مع الكليم في القرآن الكريم - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         معنى قوله تعالى: {ليبلوكم أيُّكم أحسنُ عملاً} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »          تخصيص رمضان بالعبادة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »          ذكر الله دواء لضيق الصدر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          بيان فضل صيام الست من شوال وصحة الحديث بذلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          صيام الست من شوال قبل صيام الواجب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          صلاة الوتر بالمسجد جماعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          قراءة القرآن بغير حفظ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 35 )           »          الإلحاح في الدعاء وعدم اليأس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          الفهم الخطأ للدعوة يحولها من دعوة علمية تربوية ربانية إلى دعوة انفعالية صدامية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »          معالجة الآثار السلبية لمشاهد الحروب والقتل لدى الأطفال التربية النفسية للأولاد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 11-08-2020, 03:27 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي مع الكليم في القرآن الكريم

مع الكليم في القرآن الكريم (1)


مصطفى محمود شيخون




الخطبة الأولى
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الخلق وحده وليس معه شريك، ورزق الخلق وحده وليس معه شريك، فينبغي أن يُعبَد وحده وليس معه شريك.

سبحانك... سبحانك... سبحانك، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، سبحانك لا فَهم لنا إلا ما فهمتنا إنك أنت الجواد الكريم.

﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام: 59].

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه، نشهد أنه أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة، فكشف الله به الغمة وجاهد في سبيل ربه حتى أتاه اليقين، فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

بلغ العُلا بكماله، كشف الدُجى بجماله، حسُنَت جميع خصاله، صلوا عليه وآله، فاللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].


﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].


﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي الأنبياء وأحسن السنن سنة سيدنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، وخير الملل ملة أبينا إبراهيم عليه السلام، وأحسن القصص القرآن، وخير ما وقر في القلب اليقين، وخير الزاد التقوى، وأشرف الحديث ذكر الله، وشر الضلالة؛ الضلالة بعد الهدى، وشر المعذرة حين يأتيك الموت، وشر المكاسب كسب الربا، وشر المآكل أكل مال اليتيم، وشر العمى عمى القلب، وخير الغنى غنى النفس، وخير الأمور عَوازمُها، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

اللهَ أسألُ أن يقني وإياكم ووالدي وجميع المسلمين من النار، ومن حر النار، ومن زقوم النار، ومن حميم النار، ومن غسلين النار، ومن طعام النار، ومن شراب النار، ومن كل قولٍ أو عملٍ يُقربُنا من النار، آمين... آمين... آمين.

أحبتي في الله... أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأن نقدم لأنفسنا أعمالًا صالحة تُبيض وجوهنا يوم أن نلقاه، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، رزقني الله وإياكم هذا القلب.

عباد الله...
مع الكليم في القرآن الكريم اسمحوا لي أن أضع هذا العنوان موضوعًا لنا في هذه الدقائق الغالية وفي هذه الساعة المباركة ـ أسألُ اللهَ تبارك وتعالى أن يجعلها ساعة خير وبركة وأن يستخلص منَّا ما يُرضيه وأن يُجري الحقَّ على ألسنتنا وقلوبنا وأن يُبصرنا بعيوبنا وأن يهدينا لما اختُلف فيه من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

أحبابي في الله.. من أين أبدأ؟! وكيف أبدأ؟ وأنا أجدُني أمام بحر لا ساحل له، أما بحر قد حوى دُررًا، بحرٌ تجد في أعماقه الياقوت والذهب واللؤلؤ، أجدُني أمام بحر القرآن لا أستطيع من أي كنوزه أغترف، فالقرآن الكريم يُقبِل عليه الظمآن فيرتوي، ويُقبِل عليه الحيران فيهتدي، ويُقبِل عليه المريض فيشفى، ويُقبِل عليه الحزين فيسعد، فالكل يجد فيه بُغيته وسَلوتَه وخلوتَه وسعادتَه فهو يَسع الجميع ويروي الجميع ويهدي الجميع ويُسعِد الجميع، فلا بد أن نُقبِلَ على بحر القرآن الكريم لكي نغترف من لآلئه وذهبه وكنوزه، فتعالوا بنا لكي نعيش ابتداءً بقلوبنا وأسماعنا وعقولنا "مع الكليم في القرآن الكريم".


أخي الحبيب، أيها المتأمل في كتاب ربك، المتدبر لآياته، حينما تتأمل أكثر وأكثر تجد أن القرآن كثيرًا ما يتحدث عن قصة سيدنا موسى عليه السلام لدرجة أن موسى عليه السلام ذكر اسمه في القرآن أكثر من مائة وعشرين مرة، لماذا؟! لأن قصة موسى عليه السلام بكل ما فيها من تفاصيل هي هي تشابه تمامًا ما حدث مع نبي الله الخليل الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، ومن بعده أمته، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم حينما كَثُرَ الإيذاء عليه وعلى أصحابه من قِبل المشركين قال: «رحم الله أخي موسى، لقد أوذي بأكثر من ذلك فصبر»، يعزي نفسه ويسلي نفسه، بسرد قصة أخيه موسى عليه السلام، والقرآن الكريم، حينما يتحدث عن موسى عليه السلام تجد أنه تارة يبدأ بسورة تحكي عن ميلاده وشبابه وزواجه ورحلته خارج مصر، وسورة أخرى تحكي عن موسى وهو واقف ذليل لربه فقير لمولاه أمام جبل المناجاة، وسورة أخرى تحكي عن موسى وسبب بعثته إلى فرعون الطاغية، وسورة أخرى بل وسور أخرى تحكي عن بني إسرائيل مع موسى عليه السلام وكيف كانوا لا يعظمونه، وكيف كانوا يؤذونه أيما إيذاء، ولكن أجد نفسي كريشةٍ في مهب الريح، وأنا أتحدث اليوم عن كليم الله موسى، أجد نفسي كريشة في فلاه، يُقلبها الهواء يمنةً ويسرة، كيف أبدأ والقرآن العظيم، وضع لنا منهاجًا في قصصه الرائعة، لا يحكي لنا كثير تفاصيل، وإنما يركز ويهتم بحقائق الأمور والدروس والعبر كما قال رب البشر سبحانه وتعالى:﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى [يوسف: 111] فتعالوا بنا سريعًا نبدأ بالسورة التي بدأت بميلاد موسى عليه السلام، هي السورة الوحيدة في القرآن التي تكلمت عن الكليم وميلاده عليه السلام ألا وهي "سورة القصص"، سمَّاها ربنا سورة القصص، وسورة القصص هي سورة مكية نزلت في مكة والمسلمون قلة مستضعفة مضطهدين ومعذبين ومكذبين ومعتقلين أتت هذه السورة لكي تضع الموازين الحقيقية لمعنى القُوى والقِيم، أتت هذه السورة لكي تقرر بأن هناك قوة واحدة في هذا الوجود هي قوة ربنا المعبود سبحانه وتعالى وعز وجل، أتت هذه السورة لكي تقرر بأن هناك قيمة واحدة في الحياة، ألا وهي قيمة الإيمان بالله جل في علاه، فأي قوة تريد أن تتحدى قوة الله، إذا كانت قوة الله معك، فلا خوف عليك، ولا حزن عليك، وإذا كانت قوة الله عليك، فلا أمن لك، ولا أمان لك ولا استقرار لك، ولا طمأنينة لك، ولو ساندتك جميع القُوى البشرية، مِنْ شرقها إلى غربها، إذا كانت قوة الله تبارك وتعالى مع أحد، فليس هناك أي أحد يستطيع أن يبطش بك، أتت هذه السورة ونزلت لكي تحكي لنا أن قوة الله غالبة ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ [يوسف: 21]، هي السورة الوحيدة التي حينما تتأمل فيها تجد أن حلقات قصة سيدنا موسى دائمًا تتكلم عن مواجهة موسى مع فرعون، عن الحجج، عن البراهين، عن الصدع بالحق، أما هذه السورة في بدايتها تكلمت عن الظروف التي وُلد فيها موسى عليه السلام، ظروف قاسية، ذبح، واضطهاد، وتعذيب، وتنكيل، واعتقال، إلى آخره، فلقد وُلِدَ سيدنا موسى عليه السلام، في جوٍ اختلطت فيه القيم، وُلِدَ في مصر، في عصر رجل من طين، قال لشعب مصر: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات: 24]، بل زاد الأمر بهتانًا وضلالًا، قال: ﴿ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص: 38] لا إله إلا الله، ماذا كان موقف الشعوب؟ ماذا فعل شعب مصر؟ حينما سمع هذا الكلام، -ربكم الأعلى-وما علمت لكم من إله غيري- ماذا فعلوا؟! ما موقف الشعب حين إذ؟!! سجَّل ربنا تبارك وتعالى طاعتهم للطغيان، ورضاهم بالذل والهوان، فقال سبحانه وتعالى في كتابه: ﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ﴾ [الزخرف: 54] أطاعوا أمره، رضوا بأن يكون هو ربهم، وهو إلههم، وهو صنمهم، رضوا بذلك، فاستخف قومه فأطاعوه، لماذا أطاعوه يا الله؟!! لماذا؟ لأنهم ليسوا مؤمنين، نحوا شريعة رب العالمين، لم يرضوا بحكم الدين في الدنيا، فَسَقُوا عن أمر ربهم وعصوا رسله، فوصفهم ربنا: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ [النمل: 12] خرجوا عن طاعة ربهم ومولاهم وعن طاعة نبيهم، فسبب الطاعة الطغيان، أنهم فاسقين، ثم يسجل ربنا تبارك وتعالى قولًا عنيفًا ومخيفًا لأي شعب يُصفق للباطل، ويُصفق للطواغيت، اسمع يقول ربنا: ﴿ فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ ﴾ [الزخرف: 55] يا الله!! ـ آسفونا يعني أغضبونا ـ لم يقل ربنا: فلما أغضبنا فرعون، لا، انظر إلى حديث القرآن، تكلم عن الشعب، عن الجماهير، عن الناس، لماذا؟ هم الذين أخذوا بأيديهم إلى الهلاك، وإلى الهوان، وإلى الذل وإلى الدَّعة، ﴿ فلما آسفونا ﴾ أغضبوا الله بانتهاك حُرماته، والرضا بأن تُنتهك حُرمات المسلمين عيانًا بيانًا، أغضبوا الله، فلما آسفونا، ماذا فعلت يا الله؟!! ﴿ انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين، الساكت مع الراضي، مع الفاعل، مَنْ هُم الذين أنجيتهم يا الله؟!! مَنْ هم؟!! الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر، فمِن المفترض حينما يقول لكم: أنا ربكم الأعلى، تُحاسبوه وتناقشوه وتردوه إلى صوابه، من أين جئتم أنتم قبل فرعون، مَنْ الذي خلقكم؟!! ومَنْ الذي رزقكم ويرزقكم إلى الآن ويرزقكم إلى أن تموتون؟!! مَنْ؟!! إنه الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فَوُلِدَ سيدنا موسى عليه السلام في هذه الظروف القاسية الصعبة المملوءة بالدماء والأشلاء، فيحكي لنا ربنا عز وجل هذا السياق العجيب:

