30-09-2020, 12:52 AM
|
|
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة :
|
|
الهذر من أمراض المجتمع
الهذر من أمراض المجتمع
يوسف البيومي
ما أُوذِيَ مجتمعٌ بمرض إيذاءه بهذا المرض، وهو (الهَذَر).
لا يحلو حديثُ الصديق مع الصديق إلا بالخوض في الخطأ والباطِل من غثِّ القول ومَرذوله، ولا يحلو سَمَر أفراد الأسرة الواحدة أو البيئة الواحدة إلا على عِرض الغائب من أفرادها.
ألِفنا هذا في البيت وفي المدرسة وفي الديوان، في النَّدوة وفي الروضة، بل في الشارع وفي كل مكان، لا يكاد يجلِس الزملاء على مكاتبهم حتى يخوضوا فيما يَعرفون وما لا يعرفون من أسرار الناس، من يعرفون ومن لا يعرفون؛ يَخوضون في سِير زملائهم ورؤسائهم، بل في سِير غير هؤلاء وهؤلاء ممن لا تَربِطهم بهم رابطة، ولا يعرفون عن حياتهم كثيرًا ولا قليلاً، فإذا ما كنتَ مُنصِفًا فأردتَ التثبُّت مما قيل أمامك، فسألتَ محدِّثَكَ عن مصدر أخباره، ذكَر لك أن هذا خبَر متواتِر على ألسنة الخاصِّ والعام؛ وهكذا تشيع الشائعةُ في هذا البلد، فتَهُد كِيانَ الزعيم أو العظيم، وتُحطِّم مكانتَه، وتَذهب بكرامته بين بني قومه، وما من مُجير له من هذا الخُلُق البغيض، وذلك المرض الوبيل "الهَذَر".
وهكذا استشرَى الداءُ، فعمَّ وطمَّ، وأصبحت ترى الناس من أعظمهم لأدناهم تحت رحمة الطَّغام ومن لا خَلاق له، وأصبح الموفَّق والمحظوظ تحت رحمة حسَّاده من ذوي الهِمم الضعيفة والنفوس الصغيرة، فهم لأنهم لم يبلُغوا مكانته ينقِمون فينتقمون، وسبيلُهم إلى غايتهم لسانُهم وخيالهم المريض.
وأصبح على المرء لكي يَسلَم من ألسنة الناس أن يُنافِق الصغير والكبير، ويُرضيَ مَن يعرف ومَن لا يعرف، وهذا أمرٌ فوق طاقة البشر، ثم هو إنِ انصرَف إليه شغَله عن أهدافه ومُثُلِه العُليا، وهذا كل ما يَبغيه أعداءُ فضله، وحَسدةُ عُلاه.
ويرجع أصل هذا الداء إلى الحسد وقانون تَنازُع البقاء:
فقد طُبِع الإنسان على أن يُنافِس ويُزاحِم في خضم الحياة، ثم هو قد يَسبِق وقد يتخلَّف، وهو إذا سبَق قد يتخلَّف عنه مَن هو خيرٌ منه، ويفوز معه من هو أقل منه، بل من هو أقل ممن تخلَّفوا، وهم كثرة مَتباينون، وهو إذا تخلَّف قد يتخلَّف عن شر منه وممن تخلَّف معه، وهو على أي حال غيرُ راضٍ بما وصَل إليه ولا بمن وصَل معه، يريد أن يَعلوَ ويَعلو، وفي طريقه إلى غايته مَن سبَقه ممن هو مِثله أو دونه - في نظَره على الأقل.
وما دام لم يستطِع اللَّحاق بسابِقيه، فليحاوِل أن يُنزِلهم عن أماكنهم، إن لم يكن بالكَيد لهم عند رؤسائهم، والنيلِ من كفاءتهم في أعمالهم، فبالنيلِ من أخلاقهم وسلوكهم وأعراضهم.
ذلك مَبعَث الداء، فالحَسد وتَنازُع البقاء هما أصل البلاء.
قد تتساءل - وحُقَّ لك - إذا كان الأمر كذلك، فهذا داء لازِب، ومرَض ملازِم، فما بالك تُحدِّثنا في شأنه؟ وهل يكفي أن تذكُر الداء، وتشرح أسبابه، وتُرجِعه إلى عِلله؛ لينتهي الناس عنه؟ هلا وصَفتَ الدواء!
