الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله - الصفحة 21 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         شرح كتاب فضائل القرآن من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 211 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 117 - عددالزوار : 28440 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 175 - عددالزوار : 60061 )           »          خطورة الوسوسة.. وعلاجها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 35 )           »          إني مهاجرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »          الضوابط الشرعية لعمل المرأة في المجال الطبي.. والآمال المعقودة على ذلك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 30 - عددالزوار : 842 )           »          صناعة الإعلام وصياغة الرأي العام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 35 )           »          من تستشير في مشكلاتك الزوجية؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »          فن إيقاظ الطفل للذهاب إلى المدرسة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > فتاوى وأحكام منوعة

فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #201  
قديم 17-11-2022, 05:24 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الخامس
الحلقة (201)
صـ301 إلى صـ 315



والثاني : أن المناهي تمتثل بفعل واحد وهو الكف ، فللإنسان قدرة عليها في الجملة من غير مشقة ، وأما الأوامر فلا قدرة للبشر على فعل جميعها ، وإنما تتوارد على المكلف على البدل بحسب ما اقتضاه الترجيح ، فترك بعض الأوامر ليس بمخالفة على الإطلاق بخلاف فعل بعض النواهي ، فإنه مخالفة [ ص: 301 ] في الجملة ، فترك النواهي أبلغ في تحقيق الموافقة .

الثالث : النقل ، فقد جاء في الحديث : فإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا ، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم فجعل المناهي آكد في الاعتبار من الأوامر ، حيث حتم في المناهي من غير مثنوية ، ولم يحتم ذلك في الأوامر إلا مع التقييد بالاستطاعة ، وذلك إشعار بما نحن فيه من ترجيح مطابقة المناهي على مطابقة الأوامر .
[ ص: 302 ] المسألة الخامسة

الاقتداء بالأفعال الصادرة من أهل الاقتداء يقع على وجهين :

أحدهما : أن يكون المقتدى به في الأفعال ممن دل الدليل على عصمته ، كالاقتداء بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أو فعل أهل الإجماع ، أو ما يعلم بالعادة أو بالشرع أنهم لا يتواطئون على الخطأ ، كعمل أهل المدينة على رأي مالك .

والثاني : ما كان بخلاف ذلك .

فأما الثاني فعلى ضربين :

أحدهما : أن ينتصب بفعله ذلك لأن يقتدى به قصدا ، كأوامر الحكام ونواهيهم وأعمالهم في مقطع الحكم ، من أخذ وإعطاء ، ورد وإمضاء ، ونحو ذلك ، أو يتعين بالقرائن قصده إليه تعبدا به ، واهتماما بشأنه دينا وأمانة .

والآخر : ألا يتعين فيه شيء من ذلك .

فهذه أقسام ثلاثة ، لا بد من الكلام عليها بالنسبة إلى الاقتداء .

فالقسم الأول لا يخلو أن يقصد المقتدي إيقاع الفعل على الوجه الذي أوقعه عليه المقتدى به ، لا يقصد به إلا ذلك ، سواء عليه أفهم مغزاه أم لا [ ص: 303 ] من غير زيادة ، أو يزيد عليه تنوية المقتدى به في الفعل أحسن المحامل مع احتماله في نفسه ، فيبني في اقتدائه على المحمل الأحسن ، ويجعله أصلا يرتب عليه الأحكام ، ويفرع عليه المسائل .

فأما الأول ، فلا إشكال في صحة الاقتداء به على حسب ما قرره الأصوليون ، كما اقتدى الصحابة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في أشياء كثيرة ، كنزع الخاتم الذهبي ، وخلع النعلين في الصلاة ، والإفطار في السفر ، والإحلال من [ ص: 304 ] العمرة عام الحديبية ، وكذلك أفعال الصحابة التي أجمعوا عليها ، وما أشبه ذلك .

وأما الثاني ، فقد يحتمل أن يكون فيه خلاف إذا أمكن انضباط المقصد ، ولكن الصواب أنه غير معتد به شرعا في الاقتداء ، لأمور :

أحدها : أن تحسين الظن إلغاء لاحتمال قصد المقتدى به دون ما نواه المقتدي من غير دليل .

فالاحتمال الذي عينه المقتدي لا يتعين ، وإذا لم يتعين لم يكن ترجيحه إلا بالتشهي ، وذلك مهمل في الأمور الشرعية ؛ إذ لا ترجيح إلا بمرجح .

[ ص: 305 ] ولا يقال : إن تحسين الظن مطلوب على العموم ، فأولى أن يكون مطلوبا بالنسبة إلى من ثبتت عصمته ؛ لأنا نقول : تحسين الظن بالمسلم - وإن ظهرت مخايل احتمال إساءة الظن فيه - مطلوب بلا شك ، كقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن الآية [ الحجرات : 12 ] .

وقوله : لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا الآية [ النور : 12 ] .

بل أمر الإنسان في هذا المعنى أن يقول ما لا يعلم - كما أمر باعتقاد [ ص: 306 ] ما لا يعلم - في قوله : وقالوا هذا إفك مبين [ النور : 12 ] .

وقوله : ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم [ النور : 16 ] .

إلى غير ذلك مما في هذا المعنى .

ومع ذلك فلم يبن عليه حكم شرعي ، ولا اعتبر في عدالة شاهد ولا في غير ذلك بمجرد هذا التحسين حتى تدل الأدلة الظاهرة المحصلة للعلم أو الظن الغالب .

فإذا كان المكلف مأمورا بتحسين الظن بكل مسلم ، ولم يكن كل مسلم عدلا عند المحسن بمجرد هذا التحسين حتى تحصل الخبرة أو التزكية ، دل على أن مجرد تحسين الظن بأمر لا يثبت ذلك الأمر ، وإذا لم يثبته لم ينبن عليه حكم ، وتحسين الظن بالأفعال من ذلك ، فلا ينبني عليها حكم .

ومثاله كما إذا فعل المقتدى به فعلا يحتمل أن يكون دينيا تعبديا ، ويحتمل أن يكون دنيويا راجعا إلى مصالح الدنيا ، ولا قرينة تدل على تعيين أحد الاحتمالين ، فيحمله هذا المقتدي على أن المقتدى به إنما قصد الوجه الديني لا الدنيوي بناء على تحسينه الظن به .

والثاني : أن تحسين الظن عمل قلبي من أعمال المكلف بالنسبة إلى المقتدى به مثلا ، وهو مأمور به مطلقا ، وافق ما في نفس الأمر أو خالف ؛ إذ لو كان يستلزم المطابقة علما أو ظنا لما أمر به مطلقا ، بل بقيد الأدلة المفيدة لحصول الظن بما في نفس الأمر ، وليس كذلك باتفاق ، فلا يستلزم المطابقة ، وإذا ثبت هذا فالاقتداء بناء على هذا التحسين بناء على عمل من أعمال نفسه ، لا على أمر حصل لذلك المقتدى به ، لكنه قصد الاقتداء بناء على ما [ ص: 307 ] عند المقتدى به ، فأدى إلى بناء الاقتداء على غير شيء ، وذلك باطل ، بخلاف الاقتداء بناء على ظهور علاماته ، فإنه إنما انبنى على أمر حصل للمقتدى به علما أو ظنا ، وإياه قصد المقتدي باقتدائه ، فصار كالاقتداء به في الأمور المتعينة .

والثالث : أن هذا الاقتداء يلزم منه التناقض ؛ لأنه إنما يقتدى به بناء على أنه كذلك في نفس الأمر ظنا مثلا ، ومجرد تحسين الظن لا يقتضي أنه كذلك في نفس الأمر لا علما ولا ظنا ، وإذا لم يقتضه لم يكن الاقتداء به بناء على أنه كذلك في نفس الأمر ، وقد فرضنا أنه كذلك ، هذا خلف متناقض .

وإنما يشتبه هذا الموضع من جهة اختلاط تحسين الظن بنفس الظن ، والفرق بينهما ظاهر ، لأمرين :

أحدهما : أن الظن نفسه يتعلق بالمقتدى به مثلا بقيد كونه في نفس الأمر كذلك ، حسبما دلت عليه الأدلة الظنية ، بخلاف تحسين الظن ، فإنه يتعلق به كان في الخارج على حسب ذلك الظن أو لا .

والثاني : أن الظن ناشئ عن الأدلة الموجبة له ضرورة لا انفكاك للمكلف عنه ، وتحسين الظن أمر اختياري للمكلف غير ناشئ عن دليل يوجبه ، وهو يرجع إلى نفي بعض الخواطر المضطربة الدائرة بين النفي والإثبات في كل واحد من الاحتمالين المتعلقين بالمقتدى به ، فإذا جاءه خاطر الاحتمال الأحسن [ ص: 308 ] قواه وثبته بتكراره على فكره ، ووعظ النفس في اعتقاده ، وإذا أتاه خاطر الاحتمال الآخر ضعفه ، ونفاه ، وكرر نفيه على فكره ، ومحاه عن ذكره .

فإن قيل : إذا كان المقتدى به ظاهره والغالب من أمره الميل إلى الأمور الأخروية والتزود للمعاد ، والانقطاع إلى الله ، ومراقبة أحواله فيما بينه وبين الله ، فالظاهر منه أن هذا الفرد المحتمل ملحق بذلك الأعم الأغلب ، شأن الأحكام الواردة على هذا الوزن .

فالجواب : أن هذا الفرد إذا تعين هكذا على هذا الفرض فقد يقوى الظن بقصده إلى الاحتمال الأخروي ، فيكون مجال الاجتهاد كما سيذكر بحول الله ، ولكن ليس هذا الفرض بناء على مجرد تحسين الظن ، بل على نفس الظن المستند إلى دليل يثيره ، والظن الذي يكون هكذا قد ينتهض في الشرع سببا لبناء الأحكام عليه ، وفرض مسألتنا ليس هكذا ، بل على جهة ألا يكون لأحد الاحتمالين ترجيح يثير مثله غلبة الظن بأحد الاحتمالين ، ويضعف الاحتمال الآخر ، كرجل متق لله محافظ على امتثال أوامره واجتناب نواهيه ، ليس له في الدنيا شغل إلا بما كلف من أمر دينه بالنسبة إلى دنياه وآخرته ، فمثل هذا له في هذه الدار حالان :

[ ص: 309 ] حال دنيوي ، به يقيم معاشه ، ويتناول ما من الله به عليه من حظوظ نفسه .

وحال أخروي ، به يقيم أمر آخرته .

فأما هذا الثاني فلا كلام فيه ، وهو متعين في نفسه ، وغير محتمل إلا في القليل ، ولا اعتبار بالنوادر .

وأما الأول : فهو مثار الاحتمال ، فالمباح مثلا يمكن أن يأخذه من حيث حظ نفسه ، ويمكن أن يأخذه من حيث حق ربه عليه في نفسه ، فإذا عمله ولم يدر وجه أخذه فالمقتدي به بناء على تحسين ظنه به ، وأنه إنما عمله متقربا إلى الله ، ومتعبدا له به ، فيعمل به على قصد التقرب ، ولا مستند له إلا تحسين ظنه بالمقتدى به ، ليس له أصل ينبني عليه ؛ إذ يحتمل احتمالا قويا أن يقصد المقتدى به نيل ما أبيح له من حظه ، فلا يصادف قصد المقتدي محلا ، بل إن صادف صادف أمرا مباحا صيره متقربا به ، والمباح لا يصح التقرب به كما تقدم تقريره في كتاب الأحكام .

بل نقول : إذا وقف المقتدى به وقفة ، أو تناول ثوبه على وجه ، أو قبض على لحيته في وقت ما ، أو ما أشبه ذلك ، فأخذ هذا المقتدي يفعل مثل فعله بناء على أنه قصد به العبادة مع احتمال أن يفعل ذلك لمعنى دنيوي ، أو غافلا ، كان هذا المقتدي معدودا من الحمقى والمغفلين ، فمثل هذا هو المراد بالمسألة .

وكذلك إذا كان له درهم مثلا ، فأعطاه صديقا له لصداقته ، وقد كان يمكن أن ينفقه على نفسه ويصنع به مباحا أو يتصدق به ، فيقول المقتدي : حسن الظن به يقتضي أنه كان يتصدق به ، لكن آثر به على نفسه في هذا الأمر [ ص: 310 ] الأخروي ، فيجيء منه جواز الإيثار في الأمور الأخروية .

وهذا المعنى لحظ بعض العلماء في حديث : واختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فاستنبط منه صحة الإيثار في أمور الآخرة ؛ إذ كان إنما يدعو بدعوته التي أعطيها في أمر من أمور الآخرة لا في أمور الدنيا .

فإذا بنينا على ما تقدم ، فلقائل أن يقول : إن ما قاله غير متعين ؛ لأنه كان يمكنه أن يدعو بها في أمر من أمور دنياه ؛ لأنه لا حجر عليه ، ولا قدح فيه ينسب إليه ، فقد كان - عليه الصلاة والسلام - يحب من الدنيا أشياء ، وينال مما أعطاه الله من الدنيا ما أبيح له ، ويتعين ذلك في أمور ، كحبه للنساء ، والطيب ، [ ص: 311 ] والحلواء ، والعسل ، والدباء ، وكراهيته للضب ، وأشباه ذلك ، وكان يترخص في بعض الأشياء مما أباح الله له ، وهو منقول كثيرا .

ووجه ثان ، وهو أنه قد دعا - عليه الصلاة والسلام - بأمور كثيرة دنيوية ، كاستعاذته من الفقر ، والدين ، وغلبة الرجال ، وشماتة الأعداء ، والهم ، وأن يرد إلى أرذل العمر ، وكان يمكنه أن يعوض من ذلك أمور الآخرة فلم يفعل ، ويدل [ ص: 312 ] عليه في نفس المسألة أن جملة من الأنبياء دعوا الدعوة المضمونة الإجابة لهم المذكورة في قوله : لكل نبي دعوة مستجابة في أمته على وجه مخصوص بالدنيا جائز لهم ، وهو الدعاء عليهم ، كقوله : وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا [ نوح : 26 ] حسبما نقله المفسرون ، وكان من [ ص: 313 ] الممكن أن يدعو بغير ذلك مما فيه صلاح لهم في الآخرة ، فكونهم فعلوا ذلك وهم صفوة الله من خلقه دليل على أنه لا يتعين في حقهم أن تكون جميع أعمالهم وأقوالهم مصروفة إلى الآخرة فقط ، فكذلك دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتعين فيها أمر الآخرة ألبتة ، فلا دليل في الحديث على ما قال هذا العالم .

