موسوعة الشفاء للإعجاز العلمي فى القران والسنه .. بالإضافه الى اخر المقالات المنشوره - الصفحة 72 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 11942 - عددالزوار : 191097 )           »          سحور يوم 19 رمضان.. ساندوتشات فول مخبوزة خفيفة ولذيذة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          واتس اب بلس الذهبي (اخر مشاركة : whatsapp Girl - عددالردود : 2 - عددالزوار : 2653 )           »          الأمثال في القرآن ...فى ايام وليالى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 658 )           »          فقه الصيام - من كتاب المغنى-لابن قدامة المقدسى يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 937 )           »          دروس شَهْر رَمضان (ثلاثون درسا)---- تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 1091 )           »          أسرتي الرمضانية .. كيف أرعاها ؟.....تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 853 )           »          صحتك فى شهر رمضان ...........يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 836 )           »          اعظم شخصيات التاريخ الاسلامي ____ يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 920 )           »          فتاوى رمضانية ***متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 564 - عددالزوار : 92811 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > الملتقى العلمي والثقافي

الملتقى العلمي والثقافي قسم يختص بكل النظريات والدراسات الاعجازية والثقافية والعلمية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #711  
قديم 27-06-2008, 08:43 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ


قال تعالى:﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ*فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾(البقرة:23-24)
أولاً-بعد أن قرَّر الله تعالى في مكة المكرمة عجز الإنس والجن مجتمعين عن الإتيان بمثل القرآن العظيم في قوله تعالى:
﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾(الإسراء: 88)
وتحدَّى الخلق عامة، والمكذبين خاصة أنيأتوا:
﴿بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾(يونس: 37)
و﴿بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ ﴾(هود: 13)
و﴿ بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ﴾(الطور: 34)
أعاد سبحانه وتعالى هذا التحدي في المدينة المنورة بعد الهجرة، فأمر الناس جميعهم عامة، والمرتابين في القرآن الكريم من كفار العرب، ومشركيهم خاصة أن يأتوا بسورة واحدة من هذا المِثل للقرآن، وأسجل عليهم إسجالاً عامًا إلى يوم القيامة، أنهم لم يفعلوا، ولن يفعلوا ذلك أبدًا، فليتقوا النار، التي وقودها الناس والحجارة، أعدت للكافرين، من أمثالهم.
ويبدأهذا التحدي بلفتة لها قيمتها في هذا المجال، هي وصف الرسول عليه الصلاة والسلام بالعبوديةلله الواحد القهار. ولهذا الوصف في هذاالموضعدلالات منوعة متكاملة:
فهو أولاً تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم، وتقريب بإضافة عبوديته لله تعالى، دلالة على أن مقام العبودية لله جل وعلا هو أسمى مقام، يدعى إليه بشر، ويدعى به كذلك.
وهوثانيًاتقرير لمعنى العبودية في مقام دعوة الناس كافة إلى عبادة ربهم وحده,واطِّراحالأنداد كلها من دونه. فها هو ذا النبي صلى الله عليه وسلم في مقام الوحي- وهو أعلى مقام-يدعَىبالعبودية لله الخالق, ويشرَّف بهذه النسبة في هذا المقام.
وقيل في سبب نزول هذه الآية: أنها نزلت في جميع الكفار. وروي عن ابن عباس ومقاتل: أنها نزلت في اليهود. وسبب ذلك أنهم قالوا: هذا الذي يأتينا به محمد لا يشبه الوحي، وإنا لفي شك منه. والأظهر هو القول الأول.
ومناسبة الآية لما قبلها: أن الله عز وجل بعد أن فرغ من تقرير الإلهية والوحدانية، شرع سبحانه في تقرير النبوة، واحتج بهذه الآية الكريمة على صدق نبوة رسوله عليه الصلاة والسلام، وصحة ما جاء به من القرآن، وأنه من عنده وكلامه، الذي يتكلم به، وأنه ليس من صنعة البشر، ولا من كلامهم.
وتقرير الإلهية والوحدانية،وتقرير النبوة توأمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر. فالآية، وإن سيقت لبيان الإعجاز، إلا أن الغرض من هذا الإعجاز إثبات النبوة.
ثانيًا- قوله تعالى:
﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾
تنبيه على أن القرآن، الذي نزَّله الله تعالى على عبده، لا رَيْبَ فيه؛ كما قال تعالى في أول السورة:
﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾(البقرة: 2)
فنفى جنس الرَّيب فيه على سبيل الاستغراق.
وتنكير الرَّيْب، للإشعار بأن حقه- إن كان- أن يكون ضعيفًا قليلاً، لسطوع ما يدفعه، وقوة ما يزيله. ومثله في ذلك قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ ﴾(الحج: 5)
والرَّيْب- في اللغة- أن تتوَّهم بالشئ أمرًا مَّا، فينكشف عمَّا تتوَّهمه. وحقيقته: قَلَقُ النفس. يقال: رابني الشيء، وأرابني. وقيل: دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك؛ فإن الشك ريبة، وإن الصدق طمأنينة. والرِّيبةُ: اسم من الرَّيْب. والارتيابُ يجرى مجرى الإرابة. وقد أثبت الله تعالى وقوع الارتياب من الكافرين والمشركين والمنافقين، فقال:
﴿وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ(الحديد: 14)
ونفاه تعالى من الذين أوتوا الكتاب، والمؤمنين، فقال:
﴿وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾(المدّثر: 31)
وقوله تعالى:﴿رَيْبَ الْمَنُونِ ﴾(الطور: 30)، سمَّاه رَيْبًا، لا أنه مُشكَّكٌ في كونه؛ بل من حيث تشكُّكٍ في وقت حصوله. فالإنسان أبدًا في رَيْبِ المنون، من جهة وقته، لا من جهة كونه.
وقال تعالى هنا:
﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ﴾(البقرة: 23)، وقال في يونس:
﴿ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي(يونس: 104)
فاستعمل الرَّيْب في الأول، والشَّكَّ في الثاني. والسرُّ في ذلك أن الشَّكَّ هو تردُّدُ الذهن بين أمرين على حدٍّ سواء. أماالرَّيْبُ فهو شَكٌّ بتهمة، وهو من قولهم: رَابَ: حقَّق التهمة. قال الشاعر:
ليس في الحق يا أميْمةُ رَيْبٌ **إنما الرَّيبُ ما يقول الكذوب
ولما كان المشركون، مع شكِّهم في القرآن، يتهمون النبي صلى الله عليه وسلم بأنه هو الذي افترى القرآن، وأعانه عليه قوم آخرون، نفى الله تعالى عنه أولاً جنس الرَّيب على سبيل الاستغراق بقوله تعالى:
﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾(البقرة: 2)
ثم نبَّه ثانيًا على أنه لا ريب فيه بقوله :
﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ﴾(البقرة: 23)
وأما قوله تعالى:﴿ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي (يونس: 104) فيمكن أن يكون الخطاب مع أهل الكتاب، أو غيرهم ممَّن كان يعرف النبي صلى الله عليه وآله بالصدق والأمانة، ولا ينسبه إلى الكذب والخيانة.
فإن قيل: كيف نفى سبحانه وتعالى أن يكون في القرآن رَيْبٌ، ثم خاطب المشركين بقوله:
﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ﴾(البقرة: 23)؟
فالجواب: أنه لا تنافيَ بين كونهم في رَيْبٍ من القرآن، وبين نفي الرَّيب عن القرآن؛ لأن نفيَ الرَّيب يدل على نفي الماهيَّة. أي: ليس ممَّا يحلُّه الرَّيْبُ، ولا يكون فيه، ولا يدل على نفي الارتياب فيه؛ لأنه قد وقع ارتياب فيه من ناس كثيرين.
ولا يردُّ على ذلك بقوله تعالى:﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ﴾، لاختلاف في الحالِّ والمحلول فيه. فالمحلول فيه هنا هم المخاطبون، والرَّيْبُ هو الحالُّ فيهم. والحالُّ في قوله تعالى:﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾مَنفيُّ، والمحلُّ هو الكتاب، فلا تنافي بين كونهم في رَيْبٍ من القرآن، وكون الرَّيْب منفيًّا عن القرآن.
ووجهُ الإتيان بـ﴿فِيْ ﴾الدالة على الظرفية هو الإشارةُ إلى أنهم قد امتلكهم الريب، وأحاط بهم إحاطة الظرف بالمظروف. واستعارة﴿فِيْ ﴾لمعنى الملابسة شائعة في كلام العرب؛ كقولهم:هو في نعمة .
وفي قوله تعالى:﴿ نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ﴾التفات؛ لأنه انتقال من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم؛ لأن قبله قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ﴾(البقرة: 21)، وقوله تعالى:
﴿ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾(البقرة: 22)
فلو جرى الكلام على هذا السياق، لكان نظم الكلام هكذا:
﴿مِمَّا أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِه ﴾
لكن في هذا الالتفات من التفخيم للمنزَّل، والمنزَّل عليه ما لا يؤدِّيه ضمير غائب، لا سيَّما كونه أتى بـ{ نَا }المشعرة بالتعظيم التام، وتفخيم الأمر. ونظير ذلك قوله تعالى:
﴿ وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَمِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾(الأنعام:99)
وفي تعدي﴿ نَزَّلَ ﴾بـ﴿ عَلَى ﴾إشارة إلى استعلاء المنزَّل على المنزَّل عليه، وتمكُّنه منه، وأنه قد صار كالملابس له، بخلاف﴿ إِلَى ﴾؛ فإنها تدل على الانتهاء والوصول؛ كما في قوله تعالى:
﴿ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ ﴾(الأنعام: 111)
ولما كانوا في ريب من القرآن حقيقة، وكانت﴿إِنْ الشرطية؛ إنما تدخل على المُمْكن، أو المحقَّقِ المبهمِ زمانُ وقوعه، ادَّعى بعضهم أنَّ﴿إِنْ هنا معناها:﴿ إِذَا ﴾؛ لأن﴿ إِذَا ﴾ تفيد مضيَّ ما أضيفت إليه. ومذهب المحققين أنَّ﴿إِنْ ﴾ لا تكون بمعنى:﴿ إِذَا ﴾. والذي قالوه: إن الواقع- ولا بد- يعلق بـ﴿ إِذَا ﴾. وأما ما يجوز أن يقع، وأن لا يقع، فهو الذي يعلق بـ﴿إِنْ ﴾ ، وإن كان بعد وقوعه متعيِّن الوقوع.
وقوله تعالى:﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾أمرٌ من الإتيان، وهو المجيء بسهولة، كيفما كان. يقال: أتى بالشيء من مكان كذا إلى مكان كذا، إذا جاء به بسهولة ويسر. وهذا لا يقدر عليه إلا من آتاه الله تعالى بسطة في الجسم، أو العقل والعلم. تأمل قوله تعالى:
﴿قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ*قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ﴾
(النمل: 39- 40 )
كيف نبَّه تعالى على أن الذي عنده علم من الكتاب، وهو رجل من أهل الحكمة، اقتدر على الإتيان بعرش بلقيس، وتغلب على العفريت، مع ما فيه من قوة وشدة، بقوة العلم !
وصيغة الأمر﴿فَأْتُوا ﴾للتهكم، ومذهب جمهور المفسرين أنها للتعجيز؛ لأن المراد بها ليس طلب ذلك منهم، بل المراد بها إظهار عجزهم.
والمعروف أن الأمر ضد النهي، وهو طلب الفعل، وصيغته: افعل، وليفعل. وهي حقيقة في الإيجاب؛ نحو قوله تعالى:
﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ (البقرة: 43)،وقوله تعالى:
﴿فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ ﴾(النساء: 102). ومثل ذلك قوله تعالى:
﴿فَأْتُوابِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾- ﴿ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ ﴾
فالأمر فيهما باقٍ على حقيقته، بدليل أن الله تعالى لم يطلب ذلك منهم مطلقًا؛ بل إنما قال عقب كل منهما:
﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
ومثل ذلك قوله تعالى:
﴿قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾(آل عمران: 93)
﴿قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
(القصص: 49)
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾(الأحقاف: 4)
﴿فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾(الصافات: 157)
﴿ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ﴾(القلم: 41)
وعلى هذا التقدير، ووجود ذلك الشرط، يجب الإتيان بالشيء المأمور به.
أما أمر التعجيز في كلام الله تعالى فمثاله قوله إبراهيم- عليه السلام- لنمرود الكافر:
﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(البقرة: 258)
والتنوين في ﴿ِسُورَةٍ ﴾ للتنكير. أي: ائتوا بسورة مَّا، وهي القطعة من القرآن، التي أقلها ثلاث آيات. وفيه من التبكيت والتخجيل لهم في الارتياب ما لا يخفى.
واختلف المفسرون في مرجع الضمير في قوله:﴿مِنْ مِثْلِهِ ﴾ على قولين:
أحدهما:أنه يعود على قوله تعالى:﴿مِمَّا نَزَّلْنَا ﴾. أي: على القرآن. والثاني:أنه يعود على قوله تعالى:﴿ عَبْدِنَا ﴾. أي: على النبي صلى الله عليه وسلم. والصواب هو القول الأول، وهو قول أكثر المفسرين.
واختلفوا في المراد بالمثلية على كون الضمير عائدًا على القرآن على أقوال هي إلى التأويل البعيد أقرب منها إلى التفسير الصحيح؛ لأنها مبنيَّة على فهم غير صحيح لمعنى المثل أولاً. وأن قائلوها لم يفرقوا بين الإتيان بالشيء، وقوله ثانيًا. وكلاهما أوضح من أن ينبَّه عليه، أو يشار إليه، وهذه الأقوال هي كما ذكرها أبو حيَّان:
الأول:من مثله، في حسن النظم، وبديع الرصف، وعجيب السرد، وغرابة الأسلوب وإيجازه وإتقان معانيه.
الثاني:من مثله، في غيوبه من إخباره بما كان، وبما يكون.
الثالث:من مثله، في احتوائه على الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والحكم والمواعظ، والقصص والأمثال.
الرابع:من مثله، في صدقه وسلامته من التبديل والتحريف.
الخامس:من مثله، أي: من كلام العرب، الذي هو من جنسه.
السادس:من مثله، في أنه لا يخلق على كثرة الرد، ولا تمله الأسماع، ولا يمحوه الماء، ولا تفنى عجائبه، ولا تنتهي غرائبه.
السابع:من مثله، في دوام آياته، وكثرة معجزاته.
الثامن:من مثله، أي: في كونه من كتب الله المنزلة على من قبله، تشهد لكم بأن ما جاءكم به ليس هو من عند الله.

يبتـــــــــــــع
  #712  
قديم 27-06-2008, 08:46 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبـــع موضوع .... فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ

ومذهب أكثر المفسرين أن ذكر المِثل في قوله:﴿مِنْ مِثْلِهِ ﴾هو على سبيل الفرض. ومذهب بعضهم أن المراد به: كلام العرب، الذي هو من جنسه، فيكون ذكره ليس على سبيل الفرض.
ثم اختلفوا في معنى ﴿مِنْ ﴾، فقيل: هي للتبعيض، وهو مذهب الجمهور. وقيل: هي لبيان الجنس، وإليه ذهب الشيخ ابن عطية والمَهدَويُّ، وغيرهما. وذهب بعضهم إلى أنها زائدة؛ ولهذا حذفت في قوله تعالى:
﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾(يونس: 38)
أما كون﴿ مِنْ ﴾لبيان الجنس فلا يجوز على مذهب البصريين. وأما كونها زائدة في هذا الموضع فلا يجوز على مذهب الكوفيين، وجمهور البصريين. وليس في قوله تعالى:
﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾(يونس: 38)
دليل على زيادتها؛ لأن المراد به: فأتوا بكلام مثل القرآن. أو بقرآن مثل القرآن. وإذا كان كذلك، فلا وجه لدخول﴿ مِنْ ﴾فيه.
وأما قوله تعالى:﴿ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾(البقرة: 23)فالمراد به: فأتوا بسورة واحدة من مثل القرآن، طويلة كانت، أو قصيرة؛ لأن لفظ ﴿ سُورَة ﴾يعمُّ كل سورة في القرآن؛ لأنه نكرة في سياق الشرط، فتعمُّ؛ كما هي في سياق النفي.وعليه فإن﴿ مِنْ ﴾ فيه لابتداء الغاية، وهي متعلقة بقوله:﴿ فَأْتُوا ﴾.
وأما المراد بالمثليّة هنا فهو كالمراد بها في قوله تعالى:
﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾(الإسراء: 88)
وهذا ما فصَّلت القول فيه في مقالي السابق:﴿لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، المذكور على هذا الرابط:
فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
ثالثًا- لما طالب سبحانه وتعالى المشركين أن يأتوا بسورة من مثل القرآن- على تقدير حصولهم في ريب من كون هذا القرآن من عند الله- لم يكتف بقولهم ذلك بأنفسهم، حتى طلب منهم أن يدعو شهداءهم على الاجتماع على ذلك، والتظافر والتعاون والتناصر، فقال سبحانه:
﴿ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
وصيغة الأمرهنا:﴿ادْعُوا للإباحة، بخلاف صيغة الأمر قبلها، فتلك للتهكم بهم؛ لأنهم غير قادرين على ذلك. وفسر بعضهم الدعاء- هنا-بطلب الغوث. يقال: دعا فلانًا: استغاث به. وبالاستحضار. يقال: دعا فلان فلانًا إلى الحاكم، استحضره إليه.
والشهداء في قوله تعالى:﴿شُهَدَاءَكُمْ ﴾مقيَّد بلفظه، وهو جمع: شهيد، بمعنى: شاهد، من شهد، إذا حضر. وجيء به على: فعيل، لما فيه من المبالغة؛ وكأنه تعالى أشار إلى أن يأتوا بشهداء بالغين في الشهادة، يصلحون أن تقام بهم الحجة. والشهيد كما قال الراغب: كل من يُعتَدُّ بحضوره ممن له الحل والعقد؛ ولذا سمُّوا غيره: مُخلِفًا.
وقوله تعالى:﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ عبارة شرطية، جيء بها قيْدًا على الجملة قبلها. وفيها إثارة لحماسهم، أو تهكم بهم. والمعنى المراد: إن كنتم صادقين، فأتوا بسورة من مثله.
رابعًا- ولما كان أمره تعالى إياهم بالإتيان بسورة من مثله أمر تحدٍّ وتهكم؛ لأنهم غير قادرين على ذلك، انتقل سبحانه إلى إرشادهم، فقال لهم:
﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾(البقرة: 24)، فذكر أمرين:
أحدهما:أنهم لم يفعلوا.
والثاني:أنهم لن يفعلوا أبدًا؛ لأنهم ليسوا بقادرين على ذلك.
ولذلك أمرهم تعالى باتقاء النار، التي أعدَّها للكافرين من أمثالهم.
وأتى بـ﴿ إِنْ الشرطية، التي تدل على إمكان ما بعدها وعدم إمكانه، ولم يأت بـ﴿ إِذَا ،التي تدل على تحقق ما بعدها زيادة في التهكُّم بهم؛ كما يقول القائل: إن غلبتك، لم أبق عليك، وهو يعلم أنه غالب.
و﴿ لَنْ لنفي المستقبل، فثبت الخبر أنهم فيما يستقبل من الزمان، لن يأتوا ﴿ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾؛ وذلك مبالغة في التحدي، وإفحامًا لهم. ولو كان في طاقتهم تكذيبه، ماتوانواعنه لحظة واحدة.
وقال تعالى:﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ﴾، ولم يقل سبحانه:﴿فَإِنْ لَمْ تَأْتُوا وَلَنْ تَأْتُوا ﴾؛ لأن{ فَعَلَ }عامٌّ في الأفعال كلها، ويجري مجرى الكناية، فيعبَّر به عن كل فعل، إيجازًا واختصارًا، وحيث أطلق في كلام الله تعالى، فهو محمول على الوعيد الشديد؛ كقوله تعالى:
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ﴾(الفيل: 1). وقوله تعالى:
﴿ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ ﴾(إبراهيم: 45)
وجملة ﴿ لَنْ تَفْعَلُوا ﴾اعتراضية بين الشرط وجوابه، وفيها من تأكيد المعنى ما لا يخفى؛ لأنه لما قال تعالى:﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ﴾، وكان معناه: نفي في المستقبل، مخرجًا ذلك مخرج الممكن، أخبر أن ذلك لن يقع، وهو إخبار صدق، فكان في ذلك تأكيد على عجزهم. وفي ذلك إثارة لهممهم؛ ليكون عجزهم بعد ذلك أبلغ وأبدع، وفيه أيضًا دليلان على إثبات النبوة:
أحدهما:صحة كون المتحدَّى به معجزًا، وأنه من عند الله تعالى.
والثاني:الإخبار بالغيب من أنهم لن يفعلوا في المستقبل.
ولما كان الفعل المنفي بـ﴿لَمْ ﴾ في قوله تعالى:﴿ وَلَمْ تَفْعَلُوا ﴾مرادًا به الاستقبال، لدخول أداة الشرط عليه، حسُن تأكيده بقوله:﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا ﴾. وكان من حقه أن يؤكَّد بقول:﴿وَلَا تَفْعَلُون ﴾، فيقال:
﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَا تَفْعَلُون ﴾؛ لأن قبله في أول السورة:
﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾(البقرة: 2)
و﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ نفيٌ لجنس الريب عن القرآن الكريم على سبيل الاستغراق والشمول. وهذا النفي يناسبه أن يقال:﴿وَلَا تَفْعَلُون ﴾؛ كما قال تعالى في آية الإسراء :
﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾(الإسراء: 88)
والسر في هذا العدول من النفي بـ﴿لَا ﴾ إلى النفي بـ﴿لَنْ ﴾ أن العرب تنفي بـ﴿لَنْ ﴾ ما كان ممكنًا عند المخاطب، مظنونًا أنه سيكون، فتقول: لن يكون، لما يمكن أن يكون؛ لأن ﴿لَنْ ﴾ فيها معنى﴿أَنْ ﴾. و﴿أَنْ ﴾ تدل على إمكان الفعل، دون الوجوب والاستحالة. وإذا كان الأمر عندهم على الشك، لا على الظن: أيكون، أم لا يكون ؟ قالوا في النفي:لا يكون.
وقوله تعالى:
﴿ فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾
جواب للشرط. ولقائل أن يقول: ما معنى اشتراطه في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله ؟ والجواب: إذا ظهر عجزهم عن الإتيان بسورة من مثل القرآن، صح عندهم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا صح ذلك، ثم لزموا العناد، استوجبوا العقاب بالنار. فاتقاء النار يوجب ترك العناد. فأقيم المؤثر مقام الأثر، وجعل قوله:﴿فَاتَّقُوا النَّارَ ﴾قائمًا مقام قوله:{فاتركوا العناد }. وهذا هو الإيجاز، الذي هو أحد أبواب البلاغة. وفيه تهويل لشأن العناد؛ لإنابة اتقاء النار منابه، متبعًا ذلك بتهويل صفة النار.
و﴿ النَّاسُ ﴾يراد به: الخصوص ممَّن شاء الله دخولهم هذه النار، وإن كان لفظه عامًا. و﴿ الْحِجَارَةُ ﴾يراد بها: الأصنام. وقد جعل كلاهما وقودًا لهذه النار، فدل على أنها نار ممتازة من النيران، بأنها لا تتَّقد إلا بالناس والحجارة؛ وذلك يدل- أيضًا- على قوتها من وجهين:
الأول:أن سائر النيران، إذا أريد إحراق الناس بها، أو إحماء الحجارة، أوقدت أولاً بوقود، ثم طرح فيها ما يراد إحراقه، أو إحماؤه. وهذه توقد بنفس ما تحرق.
والثاني:أنها لإفراط حرِّها تتَّقد في الحجر.
والوَقود، بفتح الواو، هو ما يلقى في النار لإضرامها؛ كالحطب ونحوه، كما قال تعالى:
﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً ﴾(الجن: 15)
وإنماقرن الله سبحانه الناس بالحجارة، وجعلها معهم وقودًا؛ لأنهم قرنوا بها أنفسهم في الدنيا، حيث نحتوها أصنامًا، وجعلوها لله أندادًا، وعبدوها من دونه سبحانه. وإلى ذلك أشار تعالى بقوله:
﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ* لَوْ كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾(الأنبياء: 98- 99).
وهذه الآية مفسرة لها، فقوله تعالى:
﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ في معنى: ﴿ النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾
وقوله:﴿ حَصَبُ جَهَنَّمَ ﴾في معنى:﴿ وَقُودُهَا ﴾ .
ولما اعتقد الكفار في حجارتهم المعبودة من دون الله أنها الشفعاء والشهداء، الذين يستشفعون بهم، ويستدفعون المضار عن أنفسهم تمسكًا بهم، وجعلها الله عذابهم، قرنهم بها محماة في نار جهنم إبلاغًا وإغرابًا في تحسرهم.
ونحو ذلك ما يفعله تعالى بالكافرين، الذين جعلوا ذهبهم وفضتهم عدة وذخيرة، فشحوا بها، ومنعوها من الحقوق، حيث يُحمَى عليها في نار جهنم، فتُكوَى بها جباهم وجنوبهم وظهورهم؛ كما أخبر بذلك سبحانه وتعالى بقوله:
﴿ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ﴾(التوبة: 35)
وقد استدل كثير من أئمة السنة بهذه الآية على أن النار موجودة الآن، لقوله تعالى:﴿أُعِدَّتْ ﴾.أي: أرصدت وهيئت. وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك؛ منها:تحاجَّت الجنة والنار.
ومنها:استأذنت النار ربها، فقالت: ربِّ ! أكل بعضي بعضًا، فأذنَ لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف.
ومنها حديث ابن مسعود رضي الله عنه:سمعنا وجبة، فقلنا ما هذه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا حجر ألقي به من شفير جهنم، منذ سبعين سنة، الآن وصل إلى قعرها.
وغير ذلك من الأحاديث المتواترة، التي تؤكد على أن النار، التي أعدَّها الله تعالى للكافرين، وجعل وقودها الناس والحجارة، موجودة، نسأل الله تعالى أن يعيذنا منها برحمته الواسعة !
بقلم الأستاذ محمد إسماعيل عتوك
[email protected]
  #713  
قديم 27-06-2008, 08:49 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ

قال الله تعالى:﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ (الإسراء:88)
أولاً- هذا خطاب من الله جل وعلا، يأمر فيه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبر كفار مكة، بعجزهم عن الإتيان بمثل هذا القرآن، وقد عمَّ بهذا الخبر، المؤكَّد بالقسم، جميع الخلق: إنسهم وجنهم، معجزًا لهم، قاطعًا بعجزهم مجتمعين عن الإتيان بمثله إلى يوم القيامة، ولو تظاهروا عليه. وهو من أعظم الدلائل على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام في أول الأمر، عند كل من سمع هذا الكلام من المشركين وغيرهم من الكفار، وعلم أنه من القرآن، الذي أمِر ببلاغه إلى جميع الخلق، وهو وحده كافٍ في العلم بأن هذا القرآن العظيم خارقٌ، يُعجِز الثقلين عن الإتيان بمثله بحيلة، وبغير حيلة.
وروي في سبب نزول هذه الآية: أن جماعة من قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو جئتنا بآية غريبة غير هذا القرآن، فإنّا نحن نقدر على المجيء بمثل هذا، فنزلت ردًّا عليهم.
وافتتاح هذا الخطاب بصيغة الأمر﴿ قُلْ ﴾للاهتمام به، وهو تنويهٌ بشرف هذا القرآن العظيم، وامتنانٌ على الذين آمنوا به؛ إذ كان لهم شفاء ورحمة، وإثباتُ عجز الذين أعرضوا عنه من الكفار والمشركين والملحدين عن الإتيان بمثله.
واللام في قوله تعالى:﴿لَئِنِ ﴾هي الموطِّئة للقسم، دخلت على الشرط. والمعنى: قل: والله ! :﴿ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ
ومعنى اجتماع الإنس والجن: اتفاقهم، واتحاد آرائهم. أي: لو تواردت عقولهم على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، لا يؤتون بمثله، ولو تظاهروا على ذلك.
وقدم سبحانه الإنس على الجن؛ لأنهم هم المعنيون بهذا الخطاب؛ ولأنهم كانوا يزعمون أن القرآن الكريم تنزلت به الشياطين على محمد صلى الله عليه وسلم، فردَّ عليهم سبحانه وتعالى بقوله:
﴿ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ*وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ*إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ(الشعراء: 210- 212)
وكانوا قبل نزول القرآن يسترقون السمع، فيلقون من الجزاء ما يلقون، وقد أخبر الله تعالى عن ذلك بقوله:
﴿ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ *وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ *إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ ﴾(الحجر: 16- 18)
وحكي عنهم قولهم:
﴿ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا *وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا ﴾(الجن: 8-9)
ثم عزلوا بعد ذلك عن السمع كما نصَّ على ذلك قوله تعالى:
﴿ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ(الشعراء: 212)
وقوله تعالى:﴿لَا يَأْتُونَ بمثله ﴾ جوابٌ للقسم، مغنٍ عن جواب الشرط. وقد جاء منفيًا بـ﴿لَا ؛ كما في قوله تعالى:
﴿ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ ﴾(الحشر: 12)
ومن حق هذا الجواب أن يكون منفيًّا بـ﴿مَا ، التي يحسُن معها دخول اللام عليه، فيقال: لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، لما أتوا؛ كما في قال ابن مالك الأرْحَبي في رثاء النبي صلى الله عليه وسلم:
لعَمْري لئن مات النبي محمد **لما مات يا ابن القيل رب محمد
أو يؤتَ بـ﴿مَا دون اللام؛ كما قال تعالى في آية أخرى:
﴿ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ ﴾(المائدة: 28)
هذا وجه الكلام؛ ولكنْ عُدِلَ عنه إلى قوله تعالى:﴿لَا يَأْتُونَ ﴾؛ لأن﴿مَا تختص بنفي الحال، ولا تدل على نفي الجنس إلا بوجود قرينة لفظية، وهي دخول ﴿مِنْ على منفيِّها؛ كما في قوله تعالى:
﴿مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ (المائدة: 19)
﴿وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا (الأنعام: 59)
أما ﴿لَا فهي مختصَّة بنفي ما كان مستقبلاً، وقد ينفى بها الحال، وتدل على نفي جنس ما بعدها نفيًا شاملاً مستغرقًا لكل جزء من أجزاء الزمن في الحال والمستقبل، مع طول النفي وامتداده إلى ما يشاء الله تبارك وتعالى. فأفاد النفيُ بها أن الإتيان بمثل هذا القرآن، غير ممكن أبدًا على مرِّ الزمن، وأنه فوق طاقة الخلق من الإنس والجن.
ومن هنا كانت هذه الآية الكريمة مفحمة للكفار ولغيرهم، وللعالم كله في التحدي بإثبات عجزهم عن الإتيان بمثل هذا القرآن العظيم إلى يوم القيامة، وأنهم لا يقدرون على ذلك، مهما حاولوا.
ثانيًا- والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما المراد بهذه المِثلية، التي تُعجِز الثقلين مجتمعين عن الإتيان بها، رغم تظاهرهما وتعاونهما على ذلك ؟
وقبل الإجابة عن ذلك لا بدَّ من الإشارة إلى الأمور الآتية، والوقوف عندها:
الأمر الأول:اتفقت كلمة العلماء على أن المثلفي قوله تعالى:
﴿ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾
هو مثل مقدَّر مفروض، لا يمكن للعقل أن يتصوَّره؛ لأن الآية ابتدأت عندهم بافتراض اجتماع الإنس والجن. وهذا الافتراض- كما قال بعضهم- لا يتصور عقلاً، ممَّا يعني: أن نتيجة هذا الافتراض- وهو المجيء بمثل هذا القرآن- لا يتصور عقلاً؛ لأن الكلام مسوق مساق التعجيز.
ثم اختلفوا بعد ذلك في تحديد المتحدَّى بهذا المِثْل للقرآن، فقال بعضهم: التحدي إنما وقع للإنس دون الجن؛ لأنهم ليسوا من أهل اللسان العربي، الذي جاء القرآن على أساليبه؛ وإنما ذكروا مع الإنس، تعظيمًا لإعجاز القرآن؛ لأن للهيئة الاجتماعية من القوة ما ليس للأفراد. فإذا فُرض اجتماع الثقلين فيه، وظاهر بعضهم بعضًا، وعجزوا عن المعارضة، كان الفريق الواحد أعجز.
وقال بعضهم الآخر: بل وقع للجن أيضًا، والملائكةُ منويُّون في الآية؛ لأنهم لا يقدرون أيضًا على الإتيان بمثل القرآن. وإنما اقتصر في الآية على ذكر الإنس والجن؛ لأن محمدًا عليه الصلاة والسلام كان مبعوثا إلى الثقلين، دون الملائكة.
أما القول بأن الآية ابتدأت بافتراض اجتماع الإنس والجن، وأن هذا الافتراض لا يتصور عقلاً، ممَّا يعني أن نتيجته لا تتصور عقلاً، فهو خلاف لظاهر الآية الكريمة، ومدلولها؛ لأن اجتماع الإنس والجن، لو كان افتراضًا، لوجب أن يكون نظم الكلام هكذا:
﴿ لَو اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ ﴾.فلما لم يقل ذلك، وقيل:
﴿ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ ﴾
علِم أنه ليس افتراضًا؛ وإنما هو مُمْكنٌ؛ لأن أداة الشرط ﴿إِنْ تدل على الإمكان، وعدم الإمكان، بخلاف ﴿لَوْ ، التي من معانيها: فرض ما ليس بواقع واقعًا.
ثم إذا كان هذا افتراضًا، فكيف يقسم ربنا تبارك وتعالى على شيء، يفترض حدوثه مسبقًا؛ ليثبت عجز الإنس والجن على الإتيان بمثل هذا القرآن ؟! ولو كان افتراضًا، لكان كل قول ورد على هذا الأسلوب مبنيًّا على الافتراض؛ كقوله تعالى:
﴿ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ ﴾(المائدة:28)
﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾(العنكبوت:61)
فبسط اليد للقتل في الآية الأولى، وسؤال المشركين عمَّن خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر في الآية الثانية، ليس بافتراض؛ وإنما هو ممكن، وغير ممكن.
أما الافتراض فهو ما كان مبنيًّا على الأداة ﴿لَوْ ؛ كما في قوله تعالى:
﴿ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ(الأنعام:111).
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ ﴾(المائدة:36).
ونحن إذا نظرنا إلى الآية الكريمة:
﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾(الإسراء:88)
رأيناها مركبة من جزأين:الجزء الأول قوله تعالى:
﴿لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾
وهو جملة شرطية إمكانية تامة، قد أُقسِم على مضمونها؛ وهو: اجتماع الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، لا يأتون بمثله.
والجزء الثاني قوله تعالى:
﴿وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾
وهو عبارة شرطية افتراضية، جيءَ بها قيدًا على الجملة الأولى، ومضمونها هوكون بعض الإنس والجن لبعض ظهيرًا.
ولما كان كون بعض الإنس والجن لبعض ظهيرًا لا ينسجم في الدلالة مع اجتماعهم؛ لأن هذا ممكن، والآخر غير ممكن، أدخلت معه الواو الرَّغميَّة على أداة الشرط ﴿لَوْ ﴾؛ لتحسين اللفظ، وتحصين المعنى؛ إذ بدون هذه الواو يفسد معنى الكلام، ويختل نظمه. ويبدو لنا ذلك واضحًا، إذا تلونا الآية الكريمة بدون هذه الواو.
ولمزيد من الإيضاح والبيان نقول: هذه ( الواو الرغميَّة ) لا يؤتى بها إلا بين جملة تامة شرطية أو غير شرطية، وعبارة شرطية قيديَّة، غير منسجمة في الدلالة مع الجملة التامة، التي جعلت قيدًا عليها. وهذا النوع من الشرط يسمَّى شرطًا سلبيًّا، سواء كان مبنيًّا على ﴿لَوْ ﴾، أو ﴿إِنْ ؛ كقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث، الذي رواه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:أعطوا السائل، وإن كان على فرس .وفي رواية أخرى:ولو كان على فرس .
أي: أعطوا السائل رَغم غناه؛ لأن كونه على فرس مُشْعِرٌ بالغنى. والغنى لا يناسبه الإعطاء، ولا ينسجم معه في الدلالة انسجامًا مباشرًا؛ ولهذا لا يجوز أن يقال: أعطوا السائل، إن كان غنيًا. أو أعطوا السائل، لو كان غنيًّا، بدون واو؛ لأنه لو قيل ذلك، لجعل الغنى شرطًا في الإعطاء؛ فمن كان غنيًّا يعطى، ومن لم يكن غنيًّا لا يعطى. ومن هنا كان لا بد من تحصين المعنى من هذا الفهم أولاً، وربط العبارة الشرطية بالجملة قبلها ثانيًا، ولا يتم ذلك إلا بإدخال هذه الواو الرَّغميَّة على كل من ﴿لَوْ ﴾ و﴿إِنْ في العبارة الشرطية.
وعلى هذا الأسلوب وردت الآية الكريمة:
﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾(الإسراء:88).
وكأنه حين قيل:﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾
قيل:﴿وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾؟
فقيل: نعم ﴿ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾!
فلو قيل:﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾، بإسقاط الواو، أفاد أن عجزهم عن الإتيان بمثل القرآن مشروط بكون بعضهم لبعض ظهيرًا، وهذا خلاف المراد.
ومن الفروق في المعنى بين ﴿لَوْ ﴾، و﴿إِنْ: أن الأصل في﴿لَوْ ﴾أنها أداة تمن، ثم نقلت إلى الشرط؛ وذلك من باب تعدد المعنى الوظيفي للمبنى الواحد؛ ومن خواصِّها فرض ما ليس بواقع واقعًا- كما ذكرنا- ولهذا تستعمل فيما لا يُتَوقَّع حدوثُه، وفيما يمتنع حدوثه، أو فيما هو محال، أو من قبيل المحال.
أما ﴿إِنْفهي في الأصل موضوعة للشرط؛ ومن خواصِّها أنها تدل على الإمكان، وعدم الإمكان، بمعنى: أن الفعل معها ممكن الوقوع، وغير ممكن. وقد اجتمعت الأداتان في هذه الآية الكريمة، فأفادت﴿إِنْأن اجتماع الإنس والجن ممكن الحدوث، وأفادت ﴿لَوْ ﴾ أن تظاهرهما غير متوقع الحدوث؛ وإنما جيء به للدلالة على المبالغة.
الأمر الثاني:أن المراد بقوله تعالى:﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾ هو نفيٌ لقدرة الإنس والجن مجتمعين عن الإتيان بمثل هذا القرآن، وليس المراد مطالبتهم بالإتيان بهذا المثل، ويدل على ذلك:
أولاً-أنه ليس في الكلام ما يشير، لا من قريب، ولا من بعيد، إلى أن المراد هو مطالبتهم بذلك. ولو كان المراد مطالبتهم بأن يأتوا بمثل هذا القرآن، لوجب أن يقال: فأتوا بمثل هذا القرآن. أو: فليأتوا بمثل هذا القرآن؛ كما قال سبحانه وتعالى في موضع آخر:
﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾(البقرة: 23)
﴿ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ(الطور: 34)
ثانيًا- أنه ليس من المعقول أن يثبت الله سبحانه عجز الإنس والجن عن الإتيان بمثل هذا القرآن على سبيل القطع والجزم، ثم يطالبهم أن يأتوا بهذا المثل؛ ولهذا قال الزرقاني:والقرآن نفسه أعذر حين أنذربأنه لا يمكن أن يأتي الجن والإنس بمثله، وإن اجتمعوا له، وكان بعضهم لبعض ظهيرًا، وبذلك قطعت جهيزة قول كل خطيب.
فثبت بذلك أن المراد بقوله تعالى﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾- كما ذكرنا-: هو إثبات عجز الإنس والجن عن الإتيان بمثل هذا القرآن، وأن ذلك فوق طاقاتهم وقدراتهم. وهذا تحد لهم غير مباشر، وهو من أعظم الدلائل على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام.
الأمر الثالث:إذا ثبت عجز الإنس والجن مجتمعين عن الإتيان بمثل هذا القرآن، كان عجز الإنس عن ذلك من باب أولى. وإنما جمع بين الإنس والجن؛ لأن محمدًا عليه الصلاة والسلام مبعوث إلى الثقلين معًا. فقد ثبت بنص القرآن والسنة أن الجن منهم المؤمنون، ومنهم الكافرون. وأن الكافرين منهم كانوا يستمعون إلى القرآن، وهو يتلى، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يجتمع بهم، ويقرأ القرآن عليهم، ويدعوهم إلى الإيمان، وأن كثيرًا منهم من آمن به، وكثيرًا منهم من بقي على كفره. فمثلهم في ذلك مثل الإنس تمامًا؛ ولهذا خاطبهم الله تعالى بقوله:
﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ ﴾(الأنعام:130)
ومن هنا نرى أنه لا داع لقول من قال: إن التحدي وقع للإنس دون الجن. أو إنه وقع للملائكة؛ لأنهم لا يقدرون- أيضًا- على الإتيان بمثل هذا القرآن. أو إنه وقع للعرب دون العجم.. أو غير ذلك من الأقوال، التي لا تغني من الحق شيئًا. وهو دليل أيضًا على أن اجتماع الإنس والجن ممكن كما ذكرنا.
الأمر الرابع:وهو أن علماء التفسير اختلفوا- قديمًا وحديثًا- وما زالوا يختلفون في معنى المثلية المنصوص عليها في قوله تعالى:﴿ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ ﴾، على أقوال كثيرة، لا تخلو من تكلف، وتمحُّل؛ ولهذا وجدنا أحد الطاعنين في القرآن الكريم يثير بعض الأسئلة حول مفهوم هذه المثلية مشككًا في القرآن، وصحة نسبته إلى الله جل وعلا، فقال في مقدمة كتابه ( أكذوبة الإعجاز العلمي في القرآن ):
لقد تحدى القرآن جميع البشر، فلم يستطع أحد أن يقاوم ذلك التحدي. والسؤال هو: ما هي شروط هذا التحدي ؟ لا يعقل أن تتحدى شخصًا مَّا بأن يأتي ﴿ بِمِثْلِهِ ﴾ دون أن تحدد الشروط، ودون أن تحدد ﴿ بِمِثْلِهِ ﴾في ماذا ؟ اللغة، الشرائع... إلخ .
وأضاف قائلاً:هل الإعجاز في المعنى، أم في بناء الجملة، أم في النحو، أم البلاغة، أم إنه في جميعها ؟ وهل هو خاص بالعربية وأهلها فقط، أم إنه أيضًا قائم في حال الترجمة ؟ .
هذه الأسئلة، التي يثيرها هذا الملحد- وهو محقٌّ في إثارتها وإن كان غرضه خبيثًا- هي مبنية في حقيقتها على ما دار، وما زال يدور، من خلاف بين المفسرين في تحديد المراد من هذه المثلية.
ونحن إذا نظرنا إلى قوله تعالى:﴿ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ ﴾، نرى أنه يشير بوضوح، لا لبس فيه إلى أن المطلوب الإتيان به هو مثل هذا القرآن، لا القرآن نفسه. وأن الإشارة بقوله تعالى:﴿هَذَا الْقُرْآَنِ ﴾ إشارة إلى حاضر موجود، و أن المطلوب هو الإتيان بمِثْل هذا الحاضر الموجود. وهذا المثل ينبغي أن يكون معلومًا؛ لأنه لا تجوز المطالبة الإتيان بما لا يُعلَم، ولا يُدْرَى ما هو ؟ وجاء لفظ المثل في قوله تعالى:﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾ مكرَّرًا على سبيل التوكيد والتوضيح؛ إذ قد يراد بمِثل الشيء: في موضع الشيء نفسه- كما قال أبو حيان- فبُيِّن بتكرار﴿ بِمِثْلِهِ ﴾، ولم يكن التركيب:﴿ لَا يَأْتُونَ بِهِ ﴾، رفعاً لهذا الاحتمال.

