أفراح لا تكتمل - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4417 - عددالزوار : 853536 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3948 - عددالزوار : 388649 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12522 - عددالزوار : 214074 )           »          أطفالنا والمواقف الدموية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 48 )           »          عشر همسات مع بداية العام الهجري الجديد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 43 )           »          وصية عمر بن الخطاب لجنوده (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 64 )           »          المستقبل للإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 63 )           »          انفروا خفافاً وثقالاً (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 58 )           »          أثر الهجرة في التشريع الإسلامي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »          مضار التدخين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 43 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها

ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 15-10-2020, 03:37 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,900
الدولة : Egypt
افتراضي أفراح لا تكتمل

أفراح لا تكتمل














صافية دراجي



كم تجتاحنا في لحظات الوَحدة تلك الرغباتُ الجامحة نحو خَلق أُفق نرتاع فيه ونقتبس منه شيئًا من بهاء الصفاء، تحملنا بعضٌ من قطرات التواجد بين متاهات السراب وأحلام الصبا التي تنطلق نحوَ اللاحدود، كطائر يرحَل إلى أعماق الحرية والانعتاق قادمًا من أسفار العبودية.





كثيرًا ما تبدو لنا الأشياء الغريبة والبعيدة بها إثارة روحانية، بها روعة وبهاء، فيها روحٌ تغرِّد على نسمات الفرح والسعادة، نحن البشر هكذا، خُلِقنا من ضعف، نحب المغامرة، وندفع فاتورة باهظةً من أجل لحظة نشوة تنتشي فيها أرواحنا، وتتحرَّر من ذلك الكون الأسود الذي يحوم حوالَينا.





نتوسَّم التحرر لنحيا العذاب، والحرية لنصطاد النكسة، والمغامرات لنعيش الخَيبة.





حضرني ماضٍ مرَّ على تخوم الزمن سريعًا، مرَّ على مسالكِ البؤس يشيد بأغاريد مشتهاة، حملت رسالةً ما زالت - رغمَ ما مر عليها من ترسبات الزمن - حيةً، وخطها واضح تمامًا إلا من قطراتِ دموع تمسح بعض الأحرف، لكن معانيها باقية بقاءَ تلك الذاكرة التي تستوطن كلَّ شيء مرَّ.





بعضنا يحب الاحتفاظَ بذكريات الطفولة والشباب، وببعض الذكريات النادرة كأشياءَ ثمينة، لها مكانها المقدَّس داخلَ حقائبنا وبين أشيائنا.





كانت براءة الصبا تضطرني لأنْ أكون أنانية حتى النُّخاع، كانت بعض ترسبات القبيلة تُجبِرني على الابتعاد أمام بعض المواقف، رغم أن نداءً مِلحاحًا يجتاحني، نداء من جوف الألم والندم يحتاجني، إن الخوفَ من الوقوع في الرذيلة يجعلنا أنانيِّين حتى النخاع، يقال: مَن خاف سلِم.





كم حرمتُ نفسي الجلوسَ على بساط ربيعي يتعالى بخضرته، مكسرًا ألوان الشبح والكآبة؛ خوفًا من لَسْع العقارب، ولَدْغ الثعابين، إنها أيضًا تخرُج في الربيع لتتمتع بجمال الطبيعة، وترتويَ من المياه الشتوية التي تنسرب صافيةً في انتعاش لا يُضاهَى سِحرُه وجماله، مثل بعض الكائنات البشرية حين تخرج عن بشريتِها لتلدغ كلَّ من تراوده نفسه أن يرفعَ رأسه عاليًا مكبرًا بـ: الأنا.





كانت "أحلام" كفراشة تحنو نحو الفرح، ترنو نحو الأمل، تنبض بالعفَّة، تنتعش بالطفولة، تتورَّد بالحياة، تتنفس أوداج الخيلاء، كم تحب أن تُرى جميلة، بريئة بألوان هادئة تزينها، وبكل حلو يباع تتأمَّل عيونُها المتوردة بلهيب الانتظار ذاك الفرحَ الذي يرحل بها نحوَ تخوم المباح.





كانت في عمر الزهور، جمال بسِحر لا يمكن لقلم أن يصفه، ولا يمكن لعين أن تراه دون أن تكبِّر باسم مَن خلَقه، فتنة ينفتح على أفقها صباح الورد والاشتهاء.





اختيار صعب، لكن كنت أدرك بأنها لن تختارَني على أية حال، لن تختارني على ذاك الحلم السرمدي الذي دخل قلبَها في اللحظة الخطأ من العمر، لن تختارَني على لحظة الوَجْد، لم تعِشْ حياتها مثلها، لن تختارني ولن تختار أمَّها الحنون، ولا أباها المسكين، ولا شقيقها؛ ذاك الذي يعود بعد منتصف الليل مخمورًا سكرانَ لا يعلَمُ بحاله، ولا يرى وقع خطواته، تتملكه أنفاسه بين غياهب السُّكْر والجنون.





لن تختار كل المحبين لها على ذاك الذي يحبه قلبُها، كان قرارها المتوقع، والمرتجَى مِن قلب لا يرى في الوجود إلا وجوده، وعمر لا يكتفي بأن يلتقط أنفاسه، صارت الحياة بأوجِها تحوم حول اسمه، والفرح يرقص مِلء مقلتيه متهجدًا بعنوانه، حب يحوِّل كل الوجود إلى نشوة الأطفال ساعة ذاك الانتظار الصادق إلى صلاة موعدية في العيدين لا تأجل، حب بحجم السماء الواسعة دومًا، العالية دومًا.





ما أقسى صخبك أيتها النفس حين تبتعدين عن نَهج خالقك، ما أقسى معاناتك أيتها النفس حين لا ترتوي رُوحك من طُهر مسلكه، ما أقسى سقوطَك أيتها النفس حين تدفعك روحٌ من روحك إلى هاوية هي نهايتك.





يشهد الكون أن الصدر يضيق بأنفاس بعض مما لا يحتمل، حقائق من خِذلان البشر تطرق أبوابها علنًا في لحظة لا نملِكُ كيف نعود إلى الوراء لنصححَ أخطاءنا.





أمة ضحِكت من جهلها الأمم، من تخلُّفها الأمم، من عشقها للمرأة والكرسي، عشق خاب في وصفِه القلم والزمن.





أين المفر من هذه الحقائق يا بشر؟ صارت الأنثى وجهًا ويدًا وساعدًا وساقًا، وصار الهمُّ دينارًا وكرسيًّا وامرأة، صغُرت المطامح فصغُرت النفوس، وصغرت الهمم، صغرنا حتى صِرنا لقمة في يد أسيادنا، رجالنا يتباهَون برجولتهم بذاك العدد من الصيدِ الوفير من النساء العاشقات الهائمات، اللائي يبِعْنَ أنفسهن بالرخيص من أجل عيونهم التي تنبعث شرارة وتحترق لتلك اللحظة التي تحرق فيها اسم الأنوثة، وتكسِر كلَّ عرَض، وتخدش ما بقي في رجولتِهم من حياء، أعذارهم ثَكْلى مثل آمالهم وأحلامهم، الضعف والفِتن والمِحن وكل شيء له عُذره لدى سادتنا الرجال، صِرنا بعض الخلق، وفينا الكثير مما يحيِّر الخلائق، أمة ضحكت من ضعتها الأمم.





عُدت إلى ورقتي وقلمي، صارا منذ زمن رفيقَيْ دربي، ومستودع أسراري، أبوح لهما بما لا يستطيعُه لساني.





إنه أشقر، لون يبتعد عن روح الأمازيغ، حفدة "تاكفاريناس"، الذين رضعوا الطُّهر من غابر الزمن، وقدسوا العفاف حتى الموت، "تاكفاريناس" الذي ضحَّى بمجده دفاعًا عن شرف الأمازيغ، إلى أن مات موتة الأبطال، ولون يبتعد عن العروبة التي تدفن الأنثى حيةً لتقول للعالم: إننا كنا نستوطن الطُّهر والشَّرف، وقامته طويلة طولاً بمقدار الشموخ الزائف.





كان كلُّ هذا الوجود يدعو لأن تثقَ "أحلام" في كلامه الذي لم تسمعه حياتها كلها.





