تفسير أيسر التفاسير**** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري ) - الصفحة 18 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4412 - عددالزوار : 849962 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3942 - عددالزوار : 386164 )           »          الجوانب الأخلاقية في المعاملات التجارية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 55 )           »          حتّى يكون ابنك متميّزا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 52 )           »          كيف يستثمر الأبناء فراغ الصيف؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 50 )           »          غربة الدين في ممالك المادة والهوى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 59 )           »          أهمية الوقت والتخطيط في حياة الشاب المسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 57 )           »          الإسلام والغرب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 57 )           »          من أساليب تربية الأبناء: تعليمهم مراقبة الله تعالى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 48 )           »          همسة في أذن الآباء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 49 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #171  
قديم 20-09-2020, 05:36 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )

المثل الثاني: المثل المائي

قال تعالى: أَوْ مثل آخر مائي كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ مطر، لكن مصحوب بالرعد والبرق الخاطف والرعد القاصف كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ [البقرة:19]، أهله كيف يتحركون؟ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ [البقرة:19] خوف الموت. الآيات القرآنية تمثل هذا المنظر لما كانت تنزل، وكذلك لو أنها تتلى بحق، ويسمعها البشر وتبلغهم فإنهم يصابون بمثل ما أصيب به المنافقون، والله يخافون وترتعد فرائصهم، ويعودون إلى الحق فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ [البقرة:19] أينما كانوا، وحيثما وجدوا، وفي كل زمان ومكان الله محيط بهم، فإما أن يطهروا ويكملوا، وإما أن تنزل بهم نقم الله عز وجل، ولا تظن أن أمريكا وأوروبا واليابان والصين سوف يبقون هكذا، والله إن يوماً لا بد منه، ويريهم الله عجائب قدرته.أما من ينتسبون إلى الإسلام فقد يعجل الله لهم العقوبات؛ ليريهم آياته؛ لعلهم يرجعون كما قال تعالى من سورة السجدة: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة:21] فإذا أذاقهم العذاب وما رجعوا استحقوا حينئذ الإبادة الشاملة.أما الكفار فيبقيهم، ويملي لهم، ويزيد في أعمارهم، في أولادهم، .. إلى ساعة ما، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [الرعد:31] .قال تعالى: ... وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ [البقرة:19-20] هؤلاء يرجى لهم العودة، وعادوا بخلاف النوع الأول، فلهذا دخلوا في الإسلام، وقلَّ من مات من المنافقين على النفاق والكفر؛ لأن هذه الآيات تنزل أنواراً من السماء، وهم عرب يفهمون لغة القرآن، فدخلوا في رحمة الله نساء ورجالاً وأطفالاً، وإنما اليهود قلَّ من دخل منهم في رحمة الله؛ لعلة عرفناها وهي الشعور بأنهم أكمل الناس، وأنهم أبناء الأنبياء، وأن لهم شأناً ومنزلة عند الله، فغرر بهم رؤساؤهم فرفضوا الإسلام؛ خشية ألا يبقى لهم أمل في مملكة بني إسرائيل وإعادة مجدهم كما كانوا أيام الاستقامة على منهج الله على عهد داود وسليمان ومن بعدهم.وهنا قد يسأل السائل عن الرعد: جاء في التفاسير منهم من يقول: الرعد هذا صوت ملك، والبرق شرر يتطاير من فمه؟ والله ما ذكر هذا، ولا الرسول صلى الله عليه وسلم فسر بهذا التفسير، وهذا منقول ومأثور عن بني إسرائيل، فالرعد صوت إذا سمعناه ينبغي أن نقول: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، وبهذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.أيها المؤمن! أيتها المؤمنة! إذا سمعت صوت الرعد فقل: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، الرعد يسبح، والنمل يسبح، وليس الرعد فقط! وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44] ليس التسبيح خاصاً بالرعد، وإنما لما نسمع هذا الصوت المدوي، المتكون من السحب المتراكمة هنا نقول: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة يسبحون من الخوف منه يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل:50] فكيف إذاً بالبشرية، لم لا تسبح ربها؟ سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته!فهذا الصوت ليس صوت الملك، والملك ما هو ذات كذواتنا حتى يكون له صوت هو هذا الرعد، نعم لو نطق ملك من الملائكة، قد يكون له صوت إذا أراد الله أن يسمعنا أسمعنا، وجبريل كان ينزل في صورة إنسان ويسمعون كلامه، والرسول يفتيه ويجيبه، لكن ما دام على هيئته الملكية الخاصة لا يمكن أن نسمع له صوتاً. الآن الملائكة معنا ويكتبون هل نسمعهم؟ فلم نسمع صوت الرعد فقط ونقول: ملك؟! هذا الدوي نتيجة الاحتكاك بين السحب المتراكمة.وأما البرق قد عرف أخيراً بالسالب والموجب من الكهرباء، فالاحتكاك بين تلك الجزيئات يحدث هذا، الآن احتكاك بالسلكين، هذا سالب وموجب يوجد النور.نعم. يجب أن نؤمن إيماناً يقينياً أن الرعد والبرق من فعل الله عز وجل، كما كل الكون والمخلوقات من فعل الله وخلقه وتدبيره، وإذا سمعنا الرعد وصوته نخاف ونخشى أن تنزل بنا صاعقة.الآن أوجدوا للبلاد التي يكثر فيها الرعد والصواعق آلة يجعلونها في أعلى مكان تبعد الكهرباء وتسلبها، فما تنزل الصاعقة.وكل ما في الأمر أننا نقول: صوت الرعد ليس بصوت ملك، ونكذب على الله وعلى الملائكة لو قلنا ذلك؛ إذ لو كان صوت ملك ما سكت الرسول صلى الله عليه وسلم ولبينه ولقال لنا، وضرب المثل، فما دام النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكر هذا فما نلتفت إلى روايات يذكرها الناس أو فلان في التفاسير محكية عن بني إسرائيل كـابن منبه وغيره.إذاً: والبرق هذا فعل الله عز وجل، ونحن الآن نشعل النار في السعف أو لا، في الحطب؟ نحك الصخر على الصخر فتشتعل النار، وحجرين تحكهما على بعضهما البعض فتشتعل النار، فهذا الاحتكاك في تلك الأجرام يوجد هذا النور أو النار.والواجب الذي نحن أهله إذا سمعنا صوت الرعد أن نخاف، ولا بأس من الله عز وجل أن يعاقبنا بذنب من ذنوبنا، فتنزل صاعقة علينا، فنفزع إلى الله ماذا نقول؟ سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته .. سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، وتبقى قلوبنا معلقة بربنا، فهو الذي يدفع المكروه عنا، وهو الذي يقينا العذاب ويحفظنا مما يؤذينا؛ إذ هو مفزعنا وملاذنا بخلاف الكافرين، إلى من يفزعون؟ إلى من يلجئون؟ خسران كبير، فما عندهم مفزع، ولا ملجأ، ولا ملاذ، فانظر الفرق بيننا وبينهم، نحن أحياء وهم أموات.

علامات المؤمن والمنافق والكافر والفاسق

معاشر المستمعين! انتهى الحديث عن الفرق الثلاث، وقد ذكرت لكم قاعدة حاولوا أن تحفظوها، وخاصة طلبة العلم، ما هي؟ ‏

علامات المؤمن

لو قلنا: ما هو الإيمان الصحيح لنكون من الفرقة الأولى؟ قالت العلماء: الإيمان الصحيح هو اعتقاد الحق في القلب، والعربنة عليه بالنطق: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، والبرهنة عليه والتدليل بالعمل. فهذا هو المؤمن المبشر بالجنة، والمبشر بالفوز والنجاة في الدنيا والآخرة.اعتقد الحق لا الباطل، وما أكثر المعتقدين للباطل، ويظنون أو يعتقدون أنه حق، فنحن نعتقد الحق الذي علمناه الله ورسوله، وهو أولاً: أنه لا إله إلا الله، لا عيسى ولا البتول، ولا جبريل، ولا عبد القادر ، ولا الملائكة، ولا كائن يستحق أن يؤله بالعبادة إلا الله، لم؟ لأنه هو الخالق، الرازق، المدبر، هل من خالق غير الله؟ والله لا يوجد، ودلونا على من خلق بعوضة .. ريشة في طير .. شعرة في آدمي أو حيوان؟ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54]، فما دام لا خالق، ولا رازق، ولا مدبر الحياة إلا هو، إذاً قل: لا إله إلا الله، واعتقد هذا الحق، هذا اعتقاد حق أو باطل؟! اعتقاد حق. أشهد أن محمداً رسول الله.. هذا الاعتقاد حق أو باطل؟ حق، كيف؟ هذا كتاب الله أين يُذهب بعقول البشر، ولولا أن الله تعالى أرسله ونبأه كيف يوحي إليه كتابه؟ وهذا الكتاب ليس رسالة أو صفحة، هذا الكتاب قل الآن للإنس والجن: يتلاءمون ويجتمعون على أن ياتوا بسورة من مثله، فما هو مجرد كتاب حوى علوم الكون كله، الدنيا والآخرة، ومن ارتاب أو شك فما زال التحدي قائماً: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:23-24] هل فعلوا بعد ألف وأربعمائة سنة وزيادة ما فعلوا، ولن يفعلوا، حتى لو أرادوا واستطاعوا يختم الله على قلوبهم، يختم الله على ألسنتهم، يفقدهم عقولهم ونطقهم ولن يأتوا، وَلَنْ تَفْعَلُوا.إذاً هذا الكتاب العظيم؛ القرآن الكريم حفظه النساء والرجال في صدورهم أربعة عشر قرناً، يحمل الهدى والخير والنور والإصلاح، ولم تعرف الدنيا قط كتاباً أسمى ولا أعز من هذا الكتاب، ومن أين جاء هذا الكتاب؟ أنبتته الشجرة، أو رمى به البحر، أو وجد في جبل! كيف هذا الكتاب؟!والبشرية جيلاً بعد جيل تشهد أن هذا القرآن نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف لا يكون رسول الله؟ أين يذهب بالعقل البشري؟ نعم عرفوا وأنكروا حتى لا يدخلوا في رحمة الله.إذاً: أشهد أن محمداً رسول الله، هذا هو اعتقاد الحق، وأنك تؤمن وتصدق بكل ما أمرك الله أن تؤمن به وتصدق بالكتب، والرسل، والملائكة، والقضاء والقدر، وكل ما أخبر الله تعالى به، صراط على ظهر جهنم تجتازه البشرية، آمنا، عالم الشقاء تحتنا، عالم السعادة فوقنا، أخبر الله، أخبر رسوله! آمنا، اعتقدنا الحق فقلنا: لا إله إلا الله محمد رسول الله.ثم برهنا البرهنة القوية أننا نعبد الله الذي شهدنا له بأنه لا إله إلا هو، ونتبع رسوله، ونقوم بسنته وشرعه؛ لأنه رسول الله فأقمنا الصلاة، وآتينا الزكاة، وصمنا رمضان، وحججنا البيت الحرام، وجاهدنا ساعة الجهاد، وأمرنا بمعروف ونهينا عن منكر، وحرمنا ما حرم الله من الكلمة والنظرة، وأحللنا ما أحل الله من ذلك، فهذا تدليل واضح على صدق اعتقادنا الحق، هذا هو المؤمن.

علامات المنافق

ثانياً: الذي لا يعتقد الحق الذي عرفتموه، لكنه يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويؤتي الزكاة ويفعل ما يفعل المؤمنين، وهو لا يعتقد الحق، فهذا هو المنافق الذي أبطن الكفر وأخفاه في نفسه فاعتقد الباطل قطعاً، وعربن بلسانه فينطق بالشهادتين ويصلي مع المسلمين، ويصوم معهم من أجل الحفاظ على حياته، وعلى ماله ووجوده، هذا إيمان المنافقين، هذا المنافق.

علامات الكافر

أما الذي يعتقد الحق ولا ينطق به كاليهود وبعض النصارى فعرفوا أنه لا إله إلا لله محمد رسول الله يقيناً، ولكن ما ينطقون؛ إذ لو نطقوا لدخلوا في الإسلام، فهذا الذي يعتقد الحق ولا يعربن عليه، ولا يعرب عنه، ولا يبينه .. هذا كافر؛ إذ الدخول في الإسلام يكون بكلمة: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله على علم.إذاً الذي يعتقد الحق ويعرف الدار الآخرة، ويعرف الصراط، والميزان، والجنة، والنار، كاليهود والنصارى يعرف أن محمداً رسول الله، وأن الله الإله الحق ولا ينطق؛ لأنه إذا نطق فمعناه أنه خرج من دينه وملته وأهله؛ لأنهم سيبعدون عنه، فيؤثر الدنيا على الآخرة، هذا هو الكافر، فإن كان لا يعتقد الحق، ولا ينطق به، ولا يعمل فهذا أسوأ كافر.

علامات الفاسق

يبقى من يعتقد الحق ويعرب عنه بالشهادتين، ولا يدلل عليه بالأعمال الصالحة، وهذا نسميه الفاسق.إذاً: عندنا مؤمن، وكافر، وفاسق. فالكافر ميئوس من رحمته، والمؤمن مرجو سعادته وكماله، والفاسق بين بين، فلا نحكم عليه بخلود في النار ولا بدخول الجنة، نتركه إلى الله عز وجل، ولكن إذا مات على اعتقاد الحق والإعراب عنه -انتبهتم- نرجو أن ينجو من عذاب الله، على الأقل من الخلود في النار.

المبادرة بالتوبة

الاستمرار والمتابعة في الذنوب والآثام قد يصل بالعبد أن يموت على غير الإسلام.انتبهوا! السيئة تلد سيئة، والحية لا تلد إلا حية، فالذي يواصل الآثام والذنوب يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام، من الجائز أن يختم على قلبه، ويموت على سوء الخاتمة.فلهذا واجب كل مؤمن ومؤمنة ألا يبيت على ذنب، وإذا أحدث الذنب تاب على الفور، وهذه قاعدة عامة: التوبة تجب على الفور، ولا يحل أن تقول: إذا جاء الحج أو جاء عمي أتوب، أو إذا تزوجت أتوب، أو إذا توظفت أتوب، أو إذا تخرجت من الجامعة أتوب.. إياك من هذا، فإذا أذنبت ووقعت في الذنب على الفور: أستغفر الله وأتوب إليه، فإن هذا الإرجاء والتسويف والتأخير قد تكون عاقبته سيئة، والذنب على الذنب يصيب العبد بالظلمة فينكر حتى وجود الله والإسلام.ولنقرأ هذه القاعدة التي سبق أن عرفناها؛ إذ يقول تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17] لا من بعيد، لم هذا الحذر؟ لما علمتم، يوالي المعصية ويكررها حتى تصبح تلك المعصية هي مبتغاه ومطلبه.وعلى سبيل المثال الذين يدخنون، ونترك الآن التدخين فقد انتهينا منه، وما بقي من يدخن إلا نادراً أو لا؟ الحمد لله نجتمع في مجلس ضيافة فيه ستون رجلاً ما واحد يدخن، الحمد لله.لكن نضرب مثلاً بالذين يتعاطون المخدرات: الأفيون، الكوكاين، الحشيشة .. بلغنا أنه إذا أدمن عليها أياماً أو أشهراً أو عاماً فإنه لا يستطيع أن يتركها، ولا يقدر أبداً، وكذلك الذي يواصل اللواط أو الزنا أو السرقة، أو كذا من هذه الكبائر أيضاً يخشى عليه ألا يتوب إذا واصل فترة من الزمن. فالحذر الحذر، كلنا خطاء وخير الخطائين التوابون، ونحن ضعفة لسنا بمعصومين كالأنبياء والرسل، لكن واجبنا إذا فعلت سيئة على الفور امحها بكلمة: أستغفر الله، مع دموعك وعزمك ألا تعود إليها يمح أثرها، وهذه سنة الله عز وجل إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ [النساء:17] ما هو السوء؟ الذي يسيء إلى نفوسهم بالظلمة، والراحة الكريهة، والعفن وهو السيئة. ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:17] عليماً بخلقه، حكيماً في قضائه وشرعه، هذا أهل لأن يتوب الله عليه، بخلاف الذي واصل الذنب واصل .. واصل.. فأصبح طبعاً من طباعه، وخلقاً من أخلاقه.ثم يقول تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ [النساء:18] لا توبة، إذا شاهدت ملك الموت يقرب منك وأعوانه انتهت التوبة، فلهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم من باب الإخبار بالواقع: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ) ما لم تحشرج في الحلق، فإذا حشرجت في الصدر، وشاهد ملك الموت لم يبق له توبة تقبل منه ولا تصح، وليس معنى هذا أنك تملك أن تؤخر الذنب إلى ساعة الموت بيوم أو بساعة، من يملك هذا؟ لا أحد تحت السماء يقول: في استطاعتي أن أتوب قبل موتي بأسبوع أو بيوم، هو يعرف متى يموت؟! فهذا الباب مغلق، وما يبقى إلا باب الله فكلما أذنب أحدنا ذنباً على الفور وقع على الأرض يبكي بين يدي الله، وقام يصلي.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير

شرح الكلمات

قال: [شرح الكلمات:مثلهم: صفتهم وحالهم.استوقد: أوقد ناراً.صمٌ بكم عميٌ: لا يسمعون ولا ينطقون ولا يبصرون.الصيّب: المطر.الظلمات: ظلمة الليل، وظلمة السحاب، وظلمة المطر.الرعد: الصوت القاصف يسمع حال تراكم السحاب ونزول المطر.البرق: ما يلمع من نور حال تراكم السحاب ونزول المطر.الصواعق: جمع صاعقة: نار هائلة تنزل أثناء قصف الرعد ولمعان البرق يصيب الله تعالى بها من يشاء.حذر الموت: أي: توقياً للموت]، لما يجعل أصابعه في أذنيه خوف.قال: [محيط: المحيط المكتنف للشيء من جميع جهاته.يكاد: يقرب.يخطف: يأخذ بسرعة. أبصارهم: جمع بصر وهو العين المبصرة].

معنى الآيات

قال: [معنى الآيات: مثل هؤلاء المنافقين فما يظهرون من الإيمان مع ما هم مبطنون من الكفر مثلهم كمثل من أوقد ناراً للاستضاءة بها، فلما أضاءت لهم ما حولهم وانتفعوا بها أدنى انتفاع ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون؛ لأنهم بإيمانهم الظاهر صانوا دماءهم وأموالهم ونساءهم وذراريهم من القتل والسبي، وبما يضمرون من الكفر إذا ماتوا عليه يدخلون النار فيخسرون كل شيء حتى أنفسهم، هذا المثل تمضنته الآية الأولى (17).وأما الآية الثانية (18) فهي إخبار عن أولئك المنافقين بأنهم قد فقدوا كل استعداد للاهتداء فلا آذانهم تسمع صوت الحق ولا ألسنتهم تنطق به ولا أعينهم تبصر آثاره؛ وذلك لتوغلهم في الفساد، فلذا هم لا يرجعون عن الكفر إلى الإيمان بحال من الأحوال.وأما الآية الثالثة والرابعة (19) (20) فهما تتضمنان مثلاً آخر لهؤلاء المنافقين، وصورة المثل العجيبة والمنطبقة على حالهم هي مطر غزير في ظلمات مصحوب برعد قاصف وبرق خاطف، وهم في وسطه مذعورون خائفون يسدون آذانهم بأنامل أصابعهم حتى لا يسمعوا صوت الصواعق حذراً أن تنخلع قلوبهم فيموتوا، ولم يجدوا مفراً ولا مهرباً؛ لأن الله تعالى محيط بهم هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن البرق لشدته وسرعته يكاد يخطف أبصارهم فيعمون، فإذا أضاء لهم البرق الطريق مشوا في ضوئه، وإذا انقطع ضوء البرق وقفوا حيارى خائفين، ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم؛ لأنه تعالى على كل شيء قدير. هذه حال أولئك المنافقين، والقرآن ينزل بذكر الكفر وهو ظلمات، وبذكر الوعيد وهو كالصواعق والرعد، وبالحجج والبينات وهي كالبرق في قوة الإضاءة، وهم خائفون أن ينزل القرآن بكشفهم وإزاحة الستار عنهم فيؤخذوا، فإذا نزل بآية لا تشير إليهم ولا تتعرض بهم مشوا في إيمانهم الظاهر، وإذا نزل بآيات فيها التنديد بباطلهم وما هم عليه، وقفوا حائرين لا يتقدمون ولا يتأخرون، ولو شاء الله أخذ أسماعهم وأبصارهم لفعل؛ لأنهم لذلك أهل، وهو على كل شيء قدير].