وأمر ثالث : وهو أنا لو بنينا على هذا الأصل ، لكنا نقول ذلك القول في كل فعل من أفعاله - عليه الصلاة والسلام - كان من أفعال الجبلة الآدمية أو لا ؛ إذ يمكن أن يقال : إنه قصد بها أمورا أخروية ، وتعبدا مخصوصا ، وليس كذلك عند العلماء ، بل كان يلزم منه ألا يكون له فعل من الأفعال مختصا بالدنيا إلا من بين أنه راجع إلى الدنيا ؛ لأنه لا يتبين إذ ذاك كونه دنيويا لخفاء قصده فيه حتى يصرح به ، وكذلك إذا لم يبين جهته ؛ لأنه محتمل أيضا ، فلا يحصل من بيان أمور الدنيا إلا القليل ، وذلك خلاف ما يدل عليه معظم الشريعة ، فإذا ثبت هذا صح أن الاقتداء على هذا الوجه غير ثابت ، وأن الحديث لا دليل فيه من هذا الوجه .

مع أن الحديث كما تقدم يقتضي أن الدعوة مخصوصة بالأمة ، لقوله فيه : [ ص: 314 ] لكل نبي دعوة مستجابة في أمته فليست مخصوصة به ، فلا يحصل فيها معنى الإيثار الذي ذكره ؛ لأن الإيثار ثان عن قبول الانتفاع في جهة المؤثر ، وهنا ليس كذلك .

والقسم الثاني : إن كان مثل انتصاب الحاكم ونحوه ، فلا شك في صحة الاقتداء ؛ إذ لا فرق بين تصريحه بالانتصاب للناس ، وتصريحه بحكم ذلك الفعل المفعول أو المتروك ، وإن كان مما تعين فيه قصد العالم إلى التعبد بالفعل أو الترك ، بالقرائن الدالة على ذلك ، فهو موضع احتمال .

فللمانع أن يقول : إنه إذا لم يكن معصوما تطرق إلى أفعاله الخطأ ، والنسيان ، والمعصية قصدا ، وإذا لم يتعين وجه فعله ، فكيف يصح الاقتداء [ ص: 315 ] به فيه قصدا في العبادات أو في العادات ؟ ولذلك حكي عن بعض السلف أنه قال : أضعف العلم الرؤية ، يعني : أن يقول : رأيت فلانا يعمل كذا ، ولعله فعله ساهيا .

وعن إياس بن معاوية : لا تنظر إلى عمل الفقيه ، ولكن سله يصدقك .

وقد ذم الله تعالى الذين قالوا : إنا وجدنا آباءنا على أمة الآية [ الزخرف : 22 ] .

وفي الحديث من قول المرتاب : سمعت الناس يقولون شيئا فقلته .

فالاقتداء بمثل هذا المفروض كالاقتداء بسائر الناس ، أو هو قريب منه .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #202  
قديم 17-11-2022, 05:26 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الخامس
الحلقة (202)
صـ316 إلى صـ 330



وللمجيز أن يقول : إن غلبة الظن معمول بها في الأحكام ، وإذا تعين بالقرائن قصده إلى الفعل أو الترك - ولا سيما في العبادات ، ومع التكرار أيضا ، [ ص: 316 ] وهو من أهل الاقتداء بقوله - فالاقتداء بفعله كذلك .

وقد قال مالك في إفراد يوم الجمعة بالصوم : إنه جائز ، واستدل على ذلك بأنه رأى بعض أهل العلم يصومه ، قال : وأراه كان يتحراه ، فقد استند [ ص: 317 ] إلى فعل بعض الناس عند ظنه أنه كان يتحراه ، وضم إليه أنه لم يسمع أحدا من أهل العلم والفقه ومن يقتدى به ينهى عن صيامه ، وجعل ذلك عمدة مسقطة لحكم الحديث الصحيح من نهيه - عليه الصلاة والسلام - عن إفراد يوم الجمعة بالصوم .

فقد يلوح من هنا أن مالكا يعتمد هذا العمل الذي يفهم من صاحبه القصد إليه إذا كان من أهل العلم والدين ، وغلب على الظن أنه لا يفعله جهلا ولا سهوا ولا غفلة ، فإن كونه من أهل العلم المقتدى بهم يقتضي عمله به ، وتحريه إياه دليل على عدم السهو والغفلة ، وعلى هذا يجري ما اعتمد عليه من أفعال السلف ، إذا تأملتها وجدتها قد انضمت إليها قرائن عينت قصد المقتدى به ، وجهة فعله ، فصح الاقتداء .

والقسم الثالث : هو ألا يتعين فعل المقتدى به لقصد دنيوي ولا أخروي ، ولا دلت قرينة على جهة ذلك الفعل ، فإن قلنا في القسم الثاني بعدم [ ص: 318 ] صحة الاقتداء ، فها هنا أولى ، وإن قلنا بالصحة فقد ينقدح فيه احتمال ، فإن قرائن التحري للفعل هنالك موجودة ، فهي دليل يتمسك به في الصحة .

وأما هاهنا ، فلما فقدت قوي احتمال الخطأ والغفلة وغيرهما ، هذا مع اقتران الاحتياط على الدين ، فالصواب والحالة هذه منع الاقتداء إلا بعد الاستبراء بالسؤال عن حكم النازلة المقلد فيها ، ويتمكن قول من قال : لا تنظر إلى عمل الفقيه ، ولكن سله يصدقك ، ونحوه .
[ ص: 319 ] المسألة السادسة

قد تقدم أن لطالب العلم في طلبه أحوالا ثلاثة :

أما الحال الأول ، فلا يسوغ الاقتداء بأفعال صاحبه كما لا يقتدى بأقواله ؛ لأنه لم يبلغ درجة الاجتهاد بعد ، فإذا كان اجتهاده غير معتبر ، فالاقتداء به كذلك ؛ لأن أعماله إن كانت باجتهاد منه فهي ساقطة ، وإن كانت بتقليد فالواجب الرجوع في الاقتداء إلى مقلده أو إلى مجتهد آخر ، ولأنه عرضة لدخول العوارض عليه من حيث لا يعلم بها ، فيصير عمله مخالفا ، فلا يوثق بأن عمله صحيح ، فلا يمكن الاعتماد عليه .

وأما الحال الثالث ، فلا إشكال في صحة استفتائه ، ويجري الاقتداء بأفعاله على ما تقدم في المسألة قبلها .

وأما الحال الثاني ، فهو موضع إشكال بالنسبة إلى استفتائه ، وبالنسبة إلى الاقتداء بأفعاله ، فاستفتاؤه جار على النظر المتقدم في صحة اجتهاده أو عدم صحته .

وأما الاقتداء بأفعاله ، فإن قلنا بعدم صحة اجتهاده ، فلا يصح الاقتداء كصاحب الحال الأول ، وإن قلنا بصحة اجتهاده جرى الاقتداء بأفعاله على ما تقدم من التفصيل والنظر .

هذا إذا لم يكن في أعماله صاحب حال ، فإن كان صاحب حال وهو [ ص: 320 ] ممن يستفتى ، فهل يصح الاقتداء به بناء على التفصيل المذكور أم لا ؟ وهل يصح استفتاؤه في كل شيء أم لا ؟

كل هذا مما ينظر فيه ، فأما الاقتداء بأفعاله حيث يصح الاقتداء بمن ليس بصاحب حال ، فإنه لا يليق إلا بمن هو ذو حال مثله ، وبيان ذلك أن أرباب الأحوال عاملون في أحوالهم على إسقاط الحظوظ ، بالغون غاية الجهد في أداء الحقوق ، إما لسائق الخوف ، أو لحادي الرجاء ، أو لحامل المحبة ، فحظوظهم العاجلة قد سقطت من أيديهم بأمر شاغل عن غير ما هم فيه ، فليس لهم عن الأعمال فترة ، ولا عن جد السير راحة ، فمن كان بهذا الوصف ، فكيف يقدر على الاقتداء به من هو طالب لحظوظه مشاح في استقصاء مباحاته ؟

وأيضا ، فإن الله تعالى سهل عليهم ما عسر على غيرهم ، وأيدهم بقوة منه على ما تحملوه من القيام بخدمته ، حتى صار الشاق على الناس غير شاق عليهم ، والثقيل على غيرهم خفيفا عليهم ، فكيف يقدر على الاقتداء بهم ضعيف المنة عن حمل تلك الأعباء ، أو مريض العزم في قطع مسافات النفس ، أو خامد الطلب لتلك المراتب العلية ، أو راض بالأوائل عن الغايات .

فكل هؤلاء لا طاقة لهم باتباع أرباب الأحوال ، وإن تطوقوا ذلك زمانا ، فعما قريب ينقطعون ، والمطلوب الدوام ، ولذلك قال النبي - عليه الصلاة والسلام - : خذوا من العمل ما تطيقون ، فإن الله لن يمل حتى تملوا .

[ ص: 321 ] وقال : أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل .

وأمر بالقصد في العمل وأنه مبلغ ، وقال : إن الله يحب الرفق في الأمر كله .

وكره العنف والتعمق والتكلف والتشديد ، خوفا من الانقطاع ، وقال : واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم [ الحجرات : 7 ] .

ورفع عنا الإصر الذي كان على الذين من قبلنا ، فإذا كان الاقتداء بأرباب الأحوال آيلا إلى مثل هذا الحال ، لم يلق أن ينتصبوا منصب الاقتداء ، وهم كذلك ، ولا أن يتخذهم غيرهم أئمة فيه ، اللهم إلا أن يكون صاحب حال مثلهم ، وغير مخوف عليه الانقطاع ، فإذ ذاك يسوغ الاقتداء بهم على ما ذكر من التفصيل ، وهذا المقام قد عرفه أهله ، وظهر لهم برهانه على أتم وجوهه .

وأما الاقتداء بأقواله إذا استفتي في المسائل ، فيحتمل تفصيلا ، وهو أنه لا يخلو إما أن يستفتى في شيء هو فيه صاحب حال أو لا ، فإن كان الأول جرى حكمه مجرى الاقتداء بأفعاله ، فإن نطقه في أحكام أحواله من جملة [ ص: 322 ] أعماله ، والغالب فيه أنه يفتي بما يقتضيه حاله ، لا بما يقتضيه حال السائل ، وإن كان الثاني ساغ ذلك ؛ لأنه إذ ذاك كأنما يتكلم من أصل العلم لا من رأس الحال ؛ إذ ليس مأخوذا فيه .
[ ص: 323 ] المسألة السابعة

يذكر فيها بعض الأوصاف التي تشهد للعامي بصحة اتباع من اتصف بها في فتواه .

قال مالك بن أنس : ربما وردت علي المسألة تمنعني من الطعام والشراب والنوم ، فقيل له : يا أبا عبد الله ، والله ما كلامك عند الناس إلا نقر في حجر ، ما تقول شيئا إلا تلقوه منك ، قال : فمن أحق أن يكون هكذا إلا من كان هكذا ؟ قال الراوي : فرأيت في النوم قائلا يقول : مالك معصوم .

وقال : إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة ، فما اتفق لي فيها رأي إلى الآن .

وقال : ربما وردت علي المسألة فأفكر فيها ليالي .

وكان إذا سئل عن المسألة قال للسائل : انصرف حتى أنظر فيها ، فينصرف ويردد فيها ، فقيل له في ذلك ، فبكى وقال : إني أخاف أن يكون لي من المسائل يوم وأي يوم .

وكان إذا جلس نكس رأسه ، وحرك شفتيه يذكر الله ، ولم يلتفت يمينا [ ص: 324 ] ولا شمالا ، فإذا سئل عن مسألة تغير لونه - وكان أحمر - فيصفر ، وينكس رأسه ، ويحرك شفتيه ثم يقول : ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله ، فربما سئل عن خمسين مسألة ، فلا يجيب منها في واحدة ، وكان يقول : من أحب أن يجيب عن مسألة فليعرض نفسه قبل أن يجيب على الجنة والنار ، وكيف يكون خلاصه في الآخرة ثم يجيب .

وقال بعضهم : لكأنما مالك والله إذا سئل عن مسألة واقف بين الجنة والنار .

وقال : ما شيء أشد علي من أن أسأل عن مسألة من الحلال والحرام ؛ لأن هذا هو القطع في حكم الله ، ولقد أدركت أهل العلم والفقه ببلدنا وإن أحدهم إذا سئل عن مسألة كأن الموت أشرف عليه ، ورأيت أهل زماننا هذا يشتهون الكلام فيه والفتيا ، ولو وقفوا على ما يصيرون إليه غدا لقللوا من هذا ، وإن عمر بن الخطاب وعليا وعامة خيار الصحابة كانت ترد عليهم المسائل وهم خير القرن الذي بعث فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانوا يجمعون أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ويسألون ، ثم حينئذ يفتون فيها ، وأهل زماننا هذا قد صار فخرهم الفتيا ، فبقدر ذلك يفتح لهم من العلم .

قال : ولم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا الذين يقتدى بهم [ ص: 325 ] ومعول الإسلام عليهم أن يقولوا : هذا حلال ، وهذا حرام ، ولكن يقول : أنا أكره كذا ، وأرى كذا ، وأما حلال وحرام فهذا الافتراء على الله ، أما سمعت قول الله تعالى : قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق الآية [ يونس : 59 ] ؛ لأن الحلال ما حلله الله ورسوله ، والحرام ما حرماه .

قال موسى بن داود : ما رأيت أحدا من العلماء أكثر أن يقول : " لا أحسن " من مالك ، وربما سمعته يقول : ليس نبتلى بهذا الأمر ، ليس هذا ببلدنا ، وكان يقول للرجل يسأله : اذهب حتى أنظر في أمرك ، قال الراوي : فقلت : إن الفقه من باله وما رفعه الله إلا بالتقوى .

وسأل رجل مالكا عن مسألة ، وذكر أنه أرسل فيها من مسيرة ستة أشهر من المغرب ، فقال له : أخبر الذي أرسلك أنه لا علم لي بها ، قال : ومن يعلمها ؟ قال : من علمه الله ، وسأله رجل عن مسألة استودعه إياها أهل المغرب ، فقال : ما أدري ، ما ابتلينا بهذه المسألة ببلدنا ، ولا سمعنا أحدا من [ ص: 326 ] أشياخنا تكلم فيها ، ولكن تعود ، فلما كان من الغد جاء وقد حمل ثقله على بغله يقوده ، فقال : مسألتي ، فقال : ما أدري ما هي ، فقال الرجل : يا أبا عبد الله تركت خلفي من يقول : ليس على وجه الأرض أعلم منك ، فقال مالك غير مستوحش : إذا رجعت فأخبرهم أني لا أحسن .

