|
|
فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#11
|
||||
|
||||
رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (11) - أحكام فقهية في قصة الملأ من بني إسرائيل د.وليد خالد الربيع قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} سورة البقرة:246. قال الشيخ ابن سعدي: «يقص الله -تعالى- على نبيه قصة الملأ من بني إسرائيل وهم الأشراف والرؤساء، وخص الملأ بالذكر؛ لأنهم في العادة هم الذين يبحثون عن مصالحهم ليتفقوا؛ فيتبعهم غيرهم على ما يرونه، وذلك أنهم أتوا إلى نبي لهم بعد موسى -عليه السلام- فقالوا له: {ابعث لنا ملكا} أي: عيِّن لنا ملكا {نقاتل في سبيل الله} ليجتمع متفرقنا ويقاوم بنا عدونا، ولعلهم في ذلك الوقت ليس لهم رئيس يجمعهم، كما جرت عادة القبائل -أصحاب البيوت-، كل بيت لا يرضى أن يكون من البيت الآخر رئيس، فالتمسوا من نبيهم تعيين ملك يرضي الطرفين ويكون تعيينه خاصا لعوائدهم. أنبياء بني إسرائيل وكانت أنبياء بني إسرائيل تسوسهم، كلما مات نبي خلفه نبي آخر، فلما قالوا لنبيهم تلك المقالة قال لهم نبيهم: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} أي: لعلكم تطلبون شيئا وهو إذا كتب عليكم لا تقومون به، فعرض عليهم العافية فلم يقبلوها، واعتمدوا على عزمهم ونيتهم، فقالوا: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} أي: أي شيء يمنعنا من القتال وقد ألجأنا إليه، بأن أخرجنا من أوطاننا وسبيت ذرارينا، فهذا موجب لكوننا نقاتل ولو لم يكتب علينا، فكيف مع أنه فرض علينا وقد حصل ما حصل؟ ولهذا لما لم تكن نياتهم حسنة ولم يقوَ توكلهم على ربهم {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا} فجبنوا عن قتال الأعداء وضعفوا عن المصادمة، وزال ما كانوا عزموا عليه، واستولى على أكثرهم الخور والجبن { إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ} فعصمهم الله وثبتهم وقوى قلوبهم فالتزموا أمر الله، ووطنوا أنفسهم على مقارعة أعدائه، فحازوا شرف الدنيا والآخرة، وأما أكثرهم فظلموا أنفسهم وتركوا أمر الله؛ فلهذا قال: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}». تمني لقاء العدو من المسائل الفقهية المستفادة من هذه الآية الكريمة مسألة (تمني لقاء العدو): قال القرطبي: «أخبر -تعالى- أنه لما فرض عليهم القتال ورأوا الحقيقة، ورجعت أفكارهم إلى مباشرة الحرب وأن نفوسهم ربما قد تذهب تولوا أي: اضطربت نياتهم وفترت عزائمهم، وهذا شأن الأمم المتنعمة المائلة إلى الدعة تتمنى الحرب أوقات الأنفة فإذا حضرت الحرب كعت وانقادت لطبعها، وعن هذا المعنى نهى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاثبتوا» متفق عليه. المنع من طلب لقاء العدو فظاهر الحديث يدل على المنع من طلب لقاء العدو، وقد اجتهد العلماء في بيان الحكمة من ذلك، فقال النووي: «إِنَّمَا نَهَى عَنْ تَمَنِّي لِقَاءِ الْعَدُوِّ لِمَا فِيهِ مِنْ صُورَةِ الْإِعْجَابِ وَالِاتِّكَالِ عَلَى النَّفْسِ وَالْوُثُوقِ بِالْقُوَّةِ وَهُوَ نَوْعُ بَغْيٍ، وَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ بُغِيَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْصُرَهُ، وَلِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ قِلَّةَ الِاهْتِمَامِ بِالْعَدُوِّ وَاحْتِقَارَهُ وَهَذَا يُخَالِفُ الِاحْتِيَاطَ وَالْحَزْمَ». صُورَةٍ خَاصَّة وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى النَّهْيِ عَنِ التَّمَنِّي فِي صُورَةٍ خَاصَّةٍ وَهِيَ إِذَا شَكَّ فِي الْمَصْلَحَةِ فِيهِ وَحُصُولِ ضَرَرٍ وَإِلَّا فَالْقِتَالُ كُلُّهُ فَضِيلَةٌ وَطَاعَةٌ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَلِهَذَا تَمَّمَهُ - صلى الله عليه وسلم- بِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ»، وَقَدْ كَثُرَتِ الْأَحَادِيثُ فِي الْأَمْرِ بِسُؤَالِ الْعَافِيَةِ وَهِيَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ الْمُتَنَاوِلَةِ لِدَفْعِ جَمِيعِ الْمَكْرُوهَاتِ فِي الْبَدَنِ وَالْبَاطِنِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ». ونقل ابن حجر عن ابن بَطَّالٍ أن حِكْمَةُ النَّهْيِ أَنَّ الْمَرْءَ لَا يَعْلَمُ مَا يؤول إِلَيْهِ الْأَمْرُ وَهُوَ نَظِيرُ سُؤَالِ الْعَافِيَةِ مِنَ الْفِتَنِ وَقَدْ قَالَ الصِّدِّيقُ: لَأَنْ أُعَافَى فَأَشْكُرَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُبْتَلَى فَأَصْبِرَ. مِنْ أَشَقِّ الْأَشْيَاءِ وَقَالَ ابن دَقِيقِ الْعِيد: «لَمَّا كَانَ لِقَاءُ الْمَوْتِ مِنْ أَشَقِّ الْأَشْيَاءِ عَلَى النَّفْسِ وَكَانَتِ الْأُمُورُ الْغَائِبَةُ لَيْسَتْ كَالْأُمُورِ الْمُحَقَّقَةِ لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْوُقُوعِ كَمَا يَنْبَغِي فَيُكْرَهُ التَّمَنِّي لِذَلِكَ، وَلِمَا فِيهِ لَوْ وَقَعَ مِنَ احْتِمَالِ أَنْ يُخَالِفَ الْإِنْسَانُ مَا وَعَدَ مِنْ نَفْسِهِ ثُمَّ أُمِرَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ وُقُوعِ الْحَقِيقَةِ». ظاهر الحديث وأورد الحافظ ابن حجر إشكالا حول تعارض ظاهر هذا الحديث مَعَ الأدلة التي تدل على جَوَازِ تَمَنِّي الشَّهَادَةِ كحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « والذي نفسي بيده لولا أن رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل» متفق عليه. حُصُولَ الشَّهَادَةِ وجمع بينهما بقوله: «وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ حُصُولَ الشَّهَادَةِ أَخَصُّ مِنَ اللِّقَاء لَإمَكَان تَحْصِيلِ الشَّهَادَةِ مَعَ نُصْرَةِ الْإِسْلَامِ وَدَوَامِ عِزِّهِ بِكَسْرَةِ الْكُفَّارِ، وَاللِّقَاءُ قَدْ يُفْضِي إِلَى عَكْسِ ذَلِكَ فَنَهَى عَنْ تَمَنِّيهِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ تَمَنِّيَ الشَّهَادَةِ، أَوْ لَعَلَّ الْكَرَاهِيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ يَثِقُ بِقُوَّتِهِ وَيُعْجَبُ بِنَفْسِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ». وذكر المازري في شرح مسلم جوابا آخر فقال: «قيل: قد يكون المراد بهذا أنّ التمنّيَ ربّما أثار فتنة أو أدخل مضرة إذا تُسُهِّل في ذلك واستُخف به، ومن استخف بعدوّه فقد أضاع الحزم، فيكون المراد بهذا أي: لا تَستهينوا بالعدوّ فتتركوا الحذر والتحفّظ على أنفسكم وعلى المسلمين، أو يكون لا تتمنّوا لقاءه على حالة يشكّ في غلبته لكم أو يخاف منه أن يستبيح الحريم أو يُذهب الأنفس والأموال أو يدرك منه ضرر». فوائد الآية الكريمة ومن فوائد الآية الكريمة أيضا ما ذكره الشيخ ابن عثيمين: «أن الإنسان قد يظن أنه يستطيع الصبر على ترك المحظور أو القيام بالمأمور، فإذا ابتلي نكص، لقوله -تعالى-: {فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم}. ومنها الإشارة إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية»، وقوله صلى الله عليه وسلم : «من سمع بالدجال فلينأ عنه»، ويشبه هذا أن بعض الناس ينذرون النذر وهم يظنون أنهم يوفون به ثم لا يوفون به».