هداية الآيات

قال: [ من هداية هذه الآيات ما يلي:أولاً: استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان]. فيستحسن أن يمثل الإنسان لأخيه حتى يفهم، فيضرب له مثلاً.قال: [ثانياً: خيبة سعي أهل الباطل وسوء عاقبة أمرهم.ثالثاً: القرآن تحيا به القلوب كما تحيا الأرض بماء المطر.رابعاً: شر الكفار المنافقون]. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #172  
قديم 20-09-2020, 05:38 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (92)
الحلقة (99)




تفسير سورة البقرة (60)

إن جدال اليهود والنصارى ليس مبنياً على حجة، وتفاخرهم فيما بينهم ليس له شاهد من واقع، إنما هو محض افتراء على الله وتألٍ عليه سبحانه، فلا اليهودية مقبولة عنده سبحانه، ولا النصرانية مرضية عنده عز وجل، فلا بد لهم من أجل نيل رضا الله من الدخول فيما دخل فيه المؤمنون، من إيمان بعقيدة التوحيد، ودخول تحت راية الإسلام الصافي، حتى يتجنبوا ما أعده الله للمؤمنين من الوعيد.

حكم التمسح والتبرك بمنبر المسجد النبوي

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها، والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ * قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [البقرة:137-139].. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! وقف إلى جانبي شيخ كبير يقول: إن منكراً شاهده بالمسجد النبوي، فلم لا يغير هذا المنكر، فما هو؟ قال: إن المنبر الذي يخطب عليه إمام المسجد يوجد به حلق أو كذا يرى الناس يتمسحون بذلك ويضعون أعينهم عليه متبركين.فالجواب: هؤلاء عجم، وليسوا بعرب، لو كانوا يعرفون لساننا لجلسوا إلينا ولبينا لهم الطريق، وعلمناهم الهدى الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن علماءهم غشوهم وما نصحوا لهم، فما عندنا حَجَر في العالم ولا حلقة باب ولا عتبة ولا جدار نتمسح به ونتبرك سوى الحجر الأسود، وكل تمسح وكل تبرك بالجدران بالقباب بالحجارة هو من عمل أهل الجاهلية وليس من الإسلام في شيء، ما عندنا إلا الحجر الأسود، والركن اليماني نضع أكفنا هكذا عليه فقط، اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والحجر الأسود يقبل، من استطاع أن يقبله بفيه فليفعل، وإذا ما استطاع فليضع يده عليه ويقبلها، فإن عجز فإنه يشير إعلاناً بأنه عجز، وما عدا ذلك فما أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء نقبله أو نتمسح به أو نتبرك قط، لكن الجهل الذي غشينا وغطانا، وأصبح كالليل المظلم فوقنا منذ قرون ليس منذ قرن واحد، تركنا في هذا التخبط والحيرة، ولو قلت لهذا المسلم: هذا لا يجوز فإنه يغضب، وإن قلت: هذا ممنوع حرام فلن يفهم، فماذا تصنع؟ أتتقاتل معه؟ لا يحل ذلك عندنا؛ لأنه يريد الخير، ولكن ما عرفه، ويأثم لأنه ما سأل أهل العلم.

وجوب العلم بحكم العمل قبل الإقدام عليه

وأعيد ما سبق أن ذكرت، واحفظوا وبلغوا إن كنتم تريدون الملكوت الأعلى، إن كنتم تؤمنون بالجنة دار السلام والانتقال إليها بعد الموت، اعلموا أنه لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه، فلا يعتقدن عقيدة في نفسه حتى يسأل أهل القرآن والسنة: هل هذه العقيدة مما شرع الله ورسوله أم لا؟ فإن قالوا: نعم، قال: إذاً: أعتقد. وأصر عليه حتى الموت، وإن قالوا: هذا المعتقد باطل لا وجود له في كتاب الله ولا في هدي رسوله صلى الله عليه وسلم فيجب عليه أن يغسل قلبه منه، وأن ينحيه من نفسه بالمرة؛ لأنه يريد الملكوت الأعلى، ولا يقول قولاً ولا يتكلم بكلمة حتى يعرف هل أذن الله فيها أو لم يأذن، أتعبدنا الله بهذه الكلمة أو لم يتعبدنا، فإن عرف أنها من دين الله وأن الله شرعها في كتابه وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم قال الكلمة وحافظ عليها، فإن قيل له: هذه ليست بدين ولا بعبادة شرعها الله فإنه لا يقولها أبداً، ولو هدد ولو توعد بالسجن والضرب فإنه لا يقول الباطل، ولا يأكل لقمة حتى يعرف هل أذن الله في هذا الطعام أو لم يأذن، ولا يشرب شراباً حتى يعلم آلله أذن فيه أو لم يأذن، بل ولا يمشي مشية حتى يعلم آلله أذن في هذا النوع من المشي أو لم يأذن. ولو أخذ المسلمون بهذا المبدأ في قرية من القرى فقط فلن يحول الحول عليهم إلا وهم علماء، ولكن ما نبالي أوقعنا في الحلال أو الحرام، أصبنا أم أخطأنا، نأتي ما تمليه نفوسنا، وما تزينه شياطيننا، فغرقنا في ظلمات الجهل والإثم، فمن ينقذنا، من يمد يده إلينا؟ أما الله فقد بين، وحسبنا أن أنزل كتابه وبعث رسوله ودعا رسوله ثلاثاً وعشرين سنة، ما مات وترك شيئاً تحتاجه الأمة إلا بينه، ونحن الذين أعرضنا، فماذا نصنع؟

وقت انغلاق باب التوبة

والآن ما زال الحجاج مع اليهود والنصارى، ما زال الصراع والنزاع والجدال والخصومة مع اليهود والنصارى إلى أن تطلع الشمس من مغربها، ومن ثم ينتهي كل شيء، وهل ستطلع الشمس من المغرب؟ إي ورب الكعبة، يختل فلكها ويضعف، فترجع إلى الوراء، ونراها قد طلعت من المغرب، ومعنى ذلك أن المؤمن مؤمن والكافر كافر، والبر بر والفاجر فاجر، والمتقي متق، والفاسد فاسد، أغلق باب التوبة، باب التوبة مفتوح لا يغلق إلا عند ما تغرغر النفس في حال نزعها، إذا غرغرت أغلق باب التوبة على هذا المريض، ثم طلوع الشمس من مغربها، إذا لاحت في الأفق من الغرب علمنا أن باب التوبة أغلق، واقرءوا لذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر )، والله! لهذا الحديث خير من ملء الأرض ذهباً، فأوساخ الدنيا لا قيمة لها، فلم نسمعه ولا نحفظه، ما المانع فيه؟ هل ندفع غرامة؟ نؤخذ به في الشارع فيقال: هذا حفظ حديث الرسول فاضربوه؟ والله ما كان، وإنما ليس عندنا استعداد كما لم يكن لآبائنا ولا لأمهاتنا ولا لأجدادنا، ما عندنا استعداد أن نعلم لنصل إلى دار السلام، وإلا فهذا الحديث كرره، هو حديث صحيح، فبلغه أهلك إخوانك، ما هو؟ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر )، والغرغرة: صوت متغير، إذا بلغت الروح الحلقوم تغير الصوت؛ لأنها ارتفعت من الرجلين ومن الصدر ووصلت إلى الحلقوم ولن تعود، آن أوان الفراق.وفي الآية الكريمة من سورة الأنعام يقول تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ [الأنعام:158] فيؤمنوا، من هؤلاء؟ المتباطئون، المترددون، ما منعهم من الإيمان؟ ماذا ينتظرون؟ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ [الأنعام:158]، إذا جاء الله آمنوا، فهل ينفع الإيمان في ذلك الوقت؟ لا ينفع، أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [الأنعام:158]، بعضها فقط لا كلها، يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [الأنعام:158] الدالة على قرب الساعة ونهاية هذه الحياة الدنيا يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158]، فاسق، فاجر، ضائع، مؤمن رأى الشمس تطلع، وأراد أن يكتسب خيراً فلا يقبل منه، لا صدقة ولا صيام ولا صلاة ولا طهر ولا صفاء. فقوله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر )، هذا في حياة الفرد، وفي حياة الجميع: إذا طلعت الشمس من مغربها، فالمؤمن مؤمن، والكافر كافر، والبر بر، والفاجر فاجر، والمستقيم مستقيم، والمعوج معوج، ما السر؟ لأن هذه العبادة تنتج الطاقة وتولدها عندما كان العبد يؤمن بالغيب، أما وقد انتهى الغيب وأصبحنا في عالم الواقع والشهادة فتلك العبادة ما تزكي نفسك ولا تطهرها.

الرد على اليهود والنصارى في الدعوة إلى اليهودية والنصرانية

معاشر المستمعين والمستمعات! مع السياق الكريم، يقول تعالى: فَإِنْ آمَنُوا [البقرة:137]، من هؤلاء؟ اليهود والنصارى، إذ قال في السياق قبل ذلك: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:136]، هذا نقوله نحن لأنفسنا ونقوله لهم وهم يخاصموننا، إذ قالوا: كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا [البقرة:135]، قالوا لنا هذا ويقولونه إلى الآن، ففي حضرة النبي صلى الله عليه وسلم قال وفد نجران واليهود: كونوا يهوداً أو نصارى تهتدوا! وكأن الهداية محصورة في اليهودية والنصرانية، والله ما فيهما هداية، ومن قال: لم؟ قلنا: أرنا هداية في النصارى؛ بل الزنا والعهر والفجور والربا وسفك الدماء والتلصص والخنا والدعارة، فأين الهداية، فهل توجد هداية عند النصارى؟ وأين الهداية عند اليهود؟ أفظع الجرائم يرتكبونها، فأين الهداية، أين القوانين التي تسود البشرية وتقودها تتجلى فيها الرحمة والعدل والإحسان والخير والطهر والصفاء؟ هذا لن يوجد إلا في الإسلام دين البشرية العام. وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا [البقرة:135]، نهتدي إلى ماذا؟! والله يقول لنا: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ [البقرة:136]، لمن؟ لله، مُسْلِمُونَ [البقرة:136]، هل أسلم اليهود اليوم وقبل اليوم قلوبهم لله، هل أسلموا لله وجوههم، هل أسلم النصارى لله قلوبهم ووجوههم؟ إنهم ما عرفوا الله، إنهم يعبدون الشيطان الذي وضع لهم الثالوث، أين هم من الإسلام وإسلام القلوب لله؟ مخدوعون مغرر بهم مضللون، تائهون في صحاري الباطل وأودية الضلال.

وجوب القيام بدعوة اليهود والنصارى إلى الإسلام

ولكن نحن أيضاً مسئولون عنهم، نحن خلفاء محمد صلى الله عليه وسلم، متى نحمل رايته ونقود المؤمنين إلى أن يصلحوا العالم وينقذوا البشرية من ضلالها؟ لقد فعلنا ذلك ثلاثة قرون، وانتشر النور في العالم، وبلغ أقصى الشرق والغرب، ولكن هم تآمروا علينا وتكاتفوا ضدنا، وكونوا ثالوثاً أسود من المجوس واليهود والنصارى، وضربونا تلك الضربة فهبطنا، فهم المسئولون عن شقاوتهم، فرقوا كلمتنا، مزقوا دولتنا، شتتوا جماعتنا، نفخوا فينا روح الباطل والشر والتحزب والتكتل والإقليمية والعصبية والمذهبية، فتركونا كالجثث الهامدة، فهل نستطيع أن ننقذهم؟ لا نستطيع، فقد قتلونا. ولكن أما نحيا؟ إن الروح موجودة، ولو ضاعت لكان لنا عذر، فالروح -والله- ما زالت، فهل تدرون ما الروح أيها المستمعون والمستمعات؟ إنه القرآن الكريم، كتاب الله رب العالمين، واقرءوا لذلك قول الله تعالى وقوله الحق: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، فوالله الذي لا إله غيره! لا حياة بدون روح، ولا هداية بدون نور، هل يوجد تحت السماء من ينقض هذه الحقيقة، فيقول: نعم توجد حياة بدون روح؟ فليثبت ذلك ولو في البعوضة، فوالله! ما كان. وهل توجد هداية بدون نور؟ الماشي في الظلام هل يهتدي إلى حاجته، هل يصل إلى منزله، إلى بغيته؟ لا والله، والقرآن هو الروح، وهو النور، أخبر بذلك منزله الذي تكلم به، وأوحاه إلى رسوله، القرآن روح ونور، فلا حياة بدون روح، ولا هداية بدون نور، وهل لذلك مثل؟ الجواب: نعم، فالعرب ذرية إسماعيل وإخوانهم القحطانيون كانوا أمواتاً، كانوا في ضلال عظيم، لا تسأل عما كانوا فيه وعليه، يعبدون الأصنام والأحجار، يعبد الرجل حجرة من الحجارة ثم يستبدل بها أخرى، كانوا أمواتاً فبم أحياهم الله؟ بالقرآن حيوا، أصبحوا مضرب المثل في الكمال البشري، ووالله! ما اكتحلت عيون الوجود بأمة أطهر ولا أصفى ولا أرحم ولا أعدل من تلك الأمة في قرونها الذهبية: الصحابة وأبناؤهم وأبناء أبنائهم، ما عرفت الدنيا أبداً أكمل ولا أشرف من أولئك، وإن ضلل المضللون تاريخهم وغطوه بالأباطيل والترهات، ولكن الواقع واقع، والله! ما عرفت الدنيا أمة أكمل ولا أعز ولا أطهر ولا أصفى من تلك الأمة، بم؟ بالبلشفية الحمراء؟ بالديمقراطية الهابطة؟ باليهودية المبتدعة؟ بالنصرانية الهالكة؟ بالمجوسية الممزقة؟ بم؟ بالقرآن، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم لازمة للقرآن؛ إذ عهد إليه ربه بأن يبين: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، فلا غنى عن رسول الله أبداً، ولا تفهمن دين الله بدون رسول الله، فهو المبين المفسر.إذاً: هم الذين فعلوا بنا ما فعلوا، فهل من عودة؟ نحتاج إلى تربية ربع قرن، خمس وعشرين سنة، لو نأخذ في تربية أنفسنا خمساً وعشرين سنة فإنه يهلك من يهلك وينشأ النشأ المبارك، وفي استطاعتهم بإذن الله أن يحولوا العالم إلى كتلة من نور، وسيأتي هذا أحببتم أم كرهتم، أحب الخصوم أو كرهوا، حلف رسول الله أن هذا الدين سيبلغ ما بلغ الليل والنهار، فلا يبقى يبت مدر ولا وبر إلا دخله بعز عزيز أو بذل ذليل، والآن العالم يتخبط يبحث عن المخرج، وخمت الدنيا وتعفنت بالخبث والباطل والشر والفساد، فمن يطهرها؟ بأي وسيلة، بأي منهج أو مبدأ؟ لا وسيلة إلا الإسلام.

يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #173  
قديم 20-09-2020, 05:38 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )

طريق العودة إلى الله تعالى لهداية العالم وسيادته

وقد قلنا غير ما مرة: هيا بنا نراجع الطريق، وبسهولة وبيسر، لا كلفة، لا مشقة أبداً، فما الطريق؟ الجواب: أهل القرية المسلمة -سواء كانت في رءوس الجبال أو في السهول- يتعهد أهلها وهم مسلمون ولو صورياً، يتعهدون بأن ينزلوا بيت ربهم كل ليلة، من غروب الشمس إلى أن يصلوا العشاء وهم في المسجد بيت ربهم مع نسائهم وأطفالهم ورجالهم.أعيد فأقول: العودة هي أننا نلتزم في صدق، في جد وحزم أن لا يتخلف رجل ولا امرأة ولا ولد عن بيت الرب في القرية، ذلك الجامع الذي يجمعنا، وكل ليلة نتلقى فيه الهدى من الكتاب والحكمة، وكذلك المدن ذات المناطق أو الأحياء المتعددة، ويقال لشيخ الحارة أو عمدة الحي: يا صاحب المكانة! قل لأهل حيك هذا: لا يتخلف رجل ولا امرأة ولا ولد عن المسجد إلا مريض أو ممرض للضرورة، الكل في بيت الرب، ومن المغرب إلى العشاء يتلقون الكتاب والحكمة ويزكون أنفسهم، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم.معاشر المستمعين -وفيكم العلماء والفحول والبصراء والساسة-! هل هذا العمل يوقف دولاب الحياة؟ هل تكسد التجارة، تتعطل الزراعة، تنتهي الصناعة؟ ما الذي يصيب الأمة من كونها تتفرغ من المغرب إلى العشاء لتتلقى الكتاب والحكمة، ما الذي يحدث، ما الذي يحدثه هذا التفرغ بين المغرب والعشاء؟ والله! أنه لتنمو معه التجارة، ويبارك الله في الصناعة، ويبارك في الزراعة، وما ينقص شيء، والله! لتتضاعف النتائج. ولما نجتمع في بيت الرب اجتماعنا هذا سنة واحدة كيف تصبح قلوبنا وأرواحنا، هل تطهر أو لا؟ هل تزكو أو لا؟ وإذا زكت الأرواح وطابت النفوس هل يبقى شح بيننا، هل يبقى بخل فينا، هل يبقى خبث عندنا، هل يكون هناك من يفكر أن يفجر بامرأة أخيه، أو من يتسلط على أخيه يضره ويؤذيه؟ والله! ما يكون. وينتهي السرف وحب الدنيا والشهوات، ووالله! ليتوافرن المال فماذا يصنعون به؟ وأقول: والله العظيم! لن ترتفع لنا راية ولن نسود العالم إلا بالعودة إلى هذا المنهج المحمدي، هذه مسألة سهلة أو صعبة؟ ما المانع إذاً حتى نصبح علماء ربانيين؟

مقترح بتكوين لجنة إسلامية ممولة لمتابعة أحوال المسلمين

وأخرى أعلنها أيضاً لعلكم تنقلونها، وما عندنا من ينقل، وإن نقل فإنه ينقل الخطأ، إذا أخطأ الشيخ فيا ويحه، لا يبيت الخطأ إلا في الشرق والغرب، كأننا لا نرصد إلا الخطأ، فلا تعجب؛ فمن ربانا، وفي حجور من تعلمنا؟أقول: الآن الفرصة ذهبية، لو تكونت لجنة عليا للإسلام يساهم فيها كل بلد إسلامي، هذه اللجنة العليا تضرب ضريبة على كل مؤمن يدفعها، سواء شهرية أو سنوية، فتوجد ميزانية للإسلام هي أكبر ميزانية في العالم، لم؟ لأنه يسهم فيها ألف مليون مسلم، ثم بعد ذلك تكون لجنة أخرى تطوف العالم، تزور اليابان والصين وأمريكا وأوروبا، وتتعاهد الجمعيات الإسلامية، وتعرف موطن كل جماعة وما هي فيه وما هي عليه، مع سرية كاملة، لا تبجح ولا إعلانات، ثم تتولى إنفاقاً حقيقياً على تلك الجمعيات الموجودة في العالم الكافر، تقدم الكتاب الذي يجب أن يجمع القلوب ولا يفرقها، وتبعث بالإمام والمربي الرباني الذي يربي ويزكي النفوس ويعلم الكتاب والحكمة، وهكذا، فما هي إلا فترة وإذا بتلك الجاليات عبارة عن كواكب من النور، عبارة عن كواكب نورانية، إذ ما يبقى بينهم من يسرق أو يفجر أو يكذب أو يجهل أو يقلد الباطل أو يمشي في ركاب الظالمين، ويوم يتم هذا فسوف تشاهدون الناس يدخلون في دين الله أفواجاً. والفرصة متاحة، فقد بلغنا اليوم أن بفرنسا ألف مسجد، فلو أن هذه اللجنة الإسلامية العليا التي يجب أن تكون نيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأخذ في نشر الإسلام بالتي هي أحسن والدعوة الربانية، وقد وجد من يحملها، لا يوجد في أمريكا ولا اليابان ولا الصين مكان خالٍ من مسلم ومسلمة، فقط يحتاجون إلى أن يصبحوا نورانيين لينيروا الحياة أمام الناس. فهاتان الخطوتان ما المانع أن نقوم بهما في بلاد المسلمين؟ فقط نتعلم الكتاب والحكمة، ونجتمع في بيت ربنا، فما يبقى فينا من يخرف، ما يبقى فينا من يقول بالبدعة ولا بالخرافة ولا بالضلالة، ما يبقى فينا إيمان ضعيف هزيل ما يقوى صاحبه على أن يقول كلمة الحق أو ينهض بواجب، وينتهي ما نشاهد من ألوان الباطل والشر والفساد في العالم الإسلامي، وفي العالم الآخر، فتلك الجمعيات التي توجد بالفعل تنمى في خمس وعشرين سنة، فيدخل الناس في رحمة الله، فما المانع؟ فبلغوا، بلغوا رابطة العالم الإسلامي، وقد كتبنا هذا في الكتب، ولكن:لقد أسمعت لو ناديت حياًولكن لا حياة لمن تنادي

تفسير قوله تعالى: (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا ...)

