تفسير أيسر التفاسير**** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري ) - الصفحة 17 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12522 - عددالزوار : 213744 )           »          أطفالنا والمواقف الدموية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »          عشر همسات مع بداية العام الهجري الجديد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          وصية عمر بن الخطاب لجنوده (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 46 )           »          المستقبل للإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »          انفروا خفافاً وثقالاً (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 43 )           »          أثر الهجرة في التشريع الإسلامي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          مضار التدخين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »          متعة الإجازة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          التقوى وأركانها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #161  
قديم 15-09-2020, 05:11 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,900
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )

مراحل وأحداث بناء البيت الحرام

وهنا لنذكر أن البيت العتيق بناه الملائكة لآدم، وتوالى البناء بحسب القرون والعصور، وإبراهيم جدده، ثم بنته قريش بعد هذه الفترة الطويلة، ثم جاء الإسلام والبيت كما هو منذ بناء قريش له.وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم يوماً لـعائشة الحبيبة الزكية رضي الله عنها: ( لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لهدمت البيت وجعلته على قواعد إبراهيم )، أي: لجعلت له بابين وأضفت إليه ستة أذرع من الحِجر؛ لأن قريشاً لما بنت البيت بنته بشرط: ألا تبنيه بمال حرام، سبحان الله! يعرفون الحرام والحلال في الجاهلية، فلقلة ما جمعت من مال اقتصرت على الموجود، واختزلت البيت فتركت ستة أذرع مضافة إلى حجر إسماعيل.وكان صلى الله عليه وسلم سيجعل له بابين: باباً شرقياً وباباً غربياً، يدخل الزائر مع الباب الشرقي ويخرج مع الغربي، لكن كون المؤمنين حديثاً إيمانهم وإسلامهم فقد يثورون ويغضبون، فرحمة بهم وشفقة عليهم ترك ذلك، وهذا من سياسية الرشد والوعي والبصيرة، اترك الحال كما هي.وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وتولى الأمر أبو بكر فـعمر فـعثمان فـعلي ، وحصل أن الخلافة انتقلت إلى معاوية رضي الله عنه، وتوفي وتولى ولده يزيد، وجاء بعده مروان بن الحكم، ثم جاء عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وأرضاه وحكم، ما رضي أن يتولى الخلافة من ليس هو بأهل لها، وقام معه رجال في الحجاز وحكم، وحقق ما تمناه رسول الله أو أراده لولا المانع الذي منع، وبالفعل هدم البيت، وبناه وأضاف إليه ستة أذرع من الشمال التي كانت في الحجر وجعل له بابين شرقياً وغربياً، واستمر كذلك مدة من الزمن.وشاء الله أن يستمر الزحف على مكة، واستشهد عبد الله بن الزبير ووقعت البلاد في حكم الأمويين رحمهم الله أجمعين، ثم لما حكموا هدموا البناء من جديد وردوه كما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: ما ينبغي أن يتركه الرسول هكذا ونحن نجدده ونغير، فرد البيت على النحو الذي هو عليه الآن.ولما ولي هارون الرشيد استشار مالكاً إمام هذا المسجد: أرأيت لو نجدد البناء، لنحقق رغبة نبينا صلى الله عليه وسلم التي حققها ابن الزبير ثم ما دامت؟ فقال مالك : أخشى أن يصبح البيت يتلاعب به الحكام والملوك، فاتركه كما كان. فاستجاب الخليفة، ومن ثم استمر البيت كما هو، على حاله الذي تركه الرسول صلى الله عليه وسلم عليه، وبابه مرفوع؛ لأن العرب أذكياء، فكانوا لا يسمحون لمن أراد أن يدخل الكعبة إلا بإذن الحاجب، وحجابة البيت لها أسرة تتناقلها وتتوارثها، فإذا أراد أحد أن يدخل وضع له سلم حتى يدخل البيت، ولو جعلوه في الأرض لكان كل من أراد دخل، لكن ما دام أنه لا بد من سلم وعمل فلا يتمكن من ذلك إلا منع، وبقي البيت إلى الآن بابه مرفوع، هذا هو السر.ومن الخير أن نتركه كما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عن ابن الزبير ، حقق رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم لما بدا له أنه ما بقي من ينازع، ولكن بقي من ينازع، فهذه نبذة عن بناء البيت.يقول تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127]، وانظروا إلى التواضع كيف يتجلى في كون إبراهيم وإسماعيل يبنيان بيتاً في الصحراء في ديار خالية، ومع هذا يسألان الله تعالى القبول؛ ليثيبهما على العمل، ولا يضيع عملهما بدون ثواب ولا جزاء، إعلاناً عن رغبتهما في فضل الله، وتوسلاً إلى الله ليقبل عملهما ويثيبهما عليه: أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127].

تفسير قوله تعالى: (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ...)

ثم قالا: رَبَّنَا [البقرة:128]، أي: يا ربنا! وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [البقرة:128]، فهل هما غير مسلمين؟ الجواب: كيف وهما نبيان ورسولان؟ ولكن معنى هذا: اللهم أدم إسلامنا، وثبت قلوبنا عليه، واربطه معنا واشددنا عليه حتى نلقاك مسلمين؛ لأن الإنسان ما يملك، قد يكون اليوم مسلماً وغداً البرنيطة على رأسه كافراً.فيا جماعة! إياكم ولبس البرانيط، انتبهوا! لا تتشبهوا باليهود والنصارى، لقد كان آباؤكم وأجدادكم مستعمرين مستذلين لبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وما كان واحد يضع برنيطة على رأسه، والآن في المدينة يسوق السيارة خادم والبرنيطة على رأسه، وزوار جاءوا للزيارة وكأنهم اليهود في أشكالهم، أهذا يحبه الله؟ أما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم)؟ أما يجب أن تكون لنا الصورة الخاصة بنا؟ إذا وقف أحدنا في العالم في زيه فيقال: من هذا؟ فيقال: مسلم، فبزيه يدعو إلى الله عز وجل، أما أن نصبح كاليهود والنصارى، تركنا رسالتنا، تركنا إمامتنا، أهملنا قيادتنا، ما أصبحنا دعاة ولا هداة ولا قادة، أصبحنا أذلاء نجري وراء الغرب ونمثل حياته، أهذا هو الإسلام؟ والله ما هو بالإسلام.فإبراهيم عليه السلام يسأل الله أن يثبته وابنه على الإسلام: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [البقرة:128]، حتى الموت، نسلم ماذا؟ قلوبنا ووجوهنا لك، والمسلم من هو؟ المسلم عبد أسلم، بمعنى: أعطى قلبه ووجهه لله، الإسلام مصدر أسلم، يقال: أسلم فلان لفلان ناقته، أي: أعطاه، فلو تسأل أحدًا: ماذا أسلمت لله؟ فقال: لا شيء، إذاً: فلا إسلام بدون عطاء، القلب ينبغي ألا يتقلب طول الحياة إلا في رضا الله، لا هم لك إلا الله، والاتجاه دائماً نحو الله، وتتمثل هذه في الطاعة الصادقة والإخلاص فيها لله، صلاته، صيامه، بناؤه، هدمه، سفره، زواجه طلاقه، كل حياته في دائرة طلب رضا الله، هذا هو المسلم الحق.
مشابهة المسلمين لإبراهيم وإسماعيل في سؤال الثبات على الإسلام
وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة:128]، أقول في سؤال الله تعالى أن يجعلهما مسلمين -بمعنى: أن يثبتهما على الإسلام ويديمهما عليه حتى الموت-، أقول: وعندنا نحن: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، في كل ركعة نصليها نتوسل إلى الله عز وجل بأسمائه وصفاته، نحمده ونثني عليه، ونمجده: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2-4]، أليس هذا هو الحمد والثناء والتمجيد؟ ثم نقول متملقين له: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، لا نعبد إلا أنت، ولا نستعين بغيرك، لم هذا التملق؟ لأننا لنا حاجة سامية قل من يظفر به ويحوزها، حمدنا الله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، أثنينا عليه: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]، مجدناه: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، من علمنا هذا؟ الله، يقول لنا: يا من يريدون أن يدعوني ويسألوني قضاء حوائجهم! هذا هو الطريق، احمدوه، اثنوا عليه خيراً، مجدوه، ثم اسألوه حاجتكم.وهذا بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم غاية البيان، فقد قام رجل فرفع يديه يدعو: رب! أعطني، والرسول صلى الله عليه وسلم يسمع، ولكمال أدبه وسمو أخلاقه ما واجهه، فقال لأصحابه: ( لقد عجل هذا -بمعنى: استعجل- إذا أراد أحدكم أن يسأل الله شيئاً فليحمد الله وليثن عليه وليصل على نبيه ثم ليسأل حاجته )، هل عرف السامعون هذا؟ هذه هي الوسيلة، ما هي بحق فلان وجاه فلان والأباطيل، ومن قال: ما عرفنا هذا يا شيخ! قلنا: إي والله، ما جلسنا هذا المجالس ولا تعلمنا. يقول صلى الله عليه وسلم: ( إذا أراد أحدكم أن يسأل الله شيئاً فليحمده وليثن عليه وليمجده وليطلب حاجته )، أما (ارب أعطني) مباشرة فهل أنت تأمره؟ هل موقفك موقف السلطان الآمر، كأنك تقول: (رب اغفر لي وارحمني) بالقوة؟! لا بد أن تظهر في مظهر المسكنة والحاجة والفقر إليه.وقد قلت كثيراً: العوام يحسنون هذا، العامي إذا أراد أن يسألك شيئاً يقول: يا سيد، أنت كذا، أنت معروف عند الناس أنك من أهل الخير، أنت شريف، ما شاء الله، ثم يقول: أعطني، وهذا عرفناه منهم وعايشناهم، ما يأتيك من أول مرة فيقول: أعطني أبداً، لا بد أن يذكر كمالك وخيرك ونسبك وشرفك ثم يسألك، فالله عز وجل أحق بهذا التملق والتزلف، ثم هو علمنا هذا، فمن أنزل الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]؟ من فرضها في كل ركعة، أليس الله؟ ومع هذا لا نعرف، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:2-5].فهل لاحظتم التملق؟ لا نعبد إلا أنت ولا نستعين بغيرك، لم نقول له هذا؟ لأنا نريد أن نطلب شيئاً غالياً: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، وكيف نسأل الهداية ونحن نصلي؟ معنى هذا: أتم هدايتنا وثبت أقدامنا عليها حتى نلقاك مؤمنين صالحين مستقيمين. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]، ألا وهو الإسلام الذي سأله إبراهيم وإسماعيل: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة:128]، فالصراط المستقيم الذي نطلب الله في كل ركعة هو الإسلام، أن نحيا مسلمين، ونموت مسلمين، وقد أمرنا إذ قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، فمن أسلم ومات على غير الإسلام ما كسب شيئاً ولا استفاد آخر، فلا بد من مواصلة إسلام القلب والوجه لله حتى الموت.

معنى قوله تعالى: (ومن ذريتنا أمة مسلمة لك)

إذاً: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة:128]، سبحان الله! ما اكتفى بدعوته له ولابنه، قال: واجعل من ذريتنا أمة مسلمة، قالت العلماء: ما دعا بهذه الدعوة سوى إبراهيم؛ لأنه طلب أن يوجد من أولاده أمة ذات البلايين، وقد كانت، إنكم أيها المسلمون دعوة إبراهيم، وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة:128]، وقد استجاب الله.وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وقد سئل عن أمره أو حاله أو شأنه فقال: ( أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة أخي عيسى )، وهذه الأمة المحمدية الإسلامية من عهد نبيها إلى يوم القيامة دعوة إبراهيم، سبحان الله! وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة:128]، مسلمة له في ماذا؟ مسلمة قلوبها ووجوهها، وكيف يسلم المرء قلبه ووجهه؟ قلنا: ذلك أن نقول له: لم تبني هذا البيت؟ فيقول: من أجل أن أستر عورتي، وأن أقي نفسي وأهلي من الحر والبرد لنذكر الله ونشكره، مررنا به يوماً يهدم: لم تهدم؟ قال: خشيت أن يسقط علينا فيؤذينا ونحن نعبد الله، أو يؤذي مؤمناً يعبد الله عز وجل، لم طلقت؟ لم تزوجت؟ لم سافرت؟ لم قمت؟ لم قعدت؟ فيقول: نحن ندور في فلك عبادة الله، يا فلان! لم قصرت ثوبك، الشبان ثيابهم طويلة تسحب في الأرض يتباهون وأنت قصرته إلى نصف ساقك لم؟ قال: لله، أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أهمية الاستسلام في لزوم السنة في المظهر

جاءني اليوم رجل من الصالحين، شيخ كبير مثلي، قال لي: يا شيخ! أنت تذكر الناس فذكرهم بأمرين عظيمين. قلت: ما هما؟ قال: ثياب طويلة تسحب في الأرض، ووجوه حليقة ما فيها شعر، قلت له أبشر.وأنا لست بمفت، الإفتاء له لجنة خاصة وأنا لا أفتي، أنا أبلغ دعوة الله فقط، فأقول: أيها الفحول! استعينوا بالله، توكلوا على الله، خافوه، أسلموا له قلوبكم ووجوهكم، وأعف وجهك من حلقه حتى لا تصبح كالمرأة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال )، فكما لا يسوغ ولا يعقل أن المرأة تلصق لحية جميلة على وجهها، فكذلك الرجل، فتاة في العشرين من عمرها تجعل لحية جميلة عطرة أو حمراء أو حمراء أو سوداء، هل تقبلون؟إذاً: وهن لم يقبلنكم؟ حتى هن غير راضيات، كيف تكون مثل امرأتك؟! ومع هذا فنحن أتباع النبي فقط، لولا أنه قال: ( خالفوا المشركين: احفوا الشوارب واعفوا اللحى )، لما كنا نتكلم، ثم المؤمن يقوى -على الأقل- على أن يترك نصف اللحية، على الأقل يكون شاربه أسود، هذا فحل، ما هو امرأة، ويترقى حتى يصبح رجلاً.أما الثوب فلم تطيله؟ قل لي بربك: لم ثوبك يمس الأرض والطين والتراب، أهذا في صالحك؟ تريد أن تتكبر على الناس؟ أعوذ بالله! أمؤمن يتكبر؟ الجواب: لا، لم؟ تقليد أعمى فقط، حلق اللحية، وطول الثياب وغير الثياب ما هو إلا تقليد فقط، فلان فعل فسنفعل، ما هو عن علم ولا عن بصيرة، فإذا جاهد العبد نفسه، وأراد أن يخلص حياته لربه فما يبالي، أنا أتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نتبع العالم الفلاني، ولا الشيخ الفلاني، هذا هو المسلك.

أهمية الاستسلام لقضاء الله تعالى وقدره

وأعود إلى معنى الإسلام فأقول: جاءني رجل أمه مات ولدها وما زالت في الحزن، فقال: كيف نفعل معها؟ قلت له: إذا كانت تسمع بينت لها، فأقول: يا معاشر المؤمنين والمؤمنات! هل نحن لله أم لا؟ وهل نرجع إليه أم لا؟ سنرجع أحببنا أم كرهنا؟ وهل على عندكم على هذا قرآن يشهد بهذا؟الجواب: نعم، قال الله تعالى: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156]، ما أصابت أحدنا مصيبة وقال فيها: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156] إلا صلت عليه الملائكة، أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ [البقرة:157]، فنحن كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( العين تدمع، والقلب يحزن، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون، ولكن لا نقول إلا ما يرضي الرب تعالى ).إذاً: لم تبقى المؤمنة في حزن دائم؟ أليست تعرف أن ولدها هو عند الله وهو لله؟ أيودعك الله وديعة ثم يأتي يوم فيقول: رد علينا وديعتنا فتقول: لا؟فلهذا المؤمن والمؤمنة لا يزيد ألمهما ولا حزنهما على أكثر من ثلاثة أيام، إلا أن المرأة تعتد أربعة أشهر وعشرة أيام لعلل وأحكام أخرى، أما الحزن في القلب فينبغي أن يزول في ثلاثة أيام، وتعود إلى لباسها، وإلى عبادتها، وإلى حالها؛ والعلة هي عدم البصيرة، لو عرفت أنها أصيبت بمصيبة وأن هذا المصيبة عظيمة وأن الله يعوضها أعظم منها للجأت إلى كلمة: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156]، فيكفيها ذلك، فما دامت تعرف أنها لله هي وولدها إذاً: دعاه الله فليجب، هي أمانة موضوعة عندك، ثم أنت وإياه راجعان إلى الله، فلنعمل على رضا الله بحبه وذكره وعبادته وطاعته.وعلى كل حال: لابد من الذكرى فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55]، لو كانت هذه المؤمنة عند من يذكرها بالله عز وجل وما عنده وما لديه فلن يستمر حزنها.فهذه أم سليم عندما مات طفلها، غسلته وكفنته وغطته، ثم جاء والده يسأل؟ فقالت: إنه في عافية، في راحة؛ حتى لا تزعج والده أو تحزنه، فأين لنا أن نكون كـأم سليم ، المهم: ألا نسخط الله علينا في حكمه وقضائه فينا، نسترجع الله عز وجل ونصبر ونواصل ذكره وتقواه.ونعود إلى السياق الكريم: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة:128]، هذا الدعاء حصل، ونحن منها، والحمد لله، أعظم أمة على وجه الأرض، والله! ما وجدت أمة أعظم من هذه الأمة، ويوم القيامة يبعث النبي ومعه الفرد والفردان والعشرة والمائة، وأعظم أمة هي أمة موسى وأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن ليست أمة موسى شيئاً بالنسبة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويكفي أنه مضى على بعثته ألف وأربعمائة وزيادة، إذاً: استجاب الله لدعوة إبراهيم وإسماعيل فكانت هذه الأمة.

معنى قوله تعالى: (وأرنا مناسكنا)

ثم قال الخليل عليه السلام: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا [البقرة:128]، لما فرغ إبراهيم وإسماعيل من البيت قال إبراهيم عليه السلام: يا ربّ! لقد فرغنا من بناء البيت فكيف نعبد الله فيه؟ فأنزل الله جبريل عليه السلام، وعلمه مناسك الحج من الطواف إلى السعي، إلى الذبح في منى، إلى الوقوف بعرفة، إلى النزول بمزدلفة، وحدد له حتى حدود الحرم، استجابة لقول إبراهيم: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا [البقرة:128]، فأراه الله تعالى المناسك.ولم سميت العبادة منسكاً؟ الأصل في المنسك الغسل، يقال: نسك ثوبه: إذا غسله ونظفه، فكل عبادة تسمى نسكاً لأنها تغسل القلب وتزكي النفس وتطهرها، فالمناسك جمع منسك، كل عبادة نعبد الله بها فهي نسك، وسمي الذبح أيضاً نسكاً: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ [الحج:67]، لأن الذبح لله من أعظم القربات التي تزكي النفس، ذبح شاة أو بعيراً أو بقرة لله، هذه العبادة تعمل العجب في تزكية النفس، حتى أطلق عليها: النسك، فكل ذبح لله هو نسك، وكل مشاعر الحج وتلك العبادات من رمي الجمار إلى الوقوف بعرفة هي نسك، أي: عبادة تزكي أنفسنا وتطهرها. وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا [البقرة:128]، وها نحن -والحمد لله- نحج ونعتمر على نحو ما بين الله عز وجل لإبراهيم عليه السلام، والحمد لله.

معنى قوله تعالى: (وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم)

وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:128]، سأل الله أن يتوب عليه، أن يديم التوبة. واعلموا أننا لو عبدنا الله لم نفتر لحظة ما أدينا حق الله بعبادته، فغفلة فقط نغفلها نحتاج إلى أن يتوب الله علينا، فلا تفهم أبداً أنك أديت ما عليك، وأنك ما أنت في حاجة إلى توبة، اسأل التوبة في كل ساعة؛ لأن الرجوع إلى الحق أن تذوب في ذات الله، ولو ذبت ذوبان الثلج ما عظمت الله حق عظمته، ولا رهبته حق رهبته، فلهذا دائماً نسأل الله تعالى أن يتوب علينا أو يديم توبتنا ورجوعنا إليه عز وجل.وقوله: إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:128] وسيلة كالأولى، إذا سأل العبد ربه شيئاً يتوسل إليه بأسمائه وصفاته: رب اغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم، رب يسر لي كذا إنك أنت القوي المتين، رب افعل بي كذا لأنك كذا وكذا، هذا هو التوسل بأسماء الله وصفاته، أو أن تقول من أول مرة: يا رحمن يا رحيم، يا علي يا كبير، يا كريم! وتسأل حاجتك، سواء قدمت أسماء الله أو أخرتها، هذا التوسل الذي جاء به القرآن الكريم وبينه النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين، أما التوسل بغير هذه فهو من أباطيل الشياطين، وخاصة: بحق فلان وجاه فلان، وما زال هذا التوسل شائعاً في عوام المسلمين، ولا معنى له أبداً، فحين تقول: أسألك بحق فلان؛ فمن هذا الذي له حق على الله؟

تفسير قوله تعالى: (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ...)