﴿ طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ[القصص: 1، 2] ليس أي أحد سيحكي، ليس هناك أي أحد يتكلم، إن المتحدث هو الله، إن المتكلم هو الله، يقول لك: ﴿ تلك آيات الكتاب المبين ﴾ الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، الحق واضح، والباطل واضح، الكتاب بَيَّن كل شيء، هنا نور، هنا ظلمات، هنا هدى، هنا ضلال، كتاب مبين، مبين لأنه يتوافق مع الفطرة، مبين لأنه يتوافق مع العقل، مبين لأنه كلام رب العالمين كلام واضح.

﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [القصص: 2، 3] لن نحكي كل شيء، سنذكر الدروس والعبر التي تأخذ منها الدرس وتستفيد وتعتبر وتتعظ ﴿ مِنَ ﴾ للتبعيض (﴿ نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون ﴾ الذي سوف ينتفع بهذا القصص هو المؤمن الذي معه من الإيمان ما يجعله يقبل قول الله لأنك حينما تلتقي بأناس آخرين تقول لهم: قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم يجادل ويناقش، وهو ربنا يقول: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 36] فسبحان الملك، ﴿ نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون ﴾ تلاوة، السورة اسمها القصص، لم يقل ربنا: نقص عليك من نبأ موسى وفرعون، وإنما قال: ﴿ نتلو عليك ﴾ يعني أن هذه القصة تتلوها مثل القرآن في كل مكان وزمان، ستتكرر مع كل الفراعين وكل الطواغيت، فالمطلوب منك أن تتلوها ليل نهار في كل زمان ومكان، اتلوها، كرَّرها، حتى يستوعب الناس الدرس، ﴿ نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [القصص: 3] كما في سورة يوسف عليه السلام: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ ﴾ [يوسف: 7] لم يقل للسامعين لا، وإنما لمن يريد أن يفهم، الذي يريد أن يعرف الحق من الباطل، الذي يسأل ويستفسر، ويريد أن يعرف الحقيقة، ليس مغمضًا عينيه، ويسير وراء الطواغيت، لا، فالذي يستفيد هو الذي يسأل، فالذي يريد أن يعرف الحق، المؤمن ﴿ لقوم يؤمنون ﴾ ما هو النبأ يا الله؟!! ﴿ إن فرعون علا في الأرض ﴾ حينما تقرأ أو تسمع كلمة ﴿ على ﴾ تنظر إلى السماء، إلى سماء شامخة، وحينما تعود وتقرأ (في الأرض) تُطئطئ رأسك، لأن آخره الأرض، ﴿ علا في الأرض في الأرض لأنه سيدفن فيها، في الأرض، علا بجبروته، علا واستعلا على الناس، وقال: أنا ربكم الأعلى، ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا [القصص: 4] أي طوائف، هم شعب ونحن شعب، هم طائفة ونحن طائفة، بل طوائف وأحزاب وجماعات، فرق تسد، وتأمل قال: ﴿ طائفة منهم ﴾، فلم يستضعفهم كلهم، إنما يوجد طائفة من الشعب الفنانين والفنانات أمثال قارون وهامان وغيرهما أمثال هؤلاء لا يُستَضعفوا ولا يُقتَّلوا ولا يُعتقلوا، فلو مسكوا أحد أبنائهم، أو هم أنفسهم بمخدرات أو مسكرات فبراءة، ويخرجوا في التو واللحظة، أما المستضعفون أصحاب الدين، الطائفة منهم من بني إسرائيل، أحفاد إبراهيم عليه السلام، يُقتَّلوا ﴿ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ ﴾ [القصص: 4] لماذا؟ لأنه خائف على ملكه، قيل في بعض كتب التفسير: أن ساسته وكُهَّانه وإعلامَه، قالوا له: زوال ملكك على مولود ذكر من بني إسرائيل، لو نفترض أن هذا الكلام صحيح، لا ينفع حذر من قدر، فملكك زال على هذا المولود الذكر، أما إذا كان هذا الكلام خطأ، وأنت واثق من نفسك، إذن لماذا تقتل الناس؟ لا تخف. فإذا كان كلام هذا الكاهن صحيح، فملكك زائل، فلا ينفع حذر من قدر، وإن كان هذا الكلام غير صحيح، لما أنت خائف وتقتل في الناس وفي الشباب وفي الأطفال، ﴿ يذبح أبناءهم ﴾ ويستحيي نساءهم، لماذا؟ للخدمة وليس رحمة منه، للاسترقاق، والذي يعمل هذا بماذا نسميه؟ بما نصفه؟ ﴿ إنه كان من المفسدين هذا مُفسد، أفسد الحرث والنسل، وأفسد الشركات والمصانع والزراعة والتجارة، أفسد كل شيء، أفسد عقول الناس بإعلامه وقنواته، أفسد كل شيء ﴿ إنه كان من المفسدين ﴾.

هذا يُسمَّى الجو أو الظرف الذي وُلد فيه سيدنا موسى، ولد في ظرف قاسٍ.

ثم تنتقل القصة لمشهد آخر، وهو أن سورة القصص هي السورة الوحيدة التي تكلمت عن قدرة الله حينما تتدخل في الصراع بين الحق والباطل، هذا الكلام غالي جدًّا ليس لأنه كلامي ولكن هذا كلام العلماء، كلام رائع، حينما يعلو الباطل ويتمادى الظلم والطغيان لدرجة أن البشر لا يستطيعون أن يقاومونه ويدفعونه، هنا تتدخل القدرة الإلهية، سيأتي المنّ والفضل من الله وحده، ما هو؟ إرادة الله، فرعون يريد، والله يريد، ولكن أي الإرادتين ستنفذ؟!! إرادة الله نافذة، ﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ﴾ [القصص: 5] إرادة الإنسان وإرادة الرحمن ﴿ ونريد أن نمن ﴾ يكون منًّا، لأنك بهذه الحال لا تنصر ولا مئات السنين، لأنك غير مؤهل، لكن سيأتي النصر، لأنك استُضعفتَ، وصبرت على الاستضعاف كثيرًا، وقُتل منك، وليس في يدك أي حيلة، فسيأتي التمكين مَنّ وفضل من الله، ﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً في الدين والدنيا ﴿ ونجعلهم الوارثين ﴾ يرثوا الملك والحكم، وهنا يقول ابن القيم: إذا أردت أن تنال الإمامة في الدين فعليك بأمرين: الصبر على الاستضعاف، واليقين بنصر الله، اقرأ إن شئت في سورة السجدة: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24] فالصبر على الاستضعاف، اصبر على الاستضعاف، الصبر ليس بأن تجلس في بيتك، اصبر وعندك يقين في نصر الله القادم، ﴿ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ﴾. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، ونُكمل بعد جلسة الاستراحة.

الخطبة الثانية
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، ومن علينا بالإيمان وأنزل فينا القرآن، وجعلنا من خير أمة أخرجت للأنام، تأمر بالمعروف وتنهى عن الآثام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق العلام الرحيم الرحمن، خلق من كل شيء زوجين ﴿ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [الرحمن: 13] نسأله سبحانه وتعالى أن يثبتنا على الحق والإيمان ونستنصر به جل وعلا الظلم والبغي والعدوان، ونعوذ به سبحانه وتعالى من فتنة المال والجاه والسلطان، ونتوجه إليه خاشعين صادقين أن يمن علينا بخاتمة الإحسان، قولوا: آمين.

