|
هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#431
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (10) سُورَةُ الإسراء من صــ 216 الى صــ 225 الحلقة (431) "صفحة رقم 216" وتنافسوا على الملك وقتل بعضهم بعضا وهم لا يسمعون من نبيهم فقال الله تعالى له قم في قومك أوح على لسانك فلما فرغ مما أوحي الله إليه عدوا عليه ليقتلوه فهرب فانفلقت له شجرة فدخل فيها وأدركه الشيطان فأخذ هدبة من ثوبه فأراهم إياها فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها وقطعوه في وسطها وذكر بن إسحاق أن بعض العلماء أخبره أن زكريا مات موتا ولم يقتل وإنما المقتول شعيا وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى : ثم بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار هو سنحاريب من أهل نينوى بالموصل ملك بابل وهذا خلاف ما قال بن إسحاق فالله أعلم وقيل : إنهم العمالقة وكانوا كفارا قاله الحسن ومعنى جاسوا : عاثوا وقتلوا وكذلك جاسوا وهاسوا وداسوا قاله بن عزيز وهو قول القتبي وقرأ بن عباس : حاسوا بالحاء المهملة قال أبو زيد : الحوس والجوس والعوس والهوس : الطواف بالليل وقال الجوهري : الجوس مصدر قولك جاسوا خلال الديار أي تخللوها فطلبوا ما فيها كما يجوس الرجل الأخبار أي يطلبها وكذلك الاجتياس والجوسان [ بالتحريك ] الطوفان بالليل وهو قول أبي عبيدة وقال الطبري : طافوا بين الديار يطلبونهم ويقتلونهم ذاهبين وجائين فجمع بين قول أهل اللغة قال بن عباس : مشوا وترددوا بين الدور والمساكن وقال الفراء : قتلوكم بين بيوتكم وأنشد لحسان : ومنا الذي لاقى بسيف محمد فجاس به الأعداء عرض العساكر وقال قطرب : نزلوا قال : فجسنا ديارهم عنوة وأبنا بسادتهم موثقينا ) وكان وعدا مفعولا ( أي قضاء كائنا لا خلف فيه الإسراء : ) 6 ( ثم رددنا لكم . . . . . ) الاسراء 6 ( "صفحة رقم 217" قوله تعالى : ) ثم رددنا لكم الكرة عليهم ( أي الدولة والرجعة وذلك لما تبتم وأطعتم ثم قيل : ذلك بقتل داود جالوت أو بقتل غيره على الخلاف في من قتلهم ) وأمددناكم بأموال وبنين ( حتى عاد أمركم كما كان ) وجعلناكم أكثر نفيرا ( أي أكثر عددا ورجالا من عدوكم والنفير من نفر مع الرجل من عشيرته يقال : نفير ونافر مثل قدير وقادر ويجوز أن يكون النفير جمع نفر كالكليب والمعيز والعبيد قال الشاعر : فأكرم بقحطان من والد وحمير أكرم بقوم نفيرا والمعنى : أنهم صاروا بعد هذه الوقعة الأولى أكثر انضماما وأصلح أحوالا جزاء من الله تعالى لهم على عودهم إلى الطاعة الإسراء : ) 7 ( إن أحسنتم أحسنتم . . . . . ) الاسراء 7 ( قوله تعالى : ) إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ( أينفع إحسانكم عائد عليكم ) وإن أسأتم فلها ( أي فعليها نحو سلام لك أي سلام عليك قال : فخر صريعا لليدين وللفم أي على اليدين وعلى الفم وقال الطبري : اللام بمعنى إلى يعني وإن أسأتم فإليها أي فإليها ترجع الإساءة لقوله تعالى : بأن ربك أوحى لها الزلزلة أي إليها وقيل : فلها الجزاء والعقاب وقال الحسين بن الفضل : فلها رب يغفر الإساءة ثم يحتمل أن يكون هذا "صفحة رقم 218" خطابا لبني إسرائيل في أول الأمر أي أسأتم فحل بكم القتل والسبي والتخريب ثم أحسنتم فعاد إليكم الملك والعلو وانتظام الحال ويحتمل أنه خوطب بهذا بنو إسرائيل في زمن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أي عرفتم استحقاق أسلافكم للعقوبة على العصيان فارتقبوا مثله أو يكون خطابا لمشركي قريش على هذا الوجه ) فإذا جاء وعد الآخرة ( من إفسادكم وذلك أنهم قتلوا في المرة الثانية يحيى بن زكريا عليهما السلام قتله ملك من بني إسرائيل يقال له لاخت قاله القتبي وقال الطبري : اسمه هردوس ذكره في التاريخ حمله على قتله امرأة اسمها أزبيل وقال السدي : كان ملك بني إسرائيل يكرم يحيى بن زكريا ويستشيره في الأمر فاستشاره الملك أن يتزوج بنت امرأة له فنهاه عنها وقال : إنها لا تحل لك فحقدت أمها على يحيى عليه السلام ثم ألبست ابنتها ثيابا حمرا رقاقا وطيبتها وأرسلتها إلى الملك وهو على شرابه وأمرتها أن تتعرض له وإن أرادها أبت حتى يعطيها ما تسأله فإذا أجاب سألت أن يؤتى برأس يحيى بن زكريا في طست من ذهب ففعلت ذلك حتى أتي براس يحيى بن زكريا والرأس تتكلم حتى وضع بين يديه وهو يقول : لا تحل لك لا تحل لك فلما أصبح إذا دمه يغلي فألقى عليه التراب فغلى فوقه فلم يزل يلقى عليه التراب حتى بلغ سور المدينة وهو في ذلك يغلي ذكره الثعلبي وغيره وذكر بن عساكر الحافظ في تاريخه عن الحسين بن علي قال : كان ملك من هذه الملوك مات وترك امرأته وابنته فورث ملكه أخوه فأراد أن يتزوج امرأة أخيه فاستشار يحيى بن زكريا في ذلك وكانت الملوك في ذلك الزمان يعملون بأمر الأنبياء فقال له : لا تتزوجها فإنها بغي فعرفت ذلك المرأة أنه قد ذكرها وصرفه عنها فقالت : من أين هذا حتى بلغها أنه من قبل يحيى فقالت : ليقتلن يحيى أو ليخرجن من ملكه فعمدت إلى ابنتها وصنعتها ثم قالت : اذهبي إلى عمك عند الملأ فإنه إذا رآك سيدعوك ويجلسك في حجره ويقول سليني ما شئت فإنك لن تسأليني شيئا إلا أعطيتك فإذا قال لك ذلك فقولي : لا أسأل إلا رأس يحيى قال : وكانت الملوك إذا تكلم أحدهم بشيء على رؤوس الملأ ثم لم يمض له نزع من ملكه ففعلت ذلك قال : فجعل يأتيه الموت من قتله يحيى "صفحة رقم 219" وجعل يأتيه الموت من خروجه من ملكه فاختار ملكه فقتله قال : فساخت بأمها الأرض قال بن جدعان : فحدثت بهذا الحديث بن المسيب فقال أفما أخبرك كيف كان قتل زكريا قلت لا قال : إن زكريا حيث قتل ابنه انطلق هاربا منهم واتبعوه حتى أتى على شجرة ذات ساق فدعته إليها فانطوت عليه وبقيت من ثوبه هدبة تكفتها الرياح فانطلقوا إلى الشجرة فلم يجدوا أثره بعدها ونظروا بتلك الهدبة فدعوا بالمنشار فقطعوا الشجرة فقطعوه معها قلت : وقع في التاريخ الكبير للطبري فحدثني أبو السائب قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن بن عباس قال : بعث عيسى بن مريم يحيى بن زكريا في اثني عشر من الحواريين يعلمون الناس قال : كان فيما نهوهم عنه نكاح ابنة الأخ قال : وكان لملكهم ابنة أخ تعجبه وذكر الخبر بمعناه وعن بن عباس قال : بعث يحيى بن زكريا في اثني عشر من الحواريين يعلمون الناس وكان فيما يعلمونهم ينهونهم عن نكاح بنت الأخت وكان لملكهم بنت أخت تعجبه وكان يريد أن يتزوجها وكان لها كل يوم حاجة يقضيها فلما بلغ ذلك أمها أنهم نهوا عن نكاح بنت الأخت قالت لها : إذا دخلت على الملك فقال ألك حاجة فقولي : حاجتي أن تذبح يحيى بن زكريا فقال : سليني سوى هذا قالت : ما أسألك إلا هذا فلما أبت عليه دعا بطست ودعا به فذبحه فندرت قطرة من دمه على وجه الأرض فلم تزل تغلي حتى بعث الله عليهم بختنصر فألقى في نفسه أن يقتل على ذلك الدم منهم حتى يسكن ذلك الدم فقتل عليه منهم سبعين ألفا في رواية خمسة وسبعين ألفا قال سعيد بن المسيب : هي دية كل نبي وعن بن عباس قال : أوحى الله إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا وإني قاتل بابن ابنتك سبعين ألفا وسبعين ألفا وعن سمير بن عطية قال : قتل على الصخرة التي في بيت المقدس سبعون نبيا منهم يحيى بن زكريا وعن زيد بن واقد قال : رأيت رأس يحيى عليه السلام حيث أرادوا بناء مسجد دمشق أخرج من تحت ركن من أركان القبة التي تلي المحراب "صفحة رقم 220" مما يلي الشرق فكانت البشرة والشعر على حاله لم يتغير وعن قرة بن خالد قال : ما بكت السماء على أحد إلا على يحيى بن زكريا والحسين بن علي وحمرتها بكاؤها وعن سفيان بن عيينة قال : أوحش ما يكون بن آدم في ثلاثة مواطن : يوم ولد فيخرج إلى دارهم وليلة يبيت مع الموتى فيجاور جيرانا لم ير مثلهم ويوم يبعث فيشهد مشهدا لم ير مثله قال الله تعالى ليحيى في هذه الثلاثة مواطن : وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا كله من التاريخ المذكور واختلف فيمن كان المبعوث عليهم في المرة الآخرة فقيل : بختنصر وقاله القشيري أبو نصر لم يذكر غيره قال السهيلي : وهذا لا يصح لأن قتل يحيى كان بعد رفع عيسى وبختنصر كان قبل عيسى بن مريم عليهما السلام بزمان طويل وقبل الإسكندر وبين الإسكندر وعيسى نحو من ثلاثمائة سنة ولكنه أريد بالمرة الأخرى حين قتلوا شعيا فقد كان بختنصر إذ ذاك حيا فهو الذي قتلهم وخرب بيت المقدس وأتبعهم إلى مصر وأخرجهم منها وقال الثعلبي : ومن روى أن بختنصر هو الذي غزا بني إسرائيل عند قتلهم يحيى بن زكريا فغلط عند أهل السير والأخبار لأنهم مجمعون على أن بختنصر إنما غزا بني إسرائيل عند قتلهم شعيا وفي عهد إرمياء قالوا : ومن عهد إرمياء وتخريب بختنصر بيت المقدس إلى مولد يحيى بن زكريا عليهما السلام أربعمائة سنة وإحدى وستون سنة وذلك أنهم يعدون من عهد تخريب بيت المقدس إلى عمارته في عهد كوسك سبعين سنة ثم من بعد عمارته إلى ظهور الإسكندر على بيت المقدس ثمانية وثمانين سنة ثم من بعد مملكة الإسكندر إلى مولد يحيى ثلاثمائة وثلاثا وستين سنة قلت : ذكر جميعه الطبري في التاريخ رحمه الله قال الثعلبي : والصحيح من ذلك ما ذكره محمد بن إسحاق قال : لما رفع الله عيسى من بين أظهرهم وقتلوا يحيى وبعض "صفحة رقم 221" الناس يقول : لما قتلوا زكريا بعث الله إليهم ملكا من ملوك بابل يقال له خردوس فسار إليهم بأهل بابل وظهر عليهم بالشام ثم قال لرئيس جنوده : كنت حلفت بإلهي لئن أظهرني الله على بيت المقدس لأقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري وأمر أن يقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم فدخل الرئيس بيت المقدس فوجد فيها دماء تغلي فسألهم فقالوا : دم قربان قربناه فلم يتقبل منا منذ ثمانين سنة قال ما صدقتموني فذبح على ذلك الدم سبعمائة وسبعين رجلا من رؤسائهم فلم يهدأ فأتي بسبعمائة غلام من غلمانهم فذبحوا على الدم فلم يهدأ فأمر بسبعة آلاف من سبيهم وأزواجهم فذبحهم على الدم فلم يبرد فقال : يا بني إسرائيل أصدقوني قبل ألا أترك منكم نافخ نار من أنثى ولا من ذكر إلا قتلته فلما رأوا الجهد قالوا : أن هذا دم نبي منا كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله فقتلناه فهذا دمه كان اسمه يحيى بن زكريا ما عصى الله قط طرفة عين ولا هم بمعصية فقال : الآن صدقتموني وخر ساجدا ثم قال : لمثل هذا ينتقم منكم وأمر بغلق الأبواب وقال : أخرجوا من كان ها هنا من جيش خردوس وخلا في بني إسرائيل وقال : يا نبي الله يا يحيى بن زكريا قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك فاهدأ بإذن الله قبل ألا أبقي منهم أحدا فهدأ دم يحيى بن زكريا بإذن الله عز وجل ورفع عنهم القتل وقال : رب إني آمنت بما آمن به بنو إسرائيل وصدقت به فأوحى الله تعالى إلى رأس من رؤوس الأنبياء : إن هذا الرئيس مؤمن صدوق ثم قال : إن عدو الله خردوس أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره وإني لا أعصيه فأمرهم فحفروا خندقا وأمر بأموالهم من الإبل والخيل والبغال والحمير والبقر والغنم فذبحوها حتى سال الدم إلى العسكر وأمر بالقتلى الذين كانوا قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم ثم انصرف عنهم إلى بابل وقد كاد أن يفني بني إسرائيل "صفحة رقم 222" قلت : قد ورد في هذا الباب حديث مرفوع فيه طول من حديث حذيفة وقد كتبناه في [ كتاب التذكرة ] مقطعا في أبواب في أخبار المهدي نذكر منها هنا ما يبين معنى الآية ويفسرها حتى لا يحتاج معه إلى بيان قال حذيفة : قلت يا رسول الله لقد كان بيت المقدس عند الله عظيما جسيم الخطر عظيم القدر فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) هو من أجل البيوت ابتناه الله لسليمان بن داود عليهما السلام من ذهب وفضة ودر وياقوت وزمرد ) : وذلك أن سليمان بن داود لما بناه سخر الله له الجن فأتوه بالذهب والفضة من المعادن وأتوه بالجواهر والياقوت والزمرد وسخر الله تعالى له الجن حتى بنوه من هذه الأصناف قال حذيفة : فقلت يا رسول الله وكيف أخذت هذه الأشياء من بيت المقدس فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) إن بني إسرائيل لما عصوا الله وقتلوا الأنبياء سلط الله عليهم بختنصر وهو من المجوس وكان ملكه سبعمائة سنة وهو قوله : فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا فدخلوا بيت المقدس وقتلوا الرجال وسبوا النساء والأطفال وأخذوا الأموال وجميع ما كان في بيت المقدس من هذه الأصناف فاحتملوها على سبعين ألفا ومائة ألف عجلة حتى أودعوها أرض بابل فأقاموا يستخدمون بني إسرائيل ويستملكونهم بالخزي والعقاب والنكال مائة عام ثم إن الله عز وجل رحمهم فأوحى إلى ملك من ملوك فارس أن يسير إلى المجوس في أرض بابل وأن يستنقذ من في أيديهم من بني إسرائيل فسار إليهم ذلك الملك حتى دخل أرض بابل فاستنقذ من بقي من بني إسرائيل من أيدي المجوس واستنقذ ذلك الحلي الذي كان من بيت المقدس ورده الله إليه كما كان أول مرة وقال لهم : يا بني إسرائيل إن عدتم إلى المعاصي عدنا عليكم بالسبي والقتل وهو قوله : عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا فلما رجعت بنو إسرائيل إلى بيت المقدس عادوا إلى المعاصي فسلط الله عليهم ملك الروم قيصر وهو قوله : فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا فغزاهم في البر والبحر فسباهم وقتلهم وأخذ أموالهم ونساءهم وأخذ حلي جميع بيت المقدس واحتمله على سبعين ألفا ومائة ألف عجلة حتى أودعه "صفحة رقم 223" في كنيسة الذهب فهو فيها الآن حتى يأخذه المهدي فيرده إلى بيت المقدس وهو ألف سفينة وسبعمائة سفينة يرسى بها على يافا حتى تنقل إلى بيت المقدس وبها يجمع الله الأولين والآخرين وذكر الحديث قوله تعالى : ) فإذا جاء وعد الآخرة ( أي من المرتين وجواب إذا محذوف تقديره بعثناهم دل عليه بعثنا الأول ) ليسوءوا وجوهكم ( أي بالسبي والقتل فيظهر أثر الحزن في وجوهكم فليسوءوا متعلق بمحذوف أي بعثنا عبادا ليفعلوا بكم ما يسوء وجوهكم قيل المراد بالوجوه السادة أي ليذلوهم وقرأ الكسائي لنسوء بنون وفتح الهمزة فعل مخبر عن نفسه معظم اعتبارا بقوله وقضينا وبعثنا ورددنا ونحوه عن علي وتصديقها قراءة أبي لنسوءن بالنون وحرف التوكيد وقرأ أبو بكر والأعمش وبن وثاب وحمزة وبن عامر ليسوء بالياء على التوحيد وفتح الهمزة ولها وجهان : أحدهما ليسوء الله وجوهكم والثاني ليسوء الوعد وجوهكم وقرأ الباقون ليسوءوا بالياء وضم الهمزة على الجمع أي ليسوء العباد الذين هم أولوا بأس شديد وجوهكم ) وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ( أي ليدمروا ويهلكوا وقال قطرب : يهدموا قال الشاعر : فما الناس إلا عاملان فعامل يتبر ما يبني وآخر رافع ) ما علوا ( أي غلبوا عليه من بلادكم ) تتبيرا ( الإسراء : ) 8 ( عسى ربكم أن . . . . . ) الاسراء 8 ( قوله تعالى : ) عسى ربكم أن يرحمكم ( وهذا مما أخبروا به في كتابهم وعسى وعد من الله أن يكشف عنهم وعسى من الله واجبة ) أن يرحمكم ( بعد انتقامه منكم وكذلك كان فكثر عددهم وجعل منهم الملوك ) وإن عدتم عدنا ( قال قتادة "صفحة رقم 224" فعادوا فبعث الله عليهم محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) فهم يعطون الجزية بالصغار وروي عن بن عباس وهذا خلاف ما تقدم في الحديث وغيره وقال القشيري : وقد حل العقاب ببني إسرائيل مرتين على أيدي الكفار ومرة على أيدي المسلمين وهذا حين عادوا فعاد الله عليهم وعلى هذا يصح قول قتادة ) وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ( أي محبسا وسجنا من الحصر وهو الحبس قال الجوهري : يقال حصره يحصره حصرا ضيق عليه وأحاط به والحصير : الضيق البخيل والحصير : البارية والحصير : الجنب قال الأصمعي : هو ما بين العرق الذي يظهر في جنب البعير والفرس معترضا فما فوقه إلى منقطع الجنب والحصير : الملك لأنه محجوب قال لبيد : وقماقم غلب الرقاب كأنهم جن لدى باب الحصير قيام ويروى : ومقامة غلب الرقاب على أن يكون غلب بدلا من مقامة كأنه قال : ورب غلب الرقاب وروي عن أبي عبيدة : لدى طرف الحصير قيام أي عند طرف البساط للنعمان بن المنذر والحصير : المحبس قال الله تعالى : وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا قال القشيري : ويقال للذي يفترش حصير لحصر بعضه على بعض بالنسج وقال الحسن : أي فراشا ومهادا ذهب إلى الحصير الذي يفرش لأن العرب تسمي البساط الصغير حصيرا قال الثعلبي : وهو وجه حسن الإسراء : ) 9 ( إن هذا القرآن . . . . . ) الاسراء 9 : 10 ( قوله تعالى : ) إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ( لما ذكر المعراج ذكر ما قضى إلى بني إسرائيل وكان ذلك دلالة على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم بين أن الكتاب الذي "صفحة رقم 225" أنزله الله عليه سبب اهتداء ومعنى ) للتي هي أقوم ( أي الطريقة التي هي أسد وأعدل وأصوب فالتي نعت لموصوف محذوف أي الطريقة إلى نص أقوم وقال الزجاج : للحال التي هي أقوم الحالات وهي توحيد الله والإيمان برسله وقاله الكلبي والفراء وقوله تعالى : ) ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات ( تقدم ) أن لهم ( أي بأن لهم ) أجرا كبيرا ( أي الجنة ) وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة ( أي ويبشرهم بأن لأعدائهم العقاب والقرآن معظمه وعد ووعيد وقرأ حمزة والكسائي ويبشر مخففا بفتح الياء وضم الشين وقد ذكر الإسراء : ) 11 ( ويدع الإنسان بالشر . . . . . ) الاسراء 11 ( قوله تعالى : ) ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير ( قال بن عباس وغيره : هو دعاء الرجل على نفسه وولده عند الضجر بما لا يحب أن يستجاب له : اللهم أهلكه ونحوه ) دعاءه بالخير ( أي كدعائه ربه أن يهب له العافية فلو استجاب الله دعاءه على نفسه بالشر هلك لكن بفضله لا يستجيب له في ذلك نظيره : ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير وقد تقدم وقيل : نزلت في النضر بن الحارث كان يدعو ويقول : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم وقيل : هو أن يدعو في طلب المحظور كما يدعو في طلب المباح قال الشاعر وهو بن جامع : أطوف بالبيت فيمن يطوف وأرفع من مئزري المسبل وأسجد بالليل حتى الصباح وأتلو من المحكم المنزل عسى فارج الهم عن يوسف يسخر لي ربة المحمل ![]()
__________________
|
#432
