فأقم وجهك للدين حنيفًا - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         معنى قوله تعالى: {ليبلوكم أيُّكم أحسنُ عملاً} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          تخصيص رمضان بالعبادة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          ذكر الله دواء لضيق الصدر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          بيان فضل صيام الست من شوال وصحة الحديث بذلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          صيام الست من شوال قبل صيام الواجب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          صلاة الوتر بالمسجد جماعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          قراءة القرآن بغير حفظ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          الإلحاح في الدعاء وعدم اليأس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          الفهم الخطأ للدعوة يحولها من دعوة علمية تربوية ربانية إلى دعوة انفعالية صدامية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          معالجة الآثار السلبية لمشاهد الحروب والقتل لدى الأطفال التربية النفسية للأولاد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 22-11-2022, 10:35 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي فأقم وجهك للدين حنيفًا



فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا (1)









كتبه/ أشرف شريف


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد قال تعالى في سورة الروم: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ".

في هذه الآية عِبَر وعظات، وفوائد ونكات، جاءت في ثوب قشيب من نسق وأنساق سامقة، وبلاغة معجزة آسرة، قال سبحانه: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ": الْأَمْرُ هنا مُسْتَعْمَلٌ فِي طَلَبِ الدَّوَامِ؛ ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام وتابعيهم بإحسان على دين قويم ومنهج مستقيم، وكذلك الناس مفطورون على توحيد الله سبحانه، وهو خِطَابٌ لِمُفْرَدٍ أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ، فالخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- والمراد به الأمة جمعاء، فصار خطابًا لكلِّ فرد مكلَّف من الأُمة المحمدية في شخص نبيها -صلى الله عليه وسلم-؛ فهو إمامها، أو خطاب لكل مكلف مباشرة.

ومعناه: قَوِّمْ وجهك له وعَدّله، غَيْرَ مُلْتَفِتٍ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً، وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِإِقْبَالِهِ عَلَى الدِّينِ، وَالتَّمَحُّضِ لِلشُّغْلِ بِهِ، وَاسْتِقَامَتِهِ عَلَيْهِ وَثَبَاتِهِ وَاهْتِمَامِهِ بِأَسْبَابِهِ، فَإِنَّ مَنِ اهْتَمَّ بِالشَّيْءِ، عَقَدَ عَلَيْهِ طَرْفَهُ وَقَوَّمَ لَهُ وَجْهَهُ مُقْبِلًا بِهِ عَلَيْهِ.

قال القاسمي رحمه الله: "وفي النظم الكريم استعارة تمثيلية، بتشبيه المأمور بالتمسك بالدين ورعاية حقوقه وعدم مجاوزة حدوده والاهتمام بأموره، بمن أمر بالنظر إلى أمر، وعقد طرفه به، وتسديد نظره وتوجيه وجهه له؛ لمراعاته والاهتمام بحفظه".

وللقشيري في لطائف الإشارات تأويل حسن يتناسب والمقام حيث يقول: "أخلص قصدك إلى الله، واحفظ عهدك مع الله، وأفرد عملك في سكناتك وحركاتك وجميع تصرفاتك لله".

وقال ابن رجب الحنبلي: "إخلاصُ قصدِه وعزمِه وهمِّه للدينِ الحنيفِ".

قلت: ولا مانع مع تلك المعاني الحقة السابقة أن يكون الوجه على الحقيقة أيضًا؛ إذ استقامة الظاهر وتوحيد توجهه واستدامة الوقوف وإظهار الافتقار بعبارات الوجه وتعبيراته وما يتبعه من حركات الجسد له أثر حقيق على الباطن ومآل العبد، وهذا ظاهر في نحو قول النبي صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو يَمْسَحُ المَنَاكِبَ فِي الصَّلَاةِ: "اسْتَوُوا، وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ"، وقوله: "لتسوُّن صفوفَكم أو ليُخالِفَنَ الله بَيْنَ وُجُوهِكُمْ"، وفي رواية: "بَيْنَ قُلُوبِكُمْ"، فتسوية الصف -وهذا أمر ظاهر- له أثر ما يكون في الباطن مِن: التآلف، وكذا استقامة الظاهر بعبارات الوجه وتعبيراته. والله أعلم.

وهذا من المواطن البديعة التي يكون فيها كل من المعنى الحقيقي والمجازي حسنًا في دلالته متضمنًا للمراد، وكل منهما يكون متممًا للآخر، وهذا من بديع البلاغة وأثرها الباسق في الخطاب.

