رمضان وإصلاح القلوب - ملتقى الشفاء الإسلامي
 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4421 - عددالزوار : 858573 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3953 - عددالزوار : 392992 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12535 - عددالزوار : 215513 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 53 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 47 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 43 )           »          اضطراباتي النفسية دمرتني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 47 )           »          زوجي مصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 45 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 25-03-2024, 02:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رمضان وإصلاح القلوب

رمضان وإصلاح القلوب

الشيخ عبدالله محمد الطوالة

الحمدُ للهِ، الحمدُ للهِ الواحدِ الأحدِ، حمدًا كثيرًا لا يُحدُ ولا يُعدُ، سبحانهُ لم يزل فردًا صمد، ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الاخلاص:3]..

وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، منه المبتدأ، وإليه المنتهى، وعليه المعتمدُ، ومنهُ وحدهُ أطلُبُ المددَ، ﴿ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا ﴾ [الكهف:17]..

وأشهدُ أن محمدًا عبدُ اللهِ ورسولهُ، وصفيهُ وخليلهُ، وأحسنُ خلْقِ اللهِ خُلُقًا وخِلْقةً.. وأطيبَهُم أصْلًا وفرعًا ومولِدًا.. فواللهِ لا واللهِ ما جاءَ مثلَهُ.. على الدنيا أبـرَّ وأوفى وأرشـدا.. علـيـكَ ســلامُ اللهِ دومــًا ولـم يــزل.. بهِ يُختَمُ الذِّكرُ الجميلُ ويُبتدا.. اللهم صلِّ وسلَّمَ وباركَ عليه، وعلى آله وصحبهِ والتابعينَ، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، فلا عزَّ أرفعُ من التقوى، ولا زينَ أجملُ من العقل، ولا كنزَ أنفعُ من العلم، ولا عيبَ أسوءُ منَ الكَذِب، ولا حافظَ أصينُ من الصمت.. ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ ﴾ [البقرة:197].

معاشر الصّائمين الكرام: أتساءلُ عن عضوٍ صغيرٍ في أجسامنا، بحجم قبضةِ اليد، إذا صلُحَ هذا العضو، صلُحت أحوالُ الإنسانِ كُلِها؛ وإذا فسدَ هذا العضو، فسدت أحوالهُ كُلها.. والجوابُ كما تعرفون جاءَ في حديثٍ متفقٍ عليه في الصحيحين، قال صلى الله عليه وسلم: "ألاَ وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً: إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألاَ وهيَ القَلْبُ".

القلبُ: هو محلُ نظرِ الرّب، ففي صحيح مسلم: (إِنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ).. بالقلبِ: يَعرِفُ العبدُ ربَّه، وبه يُحبهُ ويخافُه ويرجوه، وبالقلبِ يُفلِحُ العبدُ وينجو يومَ القيامة، قال الله تعالى: ﴿ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء:88]..

وبالقلبِ يا عباد الله: يُقطعُ سفرُ الآخرةِ، فإنّ السَّيرَ إلى الله تعالى سيرُ القلوبِ لا سيرُ الأبدانِ..

وقلبُ الشّيءِ: هو جوهرهُ وأشرفُ ما فيه، وإنما سُمي القلبُ قلبًا؛ لأنهُ كثيرُ التّقلُّبِ، سريعُ التّغيُّرِ والتّحول.. ومع هذا فالقلبُ هو منبعُ الخيرِ والشرِّ في الإنسان، تأمّل: ﴿ إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنفال:70]، وقال تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾ [الحجرات:7]، وقال تعالى:﴿ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ﴾ [آل عمران:8]، بينما قال عن الأعراب: ﴿ وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾ [الحجرات:14]، وقال عن أهل النفاق: ﴿ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ [التوبة:77]، وقال عنهم أيضًا: ﴿ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضًا ﴾ [البقرة:10]، وقال عن أهل الكفر:﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون ﴾ [الأنعام:110]..

فالقلبُ له أحوالٌ متنوعةٌ، وأوضاعٌ مُتقلبة، ما بين موتٍ وحياة، وغفلةٍ وانتباه، ووجلٍ وطُمأنينة، واستنارةٍ وظُلمة، وإبصارٍ وعمى، وقسوةٍ ولين، ومرضٍ وصحة، واستقامةٍ واعوجاج، وصلاحٍ وفساد، وارتيابٍ واهتداء..