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (10) سُورَةُ الإسراء من صــ 226 الى صــ 235 الحلقة (432) "صفحة رقم 226" قال الجوهري : يقال ما على فلان محمل مثال مجلس أي معتمد والمحمل أيضا : واحد محامل الحاج والمحمل مثال المرجل : علاقة السيف وحذفت الواو من ويدع الإنسان في اللفظ والخط ولم تحذف في المعنى لأن موضعها رفع فحذفت لاستقبالها اللام الساكنة كقوله تعالى : سندع الزبانية العلق ويمح الله الباطل وسوف يؤت الله المؤمنين يناد المناد ق فما تغن النذر ) وكان الإنسان عجولا ( أي طبعه العجلة فيعجل بسؤال الشر كما يعجل بسؤال الخير وقيل : أشار به إلى آدم عليه السلام حين نهض قبل أن تركب فيه الروح على الكمال قال سلمان : أول ما خلق الله تعالى من آدم رأسه فجعل ينظر وهو يخلق جسده فلما كان عند العصر بقيت رجلاه لم ينفخ فيهما الروح فقال : يا رب عجل قبل الليل فذلك قوله : وكان الإنسان عجولا وقال بن عباس : لما انتهت النفخة إلى سرته نظر إلى جسده فذهب لينهض فلم يقدر فذلك قوله : وكان الإنسان عجولا وقال بن مسعود : لما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة فذلك حين يقول : خلق الإنسان من عجل ذكره البيهقي وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ) لما صور الله تعالى آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه فجعل إبليس يطيف به ينظر ما هو فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقا لا يتمالك ) وقد تقدم وقيل : سلم عليه السلام أسيرا إلى سودة فبات يئن فسألته فقال : أنيني لشدة القد والأسر فأرخت من كتافه فلما نامت هرب فأخبرت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ) قطع الله يديك ) فلما أصبحت كانت تتوقع الآفة فقال عليه السلام : ) إني سألت الله تعالى أن يجعل دعائي على من لا يستحق من أهلي رحمة لأني بشر أغضب كما يغضب البشر ) ونزلت الآية ذكره القشيري أبو نصر رحمه الله وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول "صفحة رقم 227" ) اللهم إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر وإني قد اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه فأيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته فاجعلها له كفارة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة ) وفي الباب عن عائشة وجابر وقيل : معنى وكان الإنسان عجولا أي يؤثر العاجل وإن قل على الآجل وإن جل قوله تعالى : الإسراء : ) 12 ( وجعلنا الليل والنهار . . . . . ) الاسراء 12 ( قوله تعالى : ) وجعلنا الليل والنهار آيتين ( أي علامتين على وحدانيتنا ووجودنا وكمال علمنا وقدرتنا والآية فيهما : إقبال كل واحد منهما من حيث لا يعلم وإدباره إلى حيث لا يعلم ونقصان أحدهما بزيادة الآخر وبالعكس آية أيضا وكذلك ضوء النهار وظلمة الليل وقد مضى هذا ) فمحونا آية الليل ( ولم يقل : فمحونا الليل فلما أضاف الآية إلى الليل والنهار دل على أن الآيتين المذكورتين لهما لا هما ومحونا معناه طمسنا وفي الخبر أن الله تعالى أمر جبريل عليه السلام فأمر جناحه على وجه القمر فطمس عنه الضوء وكان كالشمس في النور والسواد الذي يرى في القمر من أثر المحو قال بن عباس : جعل الله الشمس سبعين جزءا والقمر سبعين جزءا فمحا من نور القمر تسعة وستين جزءا فجعله مع نور الشمس فالشمس على مائة وتسع وثلاثين جزءا والقمر على جزءا واحد وعنه أيضا : خلق الله شمسين من نور عرشه فجعل ما سبق في علمه أن يكون شمسا مثل الدنيا على قدرها ما بين مشارقها إلى مغاربها وجعل القمر دون الشمس فأرسل جبريل عليه السلام فأمر جناحه على وجهه ثلاث مرات وهو يومئذ شمس فطمس ضوءه وبقي نوره فالسواد الذي ترونه في القمر أثر المحو ولو تركه شمسا لم يعرف الليل من النهار ذكر "صفحة رقم 228" عنه الأول الثعلبي والثاني المهدوي وسيأتي مرفوعا وقال علي رضي الله عنه وقتادة : يريد بالمحو اللطخة السوداء التي في القمر ليكون ضوء القمر أقل من ضوء الشمس فيتميز به الليل من النهار ) وجعلنا آية النهار مبصرة ( أي جعلنا شمسه مضيئة للابصار قال أبو عمرو بن العلاء : أي يبصر بها قال الكسائي : وهو من قول العرب أبصر النهار إذا أضاء وصار بحالة يبصر بها وقيل : هو كقولهم خبيث مخبث إذا كان أصحابه خبثاء ورجل مضعف إذا كان دوابه ضعافا فكذلك النهار مبصرا إذا كان أهله بصراء ) لتبتغوا فضلا من ربكم ( يريد التصرف في المعاش ولم يذكر السكون في الليل اكتفاء بما ذكر في النهار وقد قال في موضع آخر : هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا ) ولتعلموا عدد السنين والحساب ( أي لو لم يفعل ذلك لما عرف الليل من النهار ولا كان يعرف الحساب والعدد ) وكل شيء فصلناه تفصيلا ( أي من أحكام التكليف وهو كقوله : تبيانا لكل شيء ما فرطنا في الكتاب من شيء وعن بن عباس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ) لما أبرم الله خلقه فلم يبق من خلقه غير آدم خلق شمسا من نور عرشه وقمرا فكانا جميعا شمسين فأما ما كان في سابق علم الله أن يدعها شمسا فخلقها مثل الدنيا ما بين مشارقها ومغاربها وأما ما كان في علم الله أن يخلقها قمرا فخلقها دون الشمس في العظم ولكن إنما يرى صغرهما من شدة ارتفاع السماء وبعدها من الأرض فلو ترك الله الشمس والقمر كما خلقهما لم يعرف الليل من النهار ولا كان الأجير يدري إلى متى يعمل ولا الصائم إلى متى يصوم ولا المرأة كيف تعتد ولا تدرى أوقات الصلوات والحج ولا تحل الديون ولا حين يبذرون ويزرعون ولا متى يسكنون للراحة لأبدانهم وكأن الله نظر إلى عباده وهو أرحم بهم من أنفسهم فأرسل جبريل فأمر جناحه على وجه القمر ثلاث مرات وهو يومئذ شمس فطمس عنه الضوء وبقي فيه النور فذلك قوله وجعلنا الليل والنهار آيتين ) الآية "صفحة رقم 229" الإسراء : ) 13 ( وكل إنسان ألزمناه . . . . . ) الاسراء 13 : 14 ( قوله تعالى : ) وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ( قال الزجاج : ذكر العنق عبارة عن اللزوم كلزوم القلادة للعنق وقال بن عباس : طائره عمله وما قدر عليه من خير وشر وهو ملازمه أينما كان وقال مقاتل والكلبي : خيره وشره معه لا يفارقه حتى يحاسب به وقال مجاهد : عمله ورزقه وعنه ما من مولود يولد إلا وفي عنقه ورقة فيها مكتوب شقي أو سعيد وقال الحسن : ألزمناه طائره أي شقاوته وسعادته وما كتب له من خير وشر وما طار له من التقدير أي صار له عند القسمة في الأزل وقيل : أراد به التكليف أي قدرناه إلزام الشرع وهو بحيث لو أراد أن يفعل ما أمر به وينزجر عما زجر به أمكنه ذلك ) ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ( يعني كتاب طائره الذي في عنقه وقرأ الحسن وأبو رجاء ومجاهد : طيره بغير ألف ومنه ما روي في الخبر ) اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا رب غيرك ) وقرأ بن عباس والحسن ومجاهد وبن محيصن وأبو جعفر ويعقوب ويخرج بفتح الياء وضم الراء على معنى ويخرج له الطائر كتابا ف كتابا منصوب على الحال ويحتمل أن يكون المعنى : ويخرج الطائر فيصير كتابا وقرأ يحيى بن وثاب ويخرج بضم الياء وكسر الراء وروي عن مجاهد أي يخرج الله وقرأ شيبة ومحمد بن السميقع وروي أيضا عن أبي جعفر : ويخرج بضم الياء وفتح الراء على الفعل المجهول ومعناه : ويخرج له الطائر كتابا الباقون ونخرج بنون مضمومة وكسر الراء أي ونحن نخرج احتج أبو عمرو في هذه القراءة بقوله ألزمناه وقرأ أبو جعفر والحسن وبن عامر يلقاه بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف بمعنى يؤتاه الباقون بفتح الياء خفيفة أي يراه منشورا وقال منشورا تعجيلا للبشرى بالحسنة والتوبيخ بالسيئة وقال "صفحة رقم 230" أبو السوار العدوي وقرأ هذه الآية وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه قال : هما نشرتان وطية أما ما حييت يابن آدم فصحيفتك المنشورة فأمل فيها ما شئت فغذا مت طويت حتى إذا بعثت نشرت ) اقرأ كتابك ( قال الحسن : يقرأ الإنسان كتابه أميا كان أو غير أمي ) كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ( أي محاسبا وقال بعض الصلحاء : هذا كتاب لسانك قلمه وريقك مداده وأعضاؤك قرطاسه أنت كنت المملي على حفظتك ما زيد فيه ولا نقص منه ومتى أنكرت منه شيئا يكون فيه الشاهد منك عليك الإسراء : ) 15 ( من اهتدى فإنما . . . . . ) الاسراء 15 ( قوله تعالى : ) ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ( أي إنما كل أحد يحاسب عن نفسه لا عن غيره فمن اهتدى فثواب اهتدائه له ومن ضل فعقاب كفره عليه ) ولاتزر وازرة وزر أخرى ( تقدم في الأنعام وقال بن عباس : نزلت في الوليد بن المغيرة قال لأهل مكة : أتبعون واكفروا بمحمد وعلي أوزاركم فنزلت هذه الآية أي إن الوليد لا يحمل آثامكم وإنما إثم كل واحد عليه يقال : وزر يزر وزرا ووزرة أي أثم والوزر : الثقل المثقل والجمع أوزار ومنه يحملون أوزارهم على ظهورهم أي أثقال ذنوبهم وقد وزر إذا حمل فهو وازر ومنه وزير السلطان الذي يحمل ثقل دولته والهاء في قوله كناية عن النفس أي لا تؤخذ نفس آثمة بإثم أخرى حتى أن الوالدة تلقي ولدها يوم القيامة فتقول : يا بني ألم يكن حجري لك وطاء ألم يكن ثديي لك سقاء ألم يكن بطني لك وعاء فيقول : بلى يا أمه فتقول : يا بني فإن ذنوبي أثقلتني فاحمل عني منها ذنبا واحدا فيقول : إليك عني يا أمه فإني بذنبي عنك اليوم مشغول "صفحة رقم 231" مسألة نزعت عائشة رضي الله عنه الله عنها بهذه الآية في الرد على بن عمر حيث قال : إن الميت ليعذب ببكاء أهله قال علماؤنا : وإنما حملها على ذلك أنه لم تسمعه وأنه معارض للآية ولا وجه لإنكارها فإن الرواة لهذا المعنى كثير كعمر وابنه والمغيرة بن شعبة وقيلة بنت مخرمة وهم جازمون بالرواية فلا وجه لتخطئتهم ولا معارضة بين الآية والحديث فإن الحديث محمله على ما إذا كان النوح من وصية الميت وسنته كما كانت الجاهلية تفعله حتى قال طرفة : إذا مت فانعيني بما أنا أهله وشقي على الجيب يا بنت معبد وقال : إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر وإلى هذا نحا البخاري وقد ذهب جماعة من أهل العلم منهم داود إلى اعتقاد ظاهر الحديث وأنه إنما يعذب بنوحهم لأنه أهمل نهيهم عنه قبل موته وتأديبهم بذلك فيعذب بتفريطه في ذلك وبترك ما أمره الله به من قوله : قوا أنفسكم وأهليكم نارا لا بذنب غيره والله أعلم قوله تعالى : ) وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ( أي لم نترك الخلق سدى بل أرسلنا الرسل وفي هذا دليل على أن الأحكام لا تثبت إلا بالشرع خلافا للمعتزلة القائلين بأن العقل يقبح ويحسن ويبيح ويحظر وقد تقدم في البقرة القول فيه والجمهور على أن هذا في حكم الدنيا أي ان الله لا يهلك أمة بعذاب إلا بعد الرسالة إليهم والإنذار وقالت فرقة : هذا عام في الدنيا والآخرة لقوله تعالى : كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا قال بن عطية : والذي يعطيه النظر أن بعثه آدم عليه السلام بالتوحيد وبث المعتقدات في بنيه مع نصب الأدلة الدالة على الصانع مع سلامة الفطر توجب على كل أحد من العالم الإيمان واتباع شريعة الله ثم تجدد ذلك في زمن نوح عليه السلام بعد "صفحة رقم 232" غرق الكفار وهذه الآية أيضا يعطي احتمال ألفاظها نحو هذا في الذين لم تصلهم رسالة وهم أهل الفترات الذين قد قدر وجودهم بعض أهل العلم وأما ما روي من أن الله تعالى يبعث إليهم يوم القيامة وإلى المجانين والأطفال فحديث لم يصح ولا يقتضي ما تعطيه الشريعة من أن الآخرة ليست دار تكليف قال المهدوي : وروي عن أبي هريرة أن الله عز وجل يبعث يوم القيامة رسولا إلى أهل الفترة والأبكم والأخرس والأصم فيطيعه منهم من كان يريد أن يطيعه في الدنيا وتلا الآية رواه معمر عن بن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة ذكره النحاس قلت : هذا موقوف وسيأتي مرفوعا في آخر سورة طه إن شاء الله تعالى ولا يصح وقد استدل قوم في أن أهل الجزائر إذا سمعوا بالإسلام وآمنوا فلا تكليف عليهم فيما مضى وهذا صحيح ومن لم تبلغه الدعوة فهو غير مستحق للعذاب من جهة العقل والله أعلم الإسراء : ) 16 ( وإذا أردنا أن . . . . . ) الاسراء 16 ( فيه ثلاث مسائل : الأولى أخبر الله تعالى في الآية التي قبل أنه لم يهلك القرى قبل ابتعاث الرسل لا لأنه يقبح منه ذلك إن فعل ولكنه وعد منه ولا خلف في وعده فإذا أراد إهلاك قرية مع تحقيق وعده على ما قاله تعالى أمر مترفيها بالفسق والظلم فيها فحق عليها القول بالتدمير يعلمك أن من هلك هلك بإرادته فهو الذي يسبب الأسباب ويسوقها إلى غاياتها ليحق القول السابق من الله تعالى الثانية قوله تعالى : ) أمرنا ( قرأ أبو عثمان النهدي وأبو رجاء وأبو العالية والربيع ومجاهد والحسن أمرنا بالتشديد وهي قراءة علي رضي الله عنه أي سلطنا شرارها فعصوا فيها فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم وقال أبو عثمان النهدي أمرنا بتشديد الميم جعلناهم "صفحة رقم 233" أمراء مسلطين وقاله بن عزيز وتأمر عليهم تسلط عليهم وقرأ الحسن أيضا وقتادة وأبو حيوة الشامي ويعقوب وخارجة عن نافع وحماد بن سلمة عن بن كثير وعلي وبن عباس باختلاف عنهما آمرنا بالمد والتخفيف أي أكثرنا جبابرتها وأمراءها قاله الكسائي وقال أبو عبيدة : آمرته بالمد وأمرته لغتان بمعنى كثرته ومنه الحديث ) خير المال مهرة مأمورة أو سكة مأبورة ) أي كثيرة النتاج والنسل وكذلك قال بن عزيز : آمرنا وأمرنا بمعنى واحد أي أكثرنا وعن الحسن أيضا ويحيى بن يعمر امرنا بالقصر وكسر الميم على فعلنا ورويت عن بن عباس قال قتادة والحسن : المعنى أكثرنا وحكى نحوه أبو زيد وأبو عبيد وأنكره الكسائي وقال : لا يقال من الكثرة إلا آمرنا بالمد قال وأصلها أأمرنا فخفف حكاه المهدوي وفي الصحاح : وقال أبو الحسن أمر ماله [ بالكسر ] أي كثر وأمر القوم أي كثروا قال الشاعر : أمرون لا يرثون سهم القعدد وآمر الله ماله [ بالمد ] الثعلبي : ويقال للشيء الكثير أمر والفعل منه : أمر القوم يأمرون أمرا إذا كثروا قال بن مسعود : كنا نقول في الجاهلية للحي إذا كثروا : أمر أمر بني فلان قال لبيد : كل بني حرة مصيرهم قل وإن أكثرت من العدد إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا يوما يصيروا للهلك والنكد "صفحة رقم 234" قلت : وفي حديث هرقل الحديث الصحيح : ) لقد أمر أمر بن أبي كبشة إنه ليخافه ملك بني الأصفر ) أي كثر وكله غير متعد ولذلك أنكره الكسائي والله أعلم قال المهدوي : ومن قرأ أمر فهي لغة ووجه تعدية أمر أنه شبهه بعمر من حيث كانت الكثرة أقرب شيء إلى العمارة فعدى كما عدى عمر الباقون أمرنا من الأمر أي أمرناهم بالطاعة إعذارا وإنذارا وتخويفا ووعيدا ) ففسقوا ( أي فخرجوا عن الطاعة عاصين لنا ) فحق عليها القول ( فوجب عليها الوعيد عن بن عباس وقيل : أمرنا جعلناهم أمراء لأن العرب تقول : أمير غير مأمور أي غير مؤمر وقيل : معناه بعثنا مستكبريها قال هارون : وهي قراءة أبي بعثنا أكابر مجرميها ففسقوا ذكره الماوردي وحكى النحاس : وقال هارون في قراءة أبي وإذا أردنا أن نهلك قرية بعثنا فيها أكابر مجرميها فمكروا فيها فحق عليها القول ويجوز أن يكون أمرنا بمعنى أكثرنا ومنه ) خير المال مهرة مأمورة ) على ما تقدم وقال قوم : مأمورة اتباع لمأبورة كالغدايا والعشايا وكقوله : ) ارجعن مأزورات غير مأجورات ) وعلى هذا لا يقال : أمرهم الله بمعنى كثرهم بل يقال : آمره وأمره واختار أبو عبيد وأبو حاتم قراءة العامة قال أبو عبيد : وإنما اخترنا أمرنا لأن المعاني الثلاثة تجتمع فيها من الأمر والإمارة والكثرة والمترف : المنعم وخصوا بالأمر لأن غيرهم تبع لهم الثالثة قوله تعالى : ) فدمرناها ( أي أستأصلناها بالهلاك ) تدميرا ( وذكر المصدر للمبالغة في العذاب الواقع بهم وفي الصحيح من حديث زينب بنت جحش زوج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قالت : خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوما فزعا محمرا وجهه يقول : ) لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ) وحلق بأصبعه الإبهام والتي تليها قالت : فقلت يا رسول الله أنهلك وفينا "صفحة رقم 235" الصالحون قال : ) نعم إذا كثر الخبث ) وقد تقدم الكلام في هذا الباب وأن المعاصي إذا ظهرت ولم تغير كانت سببا لهلاك الجميع والله أعلم الإسراء : ) 17 ( وكم أهلكنا من . . . . . ) الاسراء 17 ( قوله تعالى : ) وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح ( أي كم من قوم كفروا حل بهم البوار يخوف كفار مكة وقد تقدم القول في القرن في أول سورة الأنعام والحمد لله ) وكفى بربك بذنوب عبادك خبيرا بصيرا ( خبيرا عليما بهم بصيرا يبصر أعمالهم وقد تقدم الإسراء : ) 18 ( من كان يريد . . . . . ) الاسراء 18 : 19 ( قوله تعالى : ) من كان يريد العاجلة ( يعني الدنيا والمراد الدار العاجلة فعبر بالنعت عن المنعوت ) عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ( أي لم نعطه منها إلا ما نشاء ثم نؤاخذه بعمله وعاقبته دخول النار ) مذموما مدحورا ( أي مطردا مبعدا من رحمة الله وهذه صفة المنافقين الفاسقين والمرائين المداجين يلبسون الإسلام والطاعة لينالوا عاجل الدنيا من الغنائم وغيرها فلا يقبل ذلك العمل منهم في الآخرة ولا يعطون في الدنيا إلا ما قسم لهم وقد تقدم في هود أن هذه الآية تقيد تلك الآيات المطلقة فتأمله ) ومن أراد الآخرة ( أي الدار الآخرة ) وسعى لها سعيها ( أي عمل لها عملها من الطاعات ) وهو مؤمن ( لأن الطاعات لا تقبل إلا من مؤمن ) فأولئك كان سعيهم مشكورا ( أي مقبولا غير ![]()
__________________
|
#433