يتبـــــــــــــــــــــع
  #714  
قديم 27-06-2008, 08:52 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبــع موضوع .... لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ


ويتضح مما تقدم أن للقرآن الكريم مثل، يماثله في تمام الحقيقة والماهية، وأن هذا المثل معلوم بنصِّ هذه الآية الكريمة. وهذا المثل هو الذي أخبر الله تعالى بعجز الثقلين مجتمعين عن الإتيان به، رغم تظاهرهم على ذلك.
ومما ينبغي الإشارة إليه- هنا- أن لكل شيء مِثلاً، يماثله في تمام الحقيقة والماهية إلا الله سبحانه وتعالى، فلا شبه له ولا مثل.. وأن مِثْل الشيء يؤخذ من الشيء نفسه، إذا ما تعذر وجود مِثْل له في الواقع. وأن المأخوذ فرعٌ، والمأخوذ منه أصل، وأن لفظ المِثْل يطلق على كل من الأصل، والفرع.
وهذا يعني- كما ذكرنا- أن للقرآن الكريم مِثلٌ معلوم، وأن ذلك المثل المعلوم هو الأصل، وهذا القرآن، الذي بين أيدينا هو فرع مأخوذ من ذلك الأصل.
ولمعرفة ذلك المثل، الذي هو أصل للقرآن، الذي بين أيدينا اقرؤوا، إن شئتم قول الله تعالى:
﴿ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ﴾(البروج: 21- 22)
فماذا تجدون ؟ تجدون: قرآنًا مجيدًا، في لوح محفوظ.
والمجيد هو العظيم وهو الكريم، وهو من صفات الباري جل وعلا. وفي لسان العرب:يريد بالمجيد: الرفيع العالي. وفي حديث عائشة رضي الله عنها: ناوليني المجيد أي المصحف. وهو من قوله تعالى:﴿ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ ﴾. ولفظ المجيد ورد في القرآن في أربعة مواضع، هذا أحدها.
والموضع الثاني في قوله تعالى:﴿وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ﴾(ق: 2)
والثالث في قوله تعالى:﴿إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ﴾(هود: 73)
والرابع في قوله تعالى:﴿ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ﴾(البروج: 15)
فجعل سبحانه وتعالى صفة القرآن من صفته جل وعلا:
﴿ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾(الروم: 27)
أما اللوح- كما جاء في لسان العرب- فـهو مستودع مشيئات الله تعالى. وكل عظم عريض لوح، والجمع منهما: ألواح. وقال أبو إسحق: القرآن في لوح محفوظ، وهو أم الكتاب عند الله عز وجل. وقيل: هو في الهواء فوق السماء السابعة، طوله ما بين السماء والأرض، وعرضه ما بين المشرق والمغرب، وهو من درة بيضاء. قاله ابن عباس رضي الله عنهما. وقوله تعالى:﴿ مَّحْفُوظٍ ﴾يعني: مُصَانٌ، لا يمكن للشياطين أن تتنزَّل بشيء منه، أو تغيِّر منه شيئًا .
﴿ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ*وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ*إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ(الشعراء: 210- 212)
فهل ذلك القرآن المجيد في ذلك اللوح المحفوظ من الشياطين هو قرآننا، الذي بين أيدينا، أم هو قرآن غيره ؟! وإن لم يكن هو، ولا غيره، فما قرآننا- إذًا- إن لم يكن مِثلاً مأخوذًا منه ؟
ثم اقرؤوا، إن شئتم، قول الله تعالى:
﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ *وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ*إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ *في كِتَابٍ مَكْنُونٍ *لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ﴾(الواقعة: 75- 79)
وتأملوا، كيف نفى الله تبارك وتعالى حاجته إلى القسم بمواقع النجوم على أن القرآن كريم، وكيف أقسم سبحانه بالقرآن في قوله:
﴿وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ ﴾(ص: 1)، وقوله:﴿ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ﴾(ق: 1)
على ثبوت هذا القرآن نفسه وصدقه، وأنه حق من عنده ؟!
فإن دل هذا على شيء، فإنما يدل على أن القرآن المقسم به، والموصوف بذي الذكر، وبالمجيد، هو غير القرآن، الذي نفى سبحانه وتعالى حاجته إلى القسم بمواقع النجوم على أنه قرآن كريم.
ويدل على ذلك- أيضًا- أن الله عز وجل وصف هذا القرآن، الذي نفى حاجته إلى القسم عليه بمواقع النجوم، بقوله:
﴿ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ*لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ﴾(الواقعة: 78- 79)
كما وصفه بقوله:
﴿ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ﴾(البروج: 21- 22)
وفي تفسير قوله تعالى:﴿ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍقال ابن قيِّم الجوزيَّة:اختلف المفسرون في هذا، فقيل: هو اللوح المحفوظ . ثم قال:والصحيح: أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة؛ وهو المذكور في قوله:﴿فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ*مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ*بِأَيْدِي سَفَرَةٍ*كِرَامٍ بَرَرَةٍ(عبس: 13- 16).
ويدل على أنه الكتاب، الذي بأيدي الملائكة قوله:﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ﴾. فهذا يدل على أنه بأيديهم يمسُّونه. وهذا هو الصحيح في معنى الآية .
وأضاف ابن قيِّم الجوزيَّة قائلاً:ومن المفسرين من قال: إن المراد به أن المصحف لا يمسُّه إلا طاهر، والأول أرجح لوجوه:
أحدها:أن الآية سيقت تنزيهًا للقرآن أن تنزل به الشياطين، وأن محله لا يصل إليه، فلا يمسُّه إلا المطهرون، فيستحيل على أخابث خلق الله وأنجسهم أن يصلوا إليه، أو يمسُّوه؛ كما قال تعالى:
﴿ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ*وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ*إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ(الشعراء: 210- 212)
فنفى الفعل، وتأتِّيه منهم، وقدرتهم عليه. فما فعلوا ذلك، ولا يليق بهم، ولا يقدرون عليه؛ فإن الفعل قد ينتفي عمَّن يحسُن منه، وقد يليق بمن لا يقدر عليه، فنفى عنهم الأمور الثلاثة.
وكذلك قوله تعالى في سورة عبس:﴿ِفي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ*مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ*بِأَيْدِي سَفَرَةٍ*كِرَامٍ بَرَرَةٍ (عبس: 13- 16)
فوصف محلَّه بهذه الصفات بيانًا أن الشيطان لا يمكنه أن يتنزل به. وتقرير هذا المعنى أهم وأجمل وأنفع من بيان كون المصحف، لا يمسُّه إلا طاهر.
الوجه الثاني:أن السورة مكية، والاعتناء في السور المكية؛ إنما هو بأصول الدين من تقرير التوحيد والمعاد والنبوة. وأما تقرير الأحكام والشرائع فمظنة السور المدنية.
الوجه الثالث:أن القرآن لم يكن في مصحف عند نزول هذه الآية، ولا في حياة رسول الله؛ وإنما جمع في المصحف في خلافة أبي بكر. وهذا، وإن جاز أن يكون اعتبار ما يأتي، فالظاهر أنه إخبار بالواقع حال الإخبار.
الوجه الرابع:وهو قوله تعالى:﴿فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ﴾. والمكنون: المصون المستور عن الأعين، الذي لا تناله أيدي البشر؛ كما قال تعالى:﴿كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ (الصافات: 49)
وهكذا قال السلف. قال الكلبي: مكنون من الشياطين. وقال مقاتل: مستور. وقال مجاهد: لا يصيبه تراب ولا غبار. وقال أبو إسحاق: مصون في السماء.
الوجه الخامس:أن وصفه بكونه مكنونًا، نظير وصفه بكونه محفوظًا. فقوله تعالى:﴿إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ*فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ؛ كقوله تعالى:﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ .
الوجه السادس:أن هذا أبلغ في الرد على المكذبين، وأبلغ في تعظيم القرآن من كون المصحف، لا يمسَّه محدث.
الوجه السابع:قوله تعالى:﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ﴾، بالرفع، فهذا خبر لفظًا ومعنى. ولو كان نهيًا، لكان مفتوحًا. ومن حمل الآية على النهي، احتاج إلى صرف الخبر عن ظاهره إلى معنى النهي. والأصل في الخبر، والنهي حملُ كلٍّ منهما على حقيقته. وليس- ههنا- موجب يوجب صرف الكلام عن الخبر إلى النهي.
الوجه الثامن:أنه قال:﴿إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ﴾، ولم يقل:﴿إِلَّا المُتَطَهِّرُونَ. ولو أراد به منع المحدث من مسِّه، لقال: إلا المتطهرون؛ كما قال تعالى:
﴿ِإنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾(البقرة: 222)
وفي الحديث:«اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين».
فالمتطهِّر فاعل التطهير. والمطهَّر الذي طهَّره غيرُه. فالمتوضئ متطهِّر، والملائكة مطهَّرون.
الوجه التاسع:أنه لو أريد به المصحف، الذي بأيدينا، لم يكن في الإخبار عن كونه مكنونًا كبيرُ فائدةٍ؛ إذ مجرد كون الكلام مكنونًا في كتاب، لا يستلزم ثبوته، فكيف يمدح القرآن بكونه مكنونًا في كتاب ؟ وهذا أمر مشترك، والآية إنما سيقت لبيان مدحه وتشريفه، وما اختص به من الخصائص، التي تدل على أنه منزل من عند الله، وأنه محفوظ مضمون، لا يصل إليه شيطان بوجه مَّا، ولا يمسُّ محلَّه إلا المطهَّرون، وهم السفرة الكرام البررة.
الوجه العاشر:ما رواه سعيد بن منصور في سننه:حدثنا أبو الأحوص، حدثنا عاصم الأحول عن أنس بن مالك في قوله:﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ﴾، قال: المطهرون: الملائكة. وهذا عند طائفة من أهل الحديث في حكم المرفوع.
وقال حرب في مسائله: سمعت إسحق في قوله:﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ﴾قال: النسخة التي في السماء، لا يمسها إلا المطهرون. قال: الملائكة .
وأنت إذا تأملت قوله تعالى:
﴿إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ*فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ*لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ
وجدت الآية من أظهر الأدلة على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذا القرآن جاء من عند الله، وأن الذي جاء به روح مطهر، فما للأرواح الخبيثة عليه سبيل، ووجدت الآية أخت قوله تعالى:
﴿ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ*وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ*إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ﴾
وثبت لك أن القرآن الموصوف بقوله تعالى:
﴿وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ ﴾، وقوله تعالى:﴿وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ﴾
ليس هو القرآن الكريم الموجود﴿ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ، والقرآن المجيد الموجود﴿ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ﴾؛ وإنما هو فرعمنه، وذاك أصل. والفرع مأخوذ من الأصل. وذلك الأصل هو المراد:﴿بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِفي قول الله جل وعلا:
﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾.
فإذا عرفت ذلك، تبين لك أنه ليس المراد بالمِثلية في هذه الآية ما فهمه علماء التفسير منها، وأنها ليست مثلية مفروضة على قول الأكثرين، أو غير مفروضة على قول من قال إن المراد بالمثل: كلام العرب، الذي هو من جنسه؛ بل المراد بها: أن للقرآن الكريم مِثلاً يماثله في تمام حقيقته وماهيته، وأن هذا المثل معلوم، وهو الذي أخبر الله تعالى أولاً بعجز الإنس والجن عن الإتيان به، ثم أخبر ثانيًا بعجز الخلق أجمعهم عن الإتيان بسورة منه في قوله تعالى:
﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾(البقرة: 23).
ولهذا فقد ذهب المفسرون بعيدًا حين زعموا أن المراد بهذه المثلية: مثلية في البلاغة، أو الفصاحة، أو حسن النظم.. أو أنها مثلية وحي وتنزيل كما زعم بعضهم، أو غير ذلك من الأقوال، التي لا تفسِّر أسلوبًا، ولا توضح معنى.
ولو كان المراد بهذه المثلية شيئًا مما ذكروا، لوجب أن يكون نظم الكلام هكذا:
﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَقُولُوا مِثْلَهَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَقولونَ مِثْلَهُ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾
كما حكي عنهم قولهم:
﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَهَـذَا إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (الأنفال: 31 )
فتأمل، وتدبر، واعتبر الأمور بأمثالها، تصب خيرًا، وتنطق صوابًا، إن شاء الله ، ولا يغرَّنَّك بالله الغَرور !!!
بقلم الأستاذ محمد إسماعيل عتوك
[email protected]
  #715  
قديم 27-06-2008, 08:56 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

الإعجاز البلاغي في استخدام الفعل المبني للمجهول




َتَأْلِيفُ د/ مُحَمَّد السَّيِّد مُوسَى
أستاذ البلاغة والأدب كلية الآداب- جامعة المنصورة
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي أشرف الأنبياء وسيد المرسلين سيدنا محمد وعلي آله وأصحابه والتابعين لهم بالإحسان إلي يوم الدين.
وبعد، فاٍن من أسرار البلاغة العربية وذوقها أن تساير الأساليب المختلفة وتتماشى مع المواقف والسياقات حسبما يتطلب المقام اللغوي والنفسي, " والبلاغة الحق – إضافة إلي كونها الكلام المكتوب أو المسموع, هي التي تقدر الظروف والمواقف, وتعطي كل ذي حق حقه, سواء أكانت شعرًا أم نثرًا, مقالا أم قصة, مسرحية أم حكاية, مديحا أم هجاء, غزلا أم استعطافا" [1]
والقرآن الكريم له نظمه العجيب وتركيبه الفريد الذي يأخذ بالألباب ويسوق إليه أعناق البيان " فكان من إعجاز القرآن أنه أقام أبنية من النظم الكلامي غير مستندة إلا علي ما بينها من تناسق هندسي, وتجاذب روحي، احكمه الحكيم العليم, وقدره اللطيف الخبير، في القرآن الكريم صور كثيرة من هذا النظم الذي يعتمد علي تجاذب الكلمات وتعانق الآيات, فيكون ذلك رباطها الذي يمسك بها ويشد بعضها إلي بعض في وثاقة وإحكام [2].
ومن المعلوم أن سياقات الكلام تختلف باختلاف المقام, فتختلف الألفاظ والجمل تبعا لذلك, وما يصلح من لفظ في سياق لا يصلح في غيره، ولا يؤدي نفس المعنى والدلالة.
وكذا الشأن في استدعاء النص للجملة الاسمية أوالفعلية التي تدل علي الحدث وتشتمل علي دلالتها وفاعلها الذي قد يحذف من الجملة لدواع يقتضيها المقام: " بعضها لفظي, كالرغبة في الاختصار في مثل: لما فاز السّباق كوفئ, أي كافأت الحكومة السّباق, مثلا، وكالمماثلة بين حركات الحروف الأخيرة في السجع, نحو: من حَسُن عملُه عُرف فضلُه، وكالضرورة الشعرية، وبعضها معنوي, كالجهل بالفاعل, وكالخوف منه, أوعليه وما يصلح لكل واحد من الثلاثة قولنا: قُتِلَ فلان, من غير ذكر اسم الفاعل وكإبهامه, أوتعظيمه بعدم ذكر اسمه علي الألسنة صيانة له, أوتحقيره بإهماله, وكعدم تعلق الغرض بذكره, حين يكون الغرض المهم هوالفعل، وكشيوعه ومعرفته في مثل: جُبلت النفوس علي حب من أحسن إليها، أي: جبلها الله وخلقها ".[3]
ومقامات الكلام وسياقاته هي التي تحمل دلالة تلك الأغراض السابقة التي تختلف من موضع لآخر, فليس الغرض متعلقا أو دالا من حيث لفظته المفردة, ولكنه يأتي من النظر في التركيب وتعلق الألفاظ ببعضها, وتفسير هذا كما يذكر عبد القاهر الجرجاني " أنه ليس إذا راقك التنكير في سؤدد " [4] من قوله: تنقل في خلقي سؤدد وفي دهر من قوله: فلو إذ بنا دهر [5]فانه يجب أن يروقك أبدا وفي كل شئ, ولا إذا استحسنت لفظ ما لم يسم فاعله في قوله وأنكر صاحب, {لم يقل: أنكرت صاحبا}, فإنه ينبغي أن لا تراه في مكان إلا أعطيته من استحسانك ههنا؛ بل ليس من فضل ومزية إلا بحسب الموضع, أو بحسب المعنى الذي تريد, والغرض الذي تؤم " [6] .
وقد تحدث البلاغيون القدامى عن الفعل الذي لم يسم فاعله ونظروا في دلالته ومواقعه المتباينة, وهي وإن كانت نظرات إشارية تعد بمثابة اللمحة الخاطفة لا التحليلية العميقة, إلا أنها تدل علي ذوقهم البلاغي وحسهم المرهف بمواقع الكلام وأدوات التعبير, وإذا " كانت التيارات الجديدة قد شغلت نفسها بتحليل أدوات اللغة بكل طاقاتها التأثيرية والاٍقناعية, وبكل مهامها الانفعالية, فاٍن المهمة نفسها قد شغلت البلاغة القديمة, وقد أفاد منها – بلا شك – الخطاب الأدبي التراثي, وسوف يفيد – بلا شك أيضا – الخطاب الأدبي الحديث"[7].
وإذا كانت نظرة النحاة والبلاغيين قد اشتركت في تعيين أغراض عدم تسمية الفاعل, من العلم به أوتعظيمه أوصيانته عن الابتذال والامتهان أو مناسبة الفواصل أو مناسبة ما تقدم, أوكما ذكر السيوطي من أغراض للاختصار أو التنبيه علي أن الزمان يتقاصر علي الإتيان بالمحذوف أوأن الاشتغال بذكره يفضي إلي تفويت المهم. [8]
فاٍنه ينبغي النظر إلي الروح السارية أوالحياة النابضة الآخذة بلب السياق؛ لأن السياق قد يحمل أكثر من غرض لعدم تسمية الفاعل, أويبرز غرضًا أساسيًا أو جوهريًّا حاملاً معه من الأغراض ما يتطلبه المعنى ويقتضيه المقام.
وقد نظر الزركشي إلي بناء الفعل طبع للمجهول في سياقه نظرة التناسب مع ما تقدم, وذلك في قوله تعالى: {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ}[التوبة86 – 87]
فصدر الآية الكريمة جاء بالبناء للمفعول أُنْزِلَتْ سُورَةٌ, فتناسق الختام مع البدء وجاء الفعل طبع مبنيا –أيضًا – للمجهول, وهذا بخلاف قوله تعالى ما بعدها: وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ, فاٍنه لم يقع قبلها ما يقتضي البناء, فجاءت على الأصل. [9]
فهذا الغرض وإن كان كذلك, إلا أنه ينبغي النظر إليه من ناحية أخرى, حيث استخدم هذا الفعل في مقام الذم وقدح الكافرين فقط, ولم يأت هذا الفعل مبنيا للمجهول إلا في موضعين فقط, وقد تمت الإشارة إلي ذلك في موضعها من البحث.
وقد وقف ابن الأثير مع هذه الروح السارية في النص, عندما وقف مع الالتفات في بناء الفعل للمفعول بعد خطاب فاعله أوتكلمه في قوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ, بعد أَنْعَمْتَ, ولم يقل غير الذين غضبت عليهم؛ لأن اسم المفعول مشتق من الفعل المبني للمجهول،.