وَذَكَرَ الْوَجْهَ؛ لِأَنَّهُ جَامِعُ حواس الإنسان وأشرفه، أي: أقبل بِكُلِّكَ على الدين، فعبَّر عن الذات بالوجه، وعليه فذكر الوجه مجاز مرسل علاقته الجزئية، حيث ذكر الجزء وأراد الكل، ومن هنا يبرز عنصر الجمال وبديع المقال الكامن في المبالغة التي هي إحدى أسرار هذا المجاز البياني اليانع، ويتجلَّى أثرها الرائق في المعنى حيث الوجه بما فيه من نظر يتبعه الفكر والعقل ومن ورائهما القلب الذي هو كالملك والأعضاء كالرعية، ليؤثر القلب في الحواس بما أصابه من سحر المعنى الذي أوحى به الفكر العامل في تلك المبالغة المثيرة، فيكون قصد العبد وعمله وتوجهه بكُلِّيَتَه خالصًا لله وحده.

وَالدِّينُ: دِينُ الْإِسْلَامِ. وحَنِيفًا: حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ في أَقِمْ، أي: أقم أنت، فَيَكُونُ حَالًا لِلنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ حالًا مِنَ "الْوَجْهِ"، أَوْ حَالًا مِنَ الدِّينِ؛ فَيَكُونُ اسْتِعَارَةً بِتَشْبِيهِ الدِّينِ بِرَجُلٍ حَنِيفٍ فِي خُلُوِّهِ مِنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ، وَمَعْنَاهُ: مَائِلًا عَنِ الْأَدْيَانِ الْمُحَرَّفَةِ المنسوخة ببعثة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشريعته السمحاء.

"وَحَنِيفٌ": صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ فِي الِاتِّصَافِ بِالْحَنَفِ وَهُوَ الْمَيْلُ، وَغَلَبَ هَذَا الْوَصْفِ فِي الْمَيْلِ عَنِ الْبَاطِلِ والشِّرْكِ، أَيِ: الْعُدُولُ عَنْهُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْحَقِّ.

والمعنى: كن مَائِلًا عَنْ كُلِّ مَا عَدَا التوحيد الخالص، من الشرك وما يؤدي إليه أو يقرب منه أو يكون ذريعة له، وأَقْبِلْ عَلَى الدِّينِ الخالص بكُلِّيَتِك وَمِلْ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، فلَا يَكُن فِي قَلْبِكَ شَيْءٌ آخَرُ فَتَعُودَ إِلَيْهِ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: "وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ".

وفائدة المبالغة في هذا الباب: أن الميل عن الشرك إلى التوحيد ليس المراد منه مجرد الميل، بل شدة الميل والمبالغة فيه، حتى إن المرء لا يتحمل في هذا الباب أي تأويل فاسد أو تعبير كاسد لما كان ظاهره التشريك، ولو باللفظ، فيسد المرء كل ذريعة قد تفسد عليه توحيده وإخلاصه؛ فهذا اللفظ القرآني والتعبير الرباني "حَنِيفًا" بدلالته البيانية وجماله البديعي يفضح أولئك الذين ينادون وليًّا صالحًا قد مات ويقولون: مدد يا فلان! ثم يتألون ذلك بأنهم ينادون الله، فهؤلاء لم يحققوا المعنى الحقيق لقوله: "حَنِيفًا" بسدِّ أي باب يوهم ظاهرًا الإشراك.

مع ما يحمله هذا الطلب للمدد من هذا الولي الميت من السوء البالغ الشناعة في الخطاب؛ إذ البشر يستقبحون أن تنادي على شخص باسم غيره، بل هذا موهم عندهم؛ لذا هو غير مقبول لا لغة ولا بلاغة؛ فكيف أقول: يا عمرو، ثم أقول: أنا أقصد يا زيد؟! أي لغة هذه؟!


فلا ريب أن هذه ليست عربية، وزاعم ذلك يستخف بالعقول، فليتقِ الله أرباب المنامات والتأويلات والسفسطة والقرمطة؛ فهم بذلك من أهل التأويلات الباطنية الذين وَرَدَ ذمهم والتحذير منهم على لسان أئمة الإسلام في كلِّ زمان ومكان، وحسبك كتاب أبي حامد الغزالي عن الباطنية.