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (10) سُورَةُ الإسراء من صــ 236 الى صــ 245 الحلقة (433) "صفحة رقم 236" مردود وقيل : مضاعفا أي تضاعف لهم الحسنات إلى عشر وإلى سبعين وإلى سبعمائة ضعف وإلى أضعاف كثيرة كما روي عن أبي هريرة وقد قيل له : أسمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ) إن الله ليجزي على الحسنة الواحدة ألف ألف حسنة ) فقال سمعته يقول : ) إن الله ليجزي على الحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة ) الإسراء : ) 20 ( كلا نمد هؤلاء . . . . . ) الاسراء 20 : 22 ( قوله تعالى : ) كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك ( أعلم أنه يرزق المؤمنين والكافرين ) وما كان عطاء ربك محظورا ( أي محبوسا ممنوعا من حظر يحظر حظرا وحظارا ثم قال تعالى : ) أنظر كيف فضلنا بعضهم على بعض ( في الرزق والعمل فمن مقل ومكثر ) وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ( أي للمؤمنين فالكافر وإن وسع عليه في الدنيا مرة وقتر على المؤمن مرة فالآخرة لا تقسم إلا مرة واحدة بأعمالهم فمن فاته شيء منها لم يستدركه فيهاوقوله ) لا تجعل مع الله إلها آخر ( الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد أمته وقيل : الخطاب للإنسان أي تبقى ) مذموما مخذولا ( لا ناصر لك ولا وليا الإسراء : ) 23 ( وقضى ربك ألا . . . . . ) الاسراء 23 : 24 ( "صفحة رقم 237" فيه ست عشرة مسألة : الأولى ) قضى ( أي أمر وألزم وأوجب قال بن عباس والحسن وقتادة : وليس هذا قضاء حكم بل هو قضاء أمر وفي مصحف بن مسعود ووصى وهي قراءة أصحابه وقراءة بن عباس أيضا وعلي وغيرهما وكذلك عند أبي بن كعب قال بن عباس : إنما هو ووصى ربك فالتصقت إحدى الواوين فقرئت وقضى ربك إذ لو كان على القضاء ما عصى الله أحد وقال الضحاك : تصحفت على قوم وصى بقضى حين اختلطت الواو بالصاد وقت كتب المصحف وذكر أبو حاتم عن بن عباس مثل قول الضحاك وقال عن ميمون بن مهران أنه قال : إن على قول بن عباس لنورا قال الله تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك ثم أبى أبو حاتم أن يكون بن عباس قال ذلك وقال : لو قلنا هذا لطعن الزنادقة في مصحفنا ثم قال علماؤنا المتكلمون وغيرهم : القضاء يستعمل في اللغة على وجوه : فالقضاء بمعنى الأمر كقوله تعالى : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه معناه أمر والقضاء بمعنى الخلق كقوله : فقضاهن سبع سماوات في يومين فصلت يعني خلقهن والقضاء بمعنى الحكم كقوله تعالى : فاقض ما أنت قاض يعني احكم ما أنت تحكم والقضاء بمعنى الفراغ كقوله : قضي الأمر الذي فيه تستفتيان أي فرغ منه ومنه قوله تعالى : فإذا قضيتم مناسككم وقوله تعالى : فإذا قضيت الصلاة والقضاء بمعنى الإرادة كقوله تعالى : إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون والقضاء بمعنى العهد كقوله تعالى : وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر فإذا كان القضاء يحتمل هذه المعاني فلا يجوز إطلاق القول بأن المعاصي بقضاء الله لأنه إن أريد به الأمر فلا خلاف أنه لا يجوز ذلك لأن الله تعالى لم يأمر بها "صفحة رقم 238" فإنه لا يأمر بالفحشاء وقال زكريا بن سلام : جاء رجل إلى الحسن فقال إنه طلق امرأته ثلاثا فقال : إنك قد عصيت ربك وبانت منك فقال الرجل : قضى الله ذلك علي فقال الحسن وكان فصيحا : ما قضى الله ذلك أي ما أمر الله به وقرأ هذه الآية : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه الثانية أمر الله سبحانه بعبادته وتوحيده وجعل بر الوالدين مقرونا بذلك كما قرن شكرهما بشكره فقال : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا وقال : أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير وفي صحيح البخاري عن عبد الله قال : سألت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أي العمل أحب إلى الله عز وجل قال : ) الصلاة على وقتها ) قال : ثم أي قال ثم : ) بر الوالدين ) قال ثم أي قال : ) الجهاد في سبيل الله ) فأخبر ( صلى الله عليه وسلم ) أن بر الوالدين أفضل الأعمال بعد الصلاة التي هي أعظم دعائم الإسلام ورتب ذلك ب ثم التي تعطي الترتيب والمهلة الثالثة من البر بهما والإحسان إليهما ألا يتعرض لسبهما ولا يعقهما فإن ذلك من الكبائر بلا خلاف وبذلك وردت السنة الثابتة ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ) إن من الكبائر شتم الرجل والديه ) قالوا : يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه قال ) نعم يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه ) الرابعة عقوق الوالدين مخالفتهما في أغراضهما الجائزة لهما كما أن برهما موافقتهما على أغراضهما وعلى هذا إذا أمرا أو أحدهما ولدهما بأمر وجبت طاعتهما فيه إذا لم يكن ذلك الأمر معصية وإن كان ذلك المأمور به من قبيل المباح في أصله وكذلك إذا كان من قبيل المندوب وقد ذهب بعض الناس إلى أن أمرهما بالمباح يصيره في حق الولد مندوبا إليه وأمرهما بالمندوب يزيده تأكيدا في ندبيته "صفحة رقم 239" الخامسة روى الترمذي عن بن عمر قال : كانت تحتي امرأة أحبها وكان أبي يكرهها فأمرني أن أطلقها فأبيت فذكرت ذلك للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ) يا عبد الله بن عمر طلق امرأتك ) قال هذا حديث حسن صحيح السادسة روى الصحيح عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : من أحق الناس بحسن صحابتي قال : ) أمك ) قال : ثم من قال : ) ثم أمك ) قال : ثم من قال : ) ثم أمك ) قال : ثم من قال : ) ثم أبوك ) فهذا الحديث يدل على أن محبة الأم والشفقة عليها ينبغي أن تكون ثلاثة أمثال محبة الأب لذكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الأم ثلاث مرات وذكر الأب في الرابعة فقط وإذا توصل هذا المعنى شهد له العيان وذلك أن صعوبة الحمل وصعوبة الوضع وصعوبة الرضاع والتربية تنفرد بها الأم دون الأب فهذه ثلاث منازل يخلو منها الأب وروي عن مالك أن رجلا قال له : إن أبي في بلد السودان وقد كتب إلي أن أقدم عليه وأمي تمنعني من ذلك فقال له : أطع أباك ولا تعص أمك فدل قول مالك هذا أن برهما متساو عنده وقد سئل الليث عن هذه المسألة فأمره بطاعة الأم وزعم أن لها ثلثي البر وحديث أبي هريرة يدل على أن لها ثلاثة أرباع البر وهو الحجة على من خالف وقد زعم المحاسبي في [ كتاب الرعاية ] له أنه لا خلاف بين العلماء أن للأم ثلاثة أرباع البر وللأب الربع على مقتضى حديث أبي هريرة رضي الله عنه والله أعلم السابعة لا يختص بر الوالدين بأن يكونا مسلمين بل إن كانا كافرين يبرهما ويحسن إليهما إذا كان لهما عهد قال الله تعالى : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم الممتحنة وفي صحيح البخاري عن أسماء قالت : قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش ومدتهم إذ عاهدوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مع أبيها فاستفتيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت : إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها قال : ) نعم صلي أمك "صفحة رقم 240" وروي أيضا عن أسماء قالت : أتتني أمي راغبة في عهد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فسألت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أأصلها قال : ) نعم ) قال بن عيينة : فأنزل الله عز وجل فيها : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين الممتحنة الأول معلق والثاني مسند الثامنة من الإحسان إليهما والبر بهما إذا لم يتعين الجهاد ألا يجاهد إلا بإذنهما روى الصحيح عن عبد الله بن عمرو قال : جاء رجل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يستأذنه في الجهاد فقال : ) أحي والداك ) قال نعم قال : ) ففيهما فجاهد ) لفظ مسلم في غير الصحيح قال : نعم وتركتهما يبكيان قال : ) اذهب فاضحكهما كما أبكيتهما ) وفي خبر آخر أنه قال : ) نومك مع أبويك على فراشهما يضاحكانك ويلاعبانك أفضل لك من الجهاد معي ) ذكره بن خويز منداد ولفظ البخاري في كتاب بر الوالدين : أخبرنا أبو نعيم أخبرنا سفيان عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال : جاء رجل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يبايعه على الهجرة وترك أبويه يبكيان فقال : ) ارجع إليهما فاضحكهما كما أبكيتهما ) قال بن المنذر : في هذا الحديث النهي عن الخروج بغير إذن الأبوين ما لم يقع النفير فإذا وقع وجب الخروج على الجميع وذلك بين في حديث أبي قتادة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعث جيش الأمراء فذكر قصة زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وبن رواحة وأن منادي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نادى بعد ذلك : أن الصلاة جامعة فاجتمع الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ) أيها الناس اخرجوا فامدوا إخوانكم ولا يتخلفن أحد ) فخرج الناس مشاة وركبانا في حر شديد فدل قوله : ) اخرجوا فامدوا إخوانكم ) أن العذر في التخلف عن الجهاد إنما هو ما لم يقع النفير مع قوله عليه السلام : ) فإذا استنفرتم فانفروا ) قلت : وفي هذه الأحاديث دليل على أن المفروض أو المندوبات متى اجتمعت قدم الأهم منها وقد استوفى هذا المعنى المحاسبي في كتاب الرعاية التاسعة واختلفوا في الوالدين المشركين هل يخرج بإذنهما إذا كان الجهاد من فروض الكفاية فكان الثوري يقول : لا يغزو إلا بإذنهما وقال الشافعي : له أن يغزو "صفحة رقم 241" بغير إذنهما قال بن المنذر : والأجداد آباء والجدات أمهات فلا يغزو المرء إلا بإذنهم ولا أعلم دلالة توجب ذلك لغيرهم من الإخوة وسائر القرابات وكان طاوس يرى السعي على الأخوات أفضل من الجهاد في سبيل الله عز وجل العاشرة من تمام برهما صلة أهل ودهما ففي الصحيح عن بن عمر قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ) إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي ) وروي أبو أسيد وكان بدريا قال : كنت مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) جالسا فجاءه رجل من الأنصار فقال : يا رسول الله هل بقي من بر والدي من بعد موتهما شيء أبرهما به قال : ) نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما بعدهما وإكرام صديقهما وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما فهذا الذي بقي عليك ) وكان ( صلى الله عليه وسلم ) يهدي لصدائق خديجة برا بها ووفاء لها وهي زوجته فما ظنك بالوالدين الحادية عشرة قوله تعالى : ) إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما ( خص حالة الكبر لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى بره لتغير الحال عليهما بالضعف والكبر فألزم في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزمه من قبل لأنهما في هذه الحالة قد صارا كلا عليه فيحتاجان أن يلي منهما في الكبر ما كان يحتاج في صغره أن يليا منه فلذلك خص هذه الحالة بالذكر وأيضا فطول المكث للمرء يوجب الاستثقال للمرء عادة ويحصل الملل ويكثر الضجر فيظهر غضبه على أبويه وتنتفخ لهما أوداجه ويستطيل عليهما بدالة البنوة وقلة الديانة وأقل المكروه ما يظهره بتنفسه المتردد من الضجر وقد أمر أن يقابلهما بالقول الموصوف بالكرامة وهو السالم عن كل عيب فقال : فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) رغم أنفه رغم أنفه رغم أنفه ) قيل : من يا رسول الله قال : ) من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة ) وقال البخاري في كتاب بر الوالدين : حدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال "صفحة رقم 242" ) رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي رغم انف رجل أدرك أبويه عند الكبر أو احدهما فلم يدخلاه الجنة ورغم انف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له ) حدثنا بن أبي أويس حدثني أخي عن سليمان بن بلال عن محمد بن هلال عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة السالمي عن أبيه رضي الله عنه قال : إن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ) أحضروا المنبر ) فلما خرج رقى إلى المنبر فرقى في أول درجة منه قال آمين ثم رقى في الثانية فقال آمين ثم لما رقى في الثالثة قال آمين فلما فرغ ونزل من المنبر قلنا : يا رسول الله لقد سمعنا منك اليوم شيئا ما كنا نسمعه منك قال : ) وسمعتموه ) قلنا نعم قال : ) إن جبريل عليه السلام اعترض قال : بعد من أدرك رمضان فلم يغفر له فقلت آمين فلما رقيت في الثالثة قال بعد من ذكرت عنده فلم يصل عليك فقلت آمين فلما رقيت في الثالثة قال بعد من أدرك عنده أبواه الكبر أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة قلت آمين ) حدثنا أبو نعيم حدثنا سلمة بن وردان سمعت أنسا رضي الله عنه يقول : ارتقى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على المنبر درجة فقال آمين ثم ارتقى درجة فقال آمين ثم ارتقى الدرجة الثالثة فقال آمين ثم استوى وجلس فقال أصحابه : يا رسول الله علام أمنت قال : ) أتاني جبريل عليه السلام فقال رغم أنف من ذكرت عنده فلم يصل عليك فقلت آمين ورغم أنف من أدرك أبويه أو احدهما فلم يدخل الجنة فقلت آمين ) الحديث فالسعيد الذي يبادر اغتنام فرصة برهما لئلا تفوته بموتهما فيندم على ذلك والشقي من عقهما لا سيما من بلغه الأمر ببرهما الثانية عشرة قوله تعالى : ) فلا تقل لهما أف ( أي لا تقل لهما ما يكون فيه أدنى تبرم وعن أبي رجاء العطاردي قال : الأف الكلام القذع الرديء الخفي وقال مجاهد : معناه إذا رأيت منهما في حال الشيخ الغائط والبول الذي رأياه منك في الصغر فلا تقذرهما وتقول أف والآية أعم من هذا والأف والتف وسخ الأظفار ويقال لكل ما يضجر ويستثقل : أف له قال الأزهري : والتف أيضا الشيء الحقير وقرىء أف منون "صفحة رقم 243" مخفوض كما تخفض الأصوات وتنون تقول : صه ومه وفيه عشر لغات : أف وأف وأف وأفا وأف وأف وأفه وإف لك [ بكسر الهمزة ] وأف [ بضم الهمزة وتسكين الفاء ] وأفا [ مخففة الفاء ] وفي الحديث : ) فألقى طرف ثوبه على أنفه ثم قال أف أف ) قال أبو بكر : معناه استقذار لما شم وقال بعضهم : معنى أف الاحتقار والاستقلال أخذ من الأفف وهو القليل وقال القتبي : أصله نفخك الشيء يسقط عليك من رماد وتراب وغير ذلك وللمكان تريد إماطة شيء لتقعد فيه فقيلت هذه الكلمة لكل مستثقل وقال أبو عمرو بن العلاء : الألف وسخ بين الأظفار والتف قلامتها وقال الزجاج : معنى أف النتن وقال الأصمعي : الأف وسخ الأذن والتف وسخ الأظفار فكثر استعماله حتى ذكر في كل ما يتأذى به وروي من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) لو علم الله من العقوق شيئا أردأ من أف لذكره فليعمل البار ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار وليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة ) قال علماؤنا : وإنما صارت قولة أف للأبوين أردأ شيء لأنه رفضهما رفض كفر النعمة وجحد التربية ورد الوصية التي أوصاه في التنزيل وأف كلمة مقولة لكل شيء مرفوض ولذلك قال إبراهيم لقومه : أف لكم ولما تعبدون من دون الله أي رفض لكم ولهذه الأصناممعكم الثالثة عشرة قوله تعالى : ) ولاتنهرهما ( النهر : الزجروالغلظة ) وقل لهما قولا كريما ( أي لينا لطيفا مثل : يا أبتاه ويا أماه من غير أن يسميهما ويكنيهما قال عطاء وقال بن البداح التجيبي : قلت لسعيد بن المسيب كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفته إلا قوله : وقل لهما قولا كريما ما هذا القول الكريم قال بن المسيب : قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ الرابعة عشرة قوله تعالى : ) واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ( هذه استعارة في الشفقة والرحمة بهما والتذلل لهما تذلل الرعية للأمير والعبيد للسادة كما أشار إليه سعيد بن "صفحة رقم 244" المسيب وضرب خفض الجناح ونصبه مثلا لجناح الطائر حين ينتصب بجناحه لولده والذل : هو اللين وقراءة الجمهور بضم الذال من ذل يذل ذلا وذلة ومذلة فهو ذال وذليل وقرأ سعيد بن جبير وبن عباس وعروة بن الزبير الذل بكسر الذال ورويت عن عاصم من قولهم : دابة ذلول بينة الذل والذل في الدواب المنقاد السهل دون الصعب فينبغي بحكم هذه الآية أن يجعل الإنسان نفسه مع أبويه في خير ذلة في أقواله وسكناته ونظره ولا يحد إليهما بصره فإن تلك هي نظرة الغاضب الخامسة عشرة الخطاب في هذه الآية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد به أمته إذ لم يكن له عليه السلام في ذلك الوقت أبوان ولم يذكر الذل في قوله تعالى : واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين وذكره هنا بحسب عظم الحق وتأكيده ومن في قوله : من الرحمة لبيان الجنس أي إن هذا الخفض يكون من الرحمة المستكنة في النفس لا بأن يكون ذلك استعمالا ويصح أن يكون لانتهاء الغاية ثم أمر تعالى عباده بالترحم على آبائهم والدعاء لهم وأن ترحمهما كما رحماك وترفق بهما كما رفقا بك إذ ولياك صغيرا جاهلا محتاجا فآثراك على أنفسهما وأسهرا ليلهما وجاعا وأشبعاك وتعريا وكسواك فلا تجزيهما إلا أن يبلغا من الكبر الحد الذي كنت فيه من الصغر فتلي منهما ما وليا منك ويكون لهما حينئذ فضل التقدم قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ) لا يجزئ ولد والدا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه ) وسيأتي في سورة مريم الكلام على هذا الحديث السادسة عشرة قوله تعالى : ) كما ربياني ( خص التربية بالذكر ليتذكر العبد شفقة الأبوين وتعبهما في التربية فيزيده ذلك إشفاقا لهما وحنانا عليهما وهذا كله في الأبوين المؤمنين وقد نهى القرآن عن الاستغفار للمشركين الأموات ولو كانوا أولي قربي كما تقدم وذكر عن بن عباس وقتادة أن هذا كله منسوخ بقوله : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين إلى قوله أصحاب الجحيم فإذا كان والدا المسلم ذميين استعمل "صفحة رقم 245" معهما ما أمره الله به ها هنا إلا الترحم لهما بعد موتهما على الكفر لأن هذا وحده نسخ بالآية المذكورة وقيل : ليس هذا موضع نسخ فهو دعاء بالرحمة الدنيوية للأبوين المشركين ما داما حيين كما تقدم أو يكون عموم هذه الآية خص بتلك لا رحمة الآخرة لا سيما وقد قيل إن قوله : وقل رب ارحمهما نزلت في سعد بن أبي وقاص فإنه أسلم فألقت أمه نفسها في الرمضاء متجردة فذكر ذلك لسعد فقال : لتمت فنزلت الآية وقيل : الآية خاصة في الدعاء للأبوين المسلمين والصواب أن ذلك عموم كما ذكرنا وقال بن عباس قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ) من أمسى مرضيا لوالديه وأصبح أمسى وأصبح وله بابان مفتوحان من الجنة وإن واحدا فواحدا ومن أمسى وأصبح مسخطا لوالديه أمسى وأصبح وله بابان مفتوحان إلى النار وإن واحدا فواحدا ) فقال رجل : يا رسول الله وإن ظلماه قال : ) وإن ظلماه وإن ظلماه وإن ظلماه ) وقد روينا بالإسناد المتصل عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال : جاء رجل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا رسول الله إن أبي أخذ مالي فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) للرجل : ) فأتني بأبيك ) فنزل جبريل عليه السلام على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ) إن الله عز وجل يقرئك السلام ويقول لك إذا جاءك الشيخ فاسأله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه ) فلما جاء الشيخ قال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ) ما بال ابنك يشكوك أتريد أن تأخذ ماله ) فقال : سله يا رسول الله هل أنفقه إلا على إحدى عماته أو خالاته أو على نفسي فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) إيه دعنا من هذا أخبرني عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك ) فقال الشيخ : والله يا رسول الله ما زال الله عز وجل يزيدنا بك يقينا لقد قلت في نفسي شيئا ما سمعته أذناي قال : ) قل وأنا أسمع ) قال قلت ![]()
__________________
|
#434
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (10) سُورَةُ الإسراء من صــ 246 الى صــ 255 الحلقة (434) "صفحة رقم 246" غذوتك مولودا ومنتك يافعا تعل بما أجني عليك وتنهل إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا ساهرا أتململ كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيني تهمل تخاف الردى نفسي عليك وإنها لتعلم أن الموت وقت مؤجل فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيك أؤمل جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل فليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المصاقب يفعل فأوليتني حق الجوار ولم تكن علي بمال دون مالك تبخل قال : فحينئذ أخذ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بتلابيب ابنه وقال : ) أنت ومالك لأبيك ) قال الطبراني : اللخمي لا يروي يعني هذا الحديث عن بن المنكدر بهذا التمام والشعر إلا بهذا الإسناد وتفرد به عبيد الله بن خلصة والله أعلم الإسراء : ) 25 ( ربكم أعلم بما . . . . . ) الاسراء 25 ( قوله تعالى : ) ربكم أعلم بما في نفوسكم ( أي من اعتقاد الرحمة بهما والحنو عليهما أو من غير ذلك من العقوق أو من جعل ظاهر برهما رياء وقال بن جبير : يريد البادرة التي تبدر كالفلتة والزلة تكون من الرجل إلى أبويه أو أحدهما لا يريد بذلك بأسا قال الله تعالى : ) إن تكونوا صالحين ( أي صادقين في نية البر بالوالدين فإن الله يغفر البادرة وقوله : ) فإنه كان للأوابين غفورا ( وعد بالغفران مع شرط الصلاح والأوبة بعد الأوبة "صفحة رقم 247" إلى طاعة الله سبحانه وتعالى قال سعيد بن المسيب : هو العبد يتوب ثم يذنب ثم يتوب ثم يذنب وقال بن عباس رضي الله عنه : الأواب : الحفيظ الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها وقال عبيد بن عمير : هم الذين يذكرون ذنوبهم في الخلاء ثم يستغفرون الله عز وجل وهذه الأقوال متقاربة وقال عون العقيلي : الأوابون هم الذين يصلون صلاة الضحى وفي الصحيح : ) صلاة الأوابين حين ترمض الفصال ) وحقيقة اللفظ من آب يؤوب إذا رجع الإسراء : ) 26 ( وآت ذا القربى . . . . . ) الاسراء 26 : 27 ( فيه ثلاث مسائل : الأولى قوله تعالى : ) وآت ذا القربة حقه ( أي كما راعيت حق الوالدين فصل الرحم ثم تصدق على المسكين وبن السبيل وقال علي بن الحسين في قوله تعالى وآت ذا القربى حقه : هم قرابة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمر ( صلى الله عليه وسلم ) بإعطائهم حقوقهم من بيت المال أي من سهم ذوي القربي من الغزو والغنيمة ويكون خطابا للولاة أو من قام مقامهم وألحق في هذه الآية ما يتعين من صلة الرحم وسد الخلة والمواساة عند الحاجة بالمال والمعونة بكل وجه الثانية قوله تعالى : ) ولاتبذر ( أي لا تسرف في الإنفاق في غير حق قال الشافعي رضي الله عنه : والتبذير إنفاق المال في غير حقه ولا تبذير في عمل الخير وهذا قول الجمهور وقال أشهب عن مالك : التبذير هو أخذ المال من حقه ووضعه في غير حقه وهو الإسراف وهو حرام لقوله تعالى : إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وقوله "صفحة رقم 248" إخوان يعني أنهم في حكمهم إذ المبذر ساع في إفساد كالشياطين أو أنهم يفعلون ما تسول لهم أنفسهم أو أنهم يقرنون بهم غدا في النار ثلاثة أقوال والإخوان هنا جمع أخ من غير النسب ومنه قوله تعالى : إنما المؤمنون إخوة وقوله تعالى : ) وكان الشيطان لربه كفورا ( أي احذروا متابعته والتشبه في الفساد والشيطان اسم جنس وقرأ الضحاك إخوان الشيطان على الإفراد وكذلك ثبت في مصحف أنس بن مالك رضي الله عنه الثالثة من أنفق ما له في الشهوات زائدا على قدر الحاجات وعرضه بذلك للنفاد فهو مبذر ومن أنفق ربح ماله في شهواته وحفظ الأصل أو الرقبة فليس بمبذر ومن أنفق درهما في حرام فهو مبذر ويحجر عليه في نفقته الدرهم في الحرام ولايحجر عليه إن بذله في الشهوات إلا إذا خيف عليه النفاد الإسراء : ) 28 ( وإما تعرضن عنهم . . . . . ) الاسراء 28 ( فيه ثلاث مسائل : الأولى وهو أنه سبحانه وتعالى خص نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله : وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها وهو تأديب عجيب وقول لطيف بديع أي لا تعرض عنهم إعراض مستهين عن ظهر الغنى والقدرة فتحرمهم وإنما يجوز أن تعرض عنهم عند عجز يعرض وعائق يعوق وأنت عند ذلك ترجو من الله سبحانه وتعالى فتح باب الخير لتتوصل به إلى مواساة السائل فإن قعد بك الحال فقل لهم قولا ميسورا الثانية في سبب نزولها قال بن زيد : نزلت الآية في قوم كانوا يسألون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيأبى أن يعطيهم لأنه كان يعلم منهم نفقة المال في فساد "صفحة رقم 249" فكان يعرض عنهم رغبة في الأجر في منعهم لئلا يعينهم على فسادهم وقال عطاء الخرساني في قوله تعالى وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها قال : ليس هذا في ذكر الوالدين جاء ناس من مزينة إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يستحملونه فقال : ) لا أجد ما أحملكم عليه ) فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا فأنزل الله تعالى : وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها والرحمة الفيء الثالثة قوله تعالى : ) فقل لهم قولا ميسورا ( أمره بالدعاء لهم أي يسر فقرهم عليهم بدعائك لهم وقيل : أدع لهم دعاء يتضمن الفتح لهم والإصلاح وقيل : المعنى ) وإما تعرضن ) أي إن أعرضت يا محمد عن إعطائهم لضيق يد فقل لهم قولا ميسورا أي أحسن القول وأبسط العذر وادع لهم بسعة الرزق وقل إذا وجدت فعلت وأكرمت فإن ذلك يعمل في مسرة نفسه عمل المواساة وكان عليه الصلاة والسلام إذا سئل وليس عنده ما يعطي سكت انتظارا لرزق يأتي من الله سبحانه وتعالى كراهة الرد فنزلت هذه الآية فكان ( صلى الله عليه وسلم ) إذا سئل وليس عنده ما يعطي قال : ) يرزقنا الله وإياكم من فضله ) فالرحمة على هذا التأويل الرزق المنتظر وهذا قول بن عباس ومجاهد وعكرمة والضمير في عنهم عائد على من تقدم ذكرهم من الآباء والقرابة والمساكين وأبناء السبيل وقولا ميسورا أي لينا لطيفا طيبا مفعول بمعنى الفاعل من لفظ اليسر كالميمون أي وعدا جميلا على ما بيناه ولقد أحسن من قال : إلا تكن ورق يوما أجود بها للسائلين فإني لين العود لا يعدم السائلون الخير من خلقي إما نوالي وإما حسن مردودي تقول : يسرت لك كذا إذا أعددته الإسراء : ) 29 ( ولا تجعل يدك . . . . . ) الاسراء 29 ( "صفحة رقم 250" فيه أربع مسائل : الأولى قوله تعالى : ) ولاتجعل يدك مغلولة إلى عنقك ( هذا مجاز عبر به عن البخيل الذي لا يقدر من قلبه على إخراج شيء من ماله فضرب له مثل الغل الذي يمنع من التصرف باليد وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ضرب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه حتى تغشى أنامله وتعفو أثره وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت وأخذت كل حلقة بمكانها قال أبو هريرة رضي الله عنه : فأنا رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول بأصبعيه هكذا في جيبه فلو رأيته يوسعها ولاتتوسع الثانية قوله تعالى : ) ولاتبسطها كل البسط ( ضرب بسط اليد مثلا لذهاب المال فإن قبض الكف يحبس ما فيها وبسطها يذهب ما فيها وهذا كله خطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد أمته وكثيرا ما جاء في القرآن فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما كان سيدهم وواسطتهم إلى ربهم عبر به عنهم على عادة العرب في ذلك وأيضا فإنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يدخر شيئا لغد وكان يجوع حتى يشد الحجر على بطنه من الجوع وكان كثير من الصحابة ينفقون في سبيل الله جميع أموالهم فلم يعنفهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولم ينكر عليهم لصحة يقينهم وشدة بصائرهم وإنما نهى الله سبحانه وتعالى عن الإفراط في الإنفاق وإخراج ما حوته يده من المال من خيف عليه الحسرة على ما خرج من يده فأما من وثق بموعود الله عز وجل وجزيل ثوابه فيما أنفقه فغير مراد بالآية والله أعلم وقيل : إن هذا الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) في خاصة نفسه علمه فيه كيفية الإنفاق وأمره بالإقتصاد قال جابر وبن مسعود : جاء غلام إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : إن أمي "صفحة رقم 251" تسألك كذا وكذا فقال : ) ما عندنا اليوم شيء ) قال : فتقول لك اكسني قميصك فخلع قميصه فدفعه إليه وجلس في البيت عريانا وفي رواية جابر : فأذن بلال للصلاة وانتظر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يخرج واشتغلت القلوب فدخل بعضهم فإذا هو عار فنزلت هذه الآية وكل هذا في إنفاق الخير وأما إنفاق الفساد فقليله وكثيره حرام كما تقدم الثالثة نهت هذه الآية عن استفراغ الوجد فيما يطرأ أولا من سؤال المؤمنين لئلا يبقى من يأتي بعد ذلك لا شيء له أو لئلا يضيع المنفق عياله ونحوه من كلام الحكمة : ما رأيت قط سرفا إلا ومعه حق مضيع وهذه من آيات فقه الحال فلا يبين حكمها إلا باعتبار شخص شخص من الناس الرابعة قوله تعالى : ) فتقعد ملوما محسورا ( قال بن عرفة : يقول لا تسرف ولا تتلف مالك فتبقى محسورا منقطعا عن النفقة والتصرف كما يكون البعير الحسير وهو الذي ذهبت قوته فلا انبعاث به ومنه قوله تعالى : ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير أي كليل منقطع وقال قتادة : أي نادما على ما سلف منك فجعله من الحسرة وفيه بعد لأن الفاعل من الحسرة حسر وحسران ولا يقال محسور والملوم : الذي يلام على إتلاف ماله أو يلومه من لا يعطيه الإسراء : ) 30 ( إن ربك يبسط . . . . . ) الاسراء 30 ( "صفحة رقم 252" الإسراء : ) 31 ( ولا تقتلوا أولادكم . . . . . ) الاسراء 31 ( فيه مسألتان : الأولى قد مضى الكلام في هذه الآية في الأنعام والحمد لله والإملاق : الفقر وعدم الملك أملق الرجل أي لم يبق له إلا الملقات وهي الحجارة العظام الملس قال الهذلي يصف صائدا : أتيح لها أقيدر ذو حشيف إذا سامت على الملقات ساما الواحدة ملقة والأقيدر تصغير الأقدر وهو الرجل القصير والحشيف من الثياب : الخلق وسامت مرت وقال شمر : أملق لازم ومتعد أملق إذا افتقر وأملق الدهر ما بيده قال أوس : وأملق ما عندي خطوب تنبل الثانية قوله تعالى : ) خطا ( خطأ قراءة الجمهور بكسر الخاء وسكون الطاء وبالهمزة والقصر وقرأ بن عامر خطأ بفتح الخاء والطاء والهمزة مقصورة وهي قراءة أبي جعفر يزيد وهاتان قراءتان مأخوذتان من خطىء إذا أتى الذنب على عمد قال بن عرفة : يقال خطىء في ذنبه خطأ إذا أثم فيه وأخطأ إذا سلك سبيل خطأ عامدا أو غير عامد قال : ويقال خطىء في معنى أخطأ وقال الأزهري : يقال خطىء يخطأ خطئا إذا تعمد الخطأ مثل أثم يأثم إثما وأخطأ إذا لم يتعمد إخطاء وخطأ قال الشاعر : دعيني إنما خطئي وصوبي علي وإن ما أهلكت مال "صفحة رقم 253" والخطأ الاسم يقوم مقام الإخطاء وهو ضد الصواب وفيه لغتان : القصر وهو الجيد والمد وهو قليل وروي عن بن عباس رضي الله تعالى عنهما خطأ بفتح الخاء وسكون الطاء وهمزة وقرأ بن كثير بكسر الخاء وفتح الطاء ومد الهمزة قال النحاس : ولا أعرف لهذه القراءة وجها ولذلك جعلها أبو حاتم غلطا قال أبو علي : هي مصدر من خاطأ يخاطىء وإن كنا لا نجد خاطأ ولكن وجدنا تخاطأ وهو مطاوع خاطأ فدلنا عليه ومنه قول الشاعر : تخاطأت النبل أحشاءه وأخر يومي فلم أعجل وقال الآخر في وصف مهاة : تخاطأه القناص حتى وجدته وخرطومه في منقع الماء راسب الجوهري : تخاطأه أي أخطأه وقال أوفى بن مطر المازني : ألا أبلغا خلتي جابرا بأن خليلك لم يقتل تخاطأت النبل أحشاءه وأخر يومي فلم يعجل وقرأ الحسن خطاء بفتح الخاء والطاء والمد في الهمزة قال أبو حاتم : لا يعرف هذا في اللغة وهي غلط غير جائز وقال أبو الفتح : الخطأ من أخطأت بمنزلة العطاء من أعطيت هو اسم بمعنى المصدر وعن الحسن أيضا خطى بفتح الخاء والطاء منونة من غير همز الإسراء : ) 32 ( ولا تقربوا الزنى . . . . . ) الاسراء 32 ( فيه مسألة واحدة : قال العلماء : قوله تعالى ولا تقربوا الزنى ( أبلغ من أن يقول : ولا تزنوا فإن معناه لا تدنوا من الزنى والزنى يمد ويقصر لغتان قال الشاعر : كانت فريضة ما تقول كما كان الزنى فريضة الرجم و ) سبيلا ( نصب على التمييز التقدير : وساء سبيله سبيلا أي لأنه يؤدي إلى النار والزنى من الكبائر ولا خلاف فيه وفي قبحه لا سيما بحليلة الجار وينشأ عنه استخدام ولد الغير "صفحة رقم 254" واتخاذه ابنا وغير ذلك من الميراث وفساد الأنساب باختلاط المياه وفي الصحيح أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أتي بامرأة مجح على باب فسطاط فقال : ) لعله يريد أن يلم بها ) فقالوا : نعم فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) لقد هممت أن ألعنه لعنا يدخل معه قبره كيف يورثه وهو لا يحل له كيف يستخدمه وهو لا يحل له ) الإسراء : ) 33 ( ولا تقتلوا النفس . . . . . ) الاسراء 33 ( قوله تعالى : ) ولاتقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ( قد مضى الكلام فيه في الأنعام قوله تعالى : ) ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ( فيه ثلاث مسائل : الأولى قوله تعالى : ) ومن قتل مظلوما ( أي بغير سبب يوجب القتل ) فقد جعلنا لوليه ( أي لمستحق دمه قال بن خويز منداد : الولي يجب أن يكون ذكرا لأنه أفرده بالولاية بلفظ التذكير وذكر إسماعيل بن إسحاق في قوله تعالى : فقد جعلنا لوليه ما يدل على خروج المرأة عن مطلق لفظ الولي فلا جرم ليس للنساء حق في القصاص لذلك ولا أثر "صفحة رقم 255" لعفوها وليس لها الاستيفاء وقال المخالف : إن المراد ها هنا بالولي الوارث وقد قال تعالى : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض وقال : والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء وقال : وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله فاقتضى ذلك إثبات القود لسائر الورثة وأما ما ذكروه من أن الولي في ظاهره على التذكير وهو واحد كأن ما كان بمعنى الجنس يستوي المذكر والمؤنث فيه وتتمته في كتب الخلاف ) سلطانا ( أي تسليطا إن شاء قتل وإن شاء عفا وإن شاء أخذ الدية قاله بن عباس رضي الله تعالى عنهما والضحاك وأشهب والشافعي وقال بن وهب قال مالك : السلطان أمر الله بن عباس : السلطان الحجة وقيل : السلطان طلبه حتى يدفع إليه قال بن العربي : وهذه الأقوال متقاربة وأوضحها قول مالك : إنه أمر الله ثم إن أمر الله عز وجل لم يقع نصا فاختلف العلماء فيه فقال بن القاسم عن مالك وأبي حنيفة : القتل خاصة وقال أشهب : الخيرة كما ذكرنا آنفا وبه قال الشافعي وقد مضى في سورة البقرة هذا المعنى الثانية قوله تعالى : ) فلا يسرف في القتل ( فيه ثلاثة أقوال : لا يقتل غير قاتله قاله الحسن والضحاك ومجاهد وسعيد بن جبير الثاني لا يقتل بدل وليه اثنين كما كانت العرب تفعله الثالث لا يمثل بالقاتل قاله طلق بن حبيب وكله مراد لأنه إسراف منهي عنه وقد مضى في البقرة القول في هذا مستوفى وقرأ الجمهور يسرف بالياء يريد الولي وقرأ بن عامر وحمزة والكسائي تسرف بالتاء من فوق وهي قراءة حذيفة وروى العلاء بن عبد الكريم عن مجاهد قال : هو للقاتل الأول والمعنى عندنا فلا تسرف أيها القاتل وقال الطبري : هو على معنى الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والأئمة من بعده أي لا تقتلوا غير القاتل وفي حرف أبي فلا تسرفوا في القتل ![]()
__________________
|
#435
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (10) سُورَةُ الإسراء من صــ 256 الى صــ 265 الحلقة (435) "صفحة رقم 256" الثانية قوله تعالى : ) إنه كان منصورا ( أي معانا يعني الولي فإن قيل : وكم من ولي مخذول لا يصل إلى حقه قلنا : المعونة تكون بظهور الحجة تارة وباستيفائها أخرى وبمجموعهما ثالثة فأيها كان فهو نصر من الله سبحانه وتعالى وروى بن كثير عن مجاهد قال : إن المقتول كان منصورا النحاس : ومعنى قوله إن الله نصره بوليه وروي أنه في قراءة أبي فلا تسرفوا في القتل إن ولي المقتول كان منصورا قال النحاس : الأبين بالياء ويكون للولي لأنه إنما يقال : لا يسرف إن كان له أن يقتل فهذا للولي وقد يجوز بالتاء ويكون للولي أيضا إلا أنه يحتاج فيه إلى تحويل المخاطبة قال الضحاك : هذا أول ما نزل من القرآن في شأن القتل وهي مكية الإسراء : ) 34 ( ولا تقربوا مال . . . . . ) الاسراء 34 ( فيه مسألتان : الأولى قوله تعالى : ) ولاتقربوا ما ل اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده ( قد مضى الكلام فيه في الأنعام الثانية قوله تعالى : ) وأوفوا بالعهد ( قد مضى الكلام فيه في غير موضع قال الزجاج : كل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد ) إن العهد كان مسئولا ( عنه فحذف كقوله : ويفعلون ما يؤمرون به وقيل : إن العهد يسأل تبكيتا لناقضه فيقال : نقضت كما تسأل الموءودة تبكيتا لوائدها الإسراء : ) 35 ( وأوفوا الكيل إذا . . . . . ) الاسراء 35 ( "صفحة رقم 257" فيه مسألتان : الأولى قوله تعالى : ) وأوفوا الكيل إذا كلتم ( تقدم الكلام فيه أيضا في الأنعام وتقتضي هذه الآية أن الكيل على البائع وقد مضى في سورة يوسف فلا معنى للإعادة والقسطاس [ بضم القاف وكسرها ] : الميزان بلغة الروم قاله بن عزيز وقال الزجاج : القسطاس : الميزان صغيرا كان أو كبيرا وقال مجاهد : القسطاس العدل وكان يقول : هي لغة رومية وكأن الناس قيل لهم : زنوا بمعدلة في وزنكم وقرأ بن كثير وأبو عمرو ونافع وبن عامر وعاصم في رواية أبي بكر القسطاس بضم القاف وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم [ بكسر القاف ] وهما لغتان الثانية قوله تعالى : ) ذلك خير وأحسن تأويلا ( أي وفاء الكيل وإقامة الوزن خير عند ربك وأبرك وأحسن تأويلا أي عاقبة قال الحسن : ذكر لنا أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ) لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه ليس لديه إلا مخافة الله تعالى إلا أبدله الله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك ) الإسراء : ) 36 ( ولا تقف ما . . . . . ) الاسراء 36 ( فيه ست مسائل : الأولى قوله تعالى : ) ولاتقف ( أي لا تتبع ما لا تعلم ولا يعنيك قال قتادة : لا تقل رأيت وأنت لم تر وسمعت وأنت لم تسمع وعلمت وأنت لم تعلم وقاله بن عباس رضي الله عنهما قال مجاهد : لا تذم أحدا بما ليس لك به علم وقاله بن عباس رضي الله عنهما أيضا وقال محمد بن الحنفية : هي شهادة الزور وقال القتبي : المعنى لا تتبع الحدس "صفحة رقم 258" والظنون وكلها متقاربة وأصل القفو البهت والقذف بالباطل ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : ) نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا ) أي لا نسب أمنا وقال الكميت : فلا أرمي البريء بغير ذنب ولا أقفو الحواصن إن قفينا يقال : قفوته أقفوه وقفته أقوفه وقفيته إذا اتبعت أثره ومنه القافة لتتبعهم الآثار وقافية كل شيء آخره ومنه قافية الشعر لأنها تقفو البيت ومنه اسم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المقفي لأنه جاء آخر الأنبياء ومنه القائف وهو الذي يتبع أثر الشبه يقال : قاف القائف يقوف إذا فعل ذلك وتقول : فقوت الأثر بتقديم الفاء على القاف بن عطية : ويشبه أن يكون هذا من تلعب العرب في بعض الألفاظ كما قالوا : رعملي في لعمري وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت : قفا وقاف مثل عتا وعات وذهب منذر بن سعيد إلى أن قفا وقاف مثل جبذ وجذب وبالجملة فهذه الآية تنهى عن قول الزور والقذف وما أشبه ذلك من الأقوال الكاذبة والرديئة وقرأ بعض الناس