حبيبي في الله... حينما تنتقل إلى المشهد الثاني من السورة أو من القصة تجد عجبًا عجابًا، إرادة الله عزوجل نفدت، فمتى يقع هذا التمكين وهذا الإرث، ﴿ ونجعلهم الوارثين متى؟! قبل، ﴿ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾ [القصص: 6] يحذرون من الطائفة المؤمنة المستضعفة، يا رب كيف ومتى، سؤالين! كيف ومتى سيكون هذا التمكين وهذا الإرث العظيم في الحكم، متى؟!! ﴿ وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه ﴾ تربية هذا الجيل، لو تذكرون في الجمعة الماضية، تكلمت عن الجيل الذليل، الذي رضي بالهوان، والله عز وجل عليهم، نحن نريد جيلًا جديدًا، جيلًا يحمل قضية الإسلام، جيل يعرف حقيقة وجوده في الحياة، لماذا خُلق؟ ولماذا وجد، وماذا يريد منه الله، أي بعد ثلاثين أربعين سنة، نعم بعد ثلاثين أربعين سنة، اعمل والله عز وجل عليه أن يخرج الثمرة في أي وقت يشاءه هو، ليست أنت، لكن عليك أن تعمل، اعمل، ﴿ وأوحينا إلى أم موسى أنأرضعيه ﴾ السورة الوحيدة التي تكلمت عن رضاعة سيدنا موسى عليه السلام، أرضعيه، هذا هو التمكين! نعم هذا هو التمكين، هذا هو بداية الإرث للأرض، ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ [الأنبياء: 105] نعم، لكن هم نفسهم طويل! الأسبوع الماضي 3 مارس كان الذكرى التسعين لسقوط الخلافة الإسلامية، الذكرى التسعين لسقوط الحكم بما أنزل الله، سقطت الخلافة حينما أتى هذا الشيطان عدو الله مصطفى كمال أتاتورك ومنع الحجاب، ومنع أسماء المسلمين بأن يسموا بها أمثال محمد وأحمد ومحمود، ونحى المحاكم الشرعية، وفعل الأفاعيل، كانوا يخططون لسقوط الخلافة 1942 من قبلها بسنوات، ثم بعد ذلك في 1936 حصل سايكس بيكو تقسيم الدول الإسلامية، جدك أو أبوك يقول لك: كانت مصر والسودان دولة واحدة، لم يكن هناك حدود، ثم بعد ذلك مصر لوحدها بلد والسودان بلد لوحدها، وبعد ذلك أصحبت السودان جنوب وشمال، العراق أصبحت سنة وشيعة، سوريا نفس الموضوع، والدور على مصر، لكن متى سنستيقظ، متى؟!! ابنك مسئول منك. نشتكي من حفاظ القرآن الكريم، ملايين الحفاظ، وليس هناك ثمرة، لذلك أقول لا نريد أن نحفظ القرآن فقط، لكن علينا أن نعمل بالقرآن، نعمل بهذا القرآن، كيف لابني يحفظ القرآن وهو يسب الدين ويدخن ويشتم وأخلاقه سيئة، أين روح القرآن؟! أين أثر القرآن يا أمة القرآن؟!﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ [القصص: 7] لماذا تخافين عليه وهم يقتلون المواليد الذكور، وهو خائف على ملكه، (فإذا خفت عليه) ماذا يحدث؟ شيء لا يصدق، ترميه في البحر، هي إرادة الله، الله هو الغالب، تؤمن بأن الله غالب، الله غالب، وقال العلماء: أن الغالب من أسماء الله الحسنى، الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي [القصص: 7] ارميه في نهر النيل لا تخافي (﴿ ولا تحزني ﴾ لماذا؟ (إنا ـ أي الله، والجمع للعظمة ـ رادوه إليك) سيرجع إليكِ ﴿ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7] بل من أُولي العزم من الرسل، بل سيكون كليم الله، ما هذه الوعود الربانية!! ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى ﴾ [القصص: 7] ليس الوحي وحي النبوة والرسالة والكلام، وإنما وحي الإلهام، أي ألهمناها مثل ﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ﴾ هل ربنا سيكلم النحل؟!! فهو وحي إلهام، فكما أنه يوجد وحي من الله، يوجد وحي من الشيطان ﴿ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ﴾ [الأنعام: 121]، ﴿ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7] هنا الجمال القرآني والجلال القرآني، عندما تقرأ ثاني صفحة من سورة القصص وآخر صفحة من سورة القصص، آخر صفحة ربنا يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ﴾ [القصص: 85] ـ سنردُّك يا محمد إلى مكة كما رددنا موسى إلى أُمّه أتُصدق؟!!.

موسى حينما بلغ أشده مكث في مدين عشر سنوات، والرسول مكث في المدينة عشر سنوات، تشابه قدري.

﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ ﴾ [القصص: 8] وهنا تظهر العناية الربانية، عناية الله الذي جعل النار بردًا وسلامًا، جعل البحر لموسى ملجأً ومنامًا، وهذا سنعرفه الخطبة القادمة بمشيئة الله تعالى.

الدعاء:
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم كن معنا ولا تكن علينا، اللهم انصرنا على مَن بغى علينا، اللهم خذ حقنا ممن ظلمنا، اللهم حببنا في بعضنا، واطرد الشيطان من بيننا واجعلنا إخوانًا متحابين على سرر متقابلين في جناتك جنات النعيم، اللهم حسن أخلاقنا، حتى نعطي من حرمنا، ونصل من قطعنا، ونحسن إلى من أساء إلينا، اللهم أنزل علينا السكينة وارزقنا الطمأنينة، ولا تحرمنا يا ربنا زيارة مكة والمدينة، اللهم اكتب لنا حجة وعمرة قبل الممات، اللهم كن لإخواننا في سوريا، اللهم قاتل دونهم، اللهم كن مع إخواننا في مالي وفي بورما وفي افريقيا وفي السودان وفي الصومال وفي العراق وفي شتى بلاد الإسلام يا رب العالمين، اللهم قنا في مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم خذ بيد كل من يريد الهدى، اللهم إن كان من هذه الأمة على غير الحق وهو يبحث عن الحق فرده إلى الحق ليكون من أهل الحق، اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.


آمين... آمين... آمين

﴿ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [غافر: 44].

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 11-08-2020, 03:27 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مع الكليم في القرآن الكريم

مع الكليم في القرآن الكريم (2)


مصطفى محمود شيخون





الخطبة الأولى
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الخلق وحده وليس معه شريك، ورزق الخلق وحده وليس معه شريك، فينبغي أن يُعبَد وحده وليس معه شريك.

سبحانك... سبحانك... سبحانك، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، سبحانك لا فَهم لنا إلا ما فهمتنا إنك أنت الجواد الكريم.

﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [الأنعام:59].


وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه، نشهد أنه أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة، فكشف الله به الغمة وجاهد في سبيل ربه حتى أتاه اليقين، فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

بلغ العُلا بكماله، كشف الدُجى بجماله، حسُنَت جميع خصاله، صلوا عليه وآله، فاللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ[آل عمران:102].


﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً[النساء: 1].


﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً[الأحزاب: 70-71].


أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي الأنبياء وأحسن السنن سنة سيدنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، وخير الملل ملة أبينا إبراهيم عليه السلام، وأحسن القصص القرآن، وخير ما وقر في القلب اليقين، وخير الزاد التقوى، وأشرف الحديث ذكر الله، وشر الضلالة؛ الضلالة بعد الهدى، وشر المعذرة حين يأتيك الموت، وشر المكاسب كسب الربا، وشر المآكل أكل مال اليتيم، وشر العمى عمى القلب، وخير الغنى غنى النفس، وخير الأمور عَوازمُها، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

اللهَ أسألُ أن يقني وإياكم ووالدي وجميع المسلمين من النار، ومن حر النار، ومن زقوم النار، ومن حميم النار، ومن غسلين النار، ومن طعام النار، ومن شراب النار، ومن كل قولٍ أو عملٍ يُقربُنا من النار، آمين... آمين... آمين.

أحبتي في الله... أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأن نقدم لأنفسنا أعمالًا صالحة تُبيض وجوهنا يوم أن نلقاه، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، رزقني الله وإياكم هذا الخير.

عباد الله...
ما زلنا مع الكليم في القرآن الكريم
كنا قد تحدثنا في الخطبة الماضية أن نبي الله موسى عليه السلام احتفى بذكره القرآن أيما احتفاء، فلقد ذُكر موسى عليه السلام في أكثر من عشرين سورة قرآنية، علاوة على أن اسمه عليه السلام ذكر أكثر من مائة وعشرين مرة. لماذا تتعدد سور وقصص سيدنا موسى عليه السلام في القرآن بهذه الكمية؟ إلا أن هناك حكمة بل حِكَم باهرة من الله لهذه الأمة خصيصًا لهذا الشبه العظيم الذي بين بني إسرائيل وبين أمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

فحينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه الإيذاء ويكثر كان يسلي نفسه صلى الله عليه وسلم بذكر أخيه موسى عليه السلام، بل كان يقول: رحم الله أخي موسى فلقد أوذي بأكثر من ذلك فصبر. يسلي نفسه لكي يصبر صلى الله عليه وسلم على إيذاء القوم والأعداء، لذا فقد اخترنا لكم سورة القصص لأنها الصورة الوحيدة التي بدأت بذكر ميلاد موسى عليه السلام وانفردت هذه السورة بهذا الأسلوب الرائع في عرض الظروف التي ولد فيها موسى عليه السلام، قبل أن أحدثك عن مولده وعن رضاعته وعن أخذ فرعون له؛ بدأ لك بتشبيه صورة رائعة للأحداث التي تدور في الوقت الذي ولد فيه موسى عليه السلام.

قلنا ونذكر أن سورة القصص هي سورة مكية، نزلت في مكة والمسلمون قلة مستضعفة، والمشركون هم أصحاب الجاه والسلطان، والمؤمنون القلة المستضعفة هم المضطهدون والمعذبون والمعتقلون والمشردون والمطرودون من بلادهم.

فنزلت هذه السورة المكية لكي ترسخ في قلوب المؤمنين بأن هناك قوة واحدة في هذا الوجود، ألا وهي قوة ربنا المعبود جل في علاه، وأن أي قوة أخرى بشرية لن تستطيع أن تصمد أمام قوة القوي المتين.