__________________
|
#12
|
||||
|
||||
رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (12) - حكـم النـذر د.وليد خالد الربيع قال -تعالى-: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(آل عمران:35)، قال الشيخ ابن سعدي: «ولما ذكر فضائل هذه البيوت الكريمة ذكر ما جرى لمريم والدة عيسى، وكيف لطف الله بها في تربيتها ونشأتها؛ فقال: { إذ قالت امرأة عمران} أي: والدة مريم لما حملت {رب إني نذرت لك ما في بطني محررًا}. أي: جعلت ما في بطني خالصا لوجهك، محررا لخدمتك وخدمة بيتك؛ فتقبل مني هذا العمل المبارك إنك أنت السميع العليم، أي تسمع دعائي، وتعلم نيتي وقصدي، هذا وهي في البطن قبل وضعها»، هذه الآية الكريمة تدل على حكم شرعي وهو(النذر) وفيه مسائل عديدة منها: المسألة الأولى: ما النذر؟ النذر في الاصطلاح: إلْزَامُ مُكَلَّفٍ مُخْتَارٍ نَفْسَهُ لِلَّهِ -تَعَالَى- بِالْقَوْلِ شَيْئًا غَيْرَ لَازِمٍ بِأَصْلِ الشَّرع. المسألة الثانية: ما حكم النذر؟ النذر مشروع كما دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ -تَعَالَى-: {يُوفُونَ بِالنَّذر} وَقَالَ: {وَلْيُوفُوا نُذورَهُمْ}؛ فمدح الناذرين مما يدل على مشروعيته. وَأَمَّا السُّنَّةُ فعن عَائِشَةُ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِه» (أخرجه البخاري)، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى صِحَّةِ النَّذْرِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلُزُومِ الْوَفَاءِ بِهِ . النذر مكروه ومع أن النذر مشروع، إلا أنه مكروه وَلَا يُسْتَحَبُّ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنْ النَّذرِ، وَأَنَّهُ قَالَ: «لا تنذروا». قال ابن قدامة: وَهَذَا نَهْيُ كَرَاهَةٍ، لَا نَهْيُ تَحْرِيمٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَرَامًا لَمَا مَدَحَ الْمُوفِينَ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَنْبَهُمْ فِي ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ أَشَدُّ مِنْ طَاعَتِهِمْ فِي وَفَائِهِ؛ وَلِأَنَّ النَّذْرَ لَوْ كَانَ مُسْتَحَبًّا، لَفَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَفَاضِلُ أَصْحَابِهِ. المَسْأَلَةٌ الثالثة: ما أنواع النذر؟ وما حكم كل نوع منها؟ ذكر العلماء للنذر أنواعا عديدة منها: الأول: نَذرُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَب. وَهُوَ الَّذِي يُخْرِجُهُ الناذر مَخْرَجَ الْيَمِينِ، لِيحَثِّ نفسه أو غيره عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ الْمَنْعِ مِنْهُ غَيْرَ قَاصِدٍ بِهِ لِلنَّذرِ وَلا الْقُرْبَةِ كأن يقول: إن فعلت كذا فعلي صوم أو حج أو صدقة؛ فَهَذَا حُكْمُهُ حُكْمُ الْيَمِينِ المنعقدة؛ فيخير بين ما التزمه أو كفارة اليمين، ودليل ذلك ما ثبت عن الصحابة الكرام؛ فعن عائشة أنها سئلت عن رجل جعل كل مال له في رتاج الكعبة في شيء كان بينه وبين عمة له، قالت عائشة: «يكفره ما يكفر اليمين». وقيل لابن عباس: ما تقول في امرأة جعلت بردها عليها هديا إن لبسته؟ فقال ابن عباس: في غضب أم في رضا؟ قالوا: في غضب قال: إن الله لا يتقرب إليه بالغضب، لتكفر عن يمينها، ومثله عن عمر وابن عمر وغيرهم، ووجه الدلالة أن الصحابة سموا نذر اللجاج والغضب (يمينا)؛ لما فيه من معنى اليمين، ثم أوجبوا فيه كفارة اليمين ولم يلزموا الحالف ما التزمه من الحج والصيام والصدقة؛ لأنه لم يلتزمه على وجه القربة، بل كان في الغضب بقصد الحض أو المنع. الثَّانِي : نَذرُ الطَاعَةٍ وَالتُبَرَّرُ وَهو أن يلتزم الناذر ما يعد طاعة لله كالصَّلَاة، وَالصِّيَام وَالْحَج وَالْعُمْرَة وَالصَّدَقَة وَالِاعْتِكَاف، سَوَاء نَذَرَهُ مُطْلَقًا بِأَنْ يَقُولَ ابْتِدَاءً: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ؛ فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَوْ عَلَّقَهُ بِصِفَةٍ مِثْلَ قَوْلِهِ: إنْ شَفَانِي اللَّهُ مِنْ عِلَّتِي، أَوْ شَفَى فُلَانًا، أَوْ سَلِمَ مَالِي الْغَائِبُ ونحوه؛ فَأجاب الله رجاءه؛ فَهَذَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِه لقَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ»، وَذَم الَّذِينَ يَنْذُرُونَ وَلَا يُوفُونَ. وذكر ابن قدامة والنووي الإجماع على ذلك. الثَّالِثُ: نَذرُ الْمَعْصِيَةِ كأَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنَّ أَشْرَبَ الْخَمْرَ، أَوْ أَقْتُلَ النَّفْسَ الْمُحَرَّمَةَ وَمَا أَشْبَهَهُ ، قال ابن قدامة : فَلا يَحِلُّ الْوَفَاءُ بِهِ إجْمَاعًا؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ[ قَالَ : «مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ»؛ وَلِأَنَّ مَعْصِيَةَ اللَّهِ -تَعَالَى- لَا تَحِلُّ فِي حَالٍ . وهل َيَجِبُ عَلَى النَّاذِرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؟ فيه مذهبان: المذهب الأول : يجب فيه كفارة يمين وَبِهِ قَال الحنفية والحنابلة ومن أدلتهم: (1) مَا رَوَتْ عَائِشَةُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «لَا نَذرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ». (2) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الَّتِي نَذَرَتْ ذَبْحَ ابْنِهَا : كَفِّرِي يَمِينَك . المذهب الثاني: لا كفارة فيه، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَرُوِايَة عَنْ أَحْمَد، ومن أدلتهم : (1) قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ الْعَبْد». (2) وَلِأَنَّهُ نَذْرٌ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ، فَلَمْ يُوجِبْ شَيْئًا ، كَالْيَمِينِ غَيْرِ الْمُنْعَقِدَةِ . ونوقش هذا الاستدلال بما قاله ابن قدامة: أما أحاديثهم فمعناها لا وفاء بالنذر في معصية الله، وهذا لا خلاف فيه، ولو لم يبين الكفارة في أحاديثهم؛ فقد بينها في أحاديثنا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عين فيه الكفارة، ونهى عن فعل المعصية.أهـ باختصار . وبهذا يظهر رجحان المذهب الأول لقوة أدلتهم. الرابع : نذر المباح وهو نذر ما لم يرد فيه ترغيب من جهة الشارع، كما لو قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَرْكَبَ دَابَّتِي، أَوْ أَسْكُنَ دَارِي، أَوْ أَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِي وَمَا أَشْبَهَهُ، لَمْ يَكُنْ هَذَا نَذْرَ طَاعَةٍ وَلَا مَعْصِيَةٍ؛ فهنا اختلف الفقهاء في انعقاد هذا النذر على مذهبين : المذهب الأول: ينعقد ويَتَخَيَّرُ النَّاذِرُ بَيْنَ فِعْلِهِ فَيَبَرُّ بِذَلِكَ، أو يكَفَّرَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، وهو مذهب الحنابلة وبعض المالكية، لِمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيَّ؛ فَقَالَتْ: إنِّي نَذَرْت أَنْ أَضْرِبَ عَلَى رَأْسِك بِالدُّفِّ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «أَوْفِ بِنَذرِك» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُد). المذهب الثاني: لَا يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ ولا يلزمه الوفاء به، وَبه قَالَ الحنفية والمَالِكية وَالشَّافِعِية، ومن أدلتهم قَوْلِ النَّبِيِّ: «لَا نَذرَ إلَّا فِيمَا اُبْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ» (أخرجه أبو داود قال في مجمع الزوائد: فيه عبدالله بن نافع المدني وهو ضعيف)، وبهذا يظهر رجحان المذهب الأول لقوة أدلتهم وسلامتها من المناقشة . الخامس: النَّذْرُ الْمُبْهَمُ أو المطلق وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَى نَذرٌ دون أن يبين ما التزمه من أعمال؛ فَهَذَا تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَما روى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «كَفَّارَةُ النَّذرِ إذَا لَمْ يُسَمِّهِ كَفَّارَةُ الْيَمِين» (أخرجه الترمذي).