ومن تدبرَ قولَ الله تعالى: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء:88]، وقولهِ تعالى: ﴿ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب ﴾ [الحج:32]، وقولهِ جلَّ وعلا: ﴿ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ [البقرة:225].. علم أنّ الشّأنّ ليس في الإكثار من أعمال الجوارح، وإنما الشّأنُ في التقوى.. وأنَّ الاجتهادَ في تزكية النفسِ، وإصلاحِ القلب، هو سبيل الفوز والنجاة.. ولذا يقول العلماء: أنّ أعمالَ القلوبِ أهمُّ من أعمال الجوارح.. أعمالُ القلوب: (كالخشية والإنابة، والمراقبة، والمحبة والإخلاص، والتعظيم، والاخبات، والتوكل) ونحوها، مقدمةٌ على أعمال الجوارحِ من الطاعات والعبادات.. وما فائدةُ العملِ بلا ثمرة؟، وهل يقومُ بناءٌ بغير أساس؟، ما فائدةُ الصّيامِ بلا تقوى؟، وأين قولهُ جلّ وعلا: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون ﴾ [البقرة:183].. وقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري: "مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به والجَهْلَ، فليسَ لِلَّهِ حاجَةٌ أنْ يَدَعَ طَعامَهُ وشَرابَهُ"..

فالصّيامُ الحقيقيُ يا عباد الله، هو صيامُ القلب، وإنّما صيّامُ الجوارحِ وسيلةٌ موصِلةٌ إليه، في صحيح مسلم: "التَّقْوَى هاهُنا. ويُشِيرُ إلى صَدْرِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ".. وفي صحيح مُسلم أيضًا، قال صلى الله عليه وسلم: (تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا ولا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ)..

وعلى هذا فطاعاتُ الجوارح وإن كثرت، فإنها إذا لم تُثمر صلاحَ القلب، وزكاءَ النفس فهي الإفلاس.. ففي صحيح مُسلم: "المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ"..

إذن فمن المهم جدًا أن يجتهد المرءُ في تزكية نفسه، وإصلاحِ قلبه، فاللهُ جلّ وعلا يقول: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ﴾ [الشمس:9].. ويقول الحسن البصري رحمه الله: “داوِ قلبَكَ؛ فإنَّ الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وإلى أعمالكم“.. وتأمل كيف أجابَ شيخُ الإسلامِ ابن تيمية رحمة الله، على من سألهُ أيُّ الأعمالِ أفضل؟ قال: هو العملُ الذي تجدُ فيه قلبك.. والمعنى: أنّ من أرادَ أن يسعى في تزكية نفسه، وإصلاحِ قلبه، فليبحث عن العبادة التي يَصلُحُ بها قلبه، فهذا هو الأفضلُ في حقه..

فكيف هو قلبك أيها المبارك: ما هي الطاعة التي تحبها..

فالقلب إذا أحبّ طاعةً ما، سهُلَ على الجسد القيامُ بها..

والقلبُ: إذا أحبَّ القرآنَ، فإنَّ اللسانَ لا يتعبُ من التّلاوة..

والقلبُ: إذا أحبَّ المسجدَ، بكَّرَ بالذهاب إليه، وأطال َالجلوسَ فيه.. والقلبُ: إذا أحبّ الصلاةَ، خشعت الجوارحُ وارتاحَ بها..

والقلبُ: إذا أحبَّ الصيّامَ، فإنَّ الجوعَ والعطشَ يزيدهُ نشاطًا واقبالًا..

والقلبُ: إذا أحبَّ العلمَ، سهرَ الجِسمُ في طلبه..

والقلبُ إذا أحبّ فعلَ الخير، سخت اليدُ واعطت، ولانَ الطبعُ ورقَّ، وسمت الاخلاقُ وحسُنت..

