تقويم اللسانين - الصفحة 2 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12410 - عددالزوار : 208984 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 167 - عددالزوار : 59566 )           »          الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 60 - عددالزوار : 758 )           »          الأعمال اليسيرة.. والأجور الكثيرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          خواطر متفرقة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »          السلفية منهج الإسلام وليست دعوة تحزب وتفرق وإفساد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 35 )           »          القذف أنواعه وشروطه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »          العمل التطوعي.. أسسه ومهاراته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3 - عددالزوار : 65 )           »          الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 59 - عددالزوار : 15883 )           »          الضلع أعود (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها > ملتقى الإملاء

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #11  
قديم 16-02-2021, 03:30 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,380
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تقويم اللسانين


قال محمد تقي الدين: يرحم الله ابن سيدة ما أشد حرصه على سلامة اللغة العربية، والمحافظة عليها من الاختلال، فحيا الله ذلك الزمان الذي كان فيه للغة العربية حماتها وأنصارها يذودون عن حماها ويصونونها من العابثين والجاهلين. فإنه رحمه الله، لم يستطع أن يقيس فيوجد لهذه الصفة فعلا لأنه لم يسمعه مرويا عن العرب مع أنه قياس وجيه فإن فعيلا يأتي في الغالب من فَعُل بالضم كعَظُم فهو عظيم، وجمل فهو جميل، وكرم فهو كريم. وقد ذكر بعد ذلك صاحب اللسان الفعل فإن لم يسمعه ابن سيدة فقد سمعه غيره وأثبته وتبين مما نقلته من كلام اللسان أنه يمكن أن يقال رجل شخيص بمعنى رجل نبيل فيكون بديلا عن اللفظ الأعجمي الأصل وهو الشخصية فيقال شخيص وشخصاء بدل شخصية وشخصيات وشخيص أجمل لفظا مع كونه مرويا وليس فيه تأنيث فيصح أن يكون ترجمة لذلك اللفظ الإنكليزي إذا احتيج إليه وأقبح من ذلك لفظ تحيرت في معناه الألباب، اخترعه شخص جاهل فنشرته مجلة دعوة الحق الغراء بدون تعليق مع أنه تكرر في مقالات هرف بها ذلك الشخص ولا نقول إنه شخيص وقد تعجب أحد كبار العلماء المصريين وهو صاحب الفضيلة الشيخ عبدالرحمن الوكيل من هذا اللفظ حين كتب إليه ذلك الشخص كتاباً خاصاً واستعمل فيه ذلك اللفظ المخترع المكذوب على اللغة العربية ألا هو (الشخصانية) ثم ولد لفظا آخر وهو (التشخصن) فصار ابنا للشخصانية ومثل هذا يزري بمجلة دعوة الحق وهي مجلة لها مقام سام في النوادي الأدبية في أنحاء العالم فعسى أن يتنبه سيادة رئيس التحرير لذلك وما نقلته من تعجب الأستاذ الوكيل وتحيره في ذلك اللفظ في (مجلة الهدى النبوي) التي كان يصدرها في القاهرة إلى أن توقفت بعد حرب يونيو 1967.

7- ومن التعابير التي شاعت في هذا الزمان قولهم ساعدته الظروف أو لم تساعده الظروف أو حالت الظروف بينه وبين ما يريد وهو كثير في كلام الخاصة والعامة وهو استعمال غير عربي، ولنبدأ بمعرفة معنى الظرف والظروف لننظر هل يصح إسناد الفعل إليها على سبيل المجاز العقلي كما يسند إلى الزمن والدهر والليل والنهار أو لا يصح؟ - أما إسناد الفعل إلى الدهر على سبيل المجاز العقلي شائع في كلام العرب فمن ذلك قول وزير عزله ملكه من الصباح إلى الزوال ثم رضي عنه ورده إلى مكانته من مخلع البسيط.


عاداني الدهر نصف يوم
فانكشف الناس لي وبانوا

يا أيها المعرضون عني
عودوا فقد عاد لي الزمان




وذلك أنه حين عزل تنكر الناس له وتغيروا فقال لهم ارجعوا إلى ما كنتم عليه من التملق والتعظيم فإن الزمان الذي عاداني وأعرض عني فاقتديتم به قد عاد إلي وأقبل علي فعودوا أنتم أيضا فأسند العداوة إلى الدهر والعَوْدُ إلى الزمان على سبيل المجاز، والزمن لم يعاده في الحقيقة ولم يُقْبِل عليه:
ومثل ذلك قول آخر:
رأيت الدهر في خفض الأعالي
وفي رفع الأسافلة اللئام

فقيها صح في فتواه قول
بتفضيل السجود على القيام



والدهر لم يرفع أحدا ولم يخفضه بل الخافض الرافع هو الله تعالى وإنما ذلك مجاز أسند الفعل فيه إلى ملابسه، وهو زمانه الذي وقع فيه، فقوله عاداني الدهر أي عاداني الناس والسلطان في الدهر، وعاداني الزمان أي عاداني الحظ في الزمان، ومثل ذلك إسناد الفعل إلى الدنيا والعرب تفعل ذلك كثيرا قال ابن الوردي في لاميته:
اترك الدنيا فمن عادتها
تخفض العالي وتعلي ومن سفل


وقال غيره:
سألت عن الدنيا الدنية قيل لي
هي الدار فيها الدائرات تدور

إذا أقبلت ولت وإن أحسنت أمس
ت وإن عدلت يوما فسوف تجور


وإسناد الفعل إلى الدنيا كإسناده إلى الزمان لأن الدنيا في الأصل صفة الحياة، وبذلك جاء القرآن في غير موضع، والمراد بالدنيا: القربى فُعْلى: من الدنو وتقابلها الحياة الأخرى وإسناد الأفعال إلى الظروف يقصد به ما قصد بإسنادها إلى الزمان والدهر فالظاهر أنهم أخذوا ذلك من تعبير النحاة بظرف الزمان، فإن قيل فهمنا من كلامك أنك لا تنكر إسناد الفعل إلى الزمان على سبيل المجاز، وقد اعترفت بأن مراد المعبرين بالظروف الأزمنة والأوقات فلماذا حملت عليهم هذه الحملة الشديدة؟ فالجواب أن هناك فرقا كبيرا بين إسناد الفعل إلى الزمان وإسناده إلى الظرف مفردا أو مجموعا لأن تعبير النحاة اصطلاح وليس بحقيقة لغوية فإن العرب لم تسم الزمان ظرفا ولا الأوقات ظروفا قال صاحب اللسان: وظرف الشيء وعاؤه، ومنه ظروف الأزمنة والأمكنة الليث، الظرف وعاء كل شيء، حتى إن الإبريق ظرف لما فيه والصفات في الكلام التي تكون مواضع لغيرها تسمى ظروفا من نحو أمام وقدام وأشبه ذلك. تقول خلفك زيد إنما انتصب، لأنه ظرف لما فيه وهو موضع لغيره، وقال غيره: الخليل يسميها ظروفا، والكسائي يسميها الحال، والفراء يسميها الصفات والمعنى واحد، اهـ. فالظرف كما قلنا اصطلاح لبعض النحاة يشمل الزمان والمكان ولا يجوز أن يعبر في اللغة عن الزمان بالظرف فلا يقال أقمت في المدينة الفلانية ظرفا طويلا أو قصيراً وإنما يقال أقمت زمانا، أما قول الشاعر:
رأيت الدهر في خفض الأعالي

فإنه يشير إلى خلاف جار بين الفقهاء فيما هو أفضل أطول القيام في صلاة النوافل، أم كثرة السجود؟ أي السجدات، فقال قوم: كثرة السجود أفضل، واحتجوا بما رواه مسلم عن ربيعة ابن مالك الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلمسل فقلت أسألك مرافقتك في الجنة فقال أو غير ذلك قلت هو ذاك قال فأعني على نفسك بكثرة السجود) وقال آخرون طول القيام أفضل من كثرة السجود، واستدلوا بحديث ورد في ذلك.

8- ثلاثينات أو الثلاثينيات:- ومن التقليد القردي ما يعبر به المذيعون في إذاعة لندن وغيرها إذا أرادوا أن يؤرخوا حادثة من الحوادث أنهم يقولون: وقع ذلك في الثلاثينات أو الثلاثينيات أو الأربعينات أو الأربعينيات من القرن التاسع عشر مثلا وهذه العبارة ترجمة لفظية للتعبير الإنكليزي وهي في غاية الفساد لأن القرن الواحد لا تتعدد فيه الأربعون ولا ثلاثون ولا خمسون، فلا حاجة إلى جمعها ولا معنى له.

9- بيانات وخلافات وقرارات وما أشبه ذلك: ومن الأخطاء التي شاعت وذاعت في الزمان جمع كثير من الأسماء المذكرة من مصادر وغيرها بالألف والتاء فيقولون في جمع البيان بيانات، وفي جمع قرار قرارات، وفي جمع خلاف خلافات، وفي جمع جواز السفر جوازات. وهذا من أبين الخطأ لأن المفردات التي تجمع هذا الجمع معروفة، ولا تجوز الزيادة عليها إلا ما سمع من العرب وقد جمعها بعضهم بقوله:
وقسه في ذي التا ونحو ذكرى
ودرهم مصغرا وصحرا

وزينب ووصف غير العاقل
وغير ذا مسلم للناقل


فالأول ذو التاء يعني تاء التأنيث كغرفة وغرفات وصلاة وصلوات وكاتبة وكاتبات وفاطمة وفاطمات ولو كان مذكرا كطلحة وطلحات، والثاني، ما كان آخر ألف التأنيث المقصورة نحو ذكرى وذكريات وبشرى وبشريات وحبلى وحبليات، والثالث الاسم إذا صغر وكان لمذكر مما لا يعقل، كدريهم ودريهمات وغزيل وغزيلات، والرابع: ألف التأنيث المدودة، كحمراء وحمراوات وصفراء وصفراوات، الخامس: كل اسم علم مؤنث وإن لم تكن فيه التاء كزينب وزينبات وهند وهندات، السادس: وصف غير العاقل كقوله تعالى:﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾ ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ﴾ فإن معلومات جمع معلوم، ومعدودات جمع معدود، هذه ستة يقاس فيها الجمع بالألف والتاء، وقد سمع من العرب جمع الحمام على حمامات وجمع السرادق على سرادقات، قال صاحب اللسان: السرادق ما أحاط بالبناء والجمع سرادقات، قال سيبويه جمعوه بالتاء وإن كان مذكرا حين لم يكسر، وفي التنزيل:﴿ أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ﴾ في صفة النار أعاذنا الله منها، وسورة الكهف رقم (29).

وقال ابن كثير في تفسيره: قال ابن جريج: قال ابن عباس أحاط بهم سرادقها، قال حائط من نار اهـ. فإن قلت فكيف نجمع هذه الألفاظ أقول، أما القرار فيستغنى بجمع المقرر عن جمعه فيقال المقررات وهو داخل في القسم السادس مما تقدم، وأما البيان فيجمع على أبينة لأن فعالا يجمع على أفعلة، وأما الخلاف فهو مصدر لا حاجة إلى جمعه فإذا أردنا كثرته نقول خلاف كثير، أم جواز السفر فيجمع على أجوزة، وكل اسم يراد جمعه ينظر في قواعد جموع التكسير ويجرى عليها.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #12  
قديم 16-02-2021, 03:31 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,380
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تقويم اللسانين

تقويم اللسانين (10)

د. محمد تقي الدين الهلالي




1- فلان يريد مقابلة الرئيس:
من العبارات التي شاعت وذاعت في هذا الزمان وهي من الكلمات المولدة التي لم تستعملها العرب قولهم فلان يريد مقابلة الرئيس على صيغة المصدر. ويستعملونه أيضا فعلا: كقابلته وأقابله، أو أن الرئيس لا يقابل أحدا في هذا اليوم. وكل ذلك استعمال فاسد ولا حاجة إليه والصواب أن يقال فلان يريد لقاء الرئيس أو الاجتماع به وما أشبه ذلك قال صاحب اللسان واستقبل الشيء وقابله حاذاه بوجهه، وقال في موضع آخر ويقال فلان جلس قبالته، أي تجاهه ثم قال: ومقابلة الكتاب بالكتاب وقباله به معارضته، وتقابل القوم استقبل بعضهم بعضا، وقوله تعالى في وصف أهل الجنة: ﴿ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ﴾ جاء في التفسير إنه لا ينظر بعضهم في أقفاء بعض، ثم قال المقابلة المواجهة والتقابل: مثله.

قال محمد تقي الدين: - نفهم من كل ما تقدم أن المقابلة المواجهة بين إنسانين أو شيئين وغيرهما. والتقابل التواجه وهو أن يستقبل الواحد الآخر وجها إلى وجه سواء أكان قريبا أم بعيدا وهذا المعنى وإن كان يمكن تأويله باللقاء والاجتماع، فإنه لم تجر به عادة العرب الفصحاء في تخاطبهم، وإنما هي عامية مصرية أدخلها الكتاب المصريون فيما يكتبونه من الفصيح، فتبعهم غيرهم من الكتاب كما تقدم في النقد العاشر من هذه المجموعة من قول المصريين (نسيت أنا الآخر) أو (غاب هو الآخر) فهي عامية مصرية أيضا. والمصريون لهم فضل وتقدم في الأدب العربي وغيره من العلوم فلا ينبغي لأحد أن يستنكف من الاقتداء بهم في صوابهم ولكنهم، مع ذلك كغيرهم، غير معصومين من الخطأ فلا يجوز تقليدهم تقليد الأعمى بل يجب على الكاتب أن يكون بصيرا بما يكتب، وبما يتكلم به، ويقرأه ويجعل الحكم للدليل.

2- ويقولون مثلا في منتصف شوال أو مارس القادم يريدون الشهر الآتي والشهر لا يوصف بالقدوم إلا على سبيل التشبيه بالمسافر والتشبيه لا يحسن في كل موضع وقد صار ديدن الكتاب ألا يقولوا في الغالب إلا العام القادم وذلك تعبير يشين وجه اللغة العربية وأظنهم أخذوه من اللغة الإنكليزية لأنها لضيقها، ليس لها ألفاظ بإزاء كل معنى من المعاني فليس لها إلا لفظ واحد تستعمله لكل آت والقراء الذين يعرفون الإنكليزية يفهمون هذا حق الفهم، وليس عندي الآن من يكتبه بالإنكليزية إذا أمليته عليه فلذلك تركته واكتفيت بالإشارة (وكل لبيب بالإشارة يفهم) الدليل على ما قلته قال الفيروز أبادي في القاموس المحيط ما نصه: وقدم من سفره: كعلم، قدوما وقدماناً بالكسر: آب فهو قادم، ومنه نعلم أن القدوم لا يستحسن استعماله للعام والسنة والشهر، بل يقال الشهر الآتي والسنة القابلة والعام القابل، ولو استغنيت بالوصف فقلت مثلا لم أستطع أن أزورك في هذا العام وسأزورك في القابل إن شاء الله، لجاز ذلك وكان فصيحا أما الشهر فيقال فيه الآتي وأما قوله سبحانه وتعالى في سورة هود رقم (98) حكاية عن فرعون ﴿ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ﴾ فهو من قدم (بفتح الدال) في الماضي وضمها في المضارع بمعنى يتقدمهم يسير أمامهم إلى جهنم حتى يوردهم النار أي يدخلهم إياها وشبهت النار بالمورد وهو الماء الذي يقصد للشرب، والاستقاء أي أخذ الماء والتزود منه فعبر الكتاب العزيز بأورد، وأما قدم المسافر فهر بكسر الدال في الماضي وفتحها في المضارع، كما أشار إليه صاحب القاموس بقوله كعلِم.

3- ومن ذلك قولهم جلسة الأمس:
يعنون بذلك الجلسة التي وقعت في نهار اليوم الذي قبل يومك الذي أنت فيه. وهذا خطأ سببه الجهل باللغة وعدم التفريق بين معنى الأمس بالألف واللام وأمس بدونهما وبين اللفظين بَوْن بعيد تضل فيه القطى، فإنه إذا جاء بالألف واللام معناه الزمان الذي قبل زمانك دون تعيين يوم قريب أو بعيد وأما أمس بدون الألف واللام فمعناه نهار اليوم الذي قبل يومك. وأما الليلة التي قبل يومك فتسمى البارحة وأكثر الكتاب لا يميزون بين أمس والبارحة فيظنوهما سواء قال سليمان بن عمر الملقب بالجمل في حاشيته على تفسير الجلالين عند قوله تعالى رقم (24) من سورة يونس:﴿ فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ﴾.