ونعود إلى السياق الكريم، قال تعالى: فَإِنْ آمَنُوا [البقرة:137] أي: اليهود والنصارى، بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ [البقرة:137] أيها المسلمون، آمنا بماذا؟ أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن الجنة حق وأن النار حق، آمنا بأن الله لا يعبد إلا بما شرع وبين رسوله صلى الله عليه وسلم. فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ [البقرة:137]، وهو أن الأنبياء والرسل كلهم أنبياء الله ورسله، لا نفرق بين أحد منهم، لا فرق بين موسى وهارون ولا عيسى ومحمد، ولا إبراهيم وإسحاق، آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فإن آمن اليهود والنصارى المتبجحون الذين يقولون لنا: كونوا هوداً أو نصارى؛ إن آمنوا بمثل ما آمنتم به فَقَدِ اهْتَدَوا [البقرة:137]، فقد اهتدوا إلى ماذا؟ إلى سلم الكمال، وسلم الرقي والسعادة في الدنيا والآخرة، اهتدوا إلى معرفة الحق من الباطل والخير من الشر والكمال من النقصان، عرفوا الطريق إلى الله عز وجل.

معنى قوله تعالى: (وإن تولوا فإنما هم في شقاق)

وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ [البقرة:137]، يا لله هذا الشقاق! فـ(شقاق) هنا نكرة تفيد التهويل، أي: في شقاق عظيم، وصدق الله العظيم، فقد تولوا وأعرضوا وما قبلوا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبقيت اليهودية والنصرانية وبقي أهلها، إذاً: هم في شقاق عظيم بعيد طويل معنا. ومعنى الشقاق: من الشق، فهناك شق وهنا آخر، هذا الشقاق، ما هناك اتصال، أنتم وإياهم في شقاق بعيد كبير، شخص يقول: لا إله إلا الله وآخر يقول: الآلهة ثلاثة، فكيف يتفقان؟ شخص يقول: الربا والزنا حرام، وآخر يقول: الحياة متوقفة عليه، كيف نلتقي معهم؟ شخص يقول: الصدق والوفاء والحب والطهر، وآخر يقول: على الخيانة والكذب والزندقة تعيش الحياة، فكيف نتفق؟ سبحان الله العظيم! اسمعوا كلام الله: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ [البقرة:137] أيها المسلمون فَقَدِ اهْتَدَوا [البقرة:137]، إلى أي شيء اهتدوا؟ إلى طريق كمالهم وسبيل سعادتهم ونجاتهم، اهتدوا إلى الحق وتركوا الباطل وراءهم. وَإِنْ تَوَلَّوْا [البقرة:137]، ما معنى: تولوا؟ رفضوا الإسلام، رفضوا لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، تولوا عنه ورجعوا إلى الوراء بعدما جادلوا ووقفوا أمامكم، فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ [البقرة:137]، أقول: في شقاق بينهم، بين اليهود والنصارى إلى الآن، وإن كان اليهود نجحوا فيما علمتموه وقررناه وكررناه مرات، اليهود نجحوا في إيجاد البلشفة الماركسية العلمانية، استطاعوا أن يجهلوا النصارى ويبعدوهم عن دينهم ويجعلوهم حرباً على الإسلام، الآن تستطيع أن تجد 1% ما زال يعتقد النصرانية ويعيش لها، و99% لا يؤمنون، فمن فعل بهم هذا؟ اليهود بنو عمنا، أتدري لم؟ كان النصراني الصليبي إذا نظر إلى اليهودي فكأنما نظر إلى قاتل إلهه، ما يستطيع أن يفتح عينيه فيه أبداً، ولا أن يرضى عنه ولا يحبه أبداً، كيف وهو قاتل إلهه؟ فمن صلب عيسى في نظر النصارى، من صلبه وقتله، أليس اليهود؟ كيف تحب الذي يقتل إلهك؟ عاشوا قروناً وهم أشد بغضاً لليهود حتى من الإسلام، فكيف تحولوا؟ إنه صنع اليهود، استطاعوا أن يذوبوا معتقدهم تذويباً كاملاً وهم لائكيون لادينيون، وبقيت جماعات التنصير والذين يعيشون عليها يدافعون عنها وينشرونها بين المسلمين، أحقيقة هذا أو دعوى باطلة، هل هناك من يرد علي؟ هذا هو الواقع، فخف الضغط على اليهود. بل عندنا دليل قاطع: منذ كذا سنة أعلن بولس الثامن قبل موته بأن اليهود برآء من دم السيد المسيح! ونشر في الصحف وأذيع في الإذاعات، قالوا: اليهود برآء من دم السيد المسيح، أي: ما قتلوه، إذاً: فلم تبغضونهم وتحاربونهم؟ وقلنا: صدق الله العظيم الله، أكبر.. الله أكبر، نحن نقرأ قول الله تعالى من سورة النساء: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157]، وهم الذين يقولون: قتلوه، منذ ما يقرب من ألفي سنة وأنتم تكذبون وبعد ذلك ترجعون؟! ارجعوا إلى الإسلام وقولوا: آمنا بالله.إذاً: فهم في شقاق فيما بينهم، ولولا هذا السحر اليهودي لكان النصارى ضد اليهود واليهود ضد النصارى أعداء ألداء، يكفيك أنه يعتقد أنه قتل إلهه، هل هناك أكثر من هذا؟ وأما بيننا وبينهم فالشقاق دائم حتى يدخلوا في رحمة الله، أو حتى نتنصر أو نتهود والعياذ بالله وتنتهي المعركة، ولن يكون هذا أبداً، سيبقى هذا النور مهما طالت الأيام.

معنى قوله تعالى: (فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم)

ثم يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [البقرة:137]، فسيكفيك يا رسول الله الله، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:137] فلا تخفهم، وهل صدق الله في وعده لرسوله أم لا؟ قال: فسيكفيكهم، فقد تآمروا على قتله ثلاث مرات ونجاه الله، وهل يعرف المؤمنون أن اليهود تآمروا على قتل نبيهم أو لا؟ فبنو النضير أرادوا أن يلقوا عليه رحى من السطح على رأسه، وهيئوها وتآمروا، وقبل أن يطلقوها نزل الوحي: قم يا رسول الله، فقام من عندهم، هذه واحدة وقبلها سحروه في بئر ذروان وأرادوا قتله، وبعدها أطعموه السم في خيبر، وكم أتى من يريد أن يقتل الرسول صلى الله عليه وسلم. والأحزاب من حزبهم وجمعهم؟ من جمع العرب من الشرق والغرب والجنوب وجاء بهم إلى المدينة لقتل رسول الله وأصحابه؟ أليس هو حيي بن أخطب اليهودي؟ هو الذي حزب الأحزاب.إذاً: قولوا: صدق الله، فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:137] سميع لأقوال العباد عليم بحركاتهم، لا يحدث شيء في الكون إلا والله قد سمع حركته وعلمها، فلهذا إذا وعدك بكفاية فلا تخف، فهو قادر على أن يكفيك همك وكربك وأعداءك، لو قال تعالى: فسيكفيكموهم لقلنا: الله أكبر! لو كانت الآية: (فسيكفيكموهم أيها المؤمنون) لانتهينا، لكن الله علم أننا نتخلى عن دعوة الحق، وحينئذ نتعرض لذلك، ومع هذا فأيما جماعة مؤمنة في إقليم، في بلد، في دولة، في مملكة، في جمهورية يستمسكون بحبل الله حق الاستمساك؛ فإن الله تعالى يكفيهم الشرق والغرب والإنس والجن، أما قال تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:257]؟ أما قال: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]؟ ويتجلى ذلك في الفرد، في الأسرة، في القرية، في الإقليم، أيما عبد آمن حق الإيمان واتقى الله وجاءت الولاية فوالله لو كاده أهل الأرض ما كانوا ليؤذوه، ولكن حالنا كحالهم.
تفسير قوله تعالى: (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون)
ثم قال تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً [البقرة:138]، تعرفون الصبغة والصباغين، فالثوب الأبيض يصبغونه فيصير أصفر، هذه الصبغة، نحن صبغنا الله بصبغة لا نظير لها أبداً، ألا وإنها الإسلام، ألا وإنها الحنيفية ملة إبراهيم، ما هي صبغة اليهود والنصارى، النصارى إذا ولد الولد ففي اليوم السابع يأتون بالماء والزعفران أو بماء ندي، ويغمسونه فيه ويقولون: صبغناه فلن يموت إلا نصرانياً، من الآن يفعل ما يشاء فهو نصراني، عرفتم هذه الخرافة أو لا؟ هكذا تكون النصرانية، واليهود يفعلون مثلهم، هذه هي صبغتهم. أما صبغة الله لنا فهي أننا أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله، أهل الإسلام، أسلمنا لله قلوبنا، فلا تفكر إلا فيه ولا تتحرك إلا من أجله، وجوارحنا مقبلة عليه لا نرى إلا الله، هذه هي الصبغة التي صبغنا الله بها، وهي ملة أبيكم إبراهيم، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً [البقرة:138]، فمن صبغه الله بصبغة الإيمان والتوحيد هل يستطيع واحد أن يصبغ بمثلها؟ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [البقرة:138]، والله! إنا لك يا رب عابدون، ومعنى عابدين: مطيعون مستقيمون على منهجك خائفون منك، راغبون وطامعون فيك، لا نعبد غيرك، ولا نؤله سواك، ليس لنا إلا أنت يا رب، ونحن لك عابدون، إن شاء الله نصدق في هذا، فقولوا: آمين. لا نعبد دنيا ولا شهوة ولا هوى، ولا منصباً ولا رياسة، لا نعبد إلا الله جل جلاله وعظم سلطانه. أرأيتم كيف علم الله رسوله والمؤمنين كيف يقولون؟ قولوا: صبغة الله لا صبغة اليهودية والنصرانية، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [البقرة:138].


تفسير قوله تعالى: (قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ...)


ثم قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ [البقرة:139]، اليهود قالوا: كونوا يهوداً، والنصارى قالوا: كونوا نصارى، قل: أتحاجوننا في الله؟ تريدوننا أن نكفر به، أن نصفه بصفات العجز والنقص، ماذا تريدون من المحاجة في الله؟ أو المعنى: أتحاجوننا في دين الله. قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [البقرة:139]، نحن أعلم منكم بالله، أليس كذلك؟ أدنى مؤمن أعلم بالله من عامة اليهود والنصارى، فكيف يحاجوننا في ربنا، يريدون أن يجعلوه ثلاثة، يريدون أن يصفوه بصفات العجز كالإنسان كما يفعل اليهود، فهذا غير ممكن أبداً، قل لهم يا رسولنا: أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم أيضاً، أوليس بربهم؟ هل هناك من يقول: ليس بربنا؟ من خلقك أنت، من خلق أمك وأباك؟ من خلق الأرض تحتك والسماء فوقك، من أوجد هذا الكون، من خلقه؟ إنه الخالق، وهم يعترفون بهذا. وقوله: وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ [البقرة:139]، هذا فيه تهدئة للموقف، بعد الصراع أعلمهم أن أعمالنا لنا وأعمالكم لكم، من يجزي بها ويثيب عليها أو يعاقب؟ الله، أعمالكم إن كانت صالحة فأجرها لكم، وإن كانت فاسدة فجزاؤها عليكم، ونحن كذلك أعمالنا إن كانت مرضية لله وفق مراد الله أنتجت الطاقة النورانية وأثابنا عليها، وإن كانت مخالفة لرضا الله وما شرع فجزاؤها علينا: وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ [البقرة:139].

معنى قوله تعالى: (ونحن له مخلصون)

ولكن الختام الأخير: وَنَحْنُ لَهُ [البقرة:139]، لا لغيره، مُخْلِصُونَ [البقرة:139]، كل أقوالنا، كل أعمالنا، كل حركاتنا، كل سكناتنا، كل دنيانا لله عز وجل، ما عندنا غير الله، لا نلتفت إلى سوى الله عز وجل. ومعنى إخلاص العمل لله بيناه غير ما مرة، لماذا أنتم جالسون هنا؟ لله، لماذا تنصرفون؟ لله، وتتناول الطعام باسم الله وعلى ذكر الله، وتنام لله، والذين يخرجون ويذهبون إلى الباطل والشر هل عملهم لله؟ معاذ الله. وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [البقرة:139] أقوالنا، أعمالنا، نياتنا، حركاتنا، سكناتنا.. الكل خاص بالله، وهذا شأن المؤمن.وكثيراً ما نبين للسامعين أننا وقف على الله، والوقف كما يقال: هذا العمارة وقف على طلبة العلم، غلتها توزع عليهم، هذا البستان وقف على المسافرين، غلته تقسم عليهم ولا يأخذها واحد آخر، والمؤمن وقف على الله، إذا أكل يأكل من أجل الله، إذا شرب يشرب من أجل الله، إذا نام ينام من أجل الله، إذ استيقظ يستيقظ من أجل الله، إذا تزوج فوالله من أجل الله، وإذا طلق فوالله من أجل الله، وكيف يطلق من أجل الله؟ مؤمنة خاف أن يضر بحياتها، فلا بد أن يطلق حتى لا تشقى معه، أو خاف أن يلحقه ضرر هو، إذاً: يفارقها ليبقى عبداً لله معافى في دينه وبدنه، وكذلك يبني، يهدم، يبيع، يشتري، أعمالنا كلها لله. هل بلغكم قول الله تعالى: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156]، ما معنى (إنا لله)؟ فكيف تقول: أنا لله ولا تعطي الله منك شيئاً، فهذا كذب، من قال: إنا لله فمعناه: نقوم ونقعد، نبني، نهدم، نسافر، كل أعمالنا لوجه الله، أم نكذب فنقول: إنا لله ولا نعطي لله شيئاً! هذه خيانة، كيف يقال: هذا الوقف على فلان وما يعطيه ريالاً؟ هل يصح هذا الوقف؟ فنحن نقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، فلهذا لا نكرب ولا نحزن بوفاة أصدقائنا أو أبنائنا أو أهلينا؛ لأننا راجعون إلى الله، فكيف تكون راجعاً إليه وتكرب وتحزن؟ إذاً: إنا لله وإنا إليه راجعون.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #174  
قديم 20-09-2020, 05:39 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (93)
الحلقة (100)




تفسير سورة البقرة (2)

القرآن الكريم هو النور الذي يهتدي به المتقون، لأنهم من يتدبر آياته ويعمل بها، ولهذا وصفوا في أوائل آيات سورة البقرة بجملة صفات يجب على كل مسلم أن يتحلى بها، وهي الإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والإنفاق في سبيل الله، والإيمان بالكتب المنزلة، والإيمان باليوم الآخر، وبيّن القرآن أن من تحلى بهذه الصفات كان على هدى من ربه، وحاز الفوز في الدنيا والآخرة.

تابع تفسير قوله تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين)

الحمد لله نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! نراجع الآيات السابقة؛ إذ ما وفيناها حقها، ولا تدبرناها كما ينبغي، ولعل السر في ذلك اتباعنا للمكتوب، وهذا غير مجد؛ لأننا نريد أن نكتسب علماً ونوراً، ونريد أن نقف على تخلفنا وتأخرنا عن مسابقة السابقين؛ عل الله يدفع بنا فنسبق، والله يقول: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة:10-11].

القرآن الكريم في واقع المسلمين

قال ربنا تعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ [البقرة:2] هذا تعظيم وتضخيم لشأن القرآن العظيم، فهل عظمناه وأعلينا من شأنه، ورفعنا من قدره، أو ما زلنا نقرأه على الموتى، ونكتبه في حروز يعلقها المرضى على أنفسهم؟ وهل دخل هذا الكتاب المحاكم وأصبح مصدر التشريع وإصدار الأحكام الإلهية؟ سلوني أجبكم: لقد هجر الكتاب من عشرات بله من قرون عديدة إلا ما رحم الله، فلا يتحاكم إليه اثنان، ولا يجتمع على تلاوته وتدبره اثنان، فهو مهجور، ومن يوم أن هجر الكتاب انقطعت صلة هذه الأمة بربها، وهي تتخبط تخبط المجنون، فما عرفت الطريق بعد؛ لأن القرآن هو الروح وهو النور، وهل تتم حياة بدون روح؟ لا والله. وهل تتم هداية إلى خير .. إلى سعادة .. إلى كمال بدون نور؟ لا والله.وهذا الكتاب فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2] يهدي إلى أين؟ بأوجز العبارة: يهدي إلى العز والكمال .. إلى السعادة في هذه الدنيا وفي الآخرة، فهل سعد المؤمنون والمؤمنات؟ نعم سعدوا وكملوا يوم ما تمسكوا به، والتاريخ شاهد، ولا ينكر هذا إلا جاحد ومكابر.والله ما عرفت البشرية منذ أن كانت أمة أكمل، ولا أطهر، ولا أرحم، ولا أعدل، ولا أصفى من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في قرونها الثلاثة الأولى: عهد الصحابة، وعهد أبنائهم، وعهد أحفادهم.فما سبب عزهم وسعادتهم وكمالهم حتى سادوا العالم وأضاءوا المعمورة وأنقذوها من وهدة لا تتصورونها؟هل كان ذلك بعلوم الكون والذرة، والهيدروجين، والفلسفة، والمنطق، وعلوم التقنية والصناعة؟!الجواب: والله ما هو إلا الوحي الإلهي: قال الله .. قال رسوله، الكتاب والحكمة، وإن جهل المسلمون هذا فقد عرفه أعداؤهم. نعم عرفوا أن هذه الأمة سعدت وارتقت وفازت بالقرآن والسنة، فصرفوا الأمة عنهما إلى الآن صرفاً كاملاً إلا من رحم الله، وما زال المسلمون ما أفاقوا، والقائلون بالصحوة نقول لهم: نحن ما رأينا آثارها، نعم توفرت عوامل وأسباب كانت غير موجودة ومعدومة، ومن ذلك أن الاتصال المباشر بالطائرات والإذاعات وما يبث عبر الأثير حوَّل العالم كله إلى بلد واحد، وأما الصحف والكتب فقد صارت في يد كل من هب ودب، وصار لها تأثير وأوجدت نوعاً من الإفاقة، وكذلك الدعوة التي نهض بها رجال كان لها أثرها، لكن وضع المسلمين ما زال كما هو، فما السبب؟ لا سبب إلا الإعراض عن الكتاب والسنة فقط .. عن الروح والنور، والله يقول: فِيهِ هُدًى لمن؟ لِلْمُتَّقِينَ.مثلاً: لو كان هناك إناء فيه لبن عذب ومغذي، لكن الشارب لم يشربه، فهل ينتقل إليه الغذاء والري والشبع لمجرد أن في الإناء لبناً؟ الجواب: لا. ولو أن قصعة من الثريد بين يدي آكل ولم يأكل فهل يشبع ويتغذى؟ الجواب: لا.وكذلك القرآن، والله إنه لهدى، وفيه هدى، وإذا لم يؤمن به الإنسان، ويقرأه، ويتعرف إلى ما فيه، ويعمل بما فيه فلن يجد هداية أبداً، ولن ينتفع، فقوله: فِيهِ هُدًى [البقرة:2] أي: فيه غذاء، ولكن لمن يتناوله، ولهذا قال تعالى: لِلْمُتَّقِينَ أي: الذين يخافون عذاب الله ونقمه، ويخافون غضبه وسخطه، فهؤلاء الذين خافوا من الله أسرعوا إلى طاعته، وهؤلاء هم الذين يقرءون القرآن، ويتفهمون معانيه وما فيه، ويعملون به؛ لأنهم طالبو الوقاية، ولأنهم يجرون وراء النجاة. أما المعرض الذي لا يخاف الله، ولا يخشاه، ولا يفكر في عذاب، ولا شقاء، ولا حرمان، ولا خسران فلا يقرأ القرآن.

صفات المتقين

لقد ذكر الله تعالى صفات ينبغي أن تكون لنا، وأن نكون متصفين بها، ولا ندعها تمر هكذا مرور الرياح.معاشر المستمعين! عرفتم وتقرر عندكم أن ولاية الله متوقفة على الإيمان والتقوى، ومن فكر هذا التفكير، ومن تساءل: هل نحن مؤمنون؟ وهات القرآن نستعرضه يقرر إيماننا ويثبته أم يدفعنا بعيداً كأننا غير مؤمنين؟ثانياً: ما هي التقوى؟ وكيف يتقى عذاب الله ويجعل بينك وبينه وقاية؟عذاب الله لا يتقى بالأسوار العالية ولا بالجيوش الجرارة ولا بالسلاح القوي ولا بالشعوب القوية. عذاب الله لا يتقى إلا بالإسلام إليه؛ إسلام القلوب والوجوه والانطرح بين يديه، وبهذا يتقى الله.أما أنواع الوقاية الأخرى التي تعرفونها وتقي من الحر والبرد والجوع والعطش والمرض والموت فإنها لا تنفع، ولا يتقى بها عذاب الله.والله يتقى بالإسلام إليه، أسلم تسلم. أعط قلبك لله فلا يدور ولا يتقلب إلا طلباً لرضا الله عز وجل، والتقوى فعل الطاعات، وترك المكروهات.