__________________
|
#13
|
||||
|
||||
رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (13) - أحكام فقهية في دعاء زكريا ربه د.وليد خالد الربيع قال -تعالى-: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} (آل عمران:38)، أخرج الطبري عن ابن عباس قال: فلما رأى ذلك زكريا - يعني فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف - عند مريم قال: إنّ الذي يأتي بهذا مريمَ في غير زمانه، قادرٌ أن يرزقني ولدًا، قال الله -عز وجل-: {هنالك دعا زكريا ربه} قال: فذلك حين دعا. قال ابن كثير: لما رأى زكريا -عليه السلام- أن الله -تعالى- يرزق مريم -عليها السلام- فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، طمع حينئذ في الولد، وإن كان شيخا كبيرا قد ضعف ووهن منه العظم، واشتعل رأسه شيبا، وإن كانت امرأته مع ذلك كبيرة وعاقرا، لكنه مع هذا كله سأل ربه وناداه نداء خفيا، وقال: {رب هب لي من لدنك} أي: من عندك ذرية طيبة، أي: ولدا صالحا {إنك سميع الدعاء}. في الآية الكريمة مسائل عديدة منها: المسألة الأولى طلب الذرية الصالحة من مقاصد النكاح لا خلاف بين الفقهاء أن تحصيل النسل من مقاصد عقد النكاح؛ وذلك لما دلت عليه النصوص الكثيرة ومنها هذه الآية الكريمة، قال القرطبي: دلت هذه الآية على طلب الولد، وهي سنة المرسلين والصديقين، قال الله -تعالى-: {ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية}، وعن سعد بن أبي وقاص قال: أراد عثمان أن يتبتل، فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أجاز له ذلك لاختصينا. (متفق عليه). الحكمة في منعهم من الاختصاء قال ابن حجر: والحكمة في منعهم من الاختصاء، إرادة تكثير النسل ليستمر جهاد الكفار، وإلا لو أذن في ذلك لأوشك تواردهم عليه؛ فينقطع النسل؛ فيقل المسلمون بانقطاعه، ويكثر الكفار، فهو خلاف المقصود من البعثة المحمدية، وقال القرطبي: وفي هذا رد على بعض جهال المتصوفة؛ حيث قال: الذي يطلب الولد أحمق، وما عرف أنه هو الغبي الأخرق؛ قال الله -تعالى- مخبرا عن إبراهيم الخليل: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين}، نقل القرطبي عن مكي أنه قال: وقيل معناه سؤاله أن يكون من ذريته في آخر الزمان من يقوم بالحق; فأجيبت الدعوة في محمد صلى الله عليه وسلم. جواز الدعاء بالولد وقال- تعالى-: {والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين}، قال القرطبي: وفيه جواز الدعاء بالولد، قال البخاري:» باب (طلب الولد) وساق بإسناده عن جابر قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، فلما قفلنا تعجلت على بعير قطوف، فلحقني راكب من خلفي فالتفت؛ فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما يعجلك؟» قلت: إني حديث عهد بعرس قال: «فبكرا تزوجت أم ثيبا؟» قلت: بل ثيبا قال: «فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك»، قال: فلما قدمنا ذهبنا لندخل فقال: «أمهلوا حتى تدخلوا ليلا أي عشاء لكي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة»، قال البخاري: وحدثني الثقة أنه قال في هذا الحديث الكيس الكيس يا جابر، يعني الولد. باب طلب الولد قال ابن حجر: قوله (باب طلب الولد) أي: بالاستكثار من جماع الزوجة، أو المراد الحث على قصد الاستيلاد بالجماع، لا الاقتصار على مجرد اللذة، وليس ذلك في حديث الباب صريحا، لكن البخاري أشار إلى تفسير الكيس، ونقل الحافظ عن عياض أنه قال: فسر البخاري وغيره الكيس بطلب الولد والنسل، وهو صحيح، قال صاحب (الأفعال): كاس الرجل في عمله حذق، وكاس ولد ولدا كيسا، وقال الكسائي: كاس الرجل ولد له ولد كيس اهـ. (فتح الباري9/342)، وترجم البخاري أيضا (باب الدعاء بكثرة الولد مع البركة) وساق حديث أنس بن مالك، قال: قالت أم سليم: يا رسول الله، خادمك أنس ادع الله له، فقال: «اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته». النهي عن زواج العاقر ونهى عن زواج العاقر، وأمر بزواج الودود الولود، كما أخرج أبو داود عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي أَصَبْتُ امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ وَجَمَالٍ، وَإِنَّهَا لا تَلِدُ أَفَأَتَزَوَّجُهَا؟ قَالَ: «لا»، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ؛ فَنَهَاهُ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ؛ فَقَالَ: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ؛ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الأُمَمَ». (صححه الألباني)، وهذا النهي للكراهة وليس للتحريم، قال المناوي: تزوج غير الولود مكروه تنزيهاً، والأمر للاستحباب قال ابن قدامة: ويستحب أن تكون من نساء يعرفن بكثرة الولادة. والأخبار في هذا المعنى كثيرة تحث على طلب الولد وتندب إليه: لما يرجوه الإنسان من نفعه في حياته وبعد موته، كما قال صلى الله عليه وسلم:» إذا مات أحدكم انقطع عمله إلا من ثلاث فذكر: أو ولد صالح يدعو له « قال القرطبي:» ولو لم يكن إلا هذا الحديث لكان فيه كفاية. المسألة الثانية سؤال الله -تعالى- الهداية للزوجة والولد لا تكمل نعمة الأزواج والأولاد إلا باهتدائهم واستقامتهم، وإلا كانوا عائقا في طريق الهداية؛ ولهذا فعلى المكلفين سؤال الله- تعالى- الهداية لأسرته، قال القرطبي: فالواجب على الإنسان أن يتضرع إلى خالقه في هداية ولده وزوجه بالتوفيق لهما والهداية والصلاح والعفاف والرعاية، وأن يكونا معينين له على دينه ودنياه حتى تعظم منفعته بهما في أولاه وأخراه، ألا ترى قول زكريا: {واجعله رب رضيا} وقال: {ذرية طيبة}». سؤال الذرية الطيبة قال الشيخ ابن عثيمين مبينا فوائد الآية: لا ينبغي للإنسان أن يسأل مطلق الذرية؛ لأن الذرية قد يكونون نكدا وفتنة، وإنما يسأل الذرية الطيبة. أسباب الذرية الطيبة وأنه ينبغي للإنسان أن يبذل الأسباب التي تكون بها ذريته طيبة، ومنها الدعاء، وهو من أكبر الأسباب، وقد ذكر الله -تعالى- عن الرجل يبلغ أشده أنه يقول: {وأصلح لي في ذريتي}(الحجر:36)، ولاشك أن صلاح الذرية أمر مطلوب؛ لأن الذرية الصالحة تنفعك في الحياة وفي الممات؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» أخرجه الترمذي والنسائي.