ثم قال: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129]، واستجاب الله، وبعث من أولاد إسماعيل عليه السلام محمداً صلى الله عليه وسلم. رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129] من أنفسهم، ولهذا ما كان النبي الكريم من الصقالب البيض، ولا من السود ولا من غيرهم، بل من ذرية إسماعيل، واسمه: محمد بن عبد الله في سلسلة ذهبية إلى عدنان ، ونهى عن الزيادة في النسب فوق عدنان. وقد حفظ الله رسولنا وهو في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، ما حصلت في أرحامه زنية ولا اختلط ماء الفحل بماء آخر، ما فاز بهذا الشرف أحد، من عبد الله إلى عدنان ، فحفظ الله نسبه في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، دعوة إبراهيم. وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129]، مهمة هذا الرسول ما هي؟ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:129]، والسنة هي: الحكمة، وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129]، هذه وسيلة ثالثة أم لا؟ وهل استجاب الله؟ نعم، هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الكتاب والحكمة ويزكيهم؟ إي والله العظيم، وقد بينا أن تلك التربية في حجور الصالحين، في حجر النبي وأصحابه والتابعين ما عرفت الدنيا مثلها أبداً، ولا نظير لها.وقررنا غير ما مرة أنه إن أردنا صادقين أن نعود إلى أن نكمل ونسود ونعز ونطهر فلنرجع إلى الكتاب والسنة، نجلس هذا الجلوس كل ليلة طول العمر، في قرانا وفي جبالنا وسهولنا؛ فالأمم غيرنا إذا فرغت من العمل وغابت الشمس انتشروا في الأباطيل والترهات والخرافات أو في المناكير والخبث، وهذه الأمة إذا غسلت يدها من العمل عادت إلى بيوت الله، تتعلم الكتاب والحكمة، وتزكي نفسها بما تسمع وما تعمل، فلا تزال كذلك حتى تصبح نوراً، وهذا النور لا بد أن ينير الله به الحياة كما كانت.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #162  
قديم 15-09-2020, 05:13 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,900
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (87)
الحلقة (94)




تفسير سورة البقرة (56)


إن من فضل الله على هذه الأمة أن بعث فيها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه أفضل كتبه القرآن الكريم، فكان صلى الله عليه وسلم دعوة أبيه إبراهيم، فأتى عباد الله عز وجل يتلو عليهم آياته، ويعلمهم معاني الكتاب وهي الحكمة المحمدية، ليعرفوا الحلال والحرام، والحق والباطل، والخير والشر، وهذا هو ما دعت إليه ملة إبراهيم عليه السلام، ولا يرغب عنها إلا من جهل ما تحتاج إليه نفسه من الطهر والصفاء، الذي يقود إلى الفوز والفلاح.

تابع تفسير قوله تعالى: (ربنا وابعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياتك ...)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:129-132]، إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم. معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129]، اذكروا أن هذه دعوة إبراهيم الخليل مع ولده إسماعيل عليهما السلام، سألا وطلبا ربهما وهما يبنيان البيت العتيق، الذي هو سرة هذا الكون، يسألان الله عز وجل أن يبعث في ذريتهما رسولاً يبعثه من ذريتهما لا من غيرهما: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129]، أي: من جنسهم، ومهمة هذا الرسول ما هي؟ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]. يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [البقرة:129]، أي: يقرؤها، وهي آيات القرآن الكريم.

أثر تلاوة الآيات القرآنية على المؤمنين

وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]، فلنتأمل هذا المطلب الغالي السامي الرفيع، وهو طلب إبراهيم وإسماعيل أن يكون هذا الرسول الذي يبعث في ذريتهما مهمته أن يتلو عليهم آياتك يا رب، ومعنى هذا: أن تلاوة القرآن على المؤمنين والمؤمنات تزيد في نورهم، وطاقة إيمانهم، تعلمهم وتعرفهم وترفع مستواهم إلى أن يصبحوا أولياء لله ربانيين، ومعنى هذا: أن المؤمنين إذا لم يتل عليهم كلام ربهم، ولم يسمعوا، ولم يصغوا إليه طول حياتهم؛ معنى هذا أنهم يجفون، ييبسون، قد يحترقون، فلهذه التلاوة آثارها، وإلا لما سألا ربهما هذا. ومما يدل على هذه الحقيقة، وهي أن المؤمنين والمؤمنات إذا كان يتلى عليهم كتاب الله ويصغون إليه ويستمعون ويتفكرون ويتدبرون، فهذه الحال تجعل إيمانهم ينمو ويزيد، وعلومهم ومعارفهم أيضاً تقوى وتزيد، وإذا حرموا من هذا تعرضوا للهلاك والموت، مما يدل على هذه الحقيقة قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، وصدق الله العظيم، إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران:100] من اليهود والنصارى يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، وقد تجلت هذه الحقيقة، والمطلوب هو: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ [آل عمران:101]، قد يتعثر المؤمن، ولكن يستحيل أن يرتد مؤمن عن دين والله وينتكس ويرتمي في أحضان الكفر والشرك والباطل وهو يسمع آيات الله تقرأ عليه طول حياته. فمتى ما أصبحت آيات الله تتلى على المؤمن والمؤمنة فسوف يترتب على ذلك قساوة القلب والجمود، والبعد عن نور الله، ومن ثم يصبح أهلاً لأن ينتكس ويعود إلى الوراء.

زيادة الإيمان وتحصيل المعرفة والمناعة بتلاوة القرآن الكريم

أعيد إلى السامعين والسامعات قول الخليلين: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [البقرة:129]، ما المراد من هذا؟ هل أن يقرأ عليهم القرآن كما يقرأ على الموتى؟ مع أن تلاوة القرآن على المؤمنين والمؤمنات تحفظ عليهم إيمانهم، تزيد في طاقة إيمانهم، ترفع مستوياتهم العقلية، يزدادون فهما وعلماً، تطهر نفوسهم، على الأقل يحتفظون بكمالهم لا يفقدونه، والبرهنة القطعية والدليل القاطع هو قوله تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:101]، من أين يأتي الكفر؟ كيف يحصل لكم الردة، كيف تنتكسون وأنتم تتلى عليكم آيات الله؟ ومن يوم أن فقد المؤمنون تلاوة آيات الله عليهم، ومنذ أكثر من ثمانمائة سنة وهم هابطون إلى الحضيض، إذ ما أصبح المؤمنون من قرون تتلى عليهم آيات الله صباحاً ومساء، أي: يجتمعون في بيوت ربهم أو بيوتهم ويتلى عليهم كتاب الله وهم مصغون متدبرون متأملون، الذي عرفناه -وهو الواقع- أنهم لا يجتمعون إلا على قراءة القرآن على الميت، سواء في المقبرة أو في بيت الهالك. أما أن يجتمع اثنان وثلاثة وأربعة تحت ظل شجرة، تحت ظل جدار، في منزل، في بيت الله ويقول أحدهم: اقرأ علينا كتاب الله، أسمعونا آيات الله، فتطأطأ رءوسهم وهو يبكون ويتأملون؛ فهل هذا واقع؟ فمن هنا أتينا. وسبحان الله! إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في ضراعتهما ودعائهما يقولان: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا [البقرة:129] لِم؟ ما مهمته؟ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [البقرة:129]، يقرأ عليهم القرآن، أما كانا عليهما السلام واعيين بصيرين عالمين، ما المقصود من أن يقرأ عليهم القرآن؟ هل على الموتى حتى يثابوا على ذلك وينقذوا من النار كما نفهم نحن؟ لِمَ يتلو عليهم آيات الله؟أولاً: لزيادة الإيمان.ثانياً: للعلم والمعرفة.ثالثاً: للحصانة والمناعة حتى لا يتسرب إليهم دخان وظلمة الكفر من حولهم؛ لأن تلاوة القرآن مانع من أعظم الموانع عن الفسق والفجور والردة والكفر، والدليل القاطع قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، وصدق الله العظيم، والله! ما أطاع مؤمن كافراً من هذا النوع، من هذه الطائفة التي تريد محو الإسلام وإزالة آثاره واستجاب لها وأطاعها إلا ارتد؛ لأن الذي يخبر بهذا هو خالق الغرائز وطابعها، هو العالم بالنفوس، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، أحببتم أم أبيتم.وقوله تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ [آل عمران:101]، من أين يأتيكم الكفر؟ سبحان الله! كيف ترتدون والحال أن آيات الله تتلى عليكم وفيكم رسوله؟ والجواب: يا رب! ما تليت علينا آيات الله قروناً، ما رأينا من يقول: تعالوا أسمعكم كلام الله، لا في البيت ولا في السوق ولا في المصنع، وإنما القرآن يتلى على الموتى لا على الأحياء، وسبحان الله! متى نفيق؟ ما زلنا وإلى الآن نقول: هل فرغ أحد من عمل في مصنع أو في متجر أو في مكان وقال: من يقرأ علينا شيئاً من القرآن حتى نخشع ونبكي ونتدبر، هل أهل بيت من بيوتكم بعد الفراغ من الطعام أو كذا يقول أحدهم: من يسمعنا شيئاً من كلام ربنا فيقرأ عليهم؟ هل جماعة يعملون في دائرة من الدوائر الحكومية، وفي ساعة الاستراحة يقول أحدهم: يا جماعة! من يسمعنا شيئاً من كلام ربنا؟ هل هذا واقع؟ لا وجود له، إذاً: هل يحصل المخوف أم لا؟ ممكن أن تفسد القلوب، وقد فسدت، وهل نحن في خير؟ إن الحسد والبغض والكبر والنفاق وأمراض القلوب من الغش والخداع كلها أكلت قلوبنا، ما هناك أبداً ما يدفعها أو يصرفها، لِم؟ لأننا لا نجتمع على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129]، حتى يفهموا لغته ولسانه، ويعرفوا طبيعته وما هو عليه: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [البقرة:129]، لم يتلو عليهم الآيات؟ يقرأ عليهم القرآن لأي شيء؟ لأن المناعة كل المناعة في سماع كلام الله، أيسمع كلام الله طول عمره وينفذ الشيطان إلى قلبه ويرتد ويكفر ويخرج من دينه؟ والله! ما كان.

دور المساجد في تعليم الكتاب والحكمة بعد التلاوة القرآنية

يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ [البقرة:129] بعد ذلك الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:129]، أولاً: التلاوة الدائمة؛ لأنها الغذاء أو الطاقة التي لا بد منها، تزداد يومياً، ثم يعلمهم ما يحمله الكتاب من بيان أحكام وشرائع وقوانين وآداب وأخلاق، ويزيد بعد ذلك الحكمة التي هي بيان رسول الله، تفسير رسول الله؛ لأن الرسول هو الذي يبين ويفسر ويعلم، فيحفظون إيمانهم، ويزدادون علماً بمعرفة الكتاب والسنة. أيها المؤمنون! هل نستطيع أن نأخذ في هذا المسلك من الليلة؟ أم أننا مكبلون؟ حين تجلس مع إخوانك في البيت، مع أخيك مع أبيك قل: اسمع يا أبي، سأقرأ عليك شيئاً من القرآن. أو يقول هو: يا بني! أسمعني شيئاً من القرآن، أو جلست مجلساً ما في مكان ما، استرحتم، فتقول: من يسمعنا شيئاً من القرآن؟ لِم؟ لأن هذا السماع يقوي إيماننا، يحفظ ما عندنا، إن لم يزد الإيمان فإنه يحفظه.ثم بعد ذلك هذه المجالس الضرورية في بيوت الله، بين المغرب والعشاء على الأقل، وقت -والله- مناسب وملائم، وصالح وينفع ولا يضر، إذ كل الناس إذا تركوا العمل وفرغوا منه وغسلوا أيديهم وغيروا ملابسهم يذهبون إلى الراحة، اليهود والنصارى والمشركون يذهبون إلى اللهو إلى الباطل إلى اللعب ونحن إلى أين نذهب؟ يجب أن نذهب إلى بيوت ربنا، وهي موجودة في قرانا، في مدننا، في أحيائنا والحمد لله متوافرة، لِم لا نحمل نساءنا وأطفالنا ونذهب إلى بيوت ربنا نبكي بين يديه، نستمطر رحماته، نتعلم هداه؟ كيف تكون حالنا يومئذٍ، إذا أصبحنا كل ليلة طول العام نتعلم الكتاب والحكمة؟ كيف لا نصبح علماء ربانيين حكماء لا نضع شيئاً إلا في موضعه؟ هكذا الآيات تتلو هذه المعاني وتكررها والمسلمون في غفلة كاملة، هل بلغكم في بلد ما في الشرق في الغرب في الوسط في الشمال أو الجنوب أن أهل البلد أخذوا على أنفسهم العمل بهذا الهدي الإلهي والهدى الرباني، وأصبحوا يجتمعون بنسائهم وأطفالهم في بيوت الله يتلقون الكتاب والحكمة كل يوم؟ هل بلغنا الكمال في معارفنا وآدابنا وأخلاقنا؟ الجواب: لا، ضاع كل شيء، لو تطلع على عوراتنا وتنكشف أمامك سوآتنا فشاهدت بغضنا وحسدنا وأمراضنا لقلت: هؤلاء ما هم بمؤمنين! هذا هو الواقع، كيف نستقيم، كيف نصفو، كيف نطهر ونحن لا نتعلم؟ نطالب بالمحال.

دور المربي في التعليم والتزكية

قال تعالى: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]، أولاً: يتلو علينا آيات الله.ثانياً: يعلمنا المعلم الكتاب ومعاني الكتاب وهي الحكمة المحمدية، وبذلك نعرف الحلال والحرام والحق والباطل، والخير والشر، وما يسمو بالعبد وما يهبط به. وزيادة: أن هذا المربي يزكينا، وما معنى أنه يزكينا؟ هل يعطينا شهادات تزكية أننا ربانيون، فيشهد بالباطل؟ ما معنى أنه (يزكينا)؟ اقرءوا قول الله عز وجل: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]، خذ من أموال المؤمنين صدقة من شأنها: أنها تطهرهم وتزكيهم، فالتزكية هي: تطهير النفس، وهل النفس فيها نجاسات قاذورات؟ إي والله لهي أفظع من الخرء والبول والقيء والدم، والله! لأفظع وأشد ضرراً. إذاً: (يزكيهم): يطهر تلك النفوس مما يلي:أولاً: من أوضار وأوساخ الشرك والعياذ بالله، والشرك ما هو؟ الالتفات إلى غير الله، النظر إلى غير الله، الغفلة والإعراض عن الله، ووضع الرأس والنفس والهم على هذه الحياة، من يزيل هذا الأذى أو القذر إن لم يكن المربي بالكتاب والحكمة؟الغفلة عن الله تودي بحياة العبد، ومن يزكيك هو الذي يزيل تلك الأوساخ والقاذورات، من أعظمها الالتفات إلى غير الله، وهو الشرك بمظاهره الخفيفة والجلية.ثانياً: يطهرها من أمراض أخرى، كالنفاق في النفس، كيف يزال وبِم يعالج؟ يعالجه هذا الحكيم الذي نجلس بين يديه يزكينا.الأمراض التي نشكو منها: الحسد، البغض، الغيرة، العداء، حب الذات، حب النفس، الكبر، هذه الأمراض كيف تعالج؟ والله! ما تعالج ولا يشفى منها العبد إلا بالمربي الحكيم الذي يتلو آيات الله ويعلم الكتاب والحكمة، هذا الذي يقوى ويقدر على تزكية النفوس.وهذا -يا معشر المستمعين- لا يتم في اجتماع كهذا، بل أهل كل حي في مسجدهم طول العام، بنسائهم وأطفالهم، بذلك تزكو النفوس وتطيب الأرواح وتطهر وتتأهل للكمال الأخروي والدنيوي.
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #163  
قديم 15-09-2020, 05:13 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,900
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )

الحاجة إلى التربية في بلاط الصالحين

وشيء آخر أكرره: ألسنا نشكو من المقاطعات والعداء والتباعد عن بعضها، وقلة الرحمة وانعدام الأخوة، والكل يعمل لنفسه غير مبالٍ بجاره ولا بأخيه، لا بقريب ولا ببعيد، هذه كيف تزال؟ كيف نصبح كأننا نفس واحدة؟ وهذا هوا لمطلوب، وهذا هو المفروض فينا: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر )، ( المسلم أخو المسلم ). هل يوجد بين المسلمين زنا أم لا؟ أنا محتار وأنا في كرب، وأنا في هم: كيف يزني المؤمن بامرأة أخيه المؤمن أو بابنته أو أخته؟ كيف يحطم كرامته ويقضي على شرفه ويدوس وجوده بيديه ورجليه؟ أهذا موجود أم لا؟ أتوجد سرقات وتلصص وخيانة وإجرام؟ والله! لقد وخمت الدنيا بهذا بين المؤمنين، وسلوا المسئولين عن السجون في العالم وما يجري بين المسلمين، ما سبب هذا؟ سببه أننا ما ربينا في حجور الصالحين، ما تعلمنا الكتاب والحكمة، ولا تليت علينا آيات القرآن ليل نهار، وطول عمرنا وامتداد حياتنا نعيش كما تعيش الحيوانات، ورثنا كلمة مؤمن ومسلم أو الصلاة فقط، مع وجود إيمان هزيل ما هو بالقوي، ما هو بالقادر على أن يرفعنا ويطهرنا، ماذا ننتظر وكل يوم نتأخر مسيرة جديدة؟ فما الطريق، ما السر؟ ماذا نفعل؟ قد يقول القائل: يوم توجد الخلافة، وأنا قلت غير ما مرة: لو يسود عمر رضي الله عنه ويحكم فلن يستطيع أن يفعل شيئاً إلا من طريق واحد، وهو أن نسلم لله قلوبنا ووجوهنا، ونحقق أننا مسلمون حقاً وصدقاً. فعدنا من حيث بدأ إبراهيم وإسماعيل، لا بد أن نصغي ونسمع لكلام الله طول عمرنا، الليل والنهار والآيات تتلى علينا، فلم يبق ملهى ولا ملعب ولا ممسخ، فهذه أمة تريد السماء، إذاً: لتعش في بيوت الله، تقضي ساعاتها في المزارع والمصانع والمتاجر، تعمل بجد وصدق، ولكن لا بد من ساعات تتلقى فيها نور الله ورحمة الله، لتخرج من ورطة الجهل الذي يحمل على الحسد والبغض والعداوة وسائر المفاسد والشرور.فنساؤنا كأطفالنا كرجالنا، الكل تتلى عليهم آيات الله ويعلمون الكتاب وما يحويه من هدى، والحكمة وما تفصل وما تبين من المعارف التي تضمنها كتاب الله، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأولادهم وأتباعهم في ثلاثة قرون.

تحصيل الطهارة بتلاوة القرآن وتعليم الكتاب والحكمة

ماذا نفهم من هذه الآية العظيمة؟ إبراهيم وإسماعيل يبنيان البيت ويسألان الله تعالى أن يجعل في ذريتهما نبياً رسولاً منهم مهمته: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [البقرة:129] أولاً، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:129] ثانياً، وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129] يطهرهم، ترتفع هممهم ومروءاتهم وكمالاتهم الآدمية البشرية، فيصبحون ككواكب في السماء ينيرون الأرض، وهل تحقق هذا؟ والله! تحقق طيلة ثلاثمائة سنة، ما اكتحلت عين الوجود بأمة أطهر ولا أعدل ولا أرحم، ولا أشد إخاء ولا صفاء من تلك الأمة، ومن يوم أن أبعدوا القرآن عنهم وحولوه إلى الموتى، وأصبح ما يسمع به المرء ولا يتلى عليه من حينها أخذنا الظلام حتى لصقنا بالأرض. هل تذكرون أن القرآن في العالم ما يقرأ إلا على الموتى؟ من يتحداني؟ أروني من جلس مع أخيه وقال لوجه الله: أسمعني شيئاً من كلام ربي؟ وإن وجد واحد أو عشرة فهل يكفي في إصلاح ألف مليون؟ ماذا نصنع بهذه الآية: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [البقرة:129]؟ معناها: إذا لم نسمع آيات الله ولم تتل علينا ولم تقرأ فإنه يجف إيماننا وييبس، ما نستطيع أن ننمو، بل يتسلط علينا الشياطين فنهبط؛ لأن المناعة كل المناعة في تلاوة القرآن عليكم، وفي سماع كلام نبيكم.