فاعتبر ذلك عطفًا علي الأول؛ لأن الأول موضع التقرب من الله بذكر نعمه, فلما صار إلي ذكر الغضب جاء باللفظ منحرفا عن ذكر الغاضب, فأسند النعمة إليه لفظا, وزَوَي عنه لفظ الغضب تحننا ولطفا ".[10]
هذا وإن الفاعل عندما يحذف من الجملة فإنما ينوب عنه " في رَفْعِه وعُمْديته ووجوب التأخير عن فعله, واستحقاقه للاتصال به, وتأنيث الفعل؛ لتأنيثه واحدٌ من أربعة: الأول: المفعول به نحو: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود44].
والثاني المجرور نحو: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف149], والثالث: مصدر مختص, نحو: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}[الحاقة13], والرابع: ظرف متصرف مختص, نحو: صيم رمضان, وجُلس أمام الأمير.[11]
البِنَاءُ لِلْمَجْهُولِ وَالتَّصْوِيرِ
يقصد بالتصوير هنا ما يقوم به الفعل المبنى للمجهول من تصوير لأحداث المشهد الغيبي الذى غابت دقائقه عن المتلقى أو خفى عن ذهنه وخياله.
أَوَّلاً: المشَاهِدُ الغَيْبِيَّةُ
تعمل الأساليب القرآنية في المشاهد الغيبية عملا حيا يساعد نفس الملتقي علي تلقي كينونة المشهد بمعناه العميق؛ ليتدارك خياله ما قصرت عنه حواسه المادية, فتتغاير الأفعال والجمل بتغاير الأحداث والوقائع والأشخاص، فنجد فعلا بعينه يدور في المواضع الكثيرة مبينا للمعلوم ليقرر الحقيقة دامغة واقعة شاخصة للعيان, لا جدال فيها ولا مراء, وذلك كالفعل رزق مثلا الذي جاء معلوما في كل المواضع القرآنية إلا أربعة مواضع, كقوله تعالى: {أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل 64].
وكقوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة 16].
وقد تغاير هذا الفعل من المعلوم إلي البناء للمفعول؛ لحكمة يقتضيها السياق كما في قوله تعالى: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ} [البقرة25]
رُزِقُو هنا بمعنى: أطعموا, قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ أي: أطعمنا من قبل.1
وهذه اللوحة من مشاهد الجنة الغيبية, فلا تعلم حقيقة الرزق فيها، ولا حقيقة الإتيان وَأُتُو, فيضم المشهد حدث الفعل من الرزق مع المتمتع به, وكذا الإتيان مع المنتفعين به، وفي بناء الفعل للمفعول رُزِقُوا - رِزْقاً - وَأُتُوا دلائل أخرى وهي أن هذا الرزق يأتيهم دون جهد أوعناء أوبحث أوشقاء, وقد شاع في جو الآية جرس موسيقي أحدث إيقاعا متناغما من تكرار الرزق: رُزِقُوا - رِزْقاً - رُزِقْنَا، الوارد في سياق النكرة المفيدة للعموم من ثمرة رزق.
ومثله ما جاء في سياق مشهد الآخرة الغيبي وهو من مشاهد الجنة في قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر40].
وقد جاء فعل الرزق مبنيا لمفعوله في موضع ثالث من قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون َ} [آل عمران169].
فهي حياة خاصة مغايرة للحياة المعهودة, ولذلك خصصها بقوله عِنْدَ رَبِّهِمْ وبني الفعل يُرْزَقُون للمفعول؛ إشارة لاختلاف هذه الحياة، وأنها من نوع خاص يجري الرزق عليهم ويأتي إليهم, كما يجري الرزق لأهل الدنيا، فهي إذا قد وردت قي سياق المشهد الغيبي من حياة الدار الآخرة.
وقد جاء فعل الرزق مبينا لمفعوله في موضع رابع من قوله تعالى: {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}[يوسف37].
طعام ما على العموم والشمول كما دلت النكرة في سياق النفي, وقد زاد ذلك في إبراز إعجاز الموقف الغيبي الذي تطلب بناء الفعل تُرْزَقَانِهِ للمفعول, وذلك أن يوسف عليه السلام " وصف نفسه بما هو فوق علم العلماء, وهوالإخبار بالغيب, وانه ينبئهما – وهما الفتيان اللذان دخلا معه السجن – بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قبل أن يأتيهما ويصفه لهما, ويقول: اليوم يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت, فيجدانه كما أخبرهما".[12] وفي سياق الحديث عن الجنة والنار وهي من مشاهد القيامة الغيبية الخفية، مجهولة العالم أوالواقع الملموس؛ جاء التعبير عنها بالفعل المبني لمفعوله, وذلك معرض ذكر الجنة مقابل ذكر النار, وذلك في قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِين َ} [البقرة24].
وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}[آل عمران 131].
وقوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران133].
وقوله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُوالْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد21].
فلفظ الإعداد هنا بمعناه اللغوي الموحي بالمتانة والإتقان, وبما لحق اللفظ من تضعيف وبناء للمفعول, يعمل علي إحضار المشهد " ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة، أوالحركة المتجددة, فإذا المعني الذهني هيئة أوحركة، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج الإنساني شاخص حي, وإذا الطبيعة البشرية مجسمة مرئية ".[13]
وقد جاء الفعل نفسه مبينا للمعلوم عند الحديث عن اسم أوصفة أومعنى من معاني الجنة والنار أو كالأجر والعذاب والسعير وجهنم, كقوله تعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم ُ} [التوبة89], فهي جنان ودرجات داخل الجنة التي أعلاها الفردوس الأعلى.
{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيمًا} [الأحزاب35].
{إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا} [الأحزاب64].
فالسعير اسم من أسماء النار ومن دركاتها
{وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [الفتح6] وجهنم –عياذا بالله – من دركات النار, ومنها الدرك الأسفل, كما في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا} [النساء145].
فيتضح مما سبق أن لفظ أَعَدَّ بصيغة البناء للمفعول لم ترد إلا في معرض الحديث عن الجنة والنار باسمها العام الذي يمثل الإطار العام للجنة والنار.
وفي سياق الحديث عن الجنة جاء الفعل يُطَافُ مبنيا للمجهول مرة، ومبنيا للمعلوم مرة أخرى, يقول تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا} [الإنسان15], ويقول جل شأنه: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُورًا} [الإنسان19].
فهذه المغايرة من المجهول إلي المعلوم لحكمة اقتضاها السياق, وتدخلت الصيغة اللغوية لتصوير المشهد, فالطواف في كلا المشهدين خاص بأهل النعيم من الجنة عَلَيْهِمْ ولكن " ذكر الأول بلفظ مجهول لأن المقصود ما يطاف به لا الطائفون, ولهذا قال: {بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ} ثم ذكر الطائفين فقال: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ}. [14]
وفي مجال العلم جاء الفعل علم في القرآن الكريم معلوما؛ ليظهر حقيقة الفاعل في وضوح وجلاء, ويتسلط الضوء عليه ويبرز الاهتمام به, كقوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد17], فالبشر واوالجماعة في اعْلَمُو هم المعنيون بالعلم؛ ليصل بهم إلي الإيمان والتوحيد.
وقوله جل شأنه: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَونَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف21]، فيظهر فاعل العلم – سبحانه وتعالى – ليتحقق جانب النبوة عند يوسف عليه السلام وبعثته لقومه.
وقد جاء الفعل علم مبينا لمفعوله في أربعة مواضع لحكمة اقتضاها السياق في تقريب المعني الخفي وحقيقته التي توارت خلف الستار، يقول تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}[الأنعام91] فالأفعال الواردة في هذه الآية كلها جاءت مبنية للمعلوم وَمَا قَدَرُوا - مَا أَنْزَل َ- أَنْزَلَ - تَجْعَلُونَهُ – تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ، وجاء هذا الفعل عُلِّمْتُمْ وحيدًا فريدًا مبينًا لمفعوله في وسط هذا المشهد المعلوم, ولعل ذلك يشير إلي حكمة بليغة وهي لفت الذهن إلي مصدر هذا العلم, وهومصدر غيبي خفي عن الأبصار وماديات الحياة الدنيا المتعارف عليها, فهومن عند الله تعالى, " والخطاب لليهود, أي علمتم علي لسان محمد "صلى الله عليه وسلم" مما أوحي إليه ما لم تعلموا أنتم, وأنتم حملة التوراة, ولم تعلمه آباؤكم الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم, {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}النمل:76, وقبل الخطاب لمن آمن من قريش ".[15]
وفي مجال هذا العلم الخفي, غير المتاح لكل أحد, وإنما هوعلم غيبي يصدر عن المولي عز وجل, جاء فعل العلم مبينا لمفعوله في موضع ثان من قوله تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف66], وهنا يطلب بني موسي عليه السلام من هذا العبد الصالح أن يتبعه ليتعلم من علمه الذي علمه إياه, وهذا توجيه من الله – تعالى- لموسى أن يفعل ذلك ويتبع هذا العبد الصالح, بعد أن سئل موسي عليه السلام, كما أوردت كتب التفاسير, هل في الأرض من هو أعلم منك؟ فقال: لا.
واستعملت عَلَى في قوله تعالى: {عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} استعمال أدوات الشرط, فكان معني الكلام معها: هل أتبعك بشرط أن تعلمني؛ فإن لم تعلمني لا أتبعك, ووجه دلالة على هنا على الشرط بعض الأئمة بأن معناها العام هوالإلزام، ومعني الشرط الإلزام فبين المعنيين تناسب من هذه الجهة، وهي دلالة عَلَى على الشرط حقيقة أومجاز؟ خلاف غير متكافئ والأصح أنه مجاز " [16] .
والموضع الثالث في قوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوالْفَضْلُ الْمُبِينُ} [النمل16].
لم يقل علمن أوأتانا كل شئ , وإنما جاءت الصيغتان بالبناء للمفعول, وحذف لفظ الفاعل للعلم به, كما هو متبادر في مثل هذه السياقات، فالذي علمه هذا العلم الغيبي الخفي, وآتاه من كل شئ هو الله تعالى – فهذا من " التمكين العظيم, حتى اٍنه سخر له الإنس والجن والطير, وكان يعرف لغة الطير والحيوان – أيضا -, وهذا شئ لم يعطه أحد من البشر – فيما علمناه – مما أخبر الله به ورسوله " [17] .
وهذه المواقف التعجيزية التي تظهر فيها الخصوصية للموقف والمشهد وصاحبه, تستلزم سياقا خاصا ونسيجا لغويا له دلالته, ولذلك جاءت تتمة المشهد بفعلين مبنيين للمفعول: يقول تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل17], فهذا التسخير في حُشِرَ - يُوزَعُونَ لا ينبغي لأحد من البشر سوى نبِيّ الله سليمان عليه السلام وهو تسخير يأتيه من قبل الله عز وجل لا طاقة له به, فهوقوة غيبية مصدرها المباشر من الله تعالى.
ويمثل الموضع الرابع للفعل المبني للمفعول مشهدا غيبيا من نوع آخر، اٍنه يمثل القيمة الأخلاقية التي تمثل الصفات والطهر في النفس والمجتمع المحيط.
يقول تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوآبَائِهِنَّ أَوآبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوأَبْنَائِهِنَّ أَوأَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوإِخْوَانِهِنَّ أَوبَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوبَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَونِسَائِهِنَّ أَومَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوالتَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوالطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور31].
فهذه الآية الكريمة حملت العديد من الأفعال, وهي كلها مبنية للمعلوم إلا هذا الموضع لِيُعْلَمَ والشئ الخفي أو الواجب هو إخفاؤه هو زينة المرأة التي يجب عليها أن تخفيها إلا ما جاء به الاستثناء في الآية الكريمة لاثني عشر شخصًا.
ولعل السر في كون هذا الوضع الوحيد في الآية كلها فعلا مبنيا للمجهول, هوتعلقه بالسماع ومخاطبة حاسة الأذن, فيهتز القلب تطلعا لهذه الزينة الصادرة عن ضرب المرأة للأرض برجلها وما تلبسه من خلخال أوما يقوم بمهمته ودوره بتطوير الأزمان والأحوال، يؤيد ذلك ما قاله الزجاج: " سماع هذه الزينة أشد تحريكا للشهوة من إبدائها ".[18]
وقد جاء الفعل مبينا لمفعوله لتصوير المشهد بوقائعه غير المرئية وإبراز عنصر الخفاء وأثره الانفعالي على من واجهه, يقول تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ َياُ موسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [النمل8 -10]
وقوله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} [القصص:30-31].
وباستقراء هذه الأفعال التي تأتي مبنية للمجهول نجدها تأتي – أيضا – في مشاهد القيامة, وهما من مشاهد الغيب البعيدة عن الملموس المادي, فهويمثل المشهد بخفاياه ودقائقه, ويعمل علي إبراز فخامته أورهبته، يقول تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [النحل111]
فيتحضر الذهن مشهد الوفاء توفي ولم تأت تسمية الفاعل للعلم به, ولينصَبَّ الاهتمام علي مشهد وفاء الأعمال بهيبته ورهبته, وقد زاد من رهبة المشهد مجئ صدر الآية الكريمة بكلمة يَوْمَ نكرة؛ لتؤدي دورها الحيوي في إبراز الموقف الخفي عن الأبصار, لتظهر الأشخاص في مشهد جلي, لا يهتم كل شخص إلا بنفسه، " فكل نفس لا يشغلها إلا نفسها, وقد جاءت منفردة, وهي في وسط هذا الخضم من المحشورين لا تحس بشيء إلا بذاتها, فهي تجادل عن نفسها, تدافع أو تحاول الدفاع, وتروم الخلاص, ولا مجال هناك للخلاص ".[19]
وفي مشهد آخر يتم تصوير دهس المعرضين المنكرين, ويظهر مدي ندمهم, كما لو كان دهسوا وسووا الأرض لكان أهون عليهم من هذا الإعراض, يقول تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوتُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} [النساء41 – 42].
فتصدير المشهد بالاستفهام عن الحال كَيْفَ فيه إبراز لجو الفزع والرعب, وإيحاء بنوعية العذاب الهائل الذي لا يوصف, ولذلك جاء التعبير بالفعل يَوَدُّ ليكشف عن مكنون القلب واعتمال الحالة النفسية فيما لو كانت الأرض قد سويت لهم، وصاروا جزءًا منها, فيبدو المشهد بحركة المجئ جِئْنَا مِنْ كُلِّ، جِئْنَا بِكَ وإبراز المعاناة النفسية التي تصير فيها تسوية الأرض بهم إلي حد الأمنية الغالية والمودة الغائبة, فيتمنون الدهس والتسوية تُسَوَّى بالبناء للمجهول لدلالة رغبتهم في دهسهم وتسويتهم بالأرض من أية جهة وبأية طريقة " منطقة الخاص وطريقته المميزة في التعبير عن موضوعاته, فقد التفت القرآن عن مخاطبة الذهن البشري إلي مخاطبة الحس والوجدان, وذلك بمنطق التصوير لا التقرير, ولمنطق التصوير وسيلته التي ميزت أسلوب تناول القرآن لمختلف الموضوعات الإلهية التشريعية والعقائدية والتعبير عنها ".[20]
وفي موضع آخر من القران الكريم يأتي الفعل الذي لم يسم فاعله؛ ليؤدي دورا بليغا في سياق المشهد الغيبي من ساحة العرض والحساب.. يقول تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً} [طه102- 103].
فالغرض يتعلق بعلاقة الحدث يُنْفَخُ ووقعه وأثره في الصور لتقع الأهوال, ولا مجال لظهور الفاعل في المشهد حتى لا يشغل حيزا أو مساحة يحتاجها المشهد بجزئياته وخطوطه، ويَوْمَ نكرة للتهويل، وهو" منصوب بإضمار اذكر، ويجوز أن يكون ظرف المضمر حذف للإيذان بضيق العبارة عن حصره وبيانه أو بدلا من يوم القيامة أو بيانا له أو ظرفا ليتخافتون وقرأ أبوعمرو وابن محيصن ننفخ بنون العظمة على إسناد الفعل إلى الأمر به وهوالله – سبحانه وتعالى – تعظيما للنفخ, لأن ما يصدر من العظيم عظيم "[21]
ويقول تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون101].
وقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر68]
وقوله تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} [النبأ18].
فهذه أربعة مواضع من مجموع اثني عشر موضعا للفعل نُفِخَ - يُنْفَخُ هي كل ما جاء في القرآن الكريم في مشاهد القيامة الغيبية, وقد غاب لفظ الفاعل لعدم تعلق الغرض به مثل إبراز الفاعل؛ ليتسلط الضوء على الناس وهم يأتون أفواجا, ولكن في نُفِخَ انْصَبَّ الاهتمام على إبراز الحدث بهوله وشدة صوته التي تكاد تسمعها الآذان, ومن الثابت علميا أن الصوت إذا علا وارتفع كان سببا في إصابة الإنسان بالتوتر العصبي وسرعة الغضب والانفعال, فإذا زاد على حده إلى درجة لم يعد يتحملها الإنسان, أصيب بالصمم, فإذا ظل في الارتفاع خرَّ ميتًا! فالسمع له حدود " فلا تدرك الأذن من الأصوات إلا ما كانت ذبذباته في المدى المسمى بالموجات الصوتية, بينما لا تشعر بموجات اللاسلكي ولا الموجات فوق الصوتية, وحساسية الأذن أيضا محدودة لشدة الصوت, فلا تميز الأصوات لوقلت شدتها عن 10120 وات/م2 بداية مقياس الديسيبل, ولا تتحمل الأصوات التي تزيد شدتها عن 200 ديسيبل, ولو زادت لصعق الإنسان ومات على الفور " [22]
ومن إعجاز القرآن الكريم إثبات تلك الحقيقة قرآنا يتلى منذ أكثر من أربعة عشر قرنا, بل تنقلب تلك الصاعقة المميتة إلى ضدها, فتتحول تلك النفخة التي أفنت الخلائق, إلي نفخة بعث وحياة!.
قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر68], ثُمَّ أدت إلى معنى التراخي الزمني بين النفختين, وقوله تعالى: أُخْرَى دل على أن النفخ في الصور نفختان، ويحدث التحول السريع المفاجئ عقب إرسال النفخ إلى الموتى؛ إلى القيام والنظر كما دلت إِذَ الفجائية.
يتبــــــــــــــــــع
  #716  
قديم 27-06-2008, 09:02 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبــع موضوع .... الإعجاز البلاغي في استخدام الفعل المبني للمجهول