من صفات المتقين: الإيمان بالغيب

قال تعالى في صفات المتقين: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3]، ومعنى هذا أنه أراد أن يقول: المتقون كيف أصبحوا متقين؟ فقال: لأنهم يؤمنون بالغيب، والغيب: ما غاب عن حواسك، فلا العين تبصر، ولا الأذن تسمع، ولا اللسان ينطق، ولا الجوارح تحس أو تشعر، فهو غيب كوجود الله عز وجل، ووجود النار؛ عالم الشقاء والخسران، ووجود الجنة؛ دار السلام، وما فيها من نعيم مقيم.وإن كانت الأدلة والبراهين تغلب ما هو مشاهد، لكن الذي يقرأ كتاب الله ويتدبر فيه ويتأمله في صدق يصبح يرى عالم الغيب كعالم الشهادة أو أشد، فالملائكة عالم غيب، والجن عالم غيب.المهم أن العبد إذا دخل في الإسلام ينبغي أن يصدق الله تعالى ورسوله في كل ما يخبران به، ولا ترد على الله وعلى رسوله خبراً أبداً، ذلكم الإيمان بالغيب.واعلم أن ما أخبر الله تعالى به، وما أخبر رسوله وصح الخبر عنه يستحيل أن يكون على خلاف ما أخبر الله، فالإيمان ركن الولاية، والإيمان كله إيمان بالغيب.إذاً في القرآن هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب، وأركان الإيمان ستة أركان، فإن سقط ركن انهار البناء وانهدم ولم يبقَ إيمان، وقد جاءت مبينة في كتاب الله، وبيّنها حديث جبريل الصحيح في هذا المسجد؛ إذ جاء جبريل عليه السلام في صورة دحية بن خليفة الكلبي ، وكان من رجالات العرب وساداتهم، فجاء والرسول صلى الله عليه وسلم جالس جلوسنا هذا وأمامه أصحابه، فشق الصفوف، ودنا حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضع يديه على ركبتيه، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، بمعنى: يعلمهم كيف تتلقى العلم، ما هو أنت تلتفت أو نائم، وأخذ يسأله عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، وأمارات الساعة، والشاهد قوله: ( أخبرني عن الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. قال: صدقت. قالت الصحابة: فعجبنا له يسأله ويصدقه ). وهذا معناه أنه عالم بالموضوع.وهذا الإيمان إذا امتلأ به القلب، وشعت أنواره، وخرجت على اللسان والسمع والبصر صير صاحبه أشبه بالملائكة في طهره، وصفائه، وكماله.

من صفات المتقين: إقامة الصلاة

قال تعالى بعد ذلك: وَيُقِيمُونَ الصَّلاة [البقرة:3].ما هو إقامة الصلاة عباد الله؟ إقامة الصلاة أن تؤدى على النحو والنهج والخطة التي وضعها الشارع، ومن ذلك أنها تؤدى في أوقاتها المنتظمة المحددة، فلا يحل تقديم لها ولا تأخير، وأن تستوفي شروطها من الطهارة الظاهرة والباطنة، وستر العورة، واستقبال القبلة، وأن تؤديها على نحو ما أداها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد أداها على نحو ما علمه جبريل إياها، فلما فرضت في السماء ونزل الرسول بها نزل جبريل يومين علمه كيفيتها، وحدد له أوقاتها.فالصلاة إذا لم تؤدَ على النحو الذي شرع الله وبين رسوله فإنها لا تثمر، ولا تنتج، ولا تولد الطاقة النورانية، ومن أراد أن يقف على الحقائق يجد أن ملايين المسلمين يصلون، ومع ذلك يتعاطون كبائر الذنوب والآثام.يخرجون من المسجد فيلغون في أعراض بعضهم البعض، ويخرجون من المسجد ويتعاطون المحرمات والخبائث، أين آثار الصلاة؟!إذاً: صلاتهم باطلة، ولا تساوي فلساً ولا درهماً؛ لأنها ما أنتجت، وما ولدت النور، واقرءوا قول الله عز وجل: وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45] ولو سائل قال: لم يا ألله؟ لقال تعالى مبيناً الحكمة في ذلك والعلة: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]. والرسول صلى الله عليه وسلم وهو أستاذ الحكمة ومعلمها يقول: ( من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له ) أي: والله لا صلاة له، وسبب بطلانها أنه ما أداها كما بينها رسول الله، وما أنتجت الطاقة واختل تركيبها وما أدت ثمرتها، وهذا أمر معقول.وكثيراً ما نقول: تجد المصلي يصلي أمام فقيه، فيقول له الفقيه: يا فلان! صلاتك باطلة. فيقول: لم يا أيها الفقيه؟ يقول: لأنك ما خشعت فيها، رأيتك تلعب، وما اطمأننت لا في ركوع، ولا في سجود، ولا في قيام، ولا في اعتدال.والفقيه لا يعرف إلا أنها صلاة باطلة قد فسدت، ونحن نقول: إنها ما ولدت النور، وما أنتجت الطاقة، واختل تركيبها، واختل أداؤها، ولهذا يخرج من المسجد ليعاقر الخمر والحشيش. إذاً: ما قال: يصلون، إنما قال: وَيُقِيمُونَ الصَّلاة .وقد قررنا قبل عشرات السنين والحمد لله رب العالمين وقلنا: والله الذي لا إله غيره لو أن أهل قرية أو مدينة أو إقليم أقاموا الصلاة لاستغنوا عن البوليس والشرط، وإذا لم يقيموا الصلاة فوالله لا ينفعهم لا بوليس ولا شرط، ولابد من الخبث، والشر، والفساد، وظلم العباد.ولو أننا ذهبنا إلى المسئول عن الأمن في المدينة وقلنا له: من فضلك أعطنا قائمة بالمخالفين أو المرتكبين للجرائم. فقال لنا: عندنا خمسمائة جريمة ارتكبت في هذا الشهر، هذا لعن أباه، وهذا سرق جاره، وهذا غنى مع امرأة فلان .. وغيرها من الجرائم والذنوب. ثم نقول له: إن وجدنا نسبة المقيمين للصلاة في ذلك العدد تتجاوز خمسة في المائة اذبحوني، نتحدى دائماً وأبداً، والله ما يوجد، الخمسة والتسعون الباقية هم من تاركي الصلاة، ومن العابثين بها. وتفضلوا زوروا الشرط واسألوهم يعطوكم قائمة بالمجرمين، فإن وجدتم أكثر من خمسة في المائة -والشذوذ يقع ولا حكم له- هم من المصلين فلكم أن تذبحوني.إذاً لمَ لا نلزم المسلمين بإقامة الصلاة؟! ولمَ ما نفرض عليهم ما فرض الله؟ ولمَ ما نمنعهم من أن يتجولوا في الشوارع والصلاة قائمة؟ ولمَ ما نطالبهم أن لا يتخلف عنها إلا ذو عذر كمرض أو خوف؟!قالوا: دعهم من شاء يصلي ومن شاء يغني. فامتلأت الدنيا بالخبث والشر والفساد، ونحن شبه أحياء أو أموات. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ [المائدة:55] يا عباد الله! الصلاة ميعاد، ولقاء مع الله تعالى، فمولاك وسيدك وربك ينتظرك في بيته وأنت تغني وتلهو وتلعب!والعالم الإسلامي ليس فيه إلا هذه الديار يؤمر أهلها بالصلاة، ومع هذا فيها المكر والكيد حتى لا يبقى من يقول: قم صل. وهذه الكلمة يتألم وينقبض منها الهابطون والساقطون.وأنا أقسم بالله ما تحقق أمن ولا طهر في هذه الديار على دولة عبد العزيز ما تحقق في أي بلاد وأي إقليم إلا في القرون الثلاثة، والسبب أنهم أقاموا الصلاة إجبارياً.والعدو يعمل ليل نهار، ويهول من شأن الأمر بالمعروف وإقامة الصلاة حتى لا يبقى هذا النور.إذاً إقام الصلاة هي مواعيد منتظمة مع رب الأرض والسماء، فيقف عبد الله بين يديه، يتكلم معه ويناجيه: يا رباه! لكن هذا اللقاء ينساه عبد الله بعدما يخرج، وهذا لا ينفعه، فالذي يدخل وهو غير شاعر لماذا دخل! يكبر ويهلل لا يدري مع من هو يتكلم، فهذه الصلاة لا تنتج له الطاقة المطلوبة.

يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #175  
قديم 20-09-2020, 05:39 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )

من صفات المتقين: الإنفاق

الصفة الثالثة: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:3] انظر: الصلاة والزكاة! الدنيا تحتاج إلى الزكاة، والآخرة تحتاج إلى الصلاة.نحن ما أمرنا أن نموت، وأن نذل ونهون حتى نمنع من عبادة الله، الدنيا والآخرة نعمل لهما معاً، وإن كنا نؤثر الآخرة عن الأولى لأنها خير وأبقى.وإن كان ولابد فإننا نعطي للدنيا ما تتطلبه من أجل أن نحفظ وجودنا لنعبد ربنا، فالإنفاق مقابل إقام الصلاة، والصلاة إذا أهملت وتركت وضيعت وعبث بها العابثون هبطت الأمة ولصقت بالأرض، والزكاة إذا منعت ما أصبح للأمة قدرة على أن تظهر أو تتحرك.والأمة الآن ثلاث وأربعون دولة، من إندونيسيا إلى المغرب إلى موريتانيا، هل جبيت فيها الزكاة كما كانت تجبى على عهد رسول الله؟ واسألوا الحكام والمسئولين ووزراء المال والاقتصاد والدولة لمَ ما يجبون الزكاة؟ هل هم في غنى وما هم في حاجة؟! نعم لو كانت تحتك الذهب وفوقك الذهب فهذه عبادة وطاعة كالصيام والصلاة، فيجب أن تجبى الزكاة، هل جبيت في الشرق والغرب؟ الجواب: والله ما جبيت إلا هنا فقط. لمَ؟ لأن هناك من يديرنا ويتصرف فينا حتى نلصق بالأرض، ولن يصبح لنا وجود بين الشعوب والأمم، فعرفوا أن الزكاة وجبايتها ترفع من شأن الأمة وتعزها ولا تذلها، فأهملوا هذه القاعدة كما أهملوا إقام الصلاة.والشعوب الإسلامية ادخل واخرج من شاء أن يصلي ومن شاء لا يصلي، بل يسخرون من المصلين ويستهزئون بهم، وخاصة في الدوائر والمناطق الرفيعة، ونقول: مسلمون، وننتظر الكمال والإسعاد! وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:3] يشمل الزكاة وغيرها.وهل تريدون الوجه الحقيقي؟لو اجتمع أهل قرية خمس مرات في بيت ربهم، لأصبحوا متعارفين ما بينهم مجهول، ثم وضعوا في مسجدهم صندوقاً لجباية الزكاة والكفارات والصدقات التي يتملق بها المؤمنون إلى ربهم، ونحن ليس عندنا لصوص؛ فأهل القرية كلهم أولياء الله، وإن جاء لص من القرية الثانية فلا يستطيع، لأن نور الإيمان يمزق بطنه، ولا يقوى على أن يدخل المسجد، وإن قلتم: ها أنتم جعلتم حراساً على بيوت المال والبنوك، نقول له: أما بيت الله فلا يحتاج؛ لأن هذا البيت سيكون كخلية النحل هذا راكع وهذا ساجد.فهذا المال -والله الذي لا إله غيره- ليفيضن على أهل القرية، فيتسع لفقرائها، ويسد حاجتهم وخلتهم ويفيض، وما خرجنا أبداً عن مبدأ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:3]، فكيف يوجد بينهم سارق، وكذاب، ومن يحلف بالباطل، ومن يستلف ولا يرد السلف ..؟! لا يوجد. لأنهم عرفوا الله، واجتمعوا في بيته طول حياتهم، يتلقون الكتاب والحكمة، أصبحوا كلهم علماء وحكماء وأولياء، ولا تسأل عن مظاهر السرف والترف والبذخ فهي لا توجد بينهم أبداً، وهذا المال إذا فاض حولوه إلى جهات أخرى، فلا تجد بينهم من يمد يده أبداً، ولا من تظهر عورته أو من لا يستره شيء، فهم متراحمون متعاونون؛ لأنهم جماعة يتهيئون للنزول في السماء السابعة.

من صفات المتقين: الإيمان بالكتب كلها

الصفة الرابعة: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة:4]، ومعنى هذا أنهم علماء، عقلاء، عرفاء، آمنوا بالوحي الإلهي سواء نزل على محمد صلى الله عليه وسلم أو على موسى أو على عيسى أو على داود أو على إبراهيم، وهاهنا أدخل الله أهل الكتاب المؤمنين في حظيرة الإسلام والمسلمين يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وهم نحن الذين ما سبق أن أعطانا الله كتاباً، والذين يؤمنون من قبل يعني: مؤمنو اليهود ومؤمنو النصارى، يؤمنون بالقرآن وبالتوراة والإنجيل.

من صفات المتقين: اليقين بوعد الآخرة

الصفة الخامسة: وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:4] المراد من الآخرة الحياة الآخرة، وهذه الحياة تسمى الأولى؛ لأنها سبقت الثانية، ولما تنتهي هذه الحياة بموتنا وانتهاء هذا الكون وتحويله إلى سديم وبخار هناك حياة أخرى وراء هذه تسمى الدار الآخرة، والحياة الآخرة، وتسمى الآخرة. وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ فاليقين أكثر من الإيمان، علم طغى وعلت أنواره وأصبح يقيناً يرضى به العبد أن يمزق ويقتل ويصلب، ولا يستطيع أحد أن ينكره أبداً.(وبالآخرة) أي: بكل ما فيها من الحشر، والنشر، وتطاير الصحف، والميزان، والصراط، ودخول الجنة، ودخول النار.(هم يوقنون) ما قال: يؤمنون بل (يوقنون) فالنفس تهدأ وتستقر، ولا يبقى قلق ولا اضطراب ولا شك.

الفلاح للمتقين

اسمع البيان الأخير أُوْلَئِكَ أين هم أكمل الخلق وأعلاهم وأصفاهم؟ أشار إليهم بلام البعد، وما هم هابطين مثلنا، أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:5] أصبح الهدى كالفرس وهم راكبون عليه، فلا يتزعزعون، ولا يتضعضعون أبداً، ولا يمكن أن ينحازوا أو يهبطوا أو يسقطوا، فهم متمكنون؛ لأن إيمانهم بالغيب، وإقامهم للصلاة، وإنفاقهم جعلهم متمكنين من عقيدتهم.قال تعالى: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5] فأولئك هم وحدهم المفلحون، وما عداهم هم الخاسرون.والفلاح مأخوذ من فلح الأرض إذا شقها، والفلاح فسره تعالى بالفوز فقال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، وفسره في قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185] هذا إعلان، هل هناك من يقول: لا ..لا، إلا نحن ما نموت. وهل استطاعت البلشفية الحمراء -روسيا- أن تتعدى هذا وتقول: لا، عندنا قدرة على أن لا يموت الرئيس؟ مات ستالين أو لا! ومات لينين أو لا! ومات خروتشوف أو لا! مات مات .. ماتوا جميعاً، كيف يموتون؟ مع هذه الصناعة، وهذا التطور، وهذا الرقي يموتون؟! نعم؛ لأن حكم الله صدر كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185] والموت يذاق أو لا؟ سوف تذوقونه، آلام ومرارة، ما تستطيع أن تدركها بأي شعور عندك أو إحساس. وقال تعالى: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا [النازعات:1-2] قطعة القماش الحريرية إذا أخذتها وألقيتها على شجرة السدر ذات الشوك وجذبتها فكل خيط يلصق، وهذا أهون من نزع الروح. مع أن أرواح أولياء الله المؤمنين المتقين تسيل كقطرة الماء من السقاية وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا [النازعات:1-2].والرسول صلى الله عليه وسلم وهو في مرض الموت يعاني، ويضع يده في ركوة ماء ويمسح على وجهه في اللحظات الأخيرة ويقول: ( إن للموت لسكرات، اللهم في الرفيق الأعلى )، وفاضت روحه وهو ينظر إليها.وخيرنا من يلازم باب الله حتى لا يبعد، بل يموت وهو يقول: لا إله إلا الله. كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185].أيها العمال! اعملوا ولا تطالبوا بالأجر اليوم؛ لأن الأجرة يستلمها العامل عند نهاية العمل، فإذا كانت مياومة ففي آخر المساء، وإذ كانت مشاهرة ففي نهاية الشهر، وإذا كانت معاومة ففي نهاية العام، فلِم تطالبون بالأجرة مع الله في يومها؟ أكملوا يومكم! وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185] فمن عمل خيراً أو عمل شراً فإنه لا يستلم الأجر هاهنا، فهذه دار عمل ولا تطالب بالأجر أبداً؛ لأن الأجر ليس في هذه الدار. قالوا: ما نعمل ولا نأخذ أجراً. تضحكون على من أدار الكون كله، وأوجد الحكمة!واسمع هذا البيان العجيب: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، فلا دينار ولا درهم، ولا ذهب ولا فضة، والذي يزحزح عن النار بعيداً ويدخل الجنة فهذا هو الذي أفلح وفاز، وهل هناك فوز أعظم من أن تنجو من مرهوبك ومخوفك، وقلقك وحيرتك، وتستقر في دار السلام؟! اللهم اجعلنا من أهلها!

تفسير قوله تعالى: (إن الذي كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون)

قال تعالى بعد ذلك: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6] لِم؟ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:7] من هؤلاء؟ والله لا ندري، ولعلنا منهم ونحن لا ندري؟!قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وهذه هي البلية والمحنة، فقد جاءتهم من كفرهم، ومعنى كفروا: لم يؤمنوا، فجحدوا، وكذبوا، وما صدقوا، لا بتوحيد الله ولا بنبوة رسول الله. أي: ما قالوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. وهناك صنف آخر ما توغلوا في الكفر والعناد والتكذيب والجدال واللجاج والخصومة، وهؤلاء بالإمكان أن يؤمنوا، فواصل أيها الداعية دعوتك، ولا تلتفت لا يميناً ولا شمالاً! وامض في طريق الدعوة.واعلم أن الذين تواجههم الدعوة صنفان:صنف حرموا الإيمان، عملوا .. عملوا وليس فيهم بقية تقبل الإيمان، ولو وضعت بين أيديهم ما شئت من المعجزات لم يؤمنوا، بل يسخرون ويضحكون.وآخرون .. لا، كفروا حقاً ولكن ما توغلوا في الكفر، وما فعلوا عجائب الذنوب والآثام، فهؤلاء مستعدون لأن يقبلوا الدعوة ويدخلوا في الإسلام. لكن هناك نوع آخر هم الذين قال تعالى فيهم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ خوفتهم أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6]، وليس معنى هذا: اترك دعوتهم يا رسولنا .. لا، فقط: حتى لا تكرب، ولا تحزن، ولا تتألم إذا واجهوك بالعناد والمكابرة والتكذيب، وأنت معهم ليلاً ونهاراً، تنذرهم وتخوفهم وهم يزدادون في طغيانهم طغياناً، فهؤلاء يستوي إنذارك لهم وعدمه. فاعرف هذا النوع؛ حتى لا تحزن، ولا تترك الدعوة، وواصلها.سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6] وقد عرفنا منهم: أبا لهب ، أبا جهل ، الوليد بن المغيرة ، العاص بن وائل وفلاناً وفلاناً، فهؤلاء كلهم ماتوا على الكفر، وكم دعاهم رسول الله؟ وكم أنذرهم؟ أكثر من عشر سنوات وهم مصرون.

تفسير قوله تعالى: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ...)