وللحديث بقية إن شاء الله.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 22-11-2022, 10:39 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فأقم وجهك للدين حنيفًا

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا (2)




كتبه/ أشرف شريف

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقوله تعالى: "فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا"؛ أي: دين الإسلام، دين التوحيد. وقيل: هي: الحال التي خَلَق الله الناس عليها من القابلية للحق، والتهيؤ لإدراكه، وبذا تكون إشارة من الله سبحانه إلى ما فَطَر، أي: أبدع وركَّز في الناس من معرفته، ففطرةُ الله ما رُكِّز من القوة المُدْرِكة لمعرفته سبحانه وتوحيده، وهو المشار إليه بقوله تعالى: "وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ".

وانتصابُ (فطرتَ) على الإغراءِ، أي: الزموا فطرةَ الله، فَإِنَّ اللَّهَ فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهِ وعلى توحيده، وأخذ عليهم الميثاق بذلك، قال تعالى: "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ . أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ . وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ"، والأليق بالمعنى والأنسب أن تكون (فطرتَ) منصوبة على أنها: بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ "حَنِيفًا"؛ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْحَالِ مِنَ الدِّينُ أَيْضًا، وَهُوَ حَالٌ ثَانِيَةٌ.

قال الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير: "وَهَذَا أَحْسَنُ لِأَنَّهُ أَصْرَحُ فِي إِفَادَةِ أَنَّ هَذَا الدِّينَ مُخْتَصٌّ بِوَصْفَيْنِ، هُمَا: التَّبَرُّؤُ مِنَ الْإِشْرَاكِ، وَمُوَافَقَتُهُ الْفِطْرَةَ، فَيُفِيدُ أَنَّهُ دِينٌ سَمْحٌ سَهْلٌ لَا عَنَتَ فِيهِ".

ومن الحسن أيضًا؛ ما ذكره عبد الكريم يونس الخطيب في التفسير القرآني بقوله: "وقوله تعالى: "فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها": هو جملة تفسيرية، للدين الحنيف... فـ"فطرت الله"، منصوب بفعل محذوف تقديره: أعنى، أو أريد، أو نحو هذا.. فالدين الحنيف، وهو الإسلام، هو فطرة الله التي فطر الله الناس عليها، وخلقهم على استعداد فطرى لقبول هذا الدين، كما يقول الرسول الكريم: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ"، وهذا التأويل -والله أعلم- هو أولى مِن نصب "فطرت الله" على الإغراء؛ لأن ذلك -أي: تقدير الزم على الإغراء- يقطع الصلة بين الدين الحنيف وفطرة الله، ويجعل كلًا منهما كيانًا مستقلاً، على حين يجعلهما التأويل الذي تأولناه، شيئًا واحدًا... وهو الأولى".

قلتُ: ومع حسن ما ذكره الشيخ عبد الكريم من تأويل؛ إلا أن النصب على الإغراء وتقدير فعله ( الزم) لا يلزم منه قطع الصلة بين الدين الحنيف وفطرة الله -كما ظَنَّه-، بل هو مِن التأكيد على المعنى والمفهوم بتكرار الأوامر الدالة على عظمة المأمور به وجلاله، ولعل إيجاز الحذف لعامل الإغراء (الزم) دليل أبلج على هذا التكامل والتأكيد المراد لهذا الأمر الجليل والجلل، وهو إقامة الوجه للدين الذي هو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وعليه فالمفاضلة هنا بين تأويل حسن وآخر أحسن؛ ولذا ذكر أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره النص على الإغراء بصيغة: "قيل"، وهي لفظة تعني الاحتمال مع كونه مرجوحًا عند الأكثرية، فقال: "ومعنى الآية: إنّ الدّين الحنيفية "فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها". وقيل: نصب على الإغراء".

ومجيء التاء مبسوطة في "فِطْرَتَ" كالصحن المكشوف لا يخفي ما يوضع فيه؛ يدل على أن هذه الفطرة معلومة وبينة واضحة غير مجهولة.