أما مشاهد المادة أو الواقع الملموس أو المحسوس, فاٍن الفعل نُفِخَ لم يأت إلا مبنيا للمعلوم, مثل قوله تعالى: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة9].
وقوله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم12].
وقوله تعالى: { َرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران49].
وقوله تعالى: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} [الكهف96].
فالنفخ من روح الله لخلق آدم أو عيسي عليه السلام واقع بشري ملموس, تلمسه البشرية منذ آدم عليه السلام إلي يوم القيامة؛ ليعيش الإنسان بروح الله دون أن يدري لها سرًّا غير أن فاعلها – جل شأنه – متعين بالقدرة والوحدانية, ولذلك جاءت الجملة اللغوية ناصعة التحديد في إبراز الفاعل، وفي آية آل عمران والكهف نجد مشهد عيسي بن مريم – عليه السلام – وذي القرنين يفتقران إلى وجود الفاعل وإبرازه محددا؛ لتجنب اللبس والغموض الذي يؤدي إلى فساد المعنى واختلاط شخوص المشهد.
وقوله تعالى في مشهد القيامة: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الْأِنْسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة 1-6].
فالزلزلة مشهد خفي غيبي, وقد جاءت في سياق بث الفزع والرجفة النفسية والتصدع القبلي، ولم يأت في هذه السورة الكريمة فعل مبني للمجهول إلا زُلْزِلَتِ - لِيُرَوْ فهذا الانقلاب الكوني يمثل الوجه الآخر للمشهد وهو مجسد في رؤية الأعمال التي من أجلها انقلاب هذا الكون واختل نظامه، وإذا كانت إذ للوقت, ومع ذلك قد صدرت بها السورة, فهي بمثابة الإجابة عن سؤال: " متي الساعة فقال: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} كأنه تعالى قال: لا سبيل إلى تعيينه بحسب وقته ولكن أعينه بحسب علاماته، إن الله تعالى أراد أن يخبر المكلف أن الأرض تحدث وتشهد يوم القيامة مع أنها في هذه الساعة جماد, فكأنه قيل: متي يكون ذلك؟ فقال: إذا زلزلت الأرض. [23]
وفي مشهد من مشاهد القيامة في سورة التكوير" الذي قال فيها رسول الله صلي الله عليه وسلم: من سره أن ينظر إلي يوم قيامة كأنه رأي عين فليقرأ: " إذا الشمس كورت " و" إذا السماء انفطرت " و" إذا السماء انشقت " " [24] . قال تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَت وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَت وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْوَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَت عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ}[التكوير1 – 14].
فالمشهد هنا زاخر بالحركة العنيفة المنفلتة من سياقها ونظامها التي كانت تسير في فلكه منذ أمد بعيد, اٍنه " مشهد انقلاب تام لكل معهود, وثورة شاملة لكل موجود تشترك في الانقلاب والثورة الأجرام السماوية والأرضية, والوحوش النافرة, والدواجن الأليفة, أو نفوس البشر, وأوضاع الأمور، ويبدأ المشهد بحركة جائحة, وثورة ثائرة, وكأنما انطلقت من عقالها المردة المدمرة, فراحت تقلب كل شئ، وتنثر كل شئ، تهييج الساكن, وترويع الآمن، والموسيقى المصاحبة للمشهد سريعة الحركة, لاهثة الإيقاع, تشترك بإيقاعها السريع في تصوير المشهد وتمثيله في الإحساس " [25] .
وقد مثل الفعل الذي لم يسم فاعله دورا بارزا في تصوير الحركة المجهولة في طي الزمان, فالمشهد بدأ بفك الكون وتدميره من أعلى إلى أسفل، بالكائنات غير العاقلة: الشمس, النجوم, الجبال, العشار, الوحوش, البحار, ثم الكائنات العاقلة من النفوس والمؤودة, ثم رجوعها مره أخرى إلى الصحف التي تنشر والسماء التي تكشط, وذلك من الكائنات غير العاقلة؛ ليعود المشهد إلى مظاهره أو كائناته العليا كما بدأ, وكأنه مشهد يكور في دائرة انقلاب وانفلات للنظام في سرعة فجائية صارمة مثلها البدء ب: إِذَ للزمان المفاجئ, ثم تكرارها مع كل حدث مدمر، ومن الملاحظ أن كلمة البحار بالجمع لم تستخدم في القرآن الكريم إلا للحديث عن يوم القيامة، يقول تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير6]. {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} [الانفطار3].
ونلاحظ تسلسل الآيتين في القرآن يتناسب مع المفهوم العلمي:
فأولا: يكون الاشتعال ثم الانفجار وليس العكس, فجاء تسلسل الآيتين أولا سُجِّرَتْ وثانيا فُجِّرَتْ, وهذا مطابق للحقائق العلمية الحديثة. [26]
وإذا نظرنا إلي هذا المشهد بكائناته وجزئياته, نجد أن التعبير بالفعل الذي لم يسم فاعله هو الأسلوب السائر في كل المشهد عدا جزئية واحدة فقط هي صورة انصباب النجوم وتنافرها وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَت وقد جاء التعبير عن هذا المشهد بالفعل المبني للمعلوم! ولعل السر في ذلك أن النجوم في مراحل انكدارها تمر بمراحل من الميلاد والشباب والشيخوخة قبل أن تنفجر أو تتكدس على ذاتها فتطمس طمسا كاملا: النجوم الابتدائية ثم العادية ثم العماليق الحمر ثم السدم الكوكبية ثم الأقزام البيض ثم فوق مستعر من الطراز الأول ثم الثاني ثم النجوم النيترونية النابضة وغير النابضة والثقوب السوداء والنجوم المفردة والمزدوجة والمتعددة، والنجوم أفران كونية يتم في داخلها سلاسل من التفاعلات النووية التي تعرف باسم عملية الاندماج النووي. [27]
فيتضح مما سبق أن النجوم تنفرد بخاصية هائلة من طبيعة التكوين والتكون والانتشار والانشطار والانفجار, فلها طبيعتها الكونية التي لا تماثلها طبيعة كونية أخرى فيما عرف من الوجود, وقد أثبت العلم حديثا أن النجوم علي انتشارها الهائل في السماء تشتمل علي درجة حرارة عالية بدرجة مذهلة, وتنقسم تبعا لذلك إلى " نجوم حمراء أقلها حرارة 3200 درجة مطلقة – نجوم برتقالية – نجوم صفراء – نجوم بيضاء مائلة إلي الزرقة – نجوم زرقاء أشدها حرارة 300 ألف درجة مطلقة – الشمس من النجوم الصفراء متوسطة الحرارة, إذ تبلغ درجة حرارة سطحها حوالي ستة آلاف درجة مطلقة ."[28]
ثَانِيًا: المشَاهِدُ الخَفِيَّةُ
يجسد الفعل الذي لم يسم فاعله أجزاء المشهد الذي نري فيه موسي عليه السلام يفاجأ بالنداء الذي يأتيه من حيث لا يدري ولا يحتسب فنراه وقد اعترته الدهشة وهول المفاجأة وأخذ يتلفت هنا وهناك؛ ليقف على حقيقة الصوت يقول تعالى:{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى} [طه11]
{فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل8]
{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص30]
وقد تغاير الفعل من أَتَاهَ إلي جَاءَهَ, لأن"أتي" و"جاء" بمعني واحد, لكن لكثرة دور أن لفظ الإتيان في طه نحو: " فأتياه", " فلنأتينك", " ثم أتي"," ثم أتُوا صَفًّا "، " حيث أتي ", كان لفظ أتاه به أليق, ولفظ " جاء " في النمل أكثر نحو: " فلما جاءتهم ", " وجئتك من سبإ ", "فلما جاء سليمان ", كان لفظ جاءه به أليق, وألحق القصص ب: " طه " لقرب ما بينهما – أي القرب اللفظي في هذا الموضع [29]
البِنَاءُ لِلْمَجْهُولِ وَإِفَادَةِ العُمُومِ
يتسم الأسلوب القرآني الكريم – فيما يتسم – بالمرونة والاتساق مع المشاهد واللوحات النابضة بحياة الموقف, حتى إننا لنجد الكلمة بذاتها تأتي في عدة سياقات ولها دلالة مختلفة في كل سياق بحسب ما يقتضيه المعني ويتطلبه المقام, وكلما ازداد الزمان عمرا, وبلغ الدهر شأوا وغاية انبثقت أساليب القرآن وكلماته؛ لتشع بضوئها ونورها؛ لتنطلق كائنات الوجود من جديد بمراميه و دلالته, " وما أشبه القرآن الكريم في تركيب إعجازه, وإعجاز تركيبه بصورة كلامية من نظام هذا الكون الذي اكتنفه العلماء من كل جهة, وتعاوروه من كل ناحية, وأخلقوا جوانبه بحثا وتفتيشا, ثم هو بعد لا يزال عندهم على كل ذلك خلقا جديدا, ومراما بعيدا, وصعبا شديدا "[30].
والفعل الذي لم يسم فاعله قد جاء في مواضع كثيرة من القرآن ليدل علي دلالة معينة في كل سياق حسب اقتضاء المعنى الذي ما كان ليبرز في جلاء أو رسم واضح إذا جاء الفعل مبنيا للمعلوم، ومن تلك السياقات المفيدة للعموم ما قام فيه ذلك الفعل الذي لم يسم فاعله بدور بارز في إفادة ذلك المعنى، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوضَعِيفاً أَولا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوفَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوكَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة282]
نهي عن التقاعس عن الدعوة وتلبيها للإدلاء بالشهادة أيا كان الداعي إليها والحق المطلوب إثباته سواء كان الداعي من القريب أوالصديق أو غيرهما ممن لا تربطه بالشهيد رابطة ما, ويقول تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور51], فالدعوة إلي الله ورسوله عامة, لا تختص بشخص دون شخص, ولا زمان أو مكان دون غيرهما, وإنما يجب الإذعان لله ورسوله وسرعة التلبية، وتصدير الآية بأسلوب القصر إنم والفعل الماضي كان فيه مدح للمؤمنين وإثارة لحمية الإيمان وبعث حفيظته في نفوسهم.
ويقول تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُويُدْعَى إِلَى الْأِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الصف7], أي: لا أحد أظلم ممن يفتري الكذب علي الله, ويجعل له أندادا وشركاء, وهو يدعى التوحيد والإخلاص[31] أيا كان الداعي, وأينما كان؛ ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة9] فهنا خصوصية المنادي عليهم, وهم المؤمنون، وعمومية المنادي أيا كان المنادي, وخصوصية النداء المقيدة ب: الصلاة, فهو نداء محصور فيها، والفعل نودي مقيدة بالشرط إذ, وهي أداة نقلت الفعل من الماضي إلي المستقبل المطلق المقطوع بحدوثه كما دلت إذ، ولهذا جاء التعبير بها دون أن الشرطية التي لا تفيد القطع بوقوع الحدث.
هذا ولوُرُودِ الدعاء والنداء خاصية في القرآن الكريم, فالدعاء في الآيات السابقة بمعنى الدعوة إلي خير كالإدلاء بشهادة أو الدعوة إلى الله عز وجل والنداء يشتمل على البهجة والسرور, كما " أن للنداء في لغة القران خاصية؛ رشحته لأن يكون الله فاعلا له – بلا حرج – كما رشحته ليكون عنوان على طلب الإقبال على الصلاة الآذان, وأن يكون عنوان على طلب الإقبال على الإيمان.
في كل من الدعاء والنداء خير, بيد أن الخير في النداء أخلص وأصغى, وأظهر تفاؤلا, وأنقى معنى " [32] .
وفي مادة ظلم جاء الفعل المبني لمفعوله بصيغه الماضي والمضارع؛ لإفادة العموم –أيضا– يقول تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً}[النساء148].
فإطلاق الظلم دون تحديد يعني عمومه لأنواع الظلم، وهذا الاستثناء في الآية لكريمة له دلالة خاصة على إظهار بغض الله – تعالى – للظلم وصاحبه, لدرجة أنه أباح الجهر بالسوء للقضاء على الظلم، وقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء47].
فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئ فجو الآية كلها يوحي بالعموم والشمول, عموم النفي للظلم, أوعموم الظلم المنفي الشامل لكل نفس من النفوس, في شيء ما من الأشياء، والتعبير بالجمع الْمَوَازِينَ والمصدر الْقِسْطَ للدلالة على تناهي العدل المطلق.

يتبــــــــــع
  #717  
قديم 27-06-2008, 09:05 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبــع موضوع .... الإعجاز البلاغي في استخدام الفعل المبني للمجهول