وأسارِع إلى الجواب، فأصِف الدواء، أو أصِف على الأصح دواءين.
أما أولهما، فلا ينفع إلا أقوياءَ اليقين، الذين يوقِنون بقضاء الله وقَدَره، وأن ما كان لهم لم يكن ليَعدوهم؛ ((ما أصابك لم يكن ليُخطئك، وما أخطأك لم يكن ليُصيبك))، هؤلاء بلفْتِهم إلى أوامر الدين يَنتهون عن الحسد؛ فيَسلَم الناس من لسانهم فيَسلَمون؛ لأنهم يعلمون أن المسلم من سَلِم المسلمون من لسانه ويده، ويعلمون أن المؤمن لا يكمُل إيمانه إلا إذا أحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه، يعلمون هذا وأمثاله من أوامر الدين في هذا الموضوع، فإن لم يكونوا يعلمون ذلك تفصيلاً، فبلفتِهم إليه يُوقنون به ويعملون بمقتضى يقينهم؛ لأن عندهم أصل اليقين، وهو الإيمان بالقَدَر خيره وشره.
وأما ثانيهما، فهو أن نشرَح للناس مضارَّ هذا المرض في أنفسهم؛ لأنهم - أي: المرضى - يحبون أنفسَهم ويُؤثِرونها بالخير، فهم إذا أدرَكوا ما يُصيبهم هم منه، كرِهوا التخلُّق به؛ إيثارًا للخير، ونزولاً على حُكم العقل والمنطق.
نحدِّثهم عن أنفسهم وما يَنالهم من تقوُّلهم ما لا يعلمون أو ما يعلمون عن إخوانهم مما يؤذيهم.
سلْهم: ألا يحتقِرون هم الصديقَ يخون الصديقَ أو يَنْفس عليه ما منَحه الله من فضله؟ ألا يحتقِرون مُستبيح الأعراض والحُرمات؟ فإذا كانوا يحتقرونه فهم إذًا يحتقرون مَن يُحدِّثون.
ثم سلْهم: ماذا تفيدون من تقوُّلاتكم؟ أو ماذا تُصيبون ممن تتقوَّلون عليهم؟ هل تستطيعون ردَّهم عن أهدافهم، وإنزالهم من صياصيهم بقولة سوء، سرعان ما ينكشِف بهرج زَيفها عن حقارة صانِعها؟.
ثم سلْهم: أبهذا تلحَقون السابقين ممن تَنْفسون عليهم؟ أم بغير هذا من العمل والدَّأَب والسهر والسير على منوالهم، أو التفكير في خير من سبيلهم وأرفعمن غايتهم؟.
بل سلْهم - وهذه طريقهم -: ألا يخشون وقد أصابوا الناس فُرادى أن يَكيلوا لهم الصاع صاعين مجتمِعين متكاتِفين؟.
أعرف أسرة عاشتْ على نهْش الأعراض، وتشويه سِير البرآء، لا تنام ولا تصحو، ولا تقوم ولا تقعد، ولا تسير ولا تقِف إلا على عِرض غافل بريء، ممن لم يُقدِّم إليهم إساءة إلا أنه موفَّق محظوظ.
ثم لم تزلْ هذه سيرتها مع البعيد والقريب، مع الجار وغير الجار، حتى شاع خبرُها وذاع، واستَعاذ الجميع من شرِّها، متحاشين الاختلاطَ بها، أو الدنوَّ منها.
ثم كانت نقمة الله، فقد سلَّط بعضهم على بعض، وقالوا في أنفسهم ما لا يستطيع أن يقوله أحد فيهم.
ووقف ضحاياهم السابقون لا ليَزيدوا النار اشتعالاً - فليس لها من مزيد - بل ليُردِّدوا وعيد المُنتقِم العزيز: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾ [الفجر: 14].
هذه حالهم وألسنةُ ضحاياهم بريئة لم تُدنَّس بالخوض في أعراضهم، فكيف لو استغلَّ الضحايا وهم كثرة مُتعاوِنون ضَعْفَهم وهم قلة مُتنافِرون؟.
إن العاقل ليربأ بنفسه عن وضَاعة التقوُّل على البريء، ويَسمو بها عن حَقارة النَّيل من الغافل، ولا يجب أن يكون مهابًا عن طريق الجريمة بدل أن يكون محبوبًا لخُلُقه الكريم، وضميره العَف، ولسانه الطاهر النَّزيه.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|