وأن هذه السورة نزلت لكي تقول للمؤمنين أن معكم قيمة ليست مع أي أحد، ألا وهي قيمة الإيمان بالله، الإيمان الذي إن وُلد في قلوب المؤمنين حقيقة كانوا أهلًا لتنزل النصر عليهم، ولكن بني إسرائيل حينذاك لم يكونوا أهلًا لتنزل النصر عليهم، لذا تدخل الله تبارك وتعالى بمنه وفضله لكي ينهي هذا الصراع وهذا الاستضعاف لقوم أوذوا كثيرًا ومرارًا وتكرارًا وقُتل منهم الكثير، فأتت إرادة الله تبارك وتعالى لكي تنتشل هؤلاء القلة المستضعفة من براثين القتل والدماء والجاهلية، لكي تخرجهم إلى النور والحرية والكرامة، لكي يعلموا أن لهم وزنًا عند الله ابتداءً، فقال ربنا: ﴿ وَنُرِيدُ إرادة.. إرادة الله نافذة، فرعون يريد؛ يريد تقتيل ويريد تشريد ويريد أن يجعل الشعب طوائف ومللًا، هو يريد ذلك ولكن الله يريد عكس ذلك.

فأي الإرادتين ستنفذ؟ إرادة الله جل في علاه أم إرادة عبد من طين لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا؟! فإرادة الله نافذة.

وهذا كان تحديًا من الله عز وجل لكل طاغوت وكل فرعون بأن أمر الله نافذ، ﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ [القصص: 5]، منٌّ وفضل مِن الله، وفوق ذلك ﴿ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً يملكون أمر أنفسهم ويتحكمون في كل شيء، أئمة، وفوق ذلك ﴿ وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ يرثون الملك والحكم والبلاد، وفوق ذلك.. قد تكون وارثًا للحكم ولكن لست ممكنًا.

خذ هذه؛ قد تكون صاحب ملك وصاحب سلطان ولكنك لست ممكنًا، انظروا إلى الشرق! من الناس من يظن أن الدول المترفة التي عندها الراحة والدعة والأموال يحكمون شرع الله، بل في البلد الذي نزلت فيها رسالة الله، ولكن أين؟! أين شرع الله؟ لا يوجد، المسلمون ليسوا ممكنين في الأرض، شرع الله ليس ممكنًا في الأرض، حتى ولو قالت إن هذا البلد بلد الحرمين أو بلد فلان أو البلد الإسلامي العلاني الفلاني، لا, كل هذا هراء، فقال ربنا تبارك وتعالى بعد هذا المن: ﴿ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾ [القصص: 5-6] فلا بد أن تجمع بين الملك والحكم والتمكين.

وبعد ذلك لا بد من إنفاذ الإرادة الإلهية، هل يترك ربنا الظالم على ظلمه؟ وهل يترك ربنا حق المقتول ولا يأخذه من القاتل؟ حاشاه جل في علاه، فهو الذي سيرد الحقوق إلى أهلها في الدنيا والآخرة، فقال: ﴿ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مِنْ مَنْ؟ مِن المستضعفين مِن المؤمنين من المعتقلين المشردين ﴿ مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ يحذرون هلاكهم يحذرون زوال ملكهم يحذرون كل ذلك، فلا بد من أن يري الله عز وجل الطواغيت ما كانوا يحذرون.. إرادة الله، هل تصدق ربك؟ أتصدق الله أنه سيري الظالمين عاقبة ظلمهم. بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين.

ثم وقفنا عند هذه الرواية كيف يحدث ذلك؟ كيف سيمكن للقلة المستضعفة؟ كيف وليس معهم أي شيء؟! تبدأ السورة في مشهد آخر عجيب، في أسلحة التمكين الخفية التي لا تُرى بالعين، التي لا يراها الناس، ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ من هنا يبدأ التمكين من هنا يبدأ النصر، ومتى سيكبر هذا المولود الصغير الطفل الرضيع متى؟ حتى يبلغ أشده ثلاثين أربعين عامًا، وهل نصبر على كل ذلك؟ نعم. ليست العبرة بأن نصل إلى نهاية الطريق ولكن العبرة أن نموت على الطريق، أن يقبض الله أرواحنا ونحن مسلمون مصدقون بوعيده ووعده سبحانه، فليست العبرة بمن سبق ولكن العبرة بمن صدق، اصدق الله يصدقك الله.

﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ وقيل: إنه وحي إلهام لا وحي كلام، كما قال ربنا العلام: ﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل: 68] هو وحي إلهام، ﴿ أنْ أَرْضِعِيهِ رضعات مشبعات حتى يستطيع أن يكمل هذه الأيام الخوالي وهو في النهر نهر النيل وحينما يأخذه آل فرعون؛ لأنه لن يستطيع أن يقبل ثدي امرأة إلى ثدي أمه، فأرضعيه.. أرضعيه رضعات مشبعات، قالوا: أرضعته أم موسى ثلاثة أشهر، وكانت في هذه الثلاثة أشهر تضعه في التابوت وتربط التابوت بالبيت، لأن بيتها على الساحل على النهر، فتضعه في التابوت وحينما يأتي أحد تضع التابوت في الماء مربوطًا بالبيت كما جاء هذه إرادة الله سبحانه وتعالى.

وقيل: لما كثر القتل، الملك الطاغية فرعون حينما أعلمه ساحروه بأن ملكه سيزول على ولد ذكر من ولد إسرائيل جعل يقتل فيهم حتى لم يبقى شيء إلا عددًا منهم فأصبح القبطيون غير الإسرائيليين يتولون هم الأعمال الشاقة لأنهم كانوا يستعبدون بني إسرائيل في أعمالهم وخدمتهم فقالوا: لن يبقى رجال يتولون هذه الأعمال الشاقة سوف نتولاها نحن، فقال فرعون: عام وعام؛ عام نُقتِّل وعام نعفو.

وولد هارون عليه السلام لكي يعلم السائل متى ولد هارون؟ ولد في العام الذي يعفو فيه عن القتل، قيل: قتل سبعون وليدًا وقيل تسعون وليدًا، انظر إلى هذا العدد! خائف على زوال ملكه، جعل -كما يقول ابن كثير في تفسيره- جيشًا من القابلات اللواتي يستقبلن الرضيع، كل امرأة تكون في بيت المرأة التي ستضع وتتابعها إلى أن تضع وليدها وتستقبله القابلة وتأخذه إلى فرعون أو تبلغ جيش فرعون أن يأتوا بالشفرة ويذبحوه.

﴿ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [القصص: 7] خفت عليه من هذا القتل وهذا الظلم، ﴿ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي قيل: أن هذه الآية الوحيدة في القرآن التي جمعت أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا... الخبران اللذان يحملان البشارتين ﴿ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وعد من الله ﴿ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 7] يخفف من روعها وخوفها على وليدها.

هذه اللطيفة الرائعة أن القرآن يحدثنا في كل وقت وآن ﴿ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ حينما ترجع إلى آخر صفحة في سورة القصص، يقول ربنا لنبيه محمد: ﴿ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [القصص: 85] كما رددنا موسى إلى أمه وأنفذنا وعدنا، سنردك يا محمد ناصرً منتصرًا على أعدائك في فتح مكة، أتصدقون الله؟ ﴿ جَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 7].

يأتي مشهد آخر ﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً [القصص: 8] انظر إلى هذا التدبير الإلهي، ألم أقل لكم أن هذه السورة تحدٍّ من الله.. تحدٍّ.؟! كيف سار التابوت في النهر؟! كيف لم تأخذه الأمواج؟! ونحن الآن وقبل الآن من قرن من الزمان يقولون: إن نهر النيل في مرحلة الشيخوخة، فكيف من قبل أيام الفرعون يمشي في هذه الأمواج العاتية؟ لم يأخذ التابوت شيئًا من الماء، أو أي ظرف يطرأ عليه؟ لا، لأن النهر جند من الله مأمور بأن يأخذ موسى عليه السلام وهو في التابوت وأن يأتي به ويقف عند قصر فرعون، القصر الرئاسي الفرعوني.

وفي هذه اللحظة وانظر إلى التدبير الإلهي تخرج امرأة فرعون لكي تنظر إلى النهر فتجد تابوتًا فتأخذه، من أخرجها في هذه الساعة أليس الله؟! أليس هو التدبير الإلهي؟! فأخذته فتحت التابوت.. رأت ما لم تره من قبل؛ طفل جميل ما أحسنه وما أجمله وما أروعه ﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي من الله ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي.

﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ [القصص: 8] أخذته، فحينما رآه فرعون: ذكر طفل ما الذي جاء به إلى قصري، إني أذبح الأطفال إني أذبح الذكور، أقْتُله. انظر إلى هذا الفزع! خاف على ملكه وعلى سلطانه وجاهه وحياته، اقتلوه. قالت: ﴿ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ ليس عندنا مولود ذكر، ولدن كلهن بنات. انظر إلى حكمة رب الأرض والسموات، لم يولد لم مولود ذكر، فقرة عين لي ولك، فقالت كما يقول ابن عباس: قالت قرة عين لي ولك، فقال فرعون: أما لك فنعم وأما لي فلا.

ونفذت الإرادة كان موسى الرضيع سببًا في هداية امرأة فرعون فأصبحت من النساء الكُمَّل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ».

سلاح موسى عليه السلام حب الناس له، محبة الله التي ألقاها عليه، يراه كل أحد يعجب به ويصاب بفرحة هائلة بهذه المحبة التي قذفها الله في قلوب الخلق، لذا إذا أحبك الله حبب فيه خلقه، ولكن إذا سخط عليك ربك أسخط عليك كل شيء.. أسخط عليك كل شيء، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً [مريم: 96] آمن واعمل صالحًا يجعل لك الله ودًّا.

﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً [القصص: 8] هذا سيكون من أعجب الأعداء يا فرعون، والتحدي أنك أنت الذي ستشرف على تربيته وغذائه وطعامه وشرابه ولباسه وفي قصرك.

﴿ وَحَزَناً حزنًا تحزنون: يا ليتنا قتلناه. هذا تدبير، ولد صغير جاء من نهر النيل لم يفكر منهم أحد أن هذا الولد فيه شيء ما لعله حقًّا الذي قاله الساحر أن ملك فرعون سيزول على يديه، وقد كان، لكن أعماهم الله عن كل هذا.. أمر الله عز وجل، التدبير الإلهي المحكم، ﴿ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً.

انظر إلى التعبير الإلهي: ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ﴾ [القصص: 8] انظر إلى التعبير، لم يقل: مجرمين أو سفاحين أو قتالين مع أن هذه أوصاف حقيقية لهم، ولكن قال: ﴿ خَاطِئِينَ لم يصيبوا جهال حمقى، أحمق يظن أنه على صواب وهو مخطئ، سلك الطريق الخطأ، ﴿ كَانُوا خَاطِئِينَ في فهم الناس وفي فهم الواقع وفي فهم عواقب الأمور.. خاطئين.

﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ وحده؟ ﴿ وَهَامَانَ الوزراء ﴿ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ لأنه نظام متكامل مجرم لم يستأصله الناس من جذوره.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، وأسأل الله أن يجعلنا من الذين أُنعِم عليهم شكروا، وإذا ابتُلوا صبروا، وإذا أذنبوا استغفروا.


الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، الكريم المجيب لكل سائل، التائب على من تاب فليس بينه وبين العباد حائل، جعل ما على الأرض زينة وكل نعيم لا محالة زائل، حذر الناس من الشيطان فللشيطان مكائد وحبائل، فمن أسلم وجهه لله فذلك الكيس العاقل، ومن استسلم لهواه فذاك الضال والغافل.

نحمده سبحانه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، فالحمد منه وإلى جنابه واصل، ونعوذ به من الفتن ما ظهر منها وما بطن في عاجل أمورنا والآجل، ونسأله الفوز بالجنة ورفقة النبيين والصديقين والمقربين الأوائل.

ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، منزه عن الشبيه والشريك والمماثل، من للعباد غيره، ومن يدبر الأمر، ويعدل المائل، من يشفي المرضى، ومن يداوي الجرحى، ومن ينقذ الغرقى، ومن يرعى الجنين في بطون الحوامل، من يحفظ الناس وهم نيام، وهل لحمايته بدائل! من يجيب المضطر إذا دعاه، وهل استعصت على قدرة ربك المسائل! ومن ينصر المظلوم، ولولا عدله لاستوى القتيل والقاتل، ومن يكشف الهم والكرب، ومن يفصل بين المشغول والشاغل، إنه الله.. إنه الله الملك الحق ولك ما خلا الله باطل.

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ولرسالة الحق حامل، النبي الأمي الهاشمي العربي القرشي، الذي لم تنجب مثله القبائل، سل رمال مكة عن عفافه، وسل منها العوالي والأسافل، سل البلغاء، سل الشعراء، سل الأدباء إذا تكلم النبي فهل هناك مقالة لقائل! سل الدنيا هل زانها قبل النبي أو بعده مماثل!

كل القلوب إلى الحبيب تميل ومعي بذلك شاهدٌ ودليل
أما الدليل إذا ذكرت محمدا صارت دموع المحبين تسيل
هذا رسول الله هذا المصطفى هذا لكل العالمين رسول
صلوا عليه وسلموا تسليما حتى تنالوا جنة ونعيمًا
فالله يجزي من يصلي مرة عشرا وهو في النعيم مقيم
فاللهم صلِّ وزد وبارك على سيدنا محمد.

﴿ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [القصص: 9] وهم لا يدرون أن هذا الرضيع وهذا الطفل سبب هلاك ملكهم وزواله، ولكن الله عز وجل صور مشهدا آخر في هذا المشهد العجيب، امرأة فرعون فرحت به، ولكن أمه التي وضعته ما حالها؟ أن ربنا تبارك وتعالى الحديث وأن يعطينا الصورة والمشهد لهذه المرأة الملهوفة الحزينة الخائفة على وليدها، يصور ربنا تبارك وتعالى حديثًا عن أم موسى قائلًا: ﴿ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً [القصص: 10] فارغ عن كل شيء إلا عن موسى عليه السلام.

أنت يا عبدالله.. حينما يكون عندك هم في العمل أو مع الأولاد أو مع الجيران أو في البيت أو في الولد أو في أي شيء، هذا كله يسمى هموم صغيرة، ولكن حينما تضع رأسك على الوسادة ليلًا يجتمع إليك الهم الأكبر الذي يجعلك تنسى أي هم وغم إلا هذا الهم، فكل هم زائل إلا همّا واحدًا تجعله أكبر همومك.

أم موسى كان أكبر همها وليدها ابنها التي كيف استطاعت أن تلقيه في اليم دون أي ترديد، لعلها تقول في نفسها: أنا لا أعلم عنه شيئًا الآن، إن كان قتل اعرف وسوف يرتاح قلبي سوف أدفنه بيدي، ولكني لا أعلم أين هو الآن، أقتلوه؟ أم غرق؟ أم ماذا حدث له؟ يصور ربنا هذا المشهد الذي يخلع القلوب ﴿ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ ستخرج إلى الشارع وتقول: وا ولداه.. وا ابناه.. قتلت ولدي، لقد وضعته في الماء دون أي ترديد، سوف تصبح كالمجنونة تحدث نفسها وتكشف أمرها للناس ﴿ لَوْلَا.. لولا ماذا؟ لولا شجاعتها؟ لولا صبرها؟ ليس عندها صبر ﴿ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا.

اللهم اربط على قلوب أمهات المسلمين، اللهم اربط على قلوب أمهات المعتقلين، اللهم اربط على قلوب أمهات الشهداء الثكالى!

﴿ رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لماذا؟ إن لم يكن هذا الربط من الله على القلب لن تكون مؤمنة، لذا حينما تأتيك مصيبة ما؛ فقد حبيب أو موت قريب أو مرض صديق لا بد أن يكون الصبر عند الصدمة الأولى، إن تحدثت وشكوت وجزعت لم تكن مؤمنًا، «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير له، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له وليس هذا إلا للمؤمن»، لذا ﴿ وْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا [القصص: 10] هنا لطيفة رائعة وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين، ما الفارق بين الفؤاد والقلب؟ الله جمع بين الاثنين في آية واحدة، ﴿ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا [القصص: 10] ما الفارق؟ يقول العلماء: إن الفؤاد هو محل الخوف والجزع، أما القلب فهو محل الاطمئنان والسكينة والخشوع، لذا يحتاج الفؤاد إلى تثبيت لأنه خائف لأنه جزع، لذا ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً [الفرقان: 32] يقول الله: ﴿ كَذَلِكَ أي أنزلناه مفرقًا، لماذا يا رب؟ ﴿ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ لأنه فيه الخوف وفيه الجزع فيحتاج إلى تثبيت، فثبت الله فؤاد أم موسى، والقلب يحتاج إلى سكينة إلى اطمئنان إلى هدوء ﴿ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا [القصص: 10].

قال الله للخليل: ﴿ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260] قلبي هو الذي يحتاج إلى اطمئنان، قال الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] القلب يحتاج إلى اطمئنان، فاللهم طمئن قلوب المؤمنين يا رب العالين بذكرك وبقرآنك وبكتابك وبكلامك يا أرحم الراحمين.

أرى الوقت يمر سريعًا ولكن أختم لكم بهذا المشهد الرائع التي قالت فيه أم موسى: ﴿ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ [القصص: 11] ليس أنا، ألقت ولدها تريد أن تطمئن، قصيه تتبعيه وتتبعي أثره إلى أين سيستقر به الماء، (وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ) تسير ولا تريد أن يُعرَف أنها تراقب هذا التابوت، حتى استقر به التابوت عند القصر كما قلنا، فعلمت أين ذهب به التابوت.

﴿ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [القصص: 11] لا يشعرون أن هذه أخته تتبع أثره وتريد أن تطمئن قلب أمها عليه.

وما الذي يحدث حينما يجدوا هذا الرضيع ﴿ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ [القصص: 12] ، حرام أن موسى عليه السلام يرضع من ثدي غير ثدي أمه لا يجوز، ﴿ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ أي من قبل أن نرده إلى أمه مرة أخرى، لأن وعدنا آتي ووعدنا حق، ﴿ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ أخته ﴿ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ [القصص: 12] لماذا؟ حينما حرم ربنا المراضع ولم يقبل موسى عليه السلام بأي ثدي خرجوا به في الأسواق، انظر أصبح همهم هذا الرضيع بعد أن كان همهم قتل الرضع وقتل الأطفال، أصبح الهم العكس عندهم شيء يريدون أن يطعمونه خائفون عليه، لأن الله ألقى المحبة في قلوبهم، فيحبه كل من يره، يذهبون به في لهفة نريد أن نطعمه، الطفل يبكي لا يقبل أي ثدي غير ثدي أمه، نريد أن نرضعه بأي شكل من الأشكال، فذهبوا به في الأسواق فلم يجدوا أحد يقبل ثديه.