ما زلت أقرأ تلك الكلمات التي تركَتْها لي في رسالتها الأخيرة قبل رحيلها الأخير.





أنت شهقاتي وزفراتي، أنت آهاتي، أنت أفراح حياتي، أحبك بجنون، لا أرى في الوجود وجودًا بعدك، أنت الأحلام التي انتظرتها منذ زمن، أنت الأفراح التي تستوطن القلبَ والرُّوح والوطن، أنت الرائعةُ التي لا يعرف القلب بعدك أن يلتفت إلى غيرِك وطن، أنت الجمال، أنت البهاء، أنت الأمل...





كلمات تذيب الحديد، وتنير ظلمةَ الليل، وتُنسي المرء كلَّ هموم الزمن، كلمات تنسرب إلى مكنونات الصدر، وتفتح أوداج القلب، وتغرس فيه كل الفرح، كلمات تهُزُّ أوتار الفؤاد، وتدغدغ المشاعر والأحاسيس، فتنسكب على الوجدان كمواعيد فجريَّةٍ بشوق لا ينطفئ، ووجد لا حد له، قلب أحلام اكتوى منذ أن اختار هذا الرجل لأن يستوطنَ قلبها، إنها تحبه وكفى، وكل ما يقوله صار الصدق كله، لا يمكن لمن يبدع هذا السحرَ البياني أن يكذِب في شيء، أو يدعي شيئًا لا يكون، إنه يحبها، هذا ما آمنَتْ به "أحلام" وصدقَتْه.





وعود وأمانيُّ، بيت وأبناء وسعادة، أحلام عذبة، كلمات وأفراح في عالم المِحَن والإحن والانتكاسات، في عالَم هامشي ما ترك للعفيف عفة، ولا للعالِم هيبة، ولا للرجال نَخوة، كسر كل تكلفة، هتك للستر، وتمزيق للأستار، غاب الحياء، وسقطت معه كلُّ الشعارات، وكل الكلمات التي قيلت وتُقالُ على مسرح المشاهَدة والاستماع دون أن يكونَ لها وجودٌ في عالَم الحقيقة.





كل شيء صار بالنسبة لنا شعارات زائفة، كل محاولة لإصلاح النفس تبوء بالفشل أمام قوة مضادة تسلخ المرء من مروءته، والرجل من رجولته، والمرأة من أنوثتها، كل شيء يقصد تهديمنا وكَسْرَنا ومسح مآثرنا.





ينتابني إحساسٌ بالخيبة، وآخر بالهزيمة، وآخر بالخوف، أمام ما ألقاه وأراه وأسمعه وأقرؤه، كلنا مُعرض، وكلنا في خطر، لولا وعد من الله: ((احفَظِ الله يحفظك))، لانتَكَسَتْ عزيمتي كلها، كنت أستحضر قصة ذاك العابد الذي زهد في الحياة، واختار لنفسه مغارة بعيدًا عن العالَم وفتن العالم، هروبًا بدِينه، ولكنه مات في نهاية أمره وهو يسجدُ لرمز الخطيئة والكفر.





لا أنكر مخاوفي، خوف يستوطن كل زاوية من زوايا جسدي، ولا أنكر ألمي وخيبة أملي.





صِرنا نحرِّم الحلال، ونحل الحرام، الآن صرت أفهم لماذا نحن دائمًا في رَكْب التخلف، وفي رَكْب الانحطاط، نشتهي مآثر الآخرين، ونتغنَّى لنثبت لغيرنا أننا صرنا لا شيء، وأننا أبناء لأمة كان أبوها كذا، وجدُّها كذا، وابنها هكذا.





"أحلام" ترى السعادة القصوى في تلك اللحظة التي تقترب منه، راحت ترتوي من كلمات الحب، ونبض الوَلَه، ولحظات العشق، أما أنا فأكتفي بذلك الغَيْض والألم، لم أتمكن من ردها، أو إيقاف نبض قلبها الذي صار كل ما فيه يعيش تحت وطأة سطوته، صارت عبدًا لصوته وصورته وشَكْله، صارت أَمَة بين يديه وقد حرَّرها رب السموات يوم أمَرها أن تكون إلى جانب الرجل لا تحت قدمه، ويوم أقرَّ بالحقيقة الكبرى ذاك المميِّز في تاريخ البشرية جمعاء، الحي في أرواح عشَّاق العدلِ، عمرُ بن الخطاب أمام الجماهير: "متى استعبدتم الناسَ وقد ولَدَتْهم أمهاتُهم أحرارًا"، هو النداء القاسي الذي لا يفهمه بعض البشر، أولئك الذين حتى لو أتتهم الحرية تجرُّ أذيالها إليهم، لمزَّقوها واعترفوا بأنهم قد تعوَّدوا على حياة العبودية.





نحن عبيد لكل شيء، للغالي والرخيص، تسكن العبودية أشياءنا وأشلاءنا.





في ذات سنة أتتنا من بلاد ما وراء البحار امرأةٌ لتحاضر، ولأن لغتها لا يفهمها جميع الحاضرين، ولأنها لا تجيد اللغة العربية، فإن أصحاب القرار وضعوا لها مترجمًا كفأً، عالِما بأسرار اللغتين، لا أستطيع أن أصفَ فرحة ذاك المسكين لتك التزكيةِ التي حظي بها، كان يتصبب عرقًا لفرحته، لم يتوقَّعْ أن تأتيه مثل تلك الفرصة ليجلسَ جنب امرأة أجنبية تحاضر.





يقتُلُنا الاستعباد، ويتحكم فينا الآخر، إنه يتحكَّم في كل شيء، تساءلت حينها بغباء مع نفسي: ترى لو أن المتحدثة جزائرية، هل كان هذا المترجم الذي يرتوي بلحظات الفرح وينتشي بالغبطة سيفرح هكذا؟ لم أفهَمْ بالضبط سر سعادته، هل بسبب تلك التزكية الرفيعة، أم بسبب جلوسه جنب امرأة، أم فقط لأن المرأة أجنبية وترتدي السروالَ الضيق.





اتصالات الأشقر لا تكاد تتوقف، هاتفها الخلوي صار مِلكًا له وحده، وصارت أحلام ملكه، ملكها بغير حق، سلبها من نفسها، واستوطن وروّد قلبها بذاك الإيهامِ الجنوني أنه الفارس الذي يجعل الحياةَ أمامها ورودًا حمراء، والعالم بلون وردي، أوهمها أن العالَم سيسبح بوجودهما معًا، كم وعَد، كم منَّى، كم تكلَّم، كم وكم وكم، كيف أحصي ذاك الكم من الكم!





كان اللقاء الأول بشيء من الحياء، وكان اللقاء الثاني يفتح القلب على الاستزادة، وكانت حين تعود من لقاء عاجل يجمعها به أمام باب الجامعة أو في المطعم المقابل للحرم الجامعي، تعُود بوجه يمتلئ فرحًا، بنشوة تكبر كل يوم شيئًا فشيئًا، غبطتها وكأنها تعانق أفراح العالم كله.





يحتاج البشر إلى إعادة تأهيل، ويحتاجون إلى إعادةِ تشكيل لبناء ذاتٍ أخرى تعترف أن آمالَها صارت تتقوقعُ على بُوتقة الكذب والخيانة والانكسار، لَم أستطِعْ فَهْم شخصية "أحلام"، كانت بريئة وجميلة، وكانت مغرورة بذاك الجمال، تأتيني بفرحها المغري لتعانقني وكلها أمل أن تجدَني في انتظارها لأفرحَ لفرحها، ربما أسمع شيئًا، وربما أرفض الاستماع لأي شيء، فأردها على أعقابها خائبة، وأنا أذكِّرها بنفسها، وربما أكتفي بترديد قول ربي على مسمعها: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [الملك: 12].





