مقاصد سورة الشعراء - ملتقى الشفاء الإسلامي
 

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12535 - عددالزوار : 215346 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »          اضطراباتي النفسية دمرتني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »          زوجي مصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 182 - عددالزوار : 61198 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 123 - عددالزوار : 29180 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 20-01-2021, 03:31 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي مقاصد سورة الشعراء

مقاصد سورة الشعراء
أحمد الجوهري عبد الجواد




"سلسلة منبريّة ألقاها فضيلة شيخنا الدكتور عبد البديع أبو هاشم رحمه الله، جمعتها ورتبتها وحققتها ونشرتها بإذن من نجله فضيلة الشيخ محمد عبد البديع أبو هاشم".

(26) سورة الشعراء:
الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونتوب إليه ونستغفره، ونعوذ به سبحانه وتعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ولن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو العزيز الغالب الذي لا يُغلب أبدا، والرحيم الرحمن الذي يرحم بما لا يرحم به غيره أبدا، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه وخليله، جاء من عند ربه بما أتى به الأنبياء من قبله موسى وإبراهيم ونوح وهود وصالح وغيرهم، عليه جميعاً الصلاة والسلام، فنشهد أنه بلغ الرسالة وأدى أمانته، ونصح للأمة، وكشفت الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهادٍ حتى أتاه اليقين، صلي يا ربنا وسلم وبارك وتكرم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه وتمسك بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد..
أيها الإخوة المسلمون الأكارم، فهذا هو لقاؤنا مع سورةٍ أخرى من سور القرآن الكريم على ترتيب المصحف، نعيش معها هذه اللحظات السعيدة الطيبة، في وقفةٍ وإطلالةٍ ونظرةٍ عامة على أطراف السورة وأبعادها ومداخلها العامة التي تميزها، نستفيد درساً من دروس القرآن العظيمة، ولتتشوق نفوسنا إلى قراءة السورة وحفظها والبحث عن تفسيرها وأسرارها، ألا إن سورتنا اليوم هي سورة الشعراء، هكذا أُنزلت من عند الله بهذا الاسم البليغ، الشعراء، والشعراء جمع شاعر وهو من يقول الكلام المنظوم [1]، يتحدث عن موضوعٍ معين في كلامٍ مخصوص بأوزان مخصوصة فكلامه يُقال عنه إنه كلامٌ موزون ومنظوم ومُقفى، أي له قافيةٌ وخاتمةٌ واحدة، تنتهي كل كلماته بحرفٍ واحد، وكلامه هذا يسمى قصيدة، والقصيدة تقسم إلى أبيات فكل سطرٍ فيها يقال له بيتٌ من الشعر، والبيت من الشعر ينقسم إلى قسمين، شطرةً أولى وشطرةً ثانية أو أخرى، وبينهما فاصل، فالشعر له أوزانه الخاصة مما يُعرف عند العلماء بالبحور، والشعر له قافيته، والشعر له ضروراته، ثم إن له شكلاً مميزاً يختلف تماماً عن شكل الكلام الآخر وخاصةً عن شكل السورة من القرآن الكريم، سمى الله هذه السورة باسم أولئك الرجال الذين لديهم قدرة على نظم الكلام ووزنه وتقفيته وإخراجه بهذا الشكل، وإطلاق الاسم هكذا يحتمل أن الله تعالى سيمدح الشعراء في هذه السورة أو أنه يذمهم، أن يذكر ما لهم أو يذكر ما عليهم.

ويقال لها أيضاً عند العلماء كان بعضهم يعبر عنها بقوله طا سين ميم؛ لابتدائها بهذه الأحرف الثلاثة، وبعضهم يميزها ويقول سورة طا سين ميم الشعراء، ونُسب إلى الإمام مالك رحمه الله تعالى أنه سماها أو أطلق عليها اسم الجامعة، يعني السورة الجامعة، ولم يذكر لماذا ولكن تفكر بعض العلماء فقال: لعله يقصد أن هذه السورة هي أول سورةٍ تنزل وقد جمعت جملةً من قصص الأنبياء، فلم تنزل قبلها سورةٌ مكيةٌ جمعت جملةً وطائفةً من الأنبياء مثلها، وهذا توجيهٌ وجيه([2].