فيما حكى الكسائي تقف بضم القاف وسكون الفاء وقرأ الجراح والفآد بفتح الفاء وهي لغة لبعض الناس وأنكرها أبو حاتم وغيره الثانية قال بن خويز منداد : تضمنت هذه الآية الحكم بالقافة لأنه لما قال : ولا تقف ما ليس لك به علم دل على جواز ما لنا به علم فكل ما علمه الإنسان أو غلب على ظنه جاز أن يحكم به وبهذا احتججنا على إثبات القرعة والخرص لأنه ضرب من غلبة الظن وقد يسمى علما اتساعا فالقائف يلحق الولد بأبيه من طريق الشبه بينهما كما يلحق الفقيه الفرع بالأصل من طريق الشبه وفي الصحيح عن عائشة : أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) دخل علي مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال : ) ألم ترى أن مجززا نظر إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد عليهما قطيفة قد غطيا رءوسهما وبدت أقدامهما فقال إن بعض هذه الأقدام لمن بعض ) وفي حديث يونس بن يزيد : ) وكان مجزز قائفا "صفحة رقم 259" الثالثة قال الإمام أبو عبد الله المازري : كانت الجاهلية تقدح في نسب أسامة لكونه أسود شديد السواد وكان زيد أبوه أبيض من القطن هكذا ذكره أبو داود عن أحمد بن صالح قال القاضي عياض : وقال غير أحمد كان زيد أزهر اللون وكان أسامة شديد الأدمة وزيد بن حارثة عربي صريح من كلب أصابه سباء حسبما يأتي في سورة الأحزاب إن شاء الله تعالى الرابعة استدل جمهور العلماء على الرجوع إلى القافة عند التنازع في الولد بسرور النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقول هذا القائف وما كان عليه السلام بالذي يسر بالباطل ولا يعجبه ولم يأخذ بذلك أبو حنيفة وإسحاق والثوري وأصحابهم متمسكين بإلغاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الشبه في حديث اللعان على ما يأتي في سورة النور إن شاء الله تعالى الخامسة واختلف الآخذون بأقوال القافة هل يؤخذ بذلك في أولاد الحرائر والإماء أو يختص بأولاد الإماء على قولين فالأول قول الشافعي ومالك رضي الله عنهما في رواية بن وهب عنه ومشهور مذهبه قصره على ولد الأمة والصحيح ما رواه بن وهب عنه وقاله الشافعي رضي الله عنه لأن الحديث الذي هو الأصل في الباب إنما وقع في الحرائر فإن أسامة وأباه حران فكيف يلغى السبب الذي خرج عليه دليل الحكم وهو الباعث عليه هذا مما لا يجوز عند الأصوليين وكذلك اختلف هؤلاء هل يكتفى بقول واحد من القافة أو لا بد من اثنين لأنها شهادة وبالأول قال بن القاسم وهو ظاهر الخبر بل نصه وبالثاني قال مالك والشافعي رضي الله عنهما السادسة قوله تعالى : ) إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ( أي يسأل كل واحد منهم عما اكتسب فالفؤاد يسأل عما افتكر فيه واعتقده والسمع والبصر عما رأى من ذلك وسمع وقيل : المعنى أن الله سبحانه وتعالى يسأل الإنسان عما حواه سمعه وبصره وفؤاده ونظيره قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته "صفحة رقم 260" فالإنسان راع على جوارحه فكأنه قال كل هذه كان الإنسان عنه مسئولا فهو على حذف مضاف والمعنى الأول أبلغ في الحجة فإنه يقع تكذيبه من جوارحه وتلك غاية الخزي كما قال : اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون وقوله شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون فصلت وعبر عن السمع والبصر والفؤاد بأولئك لأنها حواس لها إدراك وجعلها في هذه الآية مسئولة فهي حالة من يعقل فلذلك عبر عنها بأولئك وقال سيبويه رحمه الله في قوله تعالى رأيتهم لي ساجدين : إنما قال : رأيتهم في نجوم لأنه لما وصفها بالسجود وهو من فعل من يعقل عبر عنها بكناية من يعقل وقد تقدم وحكى الزجاج أن العرب تعبر عما يعقل وعما لا يعقل بأولئك وأنشد هو والطبري : ذم المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأيام وهذا أمر يوقف عنده وأما البيت فالرواية فيه الأقوام والله أعلم الإسراء : ) 37 ( ولا تمش في . . . . . ) الاسراء 37 : 38 ( فيه خمس مسائل : الأولى قوله تعالى : ) ولاتمش في الأرض مرحا ( وهذا نهي عن الخيلاء وأمر بالتواضع والمرح : شدة الفرح وقيل : التكبر في المشي وقيل : تجاوز الإنسان قدره وقال قتادة : هو الخيلاء في المشي وقيل : هو البطر والأشر وقيل : هو النشاط وهذه الأقوال متقاربة ولكنها منقسمة قسمين : أحدهما مذموم والآخر محمود فالتكبر والبطر والخيلاء وتجاوز الإنسان قدره مذموم والفرح والنشاط محمود وقد وصف الله تعالى نفسه بأحدهما ففي الحديث الصحيح ) لله أفرح بتوبة العبد من رجل ) الحديث والكسل "صفحة رقم 261" مذموم شرعا والنشاط ضده وقد يكون التكبر وما في معناه محمودا وذلك على أعداء الله والظلمة أسند أبو حاتم محمد بن حبان عن بن جابر بن عتيك عن أبيه عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ) من الغيرة ما يبغض الله عز وجل ومنها ما يحب الله عز وجل ومن الخيلاء ما يحب الله عز وجل ومنها ما يبغض الله فأما الغيرة التي يحب الله الغيرة في الدين والغيرة التي يبغض الله الغيرة في غير دينه والخيلاء التي يحب الله اختيال الرجل بنفسه عند القتال وعند الصدقة والاختيال الذي يبغض الله الخيلاء في الباطل ) وأخرجه أبو داود في مصنفه وغيره وأنشدوا : ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا فكم تحتها قوم همو منك أرفع وإن كنت في عز وحرز ومنعة فكم مات من قوم همو منك أمنع الثانية إقبال الإنسان على الصيد ونحوه ترفعا دون حاجة إلى ذلك داخل في هذه الآية وفيه تعذيب الحيوان وإجراؤه لغير معنى وأما الرجل يستريح في اليوم النادر والساعة من يومه يجم فيها نفسه في التطرح والراحة ليستعين بذلك على شغل من البر كقراءة علم أو صلاة فليس بداخل في هذه الآية قوله تعالى : ) مرحا ( قراءة الجمهور بفتح الراء وقراءة فرقة فيما حكى يعقوب بكسر الراء على بناء اسم الفاعل والأول أبلغ فإن قولك : جاء زيد ركضا أبلغ من قولك : جاء زيد راكضا فكذلك قولك مرحا والمرح المصدر أبلغ من أن يقال مرحا الثالثة قوله تعالى : ) إنك لن تخرق الأرض ( يعني لن تتولج باطنها فتعلم ما فيها ) ولن تبلغ الجبال طولا ( أي لن تساوي الجبال بطولك ولاتطاولك ويقال : خرق الثوب أي شقه وخرق الأرض قطعها والخرق : الواسع من الأرض أي لن تخرق الأرض بكبرك ومشيك عليها ) ولن تبلغ الجبال طولا ( بعظمتك أي بقدرتك لا تبلغ هذا المبلغ بل أنت عبد ذليل محاط بك من تحتك ومن فوقك والمحاط محصور ضعيف فلا يليق بك "صفحة رقم 262" التكبر والمراد بخرق الأرض هنا نقبها لا قطعها بالمسافة والله أعلم وقال الأزهري : معناه لن تقطعها النحاس : وهذا أبين لأنه مأخوذ من الخرق وهي الصحراء الواسعة ويقال : فلان أخرق من فلان أي أكثر سفرا وعزة ومنعة ويروى أن سبأ دوخ الأرض بأجناده شرقا وغربا وسهلا وجبلا وقتل سادة وسبى وبه سمي سبأ ودان له الخلق فلما رأى ذلك انفرد عن أصحابه ثلاثة أيام ثم خرج إليهم فقال : إني لما نلت ما لم ينل أحد رأيت الابتداء بشكر هذه النعم فلم أر أوقع في ذلك من السجود للشمس إذا أشرقت فسجدوا لها وكان ذلك أول عبادة الشمس فهذه عاقبة الخيلاء والتكبر والمرح نعوذ بالله من ذلك الرابعة قوله تعالى : ) كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ( ذلك إشارة إلى جملة ما تقدم ذكره مما أمر به ونهى عنه وذلك يصلح للواحد والجمع والمؤنث والمذكر وقرأ عاصم وبن عامر وحمزة والكسائي ومسروق سيئه على إضافة سيء إلى الضمير ولذلك قال : مكروها نصب على خبر كان والسيء : هو المكروه وهو الذي لا يرضاه الله عز وجل ولا يأمر به وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآي من قوله : وقضى ربك إلى قوله كان سيئه مأمورات بها ومنهيات عنها فلا يخبر عن الجميع بأنه سيئة فيدخل المأمور به في المنهي عنه واختار هذه القراءة أبو عبيد ولأن في قراءة أبي كل ذلك كان سيئاته فهذه لا تكون إلا للإضافة وقرأ بن كثير ونافع وأبو عمرو سيئة بالتنوين أي كل ما نهى الله ورسوله عنه سيئة وعلى هذا انقطع الكلام عند قوله : وأحسن تأويلا ثم قال : ولا تقف ما ليس لك به علم ولاتمش ثم قال : كل ذلك كان سيئة بالتنوين وقيل : إن قوله ولا تقتلوا أولادكم إلى هذه الآية كان سيئة لا حسنة فيه فجعلوا كلا محيطا بالمنهي عنه دون غيره وقوله : مكروها ليس نعتا لسيئة بل هو بدل منه والتقدير : كان سيئة وكان مكروها وقد قيل : إن مكروها خبر ثان لكان حمل على لفظة كل وسيئة محمول على المعنى في جميع هذه الأشياء المذكورة قبل وقال بعضهم : هو نعت لسيئة لأنه لما كان "صفحة رقم 263" تأنيثها غير حقيقي جاز أن توصف بمذكر وضعف أبو علي الفارسي هذا وقال : إن المؤنث إذا ذكر فإنما ينبغي أن يكون ما بعده مذكرا وإنما التساهل أن يتقدم الفعل المسند إلى المؤنث وهو في صيغة ما يسند إلى المذكر ألا ترى قول الشاعر : فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها مستقبح عندهم ولو قال قائل : أبقل أرض لم يكن قبيحا قال أبو علي : ولكن يجوز في قوله مكروها أن يكون بدلا من سيئة ويجوز أن يكون حالا من الضمير الذي في عند ربك ويكون عند ربك في موضع الصفة لسيئة الخامسة استدل العلماء بهذه الآية على ذم الرقص وتعاطيه قال الإمام أبو الوفاء بن عقيل : قد نص القرآن على النهي عن الرقص فقال : ولاتمش في الأرض مرحا وذم المختال والرقص أشد المرح والبطر أو لسنا الذين قسنا النبيذ على الخمر لاتفاقهما في الإطراب والسكر فما بالنا لانقيس القضيب وتلحين الشعر معه على الطنبور والمزمار والطبل لاجتماعهما فما أقبح من ذي لحية وكيف إذا كان شيبة يرقص ويصفق على إيقاع الألحان والقضبان وخصوصا إن كانت أصوات لنسوان ومردان وهل يحسن لمن بين يديه الموت والسؤال والحشر والصراط ثم هو إلى إحدى الدارين يشمس بالرقص شمس البهائم ويصفق تصفيق النسوان ولقد رأيت مشايخ في عمري مابان لهم سن من التبسم فضلا عن الضحك مع إدمان مخالطتي لهم وقال أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله : ولقد حدثني بعض المشايخ عن الإمام الغزالي رضي الله عنه أنه قال : الرقص حماقة بين الكتفين لا تزول إلا باللعب وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في الكهف وغيرها إن شاء الله تعالى "صفحة رقم 264" الإسراء : ) 39 ( ذلك مما أوحى . . . . . ) الاسراء 39 ( الإشارة ب ذلك إلى هذه الآداب والقصص والأحكام التي تضمنتها هذه الآيات المتقدمة التي نزل بها جبريل عليه السلام أي هذه من الأفعال المحكمة التي تقتضيها حكمة الله عز وجل في عباده وخلقها لهم من محاسن الأخلاق والحكمة وقوانين المعاني المحكمة والأفعال الفاضلة ثم عطف قوله ولا تجعل على ما تقدم من النواهي والخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد كل من سمع الآية من البشر والمدحور : المهان المبعد المقصى وقد تقدم في هذه السورة ويقال في الدعاء : اللهم ادحر عنا الشيطان أي أبعده الإسراء : ) 40 ( أفأصفاكم ربكم بالبنين . . . . . ) الاسراء 40 ( هذا يرد على من قال من العرب : الملائكة بنات الله وكان لهم بنات أيضا مع البنين ولكنه أراد : أفأخلص لكم البنين دونه وجعل البنات مشتركة بينكم وبينه ) إنكم لتقولون قولا عظيما ( أي في الإثم عند الله عز وجل الإسراء : ) 41 ( ولقد صرفنا في . . . . . ) الاسراء 41 ( قوله تعالى : ) ولقد صرفنا ( أي بينا وقيل كررنا ) في هذا القرآن ( قيل في زائدة والتقدير : ولقد صرفنا هذا القرآن مثل وأصلح لي في ذريتي أي أصلح ذريتي والتصريف : صرف الشيء من جهة إلى جهة والمراد بهذا التصريف البيان والتكرير وقيل : المغايرة أي غايرنا بين المواعظ ليذكروا ويعتبروا ويتعظوا وقراءة العامة صرفنا "صفحة رقم 265" بالتشديد على التكثير حيث وقع وقرأ الحسن بالتخفيف وقوله في هذا القرآن يعني الأمثال والعبر والحكم والمواعظ والأحكام والإعلام قال الثعلبي : سمعت أبا القاسم الحسين يقول بحضرة الإمام الشيخ أبي الطيب : لقوله تعالى صرفنا معنيان أحدهما لم يجعله نوعا واحدا بل وعدا ووعيدا ومحكما ومتشابها ونهيا وأمرا وناسخا ومنسوخا وأخبارا وأمثالا مثل تصريف الرياح من صبا ودبور وجنوب وشمال وتصريف الأفعال من الماضي والمستقبل والأمر والنهي والفعل والفاعل والمفعول ونحوها والثاني أنه لم ينزل مرة واحدة بل نجوما نحو قوله وقرآنا فرقناه ومعناه : أكثرنا صرف جبريل عليه السلام إليك ) ليذكروا ( قراءة يحيى والأعمش وحمزة والكسائي ليذكروا مخففا وكذلك في الفرقان ولقد صرفناه بينهم ليذكروا الباقون بالتشديد واختاره أبو عبيد لأن معناه ليتذكروا وليتعظوا قال المهدوي : من شدد ليذكروا أراد التدبر وكذلك من قرأ ليذكروا ونظير الأول ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون والثاني واذكروا ما فيه ) وما يزيدهم ( أي التصريف والتذكير ) إلا نفورا ( أي تباعدا عن الحق وغفلة عن النظر والاعتبار وذلك لأنهم اعتقدوا في القرآن أنه حيلة وسحر وكهانة وشعر الإسراء : ) 42 ( قل لو كان . . . . . ) الاسراء 42 : 43 ( قوله تعالى : ) قل لو كان معه آلهة ( هذا متصل بقوله تعالى : ولا تجعل مع الله إلها آخر وهو رد على عباد الأصنام ) كما يقولون ( قرأ بن كثير وحفص يقولون بالياء الباقون تقولون بالتاء على الخطاب ) إذا لا بتغوا ( يعني الآلهة ) إلى ذي العرش سبيلا ( قال بن العباس رضي الله تعالى عنهما : لطلبوا مع الله منازعة وقتالا كما تفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض وقال سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه : المعنى إذا لطلبوا ![]()
__________________
|
#436
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (10) سُورَةُ الإسراء من صــ 266 الى صــ 275 الحلقة (436) "صفحة رقم 266" طريقا إلى الوصول إليه ليزيلوا ملكه لأنهم شركاؤه وقال قتادة : المعنى إذا لابتغت الآلهة القربة إلى ذي العرش سبيلا والتمست الزلفة عنده لأنهم دونه والقوم اعتقدوا أن الأصنام تقربهم إلى الله زلفى فإذا اعتقدوا في الأصنام أنها محتاجة إلى الله سبحانه وتعالى فقد بطل أنها آلهة ) سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ( نزه سبحانه نفسه وقدسه ومجده عما لا يليق به والتسبيح : التنزيه وقد تقدم الإسراء : ) 44 ( تسبح له السماوات . . . . . ) الاسراء 44 ( قوله تعالى : ) تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن ( أعاد على السماوات والأرض ضمير من يعقل لما أسند إليها فعل العاقل وهو التسبيح وقوله : ) ومن فيهن ( يريد الملائكة والإنس والجن ثم عم بعد ذلك الأشياء كلها في قوله : وإن من شيء إلا يسبح بحمده واختلف في هذا العموم هل هو مخصص أم لا فقالت فرقة : ليس مخصوصا والمراد به تسبيح الدلالة وكل محدث يشهد على نفسه بأن الله عز وجل خالق قادر وقالت طائفة : هذا التسبيح حقيقة وكل شيء على العموم يسبح تسبيحا لا يسمعه البشر ولا يفقهه ولو كان ما قاله الأولون من أنه أثر الصنعة والدلالة لكان أمرا مفهوما والآية تنطق بأن هذا التسبيح لا يفقه وأجيبوا بأن المراد بقوله : لا تفقهون الكفار الذين يعرضون عن الاعتبار فلا يفقهون حكمة الله سبحانه وتعالى في الأشياء وقالت فرقة : قوله من شيء عموم ومعناه الخصوص في كل حي ونام وليس ذلك في الجمادات ومن هذا قول عكرمة : الشجرة تسبح والأسطوان لا يسبح وقال يزيد الرقاشي للحسن وهما في طعام وقد قدم الخوان : أيسبح هذا الخوان يا أبا سعيد فقال : قد كان يسبح مرة يريد أن الشجرة في زمن ثمرها واعتدالها كانت تسبح وأما الآن فقد صار خوانا مدهونا "صفحة رقم 267" قلت : ويستدل لهذا القول من السنة بما ثبت عن بن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مر على قبرين فقال : ) إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستبرئ من البول ) قال : فدعا بعسيب رطب فشقه اثنين ثم غرس على هذا واحدا وعلى هذا واحدا ثم قال : ) لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا ) فقوله عليه الصلاة والسلام ) ما لم ييبسا ) إشارة إلى أنهما ما داما رطبين يسبحان فإذا يبسا صارا جمادا والله أعلم وفي مسند أبي داود الطيالسي : فوضع على احدهما نصفا وعلى الآخر نصفا وقال : ) لعله أن يهون عليهما العذاب ما دام فيهما من بلولتهما شيء ) قال علماؤنا : ويستفاد من هذا غرس الأشجار وقراءة القرآن على القبور وإذا خفف عنهم بالأشجار فكيف بقراءة الرجل المؤمن القرآن وقد بينا هذا المعنى في [ كتاب التذكرة ] بيانا شافيا وأنه يصل إلى الميت ثواب ما يهدى إليه والحمد لله على ذلك وعلى التأويل الثاني لا يحتاج إلى ذلك فإن كل شيء من الجماد وغيره يسبح قلت : ويستدل لهذا التأويل وهذا القول من الكتاب بقوله سبحانه وتعالى : واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق ص وقوله : وإن منها لما يهبط من خشية الله على قول مجاهد وقوله : وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وذكر بن المبارك في [ دقائقه ] أخبرنا مسعر عن عبد الله بن واصل عن عوف بن عبد الله قال قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : إن الجبل يقول للجبل : يا فلان هل مر بك اليوم ذاكر لله عز وجل فإن قال نعم سر به ثم قرأ عبد الله وقالوا اتخذ الرحمن ولدا الآية قال : أفتراهن يسمعن الزور ولا يسمعن الخير وفيه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : ما من صباح ولا رواح إلا تنادي بقاع الأرض بعضها بعضا : يا جاراه هل مر بك اليوم عبد فصلى لله أو ذكر الله عليك فمن قائلة لا ومن قائلة نعم فإذا قالت نعم رأت لها بذلك فضلا عليها وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا "صفحة رقم 268" يسمع صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شجر ولا حجر ولا مدر ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة ) رواه بن ماجة في سننه ومالك في موطئه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وخرج البخاري عن عبد الله رضي الله عنه قال : لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل في غير هذه الرواية عن بن مسعود رضي الله تعالى عنه : كنا نأكل مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الطعام ونحن نسمع تسبيحه وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن ) قيل : إنه الحجر الأسود والله أعلم والأخبار في هذا المعنى كثيرة وقد أتينا على جملة منها في اللمع اللؤلؤية في شرح العشرنيات النبوية للفاداري رحمه الله وخبر الجذع أيضا مشهور في هذا الباب خرجه البخاري في مواضع من كتابه وإذا ثبت ذلك في جماد واحد جاز في جميع الجمادات ولا استحالة في شيء من ذلك فكل شيء يسبح للعموم وكذا قال النخعي وغيره : هو عام فيما فيه روح وفيما لا روح فيه حتى صرير الباب واحتجوا بالأخبار التي ذكرنا وقيل : تسبيح الجمادات أنها تدعو الناظر إليها إلى أن يقول : سبحان الله لعدم الإدراك منها وقال الشاعر : تلقى بتسبيحة من حيث ما انصرفت وتستقر حشا الرائي بترعاد أي يقول من رآها : سبحان خالقها فالصحيح أن الكل يسبح للأخبار الدالة على