ما نصه: قوله بالأمس المراد به الزمن الماضي لا خصوص اليوم الذي قبل يومك، وأما أمس الذي هو اسم لنهار اليوم الذي قبل يومك الذي أنت فيه، ففيه لغتان للعرب: لغة الحجاز ولغة تميم، أما أهل الحجاز فهو مبني عندهم على الكسر في حال الرفع والنصب والجر تقول مضى أمسِ، بكسر السين، فهو فاعل مبني على الكسر في محل رفع. وتقول في النصب فعلت ذلك أمس، فأمس ظرف مبني على الكسر في محل نصب وتقول ما رأيته مذ أمس فمذ حرف جر، وأمس مبني على الكسر في محل جر، وفي كل هذه الأحوال تكسر السين من أمس بدون تنوين أما لغة تميم فإنهم يجرونه على إعراب ما لا ينصرف تقول على لغتهم مضى أمسُ بالرفع بدون تنوين، فأمسُ فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة في آخره وتقول في النصب فعلت ذلك أمسَ بدون تنوين فأمس ظرف زمان منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة في آخره، وتقول في حال الجر ما رأيته مذ أمْسَ فمذ حرف جر وأمس مجرور وعلامة جره الفتحة النائبة عن الكسرة لأنه اسم لا ينصرف وعلى هذه قول الشاعر:
لقد رأيت عجبا مذ أمسا
يأكلن ما في رحلهن همسا




فقوله (مذ أمسَ) الألف زائدة لإطلاق القافية وأمس مجرور وعلامة جره الفتحة النائبة عن الكسرة لأنه اسم لا ينصرف، والسعالى جمع سعلاة، قال صاحب القاموس السِّعلاة والسعلاء بكسر السين فيهما الغول أو ساحرة الجن وتشبه المرأة العجوز عند إرادة ذمها بالسعلاة، قال الشاعر:
يا قبح الله بني السعلاة
زيد بن عمرو من شرار النات


قاله يهجو بني زيد بن عمرو، وشبه أمهم العجوز بالسعلاة وقوله في آخر البيت من شرار النات يعني من شرار الناس بإبدال السين تاء. وقال أبو حيان في تفسيره المسمى بالبحر المجلد الخامس ص 144 في تفسير الآية المتقدمة ما نصه وقوله كأن لم تغن بالأمس مبالغة في التلف والهلاك حتى كأنها لم توجد قبل ولم يقم بالأرض بهجة خضرة نضرة تسر أهلها وهو من غنى بكذا، أقام به. قال الزمخشري والأمس مثل في الوقت كأنه قيل كأن لم تغن آنفا اهـ - وليس الأمس عبارة عن مطلق الوقت ولا هو مرادف لقوله آنفا لأن آنفا معناه الساعة. والمعنى كأن لم يكن لها وجود فيما مضى من الزمان، انتهى كلام أبي حيان وهو واضح في أن الأمس تدل على الزمان الماضي قبل النطق بها من غير تعيين ليوم بعينه وقد خطأ أبو حيان الزمخشري في التعبير عن ذلك الوقت الماضي بقوله آنفا لأن معنى، آنفا: وقت قريب جدا من وقت النطق فلذلك عبروا عنه بالساعة أي في هذه الساعة. وهذا اللفظ بمعناه الذي أشار إليه أبو حيان موجود في سورة محمد رقم (16) قال تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا ﴾ معناه: من المنافقين من يستمع إليك يا محمد، وأنت تحدث الناس، حتى إذا خرجوا من عندك قال المنافقون للمؤمنين الذين آتاهم الله العلم بكتابه وسنة رسوله، ماذا قال محمد آنفا أي في هذه الساعة حين كنا عنده، ولقد صدق أبو حيان في تخطئة الزمخشري فإن الأمس تدل على وقت من الزمان الماضي غير معين، وقال الإمام بن جرير الطبري في تفسيره الجزء الحادي عشر صفحة 72 ما نصه قوله أتاها أمرنا ليلا أو نهارا يقول جاء الأرض أمرنا: يعني قضاءنا بهلاك ما عليها من النبات إما ليلا أو نهارا فجعلناها: يقول فجعلنا ما عليها حصيدا يعني مقطوعة مقلوعة من أصولها وإنما هي محصودة صرفت إلى حصيد كأن لم تغن بالأمس يقول كأن لم تكن تلك الزروع والنبات على ظهر الأرض نابتة قائمة على الأرض قبل ذلك بالأمس وأصله من غني (بكسر النون) فلان بمكان كذا، يغنى (بفتح النون) به إذا أقام به كما قال النابغة الذبياني:

غنيت بذلك إذ هم لي جيرة
منها بعطف رسالة وتودد


يقول فكذلك يأتي الغناء على ما يتباهون به من دنياهم وزخارفها فيغنيها ويهلكها كما أهلك أمرنا وقضاؤنا نبات هذه الأرض بعد حسنها وبهجتها حتى صارت كأن لم تَغْنَ بالأمس كأن لم يكن قبل ذلك نبات على ظهرها انتهى كلام ابن جرير وعبارة البغوي والخازن موافقة لما نقلنا عن الإمام ابن جرير، ثم تأملت كلام النسفي في تفسيره فوجدته قد اقتدى بالزمخشري فأخذ كلامه بلفظه وقد رأيت ما رد به أبو حيان عليه، وقال صاحب المصباح في (أمس) اسم علَم على اليوم الذي قبل يومك ويستعمل فيما قبله مجازا وهو مبني على الكسر وبنو تميم تعربه إعراب مالا ينصرف فتقول ذهب أمس بما فيه بالرفع، قال الشاعر:
لقد رأيت عجبا مذ أمسا
عجائزا مثل السعالى خمسا



انتهى كلام المصباح - وقال ابن هشام في القطر، ص 20 وأما أمس إذا أردت به اليوم الذي قبل يومك فأهل الحجاز يبنونه على الكسر فيقولون مضى أمس واعتكفت أمس، وما رأيته مذ أمس بالكسر في الأحوال الثلاثة، قال الشاعر:
منع البقاء تقلب الشمس
وطلوعها حمراء صافية

اليوم أعلم ما يجيء به
وطلوعها من حيث لا تمسي

وغروبها صفراء كالورس
ومضى بفصل قضائه أمس




انتهى كلام ابن هشام، ثم ذكر بعد ما نقلت عنه ما تقدم في كلام المصباح أن بني تميم يعربونها إعراب مالا ينصرف إلا أنه ذكر تفصيلا في ذلك لم أر نقله فراجعوه إن شئتم، وقد يدخل الألف واللام على أمس الذي يراد به نهار اليوم الذي قبل يومك الذي أنت فيه لضرورة الشعر قال: زهير بن أبي سلمى في معلقته:
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله
ولكنني عن علم ما في غد عم




ومن استعمال الأمس بمعنى الزمان الماضي قول بعض المحدثين:
إن الوجوه التي قد
كنت تعرفها

بالأمس كانوا هنا
واليوم قد رحلوا




يعني الأحبة كانوا هناك فيما مضى من الزمان واليوم لا يوجدون. وخير ما يحتج به في هذا المقام قول الله تعالى المتقدم ذكره في سورة يونس: ﴿ فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ﴾ ولا يصح بوجه أن يراد به كأن لم تكن قبل يوم واحد كما رأيت نصوص الأئمة في ذلك إذا تقرر هذا فاعلم أن صاحب لسان العرب وصاحب القاموس ذكرا كلاما مفصلا في أحكام (أمس) اللفظية ولم يحققا معناه إذا كان بالألف واللام وإذا كان بدونها وإذا أريد بأمس يوم من الأيام الماضية فإنه يعرب وينون تقول لم يقع ذلك في أي أمس من الأموس أي لم يقع هذا الأمر في أي يوم من الأيام الماضية ومن ذلك تعلم أن أمس إذا كان نكرة يجمع على أموس في جمع الكثرة وأمُس، بضم الميم، كفلس وأفلس في جمع القلة ويظهر لي أن أداة التعريف تدخل على أمس النكرة ولا تدخل على أمس إذا كان معرفة إلا لضرورة الشعر كما تقدم مثاله.

4- ومن ذلك قولهم في الشيء الذي هو في غاية الكمال أو الجمال (ممتاز) وهو مأخوذ من اللغات الأجنبية لأن العرب لا تقول في الاستحسان والتفوق ممتاز بل تقول حسن، جميل جدا، فائق، بلغ الغاية في الكمال، ونحو ذلك. أما الممتاز فهو الذي يتميز عن غيره، قال تعالى في سورة يس رقم (59) ﴿ وامتازوا اليوم أيها المجرمون ﴾ جاء في تفسير الجلالين في هذه الآية ما نصه: ﴿ سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ﴾ سلامٌ مبتدأ (قولا) أي بالقول خبره ﴿ مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ﴾ بهم، أي يقول لهم سلام عليكم (و) يقول ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾ أي انفردوا عن المؤمنين عند اختلاطهم بهم، اهـ.

قال محمد تقي الدين في إعراب قوله تعالى سلام ﴿ سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ﴾ وجوه أحدها ما ذكره وأحسن منه أن يقال سلام مبتدأ وسوغ الابتداء بالنكرة أمور منها العموم، وقولا مفعول مطلق لفعل مقدر، تقديره سلام. يقال لهم قولا، والجملة الفعلية في محل رفع، خبر المبتدأ، أما المعنى فهو أن الله سبحانه وتعالى يقول للمؤمنين السعداء: سلام عليكم، تكريما لهم وهم في دار كرامته ويقول للمجرمين الكافرين والمنافقين امتازوا اليوم أيها المجرمون انفردوا وتميزوا عن المؤمنين لتنالوا العذاب المهين، فالمجرمون ممتازون عن المؤمنين وليس ذلك من المدح في شي فقد يتميز الإنسان أو الشيء عن غيره بالحسن أو القبح أو السعادة أو الشقاء فإطلاق ممتاز للاستحسان من غزو اللغات الأوربية للغة القرآن نسأل الله أن يأخذ بيدها ويرد لها شبابها وجمالها، وقال صاحب القاموس وتميز القوم وامتازوا صاروا في ناحية، وفي التنزيل العزيز: ﴿ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ﴾ أي تميزوا وقيل انفردوا عن المؤمنين.

5- ومن الأخطاء الشائعة عند المذيعين والمعلمين إلا قليلا منهم كسر الجيم من جُدة وهي بضم الجيم مدينة معروفة على ساحل البحر الأحمر وهي فرضة مكة شرفها الله، قال صاحب القاموس والجُد بالضم ساحل البحر بمكة كالجدة، وجدة موضع بعينه منه، اهـ، نفهم منه أن الجُد بضم الجيم، والجدة بالضم أيضا اسم بساحل البحر بقرب مكة، وجدة موضع بعينه من ذلك الساحل.

قال محمد تقي الدين:- وهذه الكلمة من مثلثات اللغة العربية التي هي بحر زاخر بالألفاظ والمعاني والمراد بالكلمة المثلثة هي التي يتغير معناها بتغير حركة الحرف الأول منها فيكون لها إذا فتح الحرف الأول منها معنى وإذا ضم يكون لها معنى ثان وإذا كسر يكون لها معنى ثالث، فالجَدة، بفتح الجيم أم الأب وأم الأم والجُدّة بضم الجيم، ساحل البحر بقرب مكة، والجِدة بكسر الجيم، ضد البلى والقدم، وفي لغة القرآن من هذه المثلثات شي كثير خصه بالتأليف إمام النحو قطرب فنظم قصيدة ضمنها كثيرا من المثلثات منها قوله:
الغَمر ماء غزرا
والغُمر ذو جهل سرا

والغِمر حقد سترا
من عجم أو عرب


أفاد بذلك أن الغَمر بفتح الغين، هو الماء الكثير والغِمر بكسرها هو الحقد الكامن في الصدر والغُمر، بضم الغين هو الجاهل الذي لا يميز بين الحق والباطل، والحالي والعاطل وهكذا كل أبيات هذه القصيدة، ويوجد كتاب أوسع من ذلك وأشمل للمثلثات وهو مثلثات العرب لبعض المتأخرين واسمه حسن قويدر.

المصدر: "مجلة دعوة الحق"


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #13  
قديم 16-02-2021, 03:32 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,380
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تقويم اللسانين

تقويم اللسانين (11)

د. محمد تقي الدين الهلالي





1- ومن الأخطاء الشائعة في هذا الزمان في الإذاعة وعلى ألسنة الناس استعمال التصليح في معنى الإصلاح، ولم نجد ذلك في كتب اللغة ولا في القرآن الكريم الذي هو أساس اللغة العربية، أما القرآن فقد قال تعالى في سورة النساء ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [النساء: 114]، وقال تعالى في سورة الحجرات ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ﴾ [الحجرات: 10]، وهو كثير في القرآن، وكله من أصلح، وأما كتب اللغة فقد قال صاحب القاموس (الصلاح) ضد الفساد كالصلوح، صلح، كمنح وكرم وهو صلح، بالكسر، وصالح، وصلح، وأصلح ضد أفسده، اهـ.

2- ومن العبارات المأخوذة من اللغات الأجنبية (الأوربية) التعبير عن علماء الدين برجال الدين وهو تعبير ظاهر الفساد لأن كل من كان له دين يدين به سواء أكان من العلماء بالدين أم لم يكن منهم فهو من رجال الدين، ورجال الدين عند النصارى هم أصحاب الرتب الدينية وهي متفاوتة عندهم كتفاوت رتب قواد الجيوش، فكما أن رتب قادة الجيش تبتدئ من ملازم وتنتهي في رتبة مشير فكذلك رتب رجال الدين عند طوائف النصارى، فعند الكاثوليكيين تبتدئ من أدنى قسيس يجوز له أن يؤم الناس في كنيسة وتنتهي في رتبة البابا، وعند البروتستانتيين الذي لا يؤمنون بالبابا لهم رتب معلومة عندهم، أما الإسلام فليس فيه رهبانية ولا رتب دينية، ولكن ينقسم المسلمون إلى علماء بالكتاب والسنة وعلومهما ترجع إليهم العامة في الاستفتاء والقضاء وإمامة الصلاة، وليس في الإسلام رتب دينية ولا بابوية ولا رهبانية، ولا مجمع يمنح الرتب الدينية ويسلبها فالصواب إذن التعبير بعلماء الدين، قال تعالى في سورة المجادلة: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11] اهـ.

3- ومن الأخطاء الشائعة التي يأسف لها من كان عنده أدنى شيء من محبة اللغة العربية والغيرة عليها جمعهم المدير وهو الذي يدبر شؤون مصلحة من مصالح الدولة على مدراء توهما منهم أنه من باب فَعِيل بفتح الفاء وكسر العين، الذي يجمع على فُعَلاء بضم الفاء وفتح العين، كحكيم وحُكماء وكريم وكُرماء وبخيل وبُخلاء، وبينهما بون شاسع، لا يلتبس أحدهما بالآخر إلا على من ليس له من علم اللغة العربية أدنى نصيب، فإن المدير وزنه مفعل من أدار يدير الرباعي فالصواب جمعه جمع مذكر سالما على مديرين، كمقيم من أقام يجمع على مقيمين، قال الله تعالى في سورة الحج، وبعد قوله تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [الحج: 34، 35] قال ابن مالك في الألفية:
ولكريم وبخيل فعلا
وناب عنه أفعلاء في المعل

كذا لما ضاهاهما قد جعلا
لاما ومضعفا وغير ذلك قل


قال ابن عقيل في شرح هذين البيتين، من أمثلة جمع الكثرة فعلاء هو مقيس في فعيل بمعنى فاعل صفة لمذكر عاقل غير مضاعف ولا معتل نحو ظريف وظرفاء وكريم وكرماء وبخيل وبخلاء وأشار بقوله كذا لما ضاهاهما إلى ما شابه فعيلا في كونه دالا على معنى وهو كالغريزة يجمع على فعلاء، نحو عاقل وعقلاء وصالح وصلحاء وشاعر وشعراء وينوب عن فعلاء في المضاعف والمعتل أفعلاء نحو شديد وأشداء وولي وأولياء وقد يجيء أفعلاء جمعا لغير ما ذكر نحو نصيب وأنصباء وهين وأهوناء، والقياس نصباء وهوناء.

توضيح لكلام ابن عقيل:
رب قائل يقول إن كلام ابن عقيل واضح لا يحتاج إلى توضيح، وتوضيح الواضحات من الفاضحات، فأقول على رسلك إني أحب أن يستفيد من هذه المقالات، القراء كلهم أو أكثرهم وأنا أعلم أن فيهم ضعفاء يصعب عليهم أن يفهموا كلام ابن عقيل فهما تاما ولذلك يدرس في الجامعات والمعاهد ولو كانت قراءته تكفى ما احتاج الطلبة إلى مدرسين يوضحونه لهم، فأقول في توضيحه فيه مسائل:
الأولى:- إن هذا الجمع وهو فعلاء وأخوه أفعلاء من جموع الكثرة وقد تقدم ذكر جموع القلة في هذا الباب من كلام ابن مالك وشرحه لابن عقيل وهي أربعة.

الثانية: قوله كل فعيل بمعنى فاعل احترز به من فعيل بمعنى مفعول كقتيل بمعنى مقتول وجريح بمعنى مجروح وكحيل بمعنى مكحول وكسير بمعنى مكسور فقد تقدم ذكر جمعها فبخيل إذا وصف به شخص فهو فاعل البخل وهو المتصف به وكريم وهو فاعل الكرم المتصف به وهكذا يقال في ظريف وشريف وعظيم وما أشبه ذلك.

الثالث: احترز بقوله (صفة) من فعيل اسما كقضيب فلا يجمع على فعلاء واحترز بقوله (مذكر) من مؤنث كشريفة المؤنث فإنه يجمع على شرائف وشريفات، واحتزر بقوله، عاقل من فعيل صفة لغير العاقل كمكان فسيح أي متسع فلا يجمع على فعلاء بل يجمع على فسح، بضمتين، واحتزر بقوله، بمعنى فاعل من فعيل بمعنى مفعول كقتيل، وقد تقدمت الإشارة إليه.واحتزر بقوله غير مضاعف من المضاعف كشديد وخليل فإنهما يجمعان على أفعلاء كما سيأتي قريبا، واحتزر بقوله غير معتل اللام من معتل الآخر كولي وصفي فإنهما يجمعان على أفعلاء.

الرابعة: إن ما شابه فعيلا المذكور في معناه وإن خالفه في لفظه يجمع كذلك على فعلاء إذا كان دالا على معنى هو كالغريزة أي لازم لمن اتصف به لا ينفك عنه كعاقل وعقلاء وصالح وصلحاء وما أشبه ذلك فعاقل وصالح يشبهان بخيلا وكريما في المعنى لأنهما يدلان على صفة لازمة للموصوف بخلاف آكل وضارب فإنهما صفتان لا تلازمان الموصوف وإنما يتصف بهما في بعض الأحيان.

الخامسة: إذا كان فعيل مضاعفا، أعني أن عينه ولامه حرف واحد متكرر كشديد وجليل فإنه ينوب عن فعلاء أخوه أفعلاء فتقول أخلاء وأشداء وأجلاء، وكذلك إذا كان معتل اللام كولي وغني وسخي فإنه يجمع على أفعلاء كأولياء وأغنياء وأسخياء.

السادس: جاء جمع فعيل على أفعلاء لغير ما ذكر بقلة فيما لم توجد فيه الشروط المتقدمة كنصيب وأنصباء فإن نصيباً اسم وليس بصفة وهين وأهوناء فإنه ليس فعيلا وهو صفة ليست خاصة بالعقلاء.

4- ومن المصائب التي جاء بها الاستعمار الأجنبي (العملية) استعملوها أولا في الجراحات الطبية فأخذوا يقولون فلان أدخل المستشفى فأجريت له عملية جراحية ثم توسعوا فيها فصاروا يعبرون بها عن كثير من الأعمال فيقولون عملية التفتيش وعملية إنزال البضائع من الباخرة فيقحمونها قبل مصدر يدل على المعنى المطلوب فتكون عبثا وتكثيرا للكلام بلا فائدة وهذا الاستعمال مأخوذ من اللغات الأجنبية ترجم بها جهال المترجمين الكلمة الفرنسية operation وبالإنكليزية آبريشن، ولم تستعملها العرب ولا من جاء بعدهم من الكتاب والشعراء والمؤلفين واستعمالها يخدش وجه اللغة العربية ويشينها فينبغي للأديب الذي يحافظ على جمال لغة القرآن وفصاحتها ألا يستعملها في إنشائه فإن كان ولا بد فليقل علاج جراحي أو عمل جراحي، أما عملية التفتيش أو عملية إنزال البضائع من الباخرة ففي مثل ذلك يحذفها ويعبر بالتفتيش أو إنزال البضائع بدون ذكر العملية وبالله التوفيق.

5- ومن الكلمات الدخيلة التي جاء بها هذا العصر التبسيط يقال شرح الكتاب شرحا بسيطا ويقال يجب تبسيط كتب النحو يريدون بذلك التسهيل. أخذ ذلك من لفظ بسيط وقد تقدم انتقاد استعماله في نقد استعمال البساطة للتعبير عن السهولة في النقد الثاني عشر من تقويم اللسانين وهذا أيضا مما أخذ من اللغات الأجنبية بلا علم ولا هدى قال صاحب القاموس المحيط بسطه، نشره كبسطه بالتشديد اهـ فالبسط والتبسيط معناهما التوسيع والنشر قال الله تعالى في سورة الشورى: ﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾ [الشورى: 27]، وقال تعالى في سورة القصص في قصة قارون لما رآه الذين يريدون الحياة الدنيا وزينتها حين خرج عليهم بزينته وأمواله: ﴿ يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [القصص: 79].