أهمية إرسال المعلم المربي مع الطلاب المبتعثين إلى الغرب

هيا نعيد الآية مرة أخرى، اسمعوا هذا البلاغ الإلهي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:100]، لبيك اللهم لبيك، مر نسمع ونطع. إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا [آل عمران:100]، من هذا الفريق؟ الأساتذة الذين جلسنا بين أيديهم في الشرق والغرب نتعلم العلم والمعرفة، وتخرجنا نحمل الشهادات وتولينا المناصب والكراسي، أهذا هو واقع هذه الأمة أم لا؟ والله! إنه لهو، ونشكو ونتألم: كيف لا نرجع إلى ديننا، كيف لا نعود إلى كتاب ربنا؟ لِم لا نحكم شرع الله؟ لم نبعد هذه الشريعة ونعتاض عنها بالقوانين؟ ونسينا العلة ما هي. لقد أتينا من قبل قوله تعالى: إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران:100]، أولاً: من أهل الكتاب، ما هم بجهال، بل علماء اليهود والنصارى المتخصصون في إفساد قلوب المؤمنين وإبطال نور الإيمان بينهم، جلسنا بين أيديهم وبعثنا أولادنا، قرءوا وتعلموا وتخرجوا من أكثر من خمسين سنة، أليس ذلك هو الواقع. فالله ماذا يقول؟ إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، من يقول: لا يستطيعون؟ ثم ماذا قال بعد ذلك؟ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]، وهذا تعجب، فمن لم تتل عليه آيات الله صباح مساء طول عمره، وابتعد عنها لا يسمعها فوالله! ليرتدن. وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]، لو كنا بصراء وعرفنا هذه الآية من خمسين سنة فهل كنا سنبتعث أولادنا هكذا؟ أولادنا حين نبعث بهم إلى روسيا إلى بلغاريا إلى يوغسلافيا، إلى أيطاليا، أسبانيا، أمريكا؛ لأننا وجدنا أنفسنا غير متعلمين، نحتاج إلى العلم الصناعي لننهض به، حين نبعث البعثة من خمسين طالباً إلى ألمانيا، فألمانيا قالت: تفضلوا فنحن نقبل أبناءكم ليتعلموا الطب أو الكيمياء أو الهندسة أو الطيران، حين نبعث هذه البعثة نبعث معها إماماً من أئمة الهدى والقرآن والبصيرة، ونتخذ لهم سكناً خاصاً، ومن ذلك السكن غرفة لأداء الصلوات الخمس، والإمام يصلي بهم، ويتلو عليهم القرآن الكريم صباح مساء.فيدخلون فيجلسون بين يدي الكافر، قد يلوك بلسانه فيرمي كلمات ولكن المناعة موجودة، يسمعون وقلوبهم لا تثق فيما يقول، ويتعلمون المادية التي يتعلمونها ولا دخل أبداً لذلك في القلوب، فيذهبون ويعودون علماء صناعة، وفي نفس الوقت أنوارهم تغمرهم. أما كيف فعل المسلمون ذلك في الواقع؟ كيف بعثوا أولادهم؟ فالجواب: من ساعة أن يدخل ينغمس في أوضار الباطل والشر والخبث والفساد، يأكلون الحرام، يشربون الحرام، يشاهدون الحرام، ما تمضي عليهم سنوات إلا وقد عموا، وفقدوا إيمانهم، حتى إذا عادوا يعودون منافقين، إذا وجدوا الأمة أو الدولة مسلمة يراوغون وينافقون وقلوبهم مظلمة، فكيف بهؤلاء يسوسون ويسودون؟ هل عرف السامعون هذه الحقيقة؟ والله! لكما تسمعون، هذا كلام الله، هذا نور الله وهدايته، وإلى الآن هل تفطنوا؟ ما تفطنوا، العمال الذين يعملون في بلاد الكفر الآن جاءهم جماعات من الدعاة عوام، واستطاعوا أن يردوهم إلى الإسلام، أصبحوا يصلون ويتركون الخمر والفجور على الأقل.يقول تعالى: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [البقرة:129]، كيف يتلو عليهم؟ يقرأ عليهم، هل مرة واحدة تكفي؟ بل دائماً، فهذا النور إذا انقطع متنا. يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:129]، يشرح لهم القرآن ويبين لهم السنة حتى يصبحوا علماء رجالاً ونساءً كباراً وصغاراً، وفوق ذلك يزكيهم، لا بد من عالم رباني في مسجد الحي، أو مسجد القرية، عالم ذي بصيرة يعالج ما في القلوب، لا يوصل المعاني فقط، يوجهها إلى النفوس، يزكي هذا من بخله، هذا من حسده، هذا من كبريائه، هذا من مرض كذا وكذا، يوماً بعد يوم حتى تصفو النفوس وتطيب، أما أن نعيش هكذا فالواقع شاهد ما يحتاج إلى برهنة.

معنى قوله تعالى: (إنك أنت العزيز الحكيم)

ثم قال الله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129]، هذه وسيلة، كما توسلا بالأمس فقالا: أنت السميع العليم، فحقق طلبنا. والعزيز: الغالب الذي لا يغلب، العزيز الذي لا يمانع في شيء أراده أبداً، القاهر الذي لا يعجزه شيء، والحكيم: الذي يضع الشيء في موضعه، والعوام قديماً يسمون الطبيب: الحكيم، لِم؟ لأنه يضع الدواء موضع الداء، وإذا كانت الدمامل في يده ويضع الدواء في رأسه أو في رجله فهل هذا حكيم؟ هذا أحمق.إذاً: الحكيم منا هو الذي يضع الشيء في موضعه، مثلاً: الآن في مجلس الذكر والعلم لو يدخل أحدهم إصبعيه في أذنيه ويقوم يؤذن فهذا أحمق أم حكيم؟ أو وقف يغني، فهل هذا وضع الأمر في موضعه؟ هذا حكيم أم أحمق؟ وعلى هذا فقيسوا، من كان يضع الشيء في موضعه هو الحكيم، يضع الطهارة في موضع الطهارة، والصدق في موضع الصدق، والوفاء في موضع الوفاء، والصدقة في موضع الصدقة أيضاً، ذاك هو الحكيم. فهما يقولان: فبما أنك عزيز حكيم لا يعجزك شيء، وتضع الشيء في موضعه، إذاً: فابعث فيهم رسولاً من أنفسهم مهمته كذا وكذا؛ لأنك القادر على كل شيء، فتوسلا إلى الله بصفتين عظيمتين تدلان على المطلوب وتحققانه، وهذا من حكمتهما في دعائهما، ما قالا: (إنك أنت الغفور الرحيم)، فهنا لا يتلاءم هذا، قالا: (العزيز) القادر على كل شيء، الحكيم الذي يضع الشيء في موضعه.فهذه الحصيلة لا بد أن تبقى -إن شاء الله- في أذهانكم، فإذا جلستم بعد الأكل تقولون: من يقرأ علينا شيئاً من القرآن لنسمع ونبكي، ثم نقول: من يفسر لنا هذه الجملة من كلام ربنا، ما المقصود منها؟ ما المراد منا؟ ما المطلوب؟ فيقال: المطلوب كذا وكذا، كيف عرفت هذا؟ لأنه قال الرسول صلى الله عليه وسلم، فجمعنا الكتاب والحكمة.سبق لي أن قلت وكتبت: إنه لما فقدنا المربين هبطنا، وقلت: من الجائز أن اثنين يقول أحدهما للآخر: يا فلان! أنا أخوك في الله، أسألك بالله العظيم أن تلاحظ سلوكي ..مشيتي.. كلامي.. منطقي.. أكلي.. حركاتي، ولا ترى خللاً أو ضعفاً يتنافى مع هدي الله ورسوله إلا نبهتني إليه وذكرته لي. والآخر يقول: وأنا أسألك بالله أن تكون مثلي، إذا رأيت في خللاً في عقيدتي، في خلقي، في سلوكي، في حركتي إلا نبهتني لذلك. ثم يسيران على هذا المنوال شهرين، أو عامين، فكيف سيكونان؟ والله! لطهرا تمام الطهر، وتهذبا، وصفت قلوبهما بهذه المناعة والرعاية، هذا إذا لم نجد، فكيف إذا وجدنا من يجلس بين أيدينا كل ليلة طول حياتنا، ويزكينا، ويطهرنا، من أين يأتي الخبث أو النجس أو الضعف والعجز؟ هل يمكن طهر وصفاء بدون هذا الطريق؟ والله! ما كان ولن يكون، لو كان لذكر إبراهيم هذا، ما هناك إلا هذا فقط: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]، يقول المربي: أنت يا بني أما حفظت قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه )؟ لماذا إذاً لا تحب لأخيك كذا، لماذا غضبت أو كرهت وحسدته؟ وهكذا.

تفسير قوله تعالى: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ...)

وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ [البقرة:130] لا أحد، هل فيكم من يرغب عن ملة إبراهيم؟ أعوذ بالله! إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة:130]، اللهم إلا من سفه نفسه، أرأيتم ملاءمة الآيات؟ ملة إبراهيم شرحت لنا وبينت، وهي في تلاوة آيات الله، فإبراهيم كان يتلوها، وفي تعليم أبنائه الكتاب والحكمة، في تزكية أبنائه وأسرته، هذه هي طريقة إبراهيم، فمن يرغب عنها؟ الجواب: لا أحد، اللهم إلا من سفه نفسه. وما معنى (سفه نفسه)؟ جهل نفسه وما عرف نفسه، أما من عرف نفسه وأنها في حاجة إلى الطهر والصفاء، إلى السعادة والكمال، هذه النفس البشرية الزكية الطاهرة إذا جهلها يبحث عن عوامل تزكيتها، تطهيرهاً، تربيتها، تنميتها، متى تحل المكان الأعلى والمقام الأسمى، فهو معني بها، أما الذي هو جاهل نفسه ما عرفها فيصب عليها أطنان الذنوب في كل يوم ولا يبالي، يقول الباطل، يفعل الباطل، يعتقد الباطل؛ لأنه ما عرف نفسه؛ لأنه ما سمع حكم الله في هذه النفس، ونحن قد عرفناه ولكنها العوائق والمعطلات. أما سمعت حكم الله أنه قد أفلح من زكى نفسه، وقد خاب وخسر من دسى نفسه؟اسمع إلى هذا الحكم الإلهي: أقسم الله عليه بأحد عشر قسماً، ما رأينا لله في كتابه أقساماً أعظم من هذه وأكثر، وجواب القسم: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9] ما هي هذه؟ النفس؛ لأنه سبق في الكلام: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:7-8]، متهيئة للفجور وللتقوى مستعدة، زكها تزك، وأخبثها تخبث، هذه سنة الله فيها، ما هي معصومة كأرواح الملائكة، ولا خبيثة كأرواح الشياطين لا يدخلها هدى ولا نور، هذه قابلة للتزكية والتطهير وللتلويث وللتخبيث. إذاً: قد أفلح من زكى نفسه، فكيف نزكيها، بم نزكيها؟ ارحل إلى العالم الفلاني واجلس بين يديه حتى تتعلم كيف تزكي نفسك، فأدوات التزكية كثيرة، فكيف تستعملها؟ ما هي أوقاتها ما هي ظروفها؟ لا بد من هذا. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، معنى (أفلح): فاز بالمناصب العالية، الآن يقال: فلان أفلح، فاز، نجح، حصل له ماجستير أو دكتوراه في كذا، ونتبادل التهاني، يا فلان! أنا نجحت، وفلانة نجحت والحمد لله، فهي في فرح كبير، كيف؟! لأنها حصلت على شهادة فغداً ستصبح موظفة. وهذا في الذكور لا بأس به، لكن في الإناث هل نترك الديار والمنازل والبيوت ونعمرها بالشياطين، ونترك البنات والنساء يشتغلن كاليهوديات والنصرانيات مع الفحول؟ هذه وحدها ضربة من الضربات القاسية بأيدي الذين تعلمنا على أيديهم وأطعناهم.

حقيقة ملة إبراهيم ودعامتها

فمن يرغب عن ملة إبراهيم القائمة على لا إله إلا الله؟ وهل تعرفون دعامة هذه الملة؟ لا يرهب، لا يخاف، لا يحب، لا يكره إلا ما يرضي الله، كل شيء تحت هذا النظام، أنت مؤمن تحب ما أحب ربك، وتكره ما كره ربك من كل أسباب وألوان الحياة، هذا معنى لا إله إلا الله، أما أن يحب ربك شيئاً وتكرهه، أو يكره الشيء وتحبه؛ فقد عاديت الله، خرجت من طاعته، أعلنت الحرب عليه، ومن يفلح من هذا النوع؟ لا أحد.فملة إبراهيم: هي أن يعبد الله بما شرع، ما هي ملة إبراهيم التي كان يعيش عليها ودعا البشرية إليها؟ أن تعبد الله وحده بما شرع، فإن أنت قسمت قلبك ووزعت نفسك تعبد مع الله فلاناً وفلاناً انهار البناء وسقط كل شيء، تعبد الله بهواك وبما تمليه الشياطين وتقول: أنا راكع ساجد عابد فذلك لا ينفع، لا بد أن تعبده بما أحب أن يعبد به من الكلمة إلى الحركة. فما هي ملة إبراهيم؟ هي معنى: لا إله إلا الله، أي: لا معبود يعبد بحق إلا الله، ويعبد من طريق رسول الله، فهو الذي يبين لنا كيف نستعمل العبادات، كيف نغتسل، كيف نصلي، كيف نحج، كيف نصف في الصلاة والجهاد، كيف نتصدق، كيف نمنع، كيف نحب، كيف نكره، لا بد من رسول الله، فلاحظ أن الملة كاملة تحت: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وبالعقل إذا قلت لكافر: أتشهد أن لا إله إلا الله، فيقول: كيف أشهد؟ فإنك تقول: من خلقك؟ من خلق أمك وأباك؟ من رفع السماء؟ من أنار الحياة؟ من أوجد هذه الأغذية؟ فإنه يقول: ما أدري! فتقول له: الله. وهل هناك من يستحق أن يعبد مع الله؟ الجواب: لا؛ إذ هو وحده الخالق الرازق المدبر، إذاً: قل: أشهد أن لا إله إلا الله، إذاً: هيا اعبده. ما دمت علمت أنه لا معبود إلا هو فاعبده، يقول لك: دلني كيف نعبده، لا بد أن تعلمني كيف أعبده، وبِم أعبده؟ فحينئذ تضطر إلى أن تأتي بكلمة: (وأن محمداً رسول الله)، إذ هو الذي يعلمك كيف تعبد الله، وبم تعبده، وهذه هي ملة إبراهيم: أن نعبد الله وحده بما شرع لنا من أنواع العبادات، وهي قلبية وجارحية كما علمتم، وبذلك نكمل ونسعد. وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة:130]، ما معنى (سفه)؟ جهلها، ما أعطى لها قيمة، ما عرف نفسه، ككل الكافرين والظالمين يعيشون بدون نفوس، لو عرف نفسه لأعزها وأكرمها، لا يهينها ويمزقها.

معنى قوله تعالى: (ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين)

وقوله تعالى: وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [البقرة:130]، بشراك يا إبراهيم، أولاد المؤمنين من بنين وبنات من الأطفال الصغار كلهم الآن حول إبراهيم، هو راعيهم، يحفظهم إلى يوم القيامة، له منزلة في دار السلام، كل أولاد المؤمنين والمؤمنات يؤتى بأرواحهم عند إبراهيم الخليل، وكيف شكل هذه الأرواح؟ هل في أشكال في صور في هياكل؟ الله يعلمها. أما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في ولده إبراهيم: إن له مرضعاً خاصة عند إبراهيم؟ وفي دعائنا للأطفال نقول: (اللهم وألحقهم بسلف الصالحين في كفالة أبيهم إبراهيم)، هذا إبراهيم الأب الرحيم، ماذا يقول تعالى عنه: وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ [البقرة:130] ما معنى اصطفيناه؟ اصطفى الشيء: أخذ صفوته، كما تصطفي العسل أو الطعام الصالح، اختيار الشيء وأخذ وسطه، اصطفاه الله عز وجل من ملايين البشر على عهده من أهل الشرك والباطل والكفر، اختاره هو وحمله أمانته، وهذا الاصطفاء عظيم؛ حيث اختاره من البشرية كلها في ضلالها: اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا [البقرة:130]، فأصبح أفضل كائن على وجه الأرض، وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [البقرة:130] منهم فقط.ومن هم الصالحون؟ هل كلنا منهم؟ اسمع آية المواكب في دار السلام: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ [النساء:69] من أبيض أو أحمر أو أسود، وعربي وعجمي، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ [النساء:69] أي: المطيعون مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]، إبراهيم مع الصالحين. ومن هم الصالحون؟ هل سيدي عبد القادر، مولاي إدريس، سيدي عيدروس؟ ما كنا نعرف الصالحين -والله- إلا الذين ماتوا ودفنوهم وبنوا عليهم القباب الخضراء والبيضاء ووضعوا الستائر، هؤلاء هم الصالحون، أما أهل البلاد فكلهم فاسدون! وهنا لطيفة كررناها، قلنا: قبل أربعين أو خمسين سنة، قبل أن تنتشر هذه الدعوة، والله العظيم! لو دخلت القاهرة المعزية ذات الملايين ولقيت أول مصري قاهري فقلت: أنا غريب عن هذه الدار وجئت من بلاد بعيدة، فدلني على ولي من أولياء هذه البلاد، فوالله! ما يأتي بك إلا إلى قبر! فلا إله إلا الله.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #164  
قديم 15-09-2020, 05:14 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,900
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (88)
الحلقة (95)




تفسير سورة البقرة (57)

ملة إبراهيم عليه السلام هي ملة الإسلام، وهي إسلام القلب والوجه لله، والانقياد له ظاهراً وباطناً، فمن فعل ذلك فهو المسلم الحق، المستحق لاصطفاء الله ومحبته ورضوانه، ومن رغب عن هذه الملة فقد جهل نفسه وظلمها، وتنكب بها طريق الصالحين، وحاد بها عن سبيل المؤمنين، فصارت مظلمة بظلامات الكفر والجحود، منجسة بنجاسات المعاصي والذنوب، فأنى لها أن ترى النور أو تدرك السرور.
تابع تفسير قوله تعالى: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:131-133].. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

انتفاء تحقق التزكية والتطهير بغير ملة الإسلام

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ [البقرة:130]، أتدرون ما هي ملة إبراهيم؟ إن ملة إبراهيم الإسلام الذي أكرمنا الله به، وأسبغ علينا نعمه به، وأصبحنا أحياء نسمع ونبصر، نعقل ونفهم، نأخذ ونعطي، لكمال حياتنا بالإسلام، يقول تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، فكل ما لم يكن الإسلام فهو دين باطل، لا يزكي النفس البشرية ولا يطهرها، وسعادة الآخرة متوقفة على زكاة النفس وطهارتها: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، كل ما كان غير الإسلام من الملل والنحل والأديان فهو باطل، ومعنى ذلك أولاً: أن تلك الملل لا تزكي النفس، والله الذي لا إله غيره! لو تعبد الله باليهودية بكل ما فيها من عقائد، وآداب، وأخلاق، وشرائع، فوالله! ما تفعل في نفسك شيئاً من النور والطهر والصفاء، لو تطبق المسيحية أو النصرانية بكل قواعدها وأهدافها ومبادئها فوالله! لا تفعل شيئاً، إذاً: فما دون اليهودية والنصرانية من أي ملة أخرى هل ستزكي النفس وتطهرها؟ لم يبقَ إلا الإسلام، قال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، ما السر في هذا؟ السر في هذا -يا معاشر المستمعين والمستمعات- أن الله تعالى الذي جعل الماء يروي الظمآن، والطعام يشبع الجائع، والحديد يقطع؛ هو الذي إذا شرع كلمة لعبده ليقولها فلا يقولها ذلك العبد إلا وانطبع أثرها وانعكست على نفسه، لو شرع تعالى أغنية -وحاشاه- فتغنينا بها إيماناً به وطاعة له وانقياداً لأمره لأوجدت تلك الأغنية أثرها في نفوسنا بالتزكية والتطهير، هذا مثال.فما لم يشرعه الله من اعتقاد أو قول أو عمل فهيهات هيهات أن يحدث في النفس زكاة وطهراً! هذا من باب المحال، إذاً: فإذا عبد الناس اللهَ بعبادة ما شرعها فما هي النتيجة؟ التعب فقط، أما أنها تزكي نفوسهم فوالله! لا تزكيها، فالنفس من الله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85]، هو الذي إذا شرع لها كلمة، أو جرياً بين الصفا والمروة أحدث ذلك أثره فيها.وإليكم مثلاً محسوساً: أليس هذا المسجد النبوي بيت الله؟ الجواب: بلى. فلو أن أحدنا قال: لأطوفن لله بالمسجد النبوي سبعة أشواط، وأخذ يتردد من غربه إلى شرقه مع العرق والتعب، ويقول: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، سبحان الله، هل يحدث هذا الطواف في نفسه شيئاً من الزكاة أو الطهر؟ والله! لا، ولا جراماً واحداً.فإن قيل: بذل جهده وطاقته؟ فالجواب: هل الله شرع هذا وقال: (وليطوفوا بمسجد رسولنا)؟ونعود إلى واقع الحياة، شرع الله جل جلاله وعظم سلطانه في دينه الذي أوجده لعباده أبيضهم وأصفرهم، شرع قطع يد السارق، إذا سرق العاقل البالغ المكلف، أما طفل صغير أو مجنون فلا شأن لهما في القصاص، سرق السارق فتقطع يده، هل تنتج هذه العملية شيئاً؟ الجواب: تؤمن أموال المؤمنين والمؤمنات، ما إن يسرق السارق ويقام عليه حد الله فتقطع يده وتعلق عند باب المسجد حتى يكف كل من في قلبه رغبة في أن يسرق مال الناس، ويتحقق أمن، ووالله! لا يتحقق بغير ذلك حتى ولو جعلت عند باب كل بيت عسكرياً في يده الرشاش، لو استعملت ما استعملت من الوسائل لتأمين أموال الناس فوالله! ما تحقق ذلك، ولن يتحقق إلا بهذا الذي وضع الله من قانون حد السرقة، هذا مثال. فكيف -إذاً- بشأن الروح وهي خفية، من يستطيع أن يطهرها أو يزكيها بما يوجد لها من أذكار، من تسابيح، من حركات؟ لن يستطيع أحد، فمن رغب في تزكية نفسه فليتعلم عن الله ورسوله الأعمال التي تزكيها، بشرط أن يكون مؤمناً موقناً بها، وأن يؤديها كما وضعها الشارع، فإن زاد فيها بطل مفعولها، وإن نقص منها بطل مفعولها، قدم جزءاً وأخر آخر بطل مفعولها، لا بد أن تؤدى أداءً صحيحاً سليماً كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.معاشر المستمعين والمستمعات! هل فهمتم هذه المسألة في أذهانكم؟ لو يجتمع علماء الملة على أن يبتدعوا لنا عبادة جديدة، وأخذنا نأتي ونفعلها، فهل يمكن أن تزكي هذه العبادة أنفسنا؟ والله! ما زكتها أبداً، فلهذا اسمع أبا القاسم -فداه أبي وأمي والعالم أجمع- يقول: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )، ويقول: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، ويقول: ( كل بدعة ضلالة )، ما معنى (ضلالة)؟ تضل صاحبها وتسوقه في متاهات، ولا تنتج له عملاً يزكي نفسه.