وقوله: "الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا"؛ أَيْ: جَبَلَ النَّاسَ وَخَلَقَهُمْ عَلَيْهَا، أَيْ: مُتَمَكِّنِينَ مِنْهَا. فَحَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ (على) مُسْتَعَارٌ لِتَمَكُّنِ مُلَابَسَةِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ تَمَكُّنًا يُشْبِهُ تَمَكُّنَ الْمُعْتَلِي عَلَى شَيْءٍ، فهو في استعلاء يمكنه من الاطلاع على ما يريد كالواقف على مكانٍ عالٍ أو الراكب على جواد يركضه حيث شاء، فاللَّهَ -عز وجل- خَلَقَ النَّاسَ وفطرهم على التوحيد الَّذِي يُسَاوِقُ الْعَقْلَ وَالنَّظَرَ الصَّحِيحَ حَتَّى لَوْ تُرِكَ الْإِنْسَانُ وَتَفْكِيرُهُ، وَلَمْ يُلَقَّنِ اعْتِقَادًا ضَالًّا لَاهْتَدَى إِلَى التَّوْحِيدِ بِفِطْرَتِهِ.

قال القاسمي: "قال المهايمي: ولا يعسر الرجوع إليه؛ لكونه "فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها"؛ أي: لأن عقل كل واحد يدل على أنه حادث يفتقر إلى محدث، ولا دلالة على الافتقار إلى متعدد أبدًا، فالقول بتعدده تغيير للفطرة".

وقوله: "لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ" أي: لِدِينِ اللَّهِ، أو نفيٌ مَعْنَاهُ النهي؛ أي: لَا تُبَدِّلُوا خَلْقَ اللَّهِ، فَتُغَيِّرُوا النَّاسَ عَنْ فِطْرَتِهِمُ الَّتِي فَطَرَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهَا، فـ"كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ"، وَفِي رِوَايَةٍ: "عَلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ؛ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ"، فما ينبغي أن تبدَّل تلك الفطرة أو تغير، وبذا تكُونُ الجملة الكريمة خَبَرًا بِمَعْنَى الطَّلَبِ، ومثل هذا النسق البديع أوقع في نفس المخاطب وأشد تمكينًا للمعنى؛ إذ الأمر المباشر، فيه نوع من الثقل الذي قد تماري فيه بعض النفوس، وذلك بخلاف الطلب الذي تولد من لفظ خبري، يحمل مع الأمر التوكيد على المطلوب، وضرورة تحققه وترسيخه، مع ما يحمله من التشنيع بأولئك المبدلين والمغيرين، النازحين إلى الشرك وأوحاله، وذرائعه وطرائقه، بتأويلات فاسدة أو تبريرات كاسدة، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "لَا تَبْدِيلَ لِقَضَاءِ اللَّهِ بِسَعَادَتِهِمْ وَشَقَاوَتِهِمْ".

وللحديث بقية إن شاء الله.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 13-12-2022, 09:49 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فأقم وجهك للدين حنيفًا



فأقم وجهك للدين حنيفًا (3)









كتبه/ أشرف شريف


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقوله تعالى: "ذلك الدِّين القَيِّم": القيّم بناء مبالغة من القيام الذي هو بمعنى الاستقامة، أي: التّمسّك بالعقيدة الصّحيحة والشّريعة والفطرة السّليمة، هو الدّين القويم المستقيم الّذي لا عوج فيه، وإطلاق القيّم على الدّين: تشبيه انتفاء الخطأ عنه باستقامة العود وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس، كما في قوله تعالى: "ولم يجعل له عوجًا قيّمًا".

ويطلق القيِّم أيضًا على: الرّعاية والمراقبة والكفالة بالشّيء.

ويطلق أيضًا على: المهيمن والحافظ. وكلّها معان صالحةٌ هنا؛ فهذا التوحيد الخالص وهذا الدّين الحنيف به قوام أمر الأمّة، قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه لمعاذ بن جبلٍ رضي الله عنه: "يا معاذ ما قوام هذه الأمّة؟ قال معاذ: ثلاثٌ، وهنّ المنجيات: الإخلاص، وهو: الفطرة الّتي فطر اللّه النّاس عليها، والصّلاة وهي: الدّين، والطّاعة وهي: العصمة، فقال عمر: صدقت"؛ يريد معاذ بالإخلاص: التّوحيد، كقوله تعالى في سورة البينة: "مخلصين له الدِّين حنفاء"، وقول النّبي صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه عن ربّه: "وإنّي خلقت عبادي حنفاء كلهم -أي: غير مشركين-، وإنّهم أتتهم الشّياطين فأجالتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا".