قال تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ [البقرة:7]، فسبب الإعراض وعدم الإيمان أن الله ختم على قلوبهم.والختم ليس بختم غلاف البريد، وأصل الختم كان بالطين .. بالحديد .. على الكيس وعلى الإناء حتى ما يدخله شيء، والآن الختم يكون على الظرف حتى لا يفتح، لكن الأصل أن أي إناء فيه عسل .. فيه زيت .. فيه مال يختم، ويصب عليه نوع من الرصاص أو من النحاس حتى لا يدخل إليه شيء، فهذا هو الختم. خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ [البقرة:7]، فهم لا يسمعون، فهؤلاء الذين قد ختم الله على قلوبهم وأسماعهم تجد أنهم قد ألفوا الأغاني، والباطل، والهرج، والعبث، والسخريات، فلا يسمعون الحق، ولا يبصرونه أبداً، والذين ألفوا الباطل وتمرنوا عليه وعاشوه لا تستطيع أن تردهم إلى الحق والخير، ففقدوا هذه الحاسة، وما أصبحوا يتلذذون إلا بسماع الباطل، لكثرة المران والرياضة، فهم سنوات عديدة لا يسمعون شيئاً اسمه حق أو معروف، كأنما ختم على أسماعهم، فلا يدخل أبداً الكلام الطيب، يضحكون ويسخرون.وقوله: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [البقرة:7] هذا أولاً، حتى ما ينفذ إليها نور الإيمان، ولِم ختم الله عليهم؟! هل ظلمهم؟ لا والله، إنما هي سنته في من يألف الباطل والشر، حتى يمتلئ قلبه، وينطبع بطابع، فلا يقبل المعروف، وهذه سنة الله؛ لأن الله ختم على قلبه. وَعَلَى سَمْعِهِمْ والختم على السمع كذلك، فيسمع الشر والفساد والخبث ويضحك، ويعبث سنيناً، ثم لا يقبل الهدى. وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ أما الأبصار فعليها غشاوة، كالبياض على العين فلا يبصر؛ لأنه أصبح لا يفكر ولا ينظر في الحياة أبداً، ولا يعرف إلا شهوته وأطماعه وغرائزه، وما يريد أن يصل إليه من أمور الدنيا.وهنا محطة أننا إن أردنا أن ننجو من هذه الفتنة فعلينا: أولاً: أن نفتح قلوبنا لذكر الله، وأن نروضها لتصغي وتسمع كلمات الهدى، وتنفر من كلمات الضلال، خشية أن نصاب بهذه الفتنة، ويصبح قلب أحدنا لا يرتاح لذكر الله أبداً، ولا يرتاح إلا إذا ذكرت الباطل والشر والفساد.إذاً هذه القلوب لابد من رعايتها، ولابد من رياضتها، حتى تسلم من أن ينزل بها ختم كهذا فنهلك.ثانياً: علينا أن نروض أسماعنا على سماع الخير والمعروف والهدى، ونجنبها سماع الباطل من الكذب والأغاني وأي باطل. وكل ما لا يحقق لك درهماً لمعاشك ولا حسنة لمعادك فهو لغو وباطل، وأولياء الله عن اللغو معرضون، فما عندنا أبداً وقت لا يرانا الله تعالى فيه عاملين على رضاه.إذاً: أسماعنا نحفظها من أن تسمع الباطل.وهنا محنة أن يوجد بيت مجاور لنا فيه من يدعي أنه مسلم وفي مدينة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعنده تلفاز تظهر فيه امرأة عاهرة ترقص وتغني في بيته، وهو يسمع وامرأته وأولاده كذلك يسمعون، فتيان وفتيات يشاهدون امرأة عاهرة ترقص وتغني في بيته! فكيف يسلم قلب هذا! ومن يضمن أنه يموت على الإيمان؟ هذا أمر عجب. وقد كتبنا إلى صاحب هذا البيت كتاباً ولو كان في قلبه إيمان لأغمي عليه، لكنه ما تحرك أبداً، وبقي الدش هكذا! كأنه يقول: أتحداك يا محمد.أتظنون رسول الله صلى الله عليه وسلم يرضى لكم بهذا؟ هل يرضى أن تسمع عاهرة تغني في بيتك، ويسمعها ابنك وهو يتقزز ويتألم، وتسمعها امرأتك، كيف يمكن هذا؟!هذا والله العظيم يخشى أن يموت على سوء الخاتمة، فيموت وهو غافل لا يدري أو يغني أو السيجارة في يده، فما عرف الله ولا ذكره؛ لأن هذا الختم الإلهي هو حسب سنة الله، ليس فجأة أن تجد الإنسان يصلي ثم يختم على قلبه، حاشا لله، ولكن بعد الاستمرار على المعصية ومواصلتها يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام، فيأتي الختم الإلهي، ويصبح يتقزز من كلمة الله.وقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6]، يعني: أفراداً بأعيانهم علمهم الله، والرسول لا يعلمهم، ولكن يهون الله على رسوله من الكرب والحزن إذا ما استجابوا له؛ بأن الله سبق أن ختم على قلوبهم وعلى سمعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة، وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ والعياذ بالله.وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #176  
قديم 23-09-2020, 03:55 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (94)
الحلقة (101)




تفسير سورة البقرة (61)

نعى الله عز وجل على اليهود والنصارى الجدال والمحاجة في الله عز وجل، وعاب عليهم الافتراء عليه سبحانه والتقول عليه بغير علم، فمنهم الذين زعموا لله الولد والصاحبة، ومنهم الذين زعموا أنه ثالث ثلاثة، ومنهم الذين زعموا أنهم أولياء الله وأحباؤه وخيرته من خلقه وأصفياؤه، وهم في كل ذلك كذبة مفترون، ولنبوة محمد خاتم الأنبياء والرسل جاحدون، ولما أخذ الله عز وجل عليهم من العهد والميثاق كاتمون، فاستحقوا بذلك أن يكونوا ملعونين، ومن رحمة الله ورضوانه مطرودين.
تابع تفسير قوله تعالى: (قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ...)

ابتداء الصراع واستمراره بين المسلمين وأهل الكتاب

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ * أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:139-141].. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أعيد إلى أذهان المستمعين تذكيراً للناسين وتعليماً لغير العالمين أن الصراع بين أهل الكتاب والمسلمين صراع بدأ من ساعة أن حل الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه المدينة، والبداية الحقيقية من وقعة بدر في السنة الثانية من الهجرة، وما زال الصراع إلى الآن وإلى أن تقوم الساعة. والمراد من أهل الكتاب اليهود والنصارى، اليهود يعتزون باليهودية وهي بدعة ابتدعوها ولم يشرعها الله عز وجل، ولم ينزل بها كتاب، ولم يتفوه بها نبي ولا رسول، والنصارى كذلك ابتدعوا النصرانية وجعلوها ملة وعقيدة وديناً، بل ونظاماً، وهم يصارعون الإسلام مصارعة عنيفة.ومن هنا كانت سورة البقرة من أولها إلى هذه الآيات وإلى ما بعدها وهي تبين لهم الطريق وتشرح لهم ما تنشرح له الصدور وتطيب له القلوب والنفوس، فمن أراد الله إكرامه وإنعامه وإسعاده استجاب للدعوة، ودخل في رحمة الله وأصبح من أولياء الله، ومن لم يكتب الله تعالى له السعادة أصر على يهوديته أو نصرانيته وما سكن ولا سكت، وما زال إلى الآن يضرب الإسلام بأشد قوة.

وقوف اليهود والنصارى وراء الفساد في العالم الإسلامي

وخطر ببالي أن أذكر أن هذا الفساد الذي انتشر في العالم الإسلامي سببه اليهود والنصارى، نذكر ولا حرج أنه شاع في ديار الإسلام ضروب من الكبائر يندى لها جبين العاقل، فالربا من سنه ومن قننه ومن جعله نظاماً عاماً تعيش عليه البشرية؟ إنهم اليهود عليهم لعائن الله، حتى السحر من نشره في العالم الإسلامي وأصبح المسلمون نساءً ورجالاً يعانون من هذه الفتنة؟ اليهود هم أهل السحر. وكشف الوجوه والعري والاختلاط بين النساء والرجال وإشاعة الزنا -والعياذ بالله- ما هي عوامله؟ اليهود والنصارى، وزادوا الطين بلة -كما يقولون- في هذه الآلات الناقلة للأصوات والصور فملئوا بها بيوت المسلمين، فهجرتها الملائكة وحلت محلها الشياطين فانتشر الفحش والدمار. لو تتبعنا ما نسميه بحضارة خطوة خطوة فسنجد أنها الدمار لا الحضارة، الخراب لا العمران، البادية أرحم وأحسن.

توبيخ أهل الكتاب في محاجتهم المسلمين في الله تعالى

اذكروا هذا واسمعوا هذا الكلام الإلهي، فماذا يقول ربنا؟ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ [البقرة:139] من القائل؟ الله، من الذي قال له: قل؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قل يا رسولنا أيها المبلغ عنا، قل يا محمد صلى الله عليه وسلم، قل لأهل الكتاب من اليهود والنصارى، قل لهم موبخاً مقرعاً مؤدباً: أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ [البقرة:139] نحن أعرف منكم بالله، نحن أعلم منكم بالله، نحن أولياءه، وأنتم تدعون أنكم أولياء الله، يدعون أنهم أولى بالله من المسلمين ويفترون الكذب ويختلقون الأباطيل، ومن بين ذلك اليهودية والنصرانية، وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18] هذه الدعوة الفارغة الباطلة تعالى الله عن مثلها، هل أنتم أبناء الله؟! تعالى الله عن أن يلد أو يولد: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4] . وادعوا فقالوا: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:140]، والله! ما عرفوا اليهودية ولا سمعوا بها، ولا عرفوا نصرانية ولا سمعوا بها قط، ويلصقون هذه الأباطيل بأولئك الأنبياء المصطفين الأخيار، ليفحموا المسلمين في نظرهم، والله ولي المؤمنين، ومن كان الله وليه لا ينهزم ولا ينكسر، فها هو ذا تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ [البقرة:139]، أي: خالقنا وخالقكم، رازقنا ورازقكم، معبودنا الحق ومعبودكم، سيدنا وسيدكم، كيف تحاجوننا فيه وتجادلون وتقولون: نحن أولى بالله منكم؟! كيف جاءت هذه الولاية؟! أللإيمان الهابط الساقط الباطل، أو لتقواكم التي لا وجود لها، فالعهر والفجور والربا وسفك الدماء والشر والخبث كله في وسطهم، ويدعون ولاية الله! أولياء الله هم المؤمنون الصادقون في إيمانهم المتقون لربهم الذين لم يخرجوا عن طاعته ولم يفسقوا عن أمره في اعتقاد ولا قول ولا عمل. أما الذين ما عرفوا الله حق المعرفة، ما آمنوا به حق الإيمان، الذين يقولون في الله: إنه ولد وإن له ولداً، فهل آمنوا بالله؟ لقد آمنوا بالشيطان، والذين يشبهون الله بمخلوقاته ويقولون: إنه ينسى ويعطي ويتراجع، وهذا مذهب اليهود لعنة الله عليهم، أهذا الإيمان يكونون به أولياء؟ أما التقوى فأين التقوى؟ أين اتقاء ما سخط الله وغضب عليه؟ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [البقرة:139] هذه كلمات الله البينة الفاصلة التي تقطع هذا الحجاج الباطل والجدال الذي لا معنى له، يقول: كيف تجادلوننا في الله وهو ربنا وربكم، ليس ربكم وحدكم بل ربنا وربكم، لكن عرفناه وما عرفتموه، أطعناه وعصيتموه، استجبنا له وأعرضتم عن ندائه واستجبتم للشياطين!

حقيقة أعمال المؤمنين وأعمال الكفرة من أهل الكتاب

وخلاصة القول: وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ [البقرة:139] أعمالهم ما هي؟ كل ضروب الفسق والفجور والفساد هي أعمال اليهود والنصارى، المكر والخداع والغش والتضليل والحيل والباطل، ولكن أعمالهم سوف يجزون بها. وَلَنَا أَعْمَالُنَا [البقرة:139] وما هي أعمال المسلمين؟ استقامة على منهج الله، إذا أذن الله في الكلمة قلناها، وإذا لم يأذن فيها صمتنا وسكتنا، نظرة أذن فيها نظرنا، وإن منعنا امتنعنا، لقمة عيش أذن فيها أكلناها، وإن لم يأذن تركناها، هذه الأعمال التي ترضي الله عنا وتحببنا إليه وتحببه إلينا، هذه الأعمال المزكية للنفس المطهرة للروح البشرية. أعمال شرعها وأودع فيها قوة التأثير في تزكية النفس والتطهير، لا بدع وضلالات وخرافات يضعها القسس والرهبان والأحبار ويقدمونها لأولئك البلداء الأغبياء الضالين فيسومونهم ويسوسونهم كما تسام البهائم. فمن هؤلاء المخاطبون؟ إنهم أهل الكتاب، يقول لهم: أتؤمنون بالله وتكفرون برسوله؟! تؤمنون بالله وتجادلون فيه وتكذبون كلامه وكتابه وتنكرونه؟! أي مس في العقل أكثر من هذا؟! تقولون: نحن أبناء الله وأولياء الله، ها هو ذا تعالى قد أنزل كتابه القرآن العظيم فكيف تردونه؟ كيف تنكرونه؟ بأي منطق أو حجة أو ذوق؟ واصطفى رسولاً وأرسله، وعندكم صفاته كاملة وافية، وتحرفون وتؤولون وتغطون وتجحدون وتضللون أتباعكم ولا تؤمنون بخاتم الأنبياء!

المفارقة بين المؤمنين وكفرة أهل الكتاب في الإخلاص

وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [البقرة:139]، هذه كلمتنا نحن أيها المسلمون، وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [البقرة:139]، أما هم فمخلصون للدنيا، والله! ما أخلصوا إلا لأهوائهم وشهواتهم وأطماعهم وأغراضهم السافلة المادية، فلو أخلصوا قلوبهم لله وأعمالهم لما باتوا ليلة واحدة على يهودية مبتدعة ولا على نصرانية باطلة لا تقوم على أساس ولا منطق ولا عقل ولا ذوق، فضلاً عن الوحي الإلهي، وهم مصرون عليها ويدعون إليها ويحاربون الإسلام حرباً شعواء حتى لا يظهر هذا الإسلام. وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [البقرة:139] أخلصنا له ماذا يا عباد الله؟ أخلصنا له قلوبنا، فقلب المسلم الحق لا يتقلب طول حياته إلى طلباً لمرضاة الله، قلب المؤمن المسلم -لا بالنسبة ولكن بالحق- دائماً يريد الله، لا هم له إلا رضا الله عز وجل، أسلمنا جوارحنا لا نعطي ولا نأخذ لا نرفع ولا نضع إلا بإذنه وبرضاه وكيفما يريد منا. فهل أنتم - معشر اليهود والنصارى- فعلتم هذا؟ هل أخلص اليهود والنصارى شيئاً لله؟ لا شيء، ولكن بما أنهم يجادلون ويحاجون فالله عز وجل يبين لرسوله صلى الله عليه وسلم كيف يرد أباطيلهم ويمزق حججهم الهاوية.

حقيقة الإخلاص وأهميته

معاشر المستمعين! هذه تعنينا أكثر، أتعرفون ما هو الإخلاص؟ هل نحن مأمورون بالإخلاص؟ ما هي سورة الإخلاص؟ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4] . ومن سورة تنزيل الزمر: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ [الزمر:1-2]. ومن سورة البينة: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5] . خلاصة ما أقول للمستمعين والمستمعات في هذا الأصل: أن الإخلاص هو عنصر العبادة، متى تأكد ووجد أمكن للعبد أن يستفيد من عبادته، فإن ضعف هذا الأصل بطلت العبادة ولا أثر لها في النفس، الإخلاص أن تريد بحياتك وجه الله، تقول، تعمل، تبني، تتزوج، تطلق، تسافر، تقوم، تقعد، دائماً تريد الله. الإخلاص: ألا تلتفت بقلبك إلى غير الله، ترابط السنة والسنتين والعشر وأنت رابط نفسك في حدود وثغور دار الإسلام لا تريد جزاءً إلا من الله، تنفق أموالك وتضعها في أيدي المحاويج والفقراء والمساكين ولا تريد أن يقال: فلان منفق أو فلان يتصدق، تبيت راكعاً ساجداً بوجهك لا يراك أحد ولا يسمع أحد أنك صليت ولا قمت، تطلب العلم من أول ساعة إلى أن تتخرج لا هم لك إلا وجه الله. فالإخلاص معناه: جعل العمل كله لله، إذ هو الخالق هو الرازق هو الإله الحق، ونحن له مخلصون، نحن له مسلمون، فكل أعمالنا له، فمن صرف من أعماله شيئاً إلى غير الله فما أخلص بل أشرك. وهذا الإخلاص يحتاج إلى مقاومة النفس ومجاهدتها، ويساعدك على هذا أن تعيش وأنت تشعر أنك بين يدي الله، يرى حركاتك وسكناتك، يسمع دقات قلبك وما يخطر ببالك، فهذه المراقبة هي التي تساعد على الإخلاص. واعلم أن الخلق كلهم لا يساوون شيئاً، ليس بينهم من يحيي ولا من يميت، لا من يعطي ولا من يمنع، ولا من يضر ولا من ينفع، وإنما الضر والنفع هو بيد الله، والمعطي والمانع هو الله، والمحيي والمميت هو الله، لا تغفل يا مؤمن وتظن أن القضية سهلة، لا بد من جهاد نفسك. واذكروا دائماً أننا وقف على الله، واقرءوا قول الله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]، وهل بعد الحياة والممات شيء؟ لا شيء.

تفسير قوله تعالى: (أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى ...)

ثم يقول تعالى لرسوله: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:140]، الاستفهام هنا للتقريع، أتقولون: إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط -وهم أولاد يعقوب الاثني عشر- كانوا يهوداً أو نصارى؟ النصارى يقولون: كانوا نصارى، واليهود يقولون: كانوا يهوداً. والله! ما سمعوا باليهودية ولا بالنصرانية، فاليهودية متى وجدت؟ على عهد موسى، لما فسقوا وظلموا وخرجوا عن طاعة الله أعلنوا عن توبتهم في مواقف وقالوا: إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ [الأعراف:156]، فمن ثم عرف بينهم لفظ اليهود. والنصارى من متى؟ قبل نبينا بخمسمائة سنة فقط، قال الحواريون: يا عيسى نحن أنصار الله، فهو الذي قال: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ [آل عمران:52]، فمن ثم وجدت كلمة نصارى، فكيف يكون إبراهيم وأحفاده يهوداً ونصارى. ومن سورة آل عمران قال تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا [آل عمران:67]، إذاً: يوبخهم ويقرعهم بهذا الاستفهام، أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:140]، اليهود يقولون: (كانوا هوداً)، والنصارى يقولون: (كانوا نصارى)، أما رؤساؤهم من الأحبار والقسس فهم يعرفون أن هذه أباطيل وترهات ليخدعوا بها العوام ويضللوا بها الناس، وإلا فكيف توجد يهودية ونصرانية على عهد إبراهيم وولده إسحاق ويعقوب وأحفاده، كيف يمكن هذا؟ ولكن حب الدنيا والطمع وحب السلطة والسيطرة على القلوب، لكن القرآن فضحهم فما استطاعوا أن يقفوا أمام هذه الآيات القرآنية.



يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #177  
قديم 23-09-2020, 03:56 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )

معنى قوله تعالى: (قل أأنتم أعلم أم الله)

واسمع ماذا يقول تعالى: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140]؟ فإن قالوا: نحن أعلم كفروا وكذبوا وانتهى أمرهم، وتمزقت رابطتهم. قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140]، قل لهم يا رسولنا: أخبروني: أنتم أعلم أم الله؟ فإن قالوا: نحن أعلم كفروا، ولا كلام معهم ولا جدال، وإن قالوا: الله أعلم انقطعوا، فالله نفى أن يكون الأنبياء والرسل يهوداً أو نصارى، وبهذا قطع ألسنتهم. فمن علم رسولنا هذه الحجة؟ الله جل جلاله وعظم سلطانه، قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140]، فإن قالوا: الله أعلم قلنا: الحمد لله، فالله نفى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67]، وإن قالوا: نحن أعلم فلا كلام معهم لأنهم كفروا، ادعوا العلم فوق الله والله عليم بكل شيء، والله معلم كل ذي علم، فقطع الله بهذه الجملة خصومتهم، أسكتهم تماماً، فماذا يقولون؟ إن قالوا: نحن أعلم كفروا وكذبوا ولا يقبل منهم جدال ولا صراع ولا كلام، وإن قالوا: الله أعلم فالله نفى أن يكون إبراهيم وأولاده وأحفاده يهوداً أو نصارى، وقرر وأثبت أنهم كانوا مسلمين.


معنى قوله تعالى: (ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله)


ثم قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ [البقرة:140] هذه لنا جميعاً، اسمعوا هذه الكلمة الإلهية: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ [البقرة:140] الجواب: لا أظلم منه والله، لا يوجد ظلم أعظم من هذا أبداً، لا يوجد ظالم أعظم ممن يكتم شهادة عنده من الله ويخفيها ويسترها ويغطيها. ومعنى هذا -والله- أن اليهود والنصارى بأحبارهم ورهبانهم وقسسهم وأتباعهم ظلمة، الكل ظالم لا أظلم منهم، أي ظلم أفظع من أن ينسب إلى الله العلي الحكيم القوي القدير الولد؟ وهم يعرفون أم عيسى وأنها مريم ويقولون: عيسى ابن الله، أي ظلم أفظع وأعظم من هذا الظلم؟! ينسبون إلى الله ما هو منزه ومقدس عنه وهم يعلمون بأن هذا لن يكون أبداً ولا يعقل، ومع هذا يشيعونه في أتباعهم والمتبعين لهم في الشرق والغرب ويقولون: الإله مكون من ثلاثة أقانيم: الرب والابن وروح المقدس، ومرة يقولون: الابن والأب وروح القدس. إذاً: فالشهادة التي عندهم وكتموها ولم يخبروا بها هي ما عندهم من صفات النبي صلى الله عليه وسلم ونعوته التي تكاد تصرخ بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو نبي آخر الزمان، وأن رسالته عامة للأبيض والأصفر، وأنه لا نبي بعده، وأنه هو الذي يدعو إلى الإسلام، فهذه موجودة فكيف يكتمونها؟ إذاً: هل يوجد من هو أظلم من اليهود والنصارى؟ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ [البقرة:140]؛ لأن الله أخذ عليهم العهد والميثاق أن يبينوا للناس صفات ونعوت النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد جاء من سورة آل عمران: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [آل عمران:81] . أخذ الله على جميع الرسل والأنبياء -وأممهم تابعة لهم- إذا بعث الله نبياً وجب أن يؤمنوا به وأن يتابعوه، وخاصة خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم. إذاً: الآية تقول: إن اليهود والنصارى جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكتموها وهي شهادة في أعناقهم، أخذ عليهم العهد والميثاق ألا يكتموها وها هم أولاء قد كتموها، فمن أظلم منهم؟ لو سئلت عمن هو أظلم من اليهود والنصارى فتقول: لا أحد أظلم منهم، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:140].