__________________
|
#14
|
||||
|
||||
رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية
<b> </b>
__________________
|
#15
|
||||
|
||||
رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (15) الأحكام الفقهية في كفالة مريم -عليها السلام د.وليد خالد الربيع قال -تعالى-:{ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (سورة آل عمران: 44)، قال الشيخ ابن سعدي: «ولما أخبر الله نبيه بما أخبر به عن مريم، وكيف تنقلت بها الأحوال التي قيضها الله لها، وكان هذا من الأمور الغيبية التي لا تعلم إلا بالوحي. قال: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} أي: عندهم {ِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} لما ذهبت بها أمها إلى من لهم الأمر على بيت المقدس، فتشاحوا وتخاصموا أيهم يكفل مريم؟ واقترعوا عليها بأن ألقوا أقلامهم في النهر، فأيهم لم يجر قلمه مع الماء فله كفالتها، فوقع ذلك لزكريا نبيهم وأفضلهم، فلما أَخْبَرتَهُم يا محمد بهذه الأخبار التي لا علم لك ولا لقومك بها دل على أنك صادق, وأنك رسول الله حقا؛ فوجب عليهم الانقياد لك وامتثال أوامرك». من الأحكام الفقهية التي تؤخذ من الآية الكريمة مشروعية القرعة لتمييز الحقوق إذا تساوت جهات الاستحقاق كما سيأتي: المسألة الأولى: تعريف القرعة القرعة في اللغة بضم القاف: السهم والنصيب، وهي اسم مصدر بمعنى الاقتراع, وهو الاختيار بإلقاء السهام ونحو ذلك، ولا يبعد التعريف الاصطلاحي عن التعريف اللغوي؛ فهي استهام يتعين به نصيب الإنسان، قال البخاري في صحيحه في كتاب الأذان: (باب الاستهام في الأذان) قال ابن حجر نقلا عن الخطابي وغيره: «قيل له: الاستهام لأنهم كانوا يكتبون أسماءهم على سهام إذا اختلفوا في الشيء، فمن خرج سهمه غلب». المسألة الثانية: مشروعية القرعة دلت النصوص الشرعية من القرآن الكريم والسنة المطهرة والآثار على أن القرعة مشروعة، فمن الكتاب الكريم قوله -تعالى-: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}، قال القرطبي: «استدل بعض علمائنا بهذه الآية على إثبات القرعة، وهي أصل في شرعنا لكل من أراد العدل في القسمة، وهي سنة عند جمهور الفقهاء في المستويين في الحجة ليعدل بينهم وتطمئن قلوبهم وترتفع الظنة عمن يتولى قسمتهم، ولا يفضل أحد منهم على صاحبه إذا كان المقسوم من جنس واحد اتباعا للكتاب والسنة»، وقال -سبحانه-:{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} (سورة الصافات:139-141). قال ابن كثير: «{فساهم} أي: قارع؛ {فكان من المدحضين} أي: المغلوبين، وذلك أن السفينة تلاعبت بها الأمواج من كل جانب، وأشرفوا على الغرق، فساهموا على من تقع عليه القرعة يلقى في البحر لتخف بهم السفينة؛ فوقعت القرعة على نبي الله يونس -عليه الصلاة والسلام- ثلاث مرات، وهم يضنون به أن يلقى من بينهم، فتجرد من ثيابه ليلقي نفسه وهم يأبون عليه ذلك»، قال ابن القيم: «فهذان نبيان كريمان استعملا القرعة، وقد احتج الأئمة الأربعة بشرع من قبلنا إن صح ذلك عنهم». الاستهام على الصف الأول ومن السنة المطهرة ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا» . قال النووي: «الاستهام: الِاقْتِرَاعُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَوْ عَلِمُوا فَضِيلَةَ الْأَذَانِ وَقَدْرَهَا وَعَظِيمَ جَزَائِهِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا طَرِيقًا يُحَصِّلُونَهُ بِهِ لِضِيقِ الْوَقْتِ عَنْ أَذَانٍ بَعْدَ أَذَانٍ أَوْ لِكَوْنِهِ لَا يُؤَذِّنُ لِلْمَسْجِدِ إِلَّا وَاحِدٌ لَاقْتَرَعُوا فِي تَحْصِيلِهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ مِنَ الْفَضِيلَةِ نَحْوَ مَا سَبَقَ وَجَاءُوا إِلَيْهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَضَاقَ عَنْهُمْ ثُمَّ لَمْ يَسْمَحْ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ بِهِ لَاقْتَرَعُوا عَلَيْهِ. وَفِيهِ إِثْبَاتُ الْقُرْعَةِ فِي الْحُقُوقِ الَّتِي يُزْدَحَمُ عَلَيْهَا وَيُتَنَازَعُ فِيهَا». القرعة بين النساء وفي الصحيحين عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِه ِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ»، قال النووي: «هَذَا دَلِيلٌ لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ فِي الْعَمَلِ بِالْقُرْعَةِ فِي الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ وَفِي الْعِتْقِ وَالْوَصَايَا وَالْقِسْمَةِ ونحو ذلك، وَقَدْ جَاءَتْ فِيهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحِ مَشْهُورَةٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: «عَمِلَ بِهَا ثَلَاثَةٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ- أَجْمَعِينَ يُونُسُ وَزَكَرِيَّا وَمُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم -». قال ابن الْمُنْذِرِ: «اسْتِعْمَالُهَ ا كَالْإِجْمَاعِ» ، قَالَ: «وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ رَدَّهَا». السهم في اليمين وأخرج البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَرَضَ عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ فَأَسْرَعُوا فَأَمَرَ أَنْ يُسْهَمَ بَيْنَهُمْ فِي الْيَمِينِ أَيُّهُمْ يَحْلِفُ، قال ابن حجر نقلا عن الخطابي وغيره: «الْمَعْنَى إِذَا تَوَجَّهَتِ الْيَمِينُ عَلَى اثْنَيْنِ وَأَرَادَا الْحَلِفَ سَوَاءٌ كَانَا كَارِهَيْنِ لِذَلِكَ بِقَلْبِهِمَا وَهُوَ مَعْنَى الْإِكْرَاهِ، أَوْ مُخْتَارَيْنِ لِذَلِكَ بِقَلْبِهِمَا وَهُوَ مَعْنَى الِاسْتِحْبَابِ , وَتَنَازَعَا أَيُّهُمَا يَبْدَأُ؟ فَلَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِالتَّشَهِّي بَلْ بِالْقُرْعَةِ». قال البخاري: «ويذكر أن قوما اختلفوا في الأذان فأقرع بينهم سعد». قال ابن حجر: «خْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالْبَيْهَقِيّ ُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ كِلَاهُمَا عَنْ هُشَيْمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شُبْرُمَةَ قَالَ: تَشَاحَّ النَّاسُ فِي الْأَذَانِ بِالْقَادِسِيَّ ةِ؛ فَاخْتَصَمُوا إِلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ. وَهَذَا مُنْقَطِعٌ وَقَدْ وَصَلَهُ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ فِي الْفُتُوحِ وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شُبْرُمَةَ عَنْ شَقِيقٍ وَهُوَ أَبُو وَائِلٍ, قَالَ: افْتَتَحْنَا الْقَادِسِيَّةَ صَدْرَ النَّهَارِ؛ فَتَرَاجَعْنَا وَقَدْ أُصِيبَ الْمُؤَذِّنُ, فَذَكَرَهُ وَزَادَ فَخَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لِرَجُلٍ مِنْهُمْ فَأَذَّنَ». المسألة الثالثة: شرط صحة القرعة يشترط لاستعمال القرعة أن تكون الحقوق والمصالح متساوية الأطراف، قال الشافعي: «فلا تكون القرعة إلا بين قوم مستويين في الحجة»، وقال القرافي: «اعلم أنه متى تعينت المصلحة أو الحق في جهة فلا يجوز الإقراع بينه وبين غيره؛ لأن في القرعة ضياع ذلك الحق المتعين أو المصلحة المعينة، ومتى تساوت الحقوق أو المصالح؛ فهذا موضع القرعة عند التنازع». المسألة الرابعة: مواضع الحكم بالقرعة ذكر الفقهاء أمثلة لمواضع استعمال القرعة, فمن ذلك: «تَمْيِيزِ الْمُسْتَحِقِّ إذَا ثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ ابْتِدَاءً لِمُبْهَمٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ عِنْدَ تُسَاوِي الْمُسْتَحَقِّي نَ, كَاجْتِمَاعِ الْأَوْلِيَاءِ فِي النِّكَاحِ وَالْوَرَثَةِ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ، وَغُسْلِ الْمَيِّتِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَفِي الْحَاضِنَاتِ إذَا كُنَّ فِي دَرَجَةٍ واحدة، وَكَذَا فِي ابْتِدَاءِ الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ لِاسْتِوَائِهِم َا فِي الْحَقِّ؛ فَوَجَبَتْ الْقُرْعَةُ؛ لِأَنَّهَا مُرَجَّحَةٌ. وأيضا فِي حُقُوقِ الِاخْتِصَاصَات ِ: كَالتَّزَاحُمِ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ، وَفِي إحْيَاءِ الْمَوَاتِ، وَنِيلِ الْمَعْدِنِ وَمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ الَّتِي يُبَاعُ فِيهَا، وَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْأَبْضَاعِ وعقد النكاح، وَلَا فِي تَعْيِينِ الْوَاجِبِ الْمُبْهَمِ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَنَحْوِهَا ابْتِدَاءً، وَلَا فِي لِحَاقِ النَّسَبِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ. وَالْقُرْعَةُ تَدْخُلُ فِي تَمْيِيزِ الْأَمْلَاكِ, كالإقراع بين الشركاء عند تعديل السهام في القسمة, كما جاء في حديث أم سلمة قالت: «جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مواريث بينهما قد درست ليس بينهما بينة...» الحديث وفي آخره -قال صلى الله عليه وسلم -: «إذ قلتما فاذهبا فاقتسما ثم توخيا الحق ثم استهما، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه».
__________________
|
#16
|
||||
|
||||
رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (16) الأحكام الفقهية من ميثاق الله لبني إسرائيل د.وليد خالد الربيع قال الله -تعالى-:{ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوه ُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّ كُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} (سورة المائدة:12). قال ابن كثير: «لما أمر الله -تعالى- عباده المؤمنين بالوفاء بعهده وميثاقه، الذي أخذه عليهم على لسان عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأمرهم بالقيام بالحق والشهادة بالعدل، وذكرهم نعمه عليهم الظاهرة والباطنة، فيما هداهم له من الحق والهدى، شرع يبين لهم كيف أخذ العهود والمواثيق على من كان قبلهم من أهل الكتابين: اليهود والنصارى؛ فلما نقضوا عهوده ومواثيقه أعقبهم ذلك لعنا منه لهم، وطردا عن بابه وجنابه، وحجابا لقلوبهم عن الوصول إلى الهدى ودين الحق، وهو العلم النافع والعمل الصالح». وقد دلت هذه الآية الكريمة على مسائل فقهية منها: - المسألة الأولى: مشروعية وجود ممثلين للناس يأخذون عليهم العهود ويبلغونهم التكاليف: قال -تعالى-: {وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا}، قال ابن كثير: «يعني: عرفاء على قبائلهم بالمبايعة والسمع، والطاعة لله ولرسوله ولكتابه، وقد ذكر ابن عباس ومحمد بن إسحاق وغير واحد أن هذا كان لما توجه موسى عليه السلام، لقتال الجبابرة، فأمر بأن يقيم النقباء من كل سبط نقيبا»، قال الشيخ ابن عثيمين: «ينبغي للناس أن يتخذوا نقباء يرجعون إليهم في أمورهم، عند النزاع يكونون مصلحين، وعند الإشكال يكونون موضحين وما أشبه ذلك». معنى النقيب وقد اختلف العلماء في معنى النقيب، فذهب بعضهم إلى أنه بمعنى الأمين، وقال بعضهم: إنه بمعنى الكفيل، وذهب آخرون إلى أنه بمعنى الشاهد، قال الراغب: «النَّقِيبُ: الباحثُ عن القوم وعن أحوالهم، وجمْعه: نُقَبَاءُ». قال الطبري: «يعني: وبعثنا منهم اثني عشر كفيلا كفلوا عليهم بالوفاء لله بما واثقوه عليه من العهود فيما أمرهم به وفيما نهاهم عنه. و«النقيب» في كلام العرب، كالعَرِيف على القوم، غير أنه فوق «العريف». وكان بعض أهل العلم بالعربية يقول: هو الأمين الضامن على القوم. كما قال الربيع: «النقباء» الأمناء. وذهب القرطبي -بعد ذكر الاختلاف- إلى أن النقيب كبير القوم، القائم بأمورهم الذي ينقب عنها وعن مصالحهم فيها. والنقّاب: الرجل العظيم الذي هو في الناس على هذه الطريقة, ومنه قيل في عمر -رضي الله عنه-: إنه كان لنقابا. فالنقباء الضمّان، واحدهم نقيب، وهو شاهد القوم وضمينهم، وإنما قيل: نقيب؛ لأنه يعلم دخيلة أمر القوم، ويعرف مناقبهم وهو الطريق إلى معرفة أمورهم. والنقباء في الآية كما قال قتادة - رحمه الله - وغيره: هؤلاء النقباء قوم كبار من كل سبط، تكفل كل واحد بسبطه بأن يؤمنوا ويتقوا الله؛ ونحو هذا كان النقباء ليلة العقبة؛ بايع فيها سبعون رجلا وامرأتان. فاختار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من السبعين اثني عشر رجلا، وسماهم النقباء اقتداء بموسى - صلى الله عليه وسلم -». فقد أخرج الإمام أحمد وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بايع الأنصار في العقبة قال: «أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم بما فيهم»، وأخرج البخاري أن وفد هوازن جاؤوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مسلمين، وطلبوا منه أن يرجع أموالهم وسبيهم، فاستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس في ذلك فأشاروا بالرضا، فلم يكتف بذلك وقال: «إنا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم». القائم بأمر طائفة من الناس قال ابن حجر مبينا معنى العريف: «وهو القائم بأمر طائفة من الناس، مِنْ عَرَفْتُ بِالضَّمِّ وَبِالْفَتْحِ عَلَى الْقَوْمِ أَعْرُفُ بِالضَّمِّ فَأَنَا عَارِفٌ وَعَرِيفٌ أَيْ: وُلِّيتُ أَمْرَ سِيَاسَتِهِمْ وَحِفْظَ أُمُورِهِمْ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ يَتَعَرَّفُ أُمُورَهُمْ حَتَّى يُعَرِّفَ بِهَا مَنْ فَوْقَهُ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ». قال ابن بَطَّالٍ: «فِي الْحَدِيثِ مَشْرُوعِيَّةُ إِقَامَةِ الْعُرَفَاءِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُبَاشِرَ جَمِيعَ الْأُمُورِ بِنَفْسِهِ فَيَحْتَاجَ إِلَى إِقَامَةِ مَنْ يُعَاوِنُهُ لِيَكْفِيَهُ مَا يُقِيمُهُ فِيهِ»، قَالَ: «وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ إِذَا تَوَجَّهَ إِلَى الْجَمِيعِ يَقَعُ التَّوَكُّلُ فِيهِ مِنْ بَعْضِهِمْ فَرُبَّمَا وَقَعَ التَّفْرِيطُ فَإِذَا أَقَامَ عَلَى كُلِّ قَوْمٍ عَرِيفًا لَمْ يَسَعْ كُلَّ أَحَدٍ الا الْقيام بِمَا أَمر بِهِ»، وقال ابن حجر مبينا حكمة مشروعية نصب العرفاء أن: «الْمَصْلَحَةَ تَقْتَضِيهِ لِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأَمِيرُ مِنَ الْمُعَاوَنَةِ عَلَى مَا يَتَعَاطَاهُ بِنَفْسِهِ، وَيَكْفِي فِي الِاسْتِدْلَالِ لِذَلِكَ وُجُودُهُمْ فِي الْعَهْدِ النَّبَوِيِّ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْبَاب. هل ذم النبي - صلى الله عليه وسلم - العرفاء؟ فإن قيل فقد ورد الذم للعرفاء وذلك فيما رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ويل للأمراء، ويل للعرفاء، ويل للأمناء، ليتمنين أقوام يوم القيامة أن نواصيهم معلقة بالثريا، يتجلجلون بين السماء والأرض، وأنهم لم يلوا عملا». أخرجه الإمام أحمد، وروي عنه أنه قال: «إن العرافة حق، ولابد للناس من عرفاء، ولكن العرفاء في النار». أخرجه أبو داود. فالجواب: بأن الحديثين ضعيفان كما قرر ذلك الشيخ الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، وعلى فرض ثبوتهما فالمقصود بهما وأمثالهما الترهيب من خطورة الولاية لمن لم يكن أهلا لها أو قصر في حقوقها، كما قال القاضي البيضاوي: «والمعنى: أن هذه الأمور -وإن كانت مهمة- لا ينتظم صلاح الناس، ولا يتم معاشهم دونها؛ ولذلك قال في الحديث: «إن العرافة حق»؛ أي أمر ينبغي أن يكون لكنها خطر، والقيام بحقوقها عسير، فلا ينبغي للعاقل أن يقتحم عليها، ويميل بطبعه إليها، فإن من زلت قدمه فيها عن متن الصواب قد يندفع إلى فتن تودي به إلى عذاب يؤثر عليه أن تكون نواصيه معلقة بالثريا، ويتمنى أن يكون حاله كذلك ولم يل ما تولاه من عمله الذي أفضى به إلى هذا العذاب، وهو المراد بقوله في الحديث الآخر: «ولكن العرفاء في النار» لا كل عريف، فإن من قام بها حق القيام، وتجنب فيها عن الظلم والحيف استحق الثواب، وصار ذا حظ القيام مما وعد به ذو سلطان عادل، ولكن لما كان الغالب عليهم خلاف ذلك، أجرى الغالب مجرى الكل وأتى بصيغة العموم». التحذير من التعرض للرئاسة وقال البغوي: «قوله: «العرفاء في النار» معناه: التحذير من التعرض للرئاسة، والتأمر على الناس، لما فيه من الفتنة، وأنه إذا لم يقم بحقه، ولم يؤد الأمانة فيها أثم، واستحق العقوبة والنار». وقال ابن حجر مبينا وجه الجمع بين الأدلة المتعارضة في ظاهرها: «الْخَبَرَ الْوَارِدَ فِي ذَمِّ الْعُرَفَاءِ لَا يَمْنَع إِقَامَةَ الْعُرَفَاءِ؛ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ إِنْ ثَبَتَ عَلَى أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْعُرَفَاءِ الِاسْتِطَالَةُ وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَتَرْكُ الْإِنْصَافِ الْمُفْضِي إِلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَعْصِيَةِ».
__________________
|
#17
|
||||
|
||||
رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية
<b> </b>
__________________
|
#18
|
||||
|
||||
رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية
</b>
__________________
|
#19
|
||||
|
||||
رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (19) الأحكام الفقهية من قصة ابني آدم -عليه السلام د.وليد خالد الربيع فِي زَمَنِ الْفِتْنَةِ،لاَيَلْزَمُ الإنسان الدِّفَاع عَنْ نَفْسِهِ،لِقَوْلِهِ: «فَإِنْ خَشِيتَ أَنْ يَبْهَرَكَ شُعَاعُ السَّيْفِ،فَأَلْقِ ثَوْبَكَ عَلَى وَجْهِكَ» ذكرت سورة المائدة قصة ابني آدم -عليه السلام-، وذكر الله -تعالى- الحوار الذي جرى بينهما؛ حيث قال أحدهما لأخيه: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (سورة المائدة:28) قال ابن كثير: «يقول له أخوه (الرجل الصالح)، الذي تقبل الله قربانه لتقواه حين تواعده أخوه بالقتل على غير ما ذنب منه إليه: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} أي: لا أقابلك على صنيعك الفاسد بمثله، فأكون أنا وأنت سواء في الخطيئة، {إني أخاف الله} أي: من أن أصنع كما تريد أن تصنع، بل أصبر وأحتسب». حكم من أريد على نفسه ومن هنا اختلف الفقهاء في حكم من أريد على نفسه: هل له أن يستسلم للقتل؟ أم يدفع عن نفسه؟ والذي يظهر أن سبب اختلافهم أمران: - الأول: دلالة ظاهر الآية على جواز الاستسلام للقتل. - والثاني: التعارض الظاهري بين الأحاديث التي تجيز الدفاع عن النفس والأحاديث التي تأمر بالصبر. السبب الأول أما السبب الأول فقد قال الطبري: «وقد اخْتُلف في السبب الذي من أجله قال المقتول ذلك لأخيه، ولم يمانعه ما فَعَل به»، فنُقل عن بعض أهل العلم أن الله -تعالى- فرضَ عليهم ألا يمتنع من أريد قتله ممن أراد ذلك منه. قال مجاهد: كان كُتب عليهم، إذا أراد الرجل أن يقتل رجلا تركه ولا يمتنع منه. وقال بعضهم: قال ذلك، إعلامًا منه لأخيه القاتل أنه لا يستحل قتلَه ولا بسطَ يده إليه بما لم يأذن الله -جل وعز- له به. ونقل عن عبد الله بن عمرو أنه قال: «وايم الله، إن كان المقتول لأشدَّ الرجلين، ولكن منعه التحرُّج أن يبسُط إلى أخيه»، وعن ابن عباس في تفسير الآية: «ما أنا بمنتصر، ولأمسكنَّ يدي عنك». قال الطبري مرجحا: «وأولى القولين في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله -عز ذكره- قد كان حرَّم عليهم قتل نفسٍ بغير نفس ظلمًا، وأن المقتول قال لأخيه: «ما أنا بباسط يدي إليك إن بسطت إليّ يدك»؛ لأنه كان حرامًا عليه من قتل أخيه مثلُ الذي كان حرامًا على أخيه القاتل من قتله. فأما الامتناع من قتله حين أراد قتله، فلا دلالة على أن القاتلَ حين أراد قتله وعزم عليه، كان المقتول عالمًا بما هو عليه أنه عازمٌ ومحاولٌ قتلَه، فترك دفعَه عن نفسه. بل قد ذكر جماعة من أهل العلم أنه قتله غِيلةً، اغتاله وهو نائم، فشدَخ رأسه بصخرةٍ. فإذْ كان ذلك ممكنًا، ولم يكن في الآيةِ دلالة على أنه كان مأمورًا بترك منع أخيه من قتله، لا يكون جائزًا ادعاءُ ما ليس في الآية، إلا ببرهان يجب تسليمُه». السبب الثاني أما السبب الثاني: فقد وردت أحاديث ظاهرها إباحة ترك الدفاع عن النفس والاستسلام للقتل مثل حديث ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ إذَا جَاءَ مَنْ يُرِيدُ قَتْلَهُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ ابْنَيْ آدَمَ؛ الْقَاتِلُ فِي النَّارِ، وَالْمَقْتُولُ فِي الْجَنَّةِ»رَوَ اهُ أَحْمَدُ. عن بسر بن سعيد أن سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان: أشهد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنها ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي». قال: أفرأيت إن دخل علي بيتي فبسط يده إلي ليقتلني قال: «كن كابن آدم».