الإسلام ملة إبراهيم التي أوصى بها بنيه

ونعود -معاشر الأبناء- إلى قول ربنا: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ [البقرة:130]، عرفنا هذه الملة؟ إنها -والله- للإسلام، أي: إسلام القلب والوجه لله، انقياد في الظاهر والباطن لله، استسلام كامل، قال: صم فصمت، قال: أفطر فأفطرت، قال: حج فحججت، قال: أعطِ فأعطيت، قال: اسكت فسكت، هذا هو الانقياد، هذا هو الإسلام، بحيث لم يبقَ لك حق في الاختيار فإن شئت فعلت وإن شئت لا، هذا -والله- ما هو بالإسلام.فمن أسلم قلبه لله، فأصبح قلبه لا يتقلب إلا في طلب رضا الله، هذا همه، وأسلم وجهه فلا يرى إلا الله؛ حيث وجهه يتجه، إن قال: نم نام، إن قال: قم قام، أليس هذا شأن المؤمن المسلم؟ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة:130]، فمن يرغب عن ملة إبراهيم؟ لا أحد، اللهم إلا من جهل قدر نفسه، ما عرف لنفسه قيمة ولا قدراً، هذا يرغب عن ملة إبراهيم ويطلب ملة الشيطان.ما زلت أقول للسامعين والسامعات: إن ملة إبراهيم هي الإسلام وهو دين الله في الأولين والآخرين: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ [البقرة:132]، وصاهم بماذا؟ بالإسلام، ويعقوب جمع أولاده قبل سكرات الموت: إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133]، ويوسف قال: فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101]، وسائر الأنبياء من نوح عليه السلام، والله! ما وجد نبي ولا ولي ولا عبد صالح إلا ويسأل الله الوفاة على الإسلام. إذاً: رغب اليهود والنصارى حيث ابتدعوا اليهودية والنصرانية، ورغبوا بذلك عن ملة إبراهيم، فكيف ترونهم: سفهاء أم رشداء؟ والله! إنهم لسفهاء، يرغبون عن ملة إبراهيم وهم يعتقدون كماله واصطفاءه ورسالته ونبوته، ويرغبون عنها ويحدثون بدعة اسمها اليهودية، والله يقول من سورة آل عمران: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا [آل عمران:67]، إذاً: هل بينكم من يرغب عن ملة إبراهيم؟! أعوذ بالله! لو نعطى الدنيا بما فيها فوالله! ما رغبنا عن ملة إبراهيم، ما هذه الملة؟ إنها الحنيفية المسلمة الطاهرة، هي معنى: لا إله إلا الله، لا عيسى ولا مريم، ولا العزير، ليس هناك إلا الله الواحد الأحد، وهكذا ندخل في رحمة الله بكلمة: أشهد أن لا إله إلا الله على علم، والله! إنا لعلى علم أنه لا يوجد في العالمين من يستحق أن يركع له ويسجد أبداً إلا الله.وإن وجدتم في العالم من يخلق ويرزق ومن يدبر حياة المخلوقين، إن وجدتم من هذا وصفه فاعبدوه، وهل نجد؟ كل الخليقة مخلوقة مربوبة، والله خلقها، فكيف يعبد مخلوق مع خالق، مربوب مع الرب؟ إذاً: كيف وجد الكفر؟ لأن الشياطين تدعو إلى ذلك، الشياطين هي التي تدعو إلى الكفر بالله ولقائه، إذاً: فلنحمد لله على أننا -والله- لا نرغب عن ملة إبراهيم، لا نرضى بملة من الملل، ولا بنحلة من النحل.

اصطفاء الله تعالى واجتباؤه لإبراهيم عليه السلام

إذاً: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة:130]، ثم قال تعالى: وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا [البقرة:130]، من هو هذا الذي اصطفى إبراهيم؟ الله جل جلاله، هو المخبر عن نفسه.ما معنى (اصطفاه)؟ اجتباه، اختباره، كان العالم يفيض بالشرك والباطل، يعبدون الكواكب، يعبدون النجوم، يعبدون التماثيل التي نحتوها وصوروها، فاصطفى الله تعالى إبراهيم من تلك الأمة العريقة في الشر والباطل، واجتباه واختاره، وأصبح وليه بالحق، وأوحى إليه شرعه، وبعثه إلى الخليقة يدعوها إلى (لا إله إلا الله، إبراهيم رسول الله).من اصطفى إبراهيم؟ الله جل جلاله: اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا [البقرة:130]، وفي الآخرة كيف حاله؟ وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [البقرة:130]، ما معنى الآخرة؟ الحياة الآخرة، وهل هناك حياة أولى؟ نعم. هي هذه التي نعيشها وتحياها الخليقة، هذه حياة فيها سمع وبصر، وطعام، وشراب، ونكاح، ولباس، وتنتهي، هذه الحياة الأولى، ثم الحياة الآخرة، وحذف لفظ (الحياة) واكتفي بالآخرة، لأنها معروفة.

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #165  
قديم 15-09-2020, 05:15 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,900
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )

مواكب المنعم عليهم

وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [البقرة:130]، من هم الصالحون؟ اسمع حكم الله في هذه البشرية، يقول تعالى من سورة النساء من كتاب الله القرآن العظيم الذي نسخ به كل الكتب السابقة، يقول تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ [النساء:69]، من منكم يحفظ هذه الجملة؟ والله! لهي خير له من مليون ريال إذا حفظها وفهمها وارتفع مستواه فوق هذه البشرية الهابطة. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ [النساء:69] من الرسول؟ هو هنا -والله- محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن (أل) هنا للتعريف وللعهد. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ [النساء:69] أي: المطيعون؛ لأن (من) من ألفاظ العموم، أبيض، أسود عربي، عجمي، من أي جنس كان. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ [النساء:69] أي: المطيعون مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [النساء:69]، لم يخرج منهم أبداً، بل في زمرتهم، مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [النساء:69]، هل أنعم عليهم بالذرية والأولاد، بالأموال، بالجاه العريض الطويل، أنعم عليهم بالشرف، أنعم عليهم بالبترول، بالصناعة، أنعم عليهم بماذا؟ أنعم عليهم بنعمة الإسلام، أسلموا قلوبهم ووجوههم لله، تلك هي النعمة، ونحن نقول في كل ركعة: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:5-7]، هل هناك نعمة أعظم من نعمة الإسلام؟ البشرية تعبد الشياطين والأهواء والفروج والدنيا، وأنت تعبد الرحمن الذي لا إله إلا هو، أية نعمة أعظم من هذه؟ البشرية تعيش في الخبث والنجس، وأنت طاهر نقي صاف ظاهرك كباطنك، أية نعمة أكبر من هذه؟ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [النساء:69] بالإسلام، وهو إيمان وإحسان، ثم بين لنا مواكب هؤلاء المنعم عليهم، فقال: مِنَ النَّبِيِّينَ [النساء:69] هذا موكب، وَالصِّدِّيقِينَ [النساء:69] موكب ثان، وَالشُّهَدَاءِ [النساء:69] موكب ثالث، وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]، موكب رابع، سبحان الله! من حيث الظاهر أفضلهم النبيون، ويليهم الصديقون، وفي المرتبة الثالثة الشهداء، وفي الرابعة الصالحون، والله! ما كان نبي إلا كان صالحاً، ولا كان صديق إلا كان صالحاً، ولا كان شهيد إلا كان صالحاً، إذاً: فالبيت الجامع هو الصلاح، فمن منا يرغب أن يكون صالحاً؟ لك أن تكون صديقاً، لك أن تكون شهيداً، لك أن تكون صالحاً، إلا أن تكون نبياً فلا، لا تطمع ولا تسل الله، لو وجدنا شخصاً يقول: يا ربي! اجعلني نبياً، وطول الليل يبكي، فنقول: أنت تكلفت ما ليس لك، لو تدعو الله مليون سنة فوالله! ما نبأك، ختم النبوات وانتهت، والنبوة ما تأتي بالطلب، الله يصطفي، ينظر إلى من هو أهل ويؤهله حتى يصبح أهلاً فيتلقى المعارف الإلهية بقلبه.

سبيل الدخول في موكب الصديقين

إذاً: فمن منا يرغب أن يكون صديقاً؟ كلنا ذاك، إذاً: فإليكم تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم، من الليلة فقط اعزم وصمم، وتوكل على الله، ما يمضي عليك زمن إلا وأنت مسجل في ديوان الصديقين، ونشاهد ذلك فيك أيضاً، اسمع الرسول الكريم يقول صلى الله عليه وسلم يخاطب أمة الإسلام، الأمة الحية التي تسمع وتبصر، لا الكافرة الميتة المشركة. يقول: ( عليكم بالصدق ) أي: الزموه وحافظوا عليه، والصدق يكون في القول والعمل والاعتقاد، لا في القول فقط، وإن كان هو الظاهر، صدق فلان في قوله، وصدق في عمله.( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر )، يقود، يسوق إلى البر، والبر: الخير كله، كلمة جامعة، لا يوجد خير يخرج عن كلمة (بر)؛ لقول الله تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92].هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنا: ( عليكم بالصدق ) الزموه، حافظوا عليه، تحروه، ( فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة )، هل تفهمون معنى (يهدي)؟ حين أقول لك: أين بيت فلان؟ تقول: تعال أوصلك إليه، فهذا هداني أم لا؟ هذا معنى الهداية. ( ولا يزال المرء يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً )، لا شك أن فيكم من بدءوا منذ زمن، ومنا من بدأ أمس، أو سيبدأ غداً، فالموكب ماش لا يرد أحداً.( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال المرء -ذكراً أو أنثى- يصدق ويتحرى الصدق -يطلبه ويبحث عنه- حتى يكتب عند الله صديقاً )، أصبح في الموكب الثاني بعد النبيين.

سبيل الدخول في موكب الشهداء

من يريد منا أن يكون شهيداً في الشهداء؟ هذا المقام مقام سام، ولكن باب الله مفتوح.أولاً: انوِ في قلبك -وكن صادق النية- أنه إذا قام جهاد تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، تحت بيعة مؤمن رباني، يقود الأمة إلى صفاء الحياة وطهارتها، فإنك سترمي بنفسك، هذه النية أكدها، ما إن ينادى مناد أنه لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأن جاهدوا عباد الله لإنقاذ البشرية وتطهيرها وتصفيتها إلا وأنت معه.ثانياً: اسأل الله تعالى الشهادة في صدق، كلما دعوت الله قل: اللهم اجعلني شهيداً، اللهم اكتب لي الشهادة في سبيلك، اللهم اجعلني من الشهداء، اللهم ارزقني الشهادة في سبيلك، ومن عجيب فعل عمر أنه كان يقول: ( اللهم إني أسألك موتةً في بلد رسولك وشهادة في سبيلك )، فتعجب بنيته حفصة بنت عمر : كيف يا أبتاه تسأل الله الشهادة وتموت في المدينة! المدينة الآن مدينة إسلام، فكيف تحصل على شهادة فيها؟ فيقول: يا بنيتي! فضل الله عظيم واسع. واستجاب الله لـعمر، وطعن وهو في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالمؤمنين بين يدي الله، أية شهادة أعظم من هذه؟ من طعنه؟ مجوسي من عبدة النار، أبو لؤلؤة كان مملوكاً عبداً للمغيرة بن شعبة كسائر العبيد الذين يحصلون عليهم، ولكنه من الحزب الوطني الذي ما إن رأى الإسلام يغمر تلك الديار حتى تكون لينتقم من الإسلام الذي كسر عرش كسرى، وأطفأ نار المجوس، وظهرت أول طلقة وهي هذه، وما زال ذلك الحزب يعمل إلى الآن.إذاً: سبحان الله! عمر يقول: ربّ أسألك شهادة في سبيلك وموتة في بلد رسولك، كيف يتحقق هذا؟ هل تحقق أم لا؟ تحقق لـعمر رضي الله عنه وأرضاه.إذاً: فمن سأل الله في صدق الشهادة يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: ( بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه ). فالنية أولاً، إذا نادى منادي إمام المسلمين أن: حي على الجهاد فارتم معهم، وإذا ما نادى مناد وما جاء جهاد حق كما هو واقع اليوم، فأنت ابقَ على نيتك، واسأل الله أن يكتبك في عداد الشهداء، ومع هذه النية وهذا العزم أنت من الشهداء ولو مت على فراشك. إذاً: هذه -إن شاء الله- نحصل عليها كالأولى.

سبيل الدخول في موكب الصالحين

الثالثة والأخيرة: نريد أن نكون من الصالحين الذين نسلم عليهم كلما نصلي: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين طول الحياة، وهذا اللفظ يشمل كل صالح في الأرض والسماء، ولا يشمل الفاسدين والمفسدين في الأرض أو في السماء، وهل في السماء مفسدون؟ إنهم الشياطين. فإن قلت: كيف نكون صالحين يا شيخ فهذه مسألة صعبة؟ فالجواب: كلا أبداً، هذه أسهل، وهي: أنك تؤدي حقوق الله وافية، ما تبخس الله ولا تنقصه حقاً من حقوقه، وأن تعبده وحده لا شريك له، هذا حق الله، أن يعبد الله وحده بما شرع من أنواع العبادات.ثانياً: حق عباد الله، فلا تبخس امرأتك حقها ولا ابنك ولا أباك ولا قريبك ولا البعيد، ولا أي إنسان أبيض أو أسود، كافر أو مؤمن، لا تنقصه حقه، تؤدي حقوق العباد وافية، لا تنقص منها شيئاً، بذلك تكون في ديوان الصالحين، أصبحت دون النبي ولكنك صديق وشهيد وصالح، مع أن الكل يعود إلى زمرة الصالحين.وهذا إبراهيم ماذا يقول تعالى عنه؟ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [البقرة:130].

تفسير قوله تعالى: (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين)

ثم قال تعالى: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ [البقرة:131] رب من؟ رب إبراهيم، هو الذي قال له أسلم، ولعلكم تذكرون تلك التربية الربانية، ففي سورة الأنعام يقول تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام:74]، اذكر يا رسولنا، اذكر أيها المؤمن هذه الحادثة الجليلة: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام:74]، والعجيب أنه يوجد من المفسرين من يقولون: عمه، ويستسيغونه نقلاً عن أهل الكتاب، يقولون: هو عمه. الله يقول: أبوه، وأنت تقول: عمه! أما يستحي العبد أن يقول هذا؟ حتى لو عرفت أنه عمه، ما دام أن الله تعالى قال: هو أبوه فلم تخالف قول الله؟! أعوذ بالله. وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً [الأنعام:74]، يعتب عليه، يوبخه، يؤدبه، ينكر عليه: أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً [الأنعام:74] تعبدها! إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام:74]، هذه كلمة إبراهيم بعد اصطفاء الله له: إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام:74].قال تعالى -وهو الشاهد-: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام:75]، الله هو الذي رباه، هو الذي نماه، هو الذي رقاه من حال إلى حال، وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي [الأنعام:75-76]، قوله: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ [الأنعام:76] غطاه بظلامه، قال: رأى كوكباً، سواء الزهراء أو المريخ أو كوكب مشرق، قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ أي: غاب الكوكب قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام:76]، كيف يغيب ربي؟ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا [الأنعام:77] طلع القمر، قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:77-79]، هكذا رباه ربه ورقاه حتى انتهى إلى الحقيقة.

معنى الإسلام لله

وهنا يقول تعالى: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [البقرة:131] أسلم ماذا؟ شاة أم بعيراً، أم دراهم ودنانير؟ أسلم قلبه ووجهه لله، فكل أعماله لله، وهذا أيضاً نحن عليه، هل فينا من يتزوج لغير الله، أو يطلق لغير الله، أو يبني لغير الله، أو يهدم بناء لغير الله، أو يسافر لغير الله، أو يقيم لغير الله؟ والله! لا يوجد، إذ نحن المسلمون لا نأتي ولا نذر إلا لله؛ لأننا وقف على الله، مضى هذا فينا يوم نزل قول ربنا: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]. أنت لماذا أعفيت لحيتك؟ لله، وأنت لم حلقت؟ هل لله؟ لا والله، فهذه فضيحة، لا يقول: لله، أنت لماذا تشرب هذا الكأس من الماء؟ لله؛ لأحفظ حياتي، وأنت لم تشرب كأس الخمر؟ هل يقول: لله؟ إذاً: الحمد لله، فنحن من المسلمين، حياتنا وقف على الله عز وجل: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].هيا بنا إلى مزرعة لنجد فلاحاً في يده المسحاة وهو يضرب باسم الله في الأرض، لم يا عم؟ قال: لله، كيف يكون لله؟ هل الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، أنا أفلح هذه الأرض من أجل أن أحصل على قوتي وقوت أهل بيتي لنعبد الله؛ لأننا إذا ما اقتتنا متنا، فلا نعبد الله، فلا بد أن نعمل لله، وهكذا ذو الصناعة في صناعته، وكل مؤمن عرف، فإن حياته كلها وقف على الله عز وجل.

تجهيل المسلمين وإبعادهم عن إسلام الوجوه والقلوب لله تعالى

والذي أبعد المؤمنين والمؤمنات عن هذا الطريق أنهم ما عرفوا، والله! ما عرفوا، أما من عرف أخذ بطريق الهداية، فما أحوجنا إلى العلم، فعدنا من حيث بدأنا، وهذه دعوة إبراهيم: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129]، يفعل معهم ماذا؟ هل يأتي لهم بالخبز واللحم والمرق؟ وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129] ماذا يصنع؟ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129]. سلوا الدنيا تخبركم عن أصحاب رسول الله وأبنائهم وأحفادهم طيلة ثلاثمائة سنة أو ثلاثة قرون، والله! ما اكتحلت عين الوجود بأمة أطهر ولا أصفى ولا أعدل ولا أرحم ولا أتقى من تلك الأمة، كيف وصلت إلى هذا؟ ما هي الجامعات التي درسوا فيها والكليات والمعارف؟ أين هي؟ إنها هنا، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم فقط، فتفوقوا ونجحوا، ومن يوم أن أبعدوا المسلمين عن كتاب ربهم وحولوه إلى المقابر وإلى دور الموتى، وصارت السنة مهجورة؛ من ذلك اليوم ونحن نهبط حتى فقدنا كل شيء.أما فقدنا الأندلس؟ أما فقدنا الجمهوريات الإسلامية في شرق أوروبا؟ أما استعمرتنا إيطاليا وفرنسا وأسبانيا وبريطانيا؟ سبحان الله! المسلم يحكم من قبل الكافر؟ نعم هذا حاصل؛ لأنه ما هو بمسلم، ما أعطى لله شيئاً، هو مسلم بالاسم، لو أعطاه قلبه ونفسه وماله ما استطاع الكافر أن يسوده ويحكمه، فما هي العلة؟الجهل، جهلونا فسادونا، والآن نحن نصرخ: العلم .. العلم، فما استجابوا. وقد تقول: اسكت يا شيخ، فما هناك بلد إسلامي إلا فيه وزارات المعارف والمدارس والكليات والمعاهد، فما لك يا هذا؟فنقول: أين آثار ذلك؟ ما هو السر في ذلك؟ السر أنهم ما طلبوا العلم لله، أي: ما طلبوه من أجل أن يعرفوا الله ويعرفوا محابه ومساخطه، وكيف يجاهدون أنفسهم لتستقيم على منهج العلم والحق، فطلبنا العلم للدنيا، حتى بناتنا، يبعث بابنته تدرس، هل من أجل أن تعبد الله؟ لا، لو أرادت أن تعبد الله فستعبده في البيت، تتعلم من جدتها.. من أمها.. من زوجها، تقول: كيف أذكر الله؟ كيف أصلي؟ تتعلم وتعبد الله، ولكن من أجل الوظيفة، وقد بوب البخاري في الصحيح بـ(باب: العلم قبل القول والعمل).

طريق العودة إلى الله تعالى

وقد يقول قائل: الآن يا شيخ كم صحت هذا الصياح، فماذا ينفع؟ دلنا على الطريق.فأقول: الطريق -والحمد لله- واضح سهل لا عقبات ولا أحجار ولا حيات ولا بوليس ولا شرط، فقط أهل القرية المسلمة يتعاهدون لله فيما بينهم أنهم يفزعون إلى ربهم كل ليلة من صلاة المغرب إلى العشاء في بيت الرب، هذه أول خطوة، وهذا لا يوقف حياتهم أبداً ولا يعطلها، الفلاح يشتغل، التاجر يشتغل، الصانع يشتغل، الكل عندما تميل الشمس للغروب يتوضئون ويلبسون ملابسهم ويأتون بنسائهم وأطفالهم إلى بيت الرب تعالى، من يلومهم؟ من يسخر منهم؟ من يضحك؟ يجتمعون في بيت الرب وسيهيئ الله لهم من يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، والله! ليهيئن لهم من يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام، كيف يصبح أهل تلك القرية؟ أنا أعرف كيف سيصبحون، كالملائكة، لا خيانة، لا غش، لا حسد، لا كبر، لا إسراف، لا بذخ، لا حب دنيا، لا تكالب على الشهوات، أم أنك تقول: هذا لا يمكن، محال! فأقول: أنسيت سنن الله؟ الطعام يشبع والماء يروي والنار تحرق والحديد يقطع، سنن لا تتبدل، إذاً: فتعلم الكتاب والحكمة لا بد أن ينتج الطهارة والصفاء، والأمثلة قائمة والحياة شاهدة وما هو بأمر خفي.كم حياً في المدينة؟ قالوا: سبعة عشر حياً، وفي بعض المدن عشرون، أهل كل حي يتعاهدون لله أنهم إذا مالت الشمس للغروب يفرغون من أعمالهم، الحلاق يرمي الموسى ويغلق الدكان، التاجر يغلق الباب، الصانع كذا، ويأتون إلى الجامع الذي في حيهم، لا يوجد حي ليس فيه جامع أبداً في العالم الإسلامي من عرب وعجم، يجتمعون في بيت ربهم يستمطرون رحمته، يبكون بين يديه، يذكرون اسمه، ويهيأ لهم أيضاً مرب حليم، يجلس لهم جلوسنا هذا ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم العام بعد العام، أسألكم بالله: هل يبقى في الحي لص مجرم، أو مسرف؟ والله! ما يبقى، فماذا يصنعون بالمال؟ هل يبقى بينهم جائع؟ والله! ما يبقى، هل يبقى بينهم عار؟ والله! ما يبقى أبداً، هل يبقى بينهم جاهل؟ كيف يبقى الجاهل؟ كيف يوجد الجاهل؟ويتم لهم من الكمال ما تم لأصحاب رسول الله وأبنائهم وأحفادهم في العصور الذهبية، لا سيما في وقت كهذا.فما المانع أن يفعل المسلمون هذا؟ إلى الآن ما عرفنا. هل سحرنا اليهود؟ لا ندري. ما هي الموانع؟ ما عرفنا. فهل عرفتم سر هذا البكاء كم نبكي؟وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #166  
قديم 20-09-2020, 05:33 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,900
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )





تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (89)
الحلقة (96)




تفسير سورة البقرة (58)

إن عقيدة التوحيد هي وصية الأولين والآخرين، وصية الآباء للأبناء، وصية الأنبياء للأتباع، فلا حياة بلا توحيد، ولا دنيا ولا أخرى بدون عقيدة صحيحة، وقد وصى إبراهيم الخليل بنيه بالتوحيد، أن يعيشوا عليه ويموتوا عليه، ووصى به يعقوب بنيه، فلم يمت حتى استوثق منهم لأنفسهم، وعلم حقيقة عقيدتهم، واطمأن إلى سلامة توحيدهم، وهذا من بر الآباء بالأبناء.

تفسير قوله تعالى: (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون)

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:132-134] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أعيد إلى أذهانكم تلك البشرى النبوية التي أكرمنا الله بأن أصبحنا من أهلها، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فأبشروا بما بشرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرى أيضاً هي قوله صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ).إذاً: بعدما تلونا آيات الكتاب هيا نتدارس تلك الآيات:

وصية إبراهيم ويعقوب بالملة الحنيفية

ما معنى قوله تعالى: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [البقرة:132]؟ ما هذه التي وصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب؟ ألستم ترغبون فيها؟ أما تريدون أن توصوا بها نساءكم وأولادكم وإخوانكم؟إنها لا إله إلا الله، إنها الملة الحنيفية، الملة الإبراهيمية، وهي: أن نعبد الله وحده ولا نعبد معه غيره، هذه هي التي وصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب أيضاً، ويعقوب هو حفيد إبراهيم، إذ إبراهيم عليه السلام ولد إسحاق، وإسحاق ولد يعقوب.وإسحاق ويعقوب بشرى الرحمن الرحيم لـسارة وإبراهيم، في قصة ضيوف إبراهيم لما دخلوا عليه وقام بإكرامهم: فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات:26-27]، وامرأته قائمة ورأوها تعمل وتقدم الطعام فبشروها، فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ [الذاريات:29]، كيف ألد وهذا بعلي شيخاً؟ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71].التبشير بإسحاق من باب المألوف، المرأة موجودة والفحل موجود وإن كان شيخاً كبيراً وكانت المرأة عجوزاً لا تحيض ولا تحمل، فالله على كل شيء قدير، لكن البشرى أن هذا المولود الذي يولد لكما سيكبر ويتزوج ويلد مولوداً واسمه يعقوب، هذا ما يقدر عليه إلا الله، فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71]، إذاً: هذا يعقوب الذي يلقب بإسرائيل. وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ [البقرة:132] وهي: الموت على لا إله إلا الله، لا تعترفوا بألوهية كائن من كان إلا الله، ولا تعبدوا كائناً من كان إلا الله، فوصوا بها أولادكم وبناتكم ونساءكم كما وصى بها إبراهيم.وها هو ذا يعقوب عليه السلام وقد حضره الموت، والصالحون قد يرون في المنام أنهم يموتون ولا حرج، الرؤيا الصالحة جزء من النبوة. وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ [البقرة:132] يناديهم: يا أولادي! إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132].ومعنى: (اصطفى): اختاره لكم واجتباه وانتقاه من بين الأديان الهابطة الباطلة التي هي بدع وضلالات وخرافات، اصطفى لكم الدين الحق، إذاً بناء على هذا: الزموا هذا الدين ولا تتخلوا عنه أبداً، حتى يوافيكم الموت وأنتم مسلمون؛ لأن من عبد ثم انقطع كان كمن لم يعبد، لو عاش دهراً يعبد الله وقبل موته انقطع ضاع ذلك كله ولم يثب عليه ولم يؤجر أبداً؛ فلهذا لا بد من مواصلة العبادة الحقة القائمة على أساس التوحيد وعلى أساس ما شرع الله وبين من تلك العبادات حتى الوفاة.

موافقة وصية النبيين لأمر الله تعالى المؤمنين بالديمومة على الإسلام

وهذا الذي طالب به يعقوب بنيه طالبنا الله نحن به، أما قال تعالى من سورة آل عمران: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، لا يقولن قائل: أنا عبدت ربي سبعين سنة أو ثمانين قضيتها رباطاً وجهاداً وإنفاقاً وصلاة وصياماً، والآن أستريح، فهل هذا ممكن؟ لو يترك فريضة واحدة متعمداً محي ذلك كله وبطل، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، مجرد شرك، ليس تركاً للعبادة بالكلية، فقط التفت بقلبه إلى غير ربه فسأل غير الله أو تضرع إليه أو ذل له أو ركع له وسجد، فبطل كل ذلك.وللعلماء في هذا مثل معقول جداً، وهو: إذا توضأ أحدنا وأحسن الوضوء، وقبل أن يدخل الصلاة فسا أو ضرط فانتقض وضوؤه، هل ينفعه ذلك الوضوء؟ والله! ما ينفعه، انتهى، فكذلك العبادة إذا داخلها الشرك وهو الالتفات إلى غير الله رغبة فيه أو طمعاً أو خوفاً أو رهبة، فناداه أو استغاث به أو تملقه وتقرب إليه بشيء بطل ذلك الدين كله وما أثيب على شيء.

معنى الدين وشروط كونه حقاً

هذه الدعوة دعوة أبينا إبراهيم: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [البقرة:132]، ويعقوب كذلك وصى بها بنيه، واسمع ماذا قال؟ يَا بَنِيَّ [البقرة:132] يا أولادي! إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ [البقرة:132] الحق، ما معنى الدين؟الدين العمل الذي تثاب عليه وتعطى الجزاء، وفيه معنى الذلة والخضوع لله، هذه العبادة أقوال وأفعال شرعها الله لنا وأمرنا بها، بل وألزمنا بها ووعدنا خيراً عليها أو شراً إن تركناها، هذه العبادات هي الدين، نعبده ويجزينا عليها ويثيبنا بها كالدَين بين الناس في هذا المعنى.إذاً: اصطفى لكم الدين الحق، والدين الحق يعتمد على أمرين:الأول: أن يكون الله هو شارعه ومقننه وواضعه.والأمر الثاني: أن تؤديه على النحو الذي بين الله عز وجل، فإن زدت أو نقصت، قدمت أو أخرت بطل، ما أصبح صالحاً لتزكية النفس وتطهيرها.آهٍ لو عرف المسلمون هذا، الدين الذي هو عبادة الله لن ينتج لنا نتاجاً طيباً ولن نسعد به في الدنيا ولا في الأخرى إلا إذا كان الله شارعه، الله منزله، والرسول صلى الله عليه وسلم مبينه ومفصله، فنأتيه كما أتاه الرسول ونؤديه كما أداه الرسول صلى الله عليه وسلم.وهذا يتوقف على العلم والمعرفة، يتوقف على أن ندرس السنة والكتاب حتى نعرف الدين الصحيح من الباطل، حتى نعرف كيف نؤدي هذا الدين تأدية من شأنها أن تزكي أنفسنا وتطيبها وتطهرها، لا بد من العلم.

أهمية الوصية بالحقوق ووصية الأولاد بالثبات على الدين

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ [البقرة:132] أيها الأبناء إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132] أي: والحال أنكم مسلمون قلوبكم ووجوهكم وحياتكم لله عز وجل.هذه وصية يعقوب، وقبلها وصية إبراهيم، ونحن نوصي أو لا نوصي؟ نحن ما من مؤمن ولا مؤمنة له أو عليه حق يبيت ليلة إلا ووصيته عند رأسه، هذه الوصية المتعلقة بالحقوق، إذا كان لك حقوق على آخرين أو كان عليك حقوق لآخرين ينبغي أن تكتبها، وهذا لا خلاف فيه، وأعظم من هذا إذا مرض الفحل واجتمع عليه بنوه وأهله فيوصيهم بوصية يعقوب لبنيه: (يا أبنائي) إن كانوا ذكوراً، (يا بناتي) إن كن إناثاً، (يا أولادي) إن كانوا ذكوراً وإناثاً، يقول لهم: إن الله أكرمكم بالإسلام واختاره لكم ديناً ووفقكم له فحافظوا عليه، فلا يمت أحدكم إلا وهو مسلم، ونكون قد ائتسينا بالصالحين من قبلنا، أما أن يوصي أولاده بكذا وكذا وكذا ويترك هذه الوصية فقد حاف وانحاز ولم يسلك سبيل الرشاد.أقول: كلنا مهيأ للوفاة، فمن كان له بنون أو بنات أو أولاد واجتمعوا عليه وهو في سياقات الموت فليذكر هذه الوصية ويوصيهم: أوصيكم يا أبنائي أو يا أولادي أو يا بناتي أن تواصلوا دينكم وعبادة ربكم وإسلامكم لله حتى الموت، فإن الله أمرنا بذلك فقال: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].ونحن مأمورون بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر، لا سيما عند سياقات الموت: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3].

وجوب النصح للناس

وقد ذكرنا الصالحين وقلنا: الصالحون هم الذين يؤدون حقوق الله كاملة لا ينقصها شيء أبداً، ويؤدون حقوق العباد كذلك، وفاتني أن أقول لكم: إن من حق أخيك عليك أن تأمره بمعروف إذا تركه وإلا قصرت في هذا الواجب، وأن تنهاه عن منكر إذا فعله أو ارتكبه أو قاله من باب حقه عليك أن تنهاه، فإن لم تأمره ولم تنهه فما أديت هذا الحق. وقد تكلمنا على الحق العام: لا تؤذه لا بسب، ولا شتم، ولا بضرب، لا تأكل ماله، لا تغتبه، أد له الحقوق الواجبة له، وفاتنا أن نذكر: أن من أوجب الواجبات الحقوقية ألا ترى أخاك تاركاً لمعروف وهو قادر على فعله وتسكت عنه ولا تعلمه، فما أديت حقه، أو تراه يغشى ويرتكب ويفعل باطلاً منكراً وتتركه ولا تنصح له ولا تبين له أن هذا باطل وأنه يضره ولا ينفعه؛ لأننا طمعنا في أن نكون من الصالحين، وقد ذكرنا أننا إذا أردنا ذلك ما آذينا مؤمناً ولا بخسناه حقه وأدينا حق كل صاحب حق، وبقيت هذه وهي أعظم، كونك تعيش مع أخيك وتراه تاركاً لمعروف ولا تأمره به، أو مرتكباً لمنكر ولا تنهاه، هل أديت حقه؟ والله! ما أديت، فكيف تصبح من الصالحين؟لأن الصالح هو الذي أدى حقوق الله كاملة ما بخسها ولا نقصها ولا ترك ركعة أو سجدة، كل حقوق الله، سواء كانت صياماً أو زكاة أو صلاة أو جهاداً، كل حقوق الله أداها وافية. وأدى حقوق العباد كذلك، سواء كانوا كافرين أو مؤمنين، والكافر أيضاً تعيش معه أو هو جارك أو تعمل معه ثم لا تنصح له بأن هذا الذي هو عليه يقوده إلى عذاب أبدي خالد في النار، تقول: يا عبد الله! أنقذ نفسك، أنا ناصح لك، هذا حقك علي، هذا إذا كان كافراً؛ فكيف بالمؤمن وأنت تراه تاركاً للمعروف أو مرتكباً للمنكر؟ ما أديت حقه وافياً حتى تصبح في عداد الصالحين، لا بد من هذا.وبعض الناس إذا قلت له: صل غضب، فدعه ينتفض ويغض، فغضبه وعدم رضاه لا يمنعك من أن تؤدي حقه عليك، هذا من حقه عليك، قل له: يا عبد الله! والله إن من حقك علي أن أبين لك وأن أنصح لك، ولتغضب أو لا تغضب، أنا مسئول، أنت عبد من عباد الله، نعيش مع بعضنا في هذه الحياة، واجبك علي أن أبين لك وأنصح لك، لم؟ قل: أريد أن أسجل في ديوان الصالحين، فإذا لم آمرك وأنهك فما أستطيع أن أسجل في ديوان الصالحين، فلا بد من هذا.وإذا رفع العصا عليك فممكن أن نقول: إلا من أكره، لكن كونه يغضب أو ينتفض هذا ليس بضار أبداً، لو تبتسم وتقول له: هذا واجبك علي، أنا ملزم بهذا لأنك أخي، فوالله! ليعودن يبكي أو يضحك، ولا يغضب ولا يسخط.وهكذا وصى بها إبراهيم بنيه ووصى بها يعقوب بنيه فقال: يَا بَنِيَّ [البقرة:132] يا أولادي! إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ [البقرة:132] الحق الإسلام الملة الحنيفية، فبناء على هذا يا أبنائي واصلوا العبادة، واصلوا الإيمان، واصلوا الطاعة؛ حتى لا تموتوا إلا وأنتم مسلمون.وقد بينت لكم أن من عبد الله دهراً طويلاً ثم في آخر أيامه ترك العبادة هلك، اللهم إلا عبد ما زال يعبد الله وفجأة أصيب بشلل أو شيء منعه من العبادة، فهذا لا بأس عليه، أما أن يموت على ترك الملة والعبادة والطاعة فلن يستفيد مما مضى كله، وقد أمر الله تعالى المؤمنين المسلمين بما كان يأمر به إبراهيم أولاده: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #167  
قديم 20-09-2020, 05:33 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,900
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )

تفسير قوله تعالى: (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي ...)

ثم قال تعالى: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ [البقرة:133] كذا وكذا، هذا الكلام موجه إلى اليهود والنصارى الذين تعصبوا للبدعة، فاليهودية بدعة والنصرانية بدعة، كالطرق عندنا: القادرية والتجانية والرحمانية، بدع ابتدعوها، الإسلام ليس فيه قادري ولا رحماني ولا تجاني ولا عيساوي أبداً، مسلمون فقط، ابتدعوا البدع، فهل اليهودية كانت موجودة على عهد موسى؟ والله! ما كانت، هي بدعة، هل النصرانية كانت موجودة على عهد عيسى تسمى النصرانية؟ والله! لا وجود لها، ابتدعوها، كما نقول: هل كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الروافض والزيدية والباطنية والمعتزلة؟ ما كان هذا موجوداً، فضلاً عن القادرية والرحمانية والتجانية، هذه بدع ابتدعها الناس واخترعوها وأوجدوها لأغراض ليست شريفة في الغالب.قال تعالى: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ [البقرة:133]، فهل وصى باليهودية بنيه، أم هل وصى عيسى بالنصرانية؟ وهذا استفهام تقريع لهم وتوبيخ. أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي [البقرة:133] هذا يعقوب عليه السلام وحوله اثنا عشر رجلاً نبياً وهم الأسباط: يوسف ومن معه، اثنا عشر ولداً، وكل ولد تحته أولاد؛ فلذا يسمون بالأسباط، أصبحوا قبائل.إذاً: يا من يدعون اليهودية ديناً وهي بدعة منتنة، يا من يدعون النصرانية ديناً وهي بدعة باطلة! هل كنتم حاضرين مع يعقوب لما حضرته الوفاة وهو يوصي أبناءه، هل وصاهم بيهودية أو بنصرانية؟ ما عرفوها ولا ذكروها، فمن أين جاءت هذه؟ ابتدعتموها بعد غياب ذاك النور الإلهي.يقول تعالى لليهود والنصارى: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ [البقرة:133] أي: حاضرين، الشاهد الحاضر، والشهيد كذلك، مأخوذ من المشاهدة. إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ [البقرة:133] وليس شرطاً أنهم رأوا ملك الموت معه، ولكن علامة الموت معروفة تظهر على المريض، وهو يشعر بها. إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ [البقرة:133] الاثني عشر فحلاً، منهم يوسف عليه السلام، ولعل أحفادهم وأولادهم بينهم أيضاً إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي [البقرة:133] أنا إذا مت الآن فمن تعبدون أنتم بعدي؟ استفهام.

معنى قوله تعالى: (قالوا نبعد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً)

قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ [البقرة:133] ما نعبد غيره، نعبد. أيها الإخوة! ما معنى (نعبد) سلمكم الله؟معناه: نطيعه في ذلة وخضوع، إذا أمرنا بالصيام صمنا، وإذا أمرنا بالإفطار أفطرنا، إذا قال: جاهدوا جاهدنا، وإذا قال: اقعدوا قعدنا، العبادة: الطاعة مع غاية الذل والتعظيم، أما طاعة بدون تعظيم للمطاع فما هي عبادة، طاعة مع العنترية وعدم الاستكانة والذلة ما هي بعبادة أبداً، هي مجرد طاعة لا نسميها عبادة، طاعة مع عدم تعظيم المطاع وإجلاله وإكباره وتعظيمه ما تسمى عبادة، العبادة: هي الطاعة مع غاية الذل والتعظيم.فيعقوب عليه السلام يقول لهم: يا أبنائي! ما تعبدون من بعدي إذا رحلت عنكم وتركتكم؟ قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ [البقرة:133] أي: معبودك، ومعبود يعقوب هو الله تعالى، لا يشك في هذا عاقل. نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ [البقرة:133] أي: ومعبود آبائك. وسموهم: إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [البقرة:133]، وهل إسماعيل أبوه؟ إسحاق أبوه، لكن العم إذا ذكر مع الآباء يقال له: أب، نحن الآن إذا مررنا برجل كبير نقول: يا أبت! وليس في هذا عيب أبداً، ونقول للصغير: يا بني، والموازي لي في سني أقول له: يا أخي، هذه هي آداب البشرية، فكل من كان أكبر منك هو بمنزلة أبيك، ومن كان دونك هو بمنزلة ابنك، ارحمه كما ترحم ابنك، ومن كان مساوياً لك هو بمنزلة أخيك، عامله معاملة الأخ.إذاً: فهذا يعقوب عليه السلام، ومن هو يعقوب؟ هذا من أنبياء الله ورسله، إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ [البقرة:133] أي: معبودك الذي تعبده أنت وهو الله الذي لا إله إلا هو. وَإِلَهَ آبَائِكَ [البقرة:133] من هم؟ قال: إِبْرَاهِيمَ [البقرة:133] أولاً، وَإِسْمَاعِيلَ [البقرة:133] ثانياً، وَإِسْحَاقَ [البقرة:133].

إشارة الآية الكريمة إلى ولادة إسماعيل قبل إسحاق

وهنا إشارة إلى أن إسماعيل ولد لإبراهيم قبل إسحاق، والغريب أن هناك من علماء المسلمين من يرون أن إسحاق ولد لإبراهيم قبل إسماعيل، ويذكرون هذا في التفسير، مع أن هذه كذبة يهودية، اليهود يكرهون العرب ودينهم وإسماعيل، فقالوا: إسحاق هو الأول! مع أن القصة واضحة كالشمس، لما هاجر إبراهيم من العراق من أرض بابل هاجر معه سارة ، وهل كان معها ولد؟ والله! ما كان معها ولد، وكان معه لوط بن هاران ابن أخيه، فخرج هو وزوجته وابن أخيه، هؤلاء الذين أسلموا ووحدوا الله، فلما ساح إبراهيم في الأرض وانتهى إلى الديار المصرية كما علمتم أعطى الملك لامرأته سارة هاجر ، فـهاجر تسراها إبراهيم لأن سارة أعطتها له، فأنجبت إسماعيل، فغارت سارة وما أطاقت أن تراها تلد وهي ما ولدت، فمن هذه الغيرة أُمر إبراهيم بأن يبعد إسماعيل وأمه حتى لا تتأذى وتتألم رحمة بها، وهي من هي، هي سارة امرأة الخليل، فجاء بها إبراهيم إلى مكة وكانت وادياً ما بها أحد، فكيف نقول: إسحاق قبل إسماعيل؟ والله يقول: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71]، بشرها بالولد؛ لأنها كانت لا تلد.ثم إنا نقول: هذا الأمر العلم به لا ينفع والجهل به لا يضر، فلهذا ما نتعرض له، كون إسحاق أولاً أو إسماعيل أولاً، لا فرق بين هذا وذاك، وإنما لما قالوا: نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [البقرة:133] فمعناه: أن إسماعيل كان قبل إسحاق حسب الترتيب اللفظي. قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا [البقرة:133] لا ثاني له، أي: معبوداً واحداً.

معنى قوله تعالى: (ونحن له مسلمون)

وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133] منقادون خاضعون مستكينون، يأمرنا فنطيع، ينهانا فنطيع، يخبرنا فنصدق، هذا معنى الإسلام.أين اليهودية؟ قل لليهود والنصارى: هذا جدكم، هذا إسرائيل عليه ألف سلام يوصي أولاده ويسألهم ويستنطقهم، فهل قالوا: إنهم يهود أو نصارى؟ قالوا: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133]، فكيف أصبح الدين -إذاً- ثالوثاً؟ على كل حال القرآن بكَّتهم وأخزاهم وأذلهم، ولكن لا يريدون أن يعترفوا بهذه الحقيقة؛ ليعيشوا على باطل اليهودية والنصرانية لتأكلهم جهنم، وإلا فوالله! ما عندهم ما يعتمدون عليه أبداً في صحة بدعتهم، لا يهودية ولا نصرانية، قال تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67]، وهم مشركون.

تفسير قوله تعالى: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ...)

ثم قال تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ [البقرة:134] ما هناك حاجة إلى النزاع والصراع، تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ [البقرة:134] مضت وما بقي شيء، إذاً: لم نبقى نتشبث بالماضي، نحن أمام واقع جديد، أكرم الله البشرية بالإسلام وأنزل كتاباً عظيماً هو القرآن الكريم، وحمَّله رسولاً عظيماً شريفاً كريماً عاش على بلاغه وتبليغه ودعوة البشرية إليه، فلم نتشاغل بالماضي؟ سبحان الله العظيم! تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ [البقرة:134] من خير أو شر، وتجزى بالخير كما تجزى بالشر. وَلَكُمْ [البقرة:134] أنتم أيضاً مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134]، معنى هذا: ما هناك حاجة إلى أن يتشبث اليهود بدين سموه يهودية، ولا أن يتشبث النصارى بدين سموه المسيحية أو النصرانية، الرب واحد لا إله غيره ولا رب سواه، الذي أرسل موسى وهارون وأرسل عيسى، ونبأ إبراهيم ويعقوب وإسحاق هو الله، ها هو ذا تعالى قد أنزل كتابه وبعث رسوله، أي عذر لكم أن تتركوا الإسلام؟ بأي منطق أو حجة أو عقل؟ أنتم تعبدون الله أم لا؟ عبدتموه دهراً، فأنزل كتابه وبعث رسولاً وأوقف تلك العبادة كاملة ووضع شرعاً جديداً وقانوناً جديداً، فهل من العقل أن نقول: لا ونتشبث بالماضي؟من الأمثلة القريبة المعقولة -لو يفهمونها- أنا نقول: الدولة سنت قانون كذا وألزمت الشعب به، لا فرق بين الغني والفقير والكبير والصغير لا بد من تنفيذ هذا القانون لصالح الشعب والأمة، بعد عشر سنين أو عشرين سنة نسخته وأبطلته ووضعت غيره، هل يستطيع مواطن أن يقول: أنا أعمل بذلك القانون الماضي؟ أسألكم بالله: لو يتشبث مواطن ويقول: لا، هذا كان قانوناً شرعته الدولة، وهو يعلم أنه نسخ وأبطل العمل به ولم يصح أبداً أن يعمل به مواطن، فالذي يعمل به هل يقال له: عاقل؟الدولة سنت قانوناً في المال أو في غيره، وعمل به الشعب سنة أو سنتين أو عشر سنوات، ثم بدا لها أن من المصلحة إيقاف هذا القانون واستبداله بقانون آخر أنفع للشعب، وعرف المواطنون هذا وأخذوا يطبقون الجديد، لو قال قائل: أنا أعمل بهذا القديم وأصر على ذلك فكيف ينظرون إليه؟ يرونه أحمق، ويؤدبونه ويقهرونه ويذلونه حتى يخضع للقانون الجديد، ولا يسمح له أن يقول: لا، ذلك قانون شرعه الحاكم، فهذه الصورة واضحة.ولذلك نقول: يا يهودي أو يا نصراني أو يا بوذي! ما دمت تؤمن بالله وتشريعه وتقنينه وإرسال رسله؛ فها هو ذا تعالى الذي أرسل موسى وأرسل عيسى أرسل محمداً وأبطل ما كان، وجاء بقانون جديد وكتاب جديد، فكيف تؤمن بالكتب وبالرسل ولا تؤمن بهذا؟ هذه مهزلة؛ ولهذا فكفرهم عفن، ما له أبداً قيمة، نعم لو كانوا ملاحدة لا يؤمنون بالله فهذا أمر آخر، لكن أنت تؤمن بالله وبرسله وتعتقد أنك على دينه وسميته باليهودية أو النصرانية، وجاء الكتاب العظيم والرسول الكريم فبين أخطاءكم ومفاسدكم وما أنتم عليه من البدع والضلالات ونسخها بما هو النور والهداية، فبأي منطق أو ذوق تقول: نتمسك بديننا؟ إذاً: ما تريدون الله ولا الدار الآخرة، أصبحت المسألة قبليات وعصبيات، يقال: نتمسك بديننا، فهذا دين من؟ أليس هذا دين البشرية كلها؟ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، والرسول يقول له ربه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ:28]، قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158] هل استثنى الله شعباً أو أمة، أبيض أو أسود؟ كلمة (الناس) تشمل البشرية كلها، ما بعث للعرب فقط ولا للعجم فقط ولا لأهل إقليم، كانت الرسل تبعث في أممها بحسب الأحوال والظروف، والله العليم الحكيم، وقد علم الله أن يوماً سيأتي تصبح البشرية فيه كلها كأنها إقليم واحد، والآن ارفع صوتك في آلة من الآلات والعالم يسمع، إذاً: ما هناك حاجة إلى أن يبعث في كل إقليم رسول ما دامت الدعوة تصل في يومها.فنقول: آمنا بالله .. آمنا بالله .. آمنا بالله، سبحان الله العظيم! أرسل محمداً إلى الأبيض والأسود وإلى الناس كافة لعلمه بما سيقع وما يوجد في الكون من هذه الآلات والاتصالات، حتى يصبح العالم وكأنه إقليم واحد، وأما القرون الماضية فأهل كل إقليم منقطعون في إقليمهم، حتى إن فيهم من يعيش ثمانين سنة أو مائة سنة ما يخرج من ذلك المكان، ولا يشاهد رجلاً من إقليم آخر؛ لانعدام الاتصالات. فعلم الله عز وجل ما سيكون فبعث رسولاً واحداً للبشرية كلها، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، ما استثنى أحداً، وتحقق هذا، ومن أراد نجاته من عذاب الخلد بعد نهاية هذه الحياة فهذا هو سبيل النجاة، يؤمن بمحمد رسولاً وبالقرآن كتاباً ويعبد الله بما جاء به الكتاب والرسول صلى الله عليه وسلم.

ملخص لما جاء في تفسير الآيات

هذه الآيات -كما قلت لكم- كانت خطاباً لليهود والنصارى: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ [البقرة:133] ماذا؟ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي [البقرة:133]، فماذا قالوا؟ هل قالوا: نعبد عيسى؟ قالوا: نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ [البقرة:133]، من هم؟ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا [البقرة:133] أيضاً، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133]، آمنا بالله وأسلمنا لله.ثم قال تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ [البقرة:134] فما سبق من باب البيان والتوضيح وإيقاع الحق في موقعه، وإلا فدعنا منهم فقد مضوا، تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ [البقرة:134]، وهانحن أمام وحي جديد وتنزيل وكتاب ورسول وقانون وشريعة، فلم نتشاغل بالماضي؟ أما نريد أن نسعد ونكمل في حياتنا في الدنيا والآخرة؟ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:134] لها ما كسبت تجزى به، أم أن هناك من لا يجزى بكسبه؟ لا يوجد إلا مجنون، وإلا فكل ذي عقل سيجزى بكسبه خيراً أو شراً. لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134]، هل يسأل اليهودي أو النصراني عما كان يعمل الماضون؟ ما يسأل عنه أبداً، ما هو بمسئول، قد يسأل المرء عن عمل عمله هو، من نشر بدعة وعلم الناس باطلاً فكل الذين عملوا به هو يسأل عنه؛ لأنه كسبه، من دعا إلى ضلالة، من دعا إلى فتنة، من دعا إلى باطل واستجاب الناس له، فكل كسبهم هو يجزى به، وهم كذلك يجزون به، ولكن بما أنه هو الذي نشر هذا الباطل فسوف يحاسب ويجزى به.وقوله تعالى: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:134] كقوله: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر:18]، الوازرة: الحاملة للوزر، والوزر هو حمل الذنوب والآثام، وقد بين هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأدق صورة، حين توضع الموازين في ساحة فصل القضاء للحكم بين الخلائق، ويجيء الرب تبارك وتعالى ليحكم بين عباده، يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الأم توضع حسناتها في كفة الميزان وسيئاتها في الكفة المقابلة، ويستوي الوزن، فتأتي لابنها وتقول: أي بني! لقد علمت أني كنت لك خير الأمهات، فيقول: نعم يا أماه. فتقول: أريد حسنة فقط من حسناتك ترجح بها كفة حسناتي، فيجيبها الولد بقوله: أي أماه! أعلم أنك كنت خير الأمهات لي ولكن نفسي نفسي، إذا أعطيتك حسنة فرجحت كفتك سأدخل النار، ويأتي أيضاً الابن إلى أبيه والأب إلى ابنه: يا أبي! يا بني! يطلب حسنة واحدة فما يتحقق ذلك أبداً، وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر:18]، وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [فاطر:18]، ولو كان أماً أو أباً، ما تجد أبداً من يساعدك، ومن يحمل معك.إذاً: فمن الجد ومن النصح للنفس أن نترك ما كان عليه الأولون من ضلالة أو هداية، ولنعمل على هداية أنفسنا وإصلاحها وإسعادها، لا نشتغل بالماضي ونعتز بما ليس بعز، هذه هداية الله عز وجل لعباده. تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134]، وهذا الذي ينبغي أن نعيش عليه ونذكره، نحن نعتز بآبائنا وأجدادنا وقبائلنا ومذاهبنا وطرقنا، فينبغي أن نعمل على هداية أنفسنا وإنقاذها، لا ننظر إلى الماضي كما كان، فهل أخذنا بهذه الهداية الإلهية؟نسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لسلوك سبيل الرشاد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #168  
قديم 20-09-2020, 05:34 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,900
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (90)
الحلقة (97)




تفسير سورة البقرة (59)






لما جاء وفد نصارى نجران اجتمعوا مع اليهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذوا يتجادلون في مجلسه، وقام بعضهم بتسفيه بعض، وكفر بعضهم بعضاً، فقالت يهود للنصارى: كونوا على اليهودية لتهتدوا، وقالت النصارى لليهود: كونوا على النصرانية تهتدوا، فجاء خطاب الله عز وجل لهم بأن من أراد الهداية الحقة والاستقامة على الدين القويم فعليه أن يؤمن بالله، وبما أنزل على النبيين والمرسلين دون تفريق بينهم ولا انتقاص من قدرهم.

مكانة المدينة النبوية وخصوصيتها

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت -كعهدنا بها- سورة البقرة، وها نحن مع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:135-136]. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! اذكروا أن هذه السورة مدنية، ومرحباً بالمدنيات والمكيات، والمدنية: هي التي نزلت في المدينة النبوية، وأين توجد المدينة النبوية؟ والله! إنها هذه لهي، فالحمد لله، لو كنتم في كندا أو في الصين أو اليابان وذكرت لكم المدينة النبوية فكيف يكون شعوركم وانفعالكم؟ ستتمنون لو كنتم فيها، ها أنتم الآن فيها، فهل أحسنتم قيامكم فيها؟ هل عرفتم أنها حرم؟ ( المدينة حرام من عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل ). هل تعلمون أنكم مطالبون بآداب خاصة في هذه الديار؟ قد تقولون: نعم يا شيخ، ولكن غلبتنا الدنيا، غلبتنا الأهواء، غلبتنا الشهوات. فأقول: إذاً: انهزمتم، مشيتم وراء عدوكم، وقد حذركم الرحمن فقال: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6]، فاحذري يا أمة الله احذر يا عبد الله أن ترتكب معصية في هذه البلاد، إنها قدس وطهر، ومن لم يعرف ما هي المعصية فليسأل أهل العلم، فإن هذا السؤال واجب؛ لقول الله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].ومن هنا لم يبق بين المسلمين الجديرين بهذا الاسم جاهل من امرأة ولا رجل، ولا يحتاجون إلى قرطاس ولا قلم، وإنما قبل أن يقدم على الشيء يسأل أهل العلم، فإن قالوا: نعم هو مما أحب الله؛ فباسم الله يقدم عليه، وإن قالوا: هذا مما كره الله تركه، ولا نزال نسأل ونعمل حتى نصبح علماء رجالاً ونساء، لكن صرفونا، فماذا نصنع؟ هل من عودة؟ نحن عائدون إن شاء الله تعالى.

سبب هجرة اليهود من الشام إلى المدينة

هذه المدينة عند نزول هذه الآيات كان فيها وفد نجران، واليهود مقيمون يعيشون في المدينة، ووفد نجران نصارى صليبيون مسيحيون والعياذ بالله، كانوا يسكنون في جنوب الجزيرة، واليهود يسكنون بالمدينة، فمن أين جاءوا؟ هل تعرفون من أين جاء اليهود؟ جاءوا من الشام، من القدس، فلم جاءوا إلى هذه المدينة وما فيها إلا السبخة وحبات التمر والعنب؟الجواب: لأنهم لاقوا الأمَرَّين من النصارى، النصارى هم الذين أسقطوا دولة بني إسرائيل، وهم الذين شردوا بني إسرائيل، ولم سلطهم الله عليهم؟ لأنهم فسقوا عن أمر الله، وخرجوا عن طاعته، وهل لذلك صورة ينظر إليها؟الجواب: انظر إلى العالم الإسلامي اليوم ومنذ قرون وقد فسق عن أمر الله وخرج عن طاعته، فاستوجب النقمة، فسلط الله عليهم بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا وهولندا، وما زالوا تحت النظارة أيضاً، مزقوهم وشتتوهم، أين الدولة الإسلامية التي أصبحت ثلاثاً وأربعين دولة؟ أين المذهب الإسلامي؟ سبعون مذهباً، أين الأمة؟ انتهت، بسبب ماذا؟ بسبب الفسق، ما معنى الفسق هذا؟ إنه الخروج عن طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وطاعة أولي الأمر حكاماً وعلماء هداة مبينين.فبنو إسرائيل كانوا أعز منا وأكرم، هم أبناء الأنبياء، فلما فسقوا عن أمر الله فشاع فيهم الزنا، وأصبحت المرأة تتبرج، تلبس الكعب الطويل هذا الذي يلبسه نساؤكم وبناتكم، هذا أخبرنا رسول الله به من بداية أمرهم، أكلوا الربا، هجروا كتاب الله، أعرضوا عن ذكر الله كحالنا، فاستوجبوا نقمة الله، فسلط عليهم الرومان، فشتتوهم ومزقوهم وعذبوهم، لم؟ لأنهم أعداؤهم قتلوا إلههم، من قتل عيسى في اعتقاد النصارى؟ اليهود هم الذين قتلوه، والذي يقتل إلهك تنظر إليه؟ أين إيمانك؟ الذي تعتقد أنه قتل ربك هل تحبه وترضى عنه؟ كانوا يقلونهم كالسمك في الزيت؛ لأنهم قتلوا إلههم، ووالله! ما قتلوه، أخبرنا العلام الحكيم بقوله من سورة النساء: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157].إلا أن الجريمة جزاؤها حاصل، لأنهم قتلوا من شبه وصلبوه وعلقوه، فكأنما قتلوا عيسى، أما عيسى روح الله فما قتلوه أبداً ولا صلبوه، إنه في الملكوت الأعلى، رفعه الله من روزنة البيت والبيت مطوق بالشرطة.إذاً: فهاجروا إلى هذه الديار لوجود الأمن فيها، فهنا أمة جاهلة أمية لا تعرف شيئاً وهم أهل كتاب وعلم يسودون بين الجهال، وإلى الآن العالم يسود بين الجاهلين أحبوا أم كرهوا، هذا من جهة.ومن جهة أخرى: أنهم يتطلعون إلى النبوة المحمدية، عندهم من الأدلة القطعية في التوراة والإنجيل أن نبي آخر الزمان قد أظل زمانه، إنه يخرج من بين جبال فاران، جبال مكة، فقالوا: هذا الذي نعز به ونسود، متى ظهر في تلك الديار احتضنا دعوته ومشينا وراءه وأعدنا من جديد مملكة إسرائيل، فنزلوا المدينة وقبلها ديار متصلة كتبوك وخيبر وتيماء.. وما إلى ذلك.وشاهد ذلك يا أهل القرآن من سورة البقرة التي ندرسها، إذ قال تعالى عنهم: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:89] ما معنى: يستفتحون عليهم؟ يقولون لهم: إن نبي آخر الزمن قد أظل زمانه وسوف نؤمن به ونمشي وراءه ونقاتلكم وننتصر عليكم، وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ [البقرة:89] أي: من قبل ظهور الرسالة المحمدية والأنوار المحمدية يستفتحون على المشركين، يقولون: سوف نفعل ونفعل ونفعل، فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:89].وكان بالمدينة ثلاث قبائل كبرى: بنو قينقاع في الوسط، بنو قريظة في الجنوب، بنو النضير في الشمال، وكانوا مسيطرين، فلما هاجر الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ارتجت المدينة تحت أقدامهم، ما إن كانت وقعة بدر في السنة الثانية وشاهدوا انتصار رسول الله والمؤمنين حتى تغيرت قلوبهم ووجوههم وعرفوا، وأخذوا يجادلون ويخاصمون ويدعون العلم فوق ما نتصور، ولو تتبعنا القرآن لوقفنا على ذلك.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا ...)

الآن جاء وفد نجران من النصارى وتلاعنوا، فكفَّر اليهود النصارى وكفَّر النصارى اليهود أمام الرسول والمؤمنين: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ [البقرة:113]، كفَّر بعضهم بعضاً في مجالس العلم بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، والقرآن دون هذا وسجله: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ عَلَى شَيْءٍ [البقرة:113] لا شيء من الدين الحق، وصدقوا في تكفير بعضهم بعضاً؛ إذ -والله- ما هم على شيء لا اليهود ولا النصارى، اليهود مشبهة، وقالوا: عزير ابن الله، وفسقوا عن أمر الله في كل مجالات الحياة، والنصارى ماذا فعلوا؟ قالوا: عيسى ابن الله وأمه مريم إله وروح القدس إله، وتاهوا، فهل هم على شيء؟ والله! لا شيء، سبحان الله! انتصر الإسلام وهم يشاهدون وكفر بعضهم بعضاً، وسجل الله هذا.وواصلوا الحجاج والجدال ومشينا معهم في هذه الآيات الكريمات، وانتهينا الآن إلى قوله تعالى: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا [البقرة:135].قال اليهود للنصارى: كونوا يهوداً تهتدوا، وقالت النصارى لليهود: كونوا نصارى تهتدوا، قالوا للمسلمين: كونوا يهوداً أو نصارى تهتدوا، هكذا يعرضون بضاعتهم الفاسدة، بعضهم ماكر خادع، وبعضهم مقلد جاهل تابع. وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:135] أي: يهوداً أو نصارى؛ تهتدوا إلى سبيل الرشاد وطريق السلامة، إلى منهج الحق والعدل والخير والسعادة في الدنيا والآخرة.

معنى قوله تعالى: (قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين)

والله تعالى مع رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فماذا قال تعالى ليفصل هذا النزاع؟ قُلْ [البقرة:135] يا رسولنا، أيها المبلغ عنا، يا محمد صلى الله عليه وسلم، قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [البقرة:135]، بل نتبع ملة إبراهيم حنيفاً، وأنتم تزعمون أنكم إبراهيميون وأنكم على ملة إبراهيم، وتحبونه وتعتزون به، وتقولون: نحن على ملة إبراهيم، وقد عرفتم من إبراهيم. قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [البقرة:135]، ما معنى: حنيفاً؟ أي: كان موحداً، ما كان والله مشركاً، كان حنيفاً إذ أوجده الله في عالم ليس فيه من يوحد الله عز وجل، العالم يفيض بالشرك والكفر، فمال إبراهيم عن آلهتهم ودياناتهم ومعتقداتهم وأصبح وحده، فقالوا: هذا حنيف؛ لأنه مأخوذ من الحنف وهو التواء الرجلين وميلهما إلى بعضهما، نعم هو حنيف مائل عن ديانات الباطل واعتقادات الشر والفساد إلى الحنيفية ملته، وهي أن لا إله إلا الله.وقال بعضهم: حنيف من باب التفاؤل، لأن الجنف ضد الحنف، الجنف هو الميل، فمن باب التفاؤل قالوا: حنيف، ما قالوا: جنيف، ولسنا في حاجة إلى قول الناس في هذا الباب، حسبنا أن نعرف أنه كان موحداً ومن حوله من العالم كانوا مشركين، فالموحد منا هو الحنيف؛ لأنه على نهج إبراهيم وعلى طريقته وملته.فما كان إبراهيم -والله*- من المشركين أبداً، وها أنتم أيها اليهود والنصارى مشركون، فكيف تنتسبون إلى إبراهيم؟ إذاً: اتركوا الشرك وتخلوا عنه وابتعدوا من ساحته لتكونوا حنفاء على ملة إبراهيم، أما وأنتم مشركون بالله عز وجل تعبدون معه غيره وتقولون: نحن على نهج إبراهيم، نحن على ملة إبراهيم؛ فهذه الدعوى باطلة وكذب ولا تصح، ادعاها العرب المشركون وقالوا: نحن على ملة أبينا إبراهيم، فهل كان إبراهيم يعبد الأصنام والأحجار والأهواء والشهوات؟ كان موحداً، فوحدوا الله تكونوا مؤمنين وتكونوا إبراهيميين على ملة إبراهيم.فهذا كلام قليل، ولكن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجادلهم ويحاجهم فوق ما نتصور، لكن القرآن يذكر المسائل بإيجاز؛ لأنه كتاب يحفظ في الصدور.إذاً: لما قال اليهود للمسلمين: كونوا يهوداً، وقال النصارى: كونوا نصارى، وقال اليهود للنصارى: كونوا نصارى، قال تعالى: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ [البقرة:135] هي التي نكون عليها، هي التي ندين لله بها، هي التي ننضم إليها، أما تلك البدع من اليهودية والنصرانية والشرك فلا حاجة لنا فيها، باطل هذا كله، بل نتبع ملة إبراهيم حال كونه حنيفاً مائلاً عن كل الأديان الباطلة إلى دين الحق، حتى قالوا فيه: حنيف أو جنيف.

عظم منة الله تعالى على العبد بالإيمان

إذاً: وجههم رسول الله باسم الله، فمن أمر الرسول أن يقول هذا؟ الله عز وجل، قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [البقرة:135]، هذا الذي نلتزم به، هذا الذي نتبعه، هذا الذي نعيش عليه، فلا يهودية ولا نصرانية ولا مجوسية ولا شرك ولا باطل، هذا هو الحق، من هداهم لهذا؟ الله جل جلاله، هيا نحمد الله لنا ولهم، الحمد لله .. الحمد لله، لولا الله ما كنا في هذا المجلس، ولا نعرف لله كلاماً، ولا نعرف لله ديناً ولا ملة، فالحمد لله.أتظنون أن هذا رخيص وتفضلون عليه شيكاً فيه مليار دولار؟ أقسم لكم بالله جل جلاله على أن مؤمناً كهذا الشاب بيننا لو وضع في كفة ميزان ووضع العالم كله من أهل الشرك والباطل والكفر في كفة لرجح بهم، أما تعطون قيمة للإسلام والمسلمين؟إليكم هذا العرض السريع لنتأكد من صحة القضية: كان أبو القاسم صلى الله عليه وسلم جالساً مع بعض أصحابه في ظل جدار، فمر رجل من الفقراء المؤمنين دميم الخلقة، والله يخلق ما يشاء، فمر وسلم ومضى، فلما غاب عنهم قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: ما تقولون في هذا الرجل؟ فقالوا: هذا حري -جدير- بأن إذا خطب لا يزوج، وإذا قال لم يسمع له، وإذا أمر لا يطاع، لم؟ لضعفه وعدم حاجة الناس إليه، فسكت أبو القاسم، وأخذ في تعليمهم وتزكية نفوسهم، حتى مر منافق من أعيان المنافقين في الأبهة والمنظر واللباس والصحة البدنية، فلما غاب عنهم قال: وما تقولون في هذا؟ وهذا من باب التعليم بواسطة السؤال والجواب، فقالوا: هذا حري إذا خطب أن يزوج، وإذا أمر أن يطاع، وإذا قال أن يسمع له.فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: والله! إن ملء الأرض من مثل هذا لا يعدل ذاك الذي قلتم فيه كذا وكذا. ملء الأرض من هذا المنافق لا يزن أبداً ذاك المؤمن الضعيف القصير الدميم الخلقة، فمن هنا عرفنا أن مؤمناً يزن ما على الأرض من الكفار من اليهود والنصارى والبوذيين والمجوس والمشركين.أزيدكم برهاناً: لم إذا قتل المؤمن كافراً لا يقتص منه بالقتل؟ وإن قال أبو حنيفة غير ذلك فدعنا من قوله؛ فقول المذاهب الصحيحة وجمهور الصحابة والتابعين والأئمة: أن المؤمن لا يقتل بكافر، وهو حق، لا يقتل بكافر، لم؟ من يفسر هذه الظاهرة؟ هل لأن المؤمن أبيض، جميل، غني؟ لا، قد يكون أرمش أعمش أسود مثلي، وما يقتل بكافر، أتدرون ما هو السر؟ لأن هذا الكافر كيف يقتل بمؤمن وهو ما يساوي ظفره أبداً؟ مادام أن ملء الأرض من الكافرين لا يزنون مؤمناً واحداً فكيف يقتل كافر بمؤمن، كيف يصح هذا؟ وسر ذلك أن هذا المؤمن يذكر الله ويعيش على ذكره وشكره، وهذا لا يذكر الله ولا يشكره، هذا لا حق له في الحياة؛ لأنه خلق وأطعم وسقي وحفظ من أجل أن يعبد الله، فلما رفض فلا حق له في الحياة: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فمن كفر بالله وترك عبادته لا حق له في الحياة، فلهذا ندعوه إلى الله، فإما أن يجيب وإما أن يقتل.وعمر رضي الله عنه على عهد ولايته تآمر سبعة أنفار على مؤمن فقتلوه، حادثة نادرة وقعت، فاختلفوا كيف نقتص: هل نقتل السبعة أو نقتل واحداً مقابل المقتول؟ فقال: اقتلوهم سبعتهم، والله! لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم. لأن هذا كان يعبد الله ويذكره، فهل عرفتم سر الحياة أو لا؟

يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #169  
قديم 20-09-2020, 05:35 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,900
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )

شرك اليهود والنصارى

إذاً: نعود إلى الحادثة: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [البقرة:135]، وأنتم أيها اليهود والنصارى -والله- مشركون، هل الذي يقول: الآلهة ثلاثة موحد؟ الذي يقول: عزير ابن الله ويعبده موحد؟ فاليهود ما هم بموحدين أبداً، بل مشركون، وإن لم يكن لهم صلبان أو أصنام، ولكن في نفوسهم آلهة يعبدونها: الدينار والدرهم، ( تعس عبد الدينار )، من قال هذا الكلام؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم.إذاً: هناك عبد للدينار، من هو هذا؟ الذي يبيع دينه وعرضه وشرفه وكرامته من أجل الدينار ويعبده، فقد ذل له وخضع.

تفسير قوله تعالى: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ...)

ثم قال تعالى: قُولُوا [البقرة:136] أيها اليهود والنصارى، ونحن أيضاً نقول معهم وسبقناهم، قولوا ماذا؟ آمَنَّا بِاللَّهِ [البقرة:136] بالله الحق الذي لا إله غيره ولا رب سواه، الله خالق السماوات والأرض وما بينهما، الله ذو الجلال والكمال، ذو الصفات العلا والأسماء الحسنى، الله رب إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد والعالمين، هذا الذي نؤمن به، لا نؤمن بعيسى إلهاً ولا بجبريل إلهاً ولا بأن العزير ابن الله. قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ [البقرة:136] الحق الذي لا إله غيره ولا رب سواه، وإن لم تعرفوا فسلونا نعرفكم به، حتى تعرفوا معرفة يقينية.

إعجاز القرآن الكريم وسعة علومه

قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا [البقرة:136]، ما الذي أنزل إلينا؟ القرآن الكريم، القرآن العظيم، أنزل على رسولنا صلى الله عليه وسلم من أجلنا، فهو أنزل إلينا، هذا الكتاب العظيم القرآن الكريم ماذا تعرفون عنه؟ اعلموا أنه اشتمل على علوم ومعارف تعجز العقول البشرية حتى عن إدراكها على حقيقتها، ما ترك شيئاً تحتاج إليه البشرية في الحياتين في الدنيا والآخرة إلا ذكره وبينه، حوى علوم الأولين والآخرين، يحدثكم عن الملكوت الأعلى كأنكم حاضرون فيه، يحدثكم عن الماضي، عن القرون ذات الآلاف من السنين كأنها شاهدة، يتحدث عن المستقبل فيزيل الغشاء عنه ويظهره كأنه بين يديك، فلهذا كان هذا الكتاب القرآن الكريم هو الكتاب المعجز، ما أعجزت التوراة أحداً ولا الإنجيل ولا الزبور، هذا القرآن الكريم هو المعجز، أعجز الإنس والجن عن أن يأتوا بمثله، بل بسورة من مثله، واقرءوا تلك الآية الكريمة، إذ يقول تعالى من هذه السورة البقرة المدنية؛ يقول: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة:23]، أي: إن كان فيكم شك وعندكم شك في القرآن الذي أنزلناه على عبدنا بأحكامه وشرائعه وقوانينه وآدابه وعلومه ومعارفه؛ وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23]، من مثل القرآن ومن مثل محمد صلى الله عليه وسلم في أميته، وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:23] أن لكم شهداء ينصرونكم ويقفون إلى جنبكم من الإنس والجن.ثم قال لهم: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، أي: إن لم تستطيعوا أن تأتوا بسورة فقط من مثل هذا القرآن، وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، هل أدركتم معنى: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]؟ هذه (لن) الزمخشرية التي تفيد التأبيد في نظر هذا المعتزلي، لن تفعلوا، ويمضي العام والأعوام والقرن والقرون فهل فعلوا؟كلا؛ لأن الله قال: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24].قالت العلماء: هل في إمكان اليابان الصناعية التي تفوقت الآن في الصناعة، هل في إمكانها أن تصنع آلة أو توجد مصلاً من الأمصال ودواء من الأدوية من تحليلها للكون، وتقول: أتحدى العالم مدة سبعين سنة إذا أنتجوا مثل هذه القطعة أو مثل هذا الدواء، هل يمكن؟ أو أمريكا التي هيمنت على العالم، هل تستطيع أمريكا أن تصنع قطعة أو آلة أو سيارة أو كذا، وتقول: أتحدى العالم لمدة خمسين سنة إذا كان في إمكانهم أن يوجدوا مثل هذه؟ هل يمكن أن تقول أمريكا ذلك؟ ما يستطيعون، أما الله تعالى فقد قال: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، فهل فعلوا؟ قالت العلماء: جملة (ولن تفعلوا) هذه تدل على أنه كلام الله، إذ لا يقول هذا إنسان أبداً، فهي دالة دلالة قطعية أن هذا الكلام كلام الله، هل فهم السامعون هذه؟إذاً: هذا الكتاب العظيم تحدى الله به الإنس والجن، فقال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88] معيناً وناصراً، وتحداهم بعشر سور في سورة هود، إذ قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ [هود:13]، يعني: اختلقه وكذبه؟ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ [هود:13]، تفضلوا، ما دمتم تقولون: محمد افترى هذا القرآن واختلقه وكذبه فتفضلوا أنتم هاتوا عشر سور. فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [هود:14]، وتحداهم بسورة، فهذا هو الكتاب الذي يجب أن نؤمن به.

معنى قوله تعالى: (وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط)

قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ [البقرة:136]، عرفتم أن إبراهيم أبو الأنبياء، أبو الضيفان، إبراهيم: الأب الرحيم، هل أنزل عليه كتاب؟ نعم، أنزل عليه عشر صحف، والدليل على أن إبراهيم نزل عليه صحف تحمل الشريعة قوله تعالى من سورة الأعلى: صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [الأعلى:19]، لا بد أن ينزل الله عليه شرعاً وقانوناً، فهو أسلم ودخل الناس في الإسلام وراءه، فكيف يسوسهم، كيف يحكمهم؟ لا بد من هداية، فهذه مسألة ضرورية.وصحف: جمع صحيفة، وليس معناه ورقة فقط، بل ما كان عندهم ورق، كانوا يكتبون في الجلود والعظام، المهم أنها وحي إلهي يحمل القوانين والشرائع ليسوس بها إبراهيم المؤمنين. وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ [البقرة:136]، من إسماعيل هذا يرحمكم الله؟ معنى إسماعيل بالعبرية: سمع الله، دعا إبراهيم فأعطاه الله تعالى إسماعيل.إذاً: إسماعيل أنزل عليه وحي ونبئ وأرسل في بلاد العرب، ولا بد من وحي ولا بد من إنزال كلام الله عليه.وهنا لم قدم إسماعيل على إسحاق؟ أما قال: وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [البقرة:136]، لم قدم إسماعيل؟ لأن إسماعيل ولد -والله- قبل إسحاق، وقد مر بنا وبينا خطأ وغلط من يقول: إسحاق كان قبل إسماعيل، واليهود مصرون على أن الذبيح هو إسحاق، وأن إسحاق قبل إسماعيل، وإنهم -والله- لكاذبون، والذي يؤسف له أن بعض علماء التفسير تورطوا في هذا، ويقلد بعضهم بعضاً، ويقولون: الذبيح إسحاق! والله! ما هو بإسحاق، إسحاق أين ذبح: في مكة أو في الشام؟ أما إسماعيل فخرج به إبراهيم من حجره حول الكعبة إلى منى، ومن ثم شرع الله لنا النحر والذبح في منى، فكيف يكون إسحاق؟ ثم إن إسحاق عرفنا أنه دعوة الله لما نزل الضيوف على إبراهيم فبشروه وهو في فلسطين وبشروا زوجته بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب؛ لأنه كبرت سنه وما ولد إلا إسماعيل، وامرأته سارة عقيم عاقر أيضاً، أما دفعتها الغيرة حتى غارت من هاجر ؟ والحمد لله؛ فالسياق هنا يثبت أن إسماعيل كان قبل إسحاق، أما قال تعالى: وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ [البقرة:136]، أتدرون من إسحاق هذا؟ هذا ابن إبراهيم ابن سارة عليه السلام، وولد لإبراهيم أيضاً من غير سارة ، لما ماتت تزوج غيرها؛ فولِد له مدين.قال تعالى: وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ [البقرة:136]، الأسباط جمع سبط، الأسباط في اليهود كالقبائل في العرب؛ لأن أولاد يعقوب عليه السلام الاثني عشر ولداً على رأسهم يوسف وبنيامين ويهوذا، أولئك الاثني عشر رجلاً، كل واحد تزوج وأنجب وتناسلت ذرية منهم، فأصبحوا قبائل يعرفون بالأسباط، والعرب عندهم قبائل، واليهود عندهم أسباط، إذ كل نبي كان يوحى إليه وينزل الله تعالى عليه وحيه لهداية الخلق وتربيتهم.