الأمر بالإخلاص وتحريم كتمان الشهادة وقولها زوراً

معاشر المستمعين والمستمعات! هذا يتعلق بنا: الإخلاص والشهادة، فكما نحن مأمورون بالإخلاص أمر الأولون بالإخلاص، فلتكن أعمالنا ونياتنا وإراداتنا وتحركاتنا كلها مراداً بها وجه الله. أعيد القول: الإخلاص حلقة إذا انقطعت سقط العبد، فإذا تمت واستحكمت استمسك بحبل الله وثبت، فلتكن نياتنا وإراداتنا وخواطرنا وحركاتنا وسكناتنا، ليكن المراد من ذلك هو الله. ثانياً: ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله، مثلاً: استشهدك فلان وفلان في قضية من قضايا الحياة وكنت الشاهد، هل يصح منك أو يجوز لك أن تكتم هذه الشهادة وتخفيها وتجحدها؟ والله! ما جاز ولا صح. ولنعرف أن كتمان الشهادة -والعياذ بالله- كشهادة الزور من أعظم الذنوب عند الله، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه بطريق السؤال والجواب فيقول لهم: ( اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: وما هي يا رسول الله؟ فقال: الشرك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور، حتى تمنى أصحابه أن لو سكت ). ومع الأسف ما أعطينا للشهادة قيمتها أبداً، فترى الرجل يشهد مع الرجل لا لشيء إلا لمجرد أدنى علاقة مادية، ونحن مأمورون أن نشهد على أنفسنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا [النساء:135] . إذاً: شهادة الزور من أكبر الكبائر عند الله، وها هو ذا تعالى يقول لليهود والنصارى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:140] وعما نعمل وعما يعمل كل عامل. فلتكن هذه من مقتضيات حياتنا التي لا تفارقنا، أن لا نقول إلا حقاً ولا نشهد إلا بحق، وأن نتجنب قول الزور وشهادته، ما ننطق بالكذب حتى ولو كان لا يترتب عليه شيء، ألسنتنا صادقة، وقلوبنا وألسنتنا متحدة، القلب طاهر واللسان يعرب عن تلك الطهارة، أما الكذب، أما المنطق السيء، أما الباطل سواء في طالب شهادة أو في غير شهادة فكل هذا ليس لنا؛ لأننا مسلمون ومخلصون، فكيف للمخلص أن يلتفت إلى غير الله يرهبه أو يخاف أو يطمع فيه؟ وكيف لمن أسلم قلبه لله ووجهه أن ينطق بالباطل ويشهد بالزور ليمنع حقاً من حقوق الناس أو ليرتب على آخر حقاً ليس هو له؟

معنى قوله تعالى: (وما الله بغافل عما تعملون)

وهكذا يقول تعالى لهؤلاء اليهود والنصارى: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:140]، لا يغفل الله عن أعمالنا؛ إذ أعمالنا كلها هو خالقها، كتبها وقدرها قبل أن نكون ونحن بين يديه لا يعزب عنه من أمرنا شيء وإن كان مثقال ذرة، وقد عرفتم أن العوالم كلها في قبضته، فمن هو الذي يخفى عن الله أو يغيب عن الله؟ فأعمالنا كلها معلومة مقدرة، وهي لا تقع إلا على رؤية الله عز وجل وسمعه.

تفسير قوله تعالى: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ...)

وأخيراً قال تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ [البقرة:141]، الإشارة إلى من سبق من عهد إبراهيم إلى بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، هم يجادلون في الماضي ويتمسكون بأمجاد أجدادهم وآبائهم وهذا لا ينفع، والله! لا ينفع، لو كنت ابن نبي فلن يجديك ذلك شيئاً.وقد بين تعالى لنا هذه الحقيقة، وهي أننا نؤاخذ بكسبنا لا بكسب آبائنا وأجدادنا، ونعطى وننتصر ونفوز ونربح بكسبنا لا بكسب الآباء والأجداد أبداً، فهذه قضية معلومة بالضرورة، وهي أن الطمع الذي نعيش عليه -أن نسكن دار السلام، أن ننزل الجنة دار الأبرار- فهذا النزول وهذا السكن في ذلك العالم الأقدس الأطهر لن يتم بالنسب أبداً، لا ببنوة ولا بأبوة ولا بأجداد ولا بأحفاد، ما هو إلا أن تزكي نفسك يا عبد الله، فإن زكيتها طيبتها طهرتها أصبحت صالحة للملكوت الأعلى، فإن أنت لوثتها واخبثتها وأرجستها ونجستها فمستحيل أن ترقى إلى السماء أو تدخل دار الأبرار، وقد علمنا حكم الله في هذا: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. إلا أننا مأمورون يا أبناء الإسلام بأن نعرف بم نزكي أنفسنا وبم تكون تزكيتها؛ لنعمل على التزكية ونبعد أنفسنا عن التدسية، فالقضية ليست قضية نسب، وها نحن مع قول الله عز وجل وقوله الحق: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ [التحريم:10]، هذه حليلته أم أبنائه وامرأته في عصمته، لما خالفت منهج الله فخبثت روحها ما نفعها نبي الله ورسوله، فامرأة نوح وامرأة لوط أين هما؟ في الجحيم. والرسول صلى الله عليه وسلم يعلنها مدوية واضحة صريحة: يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني فلان، بدأ ببني هاشم وانتهى إلى فاطمة الزهراء، فقال: ( يا فاطمة ! إني لا أغني عنك من الله شيئاً )، وبعد فاطمة من يطمع في أن يغني عنه رسول الله شيئاً وهو لا يؤمن ولا يعبد ولا يزكي نفسه ولا يطهرها؟ و آزر والد إبراهيم عرفنا ما حكم الله به عليه، آزر والد إبراهيم في الجحيم، وقد تضرع إبراهيم وتوسل إلى الله ليغفر لوالده ولم يقبل ذلك منه؛ لأنه كافر مشرك ضال أنى له أن تشفع فيه شفاعة! فقد كان يدعو الله ويقول: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:86-89] . وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم -وهو العليم الخبير بهذا الشأن- أن إبراهيم عليه السلام في عرصات القيامة في ساحة فصل القضاء والحكم بين الخلق يرفع يديه ويقول: يا رب! لقد وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، وهذا أبي الأبعد في النار، فأي خزي أخزى من هذا؟ فيقول له الرب تبارك وتعالى: إبراهيم! انظر تحت قدميك. فينظر -لأنه كان رافعاً رأسه ضارعاً سائلاً- ينظر تحت قدميه وإذا بوالده آزر في صورة ضبع ملطخ بالدماء والقيوح بين يديه، وما إن يراه إبراهيم حتى تشمئز نفسه ويتألم ويرفع صوته: سحقاً سحقاً. فوالله! ليؤخذن من قوائمه الأربع ويرمى في عالم الشقاء في النار.

تحذير من فتنة الدشات وآلات الفيديو

يا معاشر المستمعين والمستمعات! اعلموا أن الفتنة دائرة، وتبلغنا أخبار وأنباء آلمتنا ومزقت قلوبنا من فتنة هذه المحنة الجديدة، أعني العرض الذي يعرض فيه آلات الفيديو والتلفاز وتلتقط تلك الصور المدمرة، وكنا نبكي ونقول: نخشى أن يموت صاحب هذا الصحن الهوائي أو الدش على سوء الخاتمة. يبيتون ساهرين طول الليل يشاهدون الخلاعة والدمار، يشاهدون فضائع ما يقولها العاقل ولا ينطق بها المؤمن، وهم مصرون يومياً على هذا، وكل يوم نشاهد على سطح المؤمن المسلم تلك الآلة التي يلتقط بها هذا الدمار والخراب، سوف تمضي عليهم أيام وقد فقدوا إيمانهم، ولكن قد يصيبوننا نحن بالبلاء إذا نزلت النقمة فنهلك نحن معهم، أما هم فهم هالكون من الآن. انتهى الحياء، والحياء أخو الإيمان، الحياء من الإيمان، الحياء كله خير، مسخوه من وجوههم ووجوه بناتهم ونسائهم وأولادهم، فيرتكبون فضائع الذنوب، فكيف نقول؟ أين هذه الأمة، أين ذهبت؟ أين القرآن وأين السنة وأين أصوات العلماء؟ لا سماع أبداً، لا إقبال أبداً، لا تراجع لا ندم ولا توبة ولا بكاء، هذا القرآن على من نزل؟ تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ونحن لنا ما كسبنا أم لا؟

أثر كسب الجوارح على العباد

والكواسب -يا معاشر الأبناء- هي الجوارح السبعة، العين -والله- تكسب، أقسم بالله! ما رمى مؤمن أو فاسق أو ماجن بنظرة في وجه لا يحل له النظر إليه إلا انعكس دخان وظلمة في قلبه ويجد أثره بعد ساعة أو ساعات، فيقول الباطل أو ينغمس في الخبث، لا ينطق بكلمة فقط من غضب الله وسخط الله إلا كان كذلك، وقد أخبرنا الرسول بما ليس فيه لبس ولا خفاء أنه قد يقول المرء كلمة لا يلقي لها بالاً ولا يلتفت إليها وهي من سخط الله عز وجل، فيلقى بها في النار أربعين خريفاً. فهذه الجوارح الكواسب وهذه التي نكسب بها اللسان من أشدها، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله صاحبه عن عمل يدخله الجنة ويباعده من النار فيقول له: كف عليك هذا. وأخذ صلى الله عليه وسلم بلسانه، فقال الرجل: ( وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟ ). ولولا الكذب -والله- ما وجد باطل ولا شر، كل المعاصي تنتج عن هذه الجريمة، لو كففنا ألسنتنا ولم ننطق إلا بالحق والخير فوالله! ما كان للباطل وجود ولا للمنكر مظهر أبداً، لكن ألسنتنا هي التي تنتج هذا، كواسب أيدينا تكسب ويسجل علينا ما كسبت، ليست سرقة فقط أو أذية مؤمن بضربه أو قتله، فاليد تأخذ وتعطي، فاليد التي تأخذ الحرام كالتي تضرب وتقتل، هي جارحة كاسبة. أرجلنا نمشي بها إلى أين؟ ينبغي ألا نمشي خطوة واحدة في غضب الله، خطوة واحدة لا نمشيها في طريق لا يرضى الله به، ما نمشي أبداً إلا في رضا الله عز وجل. وأعظم من ذلك -والعياذ بالله- البطن والفرج، أكل الحرام وغشيان المحرمات، فهذا أعظم من ذاك كله. فقوله تعالى لها: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:134]، ونحن أيضاً لنا ما كسبنا، إن كان الكسب خيراً فزنا بالخير، وإن كان الكسب شراً هلكنا في الشر والعياذ بالله تعالى.

مسئولية المرء عن كسبه وانتفاعه بما كان سبباً فيه من الخير

أقول: القرآن كتاب هداية ورحمة للبشرية، وإن ذكر حجاجاً بيننا وبين أهل الكتاب فالمقصود تربيتنا وإنجاحنا وإكمالنا وعزنا وطهارتنا؛ لأنه كتابنا، فالله تعالى يقول: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:141]، هم يتمسكون بأعمال الأولين، فأعلمهم الله تعالى أن أعمال الأولين لا تسألون عنها قطعاً. هل يسال اليهود والنصارى عن أعمال إبراهيم وإسحاق ويعقوب؟ وهل نحن نسأل عن أعمال اليهود والنصارى أو أعمال من سبقنا؟ كل يسأل عن عمله، اللهم إلا ما كان سبباً في وجوده؛ لما علمتم وعرفتم من أن المرء إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث، فمنها: ( علم ينتفع به )، فالذي يعلم مؤمناً أو مؤمنة مسألة في دين الله فيعمل بها ذاك المؤمن أو تلك المؤمنة؛ فإنه يثاب عليها ما دام يعمل بها. أيما علم حول حب الله ولقائه، حول العمل الصالح تورثه في أي عبد ويعمل به فإنه ما يزال يجرى لك الأجر حتى ينتهي ذلك العمل، وقد يعلمه آخر فتمتد الحلقات. ثانياً: ( أو ولد صالح يدعو له )، فالولد الصالح من أنجبه؟ أنت، أنت الذي بذلت وأنت الذي أنفقت وأنت الذي عملت حتى وجد هذا الولد، فما دام أنه يدعو فهو يدعو لك، ودعاؤه لا يرد في أبيه أو أمه، يستجاب. وهكذا الصدقة الجارية أيضاً، إذا بنى المرء مسجداً، أو حفر بئراً ذات ماء عذب للشاربين، أو عبد طريقاً، أو وضع جسراً من الجسور، أو أعد عدة لدولة تجاهد في سبيل الله، فهذا العمل متواصل، فقوله تعالى: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:134] هو حق، ومن كسبنا أنا نخلف وراءنا من يعمل.

مسئولية المرء عمن تلزمه تربيتهم

وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:141] هذا ختام هذا الحجاج، وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:141]، فهل أحدنا يسأل عن أبيه إذا مات لا يصلي؟ الجواب: يسأل ولا يسأل، إن كان قد بلغه ونصحه ودعاه وجلب عليه الصالحين فدعوه فأبى أن يهتدي ومات -والعياذ بالله- تاركاً صلاته فهو من أهل النار، ولا يسأل عنه الولد يوم القيامة، لكن إذا قصر وما نصح وما علم وما دعاه إلى الهدى فإنه يسأل. أبناؤك تسأل عنهم إذا أنت قصرت في تربيتهم في توجيههم لهدايتهم، إذا أهملتهم وتركتهم في الشوارع والغابات يعبثون ويلعبون، وتأتي إلى البيت فتجدهم غائبين فلا تسأل، تجدهم نائمين فلا تسال، أنت مسئول عنهم، هم يعملون الباطل وأنت تأثم به، وهكذا. فالآية ليست على عمومها أنه لنا ما كسبنا ولهم ما كسبوا، نعم ولكن من كسبنا ما نكون السبب في إيجاده وحصوله.

تحذير من مشاهدة صور العاهرات والماجنين في البيوت

معاشر المستمعين والمستمعات! هذا كتاب الله أكرمنا الله عز وجل واجتمعنا عليه فلله الحمد والمنة، فلنذكر ما سمعنا ولنبذل ما استطعنا في إصلاح أنفسنا وتزكية أرواحنا، والطريق الوحيد يا معاشر الأبناء هو أن لا نخلو أبداً من مجالس الذكر، ما هذا الذكر؟ مجالس الذكر في بيوت الله نتعلم كتاب الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن قدر منكم -وكلكم قادر- على أن يطرد الشياطين من بيوته فليفعل. يا معاشر المستمعين! أقسم لكم بالله! إن البيت الذي تظهر فيه صور العواهر والمغنيات وصور الكفار والماجنين من اليهود والنصارى وغيرهم؛ هذا البيت ما تبقى فيه الملائكة، وسوف تنزل بهم الشياطين، ولا يندم إلا من تورط ولا ينفع الندم، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل حجرة عائشة ، هذه الحجرة الطاهرة التي فيها رسول الله وصاحباه، فإذا فيها خرقة من كتان فيها صورة لا ملامح لها ولا تجاعيد، فوالله! لقد غضب صلى الله عليه وسلم وعرفت عائشة الغضب في وجهه حتى صاحت: أتوب إلى الله ورسوله، ماذا فعلت يا رسول الله؟ فيقول لها: ( أزيلي عني قرامك يا عائشة )، أزيلي هذه الخرقة التي فيها الصورة، ( فإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة ). وجبريل عند الباب ما استطاع أن يدخل، أيسمع هذا المسلمون؟ أيسمحون بهذه الصور والخلاعة في بيوتهم والأغاني والرقص، فتتحول كأنها مواخير في بيت يجب أن لا يسمع فيه إلا ذكر الله، وأن لا يرى فيه صورة، فتطرد الملائكة وتخرج وتحل الشياطين محلهم. والعاقبة ما هي؟ أن ينزل بنا دمار وخراب، فنبكي ساعة ولا ينفع البكاء، فالله بالمرصاد، سلط علينا بريطانيا وفرنسا وإيطاليا فأذاقونا مر العذاب وسامونا، والآن هل نحن أصلح من آبائنا وأجدادنا؟ نحن هابطون هبوطاً لا حد له، والله! ما كان هذا الفحش والباطل في ديار المسلمين، كانت كرامة وإباء وشرف. أما اليوم فمن هيأنا لهذه الفتنة؟ اليهود والنصارى، والله! إنهم لينتظرون متى نحترق ومتى نسقط، وهم يعملون ليلاً ونهاراً ونحن غافلون، ما قرأنا القرآن، فهذا المجلس الذي كنا فيه فيه حجاج بين الرسول واليهود والنصارى: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140] ، قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ [البقرة:139]، هل هؤلاء الأعداء نتخذهم أولياء ينصحون لنا ويهدوننا لما فيه الخير؟ والله! إنهم ليعملون على تدميرنا. فيا عباد الله! انتبهوا، غيروا هذا النظام في الحياة، بيوتكم طهروها، ألسنتكم طهروها، قلوبكم طهروها لله لا تلتفوا إلى غير الله، فتكونوا قد عرفتم الطريق إلى الله. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #178  
قديم 23-09-2020, 03:57 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (95)
الحلقة (102)




تفسير سورة البقرة (62)

أول ما فرضت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كانوا يصلون مستقبلين للكعبة، ولبثوا على هذه الحال ثلاث سنين، فلما هاجر النبي إلى المدينة صلى تجاه بيت المقدس وصلى معه المؤمنون قرابة سبعة عشر شهراً، وكان صلى الله عليه وسلم حينها يتطلع إلى أن يؤمر باستقبال الكعبة حتى جاءه الأمر بذلك وقت صلاة الظهر، حيث تحول من استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة أثناء الصلاة، فقام عندها المرجفون والمنافقون بإثارة الشبهات حول ذلك الأمر، فأنزل الله عز وجل مخبراً إياهم ومبيناً لمن عداهم أن الأرض كلها له سبحانه، مشارقها ومغاربها، وعباده المؤمنون يتجهون حيث أمرهم، مسلمين أمرهم له سبحانه طائعين منيبين.

فضائل الجلوس في المساجد للعلم ومدارسة القرآن

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها، والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [البقرة:142-144].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أعيد إلى أذهانكم الجائزة الكبرى التي تفوزون بها في هذا المجلس، اذكروا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، هذه لكم. وأخرى: يقول الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ).وثالثة: هي أن المرء إذا صلى في المسجد وجلس ينتظر الصلاة الأخرى -كانتظارنا هذا لصلاة العشاء- فإن الملائكة تصلي عليه: اللهم اغفر له .. اللهم ارحمه، اللهم اغفر له .. اللهم ارحمه، ما لم يحدث، أي: ينتقض وضوؤه، إلى صلاة العشاء. لو أردت أن تستخدم ملكاً واحداً يصلي عليك ساعة ونصفاً فكم ستعطيه؟ ما تستطيع، وها أنت بفضل الله في ملائكة تحف بالحلقة وتصلي علينا وتدعو لنا، غفل عن هذا المؤمنون وجهلوه، فهجروا بيوت الله وملئوا بيوت الباطل وحرموا هذا الهدى، وويل للذين كانوا سبب هذه الفرقة وهذا البعد عن دين الله وبيوت الله.
تفسير قوله تعالى: (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ...)