أخرجه أحمد وأبو داود. وعن أبي ذر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا أبا ذر أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضا، يعني حتى تغرق حجارة الزيت من الدماء، كيف تصنع؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: «اقعد في بيتك وأغلق عليك بابك «قال: فإن لم أترك؟ قال: «فأت من أنت منهم، فكن فيهم قال: فآخذ سلاحي؟ قال: «إذا تشاركهم فيما هم فيه، ولكن إن خشيت أن يروعك شعاع السيف، فألق طرف ردائك على وجهك حتى يبوء بإثمه وإثمك».أخرجه أحمد. جواز الدفاع عن النفس ووردت أحاديث تجيز الدفاع عن النفس مثل حديث سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ ُ وَصَحَّحَهُ. وعن قهيد بن مطرف الغفاري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سأله سائل إن عدا علي عاد فأمره أن ينهاه ثلاث مرار، قال فإن أبى فأمره بقتاله قال فكيف بنا؟ قال: «إن قتلك فأنت في الجنة، وإن قتلته فهو في النار» أخرجه أحمد. ولأجل هذا التعارض الظاهري اختلف الفقهاء على مذاهب أشهرها ثلاثة: المذهب الأول: وُجُوبِ دَفْعِ الصَّائِلِ عَلَى النَّفْسِ مطلقا. وإليه ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الأْصَحُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ، وَاسْتَدَلَّوا بما يأتي: 1- بِقَوْلِهِ -تَعَالَى-: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}؛ فَالاِسْتِسْلاَ مُ لِلصَّائِلِ إِلْقَاءٌ بِالنَّفْسِ لِلتَّهْلُكَةِ، لِذَا كَانَ الدِّفَاعُ عَنْهَا وَاجِبًا. 2- ولِقَوْله -صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيد». 3- وَلأِنَّهُ كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمَصُولِ عَلَيْهِ قَتْلُ نَفْسِهِ، يَحْرُمُ عَلَيْهِ إِبَاحَةُ قَتْلِهَا. 4- وَلأِنَّهُ قَدَرَ عَلَى إِحْيَاءِ نَفْسِهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ فِعْلُ ذَلِكَ، كَالْمُضْطَرِّ لأِكْلِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا. المذهب الثاني: التفريق بين الصائل المسلم وغير المسلم. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الصَّائِلُ كَافِرًا، وَالْمَصُولُ عَلَيْهِ مُسْلِمًا وَجَبَ الدِّفَاعُ سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْكَافِرُ مَعْصُومًا أَوْ غَيْرَ مَعْصُومٍ؛ إِذْ غَيْرُ الْمَعْصُومِ لاَ حُرْمَةَ لَهُ، وَالْمَعْصُومُ بَطَلَتْ حُرْمَتُهُ بِصِيَالِهِ، وَلأِنَّ الاِسْتِسْلاَمَ لِلْكَافِرِ ذُلٌّ فِي الدِّينِ. أَمَّا إِنْ كَانَ الصَّائِلُ مُسْلِمًا غَيْرَ مَهْدُورِ الدَّمِ فَلاَ يَجِبُ دَفْعُهُ فِي الأْظْهَرِ، بَلْ يَجُوزُ الاِسْتِسْلاَمُ لَهُ، لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «كُنْ كَابْنِ آدَمَ». وَلأِنَّ عُثْمَان تَرَكَ الْقِتَالَ مَعَ إِمْكَانِهِ، وَمَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ نَفْسَهُ، وَمَنَعَ حُرَّاسَهُ مِنَ الدِّفَاعِ عَنْهُ - وَكَانُوا أَرْبَعَمِائَةٍ يَوْمَ الدَّارِ - وَقَالَ: مَنْ أَلْقَى سِلاَحَهُ فَهُوَ حُرٌّ، وَاشْتُهِرَ ذَلِكَ فِي الصَّحَابَة فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ. المذهب الثالث: وُجُوبِ دَفْعِ الصَّائِلِ عَنِ النَّفْسِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْفِتْنَةِ، وإليه ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، لقوله -تعالى-:{وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، وَلأِنَّهُ كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَتْلُ نَفْسِهِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ إِبَاحَةُ قَتْلِهَا. أَمَّا فِي زَمَنِ الْفِتْنَةِ، فَلاَ يَلْزَمُهُ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِهِ، لِقَوْلِهِ: «فَإِنْ خَشِيتَ أَنْ يَبْهَرَكَ شُعَاعُ السَّيْفِ، فَأَلْقِ ثَوْبَكَ عَلَى وَجْهِكَ». وَلأِنَّ عُثْمَانَ تَرَكَ الْقِتَالَ عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَمَنَعَ غَيْرَهُ قِتَالَهُمْ، وَلَوْ لَمْ يَجُزْ لأَنْكَرَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. وأختم بما نقله ابن حجرعَنِ الشَّافِعِيِّ أنه قَالَ: «مَنْ أُرِيدَ مَالُهُ أَوْ نَفْسُهُ أَوْ حَرِيمُهُ فَلَهُ الِاخْتِيَارُ أَنْ يُكَلِّمَهُ أَوْ يَسْتَغِيثَ فَإِنْ مُنِعَ أَوِ امْتَنَعَ لَمْ يَكُنْ لَهُ قِتَالُهُ، وَإِلَّا فَلَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَوْ أَتَى عَلَى نَفْسِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ عَقْلٌ وَلَا دِيَةٌ وَلَا كَفَّارَةٌ، لَكِن لَيْسَ لَهُ عمد قَتله». وقال البغوي: «ذَهَبَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أُرِيدَ مَالُهُ، أَوْ دَمُهُ، أَوْ أَهْلُهُ فَلَهُ دَفْعُ الْقَاصِدِ وَمُقَاتَلَتُهُ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَدْفَعَ بِالأَحْسَنِ فَالأَحْسَنِ، فَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعْ إِلا بِالْمُقَاتَلَة ِ، فَقَاتَلَهُ، فَأَتَى الْقَتْلُ عَلَى نَفْسِهِ، فَدَمُهُ هَدَرٌ، وَلا شَيْءَ عَلَى الدَّافِعِ». شرع القصاص حفظا للدماء فالذي يظهر أن الإنسان يدافع عن نفسه في كل حال، لأن نفسه أمانة عنده؛ عليه أن يحافظ عليها من الضرر والهلاك، ولا يعرضها للفتن والضلال، والإسلام لا يرضى لأتباعه الذل وإسلام النفس بغير مدافعة، فإن الله -تعالى- شرع القصاص وحد الحرابة وقتال البغاة؛ حفظا لدماء الناس، فكيف يأذن بأن يستسلم المسلم لقاتله بغير حق؟! والأحاديث المذكورة في هذا إما غير ثابتة أو محمولة على أحوال مخصوصة تقدر بقدرها كما ذكر ذلك الفقهاء، والله أعلم.