فقالت لهم أخته: ﴿ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ [القصص: 12] بالله عليك هذا سؤال؟! أليس هذا يعلمهم أن في هذا الطفل شك وأن هذه المرأة التي هي أخته بينه وبينها أي شيء؟ لم تسألين؟ لماذا أنت مهتمة؟ أكيد ومؤكد أن هذا الطفل هو الذي سيزول ملك فرعون على يديه؟ لكنه التدبير، ومن يدبر الأمر؟ الله يدبر الأمر.

قال ابن عباس ترجمان القرآن معلقًا على هذه الآية، قال: فشكوا في أمرها وقالوا لها: كيف عرفت أنهم سيكفلونه وأنهم له ناصحون، هنا زكاء المؤمن وفراسة المؤمن، فقالت: هم ناصحون لفرعون للملك لأنهم يبتغوا منه العطاء.

هذا كلام ابن عباس ترجمان القرآن الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم حينما وضع يده على صدره: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» يعلم السورة فيمن نزلت وأين نزلت وسبب نزولها.

فشكوا في أمرها، ولكنه التدبير سبحان الملك القدير. فقالت هذه الإجابة فصمتوا وسكتوا: هم ناصحون لفرعون ويرجون منه العطاء، فرد الله عز وجل موسى إلى أمه بعد أن كانت سترضعه مجانًا سترضعه الآن بأجر.

قل: الله أكبر..


يرد الله عز وجل إليها رضيعها لأنه وَعَد، وتأخذ على الرضاعة أجر، سبحان الله، فيقول الله عز وجل: ﴿ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا [القصص: 13] انظر إلى اهتمام القرآن بقلب هذه المرأة، وانظر إلى تسخير ربنا للنساء لسيدنا موسى، أولهن أمه، ثانيهن أخته، ثالثهن امرأة فرعون عدوه وعدو الله، من غيرهن؟ عندما نقرأ في سورة القصص نجد ﴿ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ [القصص: 23] سيتزوج إحداهن، وهكذا يسخِّر الله عز وجل من يعينه على هم الرسالة وحمل الرسالة، دور رائع للمرأة في قصة موسى عليه السلام.

لذا؛ ينفذ الله وعده ﴿ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [القصص: 13]، من الناس ما لم يعلم أن وعد الله حق إلا حينما يرى بنفسه فلا يؤمن بالغيبيات وإنما يؤمن بالمحسوسات بالماديات كبني إسرائيل قالوا: أرنا الله جهرة، نريد أن نرى من نعبده، انظر.

لكن المؤمن الحق الصادق في إيمانه لا يحتاج إلى ذلك هو رأى الجنة والنار بعيني رسول الله فلا يحتاج إلى ذلك، هو يؤمن بالغيب ويؤمن بوعود الله عز وجل.

وسوف نقف عند هذه الآية ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أن وعد الله نافذ وأن تحقيق وعود الله بالتمكين للإسلام نافذة.

نقف عندها ونستكملها الخطبة القادمة بمشيئة الله تبارك وتعالى.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم خذ حقنا ممن ظلمنا، اللهم عليك بالظالمين والطواغيت، اللهم أرنا فيهم آية يا رب العالمين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين بعز الإسلام والمسلمين، اللهم مكن لعبادك الصالحين المصلحين، واجعلنا منهم يا رب العالمين، اللهم اذهب غيظ قلوبنا بهلاك عدونا، اللهم حببنا في بعضنا، واذهب الشيطان من بيننا، واجعلنا إخوانًا متحابين على سرر متقابلين في جنات النعيم، اللهم تب علينا لنتوب، واغفر لنا جميع الزلات والذنوب، اللهم كن مع إخواننا في سوريا، اللهم طهر قلوبهم، اللهم كن مع إخواننا في مالي، اللهم كن مع إخواننا في السودان، اللهم كن مع إخواننا في الصومال، اللهم كن مع إخواننا في العراق، اللهم كن مع إخواننا في أفريقيا، اللهم كن مع إخواننا المسلمين الموحدين المجاهدين في شتى بقاع الأرض يا رب العالمين.


آمين ... آمين ... آمين


﴿ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ[غافر: 44]



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 11-08-2020, 03:28 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مع الكليم في القرآن الكريم

مع الكليم في القرآن الكريم (3)


مصطفى محمود شيخون





الخطبة الأولى
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الخلق وحده وليس معه شريك، ورزق الخلق وحده وليس معه شريك، فينبغي أن يُعبَد وحده وليس معه شريك.

سبحانك... سبحانك... سبحانك، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، سبحانك لا فَهم لنا إلا ما فهمتنا إنك أنت الجواد الكريم.

﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [الأنعام: 59].


وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه، نشهد أنه أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة، فكشف الله به الغمة وجاهد في سبيل ربه حتى أتاه اليقين، فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

بلغ العُلا بكماله، كشف الدُجى بجماله، حسُنَت جميع خصاله، صلوا عليه وآله، فاللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب: 70-71].


أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي الأنبياء وأحسن السنن سنة سيدنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، وخير الملل ملة أبينا إبراهيم عليه السلام، وأحسن القصص القرآن، وخير ما وقر في القلب اليقين، وخير الزاد التقوى، وأشرف الحديث ذكر الله، وشر الضلالة؛ الضلالة بعد الهدى، وشر المعذرة حين يأتيك الموت، وشر المكاسب كسب الربا، وشر المآكل أكل مال اليتيم، وشر العمى عمى القلب، وخير الغنى غنى النفس، وخير الأمور عَوازمُها، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

اللهَ أسألُ أن يقني وإياكم ووالدي وجميع المسلمين من النار، ومن حر النار، ومن زقوم النار، ومن حميم النار، ومن غسلين النار، ومن طعام النار، ومن شراب النار، ومن كل قولٍ أو عملٍ يُقربُنا من النار، آمين... آمين... آمين.

أحبتي في الله... أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأن نقدم لأنفسنا أعمالًا صالحة تُبيض وجوهنا يوم أن نلقاه، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، رزقني الله وإياكم هذا القلب.
عباد الله...

مع الكليم في القرآن الكريم:
هذا هو اللقاء الثالث تحت هذا العنوان المبارك وكنا قد تكلمنا عن موسى الكليم عليه السلام واخترنا موسى بالذات من بين سائر الأنبياء لكثرة الشبه بين الأحداث التي وقعت مع موسى ومع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حتى كان نبينا صلى الله عليه وسلم حينما يشتد عليه الإيذاء كان يسلي ويصبر نفسه بموسى عليه السلام فكان يقول: «رحم الله أخي موسى فلقد أوذي بأكثر من ذلك فصبر»، ولأن موسى عليه السلام هو النبي الوحيد الذي ذكر في القرآن أكثر من مائة وثمانين مرة، فهل هذا من قبيل المصادفة، لا، الله سبحانه وتعالى من أسمائه الحكيم، وهو يضع الشيء بحكمة وعلم سبحانه وتعالى، فحينما يذكر نبيه موسى عليه السلام من سائر الأنبياء العظام الكرام أكثر من مائة وثمانين مرة هذا دليل واضح على أهمية حياة سيدنا موسى عليه السلام، لذا اخترنا سورة القصص لسرد حياة الكريم في القرآن الكريم، لأن قصة سيدنا موسى الكليم عليه السلام متنوعة ومختلفة في القرآن الكريم، ترى منها في البقرة وآل عمران والإسراء والأعراف إلى غير ذلك، ولكن سورة القصص هي السورة الوحيدة التي بدأت بميلاده عليه السلام مرورًا بنشأته والأوضاع التي وُلد فيها مرورًا بهجرته مرورًا بزواجه، مرورًا بمواجهته مع أعتى طاغية في القرآن الكريم ألا وهو فرعون، فسورة القصص كما قلنا هي سورة مكية نزلت والمسلمون قلة مستضعفة في مكة يعذبون ويضطهدون ويقتلون ويعتقلون ويشردون كل ذلك لأنهم قالوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فنزلت سورة القصص لتسلي المؤمنين، ولكي تعلمهم بأن هناك قوة واحدة في الوجود هي قوة ربنا المعبود سبحانه وتعالى وأن جميع القوى البشرية لن تستطيع أن تصمد أما قوة القوي المتين جل في علاه ونزلت أيضًا لكي تقرر بأن هناك قيمة واحدة في الحياة هي قيمة الإيمان بالله جل في علاه فالإنسان لا قيمة له بدون الإيمان والعمل الصالح إذا قال ربنا تبارك وتعالى: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ العصر: 2] كل الإنس في خسر (إِلَّا) هناك استثناء ﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 3] فبدون الإيمان والعمل الصالح فلا قيمة لك هذه السورة نزلت لكي تعلمنا بأن أغلى قيمة في الحياة هي أن تكون مؤمنًا بالله تبارك وتعالى، ثم توقفنا في اللقاء الماضي وهو اللقاء الثالث عند الوعد الرباني، وقلنا: إن وعد الله حق، وعد الله تبارك وتعالى أم موسى أن يرد لها موسى، فقال لها: ﴿ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ [القصص: 7] كان هذا الوعد وتحقق الوعد لأم موسى في زمن قليل جدًّا، فقال: ﴿ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [القصص: 13] وقلنا: لا بد من التعامل مع الوعود الربانية من فقه، فقه التعامل مع الوعود الربانية، ولا يكون ذلك إلا بالإجابة على ثلاثة أسئلة مهمة:
السؤال الأول: أحق هو؟! ﴿ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ [يونس: 53] ﴿ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً [الكهف: 98].

السؤال الثاني: متى هو؟! ﴿ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً [الإسراء: 51] ﴿ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً [المعارج: 6ـ 7].