خلاصة الأحداث المتعلقة بالصلاة إلى زمن تحويل القبلة

والآن مع هاتين الآيتين الكريمتين، يقول الجبار جل جلاله وعظم سلطانه: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ [البقرة:142]، أعطيكم خلاصة لهذه الأحداث وبها تفهمون عن الله مراده من هاتين الآيتين: اعلموا أن القبلة حيث نستقبل مكاناً فيصبح قبلتنا أمامنا، لما فرض الله عز وجل على نبينا وعلينا معه الصلوات الخمس؛ هذا الفرض تم في الملكوت الأعلى، الصلوات الخمس فرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته في الملكوت الأعلى، أي: فوق دار السلام، إذ تمت له رحلة من الأرض إلى السماء، ووصل إلى مكان فتأخر جبريل وتقدم هو صلى الله عليه وسلم، فجبريل تأخر وهو الدليل، فقال: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ [الصافات:164]، وتقدم الرسول صلى الله عليه وسلم وحده وناجاه ربه وكلمه وفرض عليه وعلى أمته الصلوات الخمس. متى هذا؟ كان في السنة العاشرة من البعثة، عرج بالرسول إلى السماء وفرضت عليه الصلوات الخمس فنزل وصلى به جبريل عليه السلام، علم جبريل الرسول كيف يصلي، وعلمه أوقات الصلوات الخمس حول الكعبة، جبريل يصلي والرسول وراءه، فعلمه الصلاة وأوقاتها. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى الكعبة وهو -فيما يبدو- ما بين الركنين: الركن اليماني وركن الحجر الأسود، فصلى ثلاث سنوات، فلما هاجر إلى المدينة استقبل بيت المقدس، فصلى هو والمؤمنون والمؤمنات قرابة السبعة عشر شهراً وهم يستقبلون بيت المقدس. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع إلى تحويل القبلة إلى الكعبة، كان يود ويرغب كما سيأتي بيان ذلك في قول الله تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144]، واليهود فرحوا لأن الرسول يستقبل قبلتهم، وكانوا بالمدينة يكونون ثلاثة أرباعها. إذاً: فلما تطلع إلى أن يستقبل الكعبة بيت الله أنزل الله تعالى هاتين الآيتين، وهو إخبار بما سيكون: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ [البقرة:142]، والسفهاء: جمع سفيه ضد الرشيد، والمراد من السفهاء هنا اليهود والمنافقون وضعفة الإيمان ممن لم يتمكن الإيمان من نفوسهم. سيقولون عندما تتحول القبلة كذا وكذا، أخبر تعالى بهذا قبل حدوثه حتى لا يحصل للرسول والمؤمنين اضطراب وتألم مما يسمعون من المنافقين واليهود والمشركين، سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة:142]، القبلة التي كانوا عليها هي بيت المقدس، ثم نزلت الآية: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144]. قيل: هذه الآية -آية التحول- نزلت في مسجد بني سلمة الذي يعرف الآن بمسجد القبلتين، وهو جائز؛ إذ قد يكون دعي لطعام عند أحد المؤمنين هناك، فجاءت صلاة الظهر فخرج وصلى بهم ركعتين، ثم أعلم بتحويل القبلة فاستداروا كما هم عليه إلى الكعبة النساء والرجال، وهذا مروي وجائز. وبعض الروايات تقول: الآيات نزلت والرسول هنا على المنبر يخطب الناس؛ حتى إن بعض الصحابة لما قرأ الرسول هذا عرفوا أن القبلة ستتحول، فقالوا: هيا بنا نغتنم الفرصة فنصلي فنكون أول من صلى إلى القبلة، وتم لهم ذلك ففازوا بالأولية والأسبقية.

الخبر عن قالة السفهاء حال تحويل القبلة

سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة:142]، بعضهم يقول: هذا ما عنده ثبات ولا تطمئن النفوس إلى الإيمان به واتباعه ما دام يتقلب هكذا، أمس كان كذا واليوم كذا، فممكن غداً أن يتحول إلى جهة ثانية، هذا يحسنه المنافقون والمرضى ويجيدون الخبط في هذا الشأن، وقد عرفنا هذا من أعدائنا حين يتكلمون عن الإسلام فيشوهون ويقبحون ويقولون ما يقولون، هذا شأنهم إلى اليوم. إذاً: فهذه الأقاويل زلزلت أقدام المؤمنين واضطرب الناس، فهم يحسنون كيف يعيبون، يقولون: كيف يستقبل بالأمس بيت المقدس والآن يتحول؟ ما سبب هذا التحول غير عدم رأي وعدم بصيرة؟ هذا من الجائز أن يترك القبلة بالمرة والعياذ بالله، هذا الذي أخبر به تعالى قبل أن يكون وكان كما أخبر.

معنى قوله تعالى: (قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)

سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة:142]، فالجواب من الله عز وجل يقول: يا رسولنا المبلغ عنا! قل لهؤلاء: لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة:142] المشرق لله والمغرب لله، إن شاء حولنا إلى شمال أو إلى جنوب، والمشرق والمغرب عبارة عن الكرة الأرضية، قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:142] . وبهذا قطع ألسنتهم وهدأ من روع واضطراب المؤمنين، ألسنا بالمؤمنين؟ بلى، أليس الله بالعليم الحكيم؟ بلى، يهدي من يشاء؟ نعم، إذاً: أراد أن نستقبل بيت المقدس فاستقبلناه، ثم أراد أن يحولنا إلى الكعبة فتحولنا، وهذه هي طاعة الله وطاعة رسوله، فلم يبق مجال لمن يعترض أو ينتقد أو يقول ويقول. قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:142]، والصراط المستقيم هو سبيل الله الموصل بالسالكين إلى دار السلام، الصراط: الطريق الذي لا اعوجاج فيه، سالكه ينجو ويفوز ويسعد، وقد علمنا من سورة الفاتحة أن الصراط المستقيم هو الإسلام، من أسلم ظاهراً وباطناً، أسلم قلبه ووجهه لله واستقام على طاعة الله وطاعة رسول الله فهو ناج فائز، ما إن يتوفاه الله حتى يكون في دار السلام.
تفسير قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ...)

وسطية الأمة الإسلامية بين اليهود والنصارى

ثم يقول تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] كما حولنا القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]، أي: خياراً عدولاً، والوسط في كل شيء ممدوح ومحمود، والغلو والتفريط مذمومان، الإفراط والتفريط، والغلو والإهمال والضياع، لكن السبيل المحمود هو الوسطية. وهناك أمثلة: اليهود عليهم لعائن الله ماذا قالوا في عيسى ابن مريم؟ قالوا: ساحر، وقالوا: ابن زنا، وقالوا ما فيه من الأباطيل ما قالوا، هذا طرف فرط، والنصارى ماذا قالوا في عيسى ابن مريم؟ قالوا: ابن الله وهو الله وثالث ثلاثة مع الله، هؤلاء غلوا، وماذا قال المؤمنون المسلمون؟ قالوا في عيسى: عبد الله ورسوله، يكفيه أن يكون عبداً لله ورسولاً له، فانظر إلى الوسطية. اليهود قالوا: عيسى ابن زنا وساحر ودجال وكذاب، وصرفوا الناس عن رسالته ودعوته، والنصارى الذين اتبعوه ما هي إلا فترة سبعين سنة وأفسدوا عليهم دينهم وقلبوا أوضاعهم وحولوهم إلى وثنيين يقولون في عيسى: هو ابن الله، ومنهم من يقول: هو الله وثالث ثلاثة مع الله، فأمة الإسلام أمة محمد صلى الله عليه وسلم قالوا في عيسى ما قال الله فيه: عبد الله ورسوله، فهذا مثال للوسط. مثال آخر: فيما فرض الله على بني إسرائيل أن من قتل يقتل، لا دية ولا عفو، إن قتل فلا بد أن يقتل، وأما المسيحيون النصارى فعندهم أن من قتل لا تؤخذ دية منه ولا يقتل، يجب أن يعفى عنه! فانظر إلى الطرفين: اليهود أمروا بألا يقبلوا دية ولا يعفوا، لا بد أن يقتل، وهذا شرع الله فيهم، والنصارى أمروا بالعفو، فرض عليهم العفو، فمن قتل يعفى عنه، لا دية ولا قصاص، وأمة الإسلام أمة محمد صلى الله عليه وسلم مخيرة في الثلاثة: القتل والدية والعفو، إذا طالب أولياء القتيل بالقتل قدم لهم القاتل وقتل قصاصاً، وإن طالبوا بالدية وأعطيت لهم أخذوها، وإن شاءوا قالوا: عفونا لا نأخذ دية ولا نقتص ممن قتل أخانا أو أبانا، فانظر إلى الوسطية: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] أي: خياراً عدولاً. فمن هنا -معاشر المستمعين والمستمعات- تتجلى كرامة هذه الأمة لو استقامت على منهج الله؛ لأن العدل بيننا وعندنا هو ذاك الذي يجتنب كبائر الذنوب والآثام، العدل بيننا من لا يغشى كبائر الذنوب ولم يأت الآثام، وليس معنى هذا أنه معصوم، هو محفوظ بحفظ الله، فإن زلت قدمه في يوم من الأيام وارتكب كبيرة وتاب توبة نصوحاً عاد إليه نوره وكماله الأول وما زال عدلاً.

اعتبار شهادة الجماعة على الميت بالخير والشر

وهنا نذكر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه القضية: صح عنه صلى الله عليه وسلم ( أن جنازة مر بها حاملوها فتكلم من تكلم وأثنى على هذه الجنازة خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت وجبت وجبت. ثم مر بجنازة وذكرها الناس فقالوا فيها شراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت وجبت وجبت. فقال عمر : فدى لك أبي وأمي! مر بجنازة فأثني عليها خيرٌ فقلت: وجبت وجبت وجبت. ومر بجنازة فأثني عليها شر فقلت: وجبت وجبت وجبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض ). فالذي شهدتم له بالخير فهو على خير وهو في الجنة، والذي شهدتم عليه بعدم الخير بالشر وجبت له النار؛ لأنكم شهداء الله في الأرض، وهذه بينت قوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143] . وهذا نظيره ما علمتم من ( أن الله تعالى إذا أحب المؤمن أو المؤمنة ينادي جبريل عليه السلام: يا جبريل! إني أحب فلان ابن فلان فأحبه. فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماوات: إن الله يحب فلان ابن فلان فأحبوه. فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض )، لا يراه عبد صالح إلا أحبه.إذاً: بيننا من هم محبوبون ومن الناس من لا يحبهم بل لا يشهد لهم بخير، فهل غير العادل تقبل شهادته؟ ما تقبل، الآن في المحاكم إذا استدعى الأمر شاهدين فلا بد أن يكونا عدلين، وإلا فما يعطي القاضي حكماً بمجرد شهادة، لا بد من شهادة عدل، فمن هنا نقول: إذا شهد المؤمنون الصالحون لعبد مؤمن فقولوا: وجبت وجبت له الجنة، وإذا شهد أولئك الصالحون المؤمنون الأتقياء على شخص بالشر فقولوا: وجبت له النار. أما الذين ليسوا بعدول فشهادتهم لا تقبل ولا يعول عليها، ففي المحاكم يرفضونها ولا يقبلون شهادة معروف بالفجور معروف بالظلم والشر والفساد وبالخبث والشرك، ما تقبل شهادته. وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا حقاً عدولاً، ما رأت الدنيا أعدل ولا أرحم من أولئك الأصحاب في الأمم السابقة واللاحقة، أما بعد مرور هذه القرون المتتالية ففي هذه الأمة عدول وما أكثرهم وفيها سفهاء وما أكثرهم، فأحببت أن تعرفوا أن العدل هو الذي تقبل شهادته، ذاك المؤمن المستقيم على منهج الله الذي لا يعرف الكذب ولا قول الزور ولا شهادة الزور ولم يغش كبائر الذنوب، فهذا إذا أعطى شهادته لا يعطيها إلا لمن عرفه وعرف ظاهره وباطنه، وقال: فلان عبد صالح فاشهدوا له بالصلاح.

يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #179  
قديم 23-09-2020, 03:57 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )

شهادة الأمة للأنبياء على أممهم يوم القيامة

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] أي: خياراً عدولاً، لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة:143] وذلك يوم القيامة، هذه منزلة عالية ودرجة رفيعة ما نالتها أمة من الأمم أبداً إلا نحن، يوم القيامة يقف النبي بين يدي الله تعالى ويقول: بلغت رسالتي يا رب إلى من أرسلتني إليهم، فيقال له: من يشهد لك؟ فيشهد له أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيقال: كيف شهدتم وما عاصرتموهم وما عرفتم عنهم؟ فيقولون: ربنا! أنزلت إلينا كتابك وبعثت فينا رسولك، وقد أخبرنا كتابك ورسولك بأن رسلك قد بلغوا وأن أممهم قد رفضت ذلك البلاغ وحاربته ولم تقبله، فشهدنا بشهادة كتابك ورسولك، فتقبل شهادتهم على الأمم التي سبقت.

معنى قوله تعالى: (ويكون الرسول عليكم شهيداً)

لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143] أي: هيأكم لهذا الكمال الذي أنتم عليه أيها المؤمنون العدول وتلك الاستقامة على منهج الحق والعدل، ذلك الصفاء الروحي والطهارة النفسية أهلتكم لتكونوا شهداء على الناس يوم القيامة، والرسول يكون شهيداً عليكم، وكيف يشهد علينا؟ بلغنا أن أعمالنا تعرض عليه؛ إذ الأعمال تعرض على الله يوم الخميس، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم يوم الإثنين ويوم الخميس، فسئل: لم تصومهما؟ قال: أما يوم الاثنين فهو يوم ولدت فيه. وبعث فيه وهو يوم توفي صلى الله عليه وسلم فيه، وأما الخميس ففيه تعرض الأعمال على الله سبحانه وتعالى. إذاً: فالنبي صلى الله عليه وسلم يشهد علينا، يشهد على أنه بلغنا فقضى ثلاثاً وعشرين وسنة وهو يبلغ هذه الدعوة، وحملها رجاله وأصحابه ونشروها في الشرق والغرب، إذاً: فالرسول يشهد على هذه الأمة بأنه بلغها ما أمر بإبلاغه وأوصل ما أمر أن يصل به إليها، ولنذكر أن شهادة النبي صلى الله عليه وسلم فيها درجة عالية ومستوى راق، كون محمد صلى الله عليه وسلم يشهد على هذه الأمة، وهو الذي يقول الله عز وجل له: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5] وعد صادق، فيقول: كيف أرضى وواحد من أمتي في النار! فلهذا فإن أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله، أي: الموحدون لله عز وجل في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته لم يعرفوا له شريكاً في قلوبهم ولا في حياتهم؛ هؤلاء من ارتكب منهم كبيرة فزج به في عالم الشقاء في النار بشروه أنه لا يخلد فيها؛ لأنه تابع لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: كيف أرضى وواحد من أمتي في جهنم؟ فهذه الشفاعة التي يخرج بها الموحدون من النار. أما الذين ماتوا على الشرك -والعياذ بالله تعالى- والكفر فكونهم من أمة محمد نسباً لا قيمة لذلك، وقد عرفتم أن للرسول شفاعات، منها أنه يشفع لمن دخل النار من أهل التوحيد ويخرج منها.

وبعض المفسرين يقولون في قول الله تعالى: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا

[البقرة:143] أي: لكم. ولا حاجة إلى هذا، ما دام أنه أخبر تعالى بقوله: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143]، فأن نقول: ويكون الرسول لنا شهيداً فكأننا نرد على الله عز وجل، وهذا اللفظ موجود في التفاسير، لكن الحقيقة ما أخبر الله تعالى به، يشهد رسول الله على أمته أنه بلغها. وأمم ما آمنت به صلى الله عليه وسلم، هذه الأمم المعاصرة لنا؛ إذ الرسالات ختمت برسالته والنبوات ختمت بنبوته، فما بعده من رسول ولا نبي، إذاً: فالبشرية كلها الرسول شاهد عليها، فلهذا لا نحتاج إلى أن نقول (عليكم) بمعنى (لكم)، فهذه الأمم من اليهود والنصارى والصابئة والبوذيين والمشركين من عهده صلى الله عليه وسلم من هو نبيهم؟ من هو رسولهم؟ هو محمد صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، فهو يشهد على أنه بلغ اليهود والنصارى والمجوس والصابئة والمشركين، لا يشهد لهم بل عليهم، أما العدول الخيار فهم يشهدون لغيرهم وعلى غيرهم. هذه كمالات هذه الأمة، ومع الأسف خانوها وغشوها وخدعوها وأبعدوها عن كل سبيل لنجاتها وسعادتها، فحسبنا الله ونعم الوكيل.

معنى قوله تعالى: (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه)

ثم يقول تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا [البقرة:143]، ما هي القبلة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هي بيت المقدس، مكث سبعة عشر شهراً -سنة ونصف سنة- وهو يستقبل بيت المقدس، من الذي جعلها له قبلة؟ الله عز وجل، ما استقبل بيت المقدس عن هوى وإنما بوحي أوحاه الله إليه أو إلهام ألهمه الله إياه، فألهمه استقبال بيت المقدس، ومن الجائز أن يكون هذا فيه معنى الترغيب لليهود في الإسلام، فيقولون: ما دام قد استقبل قبلة قبلتنا فما هو الفرق بيننا وبينه؟ فلندخل في هذا الدين. قد يكون هذا من باب هداية الله لو قبلوا واهتدوا. وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [البقرة:143] أي: قضية اختبار وامتحان، وقد مر قوله تعالى: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:1-2] هذا الحسبان باطل، لا بد من الافتتان، لا بد من امتحان لا بد من الاختبار حتى يصفو النبع وتطيب النفس. فانظر ماذا حدث في تحويل هذه القبلة، والله هو الذي حولها، فهو الآمر والمشرع للامتحان والاختبار، إذ قال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [البقرة:143]، وبالفعل أصيب المنافقون بمرض فصاحوا وضجوا، وضعاف الإيمان كذلك انتكسوا؛ فقالوا ما قالوا، وتعرفون البشر في مجالس في بيوتهم، يقولون: انظروا ماذا حدث! كيف تحولت القبلة؟ بالأمس كان هنا واليوم هنا وغداً يكون في جهة ثالثة! فاضطرب الناس وثبت أهل الإيمان واليقين وزادهم الله ثباتاً ويقيناً، والضعاف المهزولون انتكسوا ومنهم من ارتد والعياذ بالله.

معنى قوله تعالى: (وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله)

ثم قال تعالى: وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً [البقرة:143] هذه هي الفتن التي إذا لم يثبت العبد فيها يتمزق ويسقط، فهي كبيرة، ونحن الآن ما نشعر بكبرها وعظمتها، لكن حين كان القرآن ينزل والناس يتطلعون يومياً إلى التشريع، ثم يشاهدون الرسول قد تحول فجأة من قبلة إلى قبلة يقولون: كيف نفعل؟ لأن جيرانهم ومن معهم في الشوارع وفي البيوت يقولون: انظروا: بالأمس كنتم كذا واليوم كذا وغداً ستصبح لكم قبلة أخرى! أين الثبات وأين الصدق وأين وأين؟ فتضطرب نفوس الناس. وهذه التي تعرف الآن بالطابور الخامس، ويستعملها الغرب وخاصة اليهود بأبشع صورة، وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً [البقرة:143] تلك التحويلة من جهة إلى جهة إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [البقرة:143]، الذين هداهم الله لحبه وطاعته والإيمان بلقائه والاستقامة على منهجه هؤلاء ما تزعزعوا ولا تحركوا ولا تألموا أبداً، فهم يقولون: إن شاء حولنا يومياً إلى جهة، أليس ربنا ونحن مأمورون بطاعته؟ يمتحننا كل شهر فيحولنا إلى جهة فنتحول، أطعناه في كل شيء، لا في قضية القبلة فقط. يقول تعالى: وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [البقرة:143] عز وجل، وهم أبو بكر وعمر وأصحاب الرسول والعشرة المبشرون بالجنة وأمثالهم في المدينة، وقد صاروا أكثر من ثلاثين ألفاً.

معنى قوله تعالى: (وما كان الله ليضيع إيمانكم)

وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] هنا لما تحولت القبلة تأسف بعض المؤمنين، قالوا: فلان مات قبل أن تتحول القبلة، فلان توفي قبل أن تتحول القبلة، كيف حالهم؟ كيف صلاتهم؟ هل صلاتنا التي صليناها الآن لسنة وزيادة تقبل أو لا تقبل؟ فنفوسهم اضطربت وتحركت، فأخبرهم الله تعالى بأنه لا يضيع تلك الصلاة.إذاً: فهذه الصلاة هي الإيمان بهذه الآية الكريمة، فهل يقف عبد بين يدي الله يبكي، يركع ويسجد ويعفر وجهه في التراب ولا يكون مؤمناً؟ اللهم إلا إذا كان ينافق، فقلبه كافر، أما عبد يقيم الصلاة ويسجد بين يدي الله وفي اليوم خمس مرات فكيف لا يكون مؤمناً؟ فلهذا أطلق على الصلاة بهيكلها لفظ الإيمان، بهذه الآية الكريمة: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143].إذاً: فالذين ماتوا وهم يستقبلون بيت المقدس قبل تحويل القبلة صلاتهم مقبولة صحيحة سليمة لا تشكوا فيها، وصلاتكم أنتم أيضاً يا من ما زلتم وتحولتم إلى الكعبة؛ صلاتكم في العام الماضي والأشهر الماضية مقبولة، ويكفي أن يقول الله تعالى لهم: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143].أعيد فأقول: الصلاة إيمان، الله سماها إيماناً، فتارك الصلاة لا إيمان له، تارك الصلاة كافر.