إذاً هي سورة الشعراء كما سماها الله، ويقال لها سورة طا سين ميم، ويقال لها من باب الأوصاف الجامعة، أي جمعت ذكر عددٍ من الأنبياء وقد سبقت السور الأخرى إلى ذلك، نزولها كان قبل الهجرة وكانت من أوائل ما نزل في العهد المكي([3]، نزلت في أوائل العهد المكي قبل الهجرة وبالتالي كانت في مكة، ويشير إلى هذا أن الله تعالى قال في آياتها مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ﴾، ونزلت هذه الآية في بدايات الإسلام وفي بداية الدعوة ليبدأ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته الجهرية العلنية مع عشيرته الأقربين([4]، فإنهم من المفروض أن يكونوا أسبق الناس إلى الإيمان به، فأنذرهم أولاً فإن آمنوا بك كانوا لك عوناً على غيرهم، كانوا لك مَنَعةً وحصناً من عدوان الآخرين، فإن عشيرة الإنسان يحبونه ويحبون له الخير ويحبون له أن يصدقه الناس وأن يتبعوه، ولو من باب العصبية، وقد ثبت فعلاً في السيرة والتاريخ أن بني هاشم كانوا يفخرون على غيرهم من القبائل الأخرى بأن النبوة فيهم، وبأن النبي الذي ختم الله به الأنبياء كان منهم صلى الله عليه وسلم([5]، وفيهم من يكفر به، يفخر به أمام الآخرين ثم يرجع إليه فيكفر به كأبي لهبٍ لعنة الله عليه([6]، ومنهم من دافع عنه ووقف معه فعلاً بقوةٍ وحماسةٍ وعصبية كأبي طالب وإن كفر به أيضاً ولم يؤمن بهديه([7]، لكنه دافع عنه من باب العصبية ورعاية النسب والقرابة وما إلى ذلك([8].

فهي سورةٌ مكية وبالتالي فقد حفظنا وثبت في قبولنا الآن أن القرآن الذي نزل في مكة، أعني السور القرآنية التي نزلت قبل الهجرة، كانت تركز على تصحيح تصور الإنسان عن هذا الكون وما فيه وما حوله داخلاً وخارجاً، هذا التصور هو الذي يسمى بالعقيدة، فالسور المكية عرَّفت الإنسان بالعقيدة الصحيحة التي ينبغي أن يكون عليها، من أنا؟ وماذا أكون؟ ومن أين وإلى أين؟ وما هذا الكون الجميل العظيم البديع الذي امتلأ بالآيات واكتظ بالمعجزات الكونية، ومن الذي أحدثه وفعله هكذا وصنعه بهذا الإحكام؟ إنه الله، من الله؟ وماذا له عندنا؟ وماذا له علينا؟ وماذا لنا عنده؟.. وهكذا، هذه القضايا الخطرة، القضايا الأساسية في حياة الإنسان السور المكية أبرزتها وركزت عليها جدّاً.

غير أن كلّ سورةٍ مكيّة لها طابعها الخاص وتركز من بين هذه القضايا على واحدةٍ منها غالباً، وسورتنا هذه سورةٌ مكية فهي أيضاً تقدم العقيدة الإسلامية الصحيحة ولكن مركزةً على نقطة مهمة، هل الرسول محمدٌ صلى الله عليه وسلم كان شاعراً أو كاهناً يتلقى هذا القرآن والذي سماه الكفار شعراً أو قالوا عنه شعر، هل كان عليه الصلاة والسلام يتلقى هذا الكلام من جنيّ؟ وهل كان بذلك شاعراً سواءٌ قال الشعر بنفسه أو قاله عن طريق تلقيه من روحٍ أخرى من أرواح الجن؟ أو أنه رسولٌ جاء بشيء آخر؟ كلامه ليس شعراً لا نظماً ولا قافيةً ولا وزناً، وأنه ليس بشاعر إنما هو نبيٌ رسولٌ من عند الله سبحانه وتعالى، وما جاء به إنما هو وحيٌ عظيم، تحرير هذه القضية كان محور هذه السورة، حتى يتميز عند الكافرين ما تلبَّس عليهم، فتلبس عليهم أمر النبي عليه الصلاة والسلام بأمر الشعراء، حيث إن الشعراء يقولون كلاماً بليغاً أيضاً، ويأتون بتركيبٍ كلامي عجيب، والقرآن أعظم الكلام في ذلك، أروع أسلوباً، وأعلى حكمةً، وأبعد معنىً، إنه كلام الله الذي خلق الألسنة وأنطقها بهذا الشعر البليغ، فانظر كيف يكون الفرق بعيداً بين القرآن ككلام الله وبين الشعر الذي هو كلام الشعراء. فلما قالوا عنه إنه شاعر فالله تعالى حرر هذه القضية وبينها في هذه السورة بياناً واضحاً، تصحيحاً للإيمان وتبيينا للناس حتى لا تكون لهم عند الله حجةٌ بعد هذا البيان.