__________________
|
#20
|
||||
|
||||
رد: الأحكام الفقهية من القصص القرآنية
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (20) الأحكام الفقهية من قصة ابني آدم -عليه السلام د.وليد خالد الربيع لا نزال مع قصة ابني آدم -عليه السلام-، فقد أخبرنا الله -تعالى- أن المجني عليه قال للآخر:{إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ}. قال ابن سعدي: «{إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ} أي: ترجع {بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} أي: إنه إذا دار الأمر بين أن أكون قاتلا أو تقتلني فإني أوثر أن تقتلني، فتبوء بالوزرين {فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ}، دل هذا على أن القتل من كبائر الذنوب، وأنه موجب لدخول النار»، قال ابن عاشور: «وتَبُوءَ تَرْجِعُ، وَهُوَ رُجُوعٌ مَجَازِيٌّ، أَيْ: تَكْتَسِبُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِكَ، فَكَأَنَّهُ خَرَجَ يَسْعَى لِنَفْسِهِ فَبَاءَ بِإِثْمَيْنِ». الجواب عن إشكال وهنا يرد إشكال، كيف نوفق بين ظاهر الآية، الذي يدل على أن القاتل يحمل إثم المقتول، وما جاء من أدلة شرعية تقرر أن كل إنسان مسؤول عن عمله وسعيه فقط كما قال -تعالى-:{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (الطور:21)، وقال -سبحانه-: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (فاطر:19)، وقال -تعالى-:{وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (النجم:39)، وفي الحديث القُدُسيّ: «يَا عِبَادِي! إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَن إلَّا نَفْسَهُ» أخرجه مسلم. المراد بالإثمين المذكورين والجواب هو ببيان المراد بالإثمين المذكورين في الآية: فجمهور المفسرين على أن المراد: «إثْمُ قَتْلِي، وَإِثْمُك الَّذِي كَانَ مِنْك قَبْلَ قَتْلِي»، وقد رواه الطبري بسنده عن ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُود وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ. وحكى الطبري قولا آخر فقال: «وقال آخرون: معنى ذلك: إني أريد أن تبوء بخطيئتي، فتتحمل وزرها، وإثمِك في قتلك إيّاي. قال: وهذا قول وجدتُه عن مجاهد، وأخشى أن يكون غلطًا؛ لأن الصحيح من الرواية عنه ما قد ذكرنا قبلُ». ثم رجح القول الأول فقال: «وإنما قلنا ذلك هو الصواب، لإجماع أهل التأويل عليه؛ لأن الله -عز وجل ذكره- قد أخبرنا أن كل عامل فجزاءُ عمله له أو عليه، وإذا كان ذلك حكمه في خلقه، فغير جائز أن يكون آثام المقتول مأخوذًا بها القاتل، وإنما يؤخذ القاتل بإثمه بالقتل المحرم وسائر آثامِ معاصيه التي ارتكبها بنفسه، دون ما ركبَه قتيلُه». وقال الجصاص: «وَالْمُرَادُ إنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِعِقَابِ إثْمِي وَإِثْمِك؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ حَقِيقَةَ الْإِثْمِ؛ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ إرَادَةُ مَعْصِيَةِ اللَّهِ مِنْ نَفْسِهِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِهَا». إثمٌ مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ وقال ابن عاشور: «فإثمٌ مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ، أَيْ: مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْ إِثْمٍ. وَقَدْ أَرَادَ بِهَذَا مَوْعِظَةَ أَخِيهِ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَإِثْمِكَ تَذْكِيرًا لَهُ بِفَظَاعَةِ عَاقِبَةِ فِعْلَتِهِ، كَقَوْلِهِ -تَعَالَى-:{لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (النَّحْل: 25). فَعَطْفُ قَوْلِهِ: {وَإِثْمِكَ} إِدْمَاجٌ بِذِكْرِ مَا يَحْصُلُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا يُرِيدُهُ»، وقال الشيخ ابن عثيمين: «قوله:{أَن تَبُوءَ} أي: أن ترجع بإثمي وإثمك، أما كونه يرجع بإثمه فواضح، لكن كيف يرجع بإثم أخيه؟ نقول: «إن عدم قتال أخيه له سلامة من الإثم؛ فكأن أخاه الذي لم يقاتل وسلم من الإثم كأنه حمل القاتل إثمه، وليس المعنى: أن القاتل يكون عليه إثمان: إثم للمقتول لو قتله، وإثم لقتله إياه، بل الظاهر أن المعنى: {إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} أي: أن سلامته من الإثم كأن الآخر تحمله عنه وباء به». الأثر الخطير لسوء الفهم ويبين ابن كثير الأثر الخطير لسوء الفهم لهذه الآية فيقول: «وقد يتوهم كثير من الناس هذا القول، ويذكرون في ذلك حديثا لا أصل له: «ما ترك القاتل على المقتول من ذنب». (قال ابن حجر في اللآلئ: هو حديث لا يعرف أصلا ولا بإسناد ضعيف). قال ابن كثير: «وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثا يشبه هذا، عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قتل الصبر لا يمر بذنب إلا محاه»، وهذا بهذا لا يصح، ولو صح فمعناه أن الله يكفر عن المقتول بألم القتل ذنوبه، فأما أن تحمل على القاتل فلا». المقتول يطالب القاتل في العرصات ولكن قد يتفق هذا في بعض الأشخاص وهو الغالب، فإن المقتول يطالب القاتل في العرصات فيؤخذ له من حسناته بقدر مظلمته، فإن نفدت ولم يستوف حقه أخذ من سيئات المقتول فطرحت على القاتل، فربما لا يبقى على المقتول خطيئة إلا وضعت على القاتل، وقد صح الحديث بذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المظالم كلها، والقتل من أعظمها وأشدها، ولعله يشير إلى حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أتدرون ما المفلِسُ؟ قالوا: المفلِسُ فينا من لا درهمَ له ولا متاعَ؛ فقال: إنَّ المفلسَ من أمَّتي، يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مالَ هذا، وسفك دمَ هذا، وضرب هذا. فيُعطَى هذا من حسناتِه وهذا من حسناتِه. فإن فَنِيَتْ حسناتُه قبل أن يقضيَ ما عليه، أخذ من خطاياهم فطُرِحت عليه ثمَّ طُرِح في النَّارِ» رواه مسلم. حَقِيقَةُ الْمُفْلِسِ قال النووي: «وَإِنَّمَا حَقِيقَةُ الْمُفْلِسِ هَذَا الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ فَهُوَ الْهَالِكُ الْهَلَاكَ التَّامَّ وَالْمَعْدُومُ الْإِعْدَامَ الْمُقَطَّعَ، فَتُؤْخَذُ حَسَنَاتُهُ لِغُرَمَائِهِ، فَإِذَا فَرَغَتْ حَسَنَاتُهُ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَوُضِعَ عَلَيْهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ فَتَمَّتْ خَسَارَتُهُ وَهَلَاكُهُ وَإِفْلَاسُهُ، قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُعَارِضٌ لِقَوْلِهِ -تعالى-:{ولا تزر وازرة وزر أخرى} وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ غَلَطٌ مِنْهُ وَجَهَالَةٌ بَيِّنَةٌ لِأَنَّهُ إِنَّمَا عُوقِبَ بِفِعْلِهِ وَوِزْرِهِ وَظُلْمِهِ، فَتَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ حُقُوقٌ لِغُرَمَائِهِ فَدُفِعَتْ إِلَيْهِمْ مِنْ حَسَنَاتِهِ فَلَمَّا فَرَغَتْ وَبَقِيَتْ بَقِيَّةٌ قُوبِلَتْ عَلَى حَسَبِ مَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَةُ اللَّهِ -تَعَالَى- فِي خَلْقِهِ وَعَدْلِهِ فِي عِبَادِهِ فَأُخِذَ قَدْرُهَا مِنْ سَيِّئَاتِ خُصُومِهِ فَوُضِعَ عَلَيْهِ فَعُوقِبَ بِهِ فِي النَّارِ، فَحَقِيقَةُ الْعُقُوبَةِ إِنَّمَا هِيَ بِسَبَبِ ظُلْمِهِ وَلَمْ يُعَاقَبْ بِغَيْرِ جِنَايَةٍ وَظُلْمٍ مِنْهُ وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ أَهْلِ السَّنَةُ». من كانت له مظلمة لأخيه وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء، فليتحلل منه اليوم، قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه»، قال ابن حجر: «قوله: «أخذ من سيئات صاحبه» أي صاحب المظلمة «فحمل عليه» أي على الظالم، وفي رواية مالك «فطرحت عليه». قال: «ولا تعارض بين هذا وبين قوله -تعالى-: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}؛ لأنه إنما يعاقب بسبب فعله وظلمه، ولم يعاقب بغير جناية منه بل بجنايته، فقوبلت الحسنات بالسيئات على ما اقتضاه عدل الله -تعالى- في عباده».
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |