، فكذبوه، فعقروها، فدمدم، فسواها].



والحكمة العالية والمراد الأسمى من إيراد قصة ثمود مع ناقة نبي الله صالح لها من الدروس والعبر ليست للتَّفَكُّهِ أو للتشويق بلا جدوى تربوية، بل هي من أخطر القضايا التي تمسُّ أمن المجتمعات، فلقد مثَّلت الناقة المصلحة العامة للقوم، وتقسيم موارد الماء والرعي بينهم بالتناوب العادل مَدْعَاة للتفكر في ملكوت الله، وتغليب المصلحة العامة على المصلحة الشخصية والأهواء، علاوة على الطاعة للوهَّاب ومَن بيده المَنْحُ والمنع فيما أمر، ولك أن تتدبر وتتفكر في كل قصة قرآنية لأقوامٍ أو لجماعة، والمستفاد منه، والمحظور إتيانه، والمطلوب اتباعه؛ درءًا للفتن، وحفاظًا على كِيانات الأمم من التهاوي والسقوط في براثن التفرق والشتات.



وفي آيات سورة القمر يجمع الله تعالى بين مصائر أقوام كذبوا رسله، ومنهم ثمود التي عصت رسولَ ربها، وعَقَرَتِ الناقة كما أردفنا بسورة الشمس، لكن الولوج القصصي هنا من ناحية أخرى؛ وهي أيضًا في صميم القضية؛ كقوله تعالى: ﴿ فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ﴾ [القمر: 24] إلى آخر الآيات.



نخلص لحكمة عالية لا يبصرها إلا الذين يقرؤون القرآن بقلوب وَجِلَةٍ، وعقول متدبرة للمفاد من تعدد الحديث، واختلاف الإيراد لأشكال القصة الواحدة - بأن الله تعالى يجعل لكل ذكر في سورة موضعًا لاعتبار، وقضية من بين قضايا كثيرة عصت بها الأمم الغابرة رُسُلَها فيما بين الكِبْرِ والبَطَرِ على خروج نبيٍّ من بني جِلْدَتِهم، أو عصيان أمر سماوي ذكرهم به نبيهم، إلى غير ذلك من تداعيات تهاوي الأمم بين العصيان والكبر والمجانبة لأوامر الله تعالى.



والقاص قد يكتب قصته أو روايته، ثم ينصرف لأخرى، وقد ينسى ما قدم، أو يبحث في الأرض عن فكرة لقصة جديدة، ولربما وقع في أشراك فِتَنٍ تتعارض مع فضيلة سبق أن قدمها لجمهور القراء، لكن قصص القرآن العظيم دائم الحضور والفضل، قائمٌ على الفضيلة والاعتبار، ويذكِّرنا رب العزة دومًا به، والأمثلة القرآنية والشواهد النورانية كثيرة لا نستطيع احتواءً لإشراقات مواقعِها؛ ففي سورة البروج مثلًا يقول تعالى: ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ ﴾ [البروج: 17، 18]، مذكِّرًا بعُقبى الظالمين المعاندين لرسلهم، وإن عظمة القصص القرآني لَتَظْهَرُ واضحة جَلِيَّةً في عديد من مواقعها النورانية؛ كالربط بين مصائر الأقوام الغابرة ومَن جاء مِن بعدهم على شاكلتهم، حتى ولو تباعدت بينهم الحقب الزمنية المديدة، وأُغرقت في حنايا الزمن أنباؤهم، والاستفهام موجَّه للنبي صلى الله عليه وسلم، ولقد استغنى بذكر فرعون وجنوده عن أتباعهم ممن تتبَّعوا نبيَّ الله موسى عليه السلام للفَتْكِ به وبقومه؛ كما ذكر (تفسير الجلالين) لسورة البروج.



وإن تواتر القصص القرآني على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأتِ على هيئة واحدة، أو أسلوب متوقع، بل تنوع وتعدَّد بين الاستفهام والتشويق، والتذكير والتنبيه؛ فمرة يأتي بتمهيد استفهامي وفيه من التشويق ولفت الانتباه والاهتمام؛ مثل قوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ﴾ [الفجر: 6]، ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ﴾ [الفيل: 1]، ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى ﴾ [البقرة: 246]، والخطاب دومًا للنبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك قوله تعالى: ﴿ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ﴾ [ص: 21]، ﴿ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ﴾ [طه: 9]، وأيضًا: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا ﴾ [الكهف: 83]، مبينًا لمن يحاولون التشكيك في نبوة الصادق الأمين أن الله مُطَّلع وشهيد، والكثير مما أعجز العرب أن يستوعبوا محيط بلاغته أو يتكهَّنوا بسياقات سرده. وقد يستهِلُّ القصص القرآني العظيم بأسلوب تذكير وتنبيه للنبي؛ كقوله: ﴿ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [الأحقاف: 21]، وعاد قوم قد أقامت بالأحقاف ما بين اليمن وعمان ردحًا من الزمن في رَغِيدِ العيش وسَعَةِ الرزق، فضلًا عن بَسْطَةٍ في الأجسام والأبدان، وجاءتهم النعم من كل معطيات الطبيعة بفضل من الله، لكنهم لم يتدبروا في مبدأ هذا الخلق، ولم يحاولوا التعرف إلى مكامن تلك النعم كيف جاءت، وإن لم تأتِهم كيف سيكون حالهم، ومَن له الشكر والحمد عليها، وتمادَوا في غَيِّهم وجحودهم باتخاذهم الأصنام آلهة تُعبد من دون الله، فوقع أمر ربك، ويأتي دور البطولة هنا بحضور نبي الله (هود)، وجهاده معهم، ومن الجدير ذكره في قصص بني إسرائيل أن الله كان يرسل مع كل ملكٍ لهم نبيًّا؛ ليردَّه عن البَغْيِ، ويدفعه للعدالة والخير، ويعاونه في إبطال شقاوة قومه، وإن القرآن الكريم لم يتكلم عن ذكر جماعة أو طائفة من الناس كقصة أهل الكهف، أو أصحاب الجنة، أو قصة أصحاب القرية، وغيرهم، أو يسرد بعضًا من الحوار الذي هو من بنائية القصة مع السرد؛ كحديث موسى مع سيدنا الخضر عليهما السلام، أو قصة قارون الذي كان من قوم موسى، أو حديث لقمان لولده وهو يعظه - لم يتكلم بذلك إلا مرة واحدة، وأما عن قصص الأنبياء مع أقوامهم، فقد تناولها القصص القرآني الكريم في مواطنَ كثيرةٍ، تتنوع ما بين الإيجاز والاسترسال، أو الإجمال والتفصيل، ولكلٍّ غرضه الأسمى من وروده على تلك الهيئة القصصية، وسبحان من عنده مفاتح العلم والحكمة، وإن استقراء التاريخ للأمم السابقة والغابرة بحقٍّ، لو كلَّف المؤرخ نفسه بالاطلاع في قصص القرآن العظيم، وتفاسير أهل العلم، لوجد ضالته المنشودة ومطلوبه الصادق، وما هذا الكلام بفرض نظريات، بل هو الحق في ذاته؛ وإلى مثال قرآني مقدس:

اختلط عند كثير منا أن الفراعين في مصر كانوا في عهد نبي الله موسى ويوسف عليهما السلام معًا، ولكنَّ القرآنَ وقبل كتب التفاسير لعلمائنا الأجلاء قد ميَّز كل حِقبة على حدةٍ، ويتضح ذلك فقط للمتدبر بإمعان وتأنٍّ لمفردات القَصِّ؛ كما في قوله: ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ﴾ [يوسف: 54]، ففي استقراء كتب التاريخ أن مصر في تلك الحقبة التي كانت في زمن يوسف الصديق عليه السلام بمصر هي فترة ملوك الهكسوس، الذين حكموا مصر زمنًا، وأيَّدهم وشدَّ عَضُدَهم أسباطُ بني إسرائيل إخوة يوسف عليه السلام، حينما دعاهم لدخول مصر مع نبي الله يعقوب، حتى جاءت فترة قوة الفراعين بعهد فرعون مصر في زمن نبي الله موسى، وقد عمد إلى استعباد وإذلال بني إسرائيل الذين ناصروا الهكسوس فترة حكمهم لمصر، ودفاع نبي الله موسى عن بني إسرائيل أمام طغيان فرعون وسيطرته لدرجة الاستعباد، وسبحان من يداول بين الناس الأيام.