قوله تعالى: { َأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الزمر69] فهذا المشهد يزخر بالحركة المهيبة أو يبعث في النفس جوًّا من الجلال والإشراق، إشراق الحق والعدل.
فالأرض كلها تشرق فتظهر مضيئة بنور ربها وخالقها أي: بعدل ربها, أوبحكم ربها, والمعنى: أن الأرض أضاءت وأنارت بما أقامه الله من العدل بين أهلها، وقيل: أن الله يخلق نورا يوم القيامة يلبسه وجه الأرض فتشرق به غير نور الشمس والقمر، ولا مانع من الحمل على المعنى الحقيقي[33], ولإبراز صورة الأرض رأي عين, جاء لفظ الإشراق في وعاء الفعل المبني للمعلوم، ثم تغايرت الأفعال وجاءت غير مسماة الفاعل ووضع – وجئ – وقضي – لا يظلمون فينصرف الذهن وتشخص الأبصار إلي أجزاء المشهد, فيتسلط الضوء علي وضع الكتاب وهو كتاب الأعمال – وتمثل صورة النبيين والشهداء من الملائكة الحفظة على أعمال العباد من خير وشر[34]، أو الذين يشهدون على الأمم من أمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم [35]، نهاية المطاف وخاتمة مشهد أهل الجزاء والإحسان لهذه الفئة؛ ليتسلط الضوء علي ذلك القضاء أو الوفاء, ولذلك بني الفعل لما لم يسم فاعله وقضى لينفي عنهم الظلم علي إطلاقه أو في جنس من أجناسه وأشكاله.
وفي مادة عف ورد هذا الفعل كثيرا في القرآن الكريم بصيغة الماضي والمضارع المجرد والمسند للضمير, ولكنه لم يرد بصيغة المبني للمجهول إلا في موضع واحد فقط، وذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة178] فليس المقصود أو الغرض ذكر فاعل العفو, بل هو على إطلاقه, أيا كان، والعفو: القصد لتناول الشئ, يقال عفاه واعتفاه, أي: قصده متناولا ما عنده، وعفوت عنه قصدت إزالة ذنبه صارفا عنه, فالمفعول في الحقيقة متروك, وعن متعلق بمضمر, فالعفو هو التجافي عن الذنب[36] .
ومن ذلك العموم قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [لأنفال2] فليس الغرض متعلقا بمن ذكر الله اوالشخص الذي تلا آيات الله بل هوعلي إطلاقه أيا كان ذلك الشخص وإنما يتسلط الضوء علي الذكر نفسه وعلي التلاوة نفسها وما تحدثه من خشية وإيمان.
البِنَاءُ لِلْمَجْهُولِ فِي مَقَامَي الإِنْكَارِ وَالإِيمَانِ
تختلف الكلمات المختارة وتتغير حسب مقامات الكلام وسياقاته، وما بالنا إذا كانت تلك السياقات هي سياقات القرآن الكريم التي تحمل المشاهد والدلالات، فيلقي القارئ أوالسامع آيات الله – تعالى – تتلى عليه بمعنى تألفه نفسه, وكلمات يعرفها ويرددها في قوله, ولكن تبقى الروح التي تسري في الجسد من أجل أن تهبه الحياة والحركة الباعثة.
وعندما حدثنا الله عز وجل عن هؤلاء المعرضين والمنكرين خاطبنا بكلمات لها جرسها وإيقاعها ونغمها اللائق في النفس, فجاء الفعل المبني للمجهول يمثل حالة الإنكار وعدم الاعتراف التي يعيشها هؤلاء الكافرون وينغمسون بها في عالم الطي والكتمان، يقول تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[التوبة16]
{أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ}[الشعراء146]
{أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً}[القيامة36]
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ}[العنكبوت2]
ورد الفعل ترك في القرآن الكريم كثيرا, ولكنه جاء مبينا للمعلوم في الماضي والمضارع, مسندا للضمير أو مجردا, أو باسم الفاعل للمفرد أو الجمع، ولكنه ما جاء بصيغة الفعل الذي لم يسم فاعله إلا في هذه الآيات السابقة, وكلها بصيغه المضارع, التي جاءت كلها في سياق الاستفهام المفيد للإنكار والتوبيخ، فهو إنكار وعتاب للمؤمنين – كما في آية التوبة – الذين توهموا أن يتركهم الله – تعالى – دون اختبار؛ حتى يتبين الخلص منهم،" وهم الذين جاهدوا في سبيل الله لوجه الله, ولم يتخذوا وليجة – أي بطانة – يضادون الرسول والمؤمنين رضوان الله عليهم, ولم معناها التوقع, وقد دلت على أن تبين ذلك, وإيضاحه متوقع كائن "[37]
وفي آية الشعراء إنكار من نبي الله صالح عليه السلام لثمود وقومه الذين أعرضوا عن دعوته وقد غرتهم الدنيا وفتنتهم بملذاتها ومادياتها, وفي قوله تعالى: في ما ها هن " كناية عن قرية صالح عليه السلام، والسر في إيثار اسم الإشارة ها هن لفت أنظارهم لفتا قويا لمظاهر النعم التي كانوا غارقين فيها، آمنين حال من نائب الفاعل – واو الجماعة وهو قسيم الترك في الإنكار, إذ ليس ما سلط عليه الإنكار هو الترك وحده, بل الترك المقرون بالأمن من كل المخاوف ".[38]
وفي آية العنكبوت إنكار علي من توهم من المؤمنين أنه يترك دون امتحان واختبار لمجرد أنه نطق بالشهادة، وفي قوله تعالى: أحسب الناس إيثار الماضي " لأن حسبان الذي سلط عليه الإنكار واقع متحقق, وإيثار حسب على ظن في هذه المواضع هو المناسب بلاغة في مقام الإنكار؛ لأن الحسبان أقوى من الظن, فالنفس مع الحسبان في اطمئنان, ومع الظن في قلق، وفي الناس مجاز مرسل؛ حيث أطلق العام المنتظم لجميع أفراد الناس, ثم أريد الخاص، وهم الذين حسبوا هذا الحسبان من المؤمنين ".[39]
وفي آية الإنسان يأتي الإنكار على من توهم أن يترك سدي, أي: لا يبعث[40]، والمقصود هنا إثبات المعاد, والرد على من أنكره من أهل الزيغ والجهل والعناد. [41]
تبين مما سبق أن الفعل يترك جاء بصيغة المبني للمجهول؛ لأنه في موضع التوبيخ والإنكار, فيتطلب الذوق البلاغي ألا يذكر لفظ الفاعل تشريفا وتعظيما وتنزيها عن الذكر في مثل هذه المواقف, ومن شأن ذلك – أيضا – أن يتسلط الضوء ويلتفت الذهن إلى الحدث – وهو الترك – وأثره على أهله.
وإذا نظرنا إلي الفعل يتلى, تتلى الذي جاء في القرآن الكريم غير مسمى الفاعل, وجدناه قد جاء في موضع الإنكار والحديث عن المعرضين والمنكرين, وقد جاء – أيضا – في معرض الحديث عن المؤمنين الذين أذعنوا للحق, وأنه قد أتى في حق المنكرين والمعرضين أكثر، يقول تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَونَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}[لأنفال31] فالفعل المبني للمجهول يصور إنكارهم وإعراضهم, وكأننا نسمع أصواتهم عالية تقول: نحن نجهل هذا الكلام ومصدره, وقد جاءت كلمة آياتن مضافة إلي الضمير ن لتقريعهم وتبكيتهم، وقد نزلت هذه الآية الكريمة في النضر بن الحارث, " وكان خرج إلي الحيرة في التجارة، فاشترى أحاديث كليلة ودمنة, وكسرى وقيصر, فلما قص رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبار من مضى, قال النضر: لو شئت لقلت مثل هذا، وكان هذا وقاحة وكذبا, وقيل: أنهم توهموا أنهم يأتون بمثله " [42] وقوله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون105]
هؤلاء القوم المخاطبون هم أهل النار, وفيه ترهيب من مصيرهم وتحذير من الوقع في مثل ما وقعوا فيه من جراء إعراضهم وإنكار تلاوة آيات الله عليهم, ولذلك جاء التعبير بصيغة المبني للمجهول تتلى لتصور طبيعة الموقف وما كانوا عليه في دنياهم.
وقد جاءت تلك الصيغة تتلى في سياق الآية المصدرة بالاستفهام المفيد للتقرير والإنذار, وقوله: آياتي كناية عن القرآن, والسر البلاغي في إيثارها على الاسم الصريح, ما فيها من خصوصية الدلالة على المعجزات الباهرة، وأوثر حرف الجر على على حرف اللام فقال: عليكم دون إليكم للرمز بعلو شأن الآية, وما فيها من الإيحاء بمعنى الإلزام والعطف بالفاء في فكنتم بها تكذبون للتشنيع عليهم في سرعة التكذيب. [43] وقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} [مريم73]
وصدرت الآية الكريمة ب: إذ لأن التلاوة مقطوع بوقوعها, وهي وإن كانت محذوفة الفاعل لعدم تعلق الغرض به, إلا أن ذلك الحذف يوحى بمقام التوبيخ والذم والتبكيت, " وتأويل الكلام؛ وإذا تتلي عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين منا ومنكم أوسع عيشا وأنعم بالا وأفضل مسكنا وأحسن مجلسا وأجمع عددا وغاشيته في المجلس نحن أم أنتم "[44].
وقوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الجاثية7- 8] فهوأفاك كذاب, لا يكتفي بالإعراض والتولي, ولكنه يصر على الكبر والاستكبار، هذا ومن الملاحظ أن تلك الآيات ومثيلتها التي جاءت في معرض الحديث عن المعرضين جاء الفعل الذي لم يسم فاعله تتلى – يتلى مقرونا بالكناية عن القرآن الكريم بكلمة الآيات المتصلة بالضمير التفخيمي الدال على عظمة الله – سبحانه – فنزل الآيات, نحو آياتنا – آياتي.
بينما لم يطرد ذلك الاتصال في معرض الحديث عن المؤمنين الموقنين مثل قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوخَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}[الحج30] فسياق الآية الكريمة وما قبلها يتحدث عن المؤمنين وأدائهم مناسك الحج, وهم أصحاب عقيدة راسخة وإيمان بالغيب, فلم تكن هناك حاجة لذكر لفظ الفاعل, فلم يعد الغرض متعلقا به بقدر ما يتعلق بحدث التلاوة وما اشتملت عليه من تنبيهات وتعالى خاصة بالمؤمنين, ومنه – أيضا – قوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} [الأحزاب34]
وربما جاء فاعل التلاوة ظاهر العيان مثبت الوجود سواء كان في معرض الحديث عن المعرضين أو المؤمنين, وذلك حسب ما يقتضيه السياق ويتطلبه المقام, فقد جاء – مثلا – ظاهرا في قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوكَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة102].
فتعين هنا بناء الفعل للمعلوم لاقتضاء المقام إظهار ذلك الفاعل الشياطين الذين يحدثون ويتسلون على ملك سليمان, فتظهر تلك التلاوة جلية واضحة متقررة الأثر في الأذهان.
وقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة252] بناء الفعل للمعلوم لتحقيق أمر العقيدة وإثبات الوحي من الله تعالى, وتحقيق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لا ينطق عن الهوى, فيظهر ذلك جليا في مثل هذه المقامات خصوصًا، وقوله تعالى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} [آل عمران58]
وربما يكون من الصواب أن ما لاحظناها في صيغه المبني للمجهول مع الفعل يتلى نجده يطرد في حق المؤمنين والمنكرين في أفعال أخرى كالفعل نزل والفعل أرسل، يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}[البقرة4]
جاء الفعل أنزل بصيغة الماضي دون المضارع ينزل مثلا على الرغم من عدم اكتمال الشريعة وقتها؛ لأن " المراد المنزل كله, وإنما عبر عنه بلفظ المضي وإن كان بعضه مترقبا, تغليبا للموجود على ما لم يوجد, كما يغلب المتكلم علي المخاطب, والمخاطب على الغائب, فيقال أنا وأنت فعلنا، كأن كله قد نزل وانتهى بنزوله, ويدل عليه قوله تعالى: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} ولم يسمعوا جميع الكتاب ولا كان كله نزولا "[45] .
فهذا مدح للمؤمنين, وإثبات الإيمان لهم أغنى عن ذكر لفظ الفاعل تعظيما ليقينهم يوقنون, " وفي تقديم الآخرة وبناء يؤمنون على هم تعريض بأهل الكتاب وبما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته وأن قولهم ليس بصادر عن إيقان."[46].
ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة67] فالخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم بلفظ الرسالة أغنى عن ذكر لفظ الفاعل للعلم والتسليم به، ويقول تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوالْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة91].

يتبــــــــع
  #718  
قديم 27-06-2008, 09:11 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبــع موضوع .... الإعجاز البلاغي في استخدام الفعل المبني للمجهول

قيل بالبناء للمجهول ولفظ الماضي, لأنه قد ذلك مرارا وتكرارا وليس الغرض متعلقا بالشخص الذي قام بدعوتهم, وإنما تعلق الغرض بالمنزل عند الله – تعالى – وأوثر لفظ الجلالة الله على لفظ الربوبية لأنه مقام عقيدة وتوحيد وإثبات الوحي من السماء، ويقول تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوجَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [هود12]
ويقول تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد27]
ويقول تعالى: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} [صّ8]
فبناء هذه الصيغ للمجهول ينبئ عن مكنون نفوسهم من نفي الوحي وإنكاره وفي آية هود جاء أنزل بالبناء للمجهول للدلالة على ذلك, ثبت فاعل جاء, جاء معه ملك لإرادتهم رؤيته ومعاينته رأي عين. والله تعالى أعلم.
الماء دليل دامغ علي قدرة الله – تعالى – وسر الوجود: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ}[الأنبياء30]، به أحيا الله الكائنات وبعث فيهم الروح والحياة والحركة الدءوب: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم24] وانزل أنزل الماء من السماء فجعله مصدر الحياة علي الأرض التي ترتوي به فتنبت الزرع والنخل والثمار والجنات: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [قّ9]
لذلك ما جاء في كتاب الله – تعالى – بخصوص إنزال الماء من السماء, جاء بالفعل المبني للمعلوم, سواء في سياق الأسلوب الخبري أو الإنشائي, لتتقرر حقيقة قدرة الله ظاهرة معلومة لكل ذي قلب, آخذة بعنان لبه, واضعة يده على دلالة وجود الله وقدرته.
إذا وقفنا أمام مادة خلف نجد أنها جاءت بصيغة الفعل المبني للمجهول في أربعة مواضع هي قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوالتَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[التوبة118]
وقوله تعالى:{ َقالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً} [طه97]
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [هود110]
وقوله تعالى:{ َقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [فصلت45]
الاختلاف والمخالفة أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر في حاله أو قوله, والخلاف أعم من الضد, لأن كل ضدين مختلفان وليس كل مختلفين ضدان ولما كان الاختلاف بين الناس في القول قد يقتضي التنازع استعير ذلك للمنازعة والمجادلة قال: فاختلف الأحزاب – ولا يزالون مختلفين – واختلاف ألسنتكم وألوانكم، [47] وهذه الصيغة المبنية للمجهول التي وردت في تلك المواضع السابقة, نجدها قد جاءت في سياق العتاب أو الذم للمنكرين والمعرضين، أما آية التوبة فجاءت في حق الثلاثة الذين خلفوا: كعب بن مالك, ومرارة بن ربيعة العامري, وهلال بن أمية الواقفي، وهم جميعا من الأنصار المؤمنين, وقد جاءت الصيغة في حقهم خلفو دون تخلفو مثلا إشارة إلي قبح ذلك الفعل وفداحة التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأن هذا العمل ما كان ليصدر من مؤمن موقن مثلهم, وإنما يصدر من منافق أو منكر جاحد، وبناء الفعل خلفو للمفعول فيه دليل آخر على أن هذا التخليف – هو تأخير قبول التوبة – واقع عليهم دون إرادتهم أو رغبتهم، فيه يعيش هؤلاء الصحابة – رضي الله عنهم – مجاهدة نفسية وآلامًا معنوية؛ انتظارا لتوبة الله عليهم.
وقيل: معني خلفو فسدوا, مأخوذ من خلوف الفم[48] وإذا كان الفعل خلفو قد جاء مبنيا لمفعوله, فقد جاء في سياق الآية نفسها الفعل: ضاقت مبينا للمعلوم ومكررا, في سياق الطباق اللفظي بين ضاقت – رحبت وذلك ليظهر مدى المعاناة والعنت النفسي الذي يعانونه, حتى صارت الأرض الرحبة الواسعة أمام الأعين ضائقة بهم, وهم ضائقون بها, ولذلك جاءت شبه الجملة عليهم مقدما على الفاعل الأرض, وهي نفس الصيغة التركيبية في: وضاقت عليهم أنفسهم.
وفي آية طه جاء الفعل – أيضا – مبنيا لمفعوله, وهذه الآية خطاب من موسي عليه السلام للسامري الذي فتن الناس بالعجل, فكان وعيده بالعذاب يوم القامة جزاء وفاقا لما فعل وضل وأضل.
أما آية هود وآية فصلت فقد جاء الفعل فيهما فاختلف غير مسمي الفاعل, للدلالة – والله أعلم – علي أن هذا الاختلاف ناشئ من خارج ذلك الكتاب – وهو التوراة- الذي آتاه الله موسي عليه السلام, وليس خلافا ناشئا من داخله، وقد وقع الاختلاف " في شأنه وتفاصيل أحكامه, فآمن به قوم، وكفر به آخرون, وعمل بأحكامه قوم, ترك العمل ببعضها آخرون, فلا يضيق صدرك يا محمد صلى الله عليه وسلم بما وقع من هؤلاء في القرآن"[49].
ويصور الفعل المبني للمجهول – أيضا – ذلك الشيء الناشئ أوالطارئ على الحجة أوالبينة التي أتاها الله نوحا عليه السلام يقول تعالى:{ َقالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود28]
فالبينة واضحة بذاتها, ناصعة البيان والبرهان, وإنما قام الفعل المبني للمجهول بتصوير ذلك التطور الطارئ عليها من خارجها, وليس كما ذهب الزمخشري إلى جواز إطلاق العمى على الحجة ذاتها, فيقال: حجة عمياء قياسا على: حجة ظاهرة أو بصيرة، فالفعل المبني للمجهول دل على " أن التعمية واقعة عليها لا منها, وفي عميت حينئذ استعارة تبعية حيث شبه الإخفاء بالتعمية, بجامع عدم الرؤية في كل، هذا هو اللائق بمعجزات الله أو رسالته إذا كان المراد من البينة هي النبوة أو الوحي أو المعجزة, ولوسلمنا بأن المعجزة تكون عمياء إذا لم تهد إلى الحق, لما سلم كتاب سماوي ولا نبوة ولا معجزة من هذه الوصمة "[50]، ويقال عميت عن كذا, وعمي على كذا: إذا لم أفهمه، قيل وهو من باب القلب, لأن البينة أو الرحمة لا تعمي, وإنما يعمي عنها, فهو كقولهم: أدخلت القلنسوة رأسي[51]وهذا الفعل عميت بهذه الصيغة, قد جاء منفردا وحيدا في القرآن الكريم كله.
ويصور الفعل المبني للمجهول – أيضا – في مقام الحديث عن المنكرين والمعرضين الذين يزعمون إنهم مسحورون، يقول تعالى: {وَلَوفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُون َلَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر14-15]
لوحدث هذا لما آمنوا, وإنما يزعمون أنهم سحروا فخرجت أبصارهم عن إرادتهم فأغلقت رغما عنهم، وهذا الفعل سكرت بهذه الصيغة, جاء منفردا وحيدا في القران الكريم كله.
ومما جاء من صيغ بناء للمجهول الفعل قطع وذلك في معرض الحديث عن المنكرين والمعرضين ذما لهم وتقبيحا, قوله تعالى: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الأنعام:45
دابرهم يعني: غابرهم وآخرهم, أصلهم وآخرهم. [52] فينصرف الذهن إلى حدث القطع وظهوره في شكل حسي يتراءى أمام العين مع من يقع عليهم ذلك القطع.
ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَويُصَلَّبُوا أَوتُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَويُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة33]
وقوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج19- 20]
بدأت الآية الكريمة بالإجمال هَذَانِ خَصْمَانِ هما الكافرون والمؤمنون, وقال اخْتَصَمُو على معنى الجمع ثم التفصيل الذي بدأ بذكر الذين كفروا, وجاءت الأفعال في حقهم مبنية للمجهول قُطِّعَتْ- يُصَبُّ- يُصْهَرُ- أعيدو للدلالة على الذم والتقبيح وهم في مقام التجهيل والإهمال, فينصرف الذهن لمتابعة الحدث ومعموله, فيتراءى أمام العين مشهد التقطيع بصوته المدوي ولم يقل قطعت بالتخفيف.
ومشهد الثياب المقطعة, ثم يبرز من بعده مشهد صب الحميم وهو الماء المغلي – عافانا الله – فوق الرءوس، وقد تقدم ذكر الرءوس علي الحميم في قوله: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ لأن الغرض متعلق بأثر الصب علي الرءوس، ثم يأتي مشهد الصهر ومشهد الإعادة في عنف بعد محاولتهم الهروب وظنهم استطاعة الخروج، فهذا المشهد بأجزائه " مشهد عنيف صاخب, حافل بالحركة المتكررة, مطول بالتخييل الذي يبعثه النسق, فلا يكاد ينتهي الخيال من تتبعه في تجدده" [53] .
وقد يقتضي المقام ذكر الفاعل اسما ظاهرا أو ضميرا يعود على اسم ظاهر؛ لتتمثل الصورة حاضرة في أتم وضوح فتؤدي الغرض الذي من أجله جاء, كقوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة166].
وقوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوخَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد15] وقد ظهر ذلك جليا كما في الآيتين السابقتين في الحديث عن مشاهد العذاب وما تخلفه من تهويل وترهيب تقشعر منه الجلود والأبدان.
البِنَاءُ لِلْمَجْهُولِ فِي مَقَامِ التَّنْزِيهِ عَنِ الذِّكْرِ
قد يأتي المقام مقتضيا عدم ذكر لفظ الفاعل تنزيها له وصيانة وحفظا, ولا سيما أنه معلوم من السياق واضح في الأذهان، وقد جاء ذلك في عدة سياقات من آيات القرآن الكريم, يقول تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان3]
{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء28]
{خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء37]
{إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً} [المعارج19]
وقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق5- 6]
وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [لنجم45]
وقوله تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة37]
فهذه مقامات توجه نظر الإنسان وتدفعه إلي التدبر والتأمل, ليري حقيقة كونه وبداية خلقه وتكوينه من ضعف وهلع وشيء مهين مستقذر!
هذا بخلاف التصريح والبناء للمعلوم للفعل خلق في موضع آخر كقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِين ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون 12- 14] وقوله تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ} [الصافات11]
وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} [الواقعة58]
وقوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان2]
فتعين في هذه الآيات بناء الفعل للمعلوم وإظهار الفاعل, لأن هذه الآيات بسياقاتها تمثل مقام إثبات قدرة الله عز وجل وإفراده بالوحدانية خالقا بارئا.
الخَاتِمَةُ
نستطيع -بفضل الله- أن نلخص إلي بعض النتائج المستقاة من تفاعل الكلم القرآني وتعاطفه مع سياق الموقف وسياج المشهد الذي خاطب العقل والقلب وهز الوجدان في تضرع وخشوع؛ ليلقي في الروع ببعض نفحات الإعجاز وهمسات البيان, ومن ذلك:
إن الفعل المبنى للمجهول يتطلب سياقا ذا دلالة خاصة تنبئ عن مكنون المشهد وخفاياه المطوية, فقد يأتي؛ ليصور مجهول النفس وما طوي أو أضمر فيها, كتصويره خبايا النفس وخفي النيات في دروب الباطن, كما في قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة27], فَتُقُبِّلَ بعدم تسمية الفاعل إشارة لتعليق قبول العمل علي ما انطوي عليه القلب من إخلاص وتقوى وإيمان، فتقبل الله من أحدهما هابيل لإيمانه وتقواه, ولم يتقبل من الآخر قابيل لكفره وحسده, وهذا وذاك محله القلب.
قد يأتي الفعل المبني للمجهول ليمثل عنصر المفاجأة وليصعد بجو المشهد إلى ذروة الحركة وعنفها, كما في قوله تعالى: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} [الأحزاب61] فاللعنة تلاحقهم في كل مكان وجدوا فيه, ثم يأخذون عنوة ويقتلون تقتيلا، ثقفوا، أخذوا، وقتلوا تقتيلا.
إذا جاء الفعل المبني للمجهول في سياق الاستفهام أو النفي أو الشرط أفاد العموم, وقد تبين ذلك من خلال الوقوف على الأفعال: دعي, نودي, ظلم, عفي الواردة في مثل هذه السياقات.
يأتي المبني للمجهول ليسلط الضوء ويلفت الانتباه إلي حقيقته الحدث وطبيعته ومدي علاقته وتعلقه بالمفعول الأصلي, فيحقق الغرض الأساسي من إبراز عناصر المشهد ويتيح لها المجال الأكبر لتأدية دورها في قوة ووضوح, دون مزاحمة لفظية أو حضور لغوي لا يتعلق الغرض به، قد يأتي الفعل المبني للمجهول جاريًا مع سياق الآيات متوافقا على انتظام السياقات وتوافقها اللفظي والمعنوي، كقوله تعالى: {وَلَوأَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوقُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوكُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً}[الرعد 31] فجاءت هذه الأفعال سُيِّرَتْ - قُطِّعَتْ - كُلِّمَ مبنية للمجهول اتساقا مع قوله تعالى حكاية عن قول الكافرين قبل هذه الآية: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد27].
المرَاجِعُ
§ ابن الأثير – المثل السائر – تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد – المكتبة العصرية – بيروت – 1995.
§ ابن كثير – تفسير القرآن العظيم – اختصار وتحقيق: أحمد شاكر وأنور الباز – الطبعة الأولي – دار الوفاء – المنصورة – 2003.
§ ابن هشام الأنصاري – أوضح المسالك الي ألفية إبن مالك – دار الطلائع – القاهرة – 2004.
§ الألوسي – روح المعاني – في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني – دار التراث – القاهرة.
§ د. بكري شيخ أمين – البلاغة العربية في ثوبها الجديد – الطبعة الرابعة – دار العلم للملايين – بيروت – 1995.
§ د. عبد العظيم المطعني – دراسات جديدة في إعجاز القرآن- الطبعة الأولي – مكتبة وهبة – القاهرة – 1996.
§ د. محمد عبد المطلب – البلاغة العربية – قراءة أخري – الطبعة الأولي – الشركة المصرية العلمية للنشر – القاهرة – 1997.
§ د.أحمد مصطفي متولي – الموسوعة الذهبية في إعجاز القرآن الكريم والسنة النبوية – الطبعة الأولي – دار إبن الجوزي – القاهرة – 2005.
§ د.عبد العظيم المطعني – التفسير البلاغى للإستفهام في القرآن الكريم – الطبعة الأولي – مكتبة وهبة – القاهرة – 1999.
§ د.عيد يونس – التصوير الجمالي في القرآن الكريم – الطبعة الأولي – عالم الكتب - القاهرة – 2006.
§ الدامغاني – الوجوه والنظائرلألفاظ كتاب الله العزيز – الطبعة الأولي – دار الكتب العلمية – بيروت - 2003.
§ الراغب الأصفهاني – المفردات في غريب القرآن.تحقيق: وائل عبد الرحمن – المكتبة التوفيقية – القاهرة – 2003.
§ الزركشي – البرهان في علوم القرآن – تحقيق: محمد أبوالفضل إبراهيم – الطبعة الثانية – دار التراث – القاهرة.
§ الزمخشري – الكشاف – تحقيق: مصطفى حسين – الطبعة الثالثة – دار الريان – القاهرة – 1987.
§ السدي – تفسير السدي الكبير – تحقيق: محمد عطا – الطبعة الأولي – دار الوفاء – المنصورة – 1993.
§ سيد قطب – التصوير الفني في القرآن - ط14 – دار الشروق – القاهرة – 1993.
§ سيد قطب – مشاهد القيامة في القرآن – ط12 – دار الشروق – القاهرة – 1993.
§ السيوطي – الإتقان في علوم القرآن – تحقيق: محمد ابوالفضل إبراهيم – دار التراث – القاهرة – 1997.
§ الشوكاني – فتح القدير – تحقيق: دكتور/ عبد الرحمن عميرة – الطبعة الثانية – دار الوفاء – المنصورة – 1997.
§ الطبري – جامع البيان في تفسير القرآن – الطبعة الثانية – دار المعرفة – بيروت – 1972.
§ عباس حسن – النحوالوافي – الطبعة الثانية عشر – دار المعارف – القاهرة – 1995.
§ عبد الدائم الكحيل – التناسق البياني لكلمات القرآن الكريم – موسوعة الإعجاز في القرآن والسنة – www.55a.net
§ عبد القاهر الجرحاني – دلائل الإعجاز – تحقيق: عبد المنعم خفاجي – مكتبة القاهرة – مصر – 1980.
§ عبد الكريم الخطيب – إعجاز القرآن – الطبعة الأولي – دار الفكر العربى – مصر – 1964.
§ الفخر الرازي – التفسير الكبير – الطبعة الثانية – دار إحياء التراث العربى – بيروت – 1997.
§ القرطبي – الجامع لأحكام القرآن – الطبعة الأولي – دار الفكر – بيروت – 1999.
§ الكرماني – البرهان في متشابه القرآن – تحقيق: أحمد خاف الله – الطبعة الثانية – دار الوفاء – المنصورة – 1998.
§ مصطفي صادق الرافعي – إعجاز القرآن والبلاغة النبوية – الطبعة الرابعة – مطبعة الإستقامة – القاهرة – 1945.
الهوامش:
[1] د. بكري شيخ أمين – البلاغة العربية في ثوبها الجديد - الطبعة الرابعة – دار العلم للملايين – بيروت – 1995 – 1/15.
[2] عبد الكريم الخطيب – إعجاز القرآن – الطبعة الأولي – دار الفكر العربي – مصر – 1964 – 2/269.
[3] عباس حسن – النحوالوافي – الطبعة الثانية عشرة – دار المعارف – القاهرة – 1995 – 2/97..
[4] سؤدد يقصد الشيخ البيت الذي استشهد به من قول البحتري: تنقل في خُلقي سؤدد سماحا مرجًّي وبأسا مهيبا.
[5] هو من البيت الذي استشهد به الشيخ عبد القاهر من قول إبراهيم بن العباس الصولي يمدح محمد بن عبد الملك الزيات:
فلو إذ نبا دهر وأنكرَ صاحب وسلط أعداء وغاب نصير
تكون عن الأهواز داري بنجوة ولكن مقادير جرت وأمور
وقد علق الشيخ عبد القاهر علي طلاوة هذا الأسلوب من أجل تقديم الظرف إذا نب علي عامله تكون دون كان وتنكير دهر الذي ساقه في جميع ما أتي به من بعد, وبناء الفعل أنكر للمجهول.انظر دلائل الإعجاز ص126,ص127.
[6] عبد القاهر الجرحاني – دلائل الإعجاز – تحقيق عبد المنعم خفاجي – مكتبة القاهرة – مصر – 1980 – ص 128.
[7] د/ محمد عبد المطلب – البلاغة العربية.قراءة أخري – الطبعة الأولي – الشركة المصرية العالمية للنشر – القاهرة – 1997 ص 7.
[8] السيوطي – الإتقان في علوم القرآن – تحقيق محمد أبوالفضل إبراهيم – دار التراث – القاهرة – 1997 – 3/170.
[9] الزركشي – البرهان في علوم القرآن – تحقيق محمد أبوالفضل إبراهيم – الطبعة الثانية – دار التراث – القاهرة – 3/145.
[10] ابن الأثير – المثل السائر – تحقيق مجمد محي الدين عبد الحميد – المكتبة العصرية – بيروت – 1995 – 2/5.وأنظر البرهان في علوم القرآن – 3/325.
[11] ابن هشام الانصاري – أوضح المسالك إلي ألفية ابن مالك – دار الطلائع – القاهرة – 2004 – 2/120.
[12] الدامغاني – الوجوه والنظائر لألفاظ كتاب الله العزيز – ط– دار الكتب العلمية – بيروت – 2003 – ص 26.
[13] الزمخشري – الكشاف – ط3 – دار الريان للتراث – القاهرة – 1987 – 2/470.
[14] سيد قطب – التصوير الفني في القرآن– ط 14 – دار الشروق - القاهرة – 1993 – ص 36.
[15] الكرماني – البرهان في متشابه القرآن – تحقيق: احمد خلف الله – ط2 – دار الوفاء – المنصورة – 1998 – ص 319.
[16] الزمخشري – الكشاف – 1987 – 2/44.
[17] د/ عبد العظيم المطعني – التفسير البلاغي للاستفهام في القرآن الكريم – الطبعة الأولي – مكتبة وهبة – القاهرة – 1999 – 2256.
[18] ابن كثير – تفسير القرآن العظيم – اختصار وتحقيق احمد شاكر وأنور الباز – الطبعة الأولي – دار الوفاء – المنصورة – 2003 – 2/653.
[19] القرطبي – الجامع لأحكام القرآن – الطبعة الأولي – دار الفكر – بيروت – 1999 – المجلد السادس – 12/181.
[20] سيد قطب – مشاهد القيامة في القرآن – ط 12 – دار الشروق – القاهرة – 1993 – ص 192.
[21] د/عيد يونس – التصوير الجمالي في القرآن الكريم – الطبعة الأولي – عالم الكتب – القاهرة – 2006 – ص129-130.
[22] الألوسي – روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني – دار التراث – القاهرة – 16/260..
[23] د/ احمد مصطفي متولي – الموسوعة الذهبية في إعجاز القرآن الكريم والسنة النبوية – الطبعة الأولي – دار ابن الجوزي – القاهرة – 2005 – ص 293.
[24] الفخر الرازي – التفسير الكبير – الطبعة الثانية – دار إحياء التراث العربي – بيروت – 1997 – 11/235
[25] سيد قطب – مشاهد القيامة في القرآن - ص 67.
[26] عبد الدائم الكحيل - التناسق البياني لكلمات القرآن الكريم – موسوعة الإعجاز في القرآن والسنة www.55a.net.
[27] الموسوعة الذهبية في إعجاز القرآن الكريم والسنة النبوية ص 106.
[28] الموسوعة الذهبية في إعجاز القرآن الكريم والسنة النبوية ص 106.
[29] الكرماني – البرهان في متشابه القرآن – ص 236.
[30] مصطفي صادق الرافعي – إعجاز القران والبلاغة النبوية - ط4- مطبعة الاستقامة بالقاهرة 1945 – ص 157.
[31] ابن كثير – تفسير القران العظيم – 3/451.
[32] دكتور عبد العظيم المطعني – دراسات جديدة في إعجاز القران – الطبعة الأولي– مكتبه وهبة – القاهرة – 1996- ص 268.
[33] الشوكاني – فتح القدير – تحقيق دكتور عبد الرحمن عميرة – ط 2 – دار الوفاء – المنصورة – 1997- 4/625.
[34] ابن كثير – تفسير القران العظيم – 3/177.
[35] فتح القدير 4/625.
[36] الراغب الاصفهاني – مفردات في غريب القران – تحقيق وائل عبد الرحمن – المكتبة التوفيقيه- القاهرة -2003- ص 342.
[37] الكشاف – 2/253.
[38] د/عبد العظيم المطعني – التفسير البلاغي للاستفهام في القرآن الكريم – 3/112.
[39] د/عبد العظيم المطعني – التفسير البلاغي للاستفهام في القرآن الكريم - 2/112.
[40] السدي – تفسير السدي الكبير – تحقيق د. محمد عطار – الطبعة الأولي – دار الوفاء – المنصورة – 1993 – 486.
[41] ابن كثير – 3/541.
[42] القرطبي – 4/285.
[43] التفسير البلاغي للاستفهام في القرآن الكريم 3/ 28- 29.
[44] الطبري – جامع البنيان في تفسير القرآن – الطبعة الثانية – دار المعرفة – بيروت – 1972 – 8/87.
[45] الكشاف 1/42.
[46] الكشاف – 1/42.
[47] الأصفهاني – المفردات في غريب القرآن – ص162.
[48] الشوكاني – فتح القدير 2/ 584.
[49] فتح القدير 2/734.
[50] د/عبد العظيم المطعني – التفسير البلاغي للاستفهام في القرآن الكريم – 2/102.
[51] الشوكاني – فتح القدير – 2/689.
[52]الدامغاني – الوجوه والنظائر لألفاظ كتاب الله العزيز – ص 211.
[53] سيد قطب – مشاهد القيامة في القرآن – ص257.
  #719  
قديم 27-06-2008, 09:14 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