ذلك ولو كان ذلك التسبيح تسبيح دلالة فأي تخصيص لداود وإنما ذلك تسبيح المقال بخلق الحياة والإنطاق بالتسبيح كما ذكرنا وقد نصت السنة على ما دل عليه ظاهر القرآن من تسبيح كل شيء فالقول به أولى والله أعلم وقرأ الحسن وأبو عمرو ويعقوب وحفص وحمزة والكسائي وخلف تفقهون بالتاء لتأنيث الفاعل الباقون بالياء واختاره أبو عبيد قال : للحائل بين الفعل والتأنيث ) إنه كان حليما ( عن ذنوب عباده في الدنيا ) غفورا ( للمؤمنين في الآخرة "صفحة رقم 269" الإسراء : ) 45 ( وإذا قرأت القرآن . . . . . ) الاسراء 45 ( عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت : لما نزلت سورة تبت يدا أبي لهب أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول : مذمما عصينا وأمره أبينا ودينه قلينا والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) قاعد في المسجد ومعه أبو بكر رضي الله عنه فلما رآها أبو بكر قال : يا رسول الله لقد أقبلت وأنا اخاف أن تراك قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) إنها لن تراني ) وقرأ قرآنا فاعتصم به كما قال وقرأ وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا فوقفت على أبي بكر رضي الله عنه ولم تر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت : يا أبا بكر أخبرت أن صاحبك هجاني فقال : لا ورب هذا البيت ما هجاك قال : فولت وهي تقول : قد علمت قريش أني ابنة سيدها وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه : لما نزلت تبت يدا أبي لهب وتب المسد جاءت امرأة أبي لهب إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومعه أبو بكر رضي الله عنه فقال أبو بكر : لو تنحيت عنها لئلا تسمعك ما يؤذيك فإنها امرأة بذية فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ) إنه سيحال بيني وبينها ) فلم تره فقالت لأبي بكر : يا أبا بكر هجانا صاحبك فقال : والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله فقالت : وإنك لمصدقه فاندفعت راجعة فقال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله أما رأتك قال : ) لا ما زال ملك بيني وبينها يسترني حتى ذهبت ) وقال كعب رضي الله عنه في هذه الآية : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يستتر من المشركين بثلاث آيات : الآية التي في الكهف إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا والآية التي في النحل "صفحة رقم 270" أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم والآية التي في الجاثية أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة الجاثية الآية فكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا قرأهن يستتر من المشركين قال كعب رضي الله تعالى عنه : فحدثت بهن رجلا من أهل الشام فأتى أرض الروم فأقام بها زمانا ثم خرج هاربا فخرجوا في طلبه فقرأ بهن فصاروا يكونون معه على طريقه ولا يبصرونه قال الثعلبي : وهذا الذي يروونه عن كعب حدثت به رجلا من أهل الري فأسر بالديلم فمكث زمانا ثم خرج هاربا فخرجوا في طلبه فقرأ بهن حتى جعلت ثيابهن لتلمس ثيابه فما يبصرونه قلت : ويزاد إلى هذه الآي أول سورة يس إلى قوله فهم لا يبصرون فإن في السيرة في هجرة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومقام علي رضي الله عنه في فراشه قال : وخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأخذ حفنة من تراب في يده وأخذ الله عز وجل على أبصارهم عنه فلا يرونه فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات من يس : يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم إلى قوله وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فاغشيناهم فهم لا يبصرون حتى فرغ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من هذه الآيات ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابا ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب قلت : ولقد اتفق لي ببلادنا الأندلس بحصن منثور من أعمال قرطبة مثل هذا وذلك أني هربت أمام العدو وانحزت إلى ناحية عنه فلم ألبث أن خرج في طلبي فارسان وأنا في فضاء من الأرض قاعد ليس يسترني عنهما شيء وأنا أقرأ أول سورة يس وغير ذلك من القرآن فعبرا علي ثم رجعا من حيث جاءا وأحدهما يقول للآخر : هذا ديبله يعنون شيطانا وأعمى الله عز وجل أبصارهم فلم يروني والحمد لله حمدا كثيرا على ذلك وقيل : الحجاب "صفحة رقم 271" المستور طبع الله على قلوبهم حتى لا يفقهوه ولا يدركوا ما فيه من الحكمة قاله قتادة وقال الحسن : أي أنهم لإعراضهم عن قراءتك وتغافلهم عنك كمن بينك وبينه حجاب في عدم رؤيته لك حتى كأن على قلوبهم أغطية وقيل : نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا قرأ القرآن وهم أبو جهل وأبو سفيان والنضر بن الحارث وأم جميل امرأة أبي لهب وحويطب فحجب الله سبحانه وتعالى رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) عن أبصارهم عند قراءة القرآن وكانوا يمرون به ولا يرونه قاله الزجاج وغيره وهو معنى القول الأول بعينه وهو الأظهر في الآية والله أعلم وقوله : ) مستورا ( فيه قولان : أحدهما أن الحجاب مستور عنكم لا ترونه والثاني أن الحجاب ساتر عنكم ما وراءه ويكون مستورا بمعنى ساتر الإسراء : ) 46 ( وجعلنا على قلوبهم . . . . . ) الاسراء 46 ( قوله تعالى : ) وجعلنا على قلوبهم أكنة ( أكنة جمع كنان وهو ما ستر الشيء وقد تقدم في الأنعام ) أن يفقهوه ( أي لئلا يفقهوه أو كراهية أن يفقهوه أي أن يفهموا ما فيه من الأوامر والنواهي والحكم والمعاني وهذا رد على القدرية ) وفي آذانهم وقرا ( أي صمما وثقلا وفي الكلام إضمار أي أن يسمعوه ) وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ( أي قلت : لا إله إلا الله وأنت تتلو القرآن وقال أبو الجوزاء أوس بن عبد الله : ليس شيء أطرد للشيطان من القلب من قول لا إله إلا الله ثم تلا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على ادبارهم نفورا وقال علي بن الحسين : هو قوله بسم الله الرحمن الرحيم وقد تقدم هذا في البسملة ) ولوا على ادبارهم نفورا ( قيل : يعني بذلك المشركين وقيل الشياطينو نفورا جمع نافر مثل شهود جمع شاهد وقعود جمع قاعد فهو منصوب على الحال ويجوز أن يكون مصدرا على غير الصدر إذ كان قوله ولوا بمعنى نفروا فيكون معناه نفروا نفورا "صفحة رقم 272" الإسراء : ) 47 ( نحن أعلم بما . . . . . ) الاسراء 47 ( قوله تعالى : ) نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك ( قيل : الباء زائدة في قوله به أي يستمعونه وكانوا يستمعون من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) القرآن ثم ينفرون فيقولون : هو ساحر ومسحور كما أخبر الله تعالى به عنهم قاله قتادة وغيره ) وإذ هم نجوى ( أي متناجون في أمرك قال قتادة : وكانت نجواهم قولهم إنه مجنون وإنه ساحر وإنه يأتي بأساطير الأولين وغير ذلك وقيل : نزلت حين دعا عتبة أشراف قريش إلى طعام صنعه لهم فدخل عليهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله فتناجوا يقولون ساحر ومجنون وقيل : أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عليا أن يتخذ طعاما ويدعو إليه أشراف قريش من المشركين ففعل ذلك علي ودخل عليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى التوحيد وقال : ) قولوا لا إله إلا الله لتطيعكم العرب وتدين لكم العجم ) فأبوا وكانوا يستمعون من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويقولون بينهم متناجين : هو ساحر وهو مسحور فنزلت الآية وقال الزجاج : النجوي اسم للمصدر أي وإذ هم ذو نجوى أي سرار ) إذ يقول الظالمون ( أبو جهل والوليد بن المغيرة وأمثالهما ) إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ( أي مطبوبا قد خبله السحر فاختلط عليه أمره يقولون ذلك لينفروا عنه الناس وقال مجاهد : مسحورا أي مخدوعا مثل قوله : فأنى تسحرون أي من أين تخدعون وقال أبو عبيدة : مسحورا معناه أن له سحرا أي رئة فهو لا يستغني عن الطعام والشراب فهو مثلكم وليس بملك وتقول العرب للجبان : قد انتفخ سحره ولكل من أكل من آدمي وغيره أو شرب مسحور ومسحر قال لبيد : فإن تسألينا فيم نحن فإننا عصافير من هذا الأنام المسحر "صفحة رقم 273" وقال امرؤ القيس : أرانا موضعين لأمر غيب ونسحر بالطعام وبالشراب أي نغذى ونعلل وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : من هذه التي تساميني من أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقد توفي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بين سحري ونحري الإسراء : ) 48 ( انظر كيف ضربوا . . . . . ) الاسراء 48 ( قوله تعالى : ) انظر كيف ضربوا لك الأمثال ( عجبه من صنعهم كيف يقولون تارة ساحر وتارة مجنون وتارة شاعر ) فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ( أي حيلة في صد الناس عنك وقيل : ضلوا عن الحق فلا يجدون سبيلا أي إلى الهدى وقيل : مخرجا لتناقض كلامهم في قولهم : مجنون ساحر شاعر الإسراء : ) 49 ( وقالوا أئذا كنا . . . . . ) الاسراء 49 ( قوله تعالى : ) وقالوا ائذا كنا عظاما ورفاتا ( أي قالوا وهم يتناجون لما سمعوا القرآن وسمعوا أمر البعث : لو لم يكن مسحورا مخدوعا لما قال هذا قال بن عباس : الرفات الغبار مجاهد : التراب والرفات ما تكسر وبلى من كل شيء كالفتات والحطام والرضاض عن أبي عبيدة والكسائي والفراء والأخفش تقول منه : رفت الشيء رفتا أي حطم فهو مرفوت ) أئنا لمبعوثون خلقا جديدا ( أئنا استفهام والمراد به الجحد والإنكار وخلقا نصب لأنه مصدر أي بعثا جديدا وكان هذا غاية الإنكار منهم "صفحة رقم 274" الإسراء : ) 50 ( قل كونوا حجارة . . . . . ) الاسراء 50 : 51 ( قوله تعالى : ) قل كونوا حجارة أو حديدا ( أي قل لهم يا محمد كونوا على جهة التعجيز حجارة أو حديدا في الشدة والقوة قال الطبري : أي إن عجبتم من إنشاء الله لكم عظاما ولحما فكونوا أنتم حجارة أو حديدا إن قدرتم وقال علي بن عيسى : معناه أنكم لو كنتم حجارة أو حديدا لم تفوتوا الله عز وجل إذا أرادكم إلا أنه خرج مخرج الأمر لأنه أبلغ في الإلزام وقيل : معناه لو كنتم حجارة أو حديدا لأعادكم كما بدأكم ولأماتكم ثم أحياكم وقال مجاهد : المعنى كونوا ما شئتم فستعادون النحاس : وهذا قول حسن لأنهم لا يستطيعون أن يكونوا حجارة وإنما المعنى أنهم قد أقروا بخالقهم وأنكروا البعث فقيل لهم استشعروا أن تكونوا ما شئتم فلو كنتم حجارة أو حديدا لبعثتم كما خلقتم أول مرة ) أو خلقا مما يكبر في صدوركم ( قال مجاهد : يعني السماوات والأرض والجبال لعظمها في النفوس وهو معنى قول قتادة يقول : كونوا ما شئتم فإن الله يميتكم ثم يبعثكم وقال بن عباس وبن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وبن جبير ومجاهد أيضا وعكرمة وأبو صالح والضحاك : يعني الموت لأنه ليس شيء أكبر في نفس بن آدم منه قال أمية بن أبي الصلت : وللموت خلق في النفوس فظيع يقول إنكم لو خلقتم من حجارة أو حديد أو كنتم الموت لأميتنكم ولأبعثنكم لأن القدرة التي بها أنشأتكم بها نعيدكم وهو معنى قوله : ) فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة ( وفي الحديث أنه ) يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح بين الجنة والنار ) وقيل : أراد به البعث لأنه كان أكبر في صدورهم قاله الكلبي ) فطركم ( خلقكم وأنشأكم ) فسينغضون إليك رؤوسهم ( أي يحركون رؤوسهم استهزاء يقال "صفحة رقم 275" نغض رأسه ينغض وينغض نغضا ونغوضا أي تحرك وأنغض رأسه أي حركه كالمتعجب من الشيء ومنه قوله تعالى : فسينغضون إليك رؤوسهم قال الراجز : أنغض نحوي رأسه وأقنعا ويقال أيضا : نغض فلان رأسه أي حركه يتعدى ولا يتعدى حكاه الأخفش ويقال : نغضت سنه أي تحركت وانقلعت قال الراجز : ونغضت من هرم أسنانها وقال آخر : لما رأتني أنغضت لي الرأسا وقال آخر : لا ماء في المقراة إن لم تنهض بمسد فوق المحال النغض المحال والمحالة : البكرة العظيمة التي يستقى بها الإبل ) ويقولون متى هو ( أي البعث والإعادة وهذا الوقت ) قل عسى أن يكون قريبا ( أي هو قريب لأن عسى واجب نظيره وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا ولعل الساعة قريب وكل ما هو آت فهو قريب الإسراء : ) 52 ( يوم يدعوكم فتستجيبون . . . . . ) الاسراء 52 ( قوله تعالى : ) يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده ( الدعاء : النداء إلى المحشر بكلام تسمعه الخلائق يدعوهم الله تعالى فيه بالخروج وقيل : بالصيحة التي يسمعونها فتكون داعية لهم إلى الاجتماع في أرض القيامة قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ) إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم ) فتستجيبو بحمده ( أي باستحقاقه الحمد على الإحياء ![]()
__________________
|
#437
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (10) سُورَةُ الإسراء من صــ 276 الى صــ 285 الحلقة (437) "صفحة رقم 276" وقال أبو سهل : أي والحمد لله كما قال : فإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست ولا من غدرة أتقنع وقيل : حامدين لله تعالى بألسنتكم قال سعيد بن جبير : تخرج الكفار من قبورهم وهم يقولون سبحانك وبحمدك ولكن لا ينفعهم اعتراف ذلك اليوم وقال بن عباس : بحمده بأمره أي تقرون بأنه خالقكم وقال قتادة : بمعرفته وطاعته وقيل : المعنى بقدرته وقيل : بدعائه إياكم قال علماؤنا : وهو الصحيح فإن النفخ في الصور إنما هو سبب لخروج أهل القبور وبالحقيقة إنما هو خروج الخلق بدعوة الحق قال الله تعالى : يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده فيقومون يقولون سبحانك اللهم وبحمدك قال : فيوم القيامة يوم يبدأ بالحمد ويختم به قال الله تعالى يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وقال في آخره وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين ) وتظنون إن لبثتم إلا قليلا ( يعني بين النفختين وذلك أن العذاب يكف عن المعذبين بين النفختين وذلك أربعون عاما فينامون فذلك قوله تعالى : من بعثنا من مرقدنا فيكون خاصا للكفار وقال مجاهد : للكافرين هجعة قبل يوم القيامة يجدون فيها طعم النوم فإذا صيح بأهل القبور قاموا مذعورين وقال قتادة : المعنى أن الدنيا تحاقرت في أعينهم وقلت حين رأوا يوم القيامة الحسن : وتظنون إن لبثتم إلا قليلا في الدنيا لطول لبثكم في الآخرة الإسراء : ) 53 ( وقل لعبادي يقولوا . . . . . ) الاسراء 53 ( قوله تعالى : ) وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن ( تقدم إعرابه والآية نزلت في عمر بن الخطاب وذلك أن رجلا من العرب شتمه وسبه عمر وهم بقتله فكادت تثير فتنة فأنزل الله تعالى فيه : وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن ذكره الثعلبي والماوردي "صفحة رقم 277" وبن عطية والواحدي وقيل : نزلت لما قال المسلمون : ايذن لنا يا رسول الله في قتالهم فقد طال إيذاؤهم إيانا فقال : ) لم أومر بعد بالقتال ) فأنزل الله تعالى وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن قاله الكلبي وقيل : المعنى قل لعبادي الذين اعترفوا بأني خالقهم وهم يعبدون الأصنام يقولوا التي هي أحسن من كلمة التوحيد والإقرار بالنبوة وقيل : المعنى وقل لعبادي المؤمنين إذا جادلوا الكفار في التوحيد أن يقولوا الكلمة التي هي أحسن كما قال : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم وقال الحسن : هو أن يقول للكافر إذا تشطط : هداك الله يرحمك الله وهذا قبل أن امروا بالجهاد وقيل : المعنى قل لهم يأمروا بما أمر الله به وينهوا عما نهى الله عنه وعلى هذا تكون الآية عامة في المؤمن والكافر أي قل للجميع والله أعلم وقالت طائفة : أمر الله تعالى في هذه الآية المؤمنين فيما بينهم خاصة بحسن الأدب وإلانة القول وخفض الجناح واطراح نزغات الشيطان وقد قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ) وكونوا عباد الله إخوانا ) وهذا أحسن وتكون الآية محكمة قوله تعالى : ) إن الشيطان ينزغ بينهم ( أي بالفساد وإلقاء العداوة والإغواء وقد تقدم في آخر الأعراف ويوسف يقال : نزغ بيننا أي أفسد قاله اليزيدي وقال غيره : النزغ الإغراء ) إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا ( أي شديد العداوة وقد تقدم في البقرة وفي الخبر ) أن قوما جلسوا يذكرون الله عز وجل فجاء الشيطان ليقطع مجلسهم فمنعته الملائكة فجاء إلى قوم جلسوا قريبا منهم لا يذكرون الله فحرش بينهم فتخاصموا وتواثبوا فقال هؤلاء الذاكرون قوموا بنا نصلح بين إخواننا فقاموا وقطعوا مجلسهم وفرح بذلك الشيطان ) فهذا من بعض عداوته "صفحة رقم 278" الإسراء : ) 54 ( ربكم أعلم بكم . . . . . ) الاسراء 54 ( قوله تعالى : ) ربكم أعلم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم ( هذا خطاب للمشركين والمعنى : إن يشأ يوفقكم للإسلام فيرحمكم أو يميتكم على الشرك فيعذبكم قاله بن جريج وأعلم بمعنى عليم نحو قولهم : الله أكبر بمعنى كبير وقيل : الخطاب للمؤمنين أي إن يشأ يرحمكم بأن يحفظكم من كفار مكة أو إن يشأ يعذبكم بتسليطهم عليكم قاله الكلبي ) وما أرسلناك عليهم وكيلا ( أي وما وكلناك في منعهم من الكفر ولا جعلنا إليك إيمانهم وقيل : ما جعلناك كفيلا لهم تؤخذ بهم قاله الكلبي وقال الشاعر : ذكرت أبا أروى فبت كأنني برد الأمور الماضيات وكيل أي كفيل الإسراء : ) 55 ( وربك أعلم بمن . . . . . ) الاسراء 55 ( قوله تعالى : ) وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض ( أعاد بعد أن قال : ربكم أعلم بكم ليبين أنه خالقهم وأنه جعلهم مختلفين في أخلاقهم وصورهم وأحوالهم ومالهم ألا يعلم من خلق وكذا النبيون فضل بعضهم على بعض عن علم منه بحالهم وقد مضى القول في هذا في البقرة ) وآتينا داود زبورا ( الزبور : كتاب ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود وإنما هو دعاء وتحميد وتمجيد أي كما آتينا داود الزبور فلا تنكروا أن يؤتى محمد القرآن وهو في محاجة اليهود الإسراء : ) 56 ( قل ادعوا الذين . . . . . ) الاسراء 56 ( "صفحة رقم 279" قوله تعالى : ) قل ادعوا الذين زعمتم من دونه ( لما ابتليت قريش بالقحط وشكوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنزل الله هذه الآية أي ادعوا الذين تعبدون من دون الله وزعمتم أنهم آلهة وقال الحسن : يعني الملائكة وعيسى وعزيرا بن مسعود : يعني الجن ) فلا يملكون كشف الضر عنكم ( أي القحط سبع سنين على قول مقاتل ) ولا تحويلا ( من الفقر إلى الغنى ومن السقم إلى الصحة الإسراء : ) 57 ( أولئك الذين يدعون . . . . . ) الاسراء 57 ( قوله تعالى : ) أولئك الذين يدعون ( أولئك مبتدأ الذين صفة أولئك وضمير الصلة محذوف أي يدعونهم يعني أولئك المدعوون و ) يبتغون ( خبرأو يكون حالا والذين يدعون خبر أي يدعون إليه عبادا إلى عبادته وقرأ بن مسعود تدعون بالتاء على الخطاب الباقون بالياء على الخبر ولا خلاف في يبتغون أنه بالياء وفي صحيح مسلم من كتاب التفسير عن عبد الله بن مسعود في قوله عز وجل : أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة قال : نفر من الجن أسلموا وكانوا يعبدون فبقي الذين كانوا يعبدون على عبادتهم وقد أسلم النفر من الجن في رواية قال : نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن فأسلم الجنيون والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون فنزلت أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة وعنه أيضا أنهم الملائكة كانت تعبدهم قبائل من العرب ذكره الماوردي وقال بن عباس ومجاهد : عزير وعيسى ويبتغون يطلبون من الله الزلفة والقربة ويتضرعون إلى الله تعالى في طلب الجنة وهي الوسيلة أعلمهم الله تعالى أن المعبودين يبتغون القربة إلى ربهم والهاء والميم في ربهم تعود على العابدين أو على المعبودين أو عليهم جميعا وأما يدعون فعلى العابدين ويبتغون على المعبودين ) أيهم أقرب ( ابتداء وخبر ويجوز أن يكون أيهم أقرب "صفحة رقم 280" بدلا من الضمير في يبتغون والمعنى يبتغي أيهم أقرب الوسيلة إلى الله ) ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا ( أي مخوفا لا أمان لأحد منه فينبغي أن يحذر منه ويخاف وقال سهل بن عبد الله : الرجاء والخوف زمانان على الإنسان فإذا استويا استقامت أحواله وإن رجح أحدهما بطل الآخر الإسراء : ) 58 ( وإن من قرية . . . . . ) الاسراء 58 ( قوله تعالى : ) وإن من قرية إلا نحن مهلكوها ( أي مخربوها ) قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا ( قال مقاتل : أما الصالحة فبالموت وأما الطالحة فبالعذاب وقال بن مسعود : إذا ظهر الزنى والربا في قرية أذن الله في هلاكهم فقيل : المعنى وإن من قرية ظالمة يقوي ذلك قوله : وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون أي فليتق المشركون فإنه ما من قرية كافرة إلا سيحل بها العذاب ) كان ذلك في الكتاب ( أي في اللوح ) مسطورا ( أي مكتوبا والسطر : الخط والكتابة وهو في الأصل مصدر والسطر بالتحريك مثله قال جرير : من شاء بايعته مالي وخلعته ما تكمل التيم في ديوانهم سطرا الخلعة [ بضم الخاء ] : خيار المال والسطر جمع أسطار مثل سبب وأسباب ثم يجمع على أساطير وجمع السطر أسطر وسطور مثل أفلس وفلوس والكتاب هنا يراد به اللوح المحفوظ الإسراء : ) 59 ( وما منعنا أن . . . . . ) الاسراء 59 ( "صفحة رقم 281" قوله تعالى : ) وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ( في الكلام حذف والتقدير : وما منعنا أن نرسل بالآيات التي اقترحوها إلا أن يكذبوا بها فيهلكوا كما فعل بمن كان قبلهم قال معناه قتادة وبن جريج وغيرهما فأخر الله تعالى العذاب عن كفار قريش لعلمه أن فيهم من يؤمن وفيهم من يولد مؤمنا وقد تقدم في الأنعام وغيرها أنهم طلبوا أن يحول الله لهم الصفا ذهبا وتتنحى الجبال عنهم فنزل جبريل وقال : ) إن شئت كان ما سأل قومك ولكنهم إن لم يؤمنوا لم يمهلوا وإن شئت استأنيت بهم ) فقال : ) لا بل استأن بهم ) وأن الأولى في محل نصب بوقوع المنع عليهم وأن الثانية في محل رفع والباء في بالآيات زائدة ومجاز الكلام : وما منعنا إرسال الآيات إلا تكذيب الأولين والله تعالى لا يكون ممنوعا عن شيء فالمعنى المبالغة في أنه لا يفعل فكأنه قد منع عنهثم بين ما فعل بمن سأل الآيات فلم يؤمن بها فقال : ) وآتينا ثمود الناقة مبصرة ( أي آية دالة مضيئة نيرة على صدق صالح وعلى قدرة الله تعالى وقد تقدم ذلك ( أي ظلموا بتكذيبها وقيل : جحدوا بها وكفروا أنها من عند الله فاستأصلهم الله بالعذاب ) وما نرسل بالآيات إلا تخويفا ( فيه خمسة أقوال : الأول العبر والمعجزات التي جعلها الله على أيدي الرسل من دلائل الإنذار تخويفا للمكذبين الثاني أنها آيات الانتقام تخويفا من المعاصي الثالث أنها تقلب الأحوال من صغر إلى شباب ثم إلى تكهل ثم إلى مشيب لتعتبر بتقلب أحوالك فتخاف عاقبة أمرك وهذا قول أحمد بن حنبل رضي الله عنه الرابع القرآن الخامس الموت الذريع قاله الحسن الإسراء : ) 60 ( وإذ قلنا لك . . . . . ) الاسراء 60 ( "صفحة رقم 282" قوله تعالى : ) وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس ( قال بن عباس : الناس هنا أهل مكة وإحاطته بهم إهلاكه إياهم أي أن الله سيهلكهم وذكره بلفظ الماضي لتحقق كونه وعنى بهذا الإهلاك الموعود ما جرى يوم بدر ويوم الفتح وقيل : معنى أحاط بالناس أي أحاطت قدرته بهم فهم في قبضته لا يقدرون على الخروج من مشيئته قاله مجاهد وبن أبي نجيح وقال الكلبي : المعنى أحاط علمه بالناس وقيل : المراد عصمته من الناس أن يقتلوه حتى يبلغ رسالة ربه أي وما أرسلناك عليهم حفيظا بل عليك التبليغ فبلغ بجدك فإنا نعصمك منهم ونحفظك فلا تهبهم وامض لما آمرك به من تبليغ الرسالة فقدرتنا محيطة بالكل قال معناه الحسن وعروة وقتادة وغيرهم قوله تعالى : ) وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ( لما بين أن إنزال آيات القرآن تتضمن التخويف ضم إليه ذكر آية الإسراء وهي المذكورة في صدر السورة وفي البخاري والترمذي عن بن عباس في قوله تعالى : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس قال : هي رؤيا عين أريها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة أسري به إلى بيت المقدس قال : والشجرة الملعونة في القرآن هي شجرة الزقوم قال أبو عيسى الترمذي : هذا حديث صحيح وبقول بن عباس قالت عائشة ومعاوية والحسن ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير والضحاك وبن أبي نجيح وبن زيد وكانت الفتنة ارتداد قوم كانوا أسلموا حين أخبرهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه أسري به وقيل : كانت رؤيا نوم وهذه الآية تقضي بفساده وذلك أن رؤيا المنام لا فتنة فيها وما كان أحد لينكرها وعن بن عباس قال : الرؤيا التي في هذه الآية هي رؤيا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه يدخل مكة في سنة الحديبية فرد فافتتن المسلمون لذلك فنزلت الآية فلما كان العام المقبل دخلها وأنزل الله تعالى لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق الفتح وفي هذا التأويل ضعف لأن السورة مكية وتلك الرؤيا كانت بالمدينة وقال في رواية ثالثة : إنه عليه السلام رأى في المنام بني مروان ينزون "صفحة رقم 283" على منبره نزو القردة فساءه ذلك فقيل : إنما هي الدنيا أعطوها فسري عنه وما كان له بمكة منبر ولكنه يجوز أن يرى بمكة رؤيا المنبر بالمدينة وهذا التأويل الثالث قاله أيضا سهل بن سعد رضي الله عنه قال سهل : إنما هذه الرؤيا هي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يرى بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فاغتم لذلك وما استجمع ضاحكا من يومئذ حتى مات ( صلى الله عليه وسلم ) فنزلت الآية مخبرة أن ذلك من تملكهم وصعودهم يجعلها الله فتنة للناس وامتحانا وقرأ الحسن بن علي في خطبته في شأن بيعته لمعاوية : وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين قال بن عطية : وفي هذا التأويل نظر ولا يدخل في هذه الرؤيا عثمان ولا عمر بن عبد العزيز ولا معاوية قوله تعالى : ) والشجرة الملعونة في القرآن ( فيه تقديم وتأخير أي ما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس وفتنتها أنهم لما خوفوا بها قال أبو جهل استهزاء : هذا محمد يتوعدكم بنار تحرق الحجارة ثم يزعم أنها تنبت الشجر والنار تأكل الشجر وما نعرف الزقوم إلا التمر والزبد ثم أمر أبو جهل جارية فأحضرت تمرا وزبدا وقال لأصحابه : تزقموا وقد قيل : إن القائل ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد بن الزبعري حيث قال : كثر الله من الزقوم في داركم فإنه التمر بالزبد بلغة اليمن وجائز أن يقول كلاهما ذلك فافتتن أيضا لهذه المقالة بعض الضعفاء فأخبر الله تعالى نبيه عليه السلام أنه إنما جعل الإسراء وذكر شجرة الزقوم فتنة واختبارا ليكفر من سبق عليه الكفر ويصدق من سبق له الإيمان كما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قيل له صبيحة الإسراء : إن صاحبك يزعم أنه جاء البارحة من بيت المقدس فقال : إن كان قال ذلك فلقد صدق فقيل له : أتصدقه قبل أن تسمع منه فقال : أين عقولكم أنا أصدقه بخبر السماء فكيف لا أصدقه بخبر بيت المقدس والسماء أبعد منها بكثير "صفحة رقم 284" قلت : ذكر هذا الخبر بن إسحاق ونصه : قال كان من الحديث فيما بلغني عن مسراه ( صلى الله عليه وسلم ) عن عبد الله بن مسعود وأبي سعيد الخدري وعائشة ومعاوية بن أبي سفيان والحسن بن أبي الحسن وبن شهاب الزهري وقتادة وغيرهم من أهل العلم وأم هانئ بنت أبي طالب ما اجتمع في هذا الحديث كل يحدث عنه بعض ما ذكر من أمره حين أسري به ( صلى الله عليه وسلم ) وكان في مسراه وما ذكر عنه بلاء وتمحيص وأمر من أمر الله عز وجل في قدرته وسلطانه فيه عبرة لأولي الألباب وهدى ورحمة وثبات لمن آمن وصدق وكان من أمر الله تعالى على يقين فأسرى به ( صلى الله عليه وسلم ) كيف شاء وكما شاء ليريه من آياته ما أراد حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم وقدرته التي يصنع بها ما يريد وكان عبد الله بن مسعود فيما بلغني عنه يقول : أتي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالبراق وهي الدابة التي كانت تحمل عليها الأنبياء قبله تضع حافرها في منتهى طرفها فحمل عليها ثم خرج به صاحبه يرى الآيات فيما بين السماء والأرض حتى انتهى إلى بيت المقدس فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء قد جمعوا له فصلى بهم ثم أتي بثلاثة آنية : إناء فيه لبن وإناء فيه خمر وإناء فيه ماء قال : فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) فسمعت قائلا يقول حين عرضت علي إن أخذ الماء فغرق وغرقت أمته وإن أخذ الخمر فغوي وغوت أمته وإن أخذ اللبن فهدي وهديت أمته قال فأخذت إناء اللبن فشربت فقال لي جبريل هديت وهديت أمتك يا محمد ) قال بن إسحاق : وحدثت عن الحسن أنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) بينما أنا نائم في الحجر جاءني جبريل عليه السلام فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا ثم عدت لمضجعي فجاءني الثانية فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا فعدت لمضجعي فجاءني الثالثة فهمزني بقدمه فجلست فأخذ بعضدي فقمت معه فخرج إلى باب المسجد فإذا دابة أبيض بين البغل والحمار في فخذيه جناحان يحفز بهما رجليه يضع حافره في منتهى طرفه فحملني عليه ثم خرج معي لا يفوتني ولا أفوته "صفحة رقم 285" قال بن إسحاق : وحدثت عن قتادة أنه قال : حدثت أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ) لما دنوت منه لأركبه شمس فوضع جبريل يده على معرفته ثم قال ألا تستحي يا براق مما تصنع فوالله ما ركبك عبد لله قبل محمد أكرم عليه منه قال فآستحيا حتى ارفض عرقا ثم قر حتى ركبته ) قال الحسن في حديثه : فمضى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومضى معه جبريل حتى انتهى إلى بيت المقدس فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء فأمهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فصلى بهم ثم أتي بإناءين : في أحدهما خمر وفي الآخر لبن قال : فأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إناء اللبن فشرب منه وترك إناء الخمر قال : فقال له جبريل : هديت الفطرة وهديت أمتك وحرمت عليكم الخمر ثم انصرف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى مكة فلما أصبح غدا على قريش فأخبرهم الخبر فقال أكثر الناس : هذا والله الأمر البين والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة شهرا ومقبلة شهرا فيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة قال : فارتد كثير ممن كان أسلم وذهب الناس إلى أبي بكر فقالوا : هل لك يا أبا بكر في صاحبك يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة قال فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : إنكم تكذبون عليه فقالوا : بلى ها هو ذا في المسجد يحدث به الناس فقال أبو بكر : والله لئن كان قاله لقد صدق فما يعجبكم من ذلك فوالله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه فهذا أبعد مما تعجبون منه ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا نبي الله أحدثت هؤلاء أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة قال ) نعم ) قال : يا نبي الله فصفه لي فإني قد جئته فقال الحسن : فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) رفع لي حتى نظرت إليه ) فجعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يصفه لأبي بكر ويقول أبو بكر رضي الله عنه : صدقت أشهد أنك رسول الله كلما ![]()
__________________
|
#438
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (10) سُورَةُ الإسراء من صــ 286 الى صــ 295 الحلقة (438) "صفحة رقم 286" وصف له منه شيئا قال : صدقت أشهد أنك رسول الله قال : حتى إذا انتهى قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأبي بكر رضي الله عنه : ) وأنت يا أبا بكر الصديق ) فيومئذ سماه الصديق قال الحسن : وأنزل الله تعالى فيمن ارتد عن الإسلام لذلك : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا فهذا حديث الحسن عن مسرى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وما دخل فيه من حديث قتادة وذكر باقي الإسراء عمن تقدم في السيرة وقال بن عباس : هذه الشجرة بنو أمية وأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نفى الحكم وهذا قول ضعيف محدث والسورة مكية فيبعد هذا التأويل إلا أن تكون هذه الآية مدنية ولم يثبت ذلك وقد قالت عائشة لمروان : لعن الله أباك وأنت في صلبه فأنت بعض من لعنة الله ثم قال : والشجرة الملعونة في القرآن ولم يجر في القرآن لعن هذه الشجرة ولكن الله لعن الكفار وهم آكلوها والمعنى : والشجرة الملعونة في القرآن آكلوها ويمكن أن يكون هذا على قول العرب لكل طعام مكروه ضار : ملعون وقال بن عباس : الشجرة الملعونة هي هذه الشجرة التي تلتوي على الشجر فتقتله يعني الكشوث ) ونخوفهم ( أي بالزقوم ) فما يزيدهم ( التخويف إلا الكفر الإسراء : ) 61 ( وإذ قلنا للملائكة . . . . . ) الاسراء 61 : 62 ( قوله تعالى : ) وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ( تقدم ذكر كون الشيطان عدو الإنسان فانجر الكلام إلى ذكر آدم والمعنى : اذكر بتمادي هؤلاء المشركين وعتوهم على ربهم قصة إبليس حين عصى ربه وأبى السجود وقال ما قال وهو ما أخبر الله تعالى في قوله تعالى "صفحة رقم 287" ) فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا ( أي من طين وهذا استفهام إنكار وقد تقدم القول في خلق آدم في البقرة والأنعام مستوفى ) قال أرأيتك ( أي قال إبليس والكاف توكيد للمخاطبة ) هذا الذي كرمت علي ( أي فضلته علي ورأى جوهر النار خيرا من جوهر الطين ولم يعلم أن الجواهر متماثلة وقد تقدم هذا في الأعراف وهذا نصب بأرأيت الذي نعته والإكرام : اسم جامع لكل ما يحمد وفي الكلام حذف تقديره : أخبرني عن هذا الذي فضلته علي لم فضلته وقد خلقتني من نار وخلقته من طين فحذف لعلم السامع وقيل : لا حاجة إلى تقدير الحذف أي أترى هذا الذي كرمته علي لأفعلن به كذا وكذا ومعنى ) لأحتنكن ( في قول بن عباس : لأستولين عليهم وقاله الفراء مجاهد : لأحتوينهم بن زيد : لأضلنهم والمعنى متقارب أي لأستأصلن ذريته بالإغواء والإضلال ولأجتاحنهم وروي عن العرب : إحتنك الجراد الزرع إذا ذهب به كله وقيل : معناه لأسوقنهم حيث شئت وأقودنهم حيث أردت من قولهم : حنكت الفرس أحنكه وأحنكه حنكا إذا جعلت في فيه الرسن وكذلك احتنكه والقول الأول قريب من هذا لأنه إنما يأتي على الزرع بالحنك وقال الشاعر : أشكو إليك سنة قد أجحفت جهدا إلى جهد بنا وأضعفت واحتنكت أموالنا واجتلفت ) إلا قليلا ( يعني المعصومين وهم الذين ذكرهم الله في قوله : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وإنما قال إبليس ذلك ظنا كما قال الله تعالى : ولقد صدق عليهم إبليس ظنه سبأ أو علم من طبع البشر تركب الشهوة فيهم أو بنى على قول الملائكة : أتجعل فيها من يفسد فيها وقال الحسن : ظن ذلك لأنه وسوس إلى آدم عليه السلام فلم يجد له عزما الإسراء : ) 63 ( قال اذهب فمن . . . . . ) الاسراء 63 ( "صفحة رقم 288" قوله تعالى : ) قال اذهب ( هذا أمر إهانة أي اجهد جهدك فقد أنظرناك ) فمن تبعك ( أي أطاعك من ذرية آدم ) فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا ( أي وافرا عن مجاهد وغيره وهو نصب على المصدر يقال : وفرته أفره وفرا ووفر المال بنفسه يفر وفورا فهو وافر فهو لازم ومتعد الإسراء : ) 64 ( واستفزز من استطعت . . . . . ) الاسراء 64 ( فيه ست مسائل : الأولى قوله تعالى : ) واستفزز ( أي استزل واستخف وأصله القطع ومنه تفزز الثوب إذا انقطع والمعنى استزله بقطعك إياه عن الحق واستفزه الخوف أي استخفه وقعد مستوفزا أي غير مطمئن واستفزز أمر تعجيز أي أنت لا تقدر على إضلال أحد وليس لك على أحد سلطان فافعل ما شئت الثانية قوله تعالى : ) بصوتك ( وصوته كل داع يدعو إلى معصية الله تعالى عن بن عباس مجاهد : الغناء والمزامير واللهو الضحاك : صوت المزمار وكان آدم عليه السلام أسكن أولاد هابيل أعلى الجبل وولد قابيل أسفله وفيهم بنات حسان فزمر اللعين فلم يتمالكوا أن انحدروا فزنوا ذكره الغزنوي وقيل : بصوتك بوسوستك الثالثة قوله تعالى : ) وأجلب عليهم بخيلك ورجلك ( أصل الإجلاب السوق بجلبة من السائق يقال : أجلب إجلابا والجلب والجلبة : الأصوات تقول منه : جلبوا بالتشديد وجلب الشيء يجلبه ويجلبه جلبا وجلبا وجلبت الشيء إلى نفسي واجتلبته بمعنى وأجلب على العدو إجلابا أي جمع عليهم فالمعنى أجمع عليهم كلما تقدر عليه من مكايدك "صفحة رقم 289" وقال أكثر المفسرين : يريد كل راكب وماش في معصية الله تعالى وقال بن عباس ومجاهد وقتادة : إن له خيلا ورجلا من الجن والإنس فما كان من راكب وماش يقاتل في معصية الله فهو من خيل إبليس ورجالته وروى سعيد بن جبير ومجاهد عن بن عباس قال : كل خيل سارت في معصية الله وكل رجل مشت في معصية الله وكل مال أصيب من حرام وكل ولد بغية فهو للشيطان والرجل جمع راجل مثل صحب وصاحب وقرأ حفص ورجلك بكسر الجيم وهما لغتان يقال : رجل ورجل بمعنى راجل وقرأ عكرمة وقتادة ورجالك على الجمع الرابعة ) وشاركهم في الأموال والأولاد ( أي اجعل لنفسك شركة في ذلك فشركته في الأموال إنفاقها في معصية الله قاله الحسن وقيل : هي التي أصابوها من غير حلها قاله مجاهد بن عباس : ما كانوا يحرمونه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وقاله قتادة الضحاك : ما كانوا يذبحونه لآلهتهم والأولاد قيل : هم أولاد الزنى قاله مجاهد والضحاك وعبد الله