ولذلك أحبتي الكرام نجد سورة الشعراء من أولها إلى آخرها تتناول محاور أو موضوعات رئيسة، الموضوع الأول كان بياناً واضحاً أن هذا الكلام الذي جاء به نبيكم محمدٌ صلى الله عليه وسلم إنما هو كتابٌ مبين واضح ومُوضِّح ومعجز، فإنه تألفت كلماته وتركبت من الطاء والسين والميم وغيرها من الحروف المعروفة لديكم، فإن كان شعراً فأنتم أشعر الشعراء، وأبلغ الشعراء في الدنيا هم شعراء العرب خاصة في الجاهلية، فلتأتوا بشعرٍ مثله، فلتأتوا بحديثٍ مثله فالقرآن كتابٌ مبينٌ مُعجز، والله الذي أنزله سبحانه وتعالى إنما هو إلهٌ عزيزٌ قويٌ غالب لا يُغلب، فلو شاء أن يؤمن به الجميع وأن يجمع الخلق على الإيمان به لجمعهم بآيةٍ واحدة فقط لا بمائة وأربع عشرة سورة، ولا بآية شرعية أو كونية، آية من هذا أو ذاك يُنزِّلها الله تعالى على العباد ليجعلهم جميعاً خاضعي الرقاب لله عز وجل، كما خضعت له السموات والأرض ومن فيهن وما بينهن ﴿ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ﴾، ولكنه مع كونه العزيز الغالب القوي بلا مشابهٍ ولا منازع فهو الرحيم، الرحيم رحمةً بليغة رحمةً عظيمة، يغفر كثيراً ويعفو عن كثير ويتغاضى عن سيئات عباده ويمهلهم في الدنيا وقد كفروا به، ويحاورهم ويناقشهم ويبين لهم ويحلم عنهم ولا يُعجِّل لهم بالعذاب، بل يحب لهم أن يتوبوا ولو في آخر عمرهم، فإنه عزيزٌ هذه صفة جلال وهيبة وقوة وعزة، والرحيم صفة جمالٍ وقربٍ وحب.

هذا هو مبدأ السورة وافتتاحها وموضوعها الأول، ثم بعد ذلك تبدأ السورة في عرض نماذج من الأنبياء والرسل السابقين، ليبين الله تعالى من خلالها أن نبيكم محمدٌ صلى الله عليه وسلم ما هو أمرٌ عجيب، ليس أمراً عجيباً ولا بدعاً حديثاً من الرسل، وليس شيئاً غريباً إنما قد مضت من قبله أمثلةٌ كثيرة وجاء في الزمان – في الدنيا – أنبياء من قبله ورسلٌ قالوا مثلما قال، ودعو إلى مثل ما يدعوكم إليه، فمثله يُؤمن به ولا يُكفر به، فإن سابقات القدر في الكون بإرسال الرسل والأنبياء والرسالات كلها تمهد للإيمان به، وتُصدِّق على ما جاء به، فلماذا تكفرون به وتكذبونه؟ أما سمعتم عن موسى عليه السلام ﴿ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾، أما جاءكم نبأ إبراهيم ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ﴾، أما سمعتم عن نوحٍ عليه السلام، عن هود أخي قوم عاد، عن صالح رسول قوم ثمود، عن لوط الذي بعثه الله في قومه وفي قريته، هذا واحدٌ مثلهم تماماً، هذا خاتمهم، هذا عطر شجرة الأنبياء وزهرها وثمرها، هذا ختام تلك السلسلة المباركة فلا نبي ولا رسول بعده، عليه الصلاة والسلام.

فذكر الأنبياء هنا، في هذه السورة إنما هو لتأييد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتصديق دعوته لقومه، وخاصةً أنك أخي المسلم الكريم حينما تقرأ هذا القصص في هذه السورة المباركة، تلاحظ أن الله تعالى ركز في القصة على ذكر دعوة النبي لقومه، ماذا قال موسى لفرعون ثم لبني إسرائيل، وماذا قال إبراهيم لأبيه وقومه، ونوحٌ لقومه، وفلانٌ لقومه...، مقام الدعوة، مقام البلاغ الأول، وهذا يرجح أيضاً أن هذه السورة نزلت في أوائل العهد المكي، فإنها تسجل موقفاً من المواقف الأولى التي التقى فيها النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه وعشيرته بالدعوة إلى الله فكذبوه ونسبوه إلى الشعر والكهانة.

ثم يأتي ختام السورة – وإن كان أطول بعض الشيء من أولها – فيعيد الكرة من جديد تأكيداً على أن القرآن الكريم ليس شعراً وليس قول جن ولا شيطان ولا شيء من ذلك ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ ﴾، والجن لا يؤتمن كالإنس فيهم المؤتمن وفيهم الخائن، أما الملائكة فلا خيانة فيهم، ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ ﴾ جبريل عليه السلام ﴿ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ ﴾ أي في كتبهم، في كتب السابقين كالتوراة والإنجيل، وذكر الإمام القرطبي رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حديثاً شبه طويل عن القرآن وأنه أوتي كذا من كذا، وأوتي كذا من القرآن من جهة كذا، وقال: "وأوتيت ﴿ طسم ﴾ مكان التوراة"، كأن سورة الشعراء في فضلها تعادل التوراة التي أوتيها موسى عليه السلام، وفي روايةٍ عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأوتيت المئين – يقصد الشعراء – مقابل الإنجيل"([9]، والإنجيل والتوراة يعتبران كتاباً واحداً، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم أوتي هذه السورة بمقام التوراة والإنجيل الذي هو كتاب الأوّلين، وهذا الذكر عندهم فكان ينبغي أن يكون وجوده في الكتب السابقة حجةً لأصحاب هذا القرآن وللناس في هذه الأمة ليؤمنوا به ﴿ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾.

ثم تمضي الآيات وتبين أن هذا القرآن لم تتنزل به الشياطين ﴿ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ﴾ كما يدعي الناس، قالوا له رأيٌّ – أي صاحب ورفيق من الجن – يأتيه بما يتكلم به، الله ينفي هذا ﴿ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ﴾ ما ينبغي لهم ليسوا أهلاً لذلك، وليست لهم قدرةٌ على ذلك فالقرآن أعظم من أن يحمله شيطانٌ أو جني، لماذا لا يستطيعون؟ ﴿ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ﴾ من يوم أن بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم وجعل حراساً على السماء، حتى لا تصعد الجن فتسترق السمع كما كانت تسترقه من قبل، وذكر الله اعتراف الجن بذلك في سورة الجن ﴿ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا * وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ﴾، منعنا من استراق السمع لا ندري إن كان خيراً للناس أو شراً لهم الله أعلم بذلك، فصاروا منذ بعثة النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم معزولين عن استراق السمع من السماء، فكيف يصلون إلى السموات ليسترقوا القرآن وينزلوا به على كاهنٍ إن كان هو محمدٌ صلى الله عليه وسلم أو غيره، كيف يفعلون ذلك وهم معزولون عن السمع بحرسٍ وشهبٍ ثاقبة حارقة لا يستطيعون الوصول.

ثم أجاب الله على سؤالٍ ينشأ في النفس إذا كانت الشياطين لم تتنزل بالقرآن على النبي صلى الله عليه وسلم وليس النبي كشخص بمواصفاته المعروفة الصادق الأمين، إذاً كان مثل هذا الشخص لا تنزل عليه الشياطين وما ينبغي لهم، لا يأتون مثل هذه الشخصيات ولا يتعاملون معها، إذاً فعلى من يتنزَّلون؟ ﴿ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ﴾، هكذا بين الله تعالى أن الشياطين لم تتنزل بالقرآن ولا تستطيع أن شخصية رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم قبل البعثة فضلاً عما بعدها شخصيةٌ لا تتلاءم مع مؤاخاة الجن واصطحاب الشياطين، واستحضار أرواحهم والتلقي عنهم، كما بين سبحانه وتعالى أن الشياطين تتنزل على شخصيات بمواصفات معينة، أفَّاك يعني كذاب كثير الكذب، أثيم كثير الآثام، ولذلك حُكم بكفر الساحر، لأنه إن سحر وتوصل فعلاً إلى استحضار جنيٍ عن طريق السحر وصار صاحباً له وتعامل معه فلابد أن يكون كذاباً ولابد أن يكون أثيماً ومن آثامه وذنوبه أن يرتكب بعض أمور الكفر، كترك الصلاة وهجر المساجد، وربما وطء المصحف أو الجلوس عليه – لعنهم الله – أو أنه يتوضأ باللبن، أو يسجد إلى غير جهة القبلة، وغير ذلك من أمور كفرية، والتعاويذ التي يستحضر بها خادمه لا تخلو من شرك، فإنه يستغيث بمن معه من الخدام وينادي عليهم ويطلب منهم كذا وكذا، ولا يستعين بالله عز وجل، فحُكم على الساحر بأنه كافر وقول الجمهور فيه أنه يُقتل بغير طلب توبةٍ منه، كل مرتدٍ أو كافر يستتاب قبل قتله، المرتد كما حكم بقتله قبل أن يُنفذ فيه الحكم تُعرض عليه التوبة فإن تاب فقد دفع عنه نفسه الحد ولا يُقتل، إلا الساحر فقط هو الذي يقتل بغير توبة، فلا يستطيع التوبة([10].

﴿ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ﴾ وشخصية محمد بن عبد الله ما كانت هكذا ولا شيئاً منها، فلم يكن يكذب على قومه أبداً ولا في حياته ولو مرة ما جربنا عليك كذباً قط، إذاً ليس أفاكاً ولا آفكاً ولا مؤتفكاً، ثانياً لم يكن أثيماً فلم يعرف عنه أن خالط الناس في خمرهم، وفي زناهم، ولا حتى في غنائهم ولهوهم وما إلى ذلك، ما خالط الناس في شيء من ذلك، إنما عُرف بالحكمة، وعُرف بالعقل، وعُرف بفعل المحامد والفضائل، وهكذا كانت شخصيته صلى الله عليه وسلم لا تناسب تنزِّل الشياطين عليها.

هذه موضوعات السورة وبذلك نجدها متناسبةً مع ما قبلها من السور وهي سورة الفرقان، وترتبط مع سلسلة سور القرآن بروابط عظيمة، فإن سورة الفرقان ذكرت وذكَّرت بجملة من الأنبياء تقريباً هم هم الذين ذكروا في سورة الشعراء، ولكن ذكرهم الله تعالى في سورة الفرقان إجمالاً واختصاراً، وذكرهم في سورة الشعراء بشيءٍ من التفصيل، حيث ذكر موقفهم في الدعوة وما جرى لأقوامهم في النهاية في جملةٍ واحدة، فهناك إجمالاً واختصار وهنا تفصيلٌ وبيان، بُدأت سورة الفرقان ببيان القرآن ووصفه العظيم ومصدره الكريم ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ ﴾، وصف الله القرآن بأنه فرقان يفرق بين الحق والباطل وما شابه ذلك، وبيَّن أنه مُنزَّلٌ من عنده الله، وسورة الشعراء بُدأت بذلك أيضاً ﴿ طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴾، ذكرت أنه كتابٌ مبينٌ، وبالأحرف الأولى إشارة إلى أنه كتابٌ معجزٌ للبشر جميعاً، إذاً هو من عند الله تبارك وتعالى، وبين ذلك واضحاً في آخر السورة ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾.