وسأله آخر فلم يجبه ، فقال له : يا أبا عبد الله أجبني ، فقال ويحك ، تريد أن تجعلني حجة بينك وبين الله ؟ فأحتاج أنا أولا أن أنظر كيف خلاصي ثم أخلصك .

وسئل عن ثمان وأربعين مسألة ، فقال في اثنتين وثلاثين منها : لا أدري .

وسئل من العراق عن أربعين مسألة ، فما أجاب منها إلا في خمس .

وقد قال ابن عجلان : إذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقاتله .

[ ص: 327 ] ويروى هذا الكلام عن ابن عباس ، وقال : سمعت ابن هرمز يقول : ينبغي أن يورث العالم جلساءه قول لا أدري ، وكان يقول في أكثر ما يسأل عنه : لا أدري ، قال عمر بن يزيد : فقلت لمالك في ذلك ، فقال : يرجع أهل الشام إلى شامهم ، وأهل العراق إلى عراقهم ، وأهل مصر إلى مصرهم ، ثم لعلي أرجع عما أرجع أفتيهم به ، قال : فأخبرت الليث بذلك ، فبكى وقال : مالك والله أقوى من الليث أو نحو هذا .

وسئل مرة عن نيف وعشرين مسألة ، فما أجاب منها إلا في واحدة .

[ ص: 328 ] وربما سئل عن مائة مسألة فيجيب منها في خمس أو عشر ، ويقول في الباقي : لا أدري .

قال أبو مصعب : قال لنا المغيرة : تعالوا نجمع [ ونستذكر ] كل ما بقي علينا مما نريد أن نسأل عنه مالكا ، فمكثنا نجمع ذلك ، وكتبناه في قنداق ، ووجه به المغيرة إليه ، وسأله الجواب ، فأجابه في بعضه ، وكتب في الكثير منه : لا أدري ، فقال المغيرة : يا قوم لا والله ما رفع الله هذا الرجل إلا بالتقوى ، من كان منكم يسأل عن هذا فيرضى أن يقول : لا أدري ؟ .

والروايات عنه في " لا أدري " و " لا أحسن " كثيرة حتى قيل : لو شاء رجل أن يملأ صحيفته من قول مالك " لا أدري " لفعل قبل أن يجيب في مسألة .

وقيل : إذا قلت أنت يا أبا عبد الله لا أدري ، فمن يدري ؟ قال : ويحك أعرفتني ، ومن أنا ، وإيش منزلتي حتى أدري ما لا تدرون ؟ ثم أخذ يحتج بحديث ابن عمر ، وقال : هذا ابن عمر يقول : لا أدري ، فمن أنا ؟ وإنما [ ص: 329 ] أهلك الناس العجب ، وطلب الرياسة ، وهذا يضمحل عن قليل .

وقال مرة أخرى : قد ابتلي عمر بن الخطاب بهذه الأشياء ، فلم يجب فيها ، وقال ابن الزبير : لا أدري ، وابن عمر : لا أدري .

وسئل مالك عن مسألة ، فقال : لا أدري ، فقال له السائل : إنها مسألة خفيفة سهلة ، وإنما أردت أن أعلم بها الأمير ، وكان السائل ذا قدر ، فغضب مالك وقال : مسألة خفيفة سهلة ليس في العلم شيء خفيف ، أما سمعت قول الله تعالى : إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا [ المزمل : 5 ] فالعلم كله ثقيل ، وبخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة .

قال بعضهم : ما سمعت قط أكثر قولا من مالك : لا حول ولا قوة إلا بالله ، ولو نشاء أن ننصرف بألواحنا مملوءة بقوله : لا أدري : إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين [ الجاثية : 32 ] لفعلنا .

[ ص: 330 ] وقال له ابن القاسم : ليس بعد أهل المدينة أعلم بالبيوع من أهل مصر ، فقال مالك : ومن أين علموها ؟ قال : منك ، فقال مالك : ما أعلمها أنا ، فكيف يعلمونها .

وقال ابن وهب : قال مالك : سمعت من ابن شهاب أحاديث كثيرة ما حدثت بها قط ، ولا أحدث بها ، قال الفروي : فقلت له : لم ؟ قال : ليس عليها العمل .

وقال رجل لمالك : إن الثوري حدثنا عنك في كذا ، فقال : إني لأحدث في كذا وكذا حديثا ما أظهرتها بالمدينة .

وقيل له : عند ابن عيينة أحاديث ليست عندك ، فقال : أنا أحدث الناس بكل ما سمعت ؟ إني إذا أحمق ، وفي رواية : إني أريد أن أضلهم إذا ، ولقد خرجت مني أحاديث لوددت أني ضربت بكل حديث منها سوطا ولم أحدث بها ، وإن كنت أجزع الناس من السياط .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #203  
قديم 17-11-2022, 05:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الخامس
الحلقة (203)
صـ331 إلى صـ 345


[ ص: 331 ] ولما مات وجد في تركته حديث كثير جدا لم يحدث بشيء منه في حياته .

وكان إذا قيل له : ليس هذا الحديث عند غيرك ، تركه ، وإن قيل له : هذا مما يحتج به أهل البدع ، تركه ، وقيل له : إن فلانا يحدث بغرائب ، فقال : من الغريب نفر ، وكان إذا شك في الحديث طرحه كله ، وقال : إنما أنا بشر أخطئ وأصيب ، فانظروا في رأيي ، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به ، وكل ما لم يوافق ذلك فاتركوه .

وقال : ليس كل ما قال الرجل وإن كان فاضلا ، يتبع ويجعل سنة ، ويذهب به إلى الأمصار ، قال الله تعالى : فبشر عبادي الذين يستمعون القول الآية [ الزمر : 17 - 18 ] .

وسئل عن مسألة أجاب فيها ثم قال مكانه : لا أدري ، إنما هو الرأي ، وأنا أخطئ وأرجع ، وكل ما أقول يكتب .

[ ص: 332 ] وقال أشهب : ورآني أكتب جوابه في مسألة ، فقال : لا تكتبها ، فإني لا أدري أثبت عليها أم لا .

قال ابن وهب : سمعته يعيب كثرة الجواب من العالم حين يسأل ، قال : وسمعته عندما يكثر عليه من السؤال يكف ، ويقول : حسبكم ، من أكثر أخطأ ، وكان يعيب كثرة ذلك ، وقال : يتكلم كأنه جمل مغتلم ، يقول : هو كذا هو كذا ، يهدر في كل شيء ، وسأله رجل عراقي عن رجل وطئ دجاجة ميتة فخرجت منها بيضة ، فأفقست البيضة عنده عن فرخ ، أيأكله ؟ فقال مالك : سل عما يكون ، ودع ما لا يكون ، وسأله آخر عن نحو هذا فلم يجبه ، فقال له : لم لا تجيبني يا أبا عبد الله ؟ فقال : لو سألت عما تنتفع به أجبتك .

وقيل له : إن قريشا تقول : إنك لا تذكر في مجلسك آباءها وفضائلها ، فقال : إنما نتكلم فيما نرجو بركته .

قال ابن القاسم : كان مالك لا يكاد يجيب ، وكان أصحابه يحتالون أن يجيء رجل بالمسألة التي يحبون أن يعلموها كأنها مسألة بلوى فيجيب فيها .

وقال لابن وهب : اتق هذا الإكثار ، وهذا السماع الذي لا يستقيم أن [ ص: 333 ] يحدث به ، فقال : إنما أسمعه لأعرفه ، لا لأحدث به ، فقال له : ما يسمع إنسان شيئا إلا يحدث به ، وعلى ذلك لقد سمعت من ابن شهاب أشياء ما تحدثت بها ، وأرجو ألا أفعل ما عشت ، وقد ندمت ألا أكون طرحت من الحديث أكثر مما طرحت .

قال أشهب : رأيت في النوم قائلا يقول : لقد لزم مالك كلمة عند فتواه لو وردت على الجبال لقلعتها ، وذلك قوله : " ما شاء الله لا قوة إلا بالله " .

هذه جملة تدل الإنسان على من يكون من العلماء أولى بالفتيا والتقليد له ، ويتبين بالتفاوت في هذه الأوصاف الراجح من المرجوح ، ولم آت بها على ترجيح تقليد مالك ، وإن كان أرجح بسبب شدة اتصافه بها ، ولكن لتتخذ قانونا في سائر العلماء ، فإنها موجودة في سائر هداة الإسلام ، غير أن بعضهم أشد اتصافا بها من بعض .
[ ص: 334 ] المسألة الثامنة

يسقط عن المستفتي التكليف بالعمل عند فقد المفتي إذا لم يكن له به علم لا من جهة اجتهاد معتبر ، ولا من تقليد ، والدليل على ذلك أمور :

أحدها : أنه إذا كان المجتهد يسقط عنه التكليف عند تعارض الأدلة عليه على الصحيح - حسبما تبين في موضعه من الأصول - فالمقلد عند فقد العلم بالعمل رأسا أحق وأولى .

والثاني : أن حقيقة هذه المسألة راجعة إلى العمل قبل تعلق الخطاب ، والأصل في الأعمال قبل ورود الشرائع سقوط التكليف ؛ إذ لا حكم عليه قبل العلم بالحكم ؛ إذ شرط التكليف عند الأصوليين العلم بالمكلف به ، وهذا غير عالم به بالفرض ، فلا ينتهض سببه على حال .

والثالث : أنه لو كان مكلفا بالعمل ، لكان من تكليف ما لا يطاق ؛ إذ هو مكلف بما لا يعلم ، ولا سبيل له إلى الوصول إليه ، فلو كلف به لكلف بما لا يقدر على الامتثال فيه ، وهو عين المحال ، إما عقلا ، وإما شرعا ، والمسألة بينة .
[ ص: 335 ] فصل

ويتصور في هذا العمل أمران :

أحدهما : فقد العلم به أصلا ، فهو كمن لم يرد عليه تكليف ألبتة .

والثاني : فقد العلم بوصفه دون أصله ، كالعالم بالطهارة أو الصلاة أو الزكاة على الجملة ، لكنه لا يعلم كثيرا من تفاصيلها ، وتقييداتها ، وأحكام العوارض فيها كالسهو ، وشبهه ، فيطرأ عليه فيها ما لا علم له بوجه العمل به ، وكلا الوجهين يتعلق به أحكام بحسب الوقائع لا يمكن استيفاء الكلام فيها ، وكتب الفروع أخص بها من هذا الموضع .
[ ص: 336 ] المسألة التاسعة

فتاوى المجتهدين بالنسبة إلى العوام كالأدلة الشرعية بالنسبة إلى [ ص: 337 ] المجتهدين .

والدليل عليه أن وجود الأدلة بالنسبة إلى المقلدين وعدمها سواء ؛ إذ كانوا لا يستفيدون منها شيئا ، فليس النظر في الأدلة والاستنباط من شأنهم ، ولا يجوز ذلك لهم ألبتة ، وقد قال تعالى : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [ النحل : 43 ] .

والمقلد غير عالم ، فلا يصح له إلا سؤال أهل الذكر ، وإليهم مرجعه في أحكام الدين على الإطلاق ، فهم إذا القائمون له مقام الشارع ، وأقوالهم قائمة مقام أقوال الشارع .

وأيضا فإنه إذا كان فقد المفتي يسقط التكليف فذلك مساو لعدم الدليل ؛ إذ لا تكليف إلا بدليل ، فإذا لم يوجد دليل على العمل سقط التكليف به ، فكذلك إذا لم يوجد مفت في العمل ، فهو غير مكلف به ، فثبت أن قول المجتهد دليل العامي ، والله أعلم .

ويتعلق بكتاب الاجتهاد نظران :

أحدهما : في تعارض الأدلة على المجتهد ، وترجيح بعضها على بعض .

والآخر : في أحكام السؤال والجواب .
[ ص: 338 ] [ ص: 339 ] كتاب لواحق الاجتهاد ، وفيه نظران :

النظر الأول : في التعارض ، والترجيح .

[ ص: 340 ] [ ص: 341 ] فالنظر الأول

فيه مسائل

بعد أن نقدم مقدمة لا بد من ذكرها ، وهي أن كل من تحقق بأصول الشريعة فأدلتها عنده لا تكاد تتعارض ، كما أن كل من حقق مناط المسائل فلا يكاد يقف في متشابه ؛ لأن الشريعة لا تعارض فيها ألبتة ، فالمتحقق بها متحقق بما في نفس الأمر ، فيلزم ألا يكون عنده تعارض ، ولذلك لا تجد ألبتة دليلين أجمع المسلمون على تعارضهما بحيث وجب عليهم الوقوف ، لكن لما كان أفراد المجتهدين غير معصومين من الخطأ ، أمكن التعارض بين الأدلة عندهم ، فإذا ثبت هذا فنقول : [ ص: 342 ] المسألة الأولى

التعارض إما أن يعتبر من جهة ما في نفس الأمر ، وإما من جهة نظر المجتهد ، أما من جهة ما في نفس الأمر فغير ممكن بإطلاق ، وقد مر آنفا في كتاب الاجتهاد من ذلك - في مسألة أن الشريعة على قول واحد - ما فيه كفاية ، وأما من جهة نظر المجتهد فممكن بلا خلاف ، إلا أنهم إنما نظروا فيه بالنسبة إلى كل موضع لا يمكن فيه الجمع بين الدليلين ، وهو صواب ، فإنه إن أمكن الجمع فلا تعارض ، كالعام مع الخاص ، والمطلق مع المقيد ، وأشباه ذلك .

[ ص: 343 ] لكنا نتكلم هنا بحول الله تعالى فيما لم يذكروه من الضرب الذي لا يمكن فيه الجمع ، ونستجر من الضرب الممكن فيه الجمع أنواعا مهمة ، وبمجموع النظر في الضربين يسهل - إن شاء الله - على المجتهد في هذا الباب ما عسر على كثير ممن زاول الاجتهاد ، وبالله التوفيق .