سر دخول الكاف على لفظ المثل


صورة لصخرة على شاطئ بيروت على شكل رجل ساجد لله تعالى
قال الله تعالى:﴿ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾(الشورى:11)
أولاً- هذه الآية الكريمة جاءت تعقيبًا على قوله تعالى:﴿ وَمَااخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُرَبِّيعَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ( الشورى: 10 )
وفيه يبين الله سبحانه للناس الجهة، التي يرجعون إليها عند كل اختلاف يقع بينهم، وهي هذا الوحي، الذي جاء من عند الله، والذي يتضمن حكم الله تعالى. فما من شيء اختلفوا فيه إلا وحكم الله تعالى فيه حاضر، في هذا الوحي، الذي أوحاه سبحانه وتعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لتقوم الحياة على أساسه. وعقب تقرير هذه الحقيقة يحكي تعالى قول رسوله صلى الله عليه وسلم، مسلمًا أمره كله إلى ربه، ومنيبًا إليه بكليته.ثم يأتي قول الله تعالى:
﴿ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾( الشورى: 11 )
بما يزيد تلك الحقيقة تقريرًا، وتمكينًا في النفس.فاللهالذي أنزل القرآن؛ ليكون حكم الله تعالى فيه هو الفصل، فيما يختلفون فيه، هو فاطر السموات والأرض، وفاطرهم، وهو الذي سوَّى نفوسهم وركَّبها، فنظم لهم حياتهم من أساسها، فهوسبحانه أعلمبما يصلح لها، وما تصلح به وتستقيم، وهو سبحانه الذي أجرى حياتهم وفق قاعدة الخلق،التياختارها للأحياء جميعًا: جعل لهم من أنفسهم أزواجًا، ومن الأنعام أزواجًا، يذرؤهم فيه.. فهنالك وحدة في التكوين تشهد بوحدانيةالأسلوب والمشيئة وتقديرها المقصود.. إنه هو الذي جعلهم- هم والأنعام- يتكاثرون، وفق هذا المنهج، وهذا الأسلوب؛ وذلك من أعظم النعم، التي أنعم الله تعالى بها على عباده، وامتنَّ بها عليهم. وهو آية من آياته الدالة على إلهيته ووحدانيته، وأنه المستحق لأن يعبد وحده.
ثم أكَّد سبحانه تفرَّده دون خلقه جميعًا بالإلهيَّة والوحدانيَّة، والاستحقاق للعبادة، فأخبر على سبيل النفي أنه ليس هنالك ذات من ذوات الأشياء، تشبهه في ذاته، فضلاً عن أن تماثله فيها، سبحانه وتعالى.. والفطرة تؤمن بهذا بداهة؛ لأن خالقالأشياء لا يمكن أن تشبهه، أو تماثله تلك الأشياء، التي هي من خلقه. ومن ثَمَّ فإنها ترجع كلهاإلىحكمه، عندما تختلف فيما بينها على أمر, ولا ترجع معه إلى أحد غيره; لأنه ليسهنالك شبه له، أو مثل, حتى يكون هناك أكثر من مرجع واحد عند الاختلاف.
ومعأنه سبحانه ليس كمثله شيء في ذاته؛ لأنها مغايرة لذوات الأشياء كلها تمام المغايرة، فإن الصلة بينه عز وجل، وبين ما خلق ليست منقطعةبسبب تلكالمغايرة، فهو سبحانه يسمع كل شيء ويبصر كل شيء، ثم يحكم حكم السميعالبصير. ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ( المائدة: 50 )
ثانيًا-وقوله تعالى:﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾تقرير للتوحيد، وإبطال لما عليه أهل الشرك من تشبيه آلهتهم وأوليائهم بالله جل وعلا، وجعلهم مثلاً له سبحانه، حتى عبدوهم معه. وهذا التشبيه والتمثيل، الذي أبطله الله سبحانه بهذا النفي هو أصل شرك العالم، وعبادة الأصنام والأقزام.
ولعلماء النحو والتفسير في تأويل هذه الآية الكريمة أقوال متضاربة، وآراء متباينة. والسبب في ذلك يرجع إلى إجماعهم على تفسير الكاف بمعنى المِثل؛ ولهذا تأولوا الآية على معنى: ليس مِثل مِثله شيء. ولما كان هذا التأويل يفضي إلى المحال؛ لأنه يثبت لله جل جلاله مِثلاً، اختلوا في تفسيره على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الكاف زائدة، لتأكيد المِثل. وعليه يكون المعنى: ليس مِثل الله شيء. وهذا قول الجمهور، جاء في لسان العرب: وقوله تعالى:﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾، أراد: ليس مثله. لا يكون إلا ذلك؛ لأنه، إن لم يقل هذا، أثبت له مِثلاً، تعالى الله عن ذلك .
والقول الثاني:أن الزائد هو لفظ المِثل، لا الكاف. وعليه يكون المعنى: ليس كهو شيء. أي: ليس كالله شيء. وهذا يفضي إلى القول الأول؛ لأن الكاف- عندهم كما ذكرنا- بمعنى مِثل. ومنهم من قال: إن العرب تستعمل المِثل كناية عن الذات للمبالغة، فتقول: مِثلك لا يبخل، ينفون عن مِثله البخل، وهم يريدون نفيه عن ذاته.
والقول الثالث:أنه لا زائد في الآية، ثم اختلفوا: فذهب بعضهم إلى أن لفظ المِثل بمعنى: الذات، وأن المعنى: ليس كذاته شيء. وذهب بعضهم الآخر إلى أنه بمعنى: الصفة، وأن المعنى: ليس كصفته شيء. وجمع بعضهم بين المعنيين، فذهب إلى أن المعنى: ليس كذاته، وصفته شيء.
واختار المرحوم الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني في كتابه أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع ) القول بأن المِثْل بمعنى: الوصف، فقال بعد أن قرَّر أن المَثَل، بفتحتين، والمِثْل، بفتح فسكون، يستعملان بمعنى الوصف، إذا اقترنا بكاف التشبيه: فيمكن أن نقول في ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾: لا يشبه أوصافه شيء من الأشياء؛ وذلك لأن المِثل، والمَثل يستعملان بمعنى الوصف.. وبهذا ينحل الإشكال الذي ألجأ العلماء إلى تأويل اجتماع كلمتي تشبيه، هما: الكاف، ومثل.. وهل الكاف زائدة، أو للتأكيد ؟ أو أن المراد: نفي مثل المثل، فنفي المثل من باب أولى.. إلى غير ذلك من كلام طويل حول هذا التعبير.
وانتهى من ذلك إلى القول:وعلى هذا الأساس نستطيع أن نفهم نصوصًا قرآنية كثيرة. وبتفسير كلمة مَثَل، أو مِثْل بمعنى الوَصْفِ تنحلُّ إشكالاتٌ لفظيةٌ كثيرةٌ، يتعَبُ كثيرُ من المفسرين في تخريجها وتوجيهها .
وهكذا، بهذه البساطة، توصَّل الشيخ حَبَنَّكَةالمَيْداني- رحمه الله- إلى حلِّإشكالات لفظية كثيرة، يتعَبُ كثيرٌ من المفسرين في تخريجها وتوجيهها- على حدِّ قوله- فكان كمَنْ أوقع نفسه في إشكالات أكبر من كل تلك الإشكالات، التي ذكرها؛ وذلك لمَا في قوله من إخُلالٍ ظاهر بمعنى الآية الكريمة، وصَرْفٍ لها عن الوَجْهِ، الذي قيلت من أجله.
وأورد الشيخ عبد المجيد البيانوني في كتابه ( ضرب الأمثال في القرآن ) قولاً في هذه الآية ذكره الراغب الأصفهاني في مفرداته عن بعضهم، وهو القول الذي اعتمد عليه المرحوم الشيخ حسن حبنكة الميداني في تقرير ما قرَّر، ثم عقب عليه بقوله:انظر إلى المبحَث النفيس، الذي حققه الأستاذ الدكتور محمد عبد الله دراذ، في معنى هذه الآية في كتابه ( النبأ العظيم )، فارجع إليه؛ فإنه مَبحَث نفيس، ويكشف لك عن سر الإعجاز الإلهي في هذا الحرف.. ولما رجعت إليه، وجدته يردِّد في ذلك كلامًا، نقله الفخر الرازي في تفسيره عن بعضهم ، وهو- كما يقول أبو حيان- كلام يحتاج إلى تأويل.
والحقيقة أن سرَّ الإعجاز الإلهي في هذه الآية الكريمة لا يتجلَّى لنا، إلا إذا فرَّقنا في المعنى أولاً بين المِثْل، بكسر فسكون، والمَثَل، بفتحتين، من جهة، وبينهما، وبين الكاف من جهة أخرى. ثم أدركنا ثانيًا سر الجمع بين المِثْل، والكاف فيها. وهذا ما سأبينه- هنا إن شاء الله- فأقول بعون الله تعالى وتعليمه:
أما المٍثْل، والمَثَل فهما من الأسماء، التي يقتضي وجود أحدهما وجود الآخر؛ كالنصف، والزوج، والضعف. ويجمع كل منهما على أمثال، ويفرق بينهما بالقرائن. واشتقاقهما من( الميم والثاء واللام )، وهو أصل موجود في اللغات السامية كلها، ويتضمَّن فيها جميعًا معنى: المُماثلَة.
وحقيقة المماثلة أنها مساواة بين شيئين متماثلين؛ إما في تمام الحقيقة والماهيَّة. وإما في تمامالأحوال والصفات الخارجة عن الحقيقة والماهية؛ بحيث يقوم أحد الشيئين مقام الآخر، فيما تكون فيه المماثلة، ويَسُدُّ فيها مَسَدَّه.والأولى هي المعبَّر عنها بلفظ المِثْل، بكسر فسكون، والثانية هي المعبَّر عنها بلفظ المَثَل، بفتحتين.
فعلى هذا إذا قيل: زيد مِثْلُ عمرو، فمعناه: أنه مساوٍٍ له في تمام حقيقتِه وماهيَّتِه. وإذا قيل: هو مَثَلُه، فمعناه: أنه مساوٍٍ له في تمام أحواله وصفاته، الخارجة عن حقيقته وماهيَّته.
وبهذا يعلَم أن المماثلَة بين الشيئين نوعان: مماثلة في الحقيقة والماهيَّة، وهي المعبَّر عنها بلفظ المِثْل. ومماثلة في الأحوال والصفات الخارجة عن الحقيقة والماهيَّة، وهي المعبَّر عنها بلفظ المَثَل.
ويتضح من ذلك أن المِثْل، والمَثَل يتفقان في دلالة كل منهما على المساواة، ثم يفترقان في دلالة الأول على المساواة في الحقيقة والماهيَّة، ودلالة الثاني على المساواة في الأحوال والصفات الخارجة عن الحقيقة والماهيَّة.
بقي أن تعلم أن الفرق بين المماثلة، والمساواة هو: أن المساواة تكون بين المختلفين في الجنس، والمتفقين؛ لأن التساوي يكون في المقدارين، اللذين لا يزيدأحدهما على الآخر، ولا ينقُص عنه.أما المماثلَة فلا تكون إلا بين المتفقين في الجنس. ولهذا يقال في المساواة: هذا الشيء يساوي درهمًا. ولا يقال: هذا الشيء يماثل درهمًا، لاختلافهما في الجنس.
ومن هنا لا يجوز أن يقال: إن المِثْل، والمَثَل سيَّان، وإن كان اشتقاقهما يرجع إلى مادة واحدة. كما لا يجوز أن يفسَّر كل منهما بمعنى الوصف.
أما الكاف فهي أداة موضوعة للتشبيه بين شيئين قد يتفقان في الجنس، وقد يختلفان فيه. والتشبيه بينهما يكون في صفة، أو أكثر من الصفات الخارجة عن الذات.فإذا قلت: زيد كعمرو، فمعناه: أن زيدًا يشبه عمروًا في صفة، أو أكثر من الصفات؛ ولهذا لا يجوز أن تفسَّر الكاف بمعنى المِثْل، فالأولى أداة موضوعة للتشبيه في الصفات، والثاني اسم موضوع للمماثلة في الذوات.
وفي الفرق بينهما ذكر أبو هلال العسكري:أن الشيءَ يُشبَّه بالشيء من وجه واحد، لا يكون مِثْلَهُ في الحقيقة، إلا إذا أشبهه من جميع الوجوهلذاته؛ فكأن الله تعالى، لمَّا قال:﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، أفاد أنه لا شِبْهَ له، ولامِثْلَ.. ولو كان قوله تعالى:﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌنفيًا أن يكون لمثله مثل، لكان قولنا: ليس كمثل زيد رجل، مناقضة؛ لأن زيدًا مثل من هو مثله.
والتشْبيه بالكاف يفيد تشبيه الصفات بعضها ببعض، وبالمِثْل يفيد تشبيه الذوات بعضها ببعض. تقول: ليس كزيد رجل. أي: في بعض صفاته؛ لأن كل أحد مِثْله في الذات. وفلان كالأسد. أي: في الشجاعة دون الهيئة، وغيرها من صفاته. وتقول السواد عرض كالبياض ولا تقول مثل البياض .
وواضح من ذلك أن الفرق بين التشبيه، والمماثلة يكون من وجهين: أحدهما: أنك إذا قلت: زيد كالأسد فمعناه: أن زيدًا يشبه الأسد في صفة، أو أكثر من صفاته. هذا هو الأصل في التشبيه.
والوجه الثاني: أن التشبيه يكون بين المتفقين في الجنس، وبين المختلفين فيه. أما المماثلة فلا تكون إلا بين المتفقين في الجنس. وعلى هذا يجوز أن تقول: زيد كالجبل، فتشبِّه زيدًا بالجبل في صفة، أو أكثر من صفاته؛ كما شبه الله تعالى السفن بالجبال في العظم والارتفاع في قوله تعالى:
﴿وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ( الرحمن: 24 )
ولا يجوز أن تقول: زيد مثل الجبل، لاختلافهما في الجنس. والوجه في ذلك أن تقول: زيد مثل عمرو، فتماثل بين متفقين في الجنس؛ كما ماثل الكفار بينهم، وبين الرسل في حقيقة الذات البشرية، فقالوا في معرض اعتراضهم عليهم:
﴿ إن أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا ﴾( إبراهيم: 10 )
فاعتبروا المساواة في البشرية، ومماثلة المجانسة فيها، واستدلوا بذلك على أن حُكْمَ أحد المِثْلَيْن حُكْمُ الآخر. فقالوا: كما لا نكون نحن رُسُلاً، فكذلك أنتم، فإذا تساوينا في حقيقة الذات البشرية، فأنتم مِثْلُنا، لا مَزِيَّةَ لكم علينا.
ومن ذلك ما حكي عن المشركين من قولهم:
﴿ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ﴾( البقرة: 275 )
أرادوا: أن البيع مساو للربا في تمام الحقيقة والحكم، فقد بلغ من اعتقادهم في حِلِّ الرِّبا، أنهم جعلوه أصلاً وقانونًا في الحِلَّ، وقاسوا عليه البيع. ولو قالوا: إنما البيع كالرِّبا، لكان مرادهم أن البيع يشبه الربا من حيث الصورة، لا من حيث الحقيقة. وهذا خلاف المراد.
ويبين لك ذلك أن الفرق بين الحلال، والحرام لا بدَّ أن يكون فرقًا في الحقيقة، ولو كان فرقًا في الصورة، أو الصفة، لاستوى البيع مع الرِّبا في الحل. وإلى ذلك أشار ابن قيِّم الجوزية بقوله:ومعلوم أن الفرق في الصورة دون الحقيقة مُلغَى عند اللَّه تعالى ورسوله في فطر عباده، فإن الاعتبار بالمقاصد والمعاني في الأقوال والأفعال؛ فإن الألفاظ، إذا اختلفت ومعناها واحد، كان حكمها واحدًا. فإذا اتفقت الألفاظ واختلفت المعاني، كان حكمها مختلفًا. وكذلك الأعمال، إذا اختلفت صورها، واتفقت مقاصدها. وعلى هذه القاعدة يُبنَى الأمر والنهي، والثواب والعقاب .