فرد عليهم الذين أوتوا العلم والإيمان بقولهم: ﴿ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ﴾ [القصص: 80] مما أوتي قارون من بهجة الحياة الدنيا وزينتها فلما رأوا ما حل به من الهلاك حين خسف الله به وبداره الأرض ندموا على ما فرط منهم كما حكى الله عنهم بقوله ﴿ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴾ [القصص: 82]قوله سبحانه يبسط الرزق لمن: أي يوسعه لمن يشاء من عباده، ويقدر أي يضيقه على من يشاء من عباده، وقولهم شيء بسيط هو ترجمة للكلمة الأجنبية simple يراد به شيء سهل غير مركب غير معقد وأخذوا منه بجهلهم بسّطه بتشديد السين جعله بسيطا أي سهلا غير معقد أو قليلا أو حقيرا، وكل ذلك ضلال مبين.

6- ومن الأمثال العربية قولهم ليس الخبر كالعِيان بكسر العين ومعناه لا يستوي ما سمعته وأخبرت به وما رأيته بعينك وقد نظم هذا المعنى شاعر، فقال:
يا ابن الكرام لا تدنو فتبصر ما
قد حدثوك فما راءٍ كمن سمعا


فالعيان، بكسر العين، هو المعاينة والمشاهدة أي الرؤية بالعين وكثير من المتكلمين بالعربية يفتح العين في العيان فتعمى الكلمة أي تفسد فإبصارها في كسرها وعماها في فتحها ومن كان عنده علم بقواعد العربية يدرك ذلك لأن العيان بكسر العين مصدر عاين ومثله المعاينة كقاتل قتالا ومقاتلة وجادل جدالا ومجادلة وحاسبه حساباً ومحاسبة، قال ابن مالك في الألفية:

لفاعل الفعال والمفاعلة
وغير ما جر السماع عادله


7- ومن الأخطاء الشائعة بين المذيعين والقراء قولهم كسب فلان المعركة والسباق، بكسر سين كسِب، والصواب فتحها في الماضي وكسرها في المضارع قال تعالى في سورة البقرة:«لَهَا مَا كَسَبَتْ» بفتح السن، وقال تعالى في سورة النساء: ﴿ وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِه ﴾ [النساء: 111] فقوله سبحانه وتعالى لها ما كسبت أي لكل نفس جزاء ما عملت من خير، وعليها عقاب ما اكتسبت من شر، وقال صاحب القاموس كسَبه بفتح السين يكسِبه بكسرها كسباً وتكسب واكتسب طلب الرزق أو كسب أصاب واكتسب تصرف وبإنعام النظر في ما نقلته هنا يظهر لك خطأ آخر وهو استعمال لهم كسب بمعنى ربح كأنه يقابل خسر فيقولون ليس في هذه الصفقة كسب بل فيها خسارة وقد عرفت فساد ذلك.

8- ومن الأخطاء التي يقع فيها كثير من المذيعين والقراء كسر الذال من كذب وهذا الفعل لفظه مشهور جدا مذكور في القرآن وهو بفتح الذال من الباب الثاني من الفعل الثلاثي كضرب يضرب بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع ومن ضعف اللغة العربية في هذا الزمن أن أكثر المدرسين والطلبة المتخرجين في الجامعات لا يعرفون الأبواب الستة التي أولها فعَل يفعُل بفتح العين في الماضي وضمها في المضارع وثانيها فعَل يفعِل بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع كضَرب يضرِب وكسب يكسب، وثالثها فعَل يفعَل بفتح العين في الماضي والمضارع كنصح ينصح وقطع يقطع وهذا الباب لا بد أن يكون عينه أي الحرف الثاني منه أو لامه الحرف الثالث منه حرف حلق، ولم يشذ عن هذه القاعدة إلا فعل واحد وهو أبَى يأبى فإن عينيه وهي الباء مفتوحة في الماضي والمضارع مع أن عينه ولامه ليستا من حروف الحلق، فهذا الباب محصور في كون عينه أو لامه حرف حلق إلا ما استثنى. غير أن الأفعال التي عينها أو لامها من أحرف الحلق لا تنحصر في هذا الباب بل تكون فيه وفي غيره كدخل يدخل فإنه من باب نصر ينصر، وصحب يصحب فإنه من الباب الرابع الذي سنذكره بعد وكنت أشبه ذلك في زمن الاستعمار حين أقرر هذه القاعدة للطلبة بالدولة المستعمرة بكسر الميم، والشعب المستعمَر بفتحها ففعَل يفعَل بفتح العين في الماضي والمضارع شبيه بالشعب المستعمر لا يجوز له أن يخرج من الحلق فإن الشعب الذي تستعمره فرنسا مثلا لا يجوز لأحد من أهله وإن كان ملكا أن يتصل بدولة غير فرنسا والشعب الذي تستعمره بريطانيا لا يجوز لأحد من أهله وإن كان ملكا أن يتصل بدولة أخرى كفرنسا مثلا، وقد وقع لي مثل ذلك حين كنت ضيفا على ملكة (بهوبال) في زمن الاستعمار الإنكليزي في الهند فقد جاءها بعض المتعصبين المبغضين لأهل الحديث، نضر الله وجوههم في الدنيا والآخرة وبالخصوص العالم المحدث الشيخ محمد بن حسين بن محسن الحديدي الأنصاري اليمني إلى الملكة وقال لها إن هذا الشخص الذي في ضيافتك وهو محمد تقي الدين الهلالي ليس عربيا من جزيرة العرب كما أخبرك به شيخه، ولكنه من عرب المغرب، ومن شروط الحماية البريطانية التي يجب عليك التزامها أن لا تتصلي بدولة أجنبية ولا برعاياها فراجت هذه المكيدة على الملكة وأرسلت إلي تعتذر وأمرت رئيس الضيافة الكرنل عبد القيوم خان أن ينقلني من دار الضيافة الملكية إلى بيته ويكرمني ولم يأذن له في ذلك شيخنا المذكور رحمه الله ونقلني إلى ضيافته تغمده الله برحمته.

أما الأفعال التي يوجد فيها حرف الحلق عينا أو لاماً فهي كالدولة المستعمرة حرة تخالط أهل مستعمراتها وتخالط من تشاء من الدول.

الرابع: فعِل يفعَل بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع وهذا قياس مطرد سواء أكان متعديا كعلِم يعلَم أو لازما كفرح يفرح.

الخامس: فعُل يفعُل بضم العين في الماضي والمضارع معا كحسن يحسن وعظم يعظم وكرم يكرم.

السادس: فعِل يفعِل، بكسر العين في الماضي والمضارع معا كورث يرث وولي يلي وعدد هذا القسم لا يزيد على ستة أفعال وهي على هذا الترتيب في الكثرة والقلة في كلام العرب، والباب الأول والثاني سماعيان لا ينضبطان إلا بالحفظ، والثالث كثير في كلام العرب يقرب أن يكون قياسيا، أما الرابع والخامس فهما قياسيان، والسادس قليل عدده، سهل حفظه، فإن قيل هذه الأفعال غير القياسية التي تحتاج إلى الحفظ هي مما جعل اللغة العربية صعبة التعلم، وجعل الشباب يعرضون عنها ويقبلون على اللغات الأوربية، أقول في جوابه: من جهل شيئا عاداه، إن اللغة العربية أسهل من اللغات الأوربية الشائعة، فالفرنسية فيها أفعال وتصاريف خارجة عن القياس، تزيد على الألف وفيها صعوبات أخرى ليس هذا مقام بسطها واللغة الإسبانية مثلها في صعوبة معرفة الأفعال، واللغة الألمانية فيها صعوبات كثيرة جدا في أفعالها وأسمائها ومعرفة المبني والمعرب من الأسماء وإعرابها أصعب، من إعراب اللغة العربية لأن المعربات في اللغة الألمانية، لا يتغير إعرابها لا في الوقف، ولا في الوصل، وفيها صعوبات أخرى، ليس هذا محل بسطها، وأما الإنكليزية فإن أكثر كلماتها تكتب بخلاف ما تقرأ وقد عكف أحد كبار العلماء البريطانيين على دراسة هذه المسألة فخرج بنتيجة وهي أن التلميذ الإنكليزي لو كتب اللغة الإنكليزية كما ينطق بها لوفر ذلك عليه سنتين كاملتين يتفرغ فيهما لدراسة علوم أخرى وطرح بحثه أمام مجلس العموم الإنكليزي فاختلف النواب فأخذت الآراء وذلك ما يسمى بالاقتراع أو أخذ الأصوات فكان أكثر الآراء مع المانعين لتغيير كتابة اللغة الإنكليزية القائلين نكتبها كما كتبها أسلافنا وإن كانت معرفة الكلمات على ما هي عليه يكلف أبناءنا دراسة سنتين كاملتين، والحق أن السبب الذي بغَّض الناس في اللغة العربية ليس إعرابها ولا صعوبة قواعدها ولكن خذلان أهلها لها، وعدم شعورهم بواجب خدمتها فضيعوها كما ضيعوا غيرها من الواجبات.

وإلى اللقاء في المقال التالي بعون الله.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #14  
قديم 16-02-2021, 03:33 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,380
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تقويم اللسانين

تقويم اللسانين (12)

د. محمد تقي الدين الهلالي





1- شاع في هذا الزمان قولهم (تأكدت من شيء) وأنا متأكد منه، وهو خطأ قال في اللسان (أكد العهد والعقد لغة في وكده وقيل هو بدل والتأكيد لغة في التوكيد) فقال صاحب القاموس (أكد الحنطلة رأسها وأكده تأكيدا وكده والأكيد الوثيق) وقال صاحب المنجد (أكد ووكد العهد أو السرج شده وأوثقه تأكد وتوكد توثق واشتد، الأكيد المحكم الوثيق، وقال أيضا أكد ووكد الشيء قرره، تأكد وتوكد تقرر، الأكيد: الثابت) اهـ.

وقال البيضاوي في تفسير قوله تعالى في سورة النحل: ﴿ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ﴾ [النحل: 91]، ﴿ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ﴾ بعد توثيقها بذكر الله تعالى. ومنه أكد بقلب الواو همزة اهـ - وقال الأشموني في شرح الألفية التوكيد هو في الأصل مصدر ويسمى به التابع المخصوص، ويقال أكد توكيدا تأكيدا، وهو بالواو أكثر.


شرح ما تقدم:
قول صاحب اللسان أكد العهد والعقد لغة وكده نفهم منه أن التوكيد أصله بالواو. والتأكيد بالهمزة لغة فيه وقال بعضهم ليس هو لغة، وإنما أبدلت الواو همزة. فعلى القولين يقال أكدت العهد واليمين ووكدتهما توكيدا وتأكيدا فهما موكدان ومؤكدان، وقول صاحب القاموس أكد الحنطة داسها أي درسها ليتميز حبها من تبنها. والحنطة هي البُر بالضم، وتسمى القمح فالحنطة مأكودة، - وأكده تأكيدا أكد العهد أو اليمين يؤكده تأكيدا ووكده كذلك فهو موكد ومؤكد.

ووكده بالتخفيف ثلاثيًا وأكده فهو موكود وأكيد وفعيل هنا بمعنى مفعول والتوكيد التوثيق، وقول صاحب المنجد أكد ووكد العهد أو السرج شده وأوثقه، نفهم منه أن توكيد العهد واليمين توثيق معنوي وتوكيد السرج توكيد حسي، وتأكد العهد أو السرج مطاوع أكد. وعليه نقول أكدت العهد والخبر والسرج مثلا، فتأكد أي توثق وصار محكما، والعجب من صاحب اللسان وصاحب القاموس إذ أهملا فعل المطاوعة وهو تأكد ومن دواعي الأسف أنه لا يوجد عندي الآن من كتب اللغة إلا الثلاثة المذكورة، وسائر كلامه واضح - وقوله وتعالى ﴿ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ﴾ [النحل: 91] دليل على أن التوكيد بالواو أفصح من التأكيد بالهمزة سواء أقلنا قلب الواو همزة أم قلنا أنها بدل منه، وإطلاق التوكيد في كتب النحو على التابع مجاز من باب إطلاق المصدر وإرادة اسم الفاعل لأن التابع موكد بكسر الكاف للمتبوع فإذا قلنا جاء زيد نفسه، أو عينه لدفع احتمال أن يكون المراد جاء كتابه أو رسوله فإن النفس والعين مؤكدتان لمجيء زيد حقيقة لا مجازا وكلام الأشموني واضح، نفهم من ذلك كله أن العهد واليمين والخبر وما أشبه، يتأكد أو لا يتأكد، أما المتكلم فلا يؤكد ولا يتأكد فلا يقال أكدت فلانا فتأكد حتى يستطيع هو أن يقال أنا متأكد، بقي أن يقال إذا كان قول الكاتب أو المتكلم أنا متأكد من ذلك الأمر خطأ فما هو الصواب؟ علمنا يرحمك الله فالجواب أنه يجب أن يقول أنا مستيقن هذا الخبر أو أنا مستيقن لهذا الخبر قال تعالى في سورة النمل: ﴿ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [النمل: 13- 14] فالضمير في استيقنتها يعود على الآيات المبصرة أي البينة المذكورة قبل هذا، وقال تعالى في سورة الجاثية حكاية عن الكافرين المكذبين بالبعث ﴿ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ﴾ [الجاثية: 32] قال صاحب اللسان: اليقين العلم وإزاحة الشك وتحقيق الأمر، وقد أيقن يوقن إيقانا، فهو موقن، ويقن ويَيقن فهو يَقِن، واليقين نقيض الشك، والعلم نقيض الجهل، تقول علمته يقينا، وفي التنزيل ﴿ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ﴾ [الحاقة: 51] أضاف الحق إلى اليقين وليس هو من إضافة الشيء إلى نفسه، لأن الحق هو غير اليقين إنما هو خالصه واضحه فجرى مجرى إضافة البعض إلى الكل، وقوله تعالى: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99] أي حتى يأتيك الموت، كما قال عيسى بن مريم، على نبينا وعليه الصلاة والسلام: ﴿ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ﴾ [مريم: 31]. وقال ما دمت حيا وإن لم تكن عبادة لغير حي لأن معناه اعبد ربك أبدا، واعبده إلى الممات، وإذا أمر بذلك فقد أمر بالإقامة على العبادة، ويقنت الأمر، بالكسر، ابن سيدة: يقن الأمر يقنا ويقنا وأيقن به وتيقنه واستيقن به واستيقنه وتيقنت بالأمر واستيقنت به كله بمعنى واحد، وأنا على يقين منه وإنما صارت الياء واواً في قولك موقن للضمة قبلها وإذا صغرته رددته إلى الأصل وقلت مييقن وربما عبروا بالظن عن اليقين وباليقين عن الظن، قال أبو سدرة الأسدي ويقال:

تحسب هواس وأيقن أنني
بها مفتقد من واحد لا إنما مره



يقول: تشمم الأسد ناقتي يظن أنني أفتدي بها منه وأستحمي نفسي فأتركها له ولا أقتحم المهالك بمقاتلته وإنما سمى الأسد هواسا لأنه يهوس الفريسة أي يدقها اهـ.


2- ومما شاع في هذا الزمن استعماله قولهم عاش أحداثها، أي أحداث الأيام، أو أحداث الحرب، وهذا استعمال غير صحيح لأن الأحداث ليست ظرف مكان ولا زمان حتى تنصب بتقدير (في) يقال عاش مائة سنة، فمائة منصوب على أنه ظرف زمان قال الحريري في ملحة الإعراب:
الظرف منصوب على إضمار في
تقول صام خالد أياما

فاعتبر الظرف بذاك واكتف
وغاب ظهرا وأقام عاما




فهذه ظروف زمان منصوبة بتقدير في، وتقول في ظرف مكان جلست أمام زيد أو خلفه وجلست تحت الشجرة وفوق السطح فهذه ظروف مكان بتقدير (في) أما الأحداث فليست ظرف زمان ولا مكان، فلا يصح أن تكون منصوبة بإضمار حرف الجر ولا يصح أن تكون مفعولا به لعاش لأنه فعل لازم، لا يقال إذا كانت الأحداث مضافة إلى الأيام يجوز أن تقوم مقامها فتكسب الظرفية بإضافتها إليها كما وقع في مائة سنة وألف سنة كما قال تعالى في ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا ﴾ [العنكبوت: 14] وتقول أقمت في البلد سبعة أيام فأنت ترى أن العدد لما أضيف إلى الظرف اكتسب الظرفية منه، فلماذا لا تكسب الأحداث الظرفية إذا أضيفت إلى ظرف كقولهم عاش الأحداث تلك الأيام مغايرة للأيام بل هي مظروفة والأيام ظرفها فإن الأحداث واقعة في الأيام فلا يصح أن تقوم مقامها أما قولهم عاش أحداث تلك الحرب فهو أبعد من الظرفية، وإنما جاء هذا الاستعمال الفاسد من اقتباس المترجمين معاني الألفاظ الأعجمية واستعمالها في اللغة العربية ظنا منهم أن ما جاز في لغة، يجوز في لغة أخرى وهذا في غاية الفساد فإن المترجم لو ترجم كلاما عجميا بكلام عربي بدون مراعاة، لطبيعة كل من اللغتين وأسلوبهما وقواعدهما بل أبدل كل كلمة أعجمية بكلمة عربية لجاءت عبارته في غاية الركاكة والقبح وبعضها لا يكاد يفهم، وقد أشرت إلى هذا المعنى فيما سلف فلا حاجة إلى إعادته، فإن قيل فما هو الصواب الذي يجب التعبير به بدلا من قولهم عاش أحداث الحرب وأحداث الأيام، فالجواب أنه ينبغي أن يقال شاهد أحداثها فهو شاهد عيان لها.


3- ومن الألفاظ الدخيلة قول بعضهم (بذل فلان كل الجهود لبلورة الشخصية الإفريقية)، وهو مصدر قولهم بلور المخترع، واخترعوا له أيضاً فعلاً مطاوعا وهو تبلور وهذه الألفاظ لا وجود لها في اللغة العربية التي يعرفها العرب وهي مأخوذة من اللغة الإنكليزية يقينا، وهذا نص ما في المعاجم الإنكليزية to cry Staliti، بلور Tobecry Stalized تبلور، crystaloralass الزجاج، flintglass بلور صخرى، وقال صاحب المنجد: تبلور وتبلر، صار شبيها بالبلور، البلور والبلور نوع من الزجاج جوهر أبيض شفاف، (فارسية) وقد ظهر أن هذه الألفاظ الثلاثة البلورة، وفعلها بلور والتبلور وفعلها تبلور، هذه الألفاظ الأربعة لم تستعملها العرب في ما نعلم من كلامهم، ويمكن أن يقال إن سلمنا لك أن العرب لم تستعملها تكون دخيلة أو مولدة والدخيل والمولد كثير في استعمال المحدثين وإن لم تستعمله العرب فما المانع من استعماله؟ والجواب إن الأشياء التي حدثت بعد زمان العرب من الأعيان والمعاني يجب علينا أن نبحث لها عن ألفاظ تدل عليها وما يناسبها من العربية، أو نقبل أسماءها الأعجمية ونمزجها بالألفاظ العربية كما فعل العرب الأولون حين أدخلوا كثيرا من الألفاظ اليونانية والرومية والفارسية، أما الأشياء التي كانت موجودة في زمان العرب ولها ألفاظ تدل عليها في لغتهم فلا يجوز أن نعدل عنها إلى ألفاظ نترجمها ترجمة حرفية ونشوه بها لغة القرآن حتى تفقد جمالها وبلاغتها، فما المراد بالشخصية الإفريقية؟ وما المراد ببلورتها؟ هذان لفظان مبهمان لا يمكن فهمهما إلا إذا رجعنا إلى اللغة الأجنبية، التي أخذا منها، وقد رجعنا فعلا إلى اللغة الأجنبية فوجدنا معنى بلورة الشيء، أن يجعل شبيها بالبلور، والبلور من الجواهر، ولكنا تحيرنا في معنى الشخصية الإفريقية مع معرفتنا لأصلها باللغة الأعجمية وهو personality والظاهر أن الكاتب يريد بالشخصية القوة والعظمة والشرف وعلو المنزلة في أعين الدول الأخرى، ويريد بالبلورة الرفعة والترقية والتقوية والسعي في سمو المنزلة وعلو المكانة، والألفاظ التي تدل على هذه المعاني وافرة في اللغة العربية فلا حاجة بنا إلى استعمال ذينك اللفظين المولدين اللذين على ما فيهما من الركاكة معناهما غامض لا يعرف إلا بمراجعة اللغة العجمية.