ولكنّ أكثر الناس من المشركين الذين أعرضوا عن دعوة الإسلام، وأهل الكتاب الذين أبوا اتباع الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- ومفارقة أديانهم لا يعلمون، والملحدين المنكرين ما هو ظاهر متيقن من دلالة الكون على وجود خالقه ووحدانيته ثم يتمسكون في المقابل بنظريات افتراضية وهمية لا دليل عليها؛ إلا خيال وأكاذيب يهدم بعضها بعضًا؛ هم جهّالٌ لا علم عندهم بالاعتقاد، والمعرفة والإدراك لتلك الحقيقة العظيمة المرتبطة بحياة البشر ودينهم وأعمالهم، فإن كان قد بلغهم فإنّهم جهلوا معانيه؛ لإعراضهم عن التَّأمُّل، ولم يسعوا في أن يبلغهم على الوجه الصّحيح، ففعل لا يعلمون غير متطلّبٍ مفعولًا، بل هو منزّلٌ منزلة اللَّازم؛ لأنّ المعنى لا علم عندهم، وفي هذا تقبيح لهم وتشنيع بجهلهم وإن حملوا الشهادات العليا.

وهذه الآية الكريمة: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ": دليل أبلج على أن معرفة الله عز وجل فطرية، وأن وجود الله معلوم بالاضطرار، بخلاف ما تدعيه المعتزلة والأشاعرة الذين أنكروا المعرفة الفطرية، وصرحوا بأن وجود الله تعالى غير معلوم باضطرار، وإنما يعلم بالنظر والاستدلال، فجعلوا الدلائل على معرفة الله عز وجل وربوبيته عقلية فحسب، وذلك بعد ما دخلوا إلى سراديب الفلسفة وتأثروا بأوهامها وخاضوا بحر أوحالها، وجعلوا العقل وحده وسيلة العلم والمعرفة، وترتب على ذلك خلل عظيم في قضية الإيمان والكفر عندهم؛ لأنهم جعلوا أول واجب على العباد هو النظر والاستدلال المؤدي إلى المعرفة، حتى لا يكون العبد مقلدًا في إيمانه، وإلا كان كافرًا أو فاسقًا، أو غير كامل الإيمان لتركه النظر، حتى وإن كان اعتقاده صحيحًا.

وأصل هذا البلاء وتلك البدعة المنكرة إنكار تلك المعرفة الفطرية التي فطر الله الناس عليها؛ فانظر إلى هذا المنزلق الكلامي الوَحِل، وتأمل كيف جعلوا أول مطلوب جاء به الكتاب والسنة ودعت إليه الرسل من الإيمان بالله وكتبه ورسله... هو المطلوب الثاني –وفق ما قرره الباقلاني- بعد ما ابتدعوه من النظر على طريقتهم؛ بسبب تأثرهم بالفلسفة الوثنية الإغريقية التي تنكر الوحي وتجعل العقل وحده الحكم والمعيار ومصدر التلقي، فأخضعوا المعتقدات والأديان للنظر العقلي، وفتحوا باب المعارضة المفتعلة بين المعقول والمنقول، وترتب على هذا عند الأشاعرة؛ أن لم ينظر ويعرف الله بالنظر والاستدلال على طريقتهم الكلامية -القائمة على النظرية العويصة في الجوهر والعرض لإثبات حدوث العالم ووجود الخالق-؛ فهو مقلد في إيمانه، وهذا المقلد عند بعضهم كافر لا يصح منه الإيمان وهو من الهالكين؛ لأنهم جعلوا النظر شرط لصحة الإيمان، ومنهم من فَصَّل بحسب أهلية النظر وغيرها، ومنهم من حكم بإيمانه لكن جعل النظر شرط لكمال الإيمان... فانظر كيف كَفَّرُوا وفسَّقوا الكثرة من المسلمين القائم إيمانهم على الفطرة التي فطرهم الله عليها؟!

حتى إن يوسف بن إلياس العجمي الكنجي المعروف بعجم سنان، قال في حاشيته على "شرح المواقف": (روي أن إمام الحرمين حين قرر أن إيمان المقلد غير معتبر، وقد كان يطوف بالبيت اعترض عليه من علماء شيراز بأنه يكون أكثر هؤلاء الطائفين هالكين غير مؤمنين! فقال الإمام الجويني: أتخوفني بكثرة الهالكين؟!)، هكذا يصدح الجويني بلا مواربة: (أتخوفني بكثرة الهالكين؟!) فيمَن أنكر عليه تكفير المسلمين المقلدين الذين يمتدون من زمنه صلى الله عليه وسلم وعبر القرون الخيرية الأولى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ فيا للعضيهة! حين يكفرون جموع المسلمين، ويكفرون آباءهم وأمهاتهم.