فأما ما لا يمكن فيه الجمع ، وهي :
[ ص: 344 ] المسألة الثانية

فإنه قد مر في كتاب الاجتهاد أن محال الخلاف دائرة بين طرفي نفي وإثبات ظهر قصد الشارع في كل واحد منهما ، فإن الواسطة آخذة من الطرفين بسبب ، هو متعلق الدليل الشرعي ، فصارت الواسطة يتجاذبها الدليلان معا : دليل النفي ، ودليل الإثبات ، فتعارض عليها الدليلان ، فاحتيج إلى الترجيح ، وإلا فالتوقف ، وتصير من المتشابهات ، ولما كان قد تبين في ذلك الأصل هذا المعنى ، لم يحتج إلى مزيد .

إلا أن الأدلة كما يصح تعارضها على ذلك الترتيب كذلك يصح تعارض ما في معناها كما في تعارض القولين على المقلد ؛ لأن نسبتهما إليه نسبة [ ص: 345 ] الدليلين إلى المجتهد ، ومنه تعارض العلامات الدالة على الأحكام المختلفة ، كما إذا انتهب نوع من المتاع يندر وجود مثله من غير الانتهاب ، فيرى مثله في يد رجل ورع ، فيدل صلاح ذي اليد على أنه حلال ، ويدل ندور مثله من غير النهب على أنه حرام فيتعارضان ، ومنه تعارض الأشباه الجارة إلى الأحكام المختلفة كالعبد ، فإنه آدمي فيجري مجرى الأحرار في الملك ، ومال فيجري مجرى سائر الأموال في سلب الملك ، ومنه تعارض الأسباب ، كاختلاط الميتة بالذكية ، والزوجة بالأجنبية ؛ إذ كل واحدة منهما تطرق إليها احتمال وجود السبب المحلل والمحرم ، ومنه تعارض الشروط ، كتعارض البينتين ؛ إذ قلنا : إن الشهادة شرط في إنفاذ الحكم فإحداهما تقتضي إثبات أمر ، والأخرى تقتضي نفيه ، وكذلك ما جرى مجرى هذه الأمور داخل في حكمها .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #204  
قديم 17-11-2022, 05:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الخامس
الحلقة (204)
صـ346 إلى صـ 360


ووجه الترجيح في هذا الضرب غير منحصر ، إذ الوقائع الجزئية النوعية [ ص: 346 ] أو الشخصية لا تنحصر ، ومجاري العادات تقضي بعدم الاتفاق بين الجزئيات بحيث يحكم على كل جزئي بحكم جزئي واحد ، بل لا بد من ضمائم تحتف ، وقرائن تقترن ، مما يمكن تأثيره في الحكم المقرر ، فيمتنع إجراؤه في جميع الجزئيات ، وهذا أمر مشاهد معلوم ، وإذا كان كذلك ، فوجوه الترجيح جارية مجرى الأدلة الواردة على محل التعارض ، فلا يمكن في هذه الحال إلا الإحالة على نظر المجتهد فيه ، وقد تقدم لهذا المعنى تقرير في أول كتاب الاجتهاد ، وحقيقة النظر الالتفات إلى كل طرف من الطرفين أيهما أسعد وأغلب أو أقرب بالنسبة إلى تلك الواسطة ، فيبنى على إلحاقها به من غير [ ص: 347 ] مراعاة للطرف الآخر أو مع مراعاته ، كمسألة العبد في مذهب مالك ومن خالفه وأشباهها .
فصل

هذا وجه النظر في الضرب الأول على ظاهر كلام الأصوليين ، وإذا تأملنا المعنى فيه ، وجدناه راجعا إلى الضرب الثاني ، وأن الترجيح راجع إلى وجه من الجمع ، أو إبطال أحد المتعارضين حسبما يذكر على أثر هذا [ ص: 348 ] بحول الله تعالى .

وأما ما يمكن فيه الجمع ، وهي :
[ ص: 349 ] المسألة الثالثة

فنقول : لتعارض الأدلة في هذا الضرب صور :

إحداها : أن يكون في جهة كلية مع جهة جزئية تحتها ، كالكذب المحرم مع الكذب للإصلاح بين الزوجين ، وقتل المسلم المحرم مع القتل قصاصا أو بالزنى ، فهو إما أن يكون الجزئي رخصة في ذلك الكلي ، أو لا .

وعلى كل تقدير ، فقد مر في هذا الكتاب ما يقتبس منه الحكم تعارضا وترجيحا ، وذلك في كتاب الأحكام وكتاب الأدلة ، فلا فائدة في التكرار .

والثانية : أن يقع في جهتين جزئيتين ، كلتاهما داخلة تحت كلية واحدة ، كتعارض حديثين أو قياسين أو علامتين على جزئية واحدة ، وكثيرا ما يذكره الأصوليون في الضرب الأول الذي لا يمكن فيه الجمع ، ولكن وجه النظر فيه أن التعارض إذا ظهر ، فلا بد من أحد أمرين : إما الحكم على أحد الدليلين بالإهمال ، فيبقى الآخر هو المعمل لا غير ، وذلك لا يصح إلا مع [ ص: 350 ] فرض إبطاله بكونه منسوخا ، أو تطريق غلط أو وهم في السند أو في المتن إن كان خبر آحاد ، أو كونه مظنونا يعارض مقطوعا به ، إلى غير ذلك من الوجوه القادحة في اعتبار ذلك الدليل ، وإذا فرض أحد هذه الأشياء لم يمكن فرض اجتماع الدليلين فيتعارضا ، وقد سلموا أن أحدهما إذا كان منسوخا لا يعد معارضا ، فكذلك ما في معناه ، فالحكم إذا للدليل الثابت عند المجتهد كما لو انفرد عن معارض من أصل ، والأمر الثاني : الحكم عليهما معا بالإعمال ، ويلزم من هذا ألا يتوارد الدليلان على محل التعارض من وجه واحد ؛ لأنه محال مع فرض إعمالهما فيه ، فإنما يتواردان من وجهين ، وإذ ذاك يرتفع التعارض ألبتة ، إلا أن هذا الإعمال تارة يرد على محل التعارض كما في مسألة العبد في رأي مالك ، فإنه أعمل حكم الملك له من وجه ، وأهمل ذلك من وجه ، وتارة يخص أحد الدليلين ، فلا يتواردان على محل التعارض معا ، بل يعمل [ ص: 351 ] في غيره ويهمل بالنسبة إليه لمعنى اقتضى ذلك ، ويدخل تحت هذا الوجه كل ما يستثنيه المجتهد صاحب النظر في تحقيق المناط الخاص المذكور في أول كتاب الاجتهاد ، وكذلك في فرض الكفاية المذكور في كتاب الأحكام .

والصورة الثالثة : أن يقع التعارض في جهتين جزئيتين لا تدخل إحداهما تحت الأخرى ، ولا ترجعان إلى كلية واحدة ، كالمكلف لا يجد ماء ولا تيمما ، فهو بين أن يترك مقتضى : وأقيموا الصلاة [ البقرة : 43 ] لمقتضى : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا [ المائدة : 6 ] إلى آخرها ، أو يعكس ، فإن الصلاة راجعة إلى كلية من الضروريات ، والطهارة راجعة إلى كلية من التحسينيات على قول من قال بذلك ، أو معارضة : وأقيموا الصلاة لقوله : وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره [ البقرة : 150 ] بالنسبة إلى من التبست عليه القبلة ، فالأصل أن الجزئي راجع في الترجيح إلى أصله الكلي ، فإن رجح الكلي فكذلك جزئيه ، أو لم يرجح فجزئيه مثله ؛ لأن الجزئي معتبر بكليه ، وقد ثبت [ ص: 352 ] ترجيحه ، فكذلك يترجح جزئيه .

وأيضا ، فقد تقدم أن الجزئي خادم لكليه ، وليس الكلي بموجود في الخارج إلا في الجزئي ، فهو الحامل له ، حتى إذا انخرم ، فقد ينخرم الكلي ، فهذا إذا متضمن له ، فلو رجح غيره من الجزئيات غير الداخلة معه في كليه للزم ترجيح ذلك الغير على الكلي ، وقد فرضنا أن الكلي المفروض هو المقدم على الآخر ، فلا بد من تقديم جزئيه كذلك ، وقد انجر في هذه الصورة حكم الكليات الشاملة لهذه الجزئيات ، فلا حاجة إلى الكلام فيها مع أن أحكامها مقتبسة من كتاب المقاصد من هذا الكتاب ، والحمد لله .

والصورة الرابعة : أن يقع التعارض في كليين من نوع واحد ، وهذا في [ ص: 353 ] ظاهره شنيع ، ولكنه في التحصيل صحيح .

ووجه شناعته أن الكليات الشرعية قد مر أنها قطعية لا مدخل فيها للظن ، وتعارض القطعيات محال .

وأما وجه الصحة فعلى ترتيب يمكن الجمع بينهما فيه إذا كان الموضوع له اعتباران ، فلا يكون تعارضا في الحقيقة ، وكذلك الجزئيان إذا دخلا تحت [ ص: 354 ] كلي واحد وكان موضوعهما واحدا ، إلا أن له اعتبارين .

فالجزئيان أمثلتهما كثيرة ، وقد مر منها ومن الأمثلة الميل ونحوه في تحديد طلب الماء للطهور ، فقد يكون فيه مشقة بالنسبة إلى شخص فيباح له التيمم ، ولا يشق بالنسبة إلى آخر فيمنع من التيمم ، فقد تعارض على الميل دليلان ، لكن بالنسبة إلى شخصين ، وهكذا ركوب البحر يمنع منه بعض ، ويباح لبعض ، والزمان واحد لكن بالنسبة إلى ظن السلامة والغرق وأشباه ذلك .

وأما التعارض في الكليين على ذلك الاعتبار ، فلنذكر له مثالا عاما يقاس عليه ما سواه إن شاء الله .

وذلك أن الله تعالى وصف الدنيا بوصفين كالمتضادين :

[ ص: 355 ] وصف يقتضي ذمها وعدم الالتفات إليها وترك اعتبارها .

ووصف يقتضي مدحها والالتفات إليها وأخذ ما فيها بيد القبول ؛ لأنه شيء عظيم مهدى من ملك عظيم .

فالأول له وجهان :

أحدهما : أنها لا جدوى لها ، ولا محصول عندها ، ومن ذلك قوله تعالى : أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم الآية [ الحديد : 20 ] فأخبر أنها مثل اللعب واللهو الذي لا يوجد فيه شيء ، ولا نفع فيه إلا مجرد الحركات والسكنات التي لا طائل تحتها ولا فائدة وراءها .

وقوله تعالى : وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور [ الحديد : 20 ] فحصر فائدتها في الغرور المذموم العاقبة .

وقوله تعالى : وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان [ العنكبوت : 64 ] .

وقوله تعالى : زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين إلى قوله : ذلك متاع الحياة الدنيا [ آل عمران : 14 ] .

وقال : المال والبنون زينة الحياة الدنيا [ الكهف : 46 ] إلى غير ذلك من الآيات .

[ ص: 356 ] وكذلك الأحاديث في هذا المعنى كقوله : لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء .

[ ص: 357 ] وهي كثيرة جدا ، وعلى هذا المنوال نسج الزهاد ما نقل عنهم من ذم الدنيا وأنها لا شيء .

والثاني : أنها كالظل الزائل ، والحلم المنقطع ، ومن ذلك قوله تعالى : إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض إلى قوله : كأن لم تغن بالأمس [ يونس : 24 ] .

وقوله : إنما هذه الحياة الدنيا متاع [ غافر : 39 ] .

وقوله : لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل الآية [ آل عمران : 196 - 197 ] .

[ ص: 358 ] وقوله : واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح [ الكهف : 45 ] .

وغير ذلك من الآيات المفهمة معنى الانقطاع والزوال وبذلك تصير كأن لم تكن ، والأحاديث في هذا أيضا كثيرة ، كقوله - عليه الصلاة والسلام - : ما لي وللدنيا ، ما أنا في الدنيا إلا كراكب قال تحت شجرة ثم راح وتركها .

[ ص: 359 ] [ ص: 360 ] وهو حادي الزهاد إلى الدار الباقية .

وأما الثاني من الوصفين ، فله وجهان أيضا :

أحدهما : ما فيها من الدلالة على وجود الصانع ووحدانيته وصفاته العلا ، وعلى الدار الآخرة ، كقوله تعالى : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج إلى : كذلك الخروج [ ق : 6 - 11 ] .

وقوله : أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا الآية [ النمل : 61 ] .

وقوله : يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة الآية إلى قوله : وأن الله يبعث من في القبور [ الحج : 5 - 7 ] .

وقوله : قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله إلى قوله : سبحان الله عما يصفون [ المؤمنون : 84 - 91 ] .

إلى غير ذلك من الآيات التي هي دلائل على العقائد ، وبراهين على التوحيد .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #205  
قديم 17-11-2022, 05:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الخامس
الحلقة (205)
صـ361 إلى صـ 375



والثاني : أنها منن ونعم امتن الله بها على عباده ، وتعرف إليهم بها في [ ص: 361 ] أثناء ذلك ، واعتبرها ودعا إليها بنصبها لهم وبثها فيهم ، كقوله تعالى : الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم إلى قوله : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها [ إبراهيم : 32 - 34 ] .

وقوله : الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم الآية [ البقرة : 22 ] .

وقوله : هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر إلى قوله : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها [ النحل : 10 - 18 ] .

وفيها : والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا الآية [ النحل : 81 ] .

وفي أول السورة : والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون [ النحل : 5 ] .

ثم قال : ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ثم قال : والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة [ النحل : 6 - 8 ] فامتن تعالى هاهنا ، وعرف بنعم من جملتها الجمال والزينة ، وهو الذي ذم به الدنيا في قوله : أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة [ الحديد : 20 ] .

إلى غير ذلك ، بل حين عرف بنعيم الآخرة امتن بأمثاله في الدنيا ، كقوله : في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود [ الواقعة : 28 - 30 ] .

[ ص: 362 ] وهو قوله : والله جعل لكم مما خلق ظلالا [ النحل : 81 ] .

وقال : ولهم فيها أزواج مطهرة [ البقرة : 25 ] .

وقال : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا [ النحل : 72 ] .

وهو كثير ، حتى إنه قال في الجنة : فيها أنهار من ماء غير آسن [ محمد : 15 ] إلى آخر أنواع الأنهار الأربعة .

وقال : والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إلى أن قال : وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا إلى قوله : فيه شفاء للناس [ النحل : 65 - 69 ] .

وهو كثير أيضا ، ( وأيضا ) فأنزل الأحكام ، وشرع الحلال والحرام تخليصا لهذه النعم التي خلقها لنا من شوائب الكدرات الدنيويات والأخرويات .

وقال تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة [ النحل : 97 ] يعني في الدنيا : ولنجزينهم أجرهم [ النحل : 97 ] يعني في الآخرة .

وقال حين امتن بالنعم : انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه [ الأنعام : 99 ] : كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور [ سبأ : 15 ] وقال في بعضها : ولتبتغوا من فضله [ النحل : 14 ] .

فعد طلب الدنيا فضلا ، كما عد حب الإيمان ، وبغض الكفر فضلا .

[ ص: 363 ] والدلائل أكثر من الاستقصاء .

فاقتضى الوصف الأول المضادة للثاني ، فالوجه الأول من الوصف الأول يضاد هذا الوجه الأخير من الوصف الثاني ، وهو ظاهر ؛ لأن عدم اعتبارها ، وأنها مجرد لعب لا محصول له مضاد لكونها نعما وفضلا ، والوجه الثاني من الوصف الأول مضاد للأول من الوصف الثاني ؛ لأن كونها زائلة وظلا يتقلص عما قريب مضاد لكونها براهين على وجود الباري ووحدانيته ، واتصافه بصفات الكمال ، وعلى أن الآخرة حق ، فهي مرآة يرى فيها الحق في كل ما هو حق ، وهذا لا تنفصل الدنيا فيه من الآخرة ، بل هو في الدنيا لا يفنى ؛ لأنها إذا كانت موضوعة لأمر وهو العلم الذي تعطيه ، فذلك الأمر موجود فيها تحقيقه ، وهو لا يفنى ، وإن فني منها ما يظهر للحس ، وذلك المعنى ينتقل إلى الآخرة ، فتكون هنالك نعيما ، فالحاصل أن ما بث فيها من النعم التي وضعت عنوانا عليه - كجعل اللفظ دليلا على المعنى - فالمعنى باق وإن فني العنوان ، وذلك ضد كونها منقضية بإطلاق ، فالوصفان إذا متضادان ، والشريعة منزهة عن التضاد ، مبرأة عن الاختلاف ، فلزم من ذلك أن توارد الوصفين على جهتين مختلفتين ، أو حالتين متنافيتين ، بيانه أن لها نظرين :

أحدهما : نظر مجرد من الحكمة التي وضعت لها الدنيا من كونها متعرفا للحق ، ومستحقا لشكر الواضع لها ، بل إنما يعتبر فيها كونها عيشا ومقتنصا [ ص: 364 ] للذات ، ومآلا للشهوات ، انتظاما في سلك البهائم ، فظاهر أنها من هذه الجهة قشر بلا لب ، ولعب بلا جد ، وباطل بلا حق ؛ لأن صاحب هذا النظر لم ينل منها إلا مأكولا ومشروبا وملبوسا ومنكوحا ومركوبا من غير زائد ، ثم يزول عن قريب ، فلا يبقى منه شيء ، فذلك كأضغاث الأحلام ، فكل ما وصفته الشريعة فيها على هذا الوجه حق ، وهو نظر الكفار الذين لم يبصروا منها إلا ما قال تعالى من أنها لعب ولهو وزينة وغير ذلك مما وصفها به ، ولذلك صارت أعمالهم : كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا [ النور : 39 ] وفي الآية الأخرى : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ الفرقان : 23 ] .

والثاني : نظر غير مجرد من الحكمة التي وضعت لها الدنيا ، فظاهر أنها ملأى من المعارف والحكم ، مبثوث فيها من كل شيء خطير مما لا يقدر على تأدية شكر بعضه ، فإذا نظر إليها العاقل وجد كل شيء فيها نعمة يجب شكرها ، فانتدب إلى ذلك حسب قدرته وتهيئته ، وصار ذلك القشر محشوا لبا ، بل صار القشر نفسه لبا ؛ لأن الجميع نعم طالبة للعبد أن ينالها فيشكر لله بها وعليها ، والبرهان مشتمل على النتيجة بالقوة أو بالفعل ، فلا دق ولا جل في هذه الوجوه إلا والعقل عاجز عن بلوغ أدنى ما فيه من الحكم والنعم ، ومن هاهنا أخبر تعالى عن الدنيا بأنها جد وأنها حق ، كقوله تعالى : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا [ المؤمنون : 115 ] .

وقوله : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا [ ص : 27 ] .

وقوله : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق [ الدخان : 38 - 39 ] .

[ ص: 365 ] أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق [ الروم : 8 ] إلى غير ذلك .

ولأجل هذا صارت أعمال أهل هذا النظر معتبرة مثبتة حتى قيل : فلهم أجر غير ممنون [ التين : 6 ] .

من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة [ النحل : 97 ] .

فالدنيا من جهة النظر الأول مذمومة ، وليست بمذمومة من جهة النظر [ ص: 366 ] الثاني ، بل هي محمودة ، فذمها بإطلاق لا يستقيم ، كما أن مدحها بإطلاق لا يستقيم ، والأخذ لها من الجهة الأولى مذموم ، يسمى أخذه رغبة في الدنيا ، وحبا في العاجلة ، وضده هو الزهد فيها ، وهو تركها من تلك الجهة ، ولا شك أن تركها من تلك الجهة مطلوب ، والأخذ لها من الجهة الثانية غير مذموم ، ولا يسمى أخذه رغبة فيها ، ولا الزهد فيها من هذه الجهة محمود ، بل يسمى سفها وكسلا وتبذيرا .

ومن هنا وجب الحجر على صاحب هذه الحالة شرعا ، ولأجله كان الصحابة طالبين لها ، مشتغلين بها ، عاملين فيها ؛ لأنها من هذه الجهة عون على شكر الله عليها ، وعلى اتخاذها مركبا للآخرة ، وهم كانوا أزهد الناس فيها ، وأورع الناس في كسبها ، فربما سمع أخبارهم في طلبها من يتوهم أنهم طالبون لها من الجهة الأولى ، لجهله بهذا الاعتبار ، وحاش لله من ذلك ، إنما طلبوها من الجهة الثانية ، فصار طلبهم لها من جملة عباداتهم ، كما أنهم تركوا طلبها من الجهة الأولى ، فكان ذلك أيضا من جملة عباداتهم رضي الله عنهم ، وألحقنا بهم ، وحشرنا معهم ، ووفقنا لما وفقهم له بمنه وكرمه .

فتأمل هذا الفصل ، فإن فيه رفع شبه كثيرة ترد على الناظر في الشريعة وفي أحوال أهلها ، وفيه رفع مغالط تعترض للسالكين لطريق الآخرة ، فيفهمون الزهد وترك الدنيا على غير وجهه ، كما يفهمون طلبها على غير وجهه ، فيمدحون ما لا يمدح شرعا ، ويذمون ما لا يذم شرعا .

وفيه أيضا من الفوائد فصل القضية بين المختلفين في مسألة الفقر والغنى ، وأن ليس الفقر أفضل من الغنى بإطلاق ، ولا الغنى أفضل بإطلاق ، بل الأمر في ذلك يتفصل ، فإن الغنى إذا أمال إلى إيثار العاجلة كان بالنسبة إلى [ ص: 367 ] صاحبه مذموما ، وكان الفقر أفضل منه ، وإن أمال إلى إيثار الآجلة ، فإنفاقه في وجهه ، والاستعانة به على التزود للمعاد ، فهو أفضل من الفقر ، والله الموفق بفضله .
فصل

واعلم أن أكثر أحكام هذا النظر مذكور في أثناء الكتاب ، فلذلك اختصر القول فيه .

وأيضا ، فإن ثم أحكاما أخر تتعلق به ، قلما يذكرها الأصوليون ، ولكنها بالنسبة إلى أصول هذا الكتاب كالفروع ، فلم نتعرض لها ؛ لأن المضطلع بها يدرك الحكم فيها بأيسر النظر ، والله المستعان ، وإنما ذكر هنا ما هو كالضابط الحاصر ، والأصل العتيد لمن تشوف إلى ضوابط التعارض والترجيح .
[ ص: 368 ] [ ص: 369 ] النظر الثاني

في أحكام السؤال والجواب ، وهو علم الجدل ، وقد صنف الناس فيه من متقدم ومتأخر ، والذي يليق منه بغرض هذا الكتاب فرض مسائل

[ ص: 370 ] [ ص: 371 ] المسألة الأولى

إن السؤال إما أن يقع من عالم أو غير عالم ، وأعني بالعالم المجتهد ، وغير العالم المقلد ، وعلى كلا التقديرين إما أن يكون المسئول عالما أو غير عالم ، فهذه أربعة أقسام :

الأول : سؤال العالم للعالم ، وذلك في المشروع يقع على وجوه ، كتحقيق ما حصل ، أو رفع إشكال عن له ، وتذكر ما خشي عليه النسيان ، أو تنبيه المسئول على خطأ يورده مورد الاستفادة ، أو نيابة منه عن الحاضرين من المتعلمين ، أو تحصيل ما عسى أن يكون فاته من العلم .

والثاني : سؤال المتعلم لمثله ، وذلك أيضا يكون على وجوه ، كمذاكرته له بما سمع ، أو طلبه منه ما لم يسمع مما سمعه المسئول ، أو تمرنه معه في المسائل قبل لقاء العالم ، أو التهدي بعقله إلى فهم ما ألقاه العالم .

والثالث : سؤال العالم للمتعلم ، وهو على وجوه كذلك ، كتنبيهه على موضع إشكال يطلب رفعه ، أو اختبار عقله أين بلغ ، والاستعانة بفهمه إن كان لفهمه فضل ، أو تنبيهه على ما علم ليستدل به على ما لم يعلم .

[ ص: 372 ] والرابع : وهو الأصل الأول ، سؤال المتعلم للعالم ، وهو يرجع إلى طلب علم ما لم يعلم .

فأما الأول والثاني والثالث ، فالجواب عنه مستحق إن علم ، ما لم يمنع من ذلك عارض معتبر شرعا وإلا فالاعتراف بالعجز .

وأما الرابع ، فليس الجواب عنه بمستحق بإطلاق ، بل فيه تفصيل ، فيلزم الجواب إذا كان عالما بما سئل عنه متعينا عليه في نازلة واقعة أو في [ ص: 373 ] أمر فيه نص شرعي بالنسبة إلى المتعلم ، لا مطلقا ، ويكون السائل ممن يحتمل عقله الجواب ، ولا يؤدي السؤال إلى تعمق ولا تكلف ، وهو مما يبنى عليه عمل شرعي ، وأشباه ذلك ، وقد لا يلزم الجواب في مواضع ، كما إذا لم يتعين عليه ، أو المسألة اجتهادية لا نص فيها للشارع ، وقد لا يجوز ، كما إذا لم يحتمل عقله الجواب ، أو كان فيه تعمق ، أو أكثر من السؤالات التي هي من جنس الأغاليط ، أو فيه نوع اعتراض ، ولا بد من ذكر جملة يتبين بها هذا المعنى بحول الله في أثناء المسائل الآتية .
[ ص: 374 ] المسألة الثانية

الإكثار من الأسئلة مذموم ، والدليل عليه النقل المستفيض من الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح ، من ذلك قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم الآية [ المائدة : 101 ] .

وفي الحديث أنه - عليه الصلاة والسلام - قرأ : ولله على الناس حج البيت الآية [ آل عمران : 97 ] ، فقال رجل : يا رسول الله ، أكل عام ؟ فأعرض ، ثم قال : يا رسول الله ، أكل عام ؟ ثلاثا ، وفي كل ذلك يعرض ، وقال في الرابعة : والذي نفسي بيده لو قلتها لوجبت ، ولو وجبت ما قمتم بها ، ولو لم تقوموا بها لكفرتم ، فذروني ما تركتكم .

وفي مثل هذا نزلت : لا تسألوا عن أشياء الآية [ المائدة : 101 ] .

[ ص: 375 ] وكره - عليه الصلاة والسلام - المسائل وعابها ، ونهى عن كثرة السؤال ، وكان - عليه الصلاة والسلام - يكره السؤال فيما لم ينزل فيه حكم ، وقال : إن الله فرض فرائض ، فلا تضيعوها ، ونهى عن أشياء ، فلا تنتهكوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وعفا عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان ، فلا تبحثوا عنها .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #206  
قديم 17-12-2022, 01:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الخامس
الحلقة (206)
صـ376 إلى صـ 385



وقال ابن عباس : ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض - صلى الله عليه وسلم - كلهن في القرآن : ويسألونك عن المحيض [ البقرة : 222 ] [ ص: 376 ] ويسألونك عن اليتامى [ البقرة : 220 ] . يسألونك عن الشهر الحرام [ البقرة : 217 ] ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم .

يعني أن هذا كان الغالب عليهم .

وفي الحديث : إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم عليه ، فحرم عليهم من أجل مسألته .

وقال : ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم [ ص: 377 ] على أنبيائهم .

وقام يوما وهو يعرف في وجهه الغضب ، فذكر الساعة ، وذكر قبلها أمورا عظاما ، ثم قال : من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه ، فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا قال : فأكثر الناس من البكاء حين سمعوا ذلك ، وأكثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول : سلوني ، فقام عبد الله بن حذافة السهمي ، فقال : من أبي ؟ فقال : أبوك حذافة ، فلما أكثر أن يقول : سلوني ، برك عمر بن الخطاب على ركبتيه ، فقال : يا رسول الله رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيا ، قال : فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال عمر ذلك ، وقال أولا : والذي نفسي بيده ، لقد عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط ، وأنا أصلي ، فلم أر كاليوم في الخير والشر .

وظاهر هذا المساق يقتضي أنه إنما قال : سلوني في معرض الغضب ، تنكيلا بهم في السؤال حتى يروا عاقبة ذلك ، ولأجل ذلك ورد في الآية قوله : إن تبد لكم تسؤكم [ المائدة : 101 ] .

ومثل ذلك قصة أصحاب البقرة ، فقد روي عن ابن عباس أنه قال : " لو ذبحوا بقرة ما لأجزأتهم ، ولكن شددوا فشدد الله عليهم حتى ذبحوها ، وما كادوا يفعلون " .