عِفَّةُ القصص القرآني:

يعف القصص القرآني مع سُمُوِّهِ اللفظي والمعنوي وبلاغته العالية عن أن يسُوقَ لمن يقتدي به مثلًا للتشنيع أو التشهير أو ما يُعرَف بالصدمة الأخلاقية، فالقارئ بتدبر وإمعانٍ لآيات متعددة في نصوص القصص القرآنية، يجد مناقبَ جليلةً لعِفَّةِ الكلام، ورُقِيِّ الأسلوب، وإفادة المعنى، دون خدش للحياء، أو عصف بالمشاعر الإنسانية.



فمثلًا مراودة امرأة عزيز مصر لنبي الله يوسف عليه السلام، وكيف صاغها القص القرآني ببيان عالٍ، ومشهدية محسوسة، تحسُّ وأنت تقرأ أو تسمع الآيات كأنك خلف ستار من ستائر تلك الحجرة التي حاولت امرأة العزيز أن تراود بين أركانها وأبوابها المتعددة المُصَفَّدَةِ مُحْكَمَةِ الغَلْقِ يوسفَ عليه السلام، والقارئ يعلم تمام العلم كيف لو تهيأ لمثل لتلك المشاهد أن تُصنَع الآن بيد بشر، وكُتَّابٍ معاصرين - إلا من رحم الله - كيف ستكون المغريات والافتراءات والمفردات بحجة الإبداع؟ لكن القرآن الكريم والذي هو من كلام رب العالمين يجعل القلوب تخشع مع الأبصار حين يذكر ذلك؛ فتزداد إيمانًا ويقينًا بأن عفة نبي الله يوسف خيرُ مثالٍ يا حبذا لو يقتدي به الخلق، أو من ابتُلي بمثل ما ابتُلي به.



وفي مشهد آخر لا يقل بلاءً عن مراودة امرأة العزيز ليوسف عليه السلام في حِدَّتِهِ وقسوته، ذلك حينما جاء الطوفان في عهد نوح عليه السلام، وهو يحمل في السفينة من كل زوجين اثنين وأهله والمؤمنين، وقد جاء وعد الله الحق، والماء حينئذٍ يتفجر من تحت الأرض، وفُتحت له السماء أبوابها؛ نصرةً له بما صبر على إيذاء وجحود قومٍ لا يؤمنون، ويشاء العلي القدير أن يكون ولده ممن حقَّت عليه كلمة العذاب، ولقد نقل لنا القرآن الكريم هذا الحوار الذي يُدْمِي القلب في دعوة نبي الله نوح الأخيرة لولده؛ لكي يستجيب لنداء الحق، وينجوَ من عذاب واقع، ليس له من دون الله دافع، وطوفان كاسح، لكنه دام على كفره وعناده؛ وقال مكابرًا: ﴿ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ﴾ [هود: 43]، وتتواتر الأحداث المفزعة تلك، ونوح يدعو ولده بسَجِيَّةٍ وفطرةِ حبِّ الوالد لولده، حتى يقضيَ الله أمرًا كان مفعولًا؛ فيقول سبحانه: ﴿ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ﴾ [هود: 43]، ولم يشأ الله أن يرى نبيه نوحٌ شيخ الأنبياء صَرْعَةَ ولده، ولم يذكر في سياق القصة كيف هلك، لكنه اكتفى بذكر الموج الذي حال بينهما لينتصر الحق ويزهق الباطل، ولما رأى من نوح أسفًا على ولده؛ قال له: ﴿ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ﴾ [هود: 46]، ولك أن تتدبر في إيراد الحق لحوار نبيه نوح مع ولده، وأما في سورة القمر يذكر نفس المشهد لاقتراب الطوفان؛ ولكن بقوله: ﴿ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ ﴾ [القمر: 10، 11]، وتتابُع حرف الفاء للتعاقب والتنفيذ، فهل تحس في هذا التنوع تناقضًا لمضمون القصة أو إنها بنائية القص التي تركِّز في كل موقعة على شدتها وحكمتها؛ ليكتمل البناء القصصي العظيم، وقد بلَّغ رسالات ربنا عز وجل؟!



ويوكابد أم موسى عليه السلام، التي شاء الله وقدر أن يُولَدَ لها ولدٌ ذَكَر في زمان طاغية مصر الفرعون الذي يقتل الذكور ويستحيي النساء، وتُؤمر بإلهام رباني مقدِّرًا مشاعر الأمومة العالية، بعدما ذكر القرآن وسجَّل لها ذلك الجَلَدَ والصبر الذي كاد ينفطر، لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين، زَفَّ الله لها أمرين ونهيين وبشارتين، ثبَّت الله وربط على قلبها؛ ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7]، فانظر لآثار رحمة الله، ولعظمة نصوص القصص القرآني التي لا تَلْمِزُ ولا تهمز، والتي تراعي المشاعر الإنسانية، وتقدِّر السجايا الفطرية، وسبحان من هذا كلامه.



بالقرآن الكريم قصصٌ لم يقع بعد:

معلوم أن القصة في فنياتها تقوم على السرد والحوار، وأيضًا المشهدية لمعاصرة الحالة؛ فمما يُعَدُّ إعجازًا قصصيًّا في القرآن هو ذكر قصص لم تقع بعد، وإن وقوعها بكافة أحداثها مرهون بزمن قادم؛ كالقيامة مثلًا، وعلامات آخر الزمان، واقتراب الساعة، وخروج الدابة التي تكلم الناس، ولا يستطيع أحد أن يقرأ الغيب؛ إذ كل ذلك بيد من عنده مفاتح الغيب، وإن إيراد تلك القصص بكافة مقوماته الوعظية والفنية لَيُعَدُّ بلا شك بيانًا ما بعده من بيان، وسموًّا ما بعده من سمو، إن المشهدية في القرآن الكريم التي تصور لك بشاعة منظر أهل النار وهم فيها يختصمون؛ ﴿ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ﴾ [المؤمنون: 107]، أو قوله تعالى في سورة الغاشية: ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ﴾ [الغاشية: 1] إلى آخر الآيات، فإنه يصور ويجسِّد لك مشهدًا مُرَوِّعًا لهيئة أهل النار يوم القيامة، وكيف سيكون طعامهم من غسلين، وشرابهم من حميم، وعلى النقيض بهاء المؤمنين ذوي الوجوه الناضرة، ومثل هذا النوع يسمي بالمشهدية التي تُغنِي فيها الصورة عن السرد والحوار، وكذلك التصوير القرآني المهيب لمراحل البعث؛ من انبهار الخلق لخروجهم من الأجداث لأرض المحشر، وتشقق السماوات السبع، ونزول العرش والكرسي، والفصل بين العباد ومجازاة الصراط، وتخاصم أهل النار: ﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [الزمر: 71]، ﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا ﴾ [الزمر: 73]، والمقارنة المشهدية بين مآل ومآل، وحديث الأعراف، وكثير مما ذكره القرآن العظيم في إشراقات قصصه السامي؛ لتجد نفسك في أركان مكان ترى عاقبة الظالمين، وإن لم يذهب تصورك المحدود لمآل الظالمين، وهيئة نيران جهنم، ومثوبة أهل الجنة، ونعيم المخلَّدين فيها، بل إن من عظمة القصص القرآني أن ينقل لك الحوار القصصي الذي سوف يُقال حينها، فتعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.



وفي قوله تعالى من سورة الحديد: ﴿ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴾ [الحديد: 13]، وهذا تجسيد كامل الأبعاد، واستحضار لمشهد واقع لا محالة، وفيه من التخويف والتحسر لمآل الظالمين، وهم يَرَون بعين اليقين كيف فرق الله بين الحق والباطل.



وللمقال جزء أخير مختصر بإذن الله تعالى، مع مسك الختام وقصص من حياة النبي صلى الله عليه وسلم وردت بالقرآن.





[1] مواضع الآيات المذكورة مأخوذة من كتاب قصص القرآن، تأليف: محمد أحمد جاد المولى وآخرون، دار الجيل، بيروت، ط: 13، ص: 15.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 66.56 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 64.68 كيلو بايت... تم توفير 1.88 كيلو بايت...بمعدل (2.82%)]