قال أبو إسماعيل الهروي في بيان تلبيس الجهمية: (وأبطلوا التقليد؛ فكفروا آباءهم وأمهاتهم وأزواجهم وعوام المسلمين، وأوجبوا النظر في الكلام، واضطروا إليه الدين بزعمهم فكفروا السَّلَف).


وقد نقل الحافظ ابن حجر في الفتح كلام الجويني وغيره في شرحه لكتاب الإيمان من فتح الباري، ورد عليه قائلًا: (وَمَعَ ذَلِكَ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا"، وحديث: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفطْرَة" ظاهر في دفع هذه المسألة من أصلها... وقد نقل القدوة أبو محمّد بن أبي جمرة عن أبي الوليد الباجيّ عن أبي جعفرٍ السّمناني، وهو من كبار الأشاعرة أنّه سمعه يقول إنّ هذه المسألة من مسائل المعتزلة بقيت في المذهب واللّه المستعان).

ومثل هذه المسائل تؤكِّد كما صرَّح الدكتور النشار -مع تعصبه الشديد للأشاعرة-: (أن الأشاعرة لم يخالفوا المعتزلة في الأصول، وإنما في فهم هذه الأصول)، وكل هذا التعمق الموحل، والتكلف الخطير لدى المتكلمين؛ لأنهم يرون أن إيمان هؤلاء المقلدين لم يأتِ من جهة النظر الذي استحدثه وابتدعه هؤلاء المتكلمون، وهذا ما جعل بعض الأشاعرة مثل: السماني، وأبي المظفر بن السمعاني، وأبي حامد الغزالي، ونحوهم... ينتقدون المذهب في هذه المسألة، والعجب في هؤلاء أنهم يكفرون المقلدين أو يفسقونهم مع أن جمهورهم مقلد لرؤوسهم، والله المستعان.

ولا ريب أن صريح القرآن يدحض ما زعموه، وكذا الأحاديث الشريفة؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشهد بالإسلام لمن يقر بالشهادتين، ويجعله بتلك الشهادة معصوم الدم والمال، ولم يطالبهم بالنظر الذي زعمه هؤلاء، والناظر في القرآن يرى يقينًا أن الإقرار بوجود الله أمر فطري ضروري أقر به الكافرون المكذبون للرسل، حتى جُعل هذا الإقرار حجة عليهم في الاستدلال لتوحيد الألوهية، قال تعالى: "وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ".

ولا جدال في حض القرآن على النظر والتفكر والتدبر والتعقل وإعمال الفكر، ولكن الكلام هنا في أول واجب، وكونه طريق الإيمان والتوحيد، كما لا ننكر أصل النظر، ولكن ننكر توقف الإيمان على وجود النظر بالطرق الكلامية.

ويضاف لتلك الجريرة: أن الدليل الذي يطالبون الناس بالنظر عليه لصحة إيمانهم -وهو قانون الجوهر والعرض لإثبات حدوث العالم- صعب الفهم، عويص الإدراك بشهادة الأشاعرة أنفسهم، وهذه الأعراض وتعلّقها بالجواهر وانقلابها فيها في قانونهم تدل -كما يقول القرطبي في تفسيره-: "على أنّ لا هدى فيها، ولا رشد في واضعيها".




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 13-12-2022, 09:51 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فأقم وجهك للدين حنيفًا



فأقم وجهك للدين حنيفًا (4)









كتبه/ أشرف الشريف


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فهذه الآية المجيدة: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) (الروم:30)، تَصْرِيحٌ بِأَنَّ اللَّهَ عز وجل خَلَقَ النَّاسَ سَالِمَة عُقُولُهُمْ مِمَّا يُنَافِي الْفِطْرَةَ مِنَ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ، وَالْعَادَاتِ الذَّمِيمَةِ، وَأَنَّ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مِنَ الضَّلَالَاتِ مَا هُوَ إِلَّا مِنْ جَرَّاءِ التَّلَقِّي وَالتَّعَوُّدِ، وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتِجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ -أي: مكتملة الأعضاء- هَلْ تَحُسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟ -يعني مقطوعة الأطراف كالأنف، ونحوه- حَتَّى تَكُونُوا أَنْتُمْ تَجْدَعُونَهَا"، ثُمَّ يَقُولُ أبو هريرة: اقْرَءُوا: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ).