خُتمت السورتان أيضاً بختامٍ متقارب فذكر الله تعالى في آخر سورة الفرقان ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا ﴾ ووصف عباده المؤمنين الطيبين الذين رضي عنهم، وفي النهاية هدد الكفار ﴿ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ﴾ وعيدٌ بالعذاب للكافرين، في سورة الشعراء كذلك ذكر الله تعالى الشعراء وأوصافهم، ثم استثنى منهم فئةً قليلةً لا تقول من الشعر إلا ما حَسُن ولا تقول من الشعر إلا صدقاً وحقاً، مع أن الشعراء كلهم كذلك إلا أن هؤلاء المؤمنين ضبطوا أنفسهم فلم يستعملوا الشعر الذميم إلا فيما هو ممدوحٌ ومعقولٌ وطيب، فقال الله تعالى ﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾، ثم هدد الكافرين فقال ﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ﴾.

كذلك لك أن تربط بين السورتين أخي الحبيب بأن سورة الفرقان هكذا هو اسمها، إنها تعلن عن الفرقان، ويمتن الله به علينا أنه نزَّل إلينا فرقاناً وسورة الشعراء تطبيقٌ لذلك فالقرآن فرق لنا بين الشاعر وبين النبي، هل النبي شاعر؟ وهل الشاعر نبيٌ لأنه يقول كلاماً بليغاً؟ أو أن بينهما فارقاً بعيداً، هذا السورة تطبيقية تمثيلية – أو مثال يعني – على الفرقان الذي يفرقه القرآن، وبالتالي فرَّق الله لنا فيها بين الشعر وبين القرآن وكلام الوحي، وبين الشعراء وبين الأنبياء.

هذا بيانٌ مجملٌ عن السورة نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا به، وأن يوفقنا به إلى ما يحب، وأن يرضى به عنا، إنه نعم المولى ونعم المجيب، أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم، فاستغفروه دائماً إنه هو الغفور الرحيم.
يتبع



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 20-01-2021, 03:32 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مقاصد سورة الشعراء

مقاصد سورة الشعراء
أحمد الجوهري عبد الجواد





الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد فأوصيكم عباد الله بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، وأحذركم ونفسي عن عصيانه تعالى ومخالفة أمره، فهو القائل سبحانه وتعالى ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

أما بعد..
أيها الإخوة المسلمون، هذه سورة الشعراء كما سماها الله وهي سورةٌ مكيةٌ، وهذه كانت موضوعاتها، بيان القرآن ووصفه العظيم ومصدره الكريم، وذكر جملةٍ من الأنبياء إشارةً إلى أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم واحدٌ كهؤلاء فليس فيه ما يُكذَب وإنما ينبغي أن يُصدَق على منوال الأنبياء السابقين، فقد جاء بدعوتهم وجاء بمثل ما جاءوا به، وبيان أن القرآن من عند الله سبحانه وتعالى، وأن الجن والشياطين لا تتنزل على مثل شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولا تتنزل بمثل هذا الوحي الثقيل ﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ﴾، إنما نزلت به الملائكة عن طريق جبريل عليه السلام بأمرٍ من الله سبحانه وتعالى، وعرفنا كيف ارتبطت السورة بما قبلها لتمتد سلسلة السور القرآنية معنا إلى آخر القرآن بعون الله ومشيئته.

بقي لنا الأمر الأخير والأهم وهو الهدف من هذه السورة، وهدف كل سورةٍ نستطيع أن نستخلصه من اسمها ومن طرفيها، فالسورة اسمها الشعراء وقلنا هذا الإطلاق - الشعراء – لا يُعلم هل يمدحون أو يُذمون، فإنه مُحتمل، ثم إن أول السورة تبين حقيقة الوحي وحقيقة القرآن، وآخر السورة يبين حقيقة الشعر والشعراء كما قال رب الأرض والسماء ﴿ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ﴾ أهل الغواية والهوى واللهو كالغناء، يتبعهم الغاوون ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ﴾ في كل وادٍ يهيمون هذه حالة من حالات الإبل والجمال، فالجمل إذا شرد عن صاحبه وأفلت من قائده هام على وجهه جرياً سريعاً في الصحراء يدخل من هذا الوادي إلى ذاك الوادي ولا يقصد مكاناً معيناً، إنما يريد أن يُفلت من صاحبه وفقط في أي اتجاه وإلى أي منتهى ومستقر، إنما لا يرجع ولا يعود إلى مأواه الأول فيقال هام الجمل، ولذلك يقول الله تبارك وتعالى عن أهل النار﴿ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ ﴾ أي الجمال العِطاش من كثرة الجري والانتقال بين الوديان فراراً من صاحبها، كما كان الكفار يفرون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرضوا بالانقياد له والاتباع له، فكثر واشتد عليهم الظمأ فيرويهم الله تعالى أو فيسقيهم الله تعالى من ماء النار يوم القيامة من الحميم، فإذا بهم يشربون كما تشرب الجمال الهيم العِطاش الشاردة عن صاحبها، وما أقبح أن يشبَّه الإنسان بحيوان حينما يكون شارداً عن القيادة الرشيدة مع صاحبه.