السؤال الثالث: لمن هو؟! لمن هي هذه الوعود الربانية والبشريات النبوية، والاستخلاف والتمكين للمؤمنين في الأرض، لمَن؟ ﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [فصلت: 44] ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾ [النور: 55].

أتصدقون بوعد الله؟! لذا فالوعد للمؤمنين، لمن حقق هذه القيمة الغالية في الحياة، مَن آمن بالله ربًّا ورازقًا ومدبرًا وحاكمًا ومتصرفًا في كل صغيرة وكبيرة في حياته، ومن آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم مشرعًا يأمر وينهى، فيطيعه في كل من أمر به، وينتهي في كل ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم، ويؤمن بهذا الإسلام دينًا، دينًا بين له كل شيء، دينًا ارتضاه ربنا تبارك وتعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً [المائدة: 3]، دينًا رضيه الله لنا، أفلا نرضاه نحن لأنفسنا حاكمًا يعلمنا كل شيء؟! بلى.

ونحن اليوم أما مرحلة جديدة من حياة موسى الكليم في القرآن الكريم، هذه المرحلة مرحلة قد سكت عنها القرآن ولم يفصل فيها ولم يتكلم عنها، فبعد أن رد الله تبارك وتعالى موسى لأمه دخل مباشرة الحديث عن بلوغ موسى الأشد والاستواء فقال: ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [يوسف: 22] لك أن تسأل الفترة التي ما بين رد موسى عليه السلام وهو رضيع إلى أمه حتى بلغ الأشد، وحينما تفتح كتب التفسير، تجد أن من المفسرين من قال الأشد: أي بلغ ثلاثين سنة ومنهم من قال: ثلاثًا وثلاثين سنة، وقيل في الاستواء: سن الأربعين سنة، كل هذه الفترة لم يحدثنا القرآن الكريم عن موسى، وهنا ثمت أسئلة، هل موسى بقي في القصر الفرعوني كل هذه المدة؟! وهل استطاع موسى الجليل الذي صنعه الله على عينه أن يتحمل ادعاء الألوهية والكفر والظلم لعباد الله ليل نهار وهو تحت قبة هذا القصر؟! استحالة، فهناك أقوال واستنباطات تعلمنا وتخبرنا بأن موسى خرج من القصر الفرعوني ولم يتحمل أن يعيش تحت سقف واحد مع أعتى طاغية في القرآن الكريم وهو فرعون لم يتحمل، وهذه هي شخصية الأنبياء عليهم الصلاة السلام، لذا خرج موسى وسنعلم كيف خرج؟ ولماذا خرج؟ ثم يقول القرآن: ﴿ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا [القصص: 15] وهنا قف معي لحظات - صليت على النبي محمد صلى الله عليه وسلم - لم يقل ربنا تبارك وتعالى: ودخل المدينة في حين غفلة من أهلها، أهناك فرق؟! نعم، أول استنباط وأول فائدة أن موسى خرج من القصر ولم يعش فيه أنه، انتظر وقف غفلة أهل المدينة، والمدينة كما في كتب التفسير، قيل إنها: عين شمس، هي العاصمة وغير ذلك، وهذا لن يفيدنا في شيء، ولكن المدينة تدل على أن كثرة الأعداد لا توجد إلا في المدينة، لأنها العاصمة، فدخل المدينة وانتظر وقت الغفلة من أهلها، لأنه عُلم برفضه لقوانين فرعون، وعلم بإبائه لنظام فرعون الغاشم الظالم الدموي يقتّل الأبناء ويستحيي النساء إلى غير ذلك فخرج وانتظر غفلة أهلها حتى يدخل ﴿ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا [القصص: 15] وهنا الداعية المسلم الذي لا يكون بمنأى ويكون في وادٍ آخر والناس في وادٍ ومشاكل المسلمين في وادٍ، لا، الداعية الحق هو الذي يعيش في مشاكل الناس ويحدث الناس بما يمرون به ليل نهار، فلا يكون المسلمون معذبون ومضطهدون، ولا يجدون مَن يسترهم ويأويهم ونجد مَن يصعد إلى منبر رسول الله ويكلمنا عن الحيض والنفاس، لا، لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، لذا دخل موسى متفقدًا لأحوال المسلمين آنذاك، لأنه يعلم أنه ترك مستضعفين، لأن حينها بنو إسرائيل كانوا أبناء يعقوب - وإسرائيل هو يعقوب - ويدينون لله بالدين الحق، وفرعون هو الإله وهناك تابعون لهذا الإله ويعظمون هذا الإله ويمجدون هذا الإله، فهنا يحدث الاستضعاف؛ لأن هناك فريقان، فريق مؤمن، وفريق كافر، فريق مكذب وفريق مصدق، فحينما يستعلي الفريق الكافر المكذب، يُستضعف الفريق المؤمن المصدق، وهذا ما حدث، فاستضعف المصريين آنذاك الذين هم الأقباط أتباع فرعون ومن حبي فرعون ومطبلون ومزمرون لفرعون الذين يفوضون ليل نهار لفرعون استضعفوا الفئة المؤمنة المستضعفة من بني إسرائيل أبناء يعقوب عليه السلام، فحينما دخل موسى يتفقد أحوال المستضعفين، إذ برجلين يقتتلان هذا من شيعته - أي من بني إسرائيل المستضعفين - وهذا من عدوه - أي من حاشية فرعون - ماذا حدث؟! هنا نعلم موقف الإنسان من الظالم والمظلوم، لا بد أن يكون لك دور إيجابي وإلا فستدخل في ظل الذين يعذبون لأنهم سكتوا كما حدث مع أصحاب السبت، وكلنا نعلم مَن هي الفئة الناجية من أصحاب السبت التي نهت وأمرت بالمعروف، والذين سكتوا وفعلوا المعصية والمنكر هم الذين أخذهم العذاب، لذا هنا القرآن يحثنا على أن نكون في موقف واضح بيِّن جلي من الظالم والمظلوم وهذا الذي فعله موسى الكليم عليه السلام حينما رأى هذا الموقف رجل باغي يستضعف رجل ضعيف استغاث، انظر إلى الكلمة القرآنية ﴿ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ [القصص: 15] من الغوث وهذا دليل آخر عُلم منه بأن موسى رافض لفرعون رغم أنه تربى في بيت فرعون إلا أنه أبى ظلم فرعون وحينما رآه مستضعف وكأنه رأى الذي يرفض قوانين فرعون فاستغاث به، فاستغاثه الذي من شيعته، علم أن موسى يقف بجوار المظلومين المستضعفين فاستغاث به، وهذه هي صفة الأنبياء كلهم أجمعين، نبينا صلى الله عليه وسلم حينما قالت له خديجة عليها السلام: والله لن يخذيك الله أبدا إنك لتقري الضيف وتعين على نوائب الحق وتنصر المظلوم، إلى غير ذلك من شيم الأنبياء الكِرام، لذا وقف موسى هذا الموقف الواضح ﴿ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ماذا فعل موسى؟ ﴿ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ والوكز هو قبضة اليد أن تجمع يدك وتضرب الذي أمامك في صدره ﴿ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ فهنا نصرة المظلوم ولك أن تتخيل لماذا لم يتكلم موسى ويقول له: كف يدك عن أخيك، أو كف يدك عن هذا المستضعف، وإنما المشهد لا يحتاج إلى كلام، المشهد يحتاج إلى فعل، فدخل موسى ووكز الذي يضرب الضعيف، ولك أن تسرد وتسمع معي أحاديث رسول الله في نصرة المظلوم ووجوب نصرة المظلوم حتى قال الشوكاني: نصرة المظلوم معروفة في جميع الملل وواجبة في جميع الملل، انصر المظلوم حتى لو كان كافرًا، لأنه مظلوم، الله عز وجل يستجيب دعوة المظلوم ولو كان كافرًا، انظر، لذا يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك» «انصر» فعل أمر يستلزم الوجوب «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا» فقالوا: يا رسول الله، مظلومًا نعرفه، إذا كان مظلومًا ننصره، ولكن كيف ننصره ظالمًا؟ قال: ترده عن ظلمه، تأخذ على يديه، لماذا؟ لأنه سيعاقبك ربك، أليس هو القائل صلى الله عليه وسلم: «إن الناس» انظر إلى لفظ النبي محمد صلى الله عليه وسلم، قال: «الناس» ولم يقل: القضاة أو الحكام أو المسؤولين، المؤمنين حتى؟ لا، قال: الناس، «إن الناس إذا رأوا الظالم، ولم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم بعقاب» ﴿ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً [الأنفال: 25] ستأتي على الجميع، لذا لا بد أن يكون لك موقف واضح من الظالم والمظلوم لئلا تسأل، وكلنا سنسأل، لذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أرسل صحابته الكرام في الهجرة الأولى، أرسلهم إلى مَن؟! أرسلهم إلى النجاشي ملك الحبشة أصحمة آنذاك، لماذا؟ أليس رجلًا كافرًا، ألم يكن نصرانيًّا، ولكن ملك لا يُظلم عنده أحد، فحينما رجعوا، انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما رجعت المهاجرة من الحبشة، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حدثوني بأعاجيب ما رأيتم على أرض الحبشة، وكأن النبي يعلم أن هناك أعاجيب على أرض الحبشة، فقال فتية منهم - أي من الصحابة -: بينما نحن جلوس يا رسول الله إذ مرت علينا عجوز من عجائزهم، فقام فتى منهم، فرفع يده إلى كتفيها، فدفعها من خلفها وكانت تحمل على رأسها قلة من ماء فوقعت وخرت وانكسرت قلتها، فاستدارت إليه، وقال له: سوف تعلم يا غُدر» غدر صيغة مبالغة من الغدر، غدر بها، لأنه أتاها من خلفها، ولو أتاها من أمامها لكان يعتبر مواجهة، ولكن يطلقون وهم ساجدون راكعون يصلون من الخلف، فأتاها من خلفها، فقالت له: سوف تعلم يا غُدر، إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين والآخرين وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، سوف تعلم حينها أن أمري وأمرك عنده غدًا، تهديد ووعيد، إن كانت محاكم الدنيا ظالمة، فهناك المحكمة الإلهية العادلة، نحن لا ننتظر أي قضاء عادل في الدنيا، لأن هناك ثمة قضايا، لا ولم ولن تفتح إلا في الآخرة، إي والله، هناك قضايا لن تفتح إلا في الآخرة أما الملك جل جلاله ونحن ننتظر هذا اليوم الذي قال فيه ربنا: ﴿ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ [غافر: 17]، فماذا كان تعليق النبي محمد على هذا المشهد، قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: «صدقت، صدقت» ثم قال: «كيف يقدس الله تبارك وتعالى أمة لا يؤخذ من شديدهم لضعيفهم» كيف يقدسهم؟ كيف يعلي من شأنها؟! كيف يزكيها؟ كيف ينصرها؟ وهي لا تأخذ من القوي للضعيف، ولا من الغني للفقير، كيف يقدسها؟! نسأل الله تبارك وتعالى أن نكون ممن يقفوا ضد الظالمين مع المظلومين، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، ومَنَّ علينا بالإيمان وأنزل فينا القرآن، وجعلنا من خير أمة أخرجت للأنام، تأمر بالمعروف وتنهى عن الآثام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق العلام الرحيم الرحمن، خلق من كل شيء زوجان ﴿ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن: 13] نسأله سبحانه وتعالى أن يثبتنا على الحق والإيمان ونستنصر به جل وعلا على الظلم والبغي والعدوان، ونتوجه إليه خاشعين صادقين أن يمن علينا بخاتمة الإحسان، وأشهد أن محمد عبده ورسوله عليه من ربه أفضل الصلوات وأتم السلام، وعلى آله وأصحابه وأزواجه البررة الكرام، وعلى مَن استن بسنته واهتدى بهديه، وعلى شرعه استقام، جعلني الله وإياكم والسامعين ممن على شرعه واستقام، قولوا: آمين.