ولذلك يأمر الله عز وجل عباده أن يقيموا وجوههم لله، وأن يخلصوا دينهم له؛ فإنه مقتضى الفطرة التي فطرهم عليها، وتحقيق للعهد والميثاق، وأداء لشهادة الحق التي أشهدهم عليها، وهكذا كانت البشرية الأولى أو ذرية آدم -عليه السلام-، من وقته إلى مبعث نوح -عليه السلام- وكان بينهما عشرة قرون كلهم على الإسلام والتوحيد، ثم اختلفوا في زمن نوح عليه السلام حين زيَّن لهم الشيطان أن يصوروا تصاوير لرجال صالحين -وَدّ وسُوَاع ويَغُوث وَيَعُوق وَنَسْر- كتلك القباب التي تنصب اليوم على مقابر الصالحين، وكان الهدف منها في البداية أن تذكرهم تلك التصاوير بأولئك الصالحين لتشتد عبادتهم لله.

ثم بدأ الناس في الجيل الذي يليه -بعد ما نُسِخ العلم ومات أولئك- يتوسلون بها إلى الله ويجعلونها واسطة، كما يجري اليوم ممَّن يستغيث بالأموات وينادونهم ويجعلونهم -بالباطل- واسطة بينهم وبين الله عز وجل، فوقعوا في الشرك؛ إذ توجهوا للأموات ينادونهم من دون الله، فيدعونهم مع الله أو مِن دونه، ويصرفون لهم العبادة، فيقولون: (مدد يا فلان... ! - اشفني يا فلان...!) قال تعالى: (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ) (الزمر: 3).

ولذا حرص الإسلام العظيم على سدِّ كل ذريعة قد تؤدي إلى الشرك ولو كان شركًا أصغر في اللفظ -وصاحبه لا يقصد الإشراك-؛ قال ابن القيم رحمه الله في كتابه إعلام الموقعين: "قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ، وَذَمَّ الْخَطِيبَ الَّذِي قَالَ: مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ عَصَاهُمَا فَقَدْ غَوَى؛ سَدًّا لِذَرِيعَةِ التَّشْرِيكِ فِي الْمَعْنَى بِالتَّشْرِيكِ فِي اللَّفْظِ، وَحَسْمًا لِمَادَّةِ الشِّرْكِ حَتَّى فِي اللَّفْظِ؛ وَلِهَذَا قَالَ لِلَّذِي قَالَ لَهُ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْت: أَجَعَلْتنِي لِلَّهِ نِدًّا؟ فَحَسَمَ مَادَّةَ الشِّرْكِ، وَسَدَّ الذَّرِيعَةَ إلَيْهِ فِي اللَّفْظِ كَمَا سَدَّهَا فِي الْفِعْلِ وَالْقَصْدِ، فَصَلَاةُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ أَكْمَلَ صَلَاةٍ، وَأَتَمَّهَا وَأَزْكَاهَا وَأَعَمَّهَا".


وللحديث بقية إن شاء الله.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 16-01-2023, 10:10 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فأقم وجهك للدين حنيفًا

فأقم وجهك للدين حنيفًا (5)






كتبه/ أشرف الشريف

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فعن أبي وَاقِدٍ اللَّيْثِي رضي الله عنه -وَكَانَ مِنْ أَصْحَاب رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم- قال: لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ خَرَجْنَا مَعَهُ قِبَلَ هَوَازِنٍ -حُنَين- حَتَّى مَرَرْنَا عَلَى سِدْرَةٍ لِلْكُفَّارِ يَعْكفُونَ حَوْلَهَا وَيَدْعُونَهَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ -شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ خَضْرَاءُ، يَأْتُونَهَا كُلَّ سَنَةٍ، فَيُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ، وَيَذْبَحُونَ عِنْدَهَا، وَيَعْكُفُونَ عِنْدَهَا يَوْمًا- قُلْنَا: يَا رسول الله، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنوَاطٍ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: (الله أكبَرُ، إِنَّهَا السُّنَنُ، هذَا كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: "اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ")، ثُمَّ قَال رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّكُمْ سَتَرْكبُنَّ سُنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

فبيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: أن هذا مِن عمل المشركين، وأن مشابهتهم في هذا شرك بالله تبارك وتعالى؛ إذ هو طلب البركة والنصر من غير الله عز وجل، وقطع عمر رضي الله عنه شجرة الرضوان لما رأى الناس يقصدونها يتبركون بها، وأخفى رضي الله عنه قبر نبي الله دانيال عليه السلام في مدينة تستر، بعد ما جعله الناس وسيلة عند طلب المطر، وحينما جفَّ المطر في زمن عمر رضي الله عنه وأراد الاستسقاء لم يذهب إلى قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل توسل إلى الله بدعاء الصالحين الأحياء، فتوسل بدعاء العباس رضي الله عنه؛ لأن الدعاء من الأعمال الصالحة التي شرعها الله وسيلة إليه، أما الأحجار والقبور فهي لا تنفع ولا تضر، ولم يشرعها الله سببًا ولا وسيلةً، بل قامت الأدلة بالنهي عن رفع القبر، وعدم الغلو فيه.

حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم يخشى من الغلو في قبره، فكان يلهج بالدعاء ويقول: (اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي ‌وَثنَاً ‌يُعْبدُ ‌بَعْدِي، اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ على قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِم مَسَاجِدَ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)؛ لذا لا يجوز التوسل بالقبور ولا بساكنيها والاستغاثة بهم؛ لأنهم لا يسمعون -إلا ما وردت به النصوص من التسليم عليهم مثلا-، ولو سمعوا ما قدروا على النفع والاستجابة، فصار خطابهم والاستغاثة بهم، وطلب المدد منهم، طلب ممَّن لا يملك، قال الله عز وجل: (‌ذَلِكُمُ ‌اللَّهُ ‌رَبُّكُمْ ‌لَهُ ‌الْمُلْكُ ‌وَالَّذِينَ ‌تَدْعُونَ ‌مِنْ ‌دُونِهِ ‌مَا ‌يَمْلِكُونَ ‌مِنْ ‌قِطْمِيرٍ . إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (فاطر: 13-14).

وعن عابس بن ربيعة، قال: رأَيتُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يُقبِّلُ الحجرَ -يعني الأسود- ويقول: "إِنِّي لأَعْلَمُ أَنكَ حَجَرٌ لاَ تضر ولا تَنفع، وَلولاَ أَنِّي رأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقبلكَ ما قبلتُك" (متفق عليه)، وفي هذا دليل على أنه لا يجوز تقبيل حجر إلا بنصٍّ من القرآن أو السنة، ولا يصح الاستحسان في هذا الباب؛ فعمر رضي الله عنه قَبَّل الحجر الأسود لوجود نص صريح له، وهذا دليل على خصوصية الحجر الأسود دون ما سواه.

لذا حينما ضَلَّت البشرية بعد آدم عليه السلام، وظهر فيها الشرك بطلب المدد من أولئك الصالحين الأموات، وحين جعلهم الناس وسائط بينهم وبين الله في الدعاء -ظنًّا منهم أن هذا قُرْبَة وزلفى إلى الله-؛ بَعَث الله إليهم نوحًا عليه السلام، قال الله تعالى: (‌كَانَ ‌النَّاسُ ‌أُمَّةً ‌وَاحِدَةً ‌فَبَعَثَ ‌اللَّهُ ‌النَّبِيِّينَ ‌مُبَشِّرِينَ ‌وَمُنْذِرِينَ ‌وَأَنْزَلَ ‌مَعَهُمُ ‌الْكِتَابَ ‌بِالْحَقِّ) (البقرة: 213).

وهذا دليل على أن حياة البشرية لا تستقيم، ولا تنتظم إلا ببعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ فالرسالة ضرورية للعباد، لا بد لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء؛ فهي روح العالم ونوره وحياته؛ ولذلك سمَّى الله تعالى وحيه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم روحًا، وسمَّاه نورًا، والإنسان لا يستغني عن الروح؛ فهي سبب الحياة، ولا عن النور؛ فهو سبب الهداية، قال سبحانه وتعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) (الشورى:52)، وقال تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (يونس: 47).


وهؤلاء الرُّسُل هم الذين يُعَرِّفُون الناس بربهم معرفة صحيحة صادقة، ويضبطون حركتهم الفكرية والعملية بضوابط الوحي الإلهي؛ إذ لا تستطيع العقول البشرية أن تستقل بإدراك حقائق الأشياء على ما هي عليه، ولا تستقل بمعرفة ما تنبغي معرفته من مصالحهم العاجلة والآجلة، ولا تستطيع معرفة أمور الغيب المحجوبة عنها، ولا الأمور الدينية على وجه التفصيل.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 101.16 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 97.42 كيلو بايت... تم توفير 3.74 كيلو بايت...بمعدل (3.69%)]