فكان الشعراء كذلك يهيمون أي يدخلون من هنا ويخرجون من هنا، إلى هنا وإلى هنا، ما هدفه؟ ما وجهته؟ لا تدري، في كل وادٍ ليس من وديان الأرض ولكن من وديان الكلام، في كل حديث يتكلمون، تقول لأحدهم أريدك أن تمدحني فيمدحك بما فيك وبما ليس فيك، ويرفعك إلى عنان السماء بكلماتٍ كاذبة أو صادقة أو بعضها وبعضها، وتقول له ذُم فلاناً أو اهجه، فالهجاء والذم قريبٌ من بعضه، فيقول فيه كلاماً ساقطاً، كلاماً باهتاً، كلاماً يشينه ويجعله في سابع أرض من الخسة والضعة والذلة والمسكنة، كما ذهب أحدهم يخطب امرأةً يوماً، إذاً هي تعجبه، بالتأكيد سأل عنها أعجبه وصفها وحسنها فذهب يخطبها فلم ترض به، فرجع من عندها يقول في ذمها لأنها رفضته، يقول:
لها جسم برغوثٍ وساقا نعامةٍ
ووجه كوجه القرد بل هو أقبح


وإذا بشاعر آخر متفائل لا يكره شيئاً فصار يمدح المذموم ويستحسن الشر، فقال:
لا تكره البرغوث إن اسمه
بِر وغوثٍ لا بهِ تدري

فبره مص دمٍ فاسدٍ
والغوث إيقاظك للفجرِ


فكما يحلو له يقول، بهتاناً وكذباً، ومبالغةً وعناداً، وشقاقاً ومخالفةً وهكذا، كان أحدهم يدخل على الملك ليطلب منه عطيةً وهدية، فعلى قدر ما يمدح به الملك سينال من عطاياه وكرمه، فيقول فيه ويقول ويقول، ويرفع ويرفع، فينتفخ الملك من الملوك البشرية لذلك القول الحميد والثناء الجميل من هذا الشاعر، فيقول أحسنت قولاً أجزلوا له العطاء، فيملئون له أوعيته من ذهب أو فضة أو مال أو طعام أو نحو ذلك، كله كذب، ويذهب إلى خصم هذا الملك – عدوه – ولو كان فرعوناً فيقول له أيضاً آيات مدح وكلمات ثناء ما أنزل الله بها من سلطان ليأخذ أيضاً عطيته وهديته، ﴿ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ﴾ بكلامهم وحديثه، ليست لهم وجهة، وليسوا من منطلقين من مبدأ ثابت، وليس لهم طريق مستقيم يسيرون عليه، ﴿ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ ﴾.

أهذه شخصية محمد بن عبد الله الذي اختاره الله رسولاً لهذه الأمة عليه الصلاة والسلام؟ أبداً والله، إنما كان يعمل ما يقول، كان عليه الصلاة والسلام لا يهيم في كل وادي، عاش في جاهليةٍ حمقاء بلهاء، عاش في جاهلية ظالمةٍ مظلمة ولم يسلك ظلمةً يوماً، ولم يرتكب ظلماً يوماً، لم يسلك ظلمةً ولم يرتكب ظلماً وما خاض مع الخائضين، ولا لهى مع اللاهين، ما كذب مع الكاذبين ولا افترى من المفترين ولا خان مع الخائنين صلى الله عليه وسلم، إنما كان قبل أن يكون نبياً كان الصادق الأمين[11]، وبعد النبوة صار رسول الله وخاتم النبيين.