4- (على ما أعتقد) هذه العبارة مأخوذة من اللغة الإنكليزية بترجمة فاسدة فإن لفظة Believe، تدل على الاعتقاد وتارة على الظن، والقرينة هي التي تميز بينهما فذكر هذه الكلمة إذا تجردت عن القرينة لا تدل إلا على الظن الغالب، أو المستوى الطرفين ولا تدل على اليقين، وقد أخذها عامة الكتاب فأساءوا استعمالها. فإن لفظة أعتقد في اللغة العربية، تدل على الجزم فتقول مثلا أنا أعتقد صحة هذا الخبر، وأعتقد أن الإسلام حق وأن الله واحد ومن ذلك سمي ما يؤمن به المرء مما يجب لله تعالى من صفات الكمال وما يجب للرسل عليهم الصلاة والسلام من الصدق والتبليغ والأمانة والتنزيه عن النقائص التي لا تليق بمقامهم العالي، سمي كل ذلك عقيدة وأظن أنها فعيلة بمعنى مفعولة كالذبيحة والنطيحة بمعنى المذبوحة والمنطوحة لأن القلب قد عقدها وأحكم توثيقها فإن قيل عهدناك في مثل هذه المعاني تفْزَع إلى لسان العرب، والقاموس، وتحتج بنصوصهما فما بالك عدلت عنهما في هذا الحرف؟ فالجواب أنني لم أجد فيهما نصا على ما أريده وهذا من العجب وسأسوق هنا نص اللسان، ثم أحاول ربطه بالمعنى المقصود والعقد نقيض الحل عقده يعقده عقدا وتعاقدا وعقدة ثم قال واعتقده كعقده ثم قال وعقدة النكاح والبيع وجوبهما. قال الفارسي هو من الشد والربط، وانعقد النكاح بين الزوجين، والبيع بين المتبايعين، وعقدة كل شيء إبرامه ثم قال واعتقد الشيء صلب واشتد، وقال البيضاوي ﴿ وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ ﴾ [البقرة: 235]، ذكر العزم مبالغة في النهي عن العقد أي ولا تعزموا عقدة النكاح، وقيل معناه ولا تقطعوا عقدة النكاح فإن أصل العزم القطع وقال القاسمي في تفسيره، قال الرازي أصل العقد الشد وسميت العهود والأنكحة عقودا لأنها تعقد كما يعقد الحبل، وقال البيضاوي في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ ﴾ [المائدة: 89]، بما وثقتم الأيمان عليه بالقصد والنية والمعنى ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم أو بنكث ما عقدتم فحذف للعلم به وقرأ حمزة والكسائي وابن عياش عن عاصم عقدتم بالتخفيف وابن عامر برواية ابن ذكوان عاقدتم وهو من فاعل بمعنى فعل، اهـ.

وقال أيضا في تفسير قوله وتعالى: ﴿ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ﴾ [الفلق: 4] ومن شر النفوس أو النساء السواحر اللاتي يعقدن عقدا في خيوط وينفثن عليها، والنفث النفخ من ريق.

بيان وجه الاحتجاج بما تقدم:
حاصله أن العقد هو الشد والربط والإبرام والتوثيق وضده الحل والنكث والنقض. وعقد واعتقد معناهما واحد، ويكون في الحسيات كعقد الخيط والحبل، وفي المعنويات كعقد النكاح والبيع واليمين والعهد والاعتقاد الذي نحن بصدده من القسم الثاني وهو المعنوي فاعتقاد الإنسان أمرا من الأمور، جزمه به وتصديقه وإيمانه فكأنه عقد الأيمان والتصديق بذلك الأمر بقلبه حين جزم به فلو كفر به لكان كفره حلا لما عقد ونقضا له وذلك يتنافى مع الظن المرجوح والمستوى الطرفين والغالب لأنه متى داخله شك في أمر من الأمور لا يصح أن يقال إنه يعتقده إلا مع البيان كقوله اعتقادا غير جازم، فإن قيل فماذا ينبغي أن يقال بدل ذلك؟ فالصواب ينبغي أن يقال: أظن مما تقدم من قوله تعالى حكاية عن الكفار: ﴿ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ﴾ [الجاثية: 32] ولما جاء في الخبر الصحيح مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ﴾ [يونس: 36].

المصدر: "مجلة دعوة الحق"


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #15  
قديم 16-02-2021, 03:33 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,380
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تقويم اللسانين

تقويم اللسانين (13)

د. محمد تقي الدين الهلالي







كنت قد نشرت مقالات بهذا العنوان في مجلة دعوة الحق التي تصدر في وزارة الأوقاف بالمغرب الأقصى وجمعت ما تيسر لي جمعه من تلك المقالات فبلغ ذلك جزءاً وأهل الغيرة على لغة القرآن الذين يحرصون على بقائها بأسلوبها الجميل وفصاحتها وبلاغتها ويتألمون لكل ما يصيب وجهها الجميل من خدوش تذهب بمحاسنها وأقذاء تكدر صفاء معينها يحرصون كل الحرص على قراءة مثل هذه المقالات التي تنبه على العبارات الدخيلة والأخطاء المفسدة وعسى الله أن ييسر نشر هذا الجزء ليعم نفعه، وعندي من العبارات التي تحتاج إلى الإصلاح شيء كثير لم أنشط للكتابة والتأليف فيه لموانع متعددة، منها صعوبة النشر جعلت هذا مقدمة لإصلاح خطأ فاحش جرى على ألسنة الخاصة والعامة في هذا الزمان نسمعه في الإذاعات والخطب والمحادثات والتدريس، وكلما سمعت شيئا منه أتألم وأتكلم ولكن قلَّ من يستمع وقلَّ من يعين.
لقد أسمعت لو ناديت حيا
ولو نارا نفخت بها أضاءت

ولكن لا حياة لمن تنادي
ولكن أنت تنفخ في رماد



والشعوب المعاصرة كالبريطانيين والفرنسيين والجرمانيين والأمريكيين يبذلون جهودا وأموالا عظيمة في المحافظة على سلامة لغاتهم ونشرها في أرجاء الدنيا، أما المتكلمون بالعربية فلا تهمهم لغتهم ولا يعبأون بحياتها وموتها وصحتها وسقمها فإلى الله المشتكى.

وسأقتصر هنا على ذكر الخطأ المشار إليه والدعوة إلى إصلاحه وهذا الخطأ مقصور على التحدث والنطق وهو حذف تاء التأنيث المتحركة، والاختصار على حركة ما قبلها وهي الفتحة فبعضهم يمدها فينشأ عنها ألف وأكثرهم لا يمدها فمن ذلك قولهم المملكة العربية السعودية (المملكا العربيا السعوديا) ومن ذلك قولهم (الأجهزَ الإعلامية) ومن ذلك (الأسمدَ الكيماوية) (الطاق البشرية) (الأمم الداخل في الإسلام) وهذا في نظري فساد عظيم بدأت به العامة الجهال وشاع وذاع وألفته الأسماع فاقتدت بهم الخاصة، ويمكننا أن نخفف اللوم على العامة لجهلهم بقواعد اللغة العربية فإذا قالوا مثلا الأمم الداخلة في الإسلام يلزمهم إعراب (الداخلة) والنطق بها إما مرفوعة أو منصوبة أو مجرورة حسب ما يقتضيه العامل فيخافون أن يخطئوا في إعرابها فيحذفون التاء ويستريحون فهؤلاء لهم شيء من العذر لجهلهم، أما الخاصة العاملون بالنحو فلا عذر لهم وهم ملومون من وجهين، الأول تعمدهم لإفساد لغة القرآن، الثاني اقتداؤهم بالجهال.

والعجب كل العجب أن هذا الفساد نفسه قد سبق إليه العبرانيون والسريانيون منذ آلاف السنين، فإن الرأي الصحيح الذي عليه المحققون من علماء هذا الشأن أن اللغة العربية هي الأصل وسائر اللغات السامية تفرعت عنها كما تفرعت العامية عن الفصحى ومن العجب أن التطور الذي وقع في اللغة العبرانية واللغة السريانية هو بعينه الذي وقع في اللغة العامية فإن العبرانية والسريانية كان فيهما إعراب في الأصل ولا تزال بقاياه في اللغة العبرانية ولما كثر الجهل بالقواعد فيهما أخذ الإعراب يزول شيئا فشيئا حتى صار معدوما بالمرة، ولنضرب لذلك مثلا، المرأة في اللغة العبرانية اسمها (اشه) وأصلها (اسة) فتقول مثلا (ها اشه طوبه) فمعناه المرأة طيبة، و(ها) هي أداة التعريف بمنزلة الألف واللام في العربية فالأصل (ها اشة طوبة) فلما وقع الفساد وتغيرت اللغة عند أصلها وانحرفت عنه حذفت هاء التأنيث في الكلمتين وأبدلت بألف مد كما يقال في العامية (الغرفا العاليا) وعربيتها في الأصل (الغرفة العالية) والدليل على ذلك أنك إذا أضفت كلمة (اشه) يظهر الأصل فتقول (اشة خاطوبة) معناه امرأتك طيبة، ولذلك اشتد ألمي وعظمت حسرتي لأننا إذا سرنا في هذا الطريق يزول الإعراب كله من لغة القرآن وتبعد عن أصلها كل البعد كما بعدت أختاها، فان قيل أن المتكلمين لا يريدون حذف هاء التأنيث وإنما يقفون على الكلمة ومعلوم أنها عند الوقف تبدل هاء فالجواب: إن للوقف مواضعه ونحن نسمعهم صباح مساء لا ينطقون بالهاء أصلا بل يكتفون بالحركة التي قبلها وهي الفتحة ولو نطقوا بها ما سَلِمُوا من الخطأ لأن الجمع بين الوقف والوصل لا يجوز كما هو مقرر في كتب علم التجويد، فإذا وقف المتكلم على كلمة مختومة بهاء التأنيث لا بد أن ينطق بها ساكنة ولا يقف إلا حين يحسن الوقف. وحد الوقف عند علماء التجويد أن يسكت القارئ بقدر ما يتنفس سواء تنفس أم لم يتنفس.

وفي الختام أدعو إخواني المعلمين والطلبة أن يتنبهوا لهذا الخطأ الفاحش وأن ينزهوا قراءتهم وكلامهم منه ولا يتسامحوا مع تلامذتهم إذا فعلوا ذلك وبهذا وأمثاله نحافظ على صحة لغة القرآن وحياتها وجمالها وكمالها، فإن من يعظم القرآن لا بد أن يعظم لغته، ﴿ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ﴾ [الأحزاب: 4].

1- ومن ذلك تسميتهم القوة الناشئة عن النفط أو الكهرباء أو الغاز طاقة، وأكثر ذلك الطاقة خصوصا في هذه الأيام التي منع فيها العرب نفطهم عن بعض الدول ونقصوه وأغلوا ثمنه على الدول الأوربية وغيرها. وقد بحثت في معنى الطاقة فوجدت الفيروز أبادي يقول في القاموس: الطوق والطاقة، الوسع وقال بعد ذلك، الإطاقة القدرة على الشيء، وقال ابن منظور في لسان العرب: الطوق والإطاقة القدرة على الشيء، وقال الجمل في حاشية الجلالين عند قوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ [البقرة: 286] الطاقة، القدرة على الشيء اهـ. قال محمد تقي الدين: والطاقة اسم مصدر من أطاق يطيق، إطاقة كالعون من الإعانة، الطاعة من الإطاعة ومن ذلك يظهر لك أن تسمية الوقود أو ما ينشأ عنه من قوة (طاقة)، هو استعمال مولد والصواب أن يقال في النفط والغاز ونحوهما وقود لأن كل ما توقد النار به فهو وقود، ويقال للقوة الناشئة عن الوقود قوة فيقال مثلا هذه المركبة تسير بقوة الكهرباء أو بقوة النفط، لكن الطاقة إنما تقال فيمن له قدرة كالإنسان اهـ.

2- ويقولون إنهم يبحثون تسوية حول هذا الموضوع، وهو خطأ، لأن (سوى) يتعدى بنفسه، فذكر (حول) في هذا الموضع جهل. قال الله تعالى: ﴿ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ﴾ قال الجلال: أي قومه بتصوير أعضائه على ما ينبغي اهـ.

وقال الجمل في حاشيته، قال أبو السعود، سواه، أي عدله بتكميل أعضائه في الرحم وتصويرها على ما ينبغي اهـ.

وقد اختلف المفسرون في مرجع ضمير سواه، فقال بعضهم إلى الإنسان الأول وهو آدم وقال بعضهم يرجع إلى نسله، وقال الجمل في حاشيته عند قوله تعالى في سورة الانفطار: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ﴾ [الانفطار: 6، 7] قال البيضاوي، التسوية جعل الأعضاء سليمة مسواة مهيأة لمنافعها اهـ.

قال محمد تقي الدين: ولغة الإذاعة والصحف في هذا الزمان تستعمل فيها التسوية للخلاف والنزاع يريدون إزالة الخلاف فإن صح هذا التعبير وجب تأويل التسوية هنا بإصلاح ذات البين، وعل كل حال التسوية متعدية بنفسها كما رأيت.

3- ويقولون الألمان جمع ألمانيين والإسبان جمع إسبانيين وهو خطأ فالألماني يجب أن يجمع على ألمانيين وكذلك الإسباني يجب أن يجمع على إسبانيين وكأنهم شبهوه بجمع رومي على روم، قال تعالى: ﴿ الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ﴾ [الروم: 1 - 3] وهذا مما لا يقاس عليه بل يقتصر فيه على السماع على أن العرب لم يسموا البلاد التي تسمى اليوم ألمانية بهذا الاسم وإنما سموها (جرمانية) والنسبة إليها جرمانيون وهكذا تسميها الشعوب السامية الأخرى، انظر كتاب البلدان لمحمد بن الفقيه البغدادي المتوفى في أواخر القرن الثالث الهجري اهـ.

4- ومن أخطاء إذاعة صوت أمريكا أن المذيعين فيها، لا يريدون أن يقولوا مثلا (حوالي عشرة آلاف) أي قريبا من عشرة آلاف بفتح اللام وسكون الياء، وهو الصواب ومعناه ما يحيط بالشيء قال النبي صلى الله عليه وسلم لما شكا الناس له من كثرة المطر (اللهم حوالينا ولا علينا) يعني عليه الصلاة والسلام، اللهم اجعل المطر يستمر نزوله حول المدينة، لا فوقها، أما إذاعة صوت أمريكا فتجعله حوالي، بفتح اللام والألف المقصورة.

5- ومن ذلك تعبير الإذاعة المتقدم ذكرها بالحياتي والحياتية نسبة إلى الحياة وهذا خطأ لأنه يجب حذف التاء وقلب الألف واوا ثم الإتيان بياء النسب، فيقال الحيوي والحيوية، قال ابن مالك في الألفية:
ياء كيا الكرسي زادوا للنسب
ومثله مما حواه احذف وتا

وكل ما تليه كسره وجب

تأنيث أو مدته لا تثبتا



قال ابن عقيل في شرح البيتين: إذا أريد إضافة شيء إلى بلد أو قبيلة أو نحو ذلك جعل آخره ياء مشددة مكسورا ما قبلها فيقال في النسب إلى دمشق دمشقي وإلى تميم تميمي وإلى أحمد أحمدي، شرح البيت الثاني: يعني أنه إذا كان في آخر الاسم ياء كياء الكرسي في كونها مشددة واقعة بعد ثلاثة أحرف فصاعدا وجب حذفها وجعل ياء النسب موضعها فيقال في النسب إلى الشافعي شافعي.

وكذلك إذا كان آخر الاسم تاء التأنيث وجب حذفها للنسب فيقال في النسب إلى مكة مكي اهـ.

6- ومن ذلك استعمالهم المبادرة في الدعوة إلى مفاوضة أو عرض أمر وهذه لا تزال طرية لم يمر عليها زمن طويل فإن هذه اللغة الشريفة التي نكبت بأهلها وكانت لهم خير لغة وكانوا لها شر أهل لا تزال اللصوص تهجم عليها وتقتحم معقلها وتسطو على الألفاظ والتراكيب الأصيلة النبيلة فتميتها وتحل محلها ألفاظا دخيلة ذميمة سمجة ثقيلة، وقد قل ناصرها وكثر في أهلها المقلدون الإمعات الذين لا يسمعون كلمة من الإذاعة أو يقرؤون من كلمة في الصحف إلا بادروا إليها، وفرحوا بها وطفقوا يستعملونها دون أن يضعوها في الميزان ليتبين خالصها من الزيف. ونحن قد عاهدنا الله تعالى على أن ندافع عن لغة القرآن، ونصونها ونحافظ على جمالها وكمالها وسحرها الحلال، إلى أن نلقى الله تعالى ولا نبالي بمن بدل وغير، ولو بقينا وحدنا، وسنرى الآن معنى المبادرة في لغة القرآن ليعرف الحق من الباطل، والجالي من العاطل، قال في القاموس وبادره مبادرة وبدارا وابتدره وبدر غيره إليه يبدره عاجله، وقول أبي المثلم:
فيبدرها شرائعها فيرمي
مقاتلها فيسقيها الزؤاما



أراد إلى شرائعها فحذف ووصل وبادره إليه كبدره وبدر في الأمر وبدر إلى عجل إلى واستبق واستبقنا البدري أي مبادرين، اهـ - نستفيد من كلام القاموس واللسان أن ذلك الاستعمال غير صحيح ونستفيد شيئا آخر وهو أن صاحب القاموس يأخذ ألفاظ اللسان بعينها وقد جربت ذلك في مواضع فكأنه يختصر لسان العرب إلا أنه يزيد في بعض المواد أشياء ليست في اللسان ومن ذلك الأعلام فإن صاحب اللسان لا يعتني بها كما يفعل صاحب القاموس.