لن تنزعج مني؛ لأنها في نشوة فرح، ولحظات من السعادة، تضحك من موقفي معها وهي تنظر إليَّ نظَرَ المشفِق على فتاة في مقتبل العمر تضيِّع شطر عمرها في زاوية من العالَم لتعيش مع الكتب، وربما قالتها لي بنبرة استهزائية: يا لكِ من معقَّدة متخلِّفة، كيف ستتزوجين، على كلٍّ أنا لن أرضى أن تكون نهايتي مثلَ نهايتك، ولا أقبل أن تكون حياتي مثل حياة جدتي التي رأت جدي لأول مرة ليلة دُخلتها.





أذكر أني أجبتُها ذات مرة: إني أريد رجلاً يصنعه الله على عينه، يأخذ من أخلاقِ الأنبياء والمرسَلين، ويكون دربه درب الصالحين، يُطعم الجِياع المساكين، يحنو على اليتامى والبائسين، ويحب البشرَ أجمعين، وإلا فإني سعيدةٌ بوحدة تجعلني متسامية، والوحدة خيرٌ من رفيق السوء، لكنها أجابت بقهقهة حاولت أن تكسرَ بها آمالي، ومدت يدها نحو جريدة كانت على الطاولة، وبدأت تتصفحها بسرعة وكأنها تبحث عن شيء مميز، وإذا بها تتوقف عند إحدى القصص من واقع معاناة الشباب، وبدأت تقرأ بصوت مرتفعٍ قصةَ فتاة في مقتبل العمر أحبت شخصًا اعتقدَتْه من الملائكة الذين يتطيبون بالطُّهر، وكان يبادلها ذلك الحبَّ الخياليَّ "من بعيد لبعيد" دون أن يبوحَ بكلمة، مرت الأيام تلو الأيام، والأشهر تلو الأشهر، والسنوات تلو السنوات، والمسكينة تنتظر ذاك الفارس الوهمي، لم يخطر ببالها أن أدبًا رفيعًا يمكنه أن يكون سهمًا يمخر القلب، لم تتوقع أن يكونَ مَن مسكنُه بيت الله، وشعاره حب الله، ومسلكه مسلك رسول الله أن يكسرَ قلبها، لكن تفاجأت بعد طول انتظار أن الرجلَ يتزوج من ابنة خالته، وكان الاختيار اختيار والدته.





راحت تلك العاشقة المصدومة تلوم هذا الوهج الوهمي الذي قضى على براءتِها، لكن "ما لجرح بميتٍ إيلام"، ضميره كان أكثرَ من مرتاح، فهو لَم يعِدْها بشيء، كانت نظرة إعجاب، ولم يقدر الله أن يكونَ بينهما ما يشتهي المحب، قلبه اختار غيرَها، أفتلوم قلبَه على اختياره، أم تلومه على ما كان له من لَمَمٍ، إن اللهَ غفورٌ رحيم.





توقفت "أحلام" عن القراءة، ورفعت رأسها إليَّ وقالت: بعض الصدمات تجعل الإنسان يخسَر نفسه، ترى هل سيغفر الله لهذا المدعي؟ هل سيغفر الله لإنسان يقتُلُ إنسانًا؟ ألا تقولون: إن الله عادل، فإذا كان كذلك، فمِن عدله ألا يغفر لمثل هؤلاء البشر، أليس كسر قلب امرأة يعني قتلها؟!





صحيح، ربما حتى أولئك الذين يتظاهرون بالتسامي يسكنهم شيءٌ من كيد إبليس، درجات الظلم تختلف، لكن كلهم ظالمون على كل حال.





بعد هذه القصة لَم أعُدْ أستطيع التحدث مع "أحلام" عن الأخلاق المتسامية للرجل المسلم، لقد أُصِبْتُ بخيبة أمل، فلربما حتى الأخلاق رحلت مع الزمن الغابر، مع خير الخَلق رسولنا المصطفى الكريم - عليه أفضل صلاة وأزكى سلام - كما رحَل الصِّدق والوفاء، والعدل والنَّخوة: "والحمد لله لأننا عرَفْنا الإسلام قبل أن نعرف المسلمين".





صوتُ "أحلام" ما زال يرنُّ في أذني، استيقظي، ودَعِيك مِن خزعبِلات كُتِبت لزمن غيرِ زماننا، ولأناس غيرنا، إننا في عصرِ الحريات، عصر التحضُّر، فلا تعودي بأقدامِكِ إلى ذاك الماضي البائس الذي كبَّلنا داخل حجرة بأربع جدران كالبهائمِ لا تحلم إلا بلطف زوجها عليها، وضحكته التي لا تكاد تراها على وجهه، استيقظي، دَعِيكِ من عصر التخلف، وعالَم التخلُّف لأولئك الذين يرون فينا متعةً ومتاعًا، مخلوق نصفه إنسان، وآخر شيطان، يخدم الرَّجل، ويقبِّل يد الرَّجل ورِجْل الرَّجُل ويسعى لينال بركاتِ الرجل، ورحمة الرجل.





كلمات "أحلام" فيها شيء من الصدق حسب فلسفتي التي أقرأ بها الأشياء، بالنسبة لي لا أتأثر بما يقوله الآخرون، ولا حتى بما تقوله الكتب، كل ما أقرؤه، وكلُّ ما أراه، وكل ما أسمعه أمرِّرُه على مصفاة عقلي: أستحضر دومًا تلك الحكمة الشهيرة للشيخ "عبدالحميد بن باديس": "اجعل عقلك مصفاة لِما تقرأ"، أشفق على أحوال الناس شفقتي على أحلام أحلام، لكن لا أحدَ يستطيع أن يغرس أفكارَه في رأسي، أو يزرع قناعاتِه في كياني، كنت أسيرُ على خطٍّ رُسِم لي منذ الزمنِ الغابر، وكنتُ في رحلة حياتي أسأل اللهَ دومًا أن يعينَني كي أفهمَ تلك النواميس الكونية التي تُحيط بذواتنا، وتحيطُ بالعالَم من حولنا، قد أُظهِر الاقتناع ببعض فلسفات بني البشر وإن كنت أدَّعي الاقتناع فقط؛ لأني الحقيقةَ أتجنب بتلك الصورة الكثيرَ من الجدال العقيم، فإضافة إلى مزايانا الرائعة كم نحب التأثير على بعضنا البعض، وعلى غيرنا بالكلام، دون أن نحمل أساس المنطق، كم نحب أن يثبتَ للجماهير أننا نعرفُ كلَّ شيء، وبأيدينا عَصاة سحرية يمكنُها تغيير العالَم في دقيقة.





"أحلام" تتَّهمني بالتخلف، تقول: إنني معقَّدة، ربما أكون متخلفة فعلاً؛ لأنني اخترت طريقًا مخالفًا لطريقها، ومخالفًا لمسالكَ كثيرة كانت قِبلة غيري، متخلفة لأنني اخترت طريقًا كثيرًا ما يُوقِعني في امتحانات صعبة، حين تحتكم إلى تقاليد القَبَلية وأعراف الأجداد يصير الاختيار صعبًا في كل شيء، حتى حين ترتدي ثيابًا مخالفة لجماعتك، وترفض الجلوس مع رئيس الشركة في مكتب بمفردك، وربما حتى حين تختار أن تكتبَ من اليمين إلى اليسار، فأنت تعلن تطرُّفَك؛ فالحضارة تدعوك لأن تكون يساريًّا، بمعنى أن تكتب من اليسار إلى اليمين، وتتحدث لغة تكتب من اليسار إلى اليمين، نحن لا نعجب أحدًا، سوف يقهقه العالم سخرية واستهزاء إن رأوك تكلِّم شخصًا باللغة العربية السامية المتسامية، حتى حين تختار المسجد على البحر، فأنت في عِداد المفقودين، أدرك أنه لا أحدَ يستطيع أن يبيعَ تلك اللحظة الجميلة من شهد الوجود حين يجلس على شاطئ البحر، ويتأمَّل الزُّرقة التي تعِجُّ بالأبَّهة المتناهية، وأمواجه العاتية تتلاعب برِجْليك، ورماله الصفراء تدعوك إلى الاقتراب والمغامرة صوب المجهول، حتى الأحلام تغدو متسامية حين تكون على شاطئ البحر، لا أحد يستطيع أن يبيع هذه اللحظات الروحانية ويختار الجلوس في المسجد، إلا أن يكون ملاكًا زارنا من عالَم المُثل، أو تكون براءة لها علاقة قوية بذاك العالَم الأزلي، عالم الوجود الطاهر، فيشعر بنَشوة القرب من خالقه أكثر مما تنتشي رُوحه بلفحة شمسٍ فوق شاطئ البحر.