إذاً اعلموا أن النبي غير الشاعر، الشاعر شيء والنبي من الأنبياء شيءٌ آخر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم خاصةً شيءٌ آخر، فهو أفضل النبيين على الإطلاق، كذلك الشعر شيء معروفٌ بنظمه وأوزانه وقافيته وشكله، يتكون من أبيات والبيت يتكون من شطرتين، القرآن يتكون من سور والسورة تتكون من آيات، والآية تتكون من كلمات، وليس فيه ما يسمى بالقافية – اتفاق الحرف الأخير – جاء هذا في بعض السور فقط، ويسمى مثله في كلام الناس في الخطب والمواعظ وما إلى ذلك، يقال له سجع، توافق الحرف الأخير ولكنه يتغير أثناء الكلام، جاء شيءٌ من ذلك في القرآن لكي يشتمل القرآن على كل بلاغةٍ في كلام العرب ويعجزهم بذلك، إنما ليست كل السور كذلك وليست كل الآيات كذلك، تسمى سجعاً عند الناس وتسمى فواصل في علوم القرآن، فواصل القرآن ولا تقل سجع القرآن، فجاء القرآن بشكلٍ مفترقٍ تماماً عن الشعر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم غير الشعراء تماماً لم يشابههم في شيء، بل قال الله تعالى ﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ﴾، ما علمه الله الشعر وما ينبغي له أن يتعلم الشعر أو يقول الشعر، ولذلك ما نظم النبي عليه الصلاة والسلام أبداً ولا بيتاً واحداً من الشعر، وإن خرج بعض كلامه أحياناً يشبه الشعر، يوم حنين حين اغتر المسلمون بكثرتهم فلقنهم الله درساً فتفرقوا واختلفوا وكادوا ينهزمون، قام النبي صلى الله عليه وسلم بين الناس على دابته ينادي دون خشيةٍ أو خوفٍ من أحد "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب"([12]، لكن لا يشترط أن يكون هذا شعراً فليس قصيدة إنما كلمة، جملتان جاءتا هكذا على شكل فصيح بليغ، بل كان عليه الصلاة والسلام إذا اضطر في كلامه مع أصحابه لأن يقول بيتاً من الشعر ينقله عن غيره من الشعراء السابقين في الجاهلية، فكان عليه الصلاة والسلام يغير بين الكلمات يأتي بهذه الكلمة مكان هذه فيختل وزن البيت، بعد أن كان موزوناً على أوزان مخصوصة، صار الآن غير موزون، صار كلاماً عادياً، كما تكلم يوماً بهذا البيت:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً
ويأتيك بالأخبار من لم تُزَّود[13]




قال: "ستبدي لك ما كنت جاهلاً الأيام ويأتيك من لم تزود بالأخبار"[14]، غيَّر مواقع الكلمات حتى يختل الوزن فلا ينطق بشعر أبداً، بل قال صلى الله عليه وسلم والحديث صحيح: "لأن يمتلأ جوف أحدكم قيحاً خيراً من يمتلئ شعراً"[15]، وبالتالي صار الشعر في عمومه مذموماً إلا من قال حقاً، إلا من أشعر بصدق، ولذلك كان للنبي عليه الصلاة والسلام شاعرٌ أسلم سيدنا حسان بن ثابت رضي الله عنه، وكان إذا هجا أحدٌ رسول الله عليه الصلاة والسلام أو ذمّ شيئاً في الإسلام، قال رد عليه أو أجبه يا حسان، أو اهجهم يا حسان، أو نحو ذلك[16]، وكان عليه الصلاة والسلام يسمع من حسان الكلام الطيب وإن كان شعراً[17]، فمعظمه مذموم ومعظم الشعراء كما وصف الرحمن ﴿ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ ﴾، هذا وصفهم غالباً إلا فريقاً منهم وإن كانوا قلة ﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ﴾.

أحبتنا الكرام، هذه السورة تؤكد لنا وتثبت عندنا أن القرآن من عند الله، نزلت به الملائكة ولم تنزل به الشياطين، أكدت لنا جمال وروعة شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس ممن تصل إليهم الشياطين ولا تصاحبهم الشياطين وتلقي إليهم ما تلقي إلى الكهنة والساحرين، إنما كانت شخصيةً نبيلةً تطرد الشياطين عنها ولا يقبل عليها إلا الصالحون.

هذه السورة دفعت عنا ما يلقيه أعداؤنا من شُبَه فكرية تشككنا في القرآن، أن القرآن شعر، وأن القرآن ككلام الشعراء، وهذا كلامٌ قيل منذ سنوات في خطةٌ خبيثة ذكروا أن القرآن نصٌّ أدبيٌّ رائعٌ، هذا كلام يعجبنا ونحبه نعم، ولكن كان تمهيداً للفاحشة، حيث أفحشوا فقالوا: طالما هو نصٌ أدبي إذاً ينبغي أن يخضع لقواعد النقد الأدبي، هو كديوان شعر وليس شعراً ولكنه نصٌّ أدبيٌّ من الأدب والنصوص، إذاً ينبغي أن تحكمه القواعد النقدية الأدبية عند الأدباء، علم من العلوم، وبهذا يستسيغون لأنفسهم ويريدون أن يقولوا: يجوز للناقد الأدبي أن يراجع القرآن وراء رب العالمين، فيقول هذه الآية نظمها غير صحيح، وهذه الآية تركيبها غير سليم، وهذه الآية لا تتناسب مع هذه الأيام، وهذه الآية فصاحتها قليلة أو ركيكة... وهكذا، فقامت عليهم الدنيا فأُخمدوا خمدهم الله وأخمدهم إلى يوم القيامة، اللهم آمين[18].