7- ومن ذلك فتحهم خاء الخِدمات جمع خدمة، بكسر الخاء، ومما يؤسف له أن أكثر المتكلمين بالعربية لا في الإذاعة وحدها بل في المدارس والجامعات أيضا يقعون في هذه الزلة التي هي من الكبائر بالمعنى اللغوي، ودونك الدليل على أن الفِعلة بالكسر إنما تجمع على فِعلات بكسر ففتح، لا على فَعَلات، بفتحتين. هذا إذا لم تجمعها جمع تكسير، فإن جمعتها جمع تكسير قلت خدم بكسر الخاء وفتح الدال فالخاء مكسورة في المفرد والجمعين، قال ابن عقيل في شرح الألفية:
ونحو كبرى ولفعلة فعل
وقد يجيء جمعه على فعل



ومن أمثلة جمع الكثرة فعل وهو جمع لاسم على فعلة نحو كسرة وكسر، وحجة وحجج، ومِرية ومِرَى، وقد يجيء جمع فِعلة على فِعل نحو لحية ولِحى وحلية وحِلى، اهـ.

قال محمد تقي الدين: استفدنا من هذا النقل أن فِعْلة، بكسر الفاء وسكون العين، تجمع على فِعل (بكسر الفاء وفتح العين) وجاء جمعها قليلا على فعل، بضم الفاء وفتح العين، كحلية وحُلى ولحية ولحى، وأما جمع خدمة جمع تصحيح أي جمع مؤنث سالم ففيه ثلاثة أوجه.

الأول: كسر الدال والخاء فتقول خِدمات، بكسرتين، والثاني: كسر الخاء وفتح الدال للتخفيف فتقول خدمات، بكسر ففتح، والثالث: كسر الخاء وسكون الدال فتقول خِدمات، بكسر فسكون، قال ابن مالك في الألفية:
والسالم العين الثلاثي اسما أنل
إن ساكن العين مؤنثا بدا

وسكن التالي غير الفتح أو
اتباع عين فاه بما شكل

مختتما بالتاء أو مجردا
خففه بالفتح فكلا قد رووا



إذا جمع الاسم الثلاثي الصحيح العين الساكنها المؤنث المختوم بالتاء أو المجرد عنها بألف وتاء أتبعت عينه فاءه في الحركة مطلقا فتقول في دعد دعدات وفي جفنة جفنات وفي جمل وبرة جملات وبرات بضم الفاء والعين وفي هند وكسرة هندات وكسرات بكسر الفاء والعين ويجوز في العين بعد الضمة والكسرة التسكين والفتح فتقول جملات وجملات وبسرات وبسرات وهندات وهندات وكسرات وكسرات ولا يجوز ذلك بعد الفتحة بل يجب الإتباع وأما قول الشاعر:

وحملت نفرت الضحى فأطقتها
ومالي بزفرات العشى يدان



فضرورة، يعني أن الشاعر سكن الفاء لضرورة الوزن ولولا ذلك لقال زفرات بفتح الزاي والفاء.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #16  
قديم 16-02-2021, 03:36 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,380
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تقويم اللسانين

تقويم اللسانين (14)

د. محمد تقي الدين الهلالي



تقويم اللسانين مستقيم




وقد عدلت في تعديلك له عن العدالة (1)




ومن أدعية النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء: (آمنت بالله، واعتصمت بحول الله، وتوكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك من أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أُظلم أو أَجهل أو يُجهل علي).



بهذا الدعاء أفتتح الرد على هذا المنتقد الذي حاد عن منهج النقد المستقيم، وتنكر وتنقب، كأنه يعلم أنه مليم، وقبل ذلك أشكر الأستاذ الأديب رئيس تحرير دعوة الحق على الكلمات التي أثنى بها على مقالات تقويم اللسانين.



ثم أعيد ذكر ما قدمته في فاتحة هذه المقالات ونصه، وقد بدا لي أن أكتب مقالات في هذا الموضوع، أداء لواجب لغة الضاد، وصونا لجمالها من الفساد راجيا أن ينفع الله بما أكتبه تلامذتي في الشرق والمغرب وفي أوربا، وأنا على يقين أنهم يتلقون ما أكتبه بشوق وارتياح، وكذلك رفقائي الكتّاب المحافظون سيستحسنون ذلك.



أما الكتّاب الذي يكرهون التحقيق، ويرخون العنان لأقلامهم بدون تبصر ولا تمييز، بين غث وسمين، وكدر ومَعين، فإنهم سيستثقلون هذا الانتقاد، وقد يعدونه تكلفا وتنطعا، وتقييدا للحرية، بزعمهم، فلهؤلاء أقول: إني لم أكتب لكم فما عليكم إلا أن تمروا على ما أكتب مرور الكرام وتدعوه لغيركم الذين يقدرونه حق قدره اهـ.



فكأن هذا الرجل رأى نفسه من الكتّاب الذين يرخون العنان لأقلامهم ويكرهون التحقيق فأخذه المقيم المقعد، وفقد رشده، فأخذ يلتمس العيوب للبراء.



فإن يخلق لي الأعداء عيبا

فقول العائبين هو المعيب






وما أبرىء نفسي من الخطأ، فالكمال لله، والعصمة للأنبياء ولا أكره الانتقاد المستقيم الذي يريد به صاحبه الإصلاح والبناء، ويشهد الله أني ما تصديت لكتابة هذه المقالات إلا أداء للواجب، ونصحا للأمة، وغيرة على لغة القرآن التي هجمت عليها لغات المستعمرين في عقر دارها، فأتت بنيانها من القواعد، وهدمت أركانها، وذهبت ببهائها وجمالها ولم أشك أن دعاة الإصلاح يرحبون بهذا المجهود ويؤازرونه، كما أنني أعلم أن دعاة الهدم والفوضى، أكررها مرة أخرى على رغم أنف المتنطع، سيشرقون بهذا الإصلاح ويغصون به ولكن:



إذا رضيت عني كرام عشيرتي

فلا زال غضبانا علي لئامها








ودونكم أيها القراء الأعزاء ما كتب به إلى الأستاذ المؤلف ذائع الصيت أبو الحسن علي الحسني الندوي من لكناؤ في الهند في الترحيب بهذه المقالات قال حفظه الله، استفدنا كثيرا من مقالكم القيم في العدد الأخير من مجلة دعوة الحق، في موضوع عثرات الأقلام، وغلطات اللسان، في كتابات المعاصرين، وأرجوا أن تتفسحوا في هذا الموضوع، فكلنا في حاجة إلى مثل هذه التوجيهات التي تصدر من ضليع محقق مثلكم، أبقاكم الله طويلا لتلاميذكم الكثيرين في الشرق والغرب.



تلميذكم الصغير أبو الحسن علي بن العلامة السيد عبدالحنى رح الحسني رح – 2- 2-1387هـ.



أما هنا في المغرب فقد رحب بها غير واحد من القراء مكاتبة ومشافهة، ولا يظنن هذا المنتقد أن الجو خلاَ لَه، حتى يبيض ويصفر وينقر ما شاء أن ينقر، فإن بين قراء هذه المجلة العالمية فحولا لا يقعقع لهم بالشنان ولا يخدعون بالمغالطات والروغان، يزنون الأقوال بالقسطاس المستقيم، ويميزون بين الصحيح والسقيم، وسيحكمون بيني وبين هذا المعترض الذي نصب نفسه حكما، وتوهم أن حكمه لا ينتقض.



وقبل أن أخوض معه غمار المعركة مستعينا عليه بالله الذي يحق الحق ويبطل الباطل، أذكر للقراء الأعزاء بعض ما أعرفه من أخباره، وأترك سائرها إلى أن يحين أوانه، كان هذا الرجل يدرس في فرنسا وكان مبتلي بهذا التنطع من أول أمره، فوجه انتقادا إلى أمير البيان الزعيم العربي الأوحد الذي:



حلف الزمان ليأتين بمثله

حنثت يمينك يا زمان فكفر






إلا وهو الأمير شكيب أرسلان رحمه الله، وكنت أنا إذ ذاك أدرس في جرمانية، وأحاضر اللغة العربية بجامعة (بُنْ) فكتب إلى الأمير شكيب المسائل التي انتقدها عليه المعترض والتمس مني الحكم، فنظرت فيها فوجدت الحق في أكثرها مع الأمير شكيب، ووجدت اعتراض المعترض ساقطا إلا في النادر.



وابن اللبون إذا ما لز في قرن

لم يستطع صولة البزل القناعيس








ولكن الأمير شكيب رحمه الله، كان عنده من الإنصاف والتواضع ومكارم الأخلاق، ما يندر وجوده في هذا الزمان فلذلك لم يرد أن يجيبه حتى يعلم رأيي فيما انتقده عليه، ثم عرفت المعترض بعد ذلك معرفة تامة، وكان يجمعنا بيت واحد، نشتغل فيه جميعا، وهو من الكتّاب المشهورين في النثر، وله نظم لا يبلغ حد الجودة، ولكن لا بأس به.



وقد طرق هذا الباب الذي طرقته أنا اليوم من قبل في الصحف العراقية وفي الإذاعة ولم ينجح فيه، بل كان عامة القراء يستهزئون به، ولم أتعرض قط، إلى نقده، مع أني وجدت في ما كتبه ثغرات وأخطاء لأني أعلم أنه من الأساتذة القليلين الذين يكتبون إنشاء حسنا ويتكلمون كلاما قليل الخطأ، فغض الطرف عن هفوات هؤلاء عندي هو الصواب، والسعي في هدم ما بنوه من الفساد.



وأنا لا أطمع أن يكون له من أصالة الرأي وسداده ما يحمله على أن يعاملني بمثل ما عاملته به، لأن طبعه لا يسمح له بذلك، وحسبي أن يكون انتقاده معتدلا خاليا من الجور وأمارات سوء القصد، ولكن الأمر كما قيل

وكل إناء بالذي فيه يرشح

1- (بدون) قال المعترض: قال في مقالته (ويرخون العنان لأقلامهم بدون تبصر ولا تمييز، ثم قال: وإنما سميت زائدة، لأن الكلام يتم بدونها) فأنا أقول له، من استعمل كلمة (دون) من فصحاء الأمة العربية هذا الاستعمال؟ ولهذا المعنى؟ إن معنى بدونها، هو بأقل منها.



المجيب: يالله للعجب، من جهل هذا المعترض بقواعد النقد! كيف يحتج بكلام المؤلفين من الفقهاء، كأن كلامهم قرآن، أو حديث نبوي، أو شعر امرئ القيس أو النابغة الذبياني، ومن قال لك: إن كلام الفقهاء حجة في اللغة العربية؟ يرجع إليه ويعتمد في الحكم عليه؟ كان يجب عليك قبل أن تتصدى للاعتراض أن تعلم أن الحجة إنما هي في ما صح عن العرب في جاهليتهم، وفي دولة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء ودولة بني أمية قبل أن يختلط العرب بالأعاجم، وتفسد ألسنتهم، أما كلام المولدين، ولو كانوا من فحول الأدباء والشعراء كابن الرومي والبحتري والمتنبي، بل بشار بن برد أيضا لا يحتج بشعره مع قربه من العصر الأموي، فهذه حجتك التي جئت تصول بها؟



قال الراغب: في غريب القرآن: يقال للقاصر عن الشيء (دون) قال بعضهم هو مقلوب من الدنو والأدون الدنيء، وقوله تعالى: ﴿ لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ ﴾ [آل عمران: 118] أي ممن لم يبلغ منزلته منزلتكم في الديانة، وقيل في القرابة، وقوله: ﴿ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ ﴾ [النساء: 48] أي ما كان أقل من ذلك، وقيل ما سوى ذلك، والمعنيان يتلازمان وقوله تعالى: ﴿ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [المائدة: 116] أي غير الله وقيل معناه، إلهين متوصلا بهما إلى الله اهـ. فانظر إلى قول الراغب (وقيل ما سوى ذلك) يعني أن بعض اللغويين فسروا (مادون ذلك) بسوى ذلك، ثم قال والمعنيان متلازمان فبأيهما عبرت يفهم المعنى الآخر، ثم انظر إلى قوله فيما حكى الله تعالى عن عيسى بن مريم في آخر سورة المائدة: ﴿ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ أي غير الله، فقد استعملت هنا (دون) بمعنى غير، بغير اختلاف، فما هو جواب المعترض؟



وقال صاحب لسان العرب بعد ما ذكر تسعة معان، (الدون) وقال (يعني الفراء) في قوله تعالى:﴿ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ ﴾ دون الغوص، يريد سوى الغوص من البناء، اهـ - سبأ.



فهذا من استعمال (دون) بمعنى سوى، فماذا يقول المعترض في تفسير الفراء؟، وقال الفيروزابادي في القاموس، (دون) بالضم، نقيض فوق، ويكون ظرفا بمعنى أمام ووراء وفوق ضد، وبمعنى غير، قيل ومنه ليس فيما دون خمس أواق صدقة، أي في غير خمس أواق، قيل ومنه الحديث، أجاز الخلع دون عقاص رأسها، أي بما سوى عقاص رأسها، أو معناه بكل شيء حتى عقاص رأسها، اهـ.



أقول فقد رأيت نقل الفيروز أبادي عن أئمة اللغة أن (دون) تستعمل بمعنى (غير) لكن الاحتجاج على ذلك بالحديثين غير صحيح إذ يحتمل (دون) أن يكون في كل منهما بمعنى أقل، ولذلك حكاه بصيغة التمريض، ومعنى الحديث الأول، أن الزكاة لا تجب في أقل من خمس أواق من الفضة، والأوقية أربعون درهما. فالمقدار الذي تجب فيه الزكاة من الفضة لا يقل عن مائتي درهم، ومعنى الحديث الثاني، أن المرأة الناشز التي طلبت فراق زوجها كراهية له، يجوز أن تفتدي نفسها بكل ما تملك إلا ضفائر رأسها، هذا معنى الحديث، وقد اختلف الأئمة في هذه المسألة، وليس هذا محل ذكر الخلاف.



وقال صاحب مجمع مجار الأنوار - وفيه (أي في الحديث) الحاكم يحكم بقتل، على من وجب عليه، دون الإمام، أي عنده أو هو بمعنى غير انتهى.


وقال تعالى: في سورة الأنعام (14) ﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾.




المعنى قل يا محمد، أغير الله أتخذ وليا، أتوجه إليه في جلب الخير ودفع الضر، والله خالق السموات والأرض، وغيره لا يخلق شيئا، بل هو نفسه مخلوق، والمخلوق لا يستحق أن يتخذ وليا، أي إلها، والله يطعم كل طاعم، ولا يحتاج إلى من يطعمه، وكل طاعم، أي آكل محتاج إلى الله، والمحتاج لا يكون إلها.



قل يا محمد لجميع الناس، إن الله أمرني أن أكون أول من أسلم وجهه إليه، ووحده في ربوبيته وعبادته، ثم قال تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح للخطاب، وقال تعالى في سورة الشورى (6): ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ، اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ﴾.



وقال تعالى فيها أيضا9): ﴿ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ وأمثال هاتين الآيتين كثيرة جدا في القرآن.



والمراد بلفظ من (دونه) في آيتي الشورى هو بعينه المراد بغير الله في آية الأنعام فهذا تفسير القرآن بالقرآن، فماذا يقول فيه المعترض؟ وقال تعالى في سورة النجم (57-58) ﴿ أَزِفَتِ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ﴾ والآزفة: القيامة.



قال القاسمي في تفسيره: أي ليس لقيامها غير الله مبين لوقته كقوله:﴿ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ﴾ [الأعراف: 187] وكاشفة صفة محذوف، أي نفس كاشفة أو حال كاشفة، أو التاء للمبالغة، أو هو مصدر بني على التأنيث، ومن (دون الله) بمعنى غير الله، اهـ.



أقول: ينبغي أن أمسك عِنان القلم بعد ما تبين الحق في هذه المسألة، ورجع المعترض، يجر أذيال الهزيمة، نادما على تفوه ما ليس له به علم. قوله (وهو فقيه، ولعله درس في الفقه زواج المرأة بدون مهرها أي بأقل من مهرها الخ)، أرجو أن أكون كما قال فقيها عند الله، وعند عباده المؤمنين، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)، ذكره البخاري تعليقا في كتاب العلم من صحيحه، والعبارة التي ذكرها المعترض، ونسبها إلى كتب الفقه فاسدة، لم أرها في شيء من كتب الفقه التي اطلعت عليها من كتب أهل السنة، فإن كانت موجودة في فقه الشيعة الذين ينسب إليهم المعترض، فليذكر لنا أين وجدها، وعلى فرض وجودها، لا يصح الكلام إلا بتأويل، إذ ليس للمرأة مهر معين عند أهل الحديث، بدليل (التمس ولو خاتما من حديد) وبدليل (أملكناكها بما معك من القرآن) رواه البخاري وغيره، وحده بعض الفقهاء بربع دينار، لكن الفقهاء يقولون إذا لم يسم لها مهرا، أي صداقا، فلها صداق أمثالها، فإن صحت العبارة التي نسب إلى الفقه، كان الكلام على حذف مضاف (أي بدون مهر نظيراتها من النساء).



وأنا لا أنكر أن دون تستعمل بمعنى أقل، بل كلامي لا يأباه، لأن (دون) هو الأقل منها، أي ناقص عنها، ولكن ضلاله كان في حصره معنى (دون) في أقل، وجهله أنها تكون بمعنى (غير) وبقية كلامه ساقط لا يحتاج إلى جواب.



2- واعتراضه على قولي (لعدم وجود أركانه) يقوله، لأن الوجود لا يعدم وإنما يعدم هو الموجود تنطع وتفلسف عقيم.



قال في اللسان والقاموس - وجد من العدم فهو موجود، اهـ وقال الراغب في غريب القرآن: وقال بعضهم الموجودات ثلاثة أضرب، موجود لا مبدأ له ولا منتهى، وليس ذلك إلا الباري تعالى، وموجود له مبدأ ومنتهى، كالناس في النشأة الأخيرة، اهـ.



وقال الراغب أيضا، الوجود أَضْرُب: وجود بإحدى الحواس الخمسة، نحو وجدت زيدا، ووجدت طعمَه، ووجدت صوتَه، ووجدت خشونته، ووجود بقوة الشهوة نحو، وجدت الشبع، ووجود بقوة الغضب، كوجود الحزن والسخط، ووجود بالعقل أو بواسطة العقل، كمعرفة الله تعالى، اهـ. ومن ذلك تعلم أن وجود الشيء في نفسه هو ضد عدمه، ووجود الناس له، هو غير وجوده في نفسه، فإذا نفينا وجوده فقلنا لا وجود له انتفى باللازم وجود الناس له، أي إدراكهم إياه.



وأركان التشبيه في الكاف الاستعمارية لا وجود لها في نفسها، ولا يدركها أحد، فوجود الناس لها معدوم، ولعل المعترض لا يفهم هذا المعنى، وهو متلهف إلى الطعن، فتوهم أنه وجد مطعنا، فارتد طعنه عليه في هذا كما وقع له في الأولى.