يتبــــــــــــــــــــــــع
  #720  
قديم 27-06-2008, 09:16 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبــع موضوع .. سر دخول الكاف على لفظ المثل

واختلفوا في المراد بالمماثلة في قوله تعالى:
﴿ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ( يس: 42 ):
أهي مماثلة بين المتفقين في الجنس، أم بين المختلفين فيهما ؟ على قولين: أحدهما: أن المراد بها: السُّفُن. والثاني: أن المراد بها: الإبل، وكانوا يسمُّونها: سُفُنَ البَرِّ.
وعقَّب على ذلك ابن قيِّم الجَوْزيَّة بقوله:والأصحُّ أن المِثْل المخلوق- هنا- هو السُّفُن، وقد أخبر أنها مخلوقة؛ وهي إنما صارت سُفُنًا بأعمال العباد. وأبْعَدَ من قال: إن المِثْل- ههنا- هو سُفُنُ البَرِّ، وهي الإبل، لوجهين:
أحدهما: أنها لا تسمَّى مِثْلاً للسُّفُن، لا لغةً، ولا حقيقةً؛ فإن المِثْليْن ما سَدَّ أحدهما مَسَدَّ الآخر. وحَقيقة المماثلة أن تكون بين فُلْكٍ وفُلْكٍ، لا بين جَملٍ وفُلْكٍ.
والثاني: أن قوله:﴿ وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ ﴾( يس: 43 )عَقِبَ ذلك دليل على أن المراد الفُلْك، التي إذا ركبوها، قدرْنا على إغراقهم. فذكَّرهم بنعمه عليهم من وجهين: أحدهما: ركوبهم إياها. والثاني: أن يسلمهم عند ركوبها من الغرق.
فثبت بما تقدم أن المِثْل غير المَثَل، وأن المِثْل غير الكاف؛ ولهذا لا يجوز أن يُفسَّر أحد هذه الألفاظ الثلاثة بالآخر.
وأما سر الجمع بين كاف التشبيه، والمِثْل، فهو أن الكاف تدخل على المِثْل، إذا كان المراد أن أحد المثلين، المتفقين في الجنس، أو المختلفين فيه، يشبه المِثْل الآخر في جهة، أو أكثر من جهات الحقيقة والماهيَّة. تأمل ذلك في قول عنترة بن شداد:
وما شَاقَ قلبي في الدُّجى غيرُ طائر **ينوح على غصنٍ رطيبٍ من الرَّنْد
به مثل ما بي فهو يخفي من الجوى **كمثل الذي أخفي ويبدي كالذي أبدي
كيف سوَّى في هذه المماثلة بين ما بالطائر، وما به هو من الجوى ( وهو حرقة الشوق )، في حقيقة الجوى وماهيَّته! ثم شبَّه ما يخفيه ذلك الطائر من الجوى بما يخفيه هو، وشبه الذي يظهره الطائر من ذلك بالذي يظهره هو، ففرَّق بذلك التشبيه بين ما يخفيانه، وما يظهرانه من الجوى. فما يخفيانه منه يرجع إلى حقيقته وماهيَّته، وما يظهرانه منه يرجع إلى صورته؛ ولهذا استعمل لفظ المثل مع الأول دون الثاني.
ثم تأمل قول أحدهم:
وقتلى، كمِثْل جُذوعِ النَّخيـل** تَغَشَّاهُمُ مُسْبِلٌ، مُنْهَمِـر
كيف شبه القتلى في هذا التمثيل، وهم في ساحة المعركة، بمثل جذوع النخيل، التي اقتلعها السيل من جذورها؛ لأنه أراد أن جثث القتلى تشبه جثث جذوع النخيل في جهة، أو أكثر من جهات حقيقتها وماهيتها. ولو أراد أنها تشبهها في صفة أو أكثر، لوجب أن يقول: وقتلى كجذوع النخيل، بإسقاط لفظ المثل. ولو أراد المماثلة بينهما في تمام الحقيقة والماهيَّة، لكان ينبغي أن يقول: وقتلى مثل جذوع النخيل. وهذا غير جائز، لاختلافهما في الجنس.
ومما ورد من ذلك في النفي قول عمرو ابن كلثوم:
فما شرب الشراب كمثل عمرو **وما نال المكارم فأَصْبَحينا
وقول ابن الدُّمَيْنَة:
وليس كمثل اليأس يدفع صبوة ** ولا كفؤاد الصَّبِّ صادف مطمعًا
وعلى هذا ورد قوله تعالى:﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فهو نفي لقول المشركين: مِثْلُه شيءٌ. أي: شيءٌ مِثْلُ الله، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا ! ألا ترى كيف مَثَّلوه سبحانه بخلقه، فجعلوا له أمثالاً وأندادًا، وهي أشياء، مع اعترافهم بأنه تعالى خالق الأشياء كلها ؟
روى عطاء عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال:قدم وفد نجران، فقالوا: صف لنا ربك: أَمِنْ زُبُرْجُدٍ، أو ياقوتٍ، أو ذهبٍ، أو فضةٍ ؟ فقال: إن ربي ليس من شيء؛ لأنه خالق الأشياء، فنزل:﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ( الإخلاص: 1 ). قالوا: هو واحد، وأنت واحد. فقال:﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ( الشورى: 11 ).
ولذلك، لما قال فرعون لموسى:﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ( الشعراء:23 )كالطالب لماهيته تعالى، لم يجب موسى- عليه السلام- إلا بتعريفه بأفعاله، فقال:﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ﴾( الشعراء:24 )؛لأنالسؤال في حق الباري سبحانه وتعالى عن ماهيَّته وجنسه خطأ كبير؛ لأنه سبحانه لا جنس له فيذكر، ولا تدرك ذاته.
﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾(الأنعام: 103)
ولهذا عدل موسى- عليه السلام- إلى الجواب بالصواب، ببيان الوصف المرشد إلى معرفته جل وعلا.
فإذا ثبت أن الله تعالى لا تدرك ذاته، ولا تعرف ماهيَّته، وأنه ليس بشيء مما يتصورون؛ لأنه خالق الأشياء كلها، فكيف يجوز أن تمثَّل ذاته المقدسة بذوات الأشياء، وهي مغايرة لها تمام المغايرة في حقيقتها وماهيتها ؟
ومن شروط المماثلة- كما ذكرنا- أن تكون بين شيئين متفقين في الجنس، وإن اختلفت صفاتهما؛ ولذلك لا يجوز أن يقال في حقه عز وجل: شيءٌ مِثلُ الله. ولا أن يقال: ليس شيءٌ مِثْلَ الله؛ كما جاز أن يقال: زيد مِِثْلُ عمرو، وليس زيد مِثْلَ عمرو؛ لأن لزيد مِثْلاً في الواقع من جنسه يماثله في ذاته، وليس لله تعالى مِِثْلٌ في الواقع يماثله في ذاته، لا من جنسه، ولا من غير جنسه؛ ولهذا نهى الله عز وجل عن ضَرْب الأمثال له، فقال:
﴿فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾( النحل: 74 )
ولكن المشركين لم يتورَّعوا عن ضَرْبِ الأمثال لله جل وعلا؛ لاعتقادهم أنه سبحانه شيءٌ كباقي الأشياء، وأن ذاته الشريفة كذواتها، فجاء الرد عليهم بقوله تعالى:﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
ولو قيل في الرَّدِّ عليهم: ليس مِِثْلَه شيءٌ. أو ليس كالله شيءٌ- كما قال المفسرون في تأويل الآية الكريمة- لكان ذلك اعترافًا منه سبحانه بأن له مِثْلاً في الواقع، يتفق معه في الجنس.
ولهذا لما أراد الله عز وجل أن ينفي عن ذاته المقدسة الشِّبْه والمِثْل، أتى بلفظ المِثْل، وأدخل عليه كاف التشبيه، ثم نفاهما معًا بـ﴿ لَيْسَ ﴾، فأصبح معنى الآية الكريمة: لا توجد ذات من ذوات الأشياء، تشبه ذات الله تعالى في جهة أو أكثر من جهاتها، فضلاً عن أن تماثلها؛ لأن نفيَ الشِّبْه يستلزم نفيَ المِثْل. وبهذا يظهر لك سر دخول الكاف على لفظ المِثْل في هذه الآية الكريمة.. فتأمله، وقِسْ عليه نظائره.
وللفخر الرازي كلام جيد في تأويل هذه الآية الكريمة، التي تاهت العقول في تأويلها؛ كما تاهت في ذاته سبحانه لاحتجابها بأنوار العظمة، وأستار الجبروت، أنقل منه قوله: احتجَّ علماء التوحيد- قديمًا وحديثًا- بهذه الآية في نَفْيِ كونه تعالى جسمًا مركبًا من الأعضاء والأجزاء، وحاصلاً في المكان والجهة، وقالوا: لو كان جسمًا، لكان مِثْلاً لسائر الأجسام، فيلزم حصول الأمثال، والأشباه له؛ وذلك باطل بصريح قوله تعالى:﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.. .
وأضاف قائلاً:ويمكن إيراد هذه الحجة على وجه آخر، فيقال: إما أن يكون المراد:﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ في ماهيات الذات. أو أن يكون المراد:﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌفي الصفات. والثاني باطل؛ لأن العباد يوصفون بكونهم عالمين قادرين؛ كما أن الله تعالى يوصف بذلك. وكذلك يوصفون بكونهم معلومين مذكورين، مع أن الله تعالى يوصف بذلك. فثبت أن المراد بالمماثلة: المساواة في حقيقة الذات؛ فيكون المعنى: أن شيئًا من الذوات لا يساوي الله تعالى في الذاتية. فلو كان الله تعالى جسمًا، لكان كونه جسمًا ذاتًا، لا صفة. فإذا كان سائر الأجسام مساوية له في الجسمية- أعني: في كونها متحيزة طويلة عريضة عميقة- فحينئذ تكون سائر الأجسام مماثلة لذات الله تعالى في كونه ذاتًا. والنصُّ ينفي ذلك، فوجب أن لا يكون جسمًا .
ثالثًا- ولو كان المِثْل، بكسر فسكون، والمَثَل، بفتحتين، سيَّان، وأن معناهما الوصف، للزم التنافي بين قوله تعالى:﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وقوله:﴿ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ ﴾( النحل: 60 )؛ لأن الأول نفيٌ للمِثْل، والثاني إثباتٌ للمَثَل؛ ولهذا ختم الله تعالى آية الشورىبقوله:﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾
فأثبت سبحانه لنفسه صفة السميع، والبصير، على وجه التمام والكمال، والعظمة والجلال؛ وذلك لا يكون إلا لله جل جلاله؛ كما أفاده أسلوب الحصر في الموضعين. وكأنه عز وجل ذكر من صفاته هاتين الصفتين هنا؛ لئلا يتوهم أنه سبحانه لا صفة له، كما أنه لا شِبْهَ له، ولا مِثْلَ.
قال الشيخ ابن تيمية: ففي قوله:﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾رد للتشبيه والتمثيل، وقوله:﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ رد للإلحاد والتعطيل. والله سبحانه بعث رسله بإثبات مفصَّل، ونفيٍ مجمَل، فأثبتوا لله الصفات على وجه التفصيل، ونَفَوْا عنه ما لا يصلح له من التشبيه والتمثيل .
فإذا كان قوله تعالى:﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ قد أفاد نفي التشبيه والتمثيل عن الله سبحانه على وجه الإجمال، وأن قوله سبحانه:﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾قد أفاد إثبات الصفات له سبحانه على وجه التفصيل، فإن قوله تعالى:﴿وَلِلّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ﴾قد أفاد إثبات المَثَل الأعلى له في الصفات، وأفاد نفيَ أن يكون له مَثَل من خلقه يشبهه، أو يماثله في حقيقة ذلك المَثل، لاستحالة أن يشترك في المثل الأعلى مِثلان اثنان؛ لأن المِثل لا يكون أعلى من المِثل الآخر فيما تكون فيه المماثلة. وإذا فُرِضَ أنهما متماثلان، أو متكافئان متساويان، لم يكن أحدهما أعلى من الآخر، وإن لم يكونا متكافئين متساويين، فالموصوف بالمثل الأعلى واحد.وبذلك يكون قوله تعالى:﴿وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ ﴾، قد تضمَّن إثباتًا، ونفيًا في آن واحد.
فتأمل هذه الأسرار البديعة، التي لا تجدها إلا في البيان الأعلى ! فسبحان الله الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، له الفضل وله المنَّة، لا يقاس بالقياس، ولا يشبه بالناس.. سبحانه وتعالى !
بقلم الأستاذ محمد إسماعيل عتوك
موضوع مغلق


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 12 ( الأعضاء 0 والزوار 12)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 322.71 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 316.89 كيلو بايت... تم توفير 5.82 كيلو بايت...بمعدل (1.80%)]