"أحلام" تراني متخلفة؛ لأنني لا أرتدي القصير، ولا السروال الضيق الذي يفصح عن شكل جِسمي، ولا أزين وجهي بألوان قوس قزح لأحوِّله إلى لوحة زيتية، هي تراني هكذا، وتلومني على اختياري، لكن ألَسْنا في عصر الحريات؟ فلماذا أحاسَب على اختياري، ويُنتَقد اختياري وأُلامُ على اختياري؟!





ألست حرةً وحريتي تفرض عليَّ ألا أكون سلعة رخيصة في يدِ رجل يستعبدُني بغير وجه حق؟ أكرمني الذي خلقني، فكيف أمنح نفسي لمخلوق غيري ليستعبدني؟ في هذه الحالة لو تسمع "أحلام" بأعذاري ستقول: عليك بمراجعة اختصاصي نفساني؛ فوسواس قهري يسكنك، سأحتفظ بعذري لنفسي، ربي قال: ﴿ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ﴾ [النساء: 25]، فهل أعصيه؟ أحلام سعيدة باختيارها، وأنا أيضًا سعيدة باختياري.





ربما كنت قوية حد الكفاية كي أتحدى إغراءات أحلام، وسخريتها البريئة، كنت متيقنة أنها تريد لي الأفضل، لكن بطريقتها؛ حيث الأفضل عندها خروجٌ عن الفطرة، وتمرُّد على الواقع الذي يكبلك بطقوسه وانغلاقه.





رفعت نظري وكفي وندائي لرب السموات، نداء من عمق القلب، وصرخة من عمق الوجع، وغربة تشد على سواعد الألم: إلهي، متى كان الالتزام بشرعك تخلُّفًا؟ متى كان الحرام تخلُّفًا؟ متى كانت العفاف تخلُّفًا؟ إلهي، أبتغي التسامي بما لا يحقُّ لي ولا يحل، فكن لي عونًا.





كم أشعر بالراحة حين أكلم الله، القليل يفهم لغة الله، ربما الصوفيون فقهوا كثيرًا حين عانقت أرواحهم عالَم الذات الإلهية، فصاروا ينطقون بتلك اللغة البديعة، إن الحديثَ مع الله له لغة خاصة، لا يفهمها الكثير، يجب عليك أولاً ألا تختار الوقت، بل تتخير المشاعر حين تكون قريبة، التواصل معه ليس صعبًا أبدًا، يكفي أن تكون صادقًا لتراه أمامك وتسمع جوابه، فترتاح رُوحك المعذبة والممزقة إلى أشياء مبعثرة في هذا الكون الفسيح.





"أحلام" صارت مدمنة على الأشقر الذي رأته ذات مرة من بعيد حين أتاها مكشرًا عن أنيابه يدعوها لتتمشى معه على شاطئ البحر، قبِلَتْ بكل سرور، كنا نراها من بعيد تترك المحاضرات والزميلات والصديقات وترحل معه في سيارته الفخمة.





لقد صارت صديقتنا شخصًا آخرَ، وصرنا معها أشخاصًا آخرين، لَم نعُدْ نستأنس بالحديث معها، خسرت تلك الجماعة التي كانت تلتقي على عتبات الفرح والنشاط والضحكات البريئة، لكن لا شيء يُهمها، يكفيها ذاك البائس الذي ملك حياتها، وحواها، وأعتقها من نفسها، واستعبَدها بكل طاقته، صار يتخيَّر لها حتى أثوابها القصيرة، وسراويلها الضيقة، وقمصانها وفساتينها المتباينة الألوان، المفتوحة الصدر، أو العارية الكتف، زمن التخلُّف ولَّى، وزمن التحرُّر يشد بمعصمه على نوبات الدروب.