وقال الربيع بن خثيم : يا عبد الله ، ما علمك الله في كتابه من علم [ ص: 378 ] فاحمد الله ، وما استأثر عليك به من علم ، فكله إلى عالمه ، ولا تتكلف ، فإن الله يقول لنبيه - عليه الصلاة والسلام - : قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين [ ص : 86 ] إلخ .

وعن ابن عمر ، قال : لا تسألوا عما لم يكن ، فإني سمعت عمر يلعن من سأل عما لم يكن .

[ ص: 379 ] وفي الحديث أنه - عليه الصلاة والسلام - نهى عن الأغلوطات .

[ ص: 380 ] فسره الأوزاعي ، فقال : يعني صعاب المسائل .

وذكرت المسائل عند معاوية ، فقال : أما تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى [ ص: 381 ] عن عضل المسائل .

وعن عبدة بن أبي لبابة قال : وددت أن حظي من أهل هذا الزمان ألا أسألهم عن شيء ، ولا يسألوني عن شيء ، يتكاثرون بالمسائل كما يتكاثرون أهل الدراهم بالدراهم .

وورد في الحديث : " إياكم وكثرة السؤال " .

وسئل مالك عن حديث : " نهاكم عن قيل وقال وكثرة السؤال " قال : أما كثرة السؤال ، فلا أدري أهو ما أنتم فيه مما أنهاكم عنه من كثرة المسائل ، فقد كره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسائل وعابها ، وقال الله تعالى : لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم [ المائدة : 101 ] ، فلا أدري أهو هذا ، أم السؤال في مسألة الناس في الاستعطاء .

[ ص: 382 ] وعن عمر بن الخطاب ، أنه قال على المنبر : أحرج بالله على كل امرئ سأل عن شيء لم يكن ، فإن الله قد بين ما هو كائن .

وقال ابن وهب : قال لي مالك وهو ينكر كثرة الجواب للمسائل : يا عبد الله ، ما علمته فقل به ، ودل عليه ، وما لم تعلم فاسكت عنه ، وإياك أن تتقلد [ ص: 383 ] للناس قلادة سوء .

وقال الأوزاعي : إذا أراد الله أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه الأغاليط .

وعن الحسن قال : إن شرار عباد الله الذين يجيئون بشرار المسائل ، يعنتون بها عباد الله .

وقال الشعبي : والله لقد بغض هؤلاء القوم إلي المسجد حتى لهو أبغض إلي من كناسة داري ، قلت : من هم يا أبا عمرو ؟ قال : الأرأيتيون .

وقال : ما كلمة أبغض إلي من " أرأيت " .

[ ص: 384 ] وقال أيضا لداود الأودي : احفظ عني ثلاثا لها شأن : إذا سئلت عن مسألة فأجبت فيها فلا تتبع مسألتك " أرأيت " ، فإن الله قال في كتابه : أرأيت من اتخذ إلهه هواه [ الفرقان : 43 ] حتى فرغ من الآية ، والثانية إذا سئلت عن مسألة فلا تقس شيئا بشيء ، فربما حرمت حلالا ، أو حللت حراما ، والثالثة إذا سئلت عما لا تعلم ، فقل لا أعلم ، وأنا شريكك .

وقال يحيى بن أيوب : بلغني أن أهل العلم كانوا يقولون : إذا أراد الله ألا يعلم عبده خيرا أشغله بالأغاليط .

[ ص: 385 ] والآثار كثيرة .

والحاصل منها أن كثرة السؤال ، ومتابعة المسائل بالأبحاث العقلية ، والاحتمالات النظرية - مذموم ، وقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد وعظوا في كثرة السؤال حتى امتنعوا منه ، وكانوا يحبون أن يجيء الأعراب فيسألوه حتى يسمعوا كلامه ، ويحفظوا منه العلم ، ألا ترى ما في الصحيح عن أنس ، قال : نهينا أن نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء ، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع .

ولقد أمسكوا عن السؤال حتى جاء جبريل ، فجلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة وأمارتها ، ثم أخبرهم - عليه الصلاة والسلام - أنه جبريل ، وقال : أراد أن تعلموا إذ لم تسألوا .

وهكذا كان مالك بن أنس لا يقدم عليه في السؤال كثيرا ، وكان أصحابه يهابون ذلك ، قال أسد بن الفرات - وقد قدم على مالك - : وكان ابن القاسم وغيره من أصحابه يجعلونني أسأله عن المسألة ، فإذا أجاب يقولون : قل له فإن كان كذا ، فأقول له : فضاق علي يوما ، فقال لي : هذه سليسلة بنت سليسلة ، إن أردت هذا ، فعليك بالعراق ، وإنما كان مالك يكره فقه العراقيين وأحوالهم لإيغالهم في المسائل وكثرة تفريعهم في الرأي .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #207  
قديم 17-12-2022, 01:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الخامس
الحلقة (207)
صـ386 إلى صـ 395




[ ص: 386 ] وقد جاء عن عائشة أن امرأة سألتها عن قضاء الحائض الصوم دون الصلاة ، فقالت لها : أحرورية أنت ؟ إنكارا عليها السؤال عن مثل هذا .

وقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنين بغرة ، فقال الذي قضى عليه : كيف أغرم من لا شرب ، ولا أكل ، ولا شهق ، ولا استهل ، ومثل ذلك يطل ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : إنما هذا من إخوان الكهان .

[ ص: 387 ] وقال ربيعة لسعيد في مسألة عقل الأصابع حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها : نقص عقلها ؟ فقال سعيد : أعراقي أنت ؟ فقلت : بل عالم متثبت ، أو جاهل متعلم ، فقال : هي السنة يابن أخي .

وهذا كاف في كراهية كثرة السؤال في الجملة .
فصل

ويتبين من هذا أن لكراهية السؤال مواضع ، نذكر منها عشرة مواضع :

أحدها : السؤال عما لا ينفع في الدين ، كسؤال عبد الله بن حذافة : من [ ص: 388 ] أبي ؟ وروي في التفسير أنه - عليه الصلاة والسلام - سئل : ما بال الهلال يبدو رقيقا كالخيط ، ثم لا يزال ينمو حتى يصير بدرا ، ثم ينقص إلى أن يصير كما كان ؟ فأنزل الله : يسألونك عن الأهلة الآية إلى قوله : وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها [ البقرة : 189 ] فإنما أجيب بما فيه من منافع الدين .

والثاني : أن يسأل بعد ما بلغ من العلم حاجته ، كما سأل رجل عن الحج : أكل عام ؟ مع أن قوله تعالى : ولله على الناس حج البيت [ آل عمران : 97 ] قاض بظاهره أنه للأبد لإطلاقه ، ومثله سؤال بني إسرائيل بعد قوله : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة [ البقرة : 67 ] .

والثالث : السؤال من غير احتياج إليه في الوقت ، وكأن هذا - والله أعلم - خاص بما لم ينزل فيه حكم ، وعليه يدل قوله : ذروني ما تركتكم وقوله : وسكت عن أشياء رحمة لكم لا عن نسيان ، فلا تبحثوا عنها .

[ ص: 389 ] والرابع : أن يسأل عن صعاب المسائل ، وشرارها ، كما جاء في النهي عن الأغلوطات .

والخامس : أن يسأل عن علة الحكم ، وهو من قبيل التعبدات التي لا يعقل لها معنى ، أو السائل ممن لا يليق به ذلك السؤال كما في حديث قضاء الصوم دون الصلاة .

والسادس : أن يبلغ بالسؤال إلى حد التكلف والتعمق ، وعلى ذلك يدل قوله تعالى : قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين [ ص : 86 ] ولما سأل الرجل : يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع ؟ قال عمر بن الخطاب : يا صاحب الحوض لا تخبرنا ، فإنا نرد على السباع ، وترد علينا ، الحديث .

[ ص: 390 ] والسابع : أن يظهر من السؤال معارضة الكتاب والسنة بالرأي ، ولذلك قال سعيد : أعراقي أنت ؟ وقيل لمالك بن أنس : الرجل يكون عالما بالسنة ، أيجادل عنها ؟ قال : لا ، ولكن يخبر بالسنة ، فإن قبلت منه ، وإلا سكت .

والثامن : السؤال عن المتشابهات ، وعلى ذلك يدل قوله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه الآية [ آل عمران : 7 ] .

وعن عمر بن عبد العزيز : من جعل دينه غرضا للخصومات ، أسرع [ ص: 391 ] التنقل .

ومن ذلك سؤال من سأل مالكا عن الاستواء ، فقال : الاستواء معلوم ، والكيفية مجهولة ، والسؤال عنه بدعة .

والتاسع : السؤال عما شجر بين السلف الصالح ، وقد سئل عمر بن عبد العزيز عن قتال أهل صفين ، فقال : تلك دماء كف الله عنها يدي ، فلا أحب أن يلطخ بها لساني .

[ ص: 392 ] والعاشر : سؤال التعنت والإفحام وطلب الغلبة في الخصام ، وفي القرآن في ذم نحو هذا : ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام [ البقرة : 204 ] .

وقال : بل هم قوم خصمون [ الزخرف : 58 ] .

وفي الحديث : أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم .

هذه الجملة من المواضع التي يكره السؤال فيها ، يقاس عليها ما سواها ، وليس النهي فيها واحدا ، بل فيها ما تشتد كراهيته ، ومنها ما يخف ، ومنها ما يحرم ، ومنها ما يكون محل اجتهاد ، وعلى جملة منها يقع النهي عن الجدال في الدين ، كما جاء : " إن المراء في القرآن كفر " .

وقال تعالى : وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم الآية [ الأنعام : 68 ] .

وأشباه ذلك من الآي أو الأحاديث ، فالسؤال في مثل ذلك منهي عنه ، والجواب بحسبه .
[ ص: 393 ] المسألة الثالثة

ترك الاعتراض على الكبراء محمود ، كان المعترض فيه مما يفهم أولا يفهم .

والدليل على ذلك أمور :

أحدها : ما جاء في القرآن الكريم ، كقصة موسى مع الخضر ، واشتراطه عليه ألا يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكرا ، فكان ما قصه الله تعالى من قوله : هذا فراق بيني وبينك [ الكهف : 78 ] وقول محمد - عليه الصلاة والسلام - : يرحم الله موسى ، لو صبر حتى يقص علينا من أخبارهما وإن كان إنما تكلم بلسان العلم ، فإن الخروج عن الشرط يوجب الخروج عن المشروط .

وروي في الأخبار أن الملائكة لما قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء [ البقرة : 30 ] [ ص: 394 ] الآية ، فرد الله عليهم بقوله : إني أعلم ما لا تعلمون [ البقرة : 30 ] أرسل الله عليهم نارا فأحرقتهم .

وجاء في أشد من هذا اعتراض إبليس بقوله : أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين [ الأعراف : 12 ] فهو الذي كتب له به الشقاء إلى يوم الدين لاعتراضه على الحكيم الخبير ، وهو دليل في مسألتنا ، وقصة أصحاب البقرة من هذا القبيل أيضا ، حين تعنتوا في السؤال فشدد الله عليهم .

والثاني : ما جاء في الأخبار كحديث : تعالوا أكتب لكم كتابا لن تضلوا [ ص: 395 ] بعده فاعترض في ذلك بعض الصحابة حتى أمرهم - عليه الصلاة والسلام - بالخروج ، ولم يكتب لهم شيئا .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #208  
قديم 17-12-2022, 01:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الخامس
الحلقة (208)
صـ396 إلى صـ 405



وقصة أم إسماعيل حين نبع لها ماء زمزم فحوضته ، ومنعت الماء من [ ص: 396 ] السيلان ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : لو تركته لكانت زمزم عينا معينا وفي الحديث أنه طبخ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدر فيها لحم ، فقال : ناولني ذراعا ، قال الراوي : فناولته ذراعا ، فقال : ناولني ذراعا ، فناولته ذراعا ، فقال : ناولني ذراعا ، فقلت : يا رسول الله كم للشاة من ذراع ؟ فقال : والذي نفسي بيده لو سكت لأعطيت أذرعا ما دعوت .

[ ص: 397 ] [ ص: 398 ] وحديث علي قال : دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى فاطمة من الليل ، فأيقظنا للصلاة ، قال : فجلست وأنا أعرك عيني وأقول : إنا والله ما نصلي إلا ما كتب لنا ، إنما أنفسنا بيد الله ، فإذا شاء أن يبعثها بعثها ، فولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول : وكان الإنسان أكثر شيء جدلا .

[ ص: 399 ] وحديث : يا أيها الناس اتهموا الرأي ، فإنا كنا يوم أبي جندل ولو نستطيع أن نرد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرددناه .

ولما وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حزن جد سعيد بن المسيب ، فقال له : ما اسمك ؟ قال : حزن ، قال : بل أنت سهل ، قال : لا أغير اسما سماني به أبي ، قال سعيد : فما زالت الحزونة فينا حتى اليوم .

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .

والثالث : ما عهد بالتجربة من أن الاعتراض على الكبراء قاض بامتناع الفائدة مبعد بين الشيخ والتلميذ ، ولا سيما عند الصوفية ، فإنه عندهم الداء الأكبر حتى زعم القشيري عنهم أن التوبة منه لا تقبل ، والزلة لا تقال ، ومن ذلك [ ص: 400 ] حكاية الشاب الخديم لأبي يزيد البسطامي إذ كان صائما ، فقال له أبو تراب النخشبي وشقيق البلخي : كل معنا يا فتى ، فقال : أنا صائم ، فقال أبو تراب : كل ولك أجر شهر ، فأبى ، فقال شقيق : كل ولك أجر صوم سنة ، فأبى ، فقال أبو يزيد : دعوا من سقط من عين الله ، فأخذ ذلك الشاب في السرقة وقطعت يده .

وقد قال مالك بن أنس لأسد حين تابع سؤاله : هذه سليسلة بنت سليسلة ، إن أردت هذا فعليك بالعراق ، فهدده بحرمان الفائدة منه بسبب اعتراضه في جوابه ، ومثله أيضا كثير لمن بحث عنه .

فالذي تلخص من هذا أن العالم المعلوم بالأمانة والصدق والجري على سنن أهل الفضل والدين والورع إذا سئل عن نازلة فأجاب ، أو عرضت له حالة يبعد العهد بمثلها أو لا تقع من فهم السامع موقعها - ألا يواجه بالاعتراض والنقد ، فإن عرض إشكال فالتوقف أولى بالنجاح ، وأحرى بإدراك البغية إن شاء الله تعالى .
[ ص: 401 ] المسألة الرابعة

الاعتراض على الظواهر غير مسموع .

والدليل عليه أن لسان العرب هو المترجم عن مقاصد الشارع ، ولسان العرب يعدم فيه النص أو يندر ؛ إذ قد تقدم أن النص إنما يكون نصا إذا سلم عن احتمالات عشرة ، وهذا نادر أو معدوم ، فإذا ورد دليل منصوص وهو بلسان العرب ، فالاحتمالات دائرة به ، وما فيه احتمالات لا يكون نصا على اصطلاح المتأخرين ، فلم يبق إلا الظاهر والمجمل ، فالمجمل الشأن فيه طلب المبين أو التوقف ، فالظاهر هو المعتمد إذا ، فلا يصح الاعتراض عليه ؛ لأنه من التعمق ، والتكلف .

وأيضا ، فلو جاز الاعتراض على المحتملات لم يبق للشريعة دليل يعتمد ؛ لورود الاحتمالات وإن ضعفت ، والاعتراض المسموع مثله يضعف الدليل ، فيؤدي إلى القول بضعف جميع أدلة الشرع أو أكثرها ، وليس كذلك باتفاق .

ووجه ثالث : لو اعتبر مجرد الاحتمال في القول لم يكن لإنزال الكتب [ ص: 402 ] ولا لإرسال النبي - عليه الصلاة والسلام - بذلك فائدة ؛ إذ يلزم ألا تقوم الحجة على الخلق بالأوامر والنواهي والإخبارات ؛ إذ ليست في الأكثر نصوصا لا تحتمل غير ما قصد بها ، لكن ذلك باطل بالإجماع والمعقول ، فما يلزم عنه كذلك .

ووجه رابع : وهو أن مجرد الاحتمال إذا اعتبر أدى إلى انخرام العادات والثقة بها ، وفتح باب السفسطة وجحد العلوم ، ويبين هذا المعنى في الجملة ما ذكره الغزالي عن نفسه في كتابه " المنقذ من الضلال " ، بل ما ذكره السوفسطائية في جحد العلوم ، فبه يتبين لك أن منشأها تطريق الاحتمال في الحقائق العادية ، أو العقلية فما بالك بالأمور الوضعية .

ولأجل اعتبار الاحتمال المجرد شدد على أصحاب البقرة إذ تعمقوا في السؤال عما لم يكن لهم إليه حاجة مع ظهور المعنى ، وكذلك ما جاء في الحديث في قوله : " أحجنا هذا لعامنا أو للأبد ؟ " وأشباه ذلك ، بل هو أصل في الميل عن الصراط المستقيم ، ألا ترى أن المتبعين لما تشابه من الكتاب إنما اتبعوا فيها مجرد الاحتمال فاعتبروه وقالوا فيه ، وقطعوا فيه على الغيب بغير دليل ، فذموا بذلك وأمر النبي - عليه الصلاة والسلام - بالحذر منهم .

[ ص: 403 ] ووجه خامس : وهو أن القرآن قد احتج على الكفار بالعمومات العقلية ، والعمومات المتفق عليها ، كقوله تعالى : قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون إلى أن قال : سيقولون لله قل فأنى تسحرون [ المؤمنون : 84 - 89 ] فاحتج عليهم بإقرارهم بأن ذلك لله على العموم ، وجعلهم إذ أقروا بالربوبية لله في الكل ثم دعواهم الخصوص مسحورين لا عقلاء .

وقوله تعالى : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون [ العنكبوت : 61 ] يعني كيف يصرفون عن الإقرار بأن الرب هو الله بعدما أقروا فيدعون لله شريكا .

وقال تعالى : خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار إلى قوله : ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون [ الزمر : 5 - 6 ] وأشباه ذلك مما ألزموا أنفسهم فيه الإقرار بعمومه ، وجعل خلاف ظاهره على خلاف المعقول ، ولو لم يكن عند العرب الظاهر حجة غير معترض عليها لم يكن في إقرارهم بمقتضى العموم حجة عليهم ، لكن الأمر [ ص: 404 ] على خلاف ذلك ، فدل على أنه ليس مما يعترض عليه .

وإلى هذا فأنت ترى ما ينشأ بين الخصوم وأرباب المذاهب من تشعب الاستدلالات ، وإيراد الإشكالات عليها بتطريق الاحتمالات ، حتى لا تجد عندهم بسبب ذلك دليلا يعتمد لا قرآنيا ولا سنيا ، بل انجر هذا الأمر إلى المسائل الاعتقادية ، فاطرحوا فيها الأدلة القرآنية والسنية لبناء كثير منها على أمور عادية ، كقوله تعالى : ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء الآية [ الروم : 28 ] .

وقوله : ألهم أرجل يمشون [ الأعراف : 195 ] وأشباه ذلك .

واعتمدوا على مقدمات عقلية غير بديهية ، ولا قريبة من البديهية ، هربا من احتمال يتطرق في العقل للأمور العادية ، فدخلوا في أشد مما منه فروا ، ونشأت مباحث لا عهد للعرب بها ، وهم المخاطبون أولا بالشريعة ، فخالطوا الفلاسفة في أنظارهم ، وباحثوهم في مطالبهم التي لا يعود الجهل بها على الدين بفساد ، ولا يزيد البحث فيها إلا خبالا ، وأصل ذلك كله الإعراض عن مجاري العادات في العبارات ومعانيها الجارية في الوجود .

وقد مر فيما تقدم أن مجاري العادات قطعية في الجملة وأن طرق العقل إليها احتمالا ، فكذلك العبارات ؛ لأنها في الوضع الخطابي تماثلها أو تقاربها .

[ ص: 405 ] ومر أيضا بيان كيفية اقتناص القطع من الظنيات ، وهي خاصة هذا الكتاب لمن تأمله والحمد لله ، فإذا لا يصح في الظواهر الاعتراض عليها بوجوه الاحتمالات المرجوحة ، إلا أن يدل دليل على الخروج عنها ، فيكون ذلك داخلا في باب التعارض والترجيح ، أو في باب البيان ، والله المستعان .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #209  
قديم 17-12-2022, 01:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الخامس
الحلقة (209)
صـ406 إلى صـ 415


[ ص: 406 ] المسألة الخامسة

الناظر في المسائل الشرعية إما ناظر في قواعدها الأصلية ، أو في جزئياتها الفرعية ، وعلى كلا الوجهين فهو إما مجتهد أو مناظر ، فأما المجتهد الناظر لنفسه ، فما أداه إليه اجتهاده فهو الحكم في حقه ، إلا أن الأصول والقواعد إنما ثبتت بالقطعيات ، ضرورية كانت أو نظرية ، عقلية أو سمعية ، وأما الفروع ، فيكفي فيها مجرد الظن على شرطه المعلوم في موضعه ، فما أوصله إليه الدليل فهو الحكم في حقه أيضا ، ولا يفتقر إلى مناظرة ؛ لأن نظره في مطلبه إما نظر في جزئي ، وهو ثان عن نظره في الكلي الذي ينبني عليه ، وإما نظر في كلي ابتداء ، والنظر في الكليات ثان عن الاستقراء ، وهو محتاج إلى تأمل واستبصار وفسحة زمان يسع ذلك .

وهكذا إن كان عقليا ففرض المناظرة هنا لا يفيد ؛ لأن المجتهد قبل الوصول متطلب من الأدلة الحاضرة عنده ، فلا يحتاج إلى غيره فيها ، وبعد الوصول هو على بينة من مطلبه في نفسه ، فالمناظرة عليه بعد ذلك زيادة .

وأيضا ، فالمجتهد أمين على نفسه ، فإذا كان مقبول القول قبله المقلد ، ووكله المجتهد الآخر إلى أمانته ؛ إذ هو عنده مجتهد مقبول القول ، فلا يفتقر إذا اتضح له مسلك المسألة إلى مناظرة .

[ ص: 407 ] وهنا أمثلة كثيرة ، كمشاورة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السعدين في مصالحة الأحزاب على نصف تمرالمدينة ، فلما تبين له من أمرهما عزيمة المصابرة والقتال ، لم يبغ به بدلا ، ولم يستشر غيرهما ، وهكذا مشاورته وعرضه الأمر في شأن عائشة ، فلما أنزل الله الحكم ، لم يلق على أحد بعد وضوح القضية ، ولما منعت العرب الزكاة عزم أبو بكر على قتالهم ، فكلمه عمر في ذلك ، فلم [ ص: 408 ] يلتفت إلى وجه المصلحة في ترك القتال ؛ إذ وجد النص الشرعي المقتضي لخلافه ، وسألوه في رد أسامة ليستعين به وبمن معه على قتال أهل الردة فأبى لصحة الدليل عنده بمنع رد ما أنفذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وإذا تقرر وجود هذا في الشريعة وأهلها لم يحتج بعد ذلك إلى مناظرة ولا إلى مراجعة ، إلا من باب الاحتياط ، وإذا فرض محتاطا فذلك إنما يقع إذا بنى عليه بعض التردد فيما هو ناظر فيه ، وعند ذلك يلزمه أحد أمرين :

إما السكوت اقتصارا على بحث نفسه إلى التبين ؛ إذ لا تكليف عليه قبل بيان الطريق .

وإما الاستعانة بمن يثق به ، وهو المناظر المستعين ، فلا يخلو أن يكون [ ص: 409 ] موافقا له في الكليات التي يرجع إليها ما تناظرا فيه أو لا .

فإن كان موافقا له صح إسناده إليه واستعانته به ؛ لأنه إنما يبقى له تحقيق مناط المسألة المناظر فيها ، والأمر سهل فيها ، فإن اتفقا فحسن ، وإلا فلا حرج ؛ لأن الأمر في ذلك راجع إلى أمر ظني مجتهد فيه ، ولا مفسدة في وقوع الخلاف هنا حسبما تبين في موضعه .

وأمثلة هذا الأصل كثيرة ، يدخل فيها أسئلة الصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسائل المشكلة عليهم ، كما في سؤالهم عند نزول قوله : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم [ الأنعام : 82 ] .

وعند نزول قوله : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الآية [ البقرة : 284 ] .

وسؤال ابن أم مكتوم حين نزل : لا يستوي القاعدون من المؤمنين الآية [ النساء : 95 ] حتى نزل : غير أولي الضرر [ النساء : 95 ] .

وسؤال عائشة عند قوله - عليه الصلاة والسلام - : من نوقش الحساب [ ص: 410 ] عذب واستشكالها مع الحديث قول الله تعالى : فسوف يحاسب حسابا يسيرا [ الانشقاق : 8 ] .

وأشباه ذلك .

وإنما قلنا : إن هذا الجنس من السؤالات داخل في قسم المناظر المستعين ؛ لأنهم إنما سألوا بعد ما نظروا في الأدلة ، فلما نظروا أشكل عليهم الأمر ، بخلاف السائل عن المحكم ابتداء ، فإن هذا من قبيل المتعلمين ، فلا يحتاج إلى غير تقرير الحكم ، ولا عليك من إطلاق لفظ المناظر ، فإنه مجرد اصطلاح لا ينبني عليه حكم ، كما أنه يدخل تحت هذا الأصل ما إذا أجرى الخصم المحتج نفسه مجرى السائل المستفيد حتى ينقطع الخصم بأقرب الطرق كما جاء في شأن محاجة إبراهيم - عليه السلام - قومه بالكوكب والقمر والشمس ، فإنه فرض نفسه بحضرتهم مسترشدا حتى يبين لهم من نفسه البرهان أنها ليست بآلهة ، وكذلك قوله في الآية الأخرى : إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين [ الشعراء : 70 - 71 ] .

فلما سأل عن المعبود سأل عن المعنى الخاص بالمعبود بقوله : هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون [ الشعراء : 72 - 73 ] فحادوا عن الجواب إلى الإقرار بمجرد الاتباع للآباء .

[ ص: 411 ] ومثله قوله : بل فعله كبيرهم الآية [ الأنبياء : 63 ] .

وقوله تعالى : الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء [ الروم : 40 ] .

وقوله : أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى الآية [ يونس : 35 ] .

وقوله : ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها [ الأعراف : 195 ] إلى آخرها .

فهذه الآي وما أشبهها إشارات إلى التنزل منزلة الاستفادة والاستعانة في النظر ، وإن كان مقتضى الحقيقة فيها تبكيت الخصم ؛ إذ من كان مجيئا بالبرهان في معرض الاستشارة في صحته ، فكان أبلغ في المقصود في المواجهة بالتبكيت ، ولما اخترموا من التشريعات أمورا كثيرة أدهاها الشرك طولبوا بالدليل ، كقوله تعالى : أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم [ الأنبياء : 24 ] .

قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون [ يونس : 59 ] .

ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به الآية [ المؤمنون : 117 ] .

[ ص: 412 ] وهو من جملة المجادلة بالتي هي أحسن .

وإن كان المناظر مخالفا له في الكليات التي ينبني عليها النظر في المسألة ، فلا يستقيم له الاستعانة به ، ولا ينتفع به في مناظرته ؛ إذ ما من وجه جزئي في مسألته إلا وهو مبني على كلي ، وإذا خالف في الكلي ، ففي الجزئي المبني عليه أولى ، فتقع مخالفته في الجزئي من جهتين ، ولا يمكن رجوعها إلى معنى متفق عليه ، فالاستعانة مفقودة .

ومثاله في الفقهيات مسألة الربا في غير المنصوص عليه ، كالأرز ، والدخن ، والذرة ، والحلبة ، وأشباه ذلك ، فلا يمكن الاستعانة هنا بالظاهري النافي للقياس ؛ لأنه بان على نفي القياس جملة ، وكذلك كل مسألة قياسية لا يمكن أن يناظر فيها مناظرة المستعين ؛ إذ هو مخالف في الأصل الذي يرجعان إليه ، وكذلك مسألة الحلبة ، والذرة ، أو غيرهما بالنسبة إلى المالكي إذا استعان بالشافعي أو الحنفي ، وإن قالوا بصحة القياس ؛ لبنائهما المسألة على خلاف ما يبني عليه المالكي ، وهذا القسم شائع في سائر الأبواب ، فإن المنكر للإجماع لا يمكن الاستعانة به في مسألة تنبني على صحة الإجماع ، والمنكر [ ص: 413 ] لإجماع أهل المدينة لا يمكن أن يستعان به في مسألة تنبني عليه من حيث هو منكر ، والقائل بأن صيغة الأمر للندب أو للإباحة أو بالوقف لا يمكن الاستعانة بهم لمن كان قائلا بأنها للوجوب ألبتة .