معنى قوله تعالى: (إن الله بالناس لرءوف رحيم)

إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة:143]، الرأفة أعظم من الرحمة، ومولانا وسيدنا وربنا تعالى رءوف رحيم، ليس بالمؤمنين فقط، بل بالناس: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة:143]، ومن أراد أن يشاهد الرأفة والرحمة الإلهية في الخلق فلينظر إليهم وهم يكفرون به ويحاربون دينه وأولياءه ومع هذا يمطر أرضهم ويسقيهم ويرزقهم ويأكلون ويشربون، لو كان غير الله فمن عصاه وتمرد عليه وكفر به يهلكه، يمنع عنه الطعام والشراب حتى يهلك، فسبحان الله! أعظم برحمة الله تعالى ورأفته! إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ [البقرة:143] كل الناس لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة:143]، إلا أن أولياءه هم أولى برحمته ورأفته، بخلاف أعدائه، إلا أن رحمة الله واسعة، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله خلق مائة رحمة كل رحمة ملء ما بين السماء والأرض، قسم منها رحمة بين الخلائق بها تعطف الوالدة على ولدها وبها يشرب الوحش والطير الماء وبها تتراحم الخلائق، فإذا كان يوم القيامة قصرها على المتقين وزادهم تسعًا وتسعين )، جزأ تعالى الرحمة إلى مائة جزء، وادخر لأوليائه تسعة وتسعين في الجنة، ورحمة واحدة تتراحم بها الخليقة كلها، حتى إن الفرس لترفع حافرها مخافة أن تطأ مهرها أو فلوها، هذه الظواهر تشاهدونها في الحيوان. والأم من بني آدم يكون الحمل في بطنها، ما إن تأتي ساعة الطلق والوضع والولادة حتى يتحول دمها الأحمر إلى لبن أبيض خالص ناصع حتى يرضع هذا الطفل من هذا اللبن، اللبن هذا كان دماً خالصاً، فانظر إلى تلك الرحمة الإلهية التي أودعت في الأمهات كيف تتحول إلى لبن! انظر إلى العصفور كيف يزق أفراخه! انظر إلى الدجاجة كيف تزق أفراخها وكيف تطعمهم! انظر إلى العنز كيف تصنع مع وليدها، تميل له وتنزل حتى تكاد تقع على الأرض وتناغيه بصوت خاص.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! إن الله قسم الرحمة إلى مائة قسمة، ادخر لنا -أيها المؤمنون والمؤمنات- تسعة وتسعين جزءاً، وجزء واحد تتراحم الخليقة كلها به، إذاً: حقاً إن الله رءوف رحيم، إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة:143].

حكم الصلاة إلى غير القبلة

وهنا نبين حكم من يصلي إلى غير القبلة؟ فنقول: لا تصح الصلاة إلى غير القبلة التي شرعها الله، فمن عزف عنها أو تكبر أو ارتفع أو أبى أن يستقبل بيت الله فصلاته باطلة بالإجماع، إذ من شروط صحة الصلاة: الطهارة واستقبال القبلة، لكن إذا عجز العبد عن استقبال القبلة، كمريض على سريره لا يستطيع أن يتحول، فهذا يكون رخصة له فيصلي حيث أمكنه، أو مسجون، أو مكبل بالأغلال، أو مكتوف في يديه ورجليه ما يستطيع أن يستقبل القبلة فيصلي حيث أمكنه. وأما جاهل بالقبلة ما عرفها، وجد نفسه في صحراء أو في طائرة أو في باخرة؛ فإنه يجتهد فحيث ترجح عنده أن الكعبة هنا اتجه، ولو صلى وجاء من قال: إنك صليت إلى غير القبلة فليس عليه أن يعيد صلاته، تكفيه صلاته الأولى، فإن صلى ركعتين أو ثلاثاً إلى غير القبلة ظناً أن القبلة هنا وجاء من قال: يا فلان! استدر يميناً أو شمالاً، فإنه يستقبلها وصلاته صحيحة، والذين كانوا في مسجد قباء كانوا في صلاة الصبح، فجاءهم رجل صلى العشاء مع رسول الله هنا، فأعلمهم بأن القبلة قد تحولت إلى الكعبة، فاستداروا كذلك بعدما صلوا ركعة من صلاة الصبح، وأتموها إلى الكعبة.أما الذي يتعمد عدم استقبال القبلة فبالإجماع صلاته باطلة، أما الذي صلى ولم يجتهد فصلى كما يرى؛ فهذا إن صلى إلى غير القبلة فصلاته باطلة، فلا بد للمؤمن أو المؤمنة عند القيام لله في الصلاة أن يتحرى القبلة ما استطاع، فإن وفق وصلى إليها صحت صلاته، وإن لم يوفق وصلى إلى غيرها صحت صلاته، ولا يعيدها، وهذا من رحمة الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة:143].

تفسير قوله تعالى: (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها ...)

ثم قال تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة:144]، الآن بدأ تحويل القبلة، فذاك الذي تقدم من أجل ألا يحصل ارتباك واضطراب بين المؤمنين، ومع هذا حصل ما حصل. قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [البقرة:144] كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرغب في أن يستقبل الكعبة ويود ذلك، فكان ينتظر الوحي متى ينزل، والوحي ينزل من السماء، فكان يرفع رأسه انتظاراً لجبريل متى ينزل والله عز وجل به عليم، فأخبره بما كان عليه: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة:144] هذا وعد الله: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة:144]، إذاً: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ [البقرة:144] أيها المؤمنون فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144].

حالات لزوم استقبال جهة الكعبة وعينها

إذا كان أحدنا في المسجد الحرام لا تصح صلاته إلا إلى القبلة، سواء كان مكانه شمالاً أو غرباً أو جنوباً، وإن كان خارج المسجد فلا تصح صلاته إلا إذا اتجه نحو القبلة لقربها، فمن بعد في الآفاق فيكفيه أن يتجه إلى النحو الذي يرى أنه القبلة؛ لأن عين القبلة غير ظاهر، ما يراه أحد في الآفاق البعيدة، فيكفي الاتجاه، أهل المغرب يصلون إلى المشرق، فمكة شرقهم، وأهل الشمال إلى ما فوق سيبيريا يتجهون جنوباً لأن القبلة تعتبر جنوباً، وأهل المشرق كالرياض قبلتهم المغرب، وأهل اليمن يتجهون شمالاً، وهكذا. فالذي نريد أن يفهمه المستمعون والمستمعات أن الذي يصلي في المسجد الحرام والكعبة أمامه لا يصح أن يصلي منحرفاً عنها، لا بد أن يستقبل الكعبة وإلا فصلاته باطلة. ومن كان خارج المسجد من أهل مكة وهم قريبون من الكعبة قد يشاهدونها وهم على سطوحهم، فهذا أيضاً يجب أن يتجه شطرها، والذين في الآفاق يكفيهم الجهة التي فيها الكعبة.ثم هذه الكعبة كانت قبلة الأنبياء قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، كانت قبلة إبراهيم وموسى والأنبياء، فلم -إذاً- حول الله عز وجل رسوله والمؤمنين إلى بيت المقدس؟ للامتحان، للاختبار، فلهذا كان ذلك التحول من أجل امتحان المؤمنين واختبارهم ليبقى المؤمن الصادق وينهزم الكاذب كالمنافقين واليهود. قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144] إن كنا في اليابان أو الصين أو كنا في كندا وأمريكا، حيثما كنا نولي وجوهنا شطر المسجد الحرام.

وقفة مع هجران القرآن في حياة المسلمين

الرسول يوم القيامة يقول: رب! إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً، فالمشركون الذين جاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاومهم ودعاهم وحاربهم كانوا هاجرين للقرآن غير مقبلين عليه ولا ملتفتين إليه، ما آمنوا به ولا عملوا بما فيه، وكل البشرية يشكو الرسول صلى الله عليه وسلم أمرها الذي هو اتخاذ القرآن هجراً مهجوراً، فأيما إنسان لم يقبل على هذا الكتاب فيؤمن به ويقرؤه ويعمل بما فيه من هدى فإنه يشكوه الرسول إلى الله عز وجل، ويهلك قطعاً بلا جدال ولا شك. وها نحن نشاهد أيضاً العالم الإسلامي قد هجر القرآن إلا من رحم الله عز وجل، فالبلاد التي لا تطبق شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ولا تطبق شرع الله الذي حواه كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أما هجرت القرآن؟ بلى هجرته، والجزاء معلوم عند الله، فلهذا نسأل الله أن يتوب علينا وعلى المؤمنين والمؤمنات.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #180  
قديم 23-09-2020, 03:59 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )





تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (96)
الحلقة (103)




تفسير سورة البقرة (63)

كان النبي صلى الله عليه وسلم أول مقدمه المدينة يتوجه في صلاته إلى بيت المقدس، وكانت نفسه تهفو إلى التحول تجاه البيت الحرام، ثم أذن الله عز وجل له بذلك مبيناً له أن أهل الكفر والنفاق والجدال بالباطل سيستغلون هذه الحادثة، وسيثيرون حولها الشبهات، وسيشغبون بها عليه وعلى المؤمنين، ورغم علمهم وقناعتهم بأن هذه القبلة هي الحق، ولكنهم لا يقبلونها لأنهم لا يقبلون الحق، فهذا هو حالهم وهذه هي سجيتهم.
تابع تفسير قوله تعالى: (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها ...)
تطلع النبي صلى الله عليه وسلم إلى تحويل القبلة لمخالفة اليهود

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر الله شيئاً ولا يضر إلا نفسه. أما بعد:معشر الأبناء والإخوان! ما زالت السورة -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ * وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة:144-151].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قد عرفنا من درسنا الماضي أن السفهاء من المنافقين واليهود، وهم حقاً سفهاء لا رشد لهم، فالذي يقدم على الكفر ويقدم على النفاق ويتحلى بأسوأ الأخلاق كيف لا يكون سفيهاً؟عرفنا ذلك وعرفنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مكة ثلاث سنوات يصلي، وقد صلى به جبريل عليه السلام، وكان يقف في صلاته ما بين الركنين اليماني والحجر الأسود، ويصبح الشام أمامه والكعبة أمامه، فلما هاجر إلى المدينة الطيبة المباركة استقبل بيت المقدس، واستقبلها المؤمنون والمؤمنات نحواً من ستة أو سبعة عشر شهراً، ثم كان صلى الله عليه وسلم يتطلع متى ينزل الوحي عليه ويحول الله قبلته إلى الكعبة، لم؟ أراد أن يخالف اليهود، لما ظهر مكرهم وخداعهم ونفاقهم أحب أن يخالفهم، وقد عرفتم كيف نهانا عن صيام يوم السبت؛ إنه من أجل مخالفة اليهود، وكنا نصوم يوم عاشوراء فزادنا اليوم التاسع حتى نخالف اليهود، فقال: ( لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع )، والآن يصوم المسلمون يوم تاسع المحرم وعاشره مخالفة لليهود.وأصبح يعمل ما استطاع على مخالفة أهل الكتاب ليستقل المؤمنون استقلالاً كاملاً، فمن رغب من أهل الكتاب في الإسلام فباب الله مفتوح، فليدخل إلى رحمة الله.ولما حقق الله أمله وأمره بأن يستقبل الكعبة إلى بيت المقدس صرح المنافقون والمشركون واليهود -والكل سفيه- وقالوا الكثير، فأنزل الله تبارك وتعالى قوله: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:142]، فقطع ألسنتهم وأسكت أصواتهم إذ هذا أمر الله، فالمشرق والمغرب كلاهما لله وهو يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وثبت المؤمنون عند هذه الفتنة. ثم قال تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [البقرة:144]، إذ كان صلى الله عليه وسلم يتطلع إلى يوم يؤمر فيه باستقبال الكعبة إذ هي القبلة التي استقبلها إبراهيم والأنبياء والرسل من بعده، فنزلت هذه الآية: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [البقرة:144] متطلعاً منتظراً الوحي، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144].ويروى: أنه كان يصلي في مسجد بني سلمة، فنزل الوحي وهو في الصلاة يصلي بأهل ذلك الحي، فاستداروا، كانوا متجهين نحو الشام فاستداروا إلى الكعبة، استدار النساء والرجال بصورة لا يستطيعها الناس اليوم، ولهذا سمي هذا المسجد بمسجد القبلتين، وما زال يعرف بهذا إلى اليوم.

تحديد قبلة الكائن في المسجد الحرام وخارجه

إذاً: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144]، فمن هنا أصبحت القبلة التي يصلي إليها المؤمنون والمؤمنات هي شطر المسجد الحرام، وقد روى ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من كان في المسجد الحرام فقبلته البيت )، فالذي يصلي داخل المسجد الحرام بمكة قبلته الكعبة بعينها، فلو صلى إلى غيرها ما صحت صلاته، وأهل الحرم قبلتهم المسجد الحرام، حيثما كانوا في أنحاء الحرم فقبلتهم المسجد، ومن كان من وراء الحرم من أهل المشرق والمغرب فقبلتهم شطر المسجد الحرام، وهذا هو قوله: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144]، والشطر يطلق على نصف الشيء وعلى الجزء منه، فقبلة المؤمنين والمؤمنات في المسجد الحرام الكعبة، وفي مكة والحرم قبلتهم المسجد، وفي خارج الحرم شرقاً أو غرباً شمالاً أو جنوباً قبلتهم شطر المسجد الحرام، أي: الجهة التي فيها المسجد الحرام.وقوله تعالى: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة:144] لأنه كان يتطلع ويرغب ويحب أن يحوله ربه تعالى إلى الكعبة، فها هو ذا تعالى يبشره: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144] حيث ما كنتم أيها المؤمنون فولوا وجوهكم شطر المسجد الحرام، ولولا هذه الجملة من كلام الله لقال الناس: هذا خاص بأهل المدينة، هم الذين يستقبلون الكعبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتطلع إلى ذلك، والله عز وجل أفرحه وأثلج صدره ووجهه إلى المسجد الحرام، فهذا لأهل المدينة، ولكن قوله: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ [البقرة:144] أيها المؤمنون فولوا وجوهكم شطر المسجد الحرام. وذكرنا ما ينبغي أن يعرف: وهو أن على المؤمن أو المؤمنة أن يجتهد حتى يصلي إلى القبلة، فإن اجتهد وما وفق وصلى فصلاته صحيحة ولو صلاها بعيدة عن جهة الكعبة، وإذا صلى فلا يعيد، أما الذي لا يجتهد ويقوم يصلي وما يسأل الناس ولا ينظر إلى الكوكب وإلى السماء ويصلى كما يرى؛ فإن صلى إلى غير القبلة فصلاته باطلة، وعليه أن يعيدها، أما من اجتهد فلا حرج إن أخطأ في القبلة: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115].

الجمع بين أقوال العلماء في موضع نظر المصلي

وقوله: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144] أي: جهته، هنا الإمام مالك رحمه الله تعالى خالف الأئمة الثلاثة، في هذه القضية خالف أبا حنيفة والشافعي وأحمد رحمهم الله أجمعين؛ إذ الثلاثة يقولون: المصلي ينظر مكان سجوده، والإمام مالك يقول: قال تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144]، إذاً: لا بد أن تولي وجهك شطر المسجد الحرام، بمعنى: أن تنظر أمامك ووجهك مستقيم إلى الكعبة. والذي يجمع بين أقوال هؤلاء الأعلام رضوان الله عليهم أنك عندما تحرم بالصلاة فتقول: الله أكبر تكون مستقيماً ووجهك إلى القبلة، وحين تحرم وتدخل في القراءة لا تطأطئ رأسك، ولكن في اعتدال وأنت تنظر إلى مكان سجودك، وهذا هو الجمع بين آراء الأئمة رحمهم الله.أعيد هذه القضية: مالك يرى فهماً من قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144] أن من أحرم بالصلاة يكون وجهه إلى القبلة، أما أن يطأطئ رأسه فهذا مكروه، ففي هذه الحالة قد لا يستطيع أن ينظر مكان سجوده ورأسه مستقيم معتدل. فالقول الجامع أنك عند الإحرام تكون مستقيماً ووجهك إلى القبلة، ثم حين تأخذ في القراءة حينئذ تنظر وأنت معتدل إلى مكان سجودك، أخذاً من قوله تعالى: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144].

معنى قوله تعالى: (وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون)

ثم قال تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:144] أخبر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن أهل الكتاب اليهود والنصارى يعلمون أن القبلة هي الحق، كيف يعلمون ذلك؟ لوجوده في التوراة والإنجيل، فعندهم أن نبي آخر الزمان المنعوت بكذا وكذا قبلته الكعبة، وهم يعلمون هذا، ولكن اليهود مصرون على قبلتهم والنصارى كذلك، وأبوا أن يستقبلوا بيت الله، مع أن الكعبة هي أول قبلة عرفتها البشرية، ويكفي أن علمنا أن هذا البيت بنته الملائكة لآدم عليه السلام وحواء، لما نزلا من السماء من الملكوت الأعلى استوحشا في تلك الأرض في هذا العالم الذي ليس فيه إنسان سواهما، فمن باب رأفة الله ورحمته بعبديه آدم وحواء بنى لهما البيت، فإذا طلبا شيئاً استقبلاه، فإذا احتاجا إلى شيء جاءا إليه وطافا به وسألا ربهما.فالكعبة هي قبلة البشرية من عهد آدم، واستقبال اليهود بيت المقدس والنصارى المشرق وطلوع الشمس استقبال لا شرع فيه ولا حق لهم فيه. وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [البقرة:144] وهم اليهود والنصارى قطعاً، لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:144] أي: تحول القبلة واستقبالك بيت الله الكعبة هو الحق. وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [البقرة:144] ومعنى هذا: أنه سيعذبهم على كتمانهم الحق وجحودهم له، مع علمهم واعترافهم بأن هذا هو الحق، ومع ذلك آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.

تفسير قوله تعالى: (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ...)

ثم قال تعالى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ [البقرة:145]، الله هو الذي غرز الغرائز وطبع الطبائع وعرف القلوب، أخبره بخبر الصدق، فقال له: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ [البقرة:145] على أن يستقبلوا معك بيت الله ما فعلوا، وكذلك كانوا، فما استقبل يهودي ولا نصراني الكعبة أبداً إلى اليوم وإلى يوم القيامة، مع علمهم أنها الحق، وهذا الكلام مؤكد: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ [البقرة:145] واستمر الوضع إلى اليوم، اليهودي لا يستقبل الكعبة والنصراني لا يستقبل بيت المقدس، واليهودي لا يستقبل الكعبة ولا يستقبل مطلع الشمس، إذ القبلة ثلاث: الكعبة وبيت المقدس ومطلع الشمس، فقبلة النصارى إلى الآن المشرق طلوع الشمس؛ لأن الشيطان يدخل تحت الشمس ويجعلها على رأسه حتى يعبد، واليهود قبلتهم بيت المقدس، وهذا الخبر العظيم ما تغير ولا تبدل: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ [البقرة:145]، هل اليهود استقبلوا الآن مطلع الشمس مع النصارى في كنسائهم؟ لا. هل النصارى استقبلوا بيت المقدس؟ الجواب: لا. والمؤمنون من باب المحال أن يستقبلوا غير بيت الله، غير الكعبة التي فرض الله استقبالها عليهم.

معنى قوله تعالى: (ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين)

ثم قال تعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ [البقرة:145] أي: أهواء أهل الكتاب مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة:145]، وهذا -معشر المستمعين- عام، فاتباع الأهواء يسقط العبد وينزله من علياء السماء إلى الأرض، يبعده عن ساحة الهدى وطريق الخير، فالهوى -والعياذ بالله تعالى- وميل النفس إلى ما تشتهيه، إلى ما يزينه الشيطان لها ويرغبها فيه؛ هذا جزاؤه الخسار والدمار، وهذا الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: ولئن اتبعت يا رسولنا أهواء أهل الكتاب مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة:145].وهنا: هل المسلمون وقفوا موقف نبيهم صلى الله عليه وسلم؟ لقد اتبعنا أهل الكتاب في مجالات كثيرة، نذكر منها: أننا حلقنا وجوهنا اتباعاً لهم، نذكر منها: أننا كشف وجوه نسائنا اتباعاً لهم، منها: أننا فتحنا أبواب الربا وأقمنا له البنوك اتباعاً لهم منها: أن المسلمين -باستثناء هذه القطعة من الأرض- أعرضوا عن الكتاب والسنة وحكموا شرائع أهل الكتاب، بل ولا شرائع أهل الكتاب، وإنما أهواء اليهود والنصارى، ومن هنا فإننا لمن الظالمين، إن لم يعف الله ويصفح ويتكرم فسيجزينا بظلمنا، وقد جازى آباءنا وأسلافنا وسلط عليهم أعداءه وأعداءهم، لم؟ جزاء الانحراف عن هدي الله عز وجل وصراطه المستقيم. فهذا تهديد عظيم يوجه إلى رسول الله، فيقول له وقوله الحق: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة:145] والظالم جزاؤه معروف.

يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 3 ( الأعضاء 0 والزوار 3)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 307.68 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 301.58 كيلو بايت... تم توفير 6.10 كيلو بايت...بمعدل (1.98%)]