معنى قوله تعالى: (وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم)

وَمَا أُوتِيَ مُوسَى [البقرة:136]، من موسى هذا؟ كلمة موسى أصلها: موشي، ونحن نعرف موشي ديان الذي مات عليه لعائن الله؛ وسر هذه التسمية أنه لما صدر أمر ملكي على عهد فرعون بأن المرأة من بني إسرائيل إذا حملت يجب أن تبلغ أقرب مركز في المدينة بأنها حملت وإلا فستعاقب، ثم بعد ذلك إذا قرب وضعها لا بد أن تعلم المسئولين، وتأتي القوابل ورجال فرعون ينتظرون، فإذا خرج من بطن المرأة ذكر ذبحوه، أو دفنوه في التراب، وإذا كانت أنثى تركوها، لم؟ لأن الساسة أوعزوا إلى فرعون أن سلطانك ودولتك وملكك يزول على يد بني إسرائيل، لم؟ قالوا: هذا شعب كريم له أصالة وله شرف، فما يمكن أن تبقى مسوداً تحكمهم، لا بد أن يطالبوا يوماً ما بالملك والحكم ويسودون. فقال: إذاً: ماذا نصنع أيها الساسة؟ قالوا: الطريق أنك تذبح الذكران، وتترك الإناث للخدمة؛ لأنا في حاجة إليهن، أما الذكور فيذبحون، فمضى عام وعامان وثلاثة وأربعة فقالوا: قلت اليد العاملة، ماذا نصنع الآن؟ قال: إذاً: سنة تذبحون وسنة تعفون عن مواليد بني إسرائيل، شاء الله أن السنة التي فيها العفو ولد فيها هارون، والسنة التي فيها الذبح ولد فيها موسى، والله الحكيم العليم يدبر ما يشاء كيف يشاء: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7]، بشراك يا أم موسى: وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7]، لا ينجو من فرعون فقط، وقد تحققت البشرى، إذاً: أوحى الله إلى أم موسى أنها إذا وضعته تجعله في صندوق، فهيأت تابوتاً من خشب وجعلته في التابوت وقالت لأختيه: ارميه في النيل، فجاءوا فما وجدوا شيئاً، وأخذ الماء يلعب به ويعبث حتى وصل إلى القصر، وحول القصر أشجار كما تعرفون، فقالوا: (موشي) أي: بين الماء والشجر، هذا موشي، وجد بين الماء والشجر، فالـ(مو) بالعبرية: بمعنى ماء، و(شي) شجر، واليهود الآن يسمون موشي، لكن في العربية وفي كتاب الله: موسى. فموسى ماذا آتاه الله؟ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى [البقرة:136]، ما قال: وما أنزل على موسى، أوتي من المعجزات الخارقات، ويكفي التسع الآيات، من أعطاه هذه الآيات التسع؟ تسع آيات تعجز البشرية عن أن تأتي بواحدة منها. وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى [البقرة:136] أيضاً ما قال: وما أنزل على عيسى، أوتي عيسى زيادة على الإنجيل كزيادة موسى على التوراة، أعطاه الله الآيات فكان ينادي الميت فيقول: لبيك يا روح الله ويخرج حياً. وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ [البقرة:136] وما أكثرهم، هؤلاء هم الذين نؤمن بهم وبما أنزل عليهم، لا نفرق بين هذا وذاك، ولا نقول: هذا نؤمن به وهذا لا نؤمن به، فذلك الكفر بعينه، وهذا تسجيل على اليهود والنصارى أنهم كافرون، ما آمنوا، دعوا إلى أن يؤمنوا، فهل آمنوا بهذا؟ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:136] من المعجزات الخارقة للعادة، ومن الوحي الإلهي والكلام الرباني.

معنى قوله تعالى: (لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون)

لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ [البقرة:136]، اليهود ما آمنوا بعيسى، بل ما آمنوا حتى بسليمان، وقالوا: هو ساحر وما هو بنبي، والنصارى فرقوا أيضاً، آمنوا بموسى وعيسى، وما آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.والحقيقة هي أن الإيمان لا يتجزأ، لا يقبل التجزئة أبداً، الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألف نبي، لو قلت: فلان لا أؤمن بنبوته خرجت من الإسلام، والرسل ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً، لو قلت: أنا مؤمن بكل أولئك، إلا أن هذا الرسول نفسي ما اطمأنت إليه، ولا أستطيع أن أؤمن به؛ فوالله! ما بقيت في الإسلام، وكذلك ما أوحاه الله وأنزله من صحف وكتب، لو قلت: صحف فلان فيها كذا وما نؤمن بها، فوالله! ما أنت بالمسلم، لا بد من الإيمان بكل ما أنزل الله وبكل من أرسله الله ونبأه الله، ومن فرق فما آمن ولا أسلم، وهذه الآية تعليم إلهي: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:136] قولوا: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:136]، ونحن له، لمن؟ لله، مسلمون قلوبنا ووجوهنا وكل ما طلب منا قدمناه وطرحناه بين يديه، إذ هذا معنى الإسلام.اللهم اجعلنا مسلمين، اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #170  
قديم 20-09-2020, 05:36 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,900
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )



تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (91)
الحلقة (98)




تفسير سورة البقرة (6)


بيّن القرآن جملة من صفات المنافقين وأحوالهم، ومن ذلك أنه ضرب مثلين يبينان تخبطهم وضياعهم في الدنيا ومصيرهم البائس في الآخرة، حيث لا يجدون مفراً ولا مهرباً؛ والسبب في ذلك أنهم فقدوا كل استعداد للاهتداء، فلا يسمعون، ولا يبصرون، ولا يعقلون، فلذا هم لا يرجعون عن غيهم وكفرهم، فكانت عاقبتهم ماحقة.

مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة

الحمد لله نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن ليلتنا هذه كسابقتها ليلة القرآن الكريم، وها نحن مع قول ربنا عز وجل بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:17-20].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!هذا السياق الكريم نراجع فيه ما سبق أن درسناه ووقفنا عليه وفهمناه إن شاء الله ربنا.

أصناف الناس

عرفنا أن هناك ثلاث فرق: فريق المؤمنين الصادقين في إيمانهم، والذين بشرهم الله بالفلاح والفوز. أي: بالنجاة من النار ودخول الجنة؛ دار الأبرار.والفريق الثاني هم الكفار، وهم صنفان: صنف توغلوا في الكفر والظلم والشر والفساد، فطبع على قلوبهم وعلى سمعهم، وجاءت الغشاوة على أبصارهم، فهم -والعياذ بالله- آيسون من رحمة الله، ولهم عذاب عظيم.وصنف آخر لم يتوغلوا في الكفر والشر والفساد، فهم مستعدون لقبول الإيمان والاستقامة على منهج الرحمن، وبذلك يفوزون مع الفائزين بالنجاة من النار ودخول الجنة.ولم قلنا هذا؟ لأن الآية الكريمة تقول: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6] والعلة خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:7] فهذا نوع من الكافرين توغلوا في الكفر، وضربوا فيه حتى ختم على قلوبهم فمن أين يدخل الإيمان؟! أنذرهم أو لا تنذرهم، خوف أو لا تخوف، أغلق الباب؛ بسببهم هم، أما الله تعالى فحاشاه.والفريق الثالث: هم المنافقون، والمنافقون هم الذين يبطنون الكفر ويخفونه في قلوبهم وفي صدورهم، وينطقون بالإسلام والإيمان بألسنتهم وجوارحهم، وهؤلاء هم شر الخلق؛ فأذاهم وضررهم على الإسلام والمسلمين أكثر من ضرر الكافرين الصرحاء البين كفرهم.

من صفات المنافقين

هنا نتلو الآيات التي نزلت في المنافقين، قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:8-11] قال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ [البقرة:12].وقفة: بمَ كان فسادهم أيها المستمعون؟ بارتكاب معاصي الله ورسله.خذوا هذه قاعدة ثابتة: المفسد في الأرض هو الذي يعصي الله تعالى فيها بترك ما أوجب الله وارتكاب ما حرم الله. والمصلح في الأرض والصالح هو الذي يعبد الله تعالى فيها بما شرع.فالإصلاح والصلاح يبقيان على النعمة، والفساد والإفساد هما سبب زوالها. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ [البقرة:11] أي: بارتكاب الذنوب والمعاصي قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11] لأنهم يبررون تلك الذنوب، فقد تكون اتصالاً بالكافرين وباليهود، فيقول: من أجل الدفع عن البلاد والعباد، قال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ [البقرة:12-13] ومعنى هذا أنهم يدعون المعرفة، ويدعون العلم، فإذا قال لهم مؤمن من أقاربهم أو ممن شاهدهم يتخبطون في ضلالهم: آمنوا كما آمن فلان وفلان، والمؤمن ما يرتكب هذه الذنوب، ولا يغشى هذه الكبائر، يقولون: أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ؟! إيمان الرجعيين والمتخلفين و.. و.. كما سمعنا؛ لأن هذه الآيات وإن نزلت في المدينة لعلاج المنافقين من اليهود والعرب، إلا أنها عامة خالدة ببقاء هذه البشرية، فتطبق على كل منافق ومنافقة في أي زمان وجد أو في أي مكان كان؛ لأنها آيات الهداية الإلهية، فإذا قرئت على الناس وفهموها ينتفع بها الكثيرون ممن في قلوبهم مرض، فهي خالدة بخلود هذه البشرية إلى أن تنتهي، فلهذا تتنوع الأساليب والعبارات والمعنى واحد. قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا [البقرة:13-14] في مجلس من المجالس وفي خلوة من الخلوات وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ [البقرة:14] من الإنس لا من الجن، من هو الشيطان؟ الذي لا خير فيه، وكله شر، وكل سلوكه وكل قوله وعمله يدعو إلى الشر، هذا هو الشيطان؛ لأن إبليس لعن وأُبلس من الخير كله، وذريته لا خير فيهم البتة، فأيما إنسي أو جني ينسلخ من الخير ويصبح همه .. تفكيره .. قوله .. عمله .. سلوكه .. كله في أودية الشر، فقد أصبح شيطاناً وإن كان اسمه خالداً أو إبراهيم، فالخلو إلى شياطينهم هو أن يتصلوا بأصحاب المؤامرات والباطل، قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14] فقط بأولئك المغفلين؛ الرجعيين من المؤمنين.قال تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة:15] يعاملهم بالمثل، يستهزئون بالمؤمنين والله عز وجل يستهزئ بهم وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة:15] فلا يفيقون ولا يستفيقون إلى أن يدخلوا جهنم.ثم قال تعالى: أُوْلَئِكَ [البقرة:16] أي: البعداء، فأشار إليهم بلام البعد هنا لبعدهم عن ساحات الخير والفضيلة والكمال والنعيم في دار السلام، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى [البقرة:16] أي: أعطوا الهدى الذي هو الإيمان والاستقامة على دين الله، واستعاضوا عنها الكفر والشرك والعياذ بالله، إذاً: فكيف تكون تجارتهم هذه رابحة؟ قال: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16]. فالذي يعطى الإيمان والاستقامة على منهج الحق، ويستبدل بذلك الشرك والنفاق والكفر، يصبح شر البرية والخليقة، فهذا ما ربحت تجارته بل خسرت خسراناً أبدياً، فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16] في سلوكهم أو في بيعهم وشرائهم، وما اهتدوا إلى سبيل نجاتهم وفوزهم.

تفسير قوله تعالى: (مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً...)

ضرب الله تعالى للمنافقين مثلين: مثلاً نارياً ومثلاً مائياً، والمثل في الحقيقة صفة من الصفات، وهو يضرب من أجل تقريب المعاني إلى أذهان المستمعين والذين يتلى عليهم كلام الله.فالمثل الأول يقول تعالى: مَثَلُهُمْ [البقرة:17] في ماذا؟ في خسرانهم، في ضلالهم، في حيرتهم، في تخبطهم، في مصيرهم كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [البقرة:17] جاء بالحطب وأشعل النار من أجل أن ينتفع بها، فيرى الحية إذا جاءته واللص إذا هاجمه، فيرى ما هو في حاجة إلى رؤيته؛ لأن الظلام صعب، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة:17] فلما اتقدت واشتعلت وأضاءت ما حولهم جاءت ريح عاصفة أطفأتها، ومطر غزير أطفأها، وبقوا في الظلام.فهذا مثل المنافقين الذين يؤمنون ثم ينتكسون ويعودون إلى الكفر، فهم يظهرون الإيمان كأنهم مؤمنون، وهم في ظلام الكفر والشرك والعياذ بالله مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [البقرة:17]. هذه مصيبة عظيمة، فتصور أن أناساً في خلاء والظلام دامس، فلا يعرفون كيف يتحركون، فجاءوا بحطب وأوقدوا نارهم فاتقدت، واستنارت المنطقة، وفجأة يذهب الله بنورهم، ويبقون في ذلك المكان.

تفسير قوله تعالى: (صم بكم عمي فهم لا يرجعون)

قال تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:18] (صم) ما يسمعون، لو ناداهم مناد: أن تعالوا هنا، النجاة هنا، الطريق من هنا! لا يسمعون.(بُكْمٌ) لو أرادوا أن ينادوا من بعيد: ألا من ينقذنا؟ ألا من يدلنا على الطريق؟ لا يتكلمون.(عُمْيٌ) لو كان لهم أبصار فيمكن أن يشاهدوا حركة فينادوا أو يصرخوا.إذاً: خذلوا تمام الخذلان، فلهذا لا يرجعون إلى سبيل النجاة وطريق السلامة والسعادة.وهذا مثل لبعضهم يتناسب مع كل فريق، مَثَلُهُمْ في نفاقهم وكفرهم وترددهم ورجوعهم إلى الباطل بعد مشاهدة الحق، أي: المثل الذي يتلاءم مع واقعهم هو هذا كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [البقرة:17] لأجل الانتفاع بها فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:17-18] لو بقيت لهم أسماعهم وأبصارهم وألسنتهم ينطقون، فيمكن أن يخرجوا من الفتنة، لكن فقدوا كل ذلك، وهذا معناه أنهم كفروا وتوغلوا في الكفر كأولئك الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم، وهذا النوع لا يرجعون فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:18].

تفسير قوله تعالى: (أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق ... )

أما المثل المائي فجاء في قول الله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ [البقرة:19] الصيب: المطر الذي يصب، ويقال فيه: الصيب، ويقال فيه: المطر، كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ [البقرة:19] مطر مصحوب بالظلام، ظلام السحاب وظلام الليل، وفيه رعد قاصف وبرق يخطف الأبصار، حالة من أصعب الأحوال أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ [البقرة:19] أصوات الصواعق تفزعهم، وتكاد تقتلع قلوبهم، فلهذا يدخلون أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوا صوت الرعد، لم؟ قال: حَذَرَ الْمَوْتِ [البقرة:19] خوفاً من الموت، فيحاولون ألا يموتوا بالصواعق التي تنزل، وأنتم تعرفون الصاعقة -أعاذنا الله وإياكم منها- قطعة من النار تسقط على منزل تهدمه، وعلى جماعة تبيدهم وتحرقهم حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ [البقرة:19] لا مهرب، من أين ينجون والله قد أحاط بهم؟!إذاً هذا المنظر لا يطاق.الخلاصة قوله: أَوْ كَصَيِّبٍ أي مثلهم كصيب أي: مطر مِنَ السَّمَاءِ من فوق فِيهِ ذلك الصيب أو ذلك المطر ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ [البقرة:19] محيط بالكافرين اليوم وقبل اليوم، ما قال: والله محيط بهم، سجل عليهم الكفر، وليكن اللفظ عاماً إلى يوم القيامة، والله محيط بكل شيء، فالملكوت كله في يده، وإذا كانت الأرض يجعلها في كف والسماوات مطويات في آخر، إذاً ما بقي من هو خارج عن قدرة الله وإحاطته بالخلق! وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ [البروج:20] والله محيط بكل شيء.إذاً: فمن أين تأتيهم النجاة والمهرب؟!

تفسير قوله تعالى: (يكاد البرق يخطف أبصارهم ...)

قال تعالى: يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ [البقرة:20] يكاد ويقرب البرق أن يخطف أبصارهم، وهذا تشاهدونه عند البرق كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ [البقرة:20] لما يضيء البرق يمشون خطوات، ولما ينتهي يقفون كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا [البقرة:20] وقفوا، فلاحظ هنا: القرآن الكريم آياته تنزل صباح مساء ويوماً بعد يوم وكل يوم، وتلك الآيات تتلاءم مع هذا المثل.إذا نزلت الآيات تندد بالمنافقين والكافرين، وتنذر وتخوف يكادون يصعقون، وإذا نزلت الآيات فيها انفتاح وانفراج وما تعرضت لهم مشوا في إيمانهم وواصلوا يوماً أو يومين، فإذا ما نزلت الآيات ترعبهم يقفون، وهذا مثل الآيات القرآنية النازلة من السماء مع أنوار الله أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:19-20] آمنا بالله، إن الله على كل شيء قدير.ما فعلت هذه الآيات في ذلك المجتمع؟ طهرته، نقته، صفته، ومن مات على النفاق كانوا أفراداً معدودين، ومن عداهم دخلوا في رحمة الله، وأسلموا وهم في دار السلام مع مواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؛ لأنهم عولجوا بهذا النور الإلهي، فلهذا أيما مجتمع قلَّ عدده أو كثر، عرب أو عجم مصاب بهذه الأمراض، فإن علاجه بهذا القرآن الكريم، ولو أن أهل القرية أو الحي اجتمعوا طول السنة والآيات تتلى كأنها تنزل يوماً بعد يوم، فلا بد وأن تطهر قلوبهم، وأن تزكوا نفوسهم، وأن تتغير طباعهم، وتتبدل مفاهيمهم وأذواقهم؛ لأنها سنة الله، فما أنزل هذا الكتاب إلا للشفاء والدواء والعلاج، وتطهير القلوب والنفوس، ولكن إذا ترك المؤمنون أو المسلمون الاجتماع على كتاب الله فما أصبحوا يسمعون آية، ولا يتلى عليهم هذا الكلام الإلهي، وتزداد ظلمات نفوسهم، ويصبح حالهم كالمثل الأخير، فإذا فرج الله عنهم غماً أو كرباً فرحوا وحمدوا الله، وإن جاء الظلام والكرب -والعياذ بالله- انتكسوا!

ضرب الأمثال للمنافقين

هنا نعيد المثلين السابقين متأملين ومتدبرين، فهذان المثالان المائي والناري ضربهما الله للمنافقين الذين توغلوا في الكفر والشرك والنفاق، والذين بين بين، يترددون فيمشون خطوة ويقفون، ولم لا يواصلون المشي؟ لأنهم مرتبطون بنياتهم وأفكارهم وعقائدهم وصلاتهم برؤسائهم من الشياطين.

المثل الأول: المثل الناري

قال تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:17-18] وهذا ينطبق تمام الانطباق على من أصيب بالإلحاد، وعلى من أصيب -والعياذ بالله تعالى- بالشرك والكفر، فزين له الشيطان ذلك، وأغواه دعاة الباطل والشر ففقد نوره من قلبه وبصيرته من نفسه، فينطبق عليه هذا المثل تمام الانطباق: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [البقرة:17] وهل الكفار والمنافقون والمشركون اليوم يبصرون حقيقة؟ نعم هم يبصرون ما تبصر البهائم، فلا هم لهم إلا بطونهم وفروجهم، وهل هذا حقيقة الإبصار؟! فلا يشاهدون شيئاً فيعيشون في الظلام ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [البقرة:17]. صُمٌّ [البقرة:18] لا يسمعون، اقرأ عليهم القرآن لا يسمعون، حي على الصلاة لا يسمعون، أن اتقوا الله لا يسمعون .. فالأصم لا يسمع. بُكْمٌ [البقرة:18] لا ينطقون بالمعروف، ولا بالخير، ولا بالفضيلة، ولا بالهدى أبداً، بل لا ينطقون إلا بالخبث، والعبث، والشر، والفساد. عُمْيٌ [البقرة:18] هل شاهدوا آيات الله في الكون؟ فهل نظر أحدهم فقط إلى القمر وقال: سبحان الله؟! من علَّق هذا الكوكب في السماء؟! من سخره ليضيء لنا، ولنعرف أعداد أيامنا وأعوامنا؟! هل نظر أحدهم إلى الشمس وفكر في طاقتها الملتهبة؟ ومن أوجد هذه الشمس؟ لم وجدت؟ لم تطلع وتغيب؟ لم.. لم؟ ما يبصرون.وقد يتناول عنقود العنب فلا ينظر كيف كان، ولم كان، ومن كونه، ولم.. لا سؤال أبداً، لا ينظر إلى نفسه فقط، ما أنت يا عبد الله، ومن أنت، ومن أين أتيت؟ وإلى أين تذهب؟ كيف وكيف وكيف..؟ لا يبصرون، وهذا شأن من على بصره غشاوة من بياض فما يبصر شيئاً. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:18] ومن أصيب بالصمم أصبح لا يسمع، بالبكم أصبح لا ينطق ولا يسأل، بالعمى أصبح لا يبصر.. كيف يرجع؟ قولوا: كيف يعود إلى بيته أو إلى عمله؟ مثل عجب!

يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 299.96 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 293.90 كيلو بايت... تم توفير 6.07 كيلو بايت...بمعدل (2.02%)]