أحبتي في الله:
حينما وضح دور موسى عليه السلام في الوقوف مع المظلومين ضد الظالمين، توجه إلى ربه تبارك وتعالى لأنه لم يرد أن يقتل هذا المصري صاحب أو من حاشية فرعون فحينما وكزه موسى لم يكن في نيته قتلًا، ولكن موسى من صفاته أنه رجل قوي ضخم البنيان كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: «وأما موسى - كما في حديث الإسراء - فآدم - يعني شديد السمرة نسبة إلى سيدنا آدم عليه السلام لأنه قال قالبًا من الطين - وكانت شخصية سيدنا موسى عليه السلام شخصية حادة، شديدة، كما في صحابة رسول الله سيدنا عمر كان شديدًا وسيدنا أبو بكر كان لينًا، أما سيدنا موسى فكان شديد الغيرة والغضب، وإنما غيرته وغضبه لله فقط ولا لأي شيء آخر، قيل إن قوته بقوة عشر رجال، لذا كان مناسبًا أن يقول الله في حقه»: ﴿ وَاسْتَوَى [القصص: 14]، حينما ترجع إلى سورة يوسف، قال الله في يوسف عليه السلام: ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً [القصص: 14]، أما موسى قال: ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً، فكان مناسبًا أن يكون الاستواء مع موسى دون يوسف، لأن يوسف عليه السلام أوحي إليه في الصِّغَر، ولم تكن مهمته مثل مهمة موسى عليه السلام، مهمة موسى عليه السلام هي مواجهة أعتى طاغية في القرآن، الذي قال: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات: 24] والذي قال: ﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص: 38]، والذي قال: ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى [غافر: 29] مهمة صعبة، فكان يتناسب مع شخصية نبي الله سيرسل إلى فرعون العاتية أن يكون نبيًّا شديدًا ويتبين ذلك في القرآن حينما أخذ موسى برأس أخيه يجره إليه انظر! حتى قال هارون: ﴿ قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي [طه: 94] وألقى الألواح وكان عنده غيره شديدة في دين الله تبارك وتعالى، وهي غيرة محمودة حمدها الله عز وجل، فوكز موسى أعلمه حينذاك أنه شديد القوى، قوته بعشر رجال فعلم أنه شديد، والذي يدل على أنه لم يكن يعلم أنه شديد من قبل، لما ذهب إلى مدين حمل الصخرة التي كانت عند البئر لوحده، وكان هذه الصخرة لا يستطيع عشر رجال أن يحملوها، فعلم عندما وكز الرجل أنه قوي، فحمل الصخرة لوحده وبمفرده عندما توجه إلى مدين، فتوجه موسى إلى ربه قائلًا، وانظر إلى الأنبياء عندما يتعلقون برب الأرض والسماء، ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ [القصص: 16] لأنه لم يكن في نيته قتلًا أبدًا، ولا سفكًا للدماء أبدًا، وإنما كانت نيته نصرة للمظلوم، فقال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له، إنه هو الغفور الرحيم، انظر إلى هذا الإقرار من موسى عليه السلام بعد أن علم أن الله قد غفر له، ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ﴾ - بقبول توبتي وبما أنعمت علي من قبل من اصطفاء وإتيائي العلم والحكمة - ﴿ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ [القصص: 17] انظر، لا بد لكل حر أن يدخل على نفسه هذا العقد، يا رب بما أنعمت علينا فلن نكون معينين للظالمين، لن نكون معينين للمجرمين، هكذا قالها موسى مدوية واضحة ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ [القصص: 17] حتى قيل حينما أوتي إلى الإمام أحمد بسؤال قال: يا إمام وكان رجلًا يخيط الثياب للسلطان الظالم، فقال: إني أخيط الثوب للحاكم، فهل أنا من الذين ركنوا أم من الذين ظلموا؟ قال: بل أنت من الذين ظلموا، لأنك تعينه لأن يظهر بالمظهر الحسن أمام الناس، فما بالنا بمن ومن ومن؟!! ثم تنتقل الأحداث وأختم بها نظرًا للوقت، أتى رجل من أقصى المدينة إلى موسى وهنا موقف رائع يطرحه القرآن الكريم، ﴿ قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ [القصص: 20] انظر! حينما يقف الإنسان مع المظلوم يُهدَر دمه فأهدروا دم موسى الكليم عليه السلام كما أهدروا من بعد دم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال: 30] أهدروا دماء الأنبياء، أفلا يهدرون دماء أتباع الأنبياء، فأهدروا دم موسى عليه السلام فجاءه هذا الرجل ﴿ قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ [القصص: 20]، وهنا لا تقل: فلان الشيخ العالم لم يتكلم سأتكلم أنا!! أنا الضعيف المسكين الذي ليس لي أي أتباع ولا أحد يسمع لي كلمة، أتكلم؟! ﴿ وَجَاء رَجُلٌ [القصص: 20] نكرة، لا أحد يعرفه، ربنا قال: ﴿ وَجَاء رَجُلٌ [القصص: 20] ولكنه رجل يتصف بالرجولة، ليس كل ذكر رجل، هناك ذكور، وهناك رجال، فجاء هذا الرجل ﴿ وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ [القصص: 20] موسى قَبلَ نصيحة رجل نكرة أم لم يقبلها؟! هنا الموقف، حتى لو تكلم كل العلماء، ربنا يسألك أنت، أنت تكلمت؟! أنت أنكرت؟! ﴿ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ -واجب- ﴿ النَّصْرُ [الأنفال: 72] هذا كلام ربك، هل نصدق ربنا أم لا؟! وحِّد الله، لذا هذا دور حتى وإن تكلم نبي ودعا، أنت لك دور أيضًا وجود الأنبياء وهذا هو دين الإسلام، جعل لك دورًا بأن تكون إيجابيًّا، وهذا الشبه نكمله الخطبة القادمة بإذن الله تعالى بعد أن هاجر موسى كما هاجر نبينا صلى الله عليه وسلم، وما من نبي إلا وهاجر في سبيل الله.

الدعاء:
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم كن معنا ولا تكن علينا، اللهم انصرنا على مَن بغى علينا، اللهم خذ حقنا ممن ظلمنا، اللهم حببنا في بعضنا، واطرد الشيطان من بيننا واجعلنا إخوانًا متحابين على سرر متقابلين في جناتك جنات النعيم، اللهم حسن أخلاقنا، حتى نعطي من حرمنا، ونصل من قطعنا، ونحسن إلى من أساء إلينا، اللهم أنزل علينا السكينة وارزقنا الطمأنينة، ولا تحرمنا يا ربنا زيارة مكة والمدينة، اللهم اكتب لنا حجة وعمرة قبل الممات، اللهم كن لإخواننا في سوريا، اللهم قاتل دونهم، اللهم كن مع إخواننا في مالي وفي بورما وفي افريقيا وفي السودان وفي الصومال وفي العراق وفي شتى بلاد الإسلام يا رب العالمين، اللهم قنا في مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم خذ بيد كل من يريد الهدى، اللهم إن كان من هذه الأمة على غير الحق وهو يبحث عن الحق فرده إلى الحق ليكون من أهل الحق، اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.


آمين... آمين... آمين
﴿ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [غافر: 44].


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 151.74 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 148.92 كيلو بايت... تم توفير 2.82 كيلو بايت...بمعدل (1.86%)]