هكذا أيّها الكرام: فإذا كانَ القلبُ مُحبًا للعمل، فإنَّ الجسدَ لا يتعب، والنفسَ لا تملّ.. جاء في صحيح البخاري أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقومُ الليل حتى تتورَّم قدماهُ، فتقول عائشة رضي الله عنها: أتفعل ذلك وقد غفَر الله لكَ ما تقدَّم من ذنْبِك وما تأخَّر؟ فيقول: (أفلا أكونُ عبْدًا شكُورًا).. وكان يقولُ عن الصلاة: أرحنا بها يا بلال.. وكان صلى الله عليه وسلم يواصِلُ صومَ اليومينِ والثّلاثةِ.. وكان يعتكفُ العشرَ الأواخرَ من رمضان ويُحيي الليلَ كله.. وفي صحيح مُسلم، يقول حذيفةُ رضي الله عنه: "صليتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى فقلت: يُصلي بها في ركعة فمضى، فقلت: يركعُ بها، ثم افتتحَ النّساءَ فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها يقرأُ مترسلًا، إذا مرَّ بآية فيها تسبيحٌ سبح، وإذا مرَّ بسؤالٍ سأل، وإذا مرَّ بتعوذٍ تعوذ، ثم ركعَ فجعل يقول: سبحان ربي العظيم فكان ركوعهُ نحوًا من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده ثم قامَ طويلًا قريبًا مما ركع، ثم سجدَ فقال: سبحان ربي الأعلى فكان سجودهُ قريبًا من قيامه".. مرةً أخرى: إذا كانَ القلبُ مُحبًا للعمل، فإنَّ الجسدَ لا يتعب، والنفسَ لا تملّ..

اعوذُ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُون* فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم ﴾ [الحجرات:7]..

أقول ما تسمعون...

الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عباده الذين اصطفى..

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، ﴿ فمَنِ ٱتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [الأعراف:35]..

معاشر الصائمين الكرام: ذكرنا أنَّ صلاحَ القلبِ، وتزكيةَ النفسِ ألزمُ وأهمُّ من العناية بعمل الجوارح، ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ﴾ [الشمس:9].. وفي صحيح البخاري، حين أخبَر المصطفى صلى الله عليه وسلم بخبرِ الخوارج، فقال مُحذرًا: "يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مع صَلَاتِهِمْ، وصِيَامَهُ مع صِيَامِهِمْ، يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ".. فلا بدَّ من تعاهُدِ القلوبِ والاعتناءِ بها.. ففي صحيح مسلم: "لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَن كانَ في قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبْرٍ".. وفي الحديث الصحيح: "قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أيُّ النَّاسِ أَفضَلُ؟.. قالَ كلُّ مخْمومِ القلبِ، صدُوق اللسانِ. قالُوا: صدُوقُ اللِّسانِ نعرفُه، فما مخمومُ القلبِ؟.. قال: هو التقيُّ النقيُّ، لا إِثمَ فِيه ولا بَغْيَ، ولا غِلَّ ولا حَسَدَ"..

فهل يليقُ بالعبد المسلمِ أن يمرَّ عليه شهرُ الخيرِ والبركة، شهرُ الهدى والتقى والرحمة، ثم لا تزكو نفسه، ولا ينصلِحُ قلبه، ولا يستقيمُ حاله.. فليسأل المسلمُ نفسه: أينَ أثرُ الطّاعة؟

أين ثمرةُ الصّيامِ والقيّامِ والصدقةِ والعمرةِ وتلاوةِ القرآن؟

وما هي التقوى التي حصَّلَها من رمضانَ، إذا كان سيستمرُ في أكلِ الحرامِ، وإذا لم يتوقف عن مُشاهِدة وسماعِ الحرام، وإذا استمرَ ينهشُ في لحوم إخوانهِ غيبةً ونميمة، وإذا لم يتوقف عن قطيعة الرحم وأذية الجيران..

كم هو واللهِ غبنٌ عظيم، وخسارةٌ كبيرة، أن يفوِّتَ المسلمُ على نفسه أعظمَ ثمراتِ الصّيام، (لعلكم تتقون).. فـ الله الله في إصلاح قلوبكم.. قد أفلح المتقون..

ومن أراد معرفةَ مستوى صلاحِ قلبه، فليعرض نفسهُ على نصوص القرآن.. خصوصًا تلك التي جاءت لبيان حالِ القلوب..

كقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون ﴾ [الأنفال:2]، والمعنى: إنما المؤمنونَ الصادقونَ الذين إذا ذُكِّروا بربهم، خافت قلوبهم وفزعت، استعظامًا لجلال الله، وحذرًا من عقابه، ورغبةً في ثوابه، ﴿ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ﴾ أي زادتهم قوةً في التّصديق، وشِدةً في الإذعان، ورسوخًا في اليقين، ونشاطًا في الأعمال الصّالحة، وسِعةً في العلم والمعرفة.. ﴿ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون ﴾ أي: أنهم يعتمدون عليه، ويفوضون أمورهم كلها إليه، فلا يرجونَ سِواه، ولا يلوذون إلا بحماه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه..

وقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِين يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾ [المؤمنون:60].. أي: هم الذين يجتهدونَ في أعمال الخير والبر، ويعطون العطاءَ وقلوبهم خائفةٌ ألا يُتقبلَ منهم..

وقوله تبارك وتعالى: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الزمر:23]، أي: تقشعرُ جلودهم خوفًا من عذاب الله، ثمَّ تلينُ جلودهم وقلوبهم عند رجاءهم لثواب الله..

وقوله جل وعلا: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ ﴾ [الحديد:16].. أي: أما آنَ الأوانُ لقلوب المؤمنينَ أن تخشعَ وتلين، تأثرًا بما أنزلهُ اللهُ من الآيات في كتابه المبين..

وقوله عزّ وجلّ: ﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ﴾ [الحج:54].. أي: يُصدِقوهُ وينقادوا له، وتخضعَ لهُ قلوبهم، وتَسكُنَ وتطمئنَ إليه نفوسهم..

وقوله سبحانه: ﴿ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ﴾ [ق:33].. أي: من خافَ مقامَ ربهِ دونَ أن يراهُ أحد، وجاءَ ربهُ يومَ القيامةِ بقلبٍ مخلصٍ في طاعته، مُقبلُ على عبادته..

وقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج:32].. أي: أنّ من يعظمُ شعائرَ اللهِ وأوامره، فهو دليلٌ على صلاح قلبهِ وتقواه، وعلى خشيته وحسنِ صلتهِ بالله جلَّ في علاه، وعلى حرصه على نيل رضاه..

وقوله سبحانه: ﴿ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا ولكن قست قلوبهم ﴾ [الأنعام:43].. أيّ أنّ من لم يفزع لربه وقتَ البلاءِ والشدّةِ، فهذا دليلٌ على عناده وقسوةَ قلبه، وشدةَ بعده عن ربه..

وقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد:28].. أي: ترتاحُ قلوبهم وتأنسُ وتسكن، بسبب تدبرها لكلامه سبحانه.. وغيرها من الآيات كثير..

فلنَلْتَفِتْ إلى قلوبنا يا عباد الله.. ولنعلم أنَّ من أعظم أسبابِ حياةِ القلوبِ وصلاحها: الإقبالُ على الله وتعظيمه، وتدبرُ القرآن الكريم، وحفظُ الوقتِ وحسنِ استثماره، ومخالفةُ النفس والهوى، وصحبةُ الصالحين..

وتأمّل ما قاله الامام ابن القيم فهي وصيةُ مجرب، يقول رحمه الله: "لَيْسَ شَيْءٌ أنْفَعَ لِلْعَبْدِ في مَعاشِهِ ومَعادِهِ، وأقْرَبَ إلى نَجاتِهِ مِن تَدَبُّرِ القُرْآنِ، وإطالَةِ التَّأمُّلِ فِيهِ، وجَمْعِ الفِكْرِ عَلى مَعانِيهِ، ولو علِمَ الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها".. ويقول علامة الجزائر الإمام عبدالحميد بن باديس رحمه الله: فوالله الذي لا إله إلا هو ما رأيت وأنا ذو النفس الملأى بالذنوب والعيوب أعظمَ إلانةً للقلب، ولا استدرارا للدمع، ولا إحضارًا للخشية، ولا أبعثَ على التوبة، من تلاوة القرآن وسماعه..

فتعاهدوا يا عباد الله كتاب ربكم، أكثروا من تلاوته وتدبره والعناية به، فالله جلّ وعلا يقول: ﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد:24]، ﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ﴾ [النساء:82]..

اللهم فاجعلنا من أهل القرآن الذين هم اهلك وخاصتك..

ويا ابن عش ما شئت فإنك ميت، أحبب من شئت فإنك مفارقه، أعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان..
اللهم صل على محمد...



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 61.83 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 60.18 كيلو بايت... تم توفير 1.66 كيلو بايت...بمعدل (2.68%)]