فلا تحفرن بئراً تريد بها أخاً

فإنك فيها أنت من دونه تقع



كذاك الذي يبغى على الناس ظالما

تصبه على رغم عواقب ما صنع








قوله (إن الفصحاء لم يستعملوا كلمة (عدم) هذا الاستعمال) الخ، دعوى بلا دليل، ومتى نصبك الفصحاء قاضيا، ووضعوا زمام الفصاحة في يديك؟ ووكلوا أمرها إليك، تثبتها لمن تشاء وتنفيها عمن تشاء، ألا يحق لي أن أتمثل في حكمك هذا بالشطر الأول من قول الشاعر العربي القح:



ما أنت بالحكم المترضى حكومته

وأما الشطر الثاني فاتركه تكرها




يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #17  
قديم 16-02-2021, 03:36 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,380
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تقويم اللسانين



3- قال المعترض: وقد خالف الفصاحة العربية باستعماله جمع القلة المنكر (أنفسا) مع أن مقتضى الحال يوجب استعمال (النفوس) أعني جمع الكثرة، فذوو الظلم كثيرون، أو كثير على الأفصح، وإنما قلت المنكر، لأن المعرف (بأل) أو الإضافة من هذا الجمع يجوز أن يستعمل للكثرة، الخ. يا أيها الناس: اقرءوا واسمعوا وتعجبوا من هذا المعترض الذي يصدر الأحكام واحدا بعد واحد بدون دليل ولا برهان، ولا استناد على قاعدة، ولا عزو إلى إمام فكأنه يظن أن القراء أطفال في المدرسة الابتدائية، يتقبلون منه كلما حدثهم به، ودونكم ما قاله الأئمة في جمع القلة وجمع الكثرة، ونيابة أحدهما عن الآخر وضعا أو استعمالا.



قال الأزهري في التصريح ج 2 ص 300، ما نصه: وله رأي لجمع التكسير الذي يتغير فيه بناء مفرده لفظا سبعة وعشرون بناء منها أربعة موضوعة للعدد القليل وهو من الثلاثة إلى العشرة بدخول العشرة على القول بدخول الغاية في المغيا، ولو قال وهو الثلاثة والعشرة، وما بينهما لكان أولى وهي أفعُل، بضم العين، كأكلب، جمع كلب، وأفعال كأجمال بالجيم جمع جمل، وأفعِلة بكسر العين، كأحمرة، جمع حمار، وفِعْلة، بكسر الفاء وسكون العين، كصِبْية جمع صبى، وخصت هذه الأوزان الأربعة بالقلة، لأنها تصغر على لفظها، نحو أكيلب، وأجيمال وأحيمرة، وصبية، بخلاف غيرها من الجموع فإنها ترد إلى واحدها في التصغير، وتصغير الجمع يدل على التقليل، وإليها أشار الناظم بقوله:



أفعلة أفعل ثم فعلة

تمت أفعال جموع قلة








وليس من جموع القلة (فُعَل) بضم الفاء وفتح العين، كغرف، ولا (فعل) بكسر الفاء وفتح العين، كنعم، ولا فعلة بكسر الفاء وفتح العين، كقِرَدة خلافا للفراء.



وثلاثة وعشرون موضوعة للعدد الكثير، وهو ما تجاوز العشر، وقد يستغنى ببعض أبنية القلة عن بناء الكثرة وضعا أو استعمالا، اتكالا على القرينة، قاله في التسهيل:

قال الشاطبي: وحقيقة الوضع أن تكون العرب لم تضع أحد البناءين استغناء عنه بالآخر، والاستعمال أن تكون وضعتهما معا، ولكنها استغنت في بعض المواضع عن أحدهما بالآخر اهـ.



فالأول كأرجل، جمع رِجْل بسكون الجيم، وأعناق جمع عُنُق، وأفئدة جمع فؤاد قال الله تعالى5، 6) ﴿ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ﴾ (8-12) ﴿ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ ﴾ (14، 43) ﴿ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ﴾ فاستغنى فيها ببناء القلة عن بناء الكثرة، لأنها لم يستعمل لها بناء كثرة.



والثاني: كأقلام جمع قلم، قال الله تعالى31- رقم الآية 27) ﴿ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ ﴾ والمقام مقام مبالغة وتكثير قطعا، وقد استعمل فيه وزن القلة، مع أنه سمع له وزن كثرة، وهو قلام، وقد يعكس، فيستغنى ببعض أبنية الكثرة عن بناء القلة وضعا أو استعمالا اتكالا على القرينة.



فالأول كرجال جمع رجل بضم الجيم، وقلوب جمع قلب، وصردان بكسر الصاد، جمع صُرد، بضمها وفتح الراء، اسما لطائر، تقول: خمسة رجال بخمسة قلوب معهم خمسة صردان، فيستغنى بجمع الكثرة عن جمع القلة لعدم وضعه وليس منه، أي من هذا القسم، وهو ما لم تضع العرب له بناء قلة ما مثل به الناظم وأنبه من قولهم في جمع صفاة، وهي الصخرة الملساء، صفي بضم الصاد وكسر الفاء وتشديد الياء لقولهم في جمع قلتها، اصفاء حكاه الجوهري وغيره، بل هو من القسم الثاني، وهو ما وضعت العرب له بناء قلة، ولكنها استغنت ببناء الكثرة عنه كقوله تعالى (2- 228) ﴿ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ﴾ نفسر ثلاثة بجمع الكثرة، مع وجود جمع القلة، كقوله صلى الله عليه وسلمدعي الصلاة أيام إقرائك) وعلى ذلك يحمل قول الناظم:



وبعض ذي بكثرة وضعا يفي

كأرجل والعكس جاء كالصفي








انتهى - وقد طالعت ما عندي من شرح الألفية كالأشموني بحاشية الصبان وابن عقيل وبحاشية الخضري وألفية ابن بونا بحاشيته، فوجدتهم لا يختلفون فيما نقلته عن التصريح، واخترت كلامه، لأنه أوسع وأوضح. ومنه تعلم أن ما زعمه المعترض من أن جمع القلة لا يستعمل في موضع جمع الكثرة إلا إذا كان مضافا أو معرفا بالألف واللام، لا وجود له في كلام أولئك الأعلام ومحال أن يهملوه لو كان ثابتا في القواعد الصحيحة المسلمة.



فنحن نطالبه بتصحيح النقل، إن كان ناقلا، وإن لم يكن ناقلا، فقد كذب على النحاة، واخترع قاعدة من عنديته، فإن جاء بالنقل عن بعض علماء اللغة قابلنا نقله بتلك النقول، وهي أكثر فيسقط نقله، أو يكون مرجوحا، ولو ثبتت القاعدة التي ادعاها ما أغنته شيئا، لأن جمع القلة المنكر قد استعمل في موضع جمع الكثرة في أفصح الكلام وأبلغه، وهو كتاب الله، قال تعالى في سورة لقمان: (27) ﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ﴾ والمقام يقتضي استعمال جمع الكثرة، ومع ذلك عدل عنه إلى التعبير بجمع القلة، اكتفاء بالقرينة، هذا مع أن للقلم جمع كثرة على (قلام).



قال ابن منظور في لسان العرب، القلم: الذي يكتب به، والجمع أقلام وقلام، قال ابن بري: وجمع أقلام أقاليم، وأنشد ابن الأعرابي:



كأنني حين آتيها لتخبرني

وما تبين لي شيئا بتكليم



صحيفة كتبت سرا إلى رجل

لم يدر ما خط فيها بالأقاليم





وقال أيضا في مادة: ط.ل.ح - وطلحة الطلحات، طلحة ابن عبيد الله بن خلف الخزاعي، ثم نقل عن ابن الأعرابي في طلحة هذا أنه، إنما سمي طلحة الطلحات بسبب أمه، وهي صفية بنت الحارث بن طلحة بن أبي طلحة، زاد الأزهري، ابن عبد مناف، قال وأخوها أيضا طلحة بن الحارث، فقد تكنفه هؤلاء الطلحات كما ترى، وقبره بسجستان، وفيه قال ابن قيس الرقيات:




رحم الله أعظما دفنوها

بسجستان طلحة الطلحات








قوله (أعظما) دفنوها، يريد عظام طلحة الطلحات المذكور، وهو من استعمال جمع القلة في موضع جمع الكثرة، لأن عظام الجسم كثيرة، وجمع القلة يدل على تسعة أو عشرة، فأين ما زعمه المعترض من أن جمع القلة إذا كان نكرة لا يستعمل في موضع جمع الكثرة.

وقال تعالى في سورة القيامة3) ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾ فعبر بجمع الكثرة، لأن عظام الإنسان كثيرة، وعبر الشاعر بجمع القلة لوجود القرينة الدالة على أنه يريد الكثرة، فما يقول المعترض في هذه النصوص القاطعة؟ وهذه القواعد المحكمة؟



قوله (وكأنني بالدكتور) وقد قرأ هذا الاعتراض يلجأ إلى ثلاثة قروء. أقول في جوابه، أنا لا ألجأ إلى ثلاثة قروء، وإنما تلجأ إليها النساء وأشباههن من الرجال الذين يقاتلون من وراء جدر، وقد أقمت الدليل على بطلان ما ادعاه دون أن التجئ إلى ما توهمه.



4- قوله: فما معنى القنابل في اللغة العربية؟ أقول في جوابه:



جاء شقيق عارضاً رمحه

إن بني عمك فيهم رماح



ومن قدمته نفسه دون غير

رأى غيره التأخير ذاك التقدما





أتظن أنه لا يعرف معنى القنابل والقنابر في الدنيا أحد غيرك، لقد كذبتك نفسك، أنا ما جاريت جهلة المترجمين، بل أنت جاريتهم، وأجلبت بخيلك العجاف، ورجلك الضعاف، لتصحيح أخطائهم، وتقف في طريق المصلحين الناصحين لقومهم، لتكتسب بذلك شهرة، وما نقلت عن أولئك المؤرخين، ولم تسم أحدا منهم من استعمالهم القنبر والقنابر بالراء – لا يساوي عند علماء اللغة جناح بعوضة، لأنهم ليسوا من العرب، وكلامهم ليس بحجة، فالعرب لم تعرف هذه الأشياء المتفجرة التي تسمى في هذا الزمان (قنابل) وليس من واجباتها أن تضع لها لفظا، بل ذلك من واجباتنا نحن، وأنت تعلم أنه ليس للمتكلمين بالعربية دائرة معارف، أو موسوعة كما يسمونها، متفق عليها تجمع شتات ما نحتاج إليه، إما أن نستعمل اللفظ الذي اصطلح عليه جماهير الكتاب والقراء، ليكون كلامنا مفهوما عند قرائنا، وإما أن يخترع كل واحد منا ما يعجبه من الألفاظ فلا يفهمه أحد سواه، فكأنه يكتب لنفسه، لا لقراء كتابة أو مجلته، ولا شك أن الصواب هو اختيار الطريق الأول.




وما المانع لنا أن نضع لفظ القَنْبَلة بفتح فسكون ففتح، الذي عبرت به العرب عن الطائفة من الناس ومن الخيل لما يسمى بالإنكليزية Bomb وبالفرنسيةBombe ولاسيما وقد شاع استعمال هذا اللفظ بين المتكلمين بالعربية من عرب وغيرهم، فيكون بالنسبة إلى أهل زماننا يدل على المعنيين كليهما؟ وما الذي يجعل لفظ (القنبر) أولى بالتعبير من القنبلة والقنبل، هل عندك شاهد من القرآن أو من كلام العرب الذين يحتج بكلامهم على صحة ما زعمت؟ أما القنبر في لغة العرب فدونكم معناه أيها القراء الأعزاء، قال ابن منظور في لسان العرب: والقبر والقبرة، والقنبر والقنبرة والقنبراء: طائر يشبه الحمرة، الجوهري القبرة واحدة القبر، وهو ضرب من الطير قال طرفة وهو يصطاد هذا الطير في صباه:



يالك من قبرة بمعمر

خلا لك الجو فبيضي واصفري



ونقري ما شئت أن تنقري

قد ذهب الصياد عنك فابشري








لا بد من أخذك يوما فاحذري

ومثله باختصار في القاموس وفي حياة الحيوان للدميري ما نصه: القبرة، بضم القاف وتشديد الباء الموحدة، واحدة القبر، قال الجوهري: وقد جاء في الشعر (قنبرة) كما تقوله العامة، وقال البطليوسي في، أدب الكاتب، وقنبرة أيضا بإثبات النون، قال وهي لغة فصيحة، وهو ضرب من الطير يشبه الحمر، وكنية الذكر منه أبو صابر، وأبو الهيثم، والأنثى، أم العلعل، وأنشد أبيات طرفة المتقدمة، اهـ.



فظهر مما تقدم أن استعمال القنبر فيما يسميه الأوربيونBomb ليس من اللغة العربية في قبيل ولا ديبر:

أقول لك أيها المعترض الكريم: إن احتجاجك بكلام غير العرب باطل، فالكلمة التي نبحث فيها لم تسمها العرب، لا قنبرة ولا قنبلة، ولنا أن نصطلح على تسميتها بما نشاء وليس ما يشتهيه بعضنا حجة على غيره، وأنا لا أعيب على المترجمين إلا خطأهم فيما عرفته العرب وتكلمت به، ومنعهم جهلهم من معرفته، فعبروا عنه بعبارات فاسدة، لا مستند لها، أما آلاف المحدثات من الأجرام والأعمال والآلات والمكتشفات فلا أتعرض لها، إذ لا يستطيع أن ينشرها إلا جماعة من العلماء اللغويين تنتخبهم الأمة العربية وتتلقى ما يضعونه من الكلمات بالقبول والاستعمال، ولا يستطيع شخص واحد أن يقوم بهذا العمل، فدع المغالطة واستقم، واقتصر على هذا القدر، وموعدنا الجزء التالي إن شاء الله.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #18  
قديم 16-02-2021, 03:38 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,380
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تقويم اللسانين

تقويم اللسانين (15)

د. محمد تقي الدين الهلالي

تقويم اللسانين مستقيم


وقد عدلت في تعديلك له عن العدالة (2)



1- قال المعترض الفاضل والناقد العادل: وقال (وعمت الفوضى في الإنشاء العربي) فما هذه الفوضى؟ ومن استعملها هذا الاستعمال من فصحاء الأمة العربية؟ إنها من استعمال جهلة المترجمين الذين عاب عليهم الدكتور استعمالهم كلمات عربية في غير مواضعها، إنها ترجمة كلمة Anarchi.

قال الأب بلو Belot في ترجمتها: عدم الحكم في الشعب، أمر فوضى، فالرجل على كونه غير عربي، استعمل الفوضى، صفة لا اسما كما استعملها الدكتور، فالفوضى صفة كالشتى، فالصواب، وعمت الحال الفوضى، وكأني بالدكتور يقول قد حذفنا الموصوف واتخذنا الصفة اسما، فنقول له، ليست هذه بقاعدة مطردة وأنت تدعو إلى اتباع كلام الفصحاء وأقوالهم، وهذا ليس بذاك ولا هناك، ثم ليس هذا موضع التدقيق والتحقيق، فنقول: إن الفوضى أصلها (الفضى) كشتى جمع شتيت، وهي مشتقة من الفعل (فضه يفضه فضا) أي فرقة تفريقا ثم أبدلت إحدى الضادين واوا، والتفرقة هي المعنى المراد بالفوضى، فالفوضى جمع كالشتى، تستعمل للجمع أو لما يمكن أن يتجزأ، وإن كان فكيف يجوز استعمالها اسما جامدا مع لزوم الوصفية الجمعية لها، اهـ.

قال محمد تقي الدين: أيها المعترض الكريم، متى اصطفاك فصحاء الأمة العربية نقيبا لهم، وفوضوا إليك أمر النقض والإبرام في الفصيح من لغتهم وغير الفصيح؟ لقد ارتقيت مرتقا صعبا، وطرت في غير مطارك، وأخاف عليك السقوط، إن ميزان الفصاحة ليس هو فهمك ولا ذوقك، وإنما هو قواعد وضعها الأئمة يرجع إليها ويعتمد في النقد عليها، وسأضع نقدك في الميزان، ليرى القراء، أيثقل، فتكون من المفلحين، أم يخف، فتكون من الخاسرين.

وسنرى هل استعمالي لهذه الكلمة من استعمال جهلة المترجمين، أم نقدك أنت ينتمي إلى جهلة المنتقدين، أنا لم آخذ هذه الكلمة من معاجم آبائك الأجانب، لا من معجم بلو ولا من معجم غيره، وإنما أخذتها من كلام العرب الأقحاح، ومعاذ الله أن أكون في لغة قومي عالة على الأجانب، فاسمع ما يقوله أئمة اللغة العربية. قال ابن منظور في لسان العرب في مادة ف وض ما نصه، وقوم فوضى، مختلطون، وقيل هم الذين لا أمير لهم ولا من يجمعهم، قال الأفوه الأودي:
لا يصلح القوم فوضى لا سراة لهم
ولا سراة إذا جهالهم سادوا



وصار الناس فوضى، أي متفرقين، وهو جماعة الفائض، ولا يفرد كما يفرد الواحد من المتفرقين، والوحش فوضى، متفرقة تتردد، اهـ. ومثله في القاموس للفيروزأبادي في مادة: ف و ض، ثم قرأت مادة: ف ض ض، في القاموس فلم أجد فيها أثرا لما زعمه المعترض من أن أصل الفوضى، فضى، كشتى وشتيت، ولم يذكر للفوضى مفردا ومقتضى كلامه أن يكون فضيضا، وذلك ضل بتضلال.

فالفوضى من مادة: ف و ض، ومفردها (فائض) كما تقدم من كلام لسان العرب، ومن المعلوم أن الهمزة في فائض منقلبة عن واو، قوله: كأني بالدكتور يقول.قد حذفنا الموصوف واتخذنا الصفة اسما. الخ، هذا كلام رجل لم يدرس علم النحو فهو يخبط خبط عشواء، أو كلما حذفنا الموصوف وجب علينا أن نتخذ الصفة اسما؟ من قال هذا من أئمة النحو؟ فهل درست ألفية ابن مالك أو ما يساويها من كتب النحو؟ الظاهر أنك لم تدرس شيئا من ذلك، فكيف تتصدر وتنصب نفسك حكما وإماما في علوم الأدب، وأنت لا تعرف ما في الألفية، يقول ابن مالك:
وما من المنعوت، والنعت عقل
يجوز حذفه، وفي النعت يقل




قال ابن عقيل في شرحه: وهو أسهل شروح الألفية في شرح البيت السابق، يجوز حذف المنعوت وإقامة النعت مقامه إذا دل عليه دليل، نحو قوله تعالى: ﴿أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ﴾ أي دروعا سابغات، وكذلك يحذف النعت إذا دل عليه دليل، لكنه قليل، ومنه قوله تعالى: ﴿قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ﴾ أي البين، وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ أي الناجين، انتهى.