استيقظت ذات صباح على جَرَس الباب الخارجي يسأل أهله عن "أحلام" التي لَم تدخل البيت منذ أسبوع، قال شقيقها صاحب العشر سنوات: إنها قالت: ستبقى عند صديقة لتراجع دروسها، وسألنا عنها الكثير من زميلاتها ولم يجبنا أحدٌ.





لم يكن لنا أن نقول أكثرَ مما نعرفه، نحن أيضًا لَم نرَ "أحلام" منذ أسبوع، عاد الصغير خائبًا.





واستذكرت ذلك اليوم الذي أخذها الأشقر معه ليتمشَّيا معًا على شاطئ البحر، كانت جميلة جدًّا، ترتدي ثوبًا أحمر قصيرًا، يبرز مفاتنها، قالت لنا: إن أشقرَها الثري اشتراه لها هدية بمناسبة عيد ميلادها، ولم نرَ لها أثرًا منذ ذلك اليوم.





مرت الأيام والليالي والأفراح والأحزان، أشهر يخرج فيها إلى الكون مواليد، ويموت بعض الأحياء، بيوت تشتعل فرحًا، وأخرى تنطفئ حزنًا، والحياة تستمر، هي سنَّة الكون، يجب عليها أن تستمرَّ، ويجب أن تتواصل المشاوير، وتتعالى الرغباتُ والإرادات والطموحات والمنافسات والصراعات، صراع على السكن، وآخر على الحُكم والكُرسي، وآخر حول امرأة، وآخر من أجلِ التَّرِكة، وآخر من أجل اللاشيء، قد ينكسر الطيب، ويبكي البريء، ويعلو سلالم اللؤم بعضُ الآدميين، تستمر الحياة بأي شكل من الأشكال، بلونها الوردي أحيانًا، وبلون أسود في أغلبِ الأحيان، وقد تكون عديمةَ اللون وعديمة الذوق وعديمة النَّكهة أحايينَ كثيرة.





سمِعنا أن والدة "أحلام" سقطت طريحة الفراش، قيل: إن علاقة ابنتها مع الأشقر قد بلَغَتْهم، وسمعنا بأن والدها حبَس نفسه في البيت، ولم يعُد يكلِّمُ أحدًا، أما نخن فقد أُمِرنا بقطع كل علاقاتنا مع تلك العائلة، إن الحديثَ عنهم صار شبهة، ويسيء للسُّمعة، وعلى الجميع أن يبتعد عن مواطن الشبهات.





في ذاتِ صباح استقبلت رسالة مستعجلة، إنها "أحلام"، ازدراء وغيظ، هل أقرؤُها أم أسلِّمها لأهلها، أم....؟ عائلتي أمَرت بقَطْع علاقتي بها نهائيًّا، لن أجرؤَ على إخبارهم أني أتلقى منها أخبارًا، لكنه الفضول يدفعني لأن أقرأ، لأن أسمع، غابت منذ أكثر من شهرين ولا أثرَ لها، استيقظ شقيقها أخيرًا من غمرة السُّكر ليبحثَ عن أخته الوحيدة.





فتحتُ رسالتها الصاعقة لأسمع أنباءً هزَّت وجعًا، وصرت للتو أنادي بصوت مبحوح يتقطع ألَمًا: ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا ﴾ [الفرقان: 27 - 29].





تسقُط القِيم، تغيب الرحمة، يستوطن اللؤم والخِذلان، عاد هابيل مرة أخرى ليقتل قابيل، نعم، لقد قتَلها بطريقته، لا يهم كيف! يكفي أنه قتَلها!





"غادرها العطر بلا عودة


جف الذي تبقى لها من ندى


ما أحقر الآن هذا الجمال وما أرذله".


لَم أعُدْ أرى شيئًا، أو أفهم شيئًا، أو أعي شيئًا، كل ما أعلمه أن الأشقر قتَل "أحلام".





نشرة الأخبار في المذياع، قناة محلية تعوَّدنا على سماعها، تؤكد أن الحمايةَ المدنية عثرت على جثة فتاة منتحرة، كانت الضحيةُ في العشرينات، وكانت حاملاً في شهرها الثاني.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 75.20 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 73.31 كيلو بايت... تم توفير 1.89 كيلو بايت...بمعدل (2.52%)]