فإن فرض المخالف مساعدا صحت الاستعانة ، كما إذا كان مساعدا حقيقة ، وهذا لا يخفى .
فصل

وإذا فرض المناظر مستقلا بنظره غير طالب للاستعانة ولا مفتقرا إليها ، ولكنه طالب لرد الخصم إلى رأيه أو ما هو منزل منزلته ، فقد تكفل العلماء بهذه الوظيفة ، غير أن فيها أصلا يرجع إليه ، وقد مر التنبيه عليه في أول كتاب الأدلة ، وهنا تمامه بحول الله ، وهي :
[ ص: 414 ] المسألة السادسة

فنقول : لما انبنى الدليل على مقدمتين : إحداهما تحقق المناط ، والأخرى تحكم عليه ، ومر أن محل النظر هو تحقق المناط ظهر انحصار الكلام بين المتناظرين هنالك ، بدليل الاستقراء ، وأما المقدمة الحاكمة ، فلا بد من فرضها مسلمة .

وربما وقع الشك في هذه الدعوى ، فقد يقال : إن النزاع قد يقع في المقدمة الثانية ، وذلك أنك إذا قلت : هذا مسكر ، وكل مسكر خمر ، أو وكل مسكر حرام ، فقد يوافق الخصم على أن هذا مسكر ، وهي مقدمة تحقيق المناط ، كما أنه قد يخالف فيها أيضا ، وإذا خالف فيها ، فلا نكير على الجملة ؛ لأنها محل الاختلاف ، وقد يخالف في أن كل مسكر خمر ، فإن الخمر إنما يطلق على النيئ من عصير العنب ، فلا يكون هذا المشار إليه خمرا وإن أسكر ، وإذ ذاك لا يسلم أن كل مسكر خمر ، ويخالف أيضا في أن كل مسكر حرام ، فإن الكلية لهذه المقدمة لا تثبت ؛ لأنها مخصوصة أخرج منها النبيذ بدليل دل عليه ، وإذا لم تصح كليتها ، لم يكن فيها دليل ، فإذا قد صارت منازعا فيها ، فكيف يقال بانحصار النزاع في إحدى المقدمتين دون الأخرى ؟ بل كل واحدة منهما قابلة للنزاع ، وهو خلاف ما تأصل .

والجواب : أن ما تقدم صحيح ، وهذا الإشكال غير وارد ، وبيانه أن [ ص: 415 ] الخصمين إما أن يتفقا على أصل يرجعان إليه أم لا ، فإن لم يتفقا على شيء لم يقع بمناظرتهما فائدة بحال ، وقد مر هذا ، وإذا كانت الدعوى لا بد لها من دليل ، وكان الدليل عند الخصم متنازعا فيه ، فليس عنده بدليل ، فصار الإتيان به عبثا لا يفيد فائدة ، ولا يحصل مقصودا ، ومقصود المناظرة رد الخصم إلى الصواب بطريق يعرفه ؛ لأن رده بغير ما يعرفه من باب تكليف ما لا يطاق ، فلا بد من رجوعهما إلى دليل يعرفه الخصم السائل معرفة الخصم المستدل .

وعلى ذلك دل قوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية [ النساء : 59 ] ؛ لأن الكتاب والسنة لا خلاف فيهما عند أهل الإسلام ، وهما الدليل والأصل المرجوع إليه في مسائل التنازع ، وبهذا المعنى وقع الاحتجاج على الكفار ، فإن الله تعالى قال : قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون إلى قوله : قل فأنى تسحرون [ المؤمنون : 84 - 89 ] .

فقررهم بما به فأقروا ، واحتج عليهم بما عرفوا ، حتى قيل لهم : فأنى تسحرون [ المؤمنون : 89 ] أي : فكيف تخدعون عن الحق بعدما أقررتم به ، فادعيتم مع الله إلها غيره ؟

وقال تعالى : إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا [ مريم : 42 ] .

وهذا من المعروف عندهم ؛ إذ كانوا ينحتون بأيديهم ما يعبدون .

وفي موضع آخر : أتعبدون ما تنحتون [ الصافات : 95 ] .

وقال تعالى : قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب [ البقرة : 258 ] .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #210  
قديم 17-12-2022, 01:24 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الخامس
الحلقة (210)
صـ416 إلى صـ 423





[ ص: 416 ] قال له ذلك بعدما ذكر له قوله : ربي الذي يحيي ويميت [ البقرة : 258 ] فوجد الخصم مدفعا ، فانتقل إلى ما لا يمكنه فيه المدفع لا بالمجاز ولا بالحقيقة ، وهو من أوضح الأدلة فيما نحن فيه .

وقال تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم الآية [ آل عمران : 59 ] ، فأراهم البرهان بما لم يختلفوا فيه هو آدم .

وقال تعالى : يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده [ آل عمران : 65 ] وهذا قاطع في دعواهم أن إبراهيم يهودي أو نصراني .

وعلى هذا النحو تجد احتجاجات القرآن ، فلا يؤتى فيه إلا بدليل يقر الخصم بصحته شاء أم أبى .

وعلى هذا النحو جاء الرد على من قال : ما أنزل الله على بشر من شيء [ الأنعام : 91 ] قال تعالى : قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى الآية [ الأنعام : 91 ] ، فحصل إفحامه بما هو به عالم .

وتأمل حديث صلح الحديبية ، ففيه إشارة إلى هذا المعنى ، فإنه لما أمر عليا أن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، قالوا : ما نعرف بسم الله الرحمن الرحيم ، ولكن اكتب ما نعرف : باسمك اللهم ، فقال : اكتب من محمد رسول الله ، قالوا : لو علمنا أنك رسول الله لاتبعناك ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك ، فعذرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كان قولهم من حمية الجاهلية ، وكتب على ما قالوا ، ولم يحتشم من ذلك حين أظهروا له النصفة من عدم [ ص: 417 ] العلم وأنهم إنما يعرفون كذا .

وإذا ثبت هذا ، فالأصل المرجوع إليه هو الدليل الدال على صحة الدعوى ، وهو ما تقرر في المقدمة الحاكمة ، فلزم أن تكون مسلمة عند الخصم من حيث جعلت حاكمة في المسألة ؛ لأنها إن لم تكن مسلمة لم يفد الإتيان بها ، وليس فائدة التحاكم إلى الدليل إلا قطع النزاع ورفع الشغب ، وإذا كان كذلك فقول القائل : هذا مسكر ، وكل مسكر خمر ، إن فرض تسليم الخصم فيه للمقدمة الثانية ، صح الاستدلال من حيث أتى بدليل مسلم ، وإن فرض نزاع الخصم فيها لم يصح الاستدلال بها ألبتة ، بل تكون مقدمة تحقيق المناط في قياس آخر ، وهي التي لا يقع النزاع إلا فيها ، فيبين أن كل مسكر خمر بدليل استقراء أو نص أو غيرهما ، فإذا بين ذلك حكم عليه بأنه حرام مثلا إن كان مسلما أيضا عند الخصم ، كما جاء في النص : " إن كل خمر حرام " وإن نازع في أن كل خمر حرام ، صارت مقدمة تحقيق المناط ، ولا بد إذ ذاك من مقدمة أخرى تحكم عليها ، وفي كل مرتبة من هذه المراتب لا بد من مخالفة الدعوى للدعوى الأخرى التي في المرتبة الأخرى ، فإن سؤال السائل : هل كل خمر حرام ؟ مخالف لسؤاله إذا سأل : هل كل مسكر خمر ؟ .

وهكذا سائر مراتب الكلام في هذا النمط ، فمن هنا لا ينبغي أن يؤتى [ ص: 418 ] بالدليل على حكم المناط منازعا فيه ، ولا مظنة للنزاع فيه ؛ إذ يلزم فيه الانتقال من مسألة إلى أخرى لأنا إن فعلنا ذلك لم تتخلص لنا مسألة ، وبطلت فائدة المناظرة .
فصل

واعلم أن المراد بالمقدمتين هاهنا ليس ما رسمه أهل المنطق على وفق الأشكال المعروفة ، ولا على اعتبار التناقض والعكس ، وغير ذلك ، وإن جرى الأمر على وفقها في الحقيقة ، فلا يستتب جريانه على ذلك الاصطلاح ؛ لأن المراد تقريب الطريق الموصل إلى المطلوب على أقرب ما يكون ، وعلى وفق ما جاء في الشريعة ، وأقرب الأشكال إلى هذا التقرير ما كان بديهيا في الإنتاج ، أو ما أشبهه من اقتراني أو استثنائي ، إلا أن المتحرى فيه إجراؤه على عادة العرب في مخاطباتها ومعهود كلامها ، إذ هو أقرب إلى حصول المطلوب على أقرب ما يكون ، ولأن التزام الاصطلاحات المنطقية والطرائق المستعملة فيها مبعد عن الوصول إلى المطلوب في الأكثر ؛ لأن الشريعة لم توضع إلا على شرط الأمية ، ومراعاة علم المنطق في القضايا الشرعية مناف لذلك ، فإطلاق لفظ المقدمتين لا يستلزم ذلك الاصطلاح .

ومن هنا يعلم معنى ما قاله المازري في قوله - عليه الصلاة والسلام - : كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام قال : فنتيجة هاتين المقدمتين أن كل مسكر حرام ، قال : وقد أراد بعض أهل الأصول أن يمزج هذا بشيء من علم أصحاب المنطق ، فيقول : إن أهل المنطق يقولون : لا يكون القياس ولا تصح [ ص: 419 ] النتيجة إلا بمقدمتين ، فقوله كل مسكر خمر ، مقدمة لا تنتج بانفرادها شيئا .

وهذا وإن اتفق لهذا الأصولي هاهنا وفي موضع أو موضعين في الشريعة فإنه لا يستمر في سائر أقيستها ، ومعظم طرق الأقيسة الفقهية لا يسلك فيها هذا المسلك ، ولا يعرف من هذه الجهة ، وذلك أنا مثلا لو عللنا تحريمه - عليه الصلاة والسلام - التفاضل في البر بأنه مطعوم كما قال الشافعي ، لم نقدر أن نعرف هذه العلة إلا ببحث وتقسيم ، فإذ عرفناها ، فللشافعي [ ص: 420 ] أن يقول حينئذ : كل سفرجل مطعوم ، وكل مطعوم ربوي ، فتكون النتيجة : السفرجل ربوي .

قال : ولكن هذا لا يفيد الشافعي فائدة ؛ لأنه إنما عرف هذا وصحة هذه النتيجة بطريقة أخرى ، فلما عرفها من تلك الطريقة أراد أن يضع عبارة يعبر بها عن مذهبه ، فجاء بها على هذه الصيغة .

قال : ولو جاء بها على أي صيغة أراد مما يؤدي منه مراده ، لم يكن لهذه الصيغة مزية عليها .

قال : وإنما نبهنا على ذلك لما ألفينا بعض المتأخرين صنف كتابا أراد أن يرد فيه أصول الفقه لأصول علم المنطق .

هذا ما قاله المازري ، وهو صحيح في الجملة ، وفيه من التنبيه ما ذكرناه من عدم التزام طريقة أهل المنطق في تقرير القضايا الشرعية ، وفيه أيضا إشارة إلى ما تقدم من أن المقدمة الحاكمة على المناط إن لم تكن متفقا عليها مسلمة عند الخصم فلا يفيد وضعها دليلا .

[ ص: 421 ] ولما كان قوله - عليه الصلاة والسلام - : " وكل خمر حرام " مسلما ؛ لأنه نص النبي ، لم يعترض فيه المخالف ، بل قابله بالتسليم ، واعترض القاعدة بعدم الاطراد ، وذلك مما يدل على أنه من كلامه - عليه الصلاة والسلام - أمر اتفاقي ، لا أنه قصد قصد المنطقيين .

وهكذا يقال في القياس الشرطي في نحو قوله تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ الأنبياء : 22 ] لأن " لو " لما سيقع لوقوع غيره ، فلا استثناء لها في كلام العرب قصدا ، وهو معنى تفسير سيبويه ، ونظيرها " إن " ؛ لأنها تفيد ارتباط الثاني بالأول في التسبب ، والاستثناء لا تعلق له بها في صريح كلام العرب ، فلا احتياج إلى ضوابط المنطق في تحصيل المراد في المطالب الشرعية .

وإلى هذا المعنى - والله أعلم - أشار الباجي في أحكام الفصول [ ص: 422 ] حين رد على الفلاسفة في زعمهم أن لا نتيجة إلا من مقدمتين ، ورأى أن المقدمة الواحدة قد تنتج ، وهو كلام مشكل الظاهر ، إلا إذا طولع به هذا الموضع فربما استقام في النظر .

[ ص: 423 ] وقد تم - والحمد لله - الغرض المقصود ، وحصل بفضل الله إنجاز ذلك الموعود ، على أنه قد بقيت أشياء لم يسع إيرادها ؛ إذ لم يسهل على كثير من السالكين مرادها ، وقل على كثرة التعطش إليها ورادها ، فخشيت ألا يردوا مواردها ، وألا ينظموا في سلك التحقيق شواردها ، فثنيت من جماح بيانها العنان ، وأرحت من رسمها القلم والبنان ، على أن في أثناء الكتاب رموزا مشيرة ، وأشعة توضح من شمسها المنيرة ، فمن تهدى إليها رجا بحول الله الوصول ، ومن لا فلا عليه إذا اقتصر التحصيل على المحصول ، ففيه إن شاء الله مع تحقيق علم الأصول علم يذهب به مذاهب السلف ، ويقفه على الواضحة إذا اضطرب النظر واختلف .

فنسأل الله الذي بيده ملكوت كل شيء أن يعيننا على القيام بحقه ، وأن يعاملنا بفضله ورفقه ، إنه على كل شيء قدير ، وبالإجابة جدير ، والحمد لله وكفى ، وسلام على عباده الذين اصطفى .

تم بفضل الله
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 232.97 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 226.85 كيلو بايت... تم توفير 6.12 كيلو بايت...بمعدل (2.63%)]