وقال الأشموني في شرحه لألفية ابن مالك، الشرح ممزوج بالمتن ما نصه: (وما من المنعوت والنعت عقل) أي علم (يجوز حذفه) ويكثر ذلك في المنعوت وفي (النعت يقل) فالأول شرطه، أما كون النعت صالحا لمباشرة العامل نحو ﴿أن اعمل سابغات﴾ أي دروعا سابغات، أو كون المنعوت بعض اسم مخفوض بمن أو في، كقولهم: منا ظعن ومنا أقام، أي منا فريق ظعن ومنا فريق أقام، وقوله:
لو قلت ما في قومها لم تيثم
يفضلها في حسب ومسيم




أصله لو قلت: ما في قومها أحد يفضلها لم تأثم، فحذف الموصوف وهو أحد، وكسر حرف المضارعة من تأثم، وأبدل الهمزة ياء، وقدم جواب لو فاصلا بين الخبر المتقدم، وهو الجار والمجرور والمبتدأ المؤخر وهو أحد المحذوف، فإن لم يصلح ولم يكن المنعوت بعض ما قبله من مجرور بمن أو في، امتنع ذلك، أي إقامة الجملة وشبهها مقامه الأصلي إلا في الضرورة كقوله:
لكم قبضة من بين أثرى وأقترا
ترمي بكفي كان من أرمى البشر



وقوله:

كأنك من جمال بني أقيش
يقعقع بين رجليه بشن



انتهى.

فظهر مما نقلته من كلام النحويين أنه يجوز حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه بكثرة، بشرط أن تصلح الصفة التي حذف موصوفها لمباشرة العامل، بأن لا تكون جملة ولا شبه جملة، مع كون الموصوف فاعلا أو مفعولا أو مجرورا أو مبتدأ، لأن الجملة لا تصلح لذلك، قاله الخضري في حاشيته على ابن عقيل.

وهذا الشرط ينطبق أتم الانطباق على عبارتي التي انتقدها المعترض جهلا وتهورا، فإننا نقول عمت الفوضى، أي الأحوال الفوضى، لا الحال كما قدره المعترض، لأن الحال مفرد والفوضى صفة للجمع كما تقدم في كلام لسان العرب، وهو كقوله تعالى في سورة سبأ: (10-11) ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ، أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ﴾ يخبر الله تعالى أنه ألان الحديد، أي جعله لينا لداود قائلا له، اعمل دروعا واسعات ففي كلامه حذفت الأحوال وهي(فاعل) وأقيمت صفتها مقامها، وفي كلام العلي العظيم: حذفت (دروعا) وهي مفعول به، وأقيمت سابغات مقامها، وحذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه يقال فيه، حدث عن البحر ولا حرج يستعمله الناس كل يوم في كتاباتهم وكلامهم بالعربية الفصحى وبالعامية، ولا يكاد أحد يستغنى عن استعماله، قال الله تعالى في سورة المائدة: (38) ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ أي الرجل السارق والمرأة السارقة.

وقال تعالى في أول سورة النور: ﴿الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً﴾ أي الرجل الزاني لا ينكح إلا امرأة زانية، أو امرأة مشركة، وقال تعالى في سورة البقرة: (280) ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ أي إن وجد شخص مدين ذو عسرة لا يجد ما يؤدي به دينه، فلا تضيقوا عليه وأمهلوه إلى أن يتيسر له قضاؤه.

فكيف يزعم هذا المعترض المتخبط أن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ليس من كلام الفصحاء، يا هادي الطريق ضللت:
يا أيها الرجل المعلم غيره
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى

هلا لنفسك كان ذا التعليم
كيما يصح به وأنت سقيم



أما إذا كانت الصفة جملة أو شبه جملة، فيشترط لحذف الموصوف بها أن يكون بعض اسم مجرور (بمن أو في) مثال المجرور بمن، قول العرب منا ظعن ومنا أقام، أي منا فريق ظعن، أي سافر، ومنا فريق أقام، ففريق الذي هو موصوف محذوف وهو بعض ما يدل عليه الضمير (نا) المجرور بمن، ومثال المجرور (بفي) قولهم، فينا سلم، وفينا هلك أي فينا فريق سلم وفريق هلك، وفيما سوى ذلك لا يجوز الحذف، قوله (لو قلت ما في قومها) البيت، قاله أبو الأسود الحماني يصف المرأة بالحسب والجمال. والموصوف المحذوف هنا تقديره (أحد) أي لو قلت أيها المعجب بها بجمالها وكمالها، ما في قومها أحد من النساء في الحسب، وهو مفاخر الآباء والميسم، بكسر الميم، وهو الجمال لم تأثم، لأنك صادق في قولك، والمحذوف هنا وهو (أحد) بعض اسم مجرور بـ(في).

قوله (لكم قبصة) البيت، وصدره، لكم مسجدا الله المزوران والحصى والحصى: العدد الكثير، وقِبصة بكسر القاف أيضا العدد الكثير من الناس، والشاهد في قوله من بين أثرى، والتقدير من بين رجل أثري، أي كثر ماله، ورجل أقتر أي قل ماله، فحذف الموصوف، وأقام الصفة مقامه، مع أن الموصوف ليس بعض اسم مجرور بمن أو في لضرورة الشعر.

أقول: إن كانت القصيدة التي مدح بها الكميت بني أمية كلها مثل هذا البيت، ولم يعاتبوه عليها، فإنهم كانوا حلماء.

لأن البيت ركيك.

وقوله (ترمى بكفى) البيت، التقدير، ترمى بكفى رجل كان من أرمى البشر، فحذف الموصوف وهو (رجل) وأقام الصفة مقامه، وهي جملة كان، وإنما فعل ذلك للضرورة كالذي قبله.

قوله (كأنك من جمال بني أقيش) البيت، بنو أقيش بصيغة التصغير حي من العرب، وزعم بعضهم أنهم حي من الجن، وإبلهم وحشية شديدة النفور، وزعموا أنها كانت هي أيضا من الجن، والشن القربة اليابسة، ويقعقع يصوت، وجمال هذه القبيلة تنفر بدون سبب، فكيف إذا صوت مصوت بين أرجلها بضربه قربة يابسة، وأراد الشاعر ذم المهجو ووصفه بسرعة الغضب. والشاهد في حذف الموصوف للضرورة، والتقدير كأنك جمل من جمال بني أقيش، فإن قلت، وما الذي يضطرنا إلى تقدير هذا الموصوف، مع أن الكلام يتم بدونه، أقول، لو لم نقدره لم يكن في البيت ما يعود عليه ضمير رجليه، ولا بد له من شيء يعود عليه أيها المعترض الكريم. أظنك أدركت زمان الإمام العلامة السيد محمود شكري الآلوسي، رحمه الله، ولم تكن من تلاميذه، بل حرمت الاستفادة من بحر علمه الغزير، ولم يصحبك التوفيق الذي صحب تلامذته، كالأستاذ محمد بهجة الأثري، وشاعر العرب معروف الرصافي وغيرهما، ولو أنك كنت من تلامذته لم تهد إلينا هذا الهذيان، متوهما أنه جواهر البيان.

وقول المعترض: إن الفوضى، أصلها الفضى، كشتى جمع شتيت، وهي مشتقة من الفعل (فضه يفضه فضا) أي فرقه تفريقا، ثم أبدلت إحدى الضادين واوا، والتفرقة هي المعنى المراد بالفوضى فالفوضى جمع كالشتى، الخ.

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #19  
قديم 16-02-2021, 03:38 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,380
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تقويم اللسانين

إن كان جمعا فما هو مفرده؟ على مقتضى زعمك يكون مفرده فضيضا، فإن كنت ناقلا فعليك بتصحيح النقل، فإني لم أجد في كتب اللغة أحدا أشار إلى شيء مما ذكرت، وقد تقدم أنه من مادة (ف و ض) وإن كنت مخترعا لهذا الاشتقاق الفاسد، وظننت أنك تستطيع أن تروجه على قراء دعوة الحق أجمعين، فقد بلغ بك الغرور كل مبلغ.

واعلم أيها القارئ العزيز، أنني لم أستفد لفظ الفوضى من كلام المترجمين الجاهلين أو العالمين كما هو شأن المعترض الذي اتخذ القسيس (انسطاس الكرملي) إماما معصوما في علوم اللغة العربية، ولم يأت علومها من أبوابها كما فعل غيره من أدباء العراق النبلاء، فكأن الشاعر عناه بقوله:
إذا ما أتيت الأمر من غير بابه
ضللت، وإن تدخل من الباب تهتد




وإنما أخذت ذلك اللفظ من شعر الأفوه الأودي أنشده بعض المؤلفين في علم العروض فقال:
لا يصلح الناس فوضى لا سُراة لهم
والبيت لا يبتني إلا بأعمدة

فإن تجمع أوتاد وأعمدة
ولا سراة إذا جهالهم سادوا

ولا عمود إذا لم ترس أوتاد
وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا



وليت شعري، ما معنى قوله: ثم ليس هذا موضع التدقيق والتحقيق؟ ما المراد بهذا أهو لفظ الفوضى؟، أم حذف الصفة وإقامة الموصوف مقامها؟ وأيهما قصده لم يكن لكلامه معنى.

وقوله: فالفوضى، جمع كالشتى، تستعمل للجمع، أو لما يمكن أن يتجزأ، الخ أما كونها صفة جمع، فمسلم، ولكن إذا عرف ذلك، فكيف قدر موصوفها مفردا في تصحيحه الفاسد؟

بقوله فالصواب: وعمت الحال الفوضى؟
يصيب وما يدري ويخطي وما درى
وكيف يكون النوك إلا كذلك




ثم إن ادعاءه أن هذا اللفظ يكون صفة للجمع، أو لما يمكن أن يتجزأ، وإن كان مفردا، من أين علم أنه يكون صفة لما يمكن أن يتجزأ وإن كان مفردا، وما هو هذا الشيء الذي يتجزأ وهو مفرد، أهو جنة تتجزأ إلى أشجار؟ فنقول شجرة من جنة، أم روضة تتجزأ إلى أزهار؟ فنقول: زهرة من روضة، أم ماذا؟، وهل هذا الادعاء نقل أو اختراع؟ فإن كان نقلا فليصححه بأن ينسبه إلى قائله من الأئمة، وإن كان اختراعا فهو من تخيلاته الفاسدة ونيات غيره، فلا يساوي قلامة ظفر عند المحققين.

ثم أقول له، والحال التي قدرتها محذوفة وجعلت الفوضى صفة لها والأمر الذي نقلته من كلام أبيك (بلو) الفرنسي وأعجبت به كل الإعجاب، هل هما من المفرد الذي يتجزأ؟ فكيف تجزئهما؟

أثلاثا أم أرباعا أم أخماسا، أو أجزاء لا يعرف عددها؟ هل فكرت في هذا الأمر قبل أن تكتبه وترسله من بغداد إلى الرباط هدية ثمينة إلى أدباء المغرب وأدباء العالم؟ ما أخال أن أدباء العراق يرضون بخطتك هذه، ويعتبرونها شيئا مشرفا، وقد يعتبرونك كبراقش التي كانت تجني على أهلها، ونحن ننزه أدباء العراق المحققين عن مثل هذه السفاسف المرتجلة.

ثم إن تمثيل الإمام ابن عقيل لحذف النعت أي الصفة بقوله تعالى في سورة البقرة: (71) ﴿قالوا، الآن جئت بالحق﴾ أي البين، فحذفت الصفة وهي البين، تمثيل غير صحيح، لأن موسى قال لهم ﴿إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزؤا، قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين﴾ فلم يكن بنو إسرائيل يعتقدون أن موسى أجابهم في أول الأمر بالحق المبهم، وفي آخر الأمر بالحق البين، بل ظنوا أنه يتخذهم هزؤا، وفهم موسى ذلك من كلامهم، فاستعاذ بالله منه، وعده من الجهل وهو السفه.

وكذلك تمثيله بقوله تعالى في سورة هود (46) ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ أي الناجين، لا حاجة إلى تقدير هذا النعت، لأن نوحا عليه السلام حين قال: ﴿رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي﴾ لم يرد بذلك أن يخبر أن الابن الهالك من ذريته، وإنما أراد أن يقول، إنه من أهله الذين يستحقون الرحمة والعفو لقربه من رسول الله نوح أحد أولي العزم، فأخبره الله أن ذلك الابن ليس من المؤمنين بما جاء به أبوه، فلا يستحق النجاة ولا الرحمة بالقرابة المجردة، فإنها لا قيمة لها عند الله، قال تعالى في سورة الطور: (21) ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾.

وقال تعالى في سورة الأنعام بعد ذكر الرسل: (87-88) ﴿وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ، وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ فمن أشرك من ذرية الرسل حبط عمله واستحق الخلود في العذاب، ولم تغن عنه قرابته من الرسول شيئا، والصواب ما مثَّل به الأشموني حيث قال والثاني كقوله تعالى: (18-79) ﴿يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا﴾ أي كل سفينة صالحة، وقوله:

فلـم أعـط شيئا ولـم أمنع

أي شيئا طائلا وقوله:
ورب أسيلة الخدين بكر
مهفهفة لها فرع وجيد



أي فرع فاحم، وجيد طويل.

2- قال المعترض، وقال (ربما استعمله بعض كبار الأساتذة الذين يرجى منهم المحافظة على صحة الاستعمال، أراد بالبعض هنا غير واحد منهم، مع أن (بعض) لم تكرر في الجملة حتى تدل على غير الواحد فالمكررة كالقول الذي قاله الدكتور في نقده هذا (تحدث بعضهم إلى بعض) وكما في الآية الكريمة التي اتخذها شاهدا وهي (فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون) فإذا لم تكرر، وكان المضاف إليه الذي أضيفت ذا أجزاء منفصلة) أو ممكن فصلها دلت على واحد أو واحدة.

أقول في جوابه بالعامية العراقية (ياباه شاباش) وبالعامية المصرية (عفارم) ما هذا العلم الغزير، والتحقيق البديع؟ والآن أضع في الميزان هذا النقد، ليعرف القراء الأعزاء قيمته.

ادعى المعترض أن لفظ (بعض) إذا كرر دل على أكثر من واحد، وإذا لم يكرر، وكان المضاف إليه ذا أجزاء منفصلة، أو ممكن فصلها دل على واحد أو واحدة، أقول من وضع هذه القاعدة؟ إن كنت ناقلاً، فلم لم تَعْزُ ما نقلت إلى قائله وتذكر فيه الخلاف أو الإجماع إن كنت من المحققين كما تزعم، وإن كنت مخترعا، ما أنت علي، ولا أبو الأسود، ولا الخليل ولا سيبويه، ولا من هو دونهم من النحاة واللغويين، فما تضعه من القواعد هوس لا قيمة له، وما أحسن ما قال بعضهم في أمثالك:
تصدر للتدريس كل مهوس
فحق لأهل العلم أن يتمثلوا

لقد هزلت حتى بدا من هزالها
سفيه يسمى بالفقيه المدرس

ببيت قديم شاع في كل مجلس
كلاها وحتى سامها كل مفلس



اسمع ما يقوله الأئمة في (بعض) قال ابن منظور في لسان العرب (بعض) الشيء، طائفة منه، والجمع أبعاض، قال ابن سيدة، حكاه ابن جني، فلا أدري أهو تسمح أم هو شيء رواه، واستعمل الزجاجي (بعضا) بالألف واللام فقال: وإنما قلنا البعض والكل مجازا، وعلى استعمال الجماعة له مسامحة، وهو في الحقيقة غير جائز، يعني أن هذا الاسم لا ينفصل عن الإضافة، قال أبو حاتم: قلت للأصمعي، رأيت في كتاب ابن المقفع: العلم كثير، ولكن أخذ البعض خير من ترك الكل، فأنكره أشد الإنكار وقال الألف واللام لا يدخلان في (بعض وكل).

ومضى إلى أن قال وقوله تعالى: ﴿يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ﴾ بالتأنيث في قراءة من قرأ به، فإنه أنث، لأن بعض السيارة سيارة، كقولهم: ذهبت بعض أصابعه، لأن بعض الأصابع يكون اصبعا وأصبعين وأصابع، اهـ.

تأمل قول ابن منظور في بيان قول العرب، ذهبت بعض أصابعه لأن بعض الأصابع، يكون أصبعا وأصبعين وأصابع، وكذلك (بعض الأساتذة) يكون أستاذا وأستاذين وأساتذة ولا فرق، فبطل بذلك ما زعمه المعترض من أن (بعضا) إذا لم يكرر يدل على واحد أو واحدة فقط.

قوله: وشاهدنا كتاب الله العزيز ففيه: ﴿يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ﴾ الخ أقول: نعم الشاهد كتاب الله. ولا حجة لك فيه، لأن لفظ (بعض) مذكر ومفرد، والضمير يعود عليه مفردا حسب لفظه، فليس فيه دليل على ما زعمت، لأننا نقول كما قال ابن منظور: إن (بعضا) إذا أضيف إلى جمع يدل على واحد أو اثنين أو أكثر، فنحن لا ننكر أنه يدل على واحد في بعض الأحيان، ولكننا ننكر ما ادعيت من أنه لا يدل إلا على واحد أو واحدة بالشرط الذي ذكرته من مخترعاتك.

وقوله: ولولا أنزل على بعض الأعجمين فقرأه، أيها المعترض المسكين لقد استهدفت ونصبت نفسك للرماح دريته، نحن نعلم أن الله حرمك من حفظ القرآن ولكنه لم يحرمك من مصحف يوجد في خزانة كتبك فهلا راجعته قبل أن تحرف كتاب الله وتغيره، ففي أي سورة وجدت هذا اللفظ؟ وفي أي آية؟ لقد خانتك ذاكرتك الواهمة وأظنك تريد قوله تعالى في سورة الشعراء (198-199) ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ﴾ وغاية ما في الآيتين أن (بعض) هنا تدل على واحد، وأنا لا أنكره، ولا حجة لك فيه، وكذلك يقال في آية التحريم وأما قول الشاعر:
ولانت تفرى ما خلقت
وبعض القوم يخلق ثم لايفرى




فلا أسلم أن (بعض) هنا تدل على واحد فقط، والقرينة والواقع يحتمان أنه يدل على أكثر من واحد، أما الواقع، فإن الذين يرسمون الخطط لعمل من الأعمال، ويعزمون على تنفيذها فريقان فريق ذوو عزائم ماضية وهمم عالية، ينفذون كل ما رسموا له خطة، وفريق ذوو عزائم واهية، وهمم سافلة، يقولون ما لا يفعلون ويعزمون على مالا ينفذون، ولا يمكن أن ينحصروا في واحد.

وأما القرينة، فإن الشاعر يريد أن ممدوحه من ذوي الهمم العالية الذين إذا قالوا فعلوا، وإذا وعدوا أنجزوا، وكثير من الناس تقصر هممهم عن التخلق بهذا الخلق، وعلى تأويل المعترض، يكون الناس كلهم ينجزون وعودهم ويوفون بعهودهم، وينفذون ما رسموا من الخطط إلا واحدا، فلا يكون فيه مدح، وقد ظهر أن هذا البيت حجة عليه ولا له.

وأما بيت أبي دلامة وبيت بشار، فمع تسليمي لدلالة (بعض) فيهما على واحد أقول: لا حجة في كلام أحد من المولدين، وبشار بن برد كان مجوسيا عجميا، كان يزمزم على الطعام قبل أن يظهر إسلامه، ومع ذلك هو من فحول الشعراء المحدثين، ولا حجة في كلامه.