القرآن نعم أدبٌ بليغ ولكنه لا يخضع للقواعد النقدية، لأن القواعد هذه من وضع الناس، أما هذا الكلام فمن قول رب الناس وخالق الناس سبحانه وتعالى، اذكروا هذا جيداً ولا تصدقوا أن القرآن كالأدب والنصوص والشعر والشعراء، هذا ليس صحيحاً، إنما القرآن كلام رب العالمين، كلامٌ معجز عجز البلغاء والفصحاء والشعراء عن أن يأتوا بمثله، ما استطاعوا ولن يستطيعوا أبداً.

هذه السورة تؤكد لنا هذه المعلومة وتدفع عنا هذه الشبهة حتى يثبت يقيننا في القرآن لعلنا نقرؤه، ونتفكر فيه ونتدبر آياته، لعلنا نحفظه، لعلنا نأخذ بأحكامه طالما تيقنا أنه من عند الله وهو أعلى كلام، إذاً خذوا بأحكامه ﴿ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ﴾ لا بتهاون، لا بأخذ شيء وترك شيء آخر تتخير منه ما تشاء، لا إنما خذه كله فكله كلام رب العالمين ﴿ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ﴾ هذه كلمة العلماء الأثبات، يقول الله عنهم ﴿ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ ﴾.

نسأل الله تبارك وتعالى أن يثبتنا على الدين والقرآن، وأن يثبت القرآن في قلوبنا، وأن يجريه على ألسنتنا، وأن يجعله نوراً في قلوبنا وبيوتنا وقبورنا وعلى صراطنا وطريقنا يوم القيامة حتى نصل به إلى الجنة وإلى الفردوس، اللهم إنا نسألك أن تجعل القرآن العظيم رفيق عمرنا، ونور حياتنا، وبهاء جمالنا، وندرة وجوهنا، وذكر ألسنتنا، اللهم اجعله لنا في الدنيا رفيقا، وفي القبر مؤنسا، وفي القيامة شفيعا، وإلى الجنة قائدا، وعن النار حجاباً مستورا، اللهم ثبته في قلوبنا وأجره على ألسنتنا، واجعله أثراً فيمن بعدنا من أولادنا وذرياتنا وأحفادنا إنك أنت الرحمن الرحيم، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اغفر يا ربنا للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات ورافع الدرجات، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها وخير أعمالنا أواخرها، وأوسع أرزاقنا عند كبر سننا، وخير أيامنا يوم أن نلقاك يا رب العالمين.

عباد الله ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾، اذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم.. وأقم الصلاة.


[1] انظر: لسان العرب (4/ 410).

[2] قال في التحرير والتنوير (20/89): "في أحكام ابن العربي أنها تسمى أيضا الجامعة ، ونسبه ابن كثير والسيوطي في الإتقان إلى تفسير مالك المروي عنه . ولم يظهر وجه وصفها بهذا الوصف . ولعلها أول سورة جمعت ذكر الرسل أصحاب الشرائع المعلومة إلى الرسالة المحمدية". أهـ.

[3] انظر: تفسير ابن كثير (6/ 135).

[4] انظر: السيرة النبوية، لابن هشام: (/263).

[5] انظر: السيرة النبوية، لابن هشام: (1/316).

[6] أخرجه البخاري (4770)، ومسلم، (204).

[7] أخرجه البخاري (1294)، ومسلم (24).

[8] انظر: البداية والنهاية (4/ 120).

[9] أخرجه الطيالسي (1918) والطحاوي في مشكل الآثار (2/154) والطبراني في التفسير (126) وابن منده في المعرفة (2/206/2)، وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (3/469).

[10] انظر: شرح النووي على مسلم (14/176)، وتفسير القرطبي (2/43)، ومجموع الفتاوى، لابن تيمية: (29/348)، وفتاوى السبكي (2/324).

[11] انظر: شرح مُشْكِل الآثار، لأبي جعفر الطحاوي: (14/240)، ط مؤسسة الرسالة – بيروت، ت: شعيب الأرنؤُوط، والمُسند (24/262).

[12] أخرجه البخاري (2709)، ومسلم (1776).

[13] من معلقة طرفة ابن العبد، انظره في شرح المعلقات التسع، المنسوب لأبي عمرو الشيباني: (1/81).

[14] أخرجه أحمد (222)، والترمذى (2848)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (4665).

[15] أخرجه البخاري (5802)، ومسلم (2257).

[16] أخرجه البخاري (3897)، ومسلم (4541)، ولفظ البخاري: "عن البراء رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان: "اهجهم - أو هاجهم - وجبريل معك".

[17] انظر السابق، وترجم في صحيح مسلم: (كتاب الشعر: باب سماع النبي صلى الله عليه وسلم للشعر واستحسانه).

[18] انظر: كتاب تحت راية القرآن، للرافعي، وكتاب "طه حسين في ميزان العلماء والأدباء" للشيخ محمود مهدي الاستانبولي.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 87.37 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 85.25 كيلو بايت... تم توفير 2.11 كيلو بايت...بمعدل (2.42%)]