أما قول لبيد: أو يعتلق بعض النفوس حمامها.

فقد اختلفوا في دلالة (بعض) هنا، والصحيح أنها تدل على واحد، ولا حجة للمعترض فيه، لأن الخلاف بيني وبينه ليس في صحة دلالتها على واحد، وقال تعالى في سورة الزخرف: (63) ﴿وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ، قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ، وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾.

قال الراغب في غريب القرآن: قال أبو عبيدة: ﴿وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾ أي كل الذي كقول الشاعر:
أو يرتبـط بعض النفوس حمامهـــا

وفي قوله هذا قصور نظر منه، وذلك أن الأشياء على أربعة أضرب: ضرب في بيانه مفسدة، فلا يجوز لصاحب الشريعة أن يبينه، كوقت القيامة، ووقت الموت، وضرب معقول، يمكن للناس إدراكه من غير نبي كمعرفة الله ومعرفته في خلق السموات والأرض، فلا يلزم صاحب الشرع أن يبينه. ألا ترى أنه كيف أحال معرفته على العقول في نحو قوله: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وبقوله: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا﴾ وغير ذلك من الآيات وضرب يجب عليه بيانه كأصول الشرعيات المختصة بشرعه، وضرب يمكن الوقوف عليه بما بينه صاحب الشرع كفروع الأحكام.

وإذا اختلف الناس في أمر غير الذي يختص بالنبي بيانه فهو مخير بين أن يبين وبين أن لا يبين حسبما يقتضي اجتهاده وحكمته، فإذن قوله تعالى: ﴿وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾ لم يرد به كل ذلك، وهذا ظاهر لمن ألقى العصبية عن نفسه، اهـ. قال محمد تقي الدين: قول الراغب (ضرب في بيانه مفسدة) الخ خطأه لأن صاحب الشريعة لا يعرف وقت القيامة لقوله تعالى في سورة الأعراف: (187) ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي﴾ وقوله سبحانه في سورة لقمان: (34) ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾.

وقوله (وضرب معقول، يمكن للناس إدراكه) الخ، جرى في ذلك على مذهبه الاعتزالي أن العقل وحده كاف لمعرفة الله، والحق أن العقل وحده لا يكفى في ذلك، فلا بد من بيان الرسل، وسائر كلامه لا إشكال فيه.

وعلى ما زعمه المعترض يكون معنى قوله تعالى: ﴿وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾ ولأبين لكم مسألة واحدة من الذي تختلفون فيه، وكفى بقول يفضي إلى هذا فسادا، ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة آل عمران: (50) ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ قال القنوجي في: فتح البيان، عن الربيع قال: كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى، وكان قد حرم عليهم فيما جاء به موسى، لحوم الإبل والثروب، فأحلها لهم على لسان عيسى وحرم عليهم الشحوم فأحلت لهم فيما جاء به عيسى، وفي أشياء من السمك وفي أشياء من الصيد، وفي أشياء أخر حرمها عليهم، وشدد عليهم فيها، فجاءهم عيسى بالتخفيف منه في الإنجيل، اهـ.

فعلى قول المعترض لا يمكن أن يحل عيسى لبني إسرائيل إلا شيئا واحدا، وقد أحل لهم أشياء عديدة كما رأيت أيها القارئ الكريم، وهذه نصوص القرآن التي زعم أنها تنصره، فإذا بها تخذله لأنه ليس من أهل القرآن، لا حفظا ولا عملا وإيمانا، فإن القرآن يقول في سورة البقرة: (185) ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ، وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ، فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ وهو يأكل ويشرب في رمضان جهارا على أعين الناس، وهو شاهد غير مسافر، والقرآن يقول في غير ما آية: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ وهو لا يقيم الصلاة، ولا يؤتي الزكاة ويحتج علي بنصوص الفقه في مسألة لغوية لا علاقة لها بالفقه. والمبتدئون من تلاميذ الأدب، فكيف بالعلماء يعلمون أن أقوال الفقهاء ليست حجة في اللغة، وهل سمعتم بفقيه لا يصلى ولا يصوم، ورأسه منذ عشرين سنة أبيض كالثغامة، يسوء الغانيات إذا رأينه؟ هذا آخر هذا المقال وموعدنا الجزء التالي بحول الله وقوته.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #20  
قديم 16-02-2021, 03:40 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,380
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تقويم اللسانين

تقويم اللسانين (16)

د. محمد تقي الدين الهلالي

تقويم اللسانين مستقيم


وقد عدلت في تعديلك له عن العدالة (3)




قال المعترض: وقال (فإن من كان عالما بالنحو في أي لغة كانت يتخذه مصباحا) وهذا التعبير كان أولى من غيره بتقويم اللسان، فإن مراده، من كان عالما بنحو لغة من اللغات يتخذه مصباحا، فاستعمل (أيا) هذا الاستعمال الغريب، وظن أن الضمير في (كان) يعود إلى اللغة، فألحق به تاء التأنيث، مع أن الفعل ينبغي أن يكون للعلم المفهوم من اسم الفاعل. وبيان ذلك من كان عالما بنحو لغة كائنا ما كان هذا العلم بالنحو، فإذا أراد اللغة وجب تقديمها فيقال (من كان عالما بلغة أي لغة كانت) فالفعل الذي يأتي بعد (أي) يعود ضميره إلى الاسم الذي قبلها وهذه أدنى مراتب الصحة أو دنياها، اهـ.



أقول: هذا كلام رجل يجادل بالباطل ليدحض به الحق، قد شوى الحسد قلبه، وأغصه بريقه، فأراد أن يهدم ما بينته، ويفسد ما أصلحته "﴿ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾، ﴿ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾ [يونس: 82]".



قولي: في (أي) لغة كانت، جار ومجرور، في محل نصب متعلق بمحذوف حال من النحو، وكانت فعل تام، وفاعله ضمير مستترا جوازا تقديره، هي يعود على اللغة، وهذه الجملة في محل جر صفة للغة، وهذا كلام مستقيم لا إشكال فيه.



وقوله: فإذا أراد اللغة وجب تقديمها فيقال (من كان عالما بلغة، أي لغة كانت) أنا لم أرد العلم باللغة، وإنما أردت العلم بنحوها ولو أردت العلم بها لما وجب تقديم الموصوف مذكورا، فقد تقدم ما يشفي العليل ويروي الغليل في جواز حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه بكثرة، وتقدمت الشواهد على ذلك، فمعنى كلامي من كان عالما بالنحو في أي لغة كيفما كانت، وهو واضح لكل ذي قلب سليم، وفهم غير سقيم.



1- قال المعترض، وقال (ينتفع أهل الأرض بضوئها ودفئها وإنضاجها للثمار إلى غير ذلك) فكيف نصل (إلى غير ذلك) بالجملة، وهي لا تحتاج إلى (إلى) التي هي منتهى لابتداء الغاية، فلو قال (من ضوئها ودفئها إلى غير ذلك) لصح التعبير، فالصواب، العطف (غير ذلك) فتكون الجملة بضوئها ودفئها وإنضاجها للثمار إلى غير ذلك، اهـ.



أقول: لقد طاش سهمك في هذه أيضا، ومن قال لك إن (إلى) محصورة في انتهاء الغاية ولو درست كتابا من كتب النحو المتوسطة لعرفت أن لها معاني أخرى غير انتهاء الغاية فدونك ما قاله الأشموني في شرحه لألفية ابن مالك في معاني (إلى) لتعلم أن ريحك لاقت إعصارا، وأن الحق لا يعدم أنصارا.



قال الأشموني:

وأما (إلى) فلها ثمانية معان:

الأول: انتهاء الغاية مطلقا كما تقدم.



الثاني: المصاحبة، نحو: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ ﴾ [النساء: 2].



الثالث: التبيين، وهي المبنية لفاعلية مجرورها بعد ما يفيد حبا أو بغضا من فعل تعجب أو اسم تفضيل نحو: ﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ ﴾.



الرابع: موافقة اللام نحو: ﴿ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ ﴾ وقيل لانتهاء الغاية، أي منته إليك.



الخامس: موافقة في، نحو: ﴿ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ وقوله:



فلا تتركني بالوعيد كأنني

إلى الناس مطلي به القار أجرب






السادس: موافقة مِنْ كقوله:



تقول وقد عاليت بالكور فوقها

أيسقى فلا يروى إلى ابن أحمرا






السابع: موافقة عند كقوله:



أم لا سبيل إلى الشباب وذكره

أشهى إلي من الرحيق السلسل






الثامن: التوكيد، وهي الزائدة، أثبت ذلك الفراء مستدلا بقراءة بعضهم ﴿ أفئدة من الناس تهوي إليهم ﴾ بفتح الواو، وخرجت على تضمين تهوى معنى تميل، اهـ.



قال ابن منظور في لسان العرب:

وتكون (إلى) بمعنى (مع) كقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ ﴾ [النساء: 2]معناه مع أموالكم، وكقولهم، الذود إلى الذود إبل، وقال الله عز وجل: ﴿ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 52] أي مع الله وقال عز وجل: ﴿ وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ﴾ [البقرة: 14] اهـ.



فظهر أن استعمالي (لإلى) بمعنى (مع) صحيح مستقيم، وأن انتقاد المعترض سقيم.



2- قال المعترض: وقال (ورنفت صفو زلاله المعين مما يسوء كل طالب علم) فمن هنا للبيان والتفسير فكيف يكون الزلال لمعين مما يسيء كل طالب علم، وإذا عددناها للتعليل يكون ترنيق الصفو بسبب ما يسوء كل طالب علم وهو غير مراد الكاتب، فالصواب وذلك مما يسوء كل طالب علم على الابتداء والإخبار، اهـ.



أقول: لم أقصد (بمن) بيانا ولا تعليلا، وإنما قصدت أن ترنيق الصفو مما يسوء كل طالب علم، إلخ، فهي هنا للتبعيض، والمبتدأ محذوف، التقدير: وهو أي الترنيق، مما يسوء إلخ، وهكذا يفهم أولو الألباب أجمعون، وإنما حمله على التخطئة والتصويب ابتغاء العيوب وإلصاقها بالبراء، شأن كل مريب.



3- قال المعترض: وقال في الكاف التي سماها استعمارية (وهذا الاستعمال دخيل لا تعرفه العرب) أراد (لم تعرفه العرب) وإلا فإن العرب عارفة به، فالمراد نفي الماضي لا المستقبل، جاء في الصحاح (لا) حرف نفي لقولك، يفعل، لم يقع الفعل، إذا قال: هو يفعل غدا، قلت، لا يفعل غدا ولا تنفي الماضي إلا إذا كررت، أو عوض عن تكرارها، وليس هذا موضع الجدال، لأن الفعل في الجملة المنقودة مضارع جعلته (لا) للاستقبال مع أن المراد نفي معرفة العرب قديما، اهـ.



أقول: من الشائع الذائع في كتب النحاة وعلى ألسنتهم، العرب لا تبدأ بساكن ولا تقف على متحرك، فهل معناه، لن تبدأ ولن تقف، بل المراد أنه ليس من عادتها ولا من شأنها أن تفعل ذلك، فالمعنى غير مقيد بالمعنى، ولو قلنا، لم تبدأ ولم تقف لم يحصل المراد، وكلام الصحاح قد ساء فهم المعترض له، فإن قوله (لا يفعل غدا) لا يدل على أن (لا) هي التي عينت الفعل للاستقبال، بل القرينة (غدا) هي التي عينته له قال ابن بونا في ألفيته:



واجعل في الاستقبال الأمر واقعا

وقل به والحال فيما ضارعا






قال الناظم نفسه في شرح هذا البيت، أي المضارع، ولو (نفى) بلا خلافا لمن خصصها بالمستقبل، ومن وروده مع (لا) للحال قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا ﴾، اهـ.



فهذه حكاية حال ماضية، وهي تحكى بالمضارع كما رأيت شاهده في كتاب الله، ولكن فهم المعترض منحصر في دائرة ضيقة لقلة علمه، ولأنه لم يأت البيوت من أبوابها.



قال ابن منظور في لسان العرب في الكلام على (لا) ما نصه:

قال الليث، العرب تطرح (لا) وهي منوية كقولك: والله أضربك، تريد والله لا أضربك، وأنشد:



واليت آسى على هالك

وأسأل نائحة ما لها






فقول الليث وهو من أئمة اللغة: والعرب تطرح (لا) هو كقولي أنا (لا تعرفه العرب) إلا أن الفعل في كلامه مثبت، وهو في كلامي منفي (بلا) وقد تقدم أن (لا) لا تعينه للاستقبال، فبطل كلام المعترض، وقال ابن منظور أيضا، التهذيب، قال الفراء، والعرب تجعل (لا) صلة إذا اتصلت بحرف قبلها، وقال الشاعر:



ما كان يرضى رسول الله دينهم

والأطيبان أبوبكر ولا عمر






ومثل هذا في أقوال أئمة اللغة كثير.



وقولهوإلا فإن العرب عارفة به) من أعجب العجب، هل يستطيع أن يأتينا بدليل على أن العرب كانت تعرف الكاف الاستعمارية وتستعملها في كلامها؟ فأنا أتحداه أن يأتي بشاهد واحد عن العرب، بل لا يستطيع أن يأتي بدليل من كلام المولدين الذين جاءوا بعد العرب ولا يجده أبدا قبل هذا الزمان النحس، زمان الاستعمار المادي والسياسي واللغوي، والذي يؤسفني أن هذا المعترض يعلم يقينا أن هذه الكاف هي ترجمة Comme بالفرنسية، وAS بالإنكليزية وAIS بالجرمانية، وأن هذه الكلمات تأتي في هذه اللغات قبل الحال، وقد تأتي قبل غيرها، وتأتي للتشبيه أيضا، فاستعملها جهلة المترجمين استعمالا فاسدا، وهو يعلم فساده، ويجادل بالباطل عمدا ليغمط غيره ويبخسه حقه، وينصب لنفسه عرشا يجلس عليه، ولم يدر أن من أم أن يرتفع بالباطل خفضه الحق، ولو أنه لم يجادل إلا فيما لا يعرفه، وقصر عنه فهمه لهان الخطب وما أحسن ما قال ذو الأصبع العدواني:



الله يعلمني والله يعلمكم

والله يجزيكم عني ويجزيني






قوله (ولا تنفي الماضي إلا إذا كررت) باطل، فقد جاء الفعل الماضي في كلام العرب منفيا (بلا) غير متكررة، قال الشاعر:



ردوا فو الله لا ذرناكم أبدا

مادام في مائنا ورد لوراد






قال العلامة المحقق أحمد بن أمين الشنقيطي العلوي في الدرر اللوامع شرح شواهد همع الهوامع للسيوطي بعد إيراد البيت المتقدم استشهد به على تعيين لماضي المنفي (بلا) للاستقبال، ذدناكم، كففناكم، وهو بالذال لا بالزاي، ولم أعثر على قائله، اهـ.



واستشهد به أيضا على ذلك ابن بونا في حاشية ألفيته، واعلم أيها القارئ الكريم أن المضارع في كلام العرب يأتي بمعنى الماضي في مواضع، وأن الماضي يأتي للحال وللاستقبال بشروط وقرائن ذكرها السيوطي في همع الهوامع شرح جمع الجوامع له، وذكرها ابن بونا في ألفيته، وأظن أن المعترض لم يسمع بهذين الكتابين، فضلا عن أن يدرسهما، وحسبه ما كتبه إمامه القسيس (انسطاس الكرملي) والقسيس بلو الفرنسي، فبهما يصول ويجول ﴿ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾.



4- قال المعترض: وقال (بين غث وسمين، وكدر معين) ظانا أن المعين هو الصافي والرائق مع أنه الجاري، وقد يكون الجاري رائقا أو كدرا بحسب أرضه وجريته ومنبعه وعينه وما يحدث فيه، اهـ.



أقول، صدق المعترض، فإن المعين هو الذي تراه العين، كما قال البيضاوي، وهو الماء الجاري، ولكن أكثر الماء الجاري، وهو البحر يكون صافيا على الدوام ولا يتكدر، فإن قيل إن البحر غير جار، نقول، بلى بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء الذي كان يقوله إذا رأى قرية، اللهم رب السموات وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب البحار، وما جرين، ورب الرياح وما ذرين.... الحديث، وإذا علمت أن ثلاثة أرباع الأرض يغطيها البحر، وأن الأنهار في أغلب الأوقات صافية، وكذلك العيون الجارية، ولا تكدر إلا عند نزول الأمطار وسيلان الأودية تعلم أن الجريان يلازم الصفاء، والتعبير باللازم وإرادة الملزوم شائع في كلام البلغاء والقرينة لا تبقي شكا في أني أريد الصافي، وكذلك قول الشاعر:



إن حمامنا الذي نحن فيه

أي ماء به!وأية نار!



قد نزلنا به على ابن معين

وروينا به صحيح البخار






قوله (على ابن معين) فيه تورية، فالمقصود هو الماء المعين الصافي في الحمام، والمعنى الذي وري به هو الإشارة إلى الإمام الحافظ أحد أئمة الجرح والتعديل يحيى بن معين، وفي قوله صحيح البخار تورية، فإن المقصود بخار الحمام، والتورية بصحيح الإمام الحافظ أمير المؤمنين في الحديث أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، ومن المعلوم أن ماء الحمام غير جار ولكنه عبر باللازم وأراد الملزوم، والمناقشة في مثل هذه الصغائر من الشطط، والتماس العيوب للبراء.



5- قال المعترض: وقال (وستأتي في هذه المقالات إن شاء الله أمثلة عديدة توضح ذلك) أراد بعديدة (كثيرة) مع أن العديدة هي المعدودة، قليلة كانت أو كثيرة، واستعمل (أمثلة) جمع القلة مع إرادته الكثرة، فالصواب مثل كثيرة، الخ.



أقول: صدق المعترض في قوله: إن العديدة يراد به المعدودة، سواء أكانت قليلة أم كثيرة، إلا أن القرينة التي فهم بها هو (الكثرة) كافية لجعل القارئ يفهم الكثرة، واستعمال اللفظ في أحد مدلوله مع القرينة الصارفة عن إرادة مدلول الآخر شائع في كلام البلغاء جار على الأصول، لا سبيل إلى إنكاره فلا يعد عيبا ولا خطأ، إلا عند الذي أصيبت عين بصيرته بالحول، ونكب عن الصراط لمرض في قلبه ﴿ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾.



على أن ابن منظور في لسان العرب قال ما نصه، والعديد الكثرة، اهـ. وإذا كان العديد هو الكثرة، فلتكن العديدة كذلك، وعلى ذلك أقول: لو كان اعتراض هذا المعترض كله مثل هذين الاعتراضين الأخيرين لتلقيته بكل سرور، ولكن أكثره كان الباعث عليه القصور وسوء الفهم، أو إرادة السوء والغش المتعمد للقراء.



وأما قوله: إن (أمثلة) جمع قلة، فقد تقدم الكلام عليه مستوفي في الجواب عن النقد الثالث.

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 279.08 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 273.02 كيلو بايت... تم توفير 6.06 كيلو بايت...بمعدل (2.17%)]