بن عباس وعنه أيضا هو ما قتلوا من أولادهم وأتوا فيهم من الجرائم وعنه أيضا : هو تسميتهم عبد الحارث وعبد العزى وعبد اللات وعبد الشمس ونحوه وقيل : هو صبغة أولادهم في الكفر حتى هودوهم ونصروهم كصنع النصارى بأولادهم بالغمس في الماء الذي لهم قاله قتادة وقول خامس روي عن مجاهد قال : إذا جامع الرجل ولم يسم انطوى الجان على إحليله فجامع معه فذلك قوله تعالى : لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان وسيأتي وروي من حديث عائشة قالت قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) إن فيكم مغربين ) قلت : يا رسول الله وما المغربون قال : ) الذين يشترك فيهم الجن ) رواه الترمذي الحكيم في [ نوادر الأصول ] قال الهروي : سموا مغربين لأنه دخل فيهم عرق غريب قال الترمذي الحكيم : فللجن مساماة بابن آدم في الأمور والاختلاط فمنهم من يتزوج فيهم وكانت بلقيس ملكة سبأ أحد أبويها من الجن وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى "صفحة رقم 290" الخامسة قوله تعالى : ) وعدهم ( أي منهم الأماني الكاذبة وأنه لا قيامة ولا حساب وأنه إن كان حساب وجنة ونار فأنتم أولى بالجنة من غيركم يقويه قوله تعالى : يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا أي باطلا وقيل وعدهم أي عدهم النصرة على من أرادهم بسوء وهذا الأمر للشيطان تهدد ووعيد له وقيل : استخفاف به وبمن اتبعه السادسة وفي الآية ما يدل على تحريم المزامير والغناء واللهو لقوله : واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم على قول مجاهد وما كان من صوت الشيطان أو فعله وما يستحسنه فواجب التنزه عنه وروى نافع عن بن عمر أنه سمع صوت زمارة فوضع أصبعيه في أذنيه وعدل راحلته عن الطريق وهو يقول : يا نافع أتسمع فأقول نعم فمضى حتى قلت له لا فوضع يديه وأعاد راحلته إلى الطريق وقال : رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سمع صوت زمارة راع فصنع مثل هذا قال علماؤنا : إذا كان هذا فعلهم في حق صوت لا يخرج على الاعتدال فكيف بغناء أهل هذا الزمان وزمرهم وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة لقمان إن شاء الله تعالى الإسراء : ) 65 ( إن عبادي ليس . . . . . ) الاسراء 65 ( قوله تعالى : ) إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ( قال بن عباس : هم المؤمنون وقد تقدم الكلام فيه ) وكفى بربك وكيلا ( أي عاصما من القبول من إبليس وحافظا من كيده وسوء مكره الإسراء : ) 66 ( ربكم الذي يزجي . . . . . ) الاسراء 66 ( "صفحة رقم 291" قوله تعالى : ) ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر ( الإزجاء : السوق ومنه قوله تعالى : ألم تر أن الله يزجي سحابا وقال الشاعر : يأيها الراكب المزجي مطيته سائل بني أسد ما هذه الصوت وإزجاء الفلك : سوقه بالريح اللينة والفلك هنا جمع وقد تقدم والبحر الماء الكثير عذبا كان أو ملحا وقد غلب هذا الاسم على الملح وهذه الآية توقيف على آلاء الله وفضله عند عباده أي ربكم الذي أنعم عليكم بكذا وكذا فلا تشركوا به شيئا ) لتبتغوا من فضله ( أي في التجارات وقد تقدم ) إنه كان بكم رحيما ( الإسراء : ) 67 ( وإذا مسكم الضر . . . . . ) الاسراء 67 ( قوله تعالى : ) وإذا مسكم الضر في البحر ( الضر لفظ يعم خوف الغرق والإمساك عن الجري وأهوال حالاته اضطرابه وتموجه ) ضل من تدعون إلا إياه ( ضل معناه تلف وفقد وهي عبارة تحقير لمن يدعى إلها من دون الله والمعنى في هذه الآية : أن الكفار إنما يعتقدون في أصنامهم أنها شافعة وأن لها فضلا وكل واحد منهم بالفطرة يعلم علما لا يقدر على مدافعته أن الأصنام لا فعل لها في الشدائد العظام فوقفهم الله من ذلك على حالة البحر حيث تنقطع الحيل ) فلما نجاكم إلى البر أعرضتم ( أي عن الإخلاص ) وكان الإنسان كفورا ( الإنسان هنا الكافر وقيل : وطبع الإنسان كفورا للنعم إلا من عصمه الله فالإنسان لفظ الجنس الإسراء : ) 68 ( أفأمنتم أن يخسف . . . . . ) الاسراء 68 ( "صفحة رقم 292" قوله تعالى : ) أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر ( بين أنه قادر على هلاكهم في البر وإن سلموا من البحر والخسف : أن تنهار الأرض بالشيء يقال : بئر خسيف إذا انهدم أصلها وعين خاسف أي غارت حدقتها في الرأس وعين من الماء خاسفة أي غار ماؤها وخسفت الشمس أي غابت عن الأرض وقال أبو عمرو : والخسيف البئر التي تحفر في الحجارة فلا ينقطع ماؤها كثرة والجمع خسف وجانب البر : ناحية الأرض وسماه جانبا لأنه يصير بعد الخسف جانبا وأيضا فإن البحر جانب والبر جانب وقيل : إنهم كانوا على ساحل البحر وساحله جانب البر وكانوا فيه آمنين من أهوال البحر فحذرهم ما أمنوه من البر كما حذرهم ما خافوه من البحر ) أو يرسل عليكم حاصبا ( يعني ريحا شديدة وهي التي ترمي بالحصباء وهي الحصى الصغار قاله أبو عبيدة والقتبي وقال قتادة : يعني حجارة من السماء تحصبهم كما فعل بقوم لوط ويقال للسحابة التي ترمي بالبرد : حاصب : وللريح التي تحمل التراب والحصباء حاصب وحصبة أيضا قال لبيد : جرت عليها أن خوت من أهلها أذيالها كل عصوف حصبه وقال الفرزدق : مستقبلين شمال الشام يضربنا بحاصب كنديف القطن منثور ) ثم لا تجدوا لكم وكيلا ( أي حافظا ونصيرا يمنعكم من بأس الله الإسراء : ) 69 ( أم أمنتم أن . . . . . ) الاسراء 69 ( قوله تعالى : ) أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى ( يعني في البحر ) فيرسل عليكم قاصفا من الريح ( القاصف : الريح الشديدة التي تكسر بشدة من قصف الشيء يقصفه أي كسره بشدة والقصف : الكسر يقال : قصفت الريح السفينة وريح قاصف "صفحة رقم 293" شديدة ورعد قاصف : شديد الصوت يقال : قصف الرعد وغيره قصيفا والقصيف : هشيم الشجر والتقصف التكسر والقصف أيضا : اللهو واللعب يقال : إنها مولدة ) فيغرقكم بما كفرتم ( أي بكفركم وقرأ بن كثير وأبو عمرو نخسف بكم أو نرسل عليكم أن نعيدكم فنرسل عليكم فنغرقكم بالنون في الخمسة على التعظيم ولقوله : علينا الباقون بالياء لقوله في الآية قبل : إياه وقرأ أبو جعفر وشيبة ورويس ومجاهد فتغرقكم بالتاء نعتا للريح وعن الحسن وقتادة فيغرقكم بالياء مع التشديد في الراء وقرأ أبو جعفر الرياح هنا وفي كل القرآن وقيل : إن القاصف المهلكة في البر والعاصف المغرقة في البحر حكاه الماوردي وقوله : ) ثم لاتجدوا لكم علينا به تبيعا ( قال مجاهد : ثائرا النحاس : وهو من الثأر وكذلك يقال لكل من طلب بثأر أو غيره : تبيع وتابع ومنه فاتباع بالمعروف أي مطالبة الإسراء : ) 70 ( ولقد كرمنا بني . . . . . ) الاسراء 70 ( فيه ثلاث مسائل : الأولى قوله تعالى : ) ولقد كرمنا بني آدم ( الآية لما ذكر من الترهيب ما ذكر بين النعمة عليهم أيضا كرمنا تضعيف كرم أي جعلنا لهم كرما أي شرفا وفضلا وهذا هو كرم نفي النقصان لا كرم المال وهذه الكرامة يدخل فيها خلقهم على هذه الهيئة في امتداد القامة وحسن الصورة وحملهم في البر والبحر مما لا يصح لحيوان سوى بني آدم أن يكون يتحمل بإرادته وقصده وتدبيره وتخصيصهم بما خصهم به من المطاعم والمشارب والملابس وهذا لا يتسع فيه حيوان اتساع بني آدم لأنهم يكسبون المال خاصة دون الحيوان ويلبسون الثياب ويأكلون المركبات من الأطعمة وغاية كل حيوان يأكل لحما نيئا أو طعاما غير "صفحة رقم 294" مركب وحكى الطبري عن جماعة أن التفضيل هو أن يأكل بيده وسائر الحيوان بالفم وروي عن بن عباس ذكره المهدوي والنحاس وهو قول الكلبي ومقاتل ذكره الماوردي وقال الضحاك : كرمهم بالنطق والتمييز عطاء : كرمهم بتعديل القامة وامتدادها يمان : بحسن الصورة محمد بن كعب : بأن جعل محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) منهم وقيل أكرم الرجال باللحى والنساء بالذوائب وقال محمد بن جرير الطبري : بتسليطهم على سائر الخلق وتسخير سائر الخلق لهم وقيل : بالكلام والخط وقيل : بالفهم والتمييز والصحيح الذي يعول عليه أن التفضيل إنما كان بالعقل الذي هو عمدة التكليف وبه يعرف الله ويفهم كلامه ويوصل إلى نعيمه وتصديق رسله إلا أنه لما لم ينهض بكل المراد من العبد بعثت الرسل وأنزلت الكتب فمثال الشرع الشمس ومثال العقل العين فإذا فتحت وكانت سليمة رأت الشمس وأدركت تفاصيل الأشياء وما تقدم من الأقوال بعضه أقوى من بعض وقد جعل الله في بعض الحيوان خصالا يفضل بها بن آدم أيضا كجري الفرس وسمعه وإبصاره وقوة الفيل وشجاعة الأسد وكرم الديك وإنما التكريم والتفضيل بالعقل كما بيناه والله أعلم الثانية قالت فرقة : هذه الآية تقتضي تفضيل الملائكة على الإنس والجن من حيث إنهم المستثنون في قوله تعالى : ولا الملائكة المقربون وهذا غير لازم من الآية بل التفضيل فيها بين الإنس والجن فإن هذه الآية إنما عدد الله فيها على بني آدم ما خصهم به من سائر الحيوان والجن هو الكثير المفضول والملائكة هم الخارجون عن الكثير المفضول ولم تتعرض الآية لذكرهم بل يحتمل أن الملائكة أفضل ويحتمل العكس ويحتمل التساوي وعلى الجملة فالكلام لا ينتهي في هذه المسألة إلى القطع وقد تحاشى قوم من الكلام في هذا كما تحاشوا من الكلام في تفضيل بعض الأنبياء على بعض إذ في الخبر ) لا تخايروا بين الأنبياء ولا تفضلوني على يونس بن متى ) وهذا ليس بشيء لوجود "صفحة رقم 295" النص في القرآن في التفضيل بين الأنبياء وقد بيناه في البقرة ومضى فيها الكلام في تفضيل الملائكة والمؤمن الثانية قوله تعالى : ) ورزقناهم من الطيبات ( يعني لذيذ المطاعم والمشارب قال مقاتل : السمن والعسل والزبد والتمر والحلوى وجعل رزق غيرهم ما لا يخفى عليكم من التبن والعظام وغيرها ) وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ( يعني على البهائم والدواب والوحش والطير بالغلبة والاستيلاء والثواب والجزاء والحفظ والتمييز وإصابة الفراسة الرابعة هذه الآية ترد ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) احرموا أنفسكم طيب الطعام فإنما قوي الشيطان أن يجري في العروق منها ) وبه يستدل كثير من الصوفية في ترك أكل الطيبات ولا أصل له لأن القرآن يرده والسنة الثابتة بخلافه على ما تقرر في غير موضع وقد حكى أبو حامد الطوسي قال : كان سهل يقتات ورق النبق مدة وأكل دقاق ورق التين ثلاث سنين وذكر إبراهيم بن البنا قال : صحبت ذا النون من إخميم إلى الإسكندرية فلما كان وقت إفطاره أخرجت قرصا وملحا كان معي وقلت : هلم فقال لي : ملحك مدقوق قلت نعم قال : لست تفلح فنظرت إلى مزوده وإذا فيه قليل سويق شعير يسف منه وقال أبو يزيد : ما أكلت شيئا مما يأكله بنو آدم أربعين سنة قال علماؤنا : وهذا مما لا يجوز حمل النفس عليه لأن الله تعالى أكرم الآدمي بالحنطة وجعل قشورها لبهائمهم فلا يصح مزاحمة الدواب في أكل التبن وأما سويق الشعير فإنه يورث القولنج وإذا اقتصر الإنسان على خبز الشعير والملح الجريش فإنه ينحرف مزاجه لأن خبز الشعير بارد مجفف والملح يابس قابض يضر الدماغ والبصر وإذا مالت النفس إلى ما يصلحها فمنعت فقد قوومت حكمة الباريء سبحانه بردها ثم يؤثر ذلك في البدن فكان هذا الفعل مخالفا للشرع والعقل ومعلوم أن البدن ![]()
__________________
|
#439
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (10) سُورَةُ الإسراء من صــ 296 الى صــ 305 الحلقة (439) "صفحة رقم 296" مطية الآدمي ومتى لم يرفق بالمطية لم تبلغ وروي عن إبراهيم بن أدهم أنه اشترى زبدا وعسلا وخبز حواري فقيل له : هذا كله فقال : إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال وإذا عدمنا صبرنا صبر الرجال وكان الثوري يأكل اللحم والعنب والفالوذج ثم يقوم إلى الصلاة ومثل هذا عن السلف كثير وقد تقدم منه ما يكفي في المائدة والأعراف وغيرهما والأول غلو في الدين إن صح عنهم ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم الإسراء : ) 71 ( يوم ندعوا كل . . . . . ) الاسراء 71 ( قوله تعالى : ) يوم ندعوا كل أناس بإمامهم ( روى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله تعالى : يوم ندعوا كل أناس بإمامهم قال : ) يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه ويمد له في جسمه ستون ذراعا ويبيض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤ يتلألأ فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون اللهم ائتنا بهذا وبارك لنا في هذا حتى يأتيهم فيقول أبشروا لكل منكم مثل هذا قال وأما الكافر فيسود وجهه ويمد له في جسمه ستون ذراعا على صورة آدم ويلبس تاجا فيراه أصحابه فيقولون نعوذ بالله من شر هذا اللهم لا تأتنا بهذا قال : فيأتيهم فيقولون اللهم أخره فيقول أبعدكم الله فإن لكل رجل منكم مثل هذا ) قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب ونظير هذا قوله : وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون والكتاب يسمى إماما لأنه يرجع إليه في تعرف أعمالهم وقال بن عباس والحسن وقتادة والضحاك : بإمامهم أي بكتابهم أي بكتاب كل إنسان منهم الذي فيه عمله دليله فمن أوتي كتابه بيمينه وقال بن زيد : بالكتاب المنزل عليهم أي يدعى كل إنسان "صفحة رقم 297" بكتابه الذي كان يتلوه فيدعى أهل التوراة بالتوراة وأهل القرآن بالقرآن فيقال : يأهل القرآن ماذا عملتم هل امتثلتم أوامره هل اجتنبتم نواهيه وهكذا وقال مجاهد : بإمامهم بنبيهم والإمام من يؤتم به فيقال : هاتوا متبعي إبراهيم عليه السلام هاتوا متبعي موسى عليه السلام هاتوا متبعي الشيطان هاتوا متبعي الأصنام فيقوم أهل الحق فيأخذون كتابهم بأيمانهم ويقوم أهل الباطل فيأخذون كتابهم بشمالهم وقاله قتادة وقال علي رضي الله عنه : بإمام عصرهم وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله : يوم ندعو كل أناس بإمامهم فقال : ) كل يدعى بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم فيقول هاتوا متبعي إبراهيم هاتوا متبعي موسى هاتوا متبعي عيسى هاتوا متبعي محمد عليهم أفضل الصلوات والسلام فيقوم أهل الحق فيأخذون كتابهم بأيمانهم ويقول هاتوا متبعي الشيطان هاتوا متبعي رؤساء الضلالة إمام هدى وإمام ضلالة ) وقال الحسن وأبو العالية : بإمامهم أي بأعمالهم وقاله بن عباس فيقال : أين الراضون بالمقدور أين الصابرون عن المحذور وقيل : بمذاهبهم فيدعون بمن كانوا يأتمون به في الدنيا : يا حنفي يا شافعي يا معتزلي يا قدري ونحوه فيتبعونه في خير أو شر أو على حق أو باطل وهذا معنى قول أبي عبيدة وقد تقدم وقال أبو هريرة : يدعى أهل الصدقة من باب الصدقة وأهل الجهاد من باب الجهاد الحديث بطوله أبو سهل : يقال أين فلان المصلي والصوام وعكسه الدفاف والنمام وقال محمد بن كعب : بإمامهم بأمهاتهم وإمام جمع آم قالت الحكماء : وفي ذلك ثلاثة أوجه من الحكمة أحدها لأجل عيسى والثاني إظهار لشرف الحسن والحسين والثالث لئلا يفتضح أولاد الزنى قلت : وفي هذا القول نظر فإن في الحديث الصحيح عن بن عمر قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء فيقال هذه غدرة فلان بن فلان ) خرجه مسلم والبخاري فقوله : ) هذه غدرة فلان بن فلان "صفحة رقم 298" دليل على أن الناس يدعون في الآخرة بأسمائهم وأسماء آبائهم وهذا يرد على من قال : إنما يدعون بأسماء أمهاتهم لأن في ذلك سترا على آبائهم والله أعلم قوله تعالى : ) فمن أوتي كتابه بيمينه ( هذا يقوي قول من قال : بإمامهم بكتابهم ويقويه أيضا قوله : وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ) فأولئك يقرؤون كتابهم ولايظلمون فتيلا ( الفتيل الذي في شق النواة وقد مضى في النساء الإسراء : ) 72 ( ومن كان في . . . . . ) الاسراء 72 ( قوله تعالى : ) ومن كان من هذه أعمى ( أي في الدنيا عن الاعتبار وإبصار الحق ) فهو في الآخرة ( أي في أمر الآخرة ) أعمى ( وقال عكرمة : جاء نفر من أهل اليمن إلى بن عباس فسألوه عن هذه الآية فقال : اقرؤوا ما قبلها ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر إلى تفضيلا قال بن عباس : من كان في هذه النعم والآيات التي رأى أعمى فهو عن الآخرة التي لم يعاين أعمى وأضل سبيلا وقيل : المعنى من عمي عن النعم التي أنعم الله بها عليه في الدنيا فهو عن نعم الآخرة أعمى وقيل : المعنى من كان في الدنيا التي أمهل فيها وفسح له ووعد بقبول التوبة أعمى فهو في الآخرة التي لا توبة فيها أعمى وقال الحسن : من كان في هذه الدنيا كافرا ضالا فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا وقيل : من كان في الدنيا أعمى عن حجج الله بعثه الله يوم القيامة أعمى كما قال : ونحشره يوم القيامة أعمى الآيات وقال : ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم وقيل : المعنى في قوله فهو في الآخرة أعمى في جميع الأقوال : أشد عمى لأنه من عمى القلب ولا يقال مثله في عمى العين قال الخليل وسيبويه : لأنه خلقه بمنزلة "صفحة رقم 299" اليد والرجل فلم يقل ما أعماه كما لا يقال ما أيداه الأخفش : لم يقل فيه ذلك لأنه على أكثر من ثلاثة أحرف وأصله أعمى وقد أجاز بعض النحويين ما أعماه وما أعشاه لأن فعله عمي وعشي وقال الفراء : حدثني بالشام شيخ بصري أنه سمع العرب تقول : ما أسود شعره قال الشاعر : ما في المعالي لكم ظل ولا ثمر وفي المخازي لكم أشباح أشياخ أما الملوك فأنت اليوم الأمهم لؤما وأبيضهم سربال طباخ وأمال أبو بكر وحمزة والكسائي وخلف الحرفين أعمى وأعمي وفتح الباقون وأمال أبو عمرو الأول وفتح الثاني ) وأضل سبيلا ( يعني أنه لا يجد طريقا إلى الهداية الإسراء : ) 73 ( وإن كادوا ليفتنونك . . . . . ) الاسراء 73 ( قال سعيد بن جبير : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يستلم الحجر الأسود في طوافه فمنعته قريش وقالوا : لا ندعك تستلم حتى تلم بآلهتنا فحدث نفسه وقال : ) ما علي أن ألم بها بعد أن يدعوني أستلم الحجر والله يعلم أني لها كاره ) فأبى الله تعالى ذلك وأنزل عليه هذه الآية قاله مجاهد وقتادة وقال بن عباس في رواية عطاء : نزلت في وفد ثقيف أتوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فسألوه شططا وقالوا : متعنا بآلهتنا سنة حتى نأخذ ما يهدى لها فإذا أخذناه كسرناها وأسلمنا وحرم وادينا كما حرمت مكة حتى تعرف العرب فضلنا عليهم فهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يعطيهم ذلك فنزلت هذه الآية وقيل : هو قول أكابر قريش للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : اطرد عنا هؤلاء السقاط والموالي حتى نجلس معك ونسمع منك فهم بذلك حتى نهي عنه وقال قتادة : ذكر لنا أن قريشا خلوا برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذات ليلة إلى الصبح يكلمونه ويفخمونه ويسودونه ويقاربونه فقالوا : إنك تأتي بشيء لا يأتي به أحد من الناس وأنت سيدنا يا سيدنا وما زالوا به حتى كاد يقاربهم في بعض ما يريدون "صفحة رقم 300" ثم عصمه الله من ذلك وأنزل الله تعالى هذه الآية ومعنى ) ليفتنونك ( أي يزيلونك يقال : فتنت الرجل عن رأيه إذا أزلته عما كان عليه قاله الهروي وقيل يصرفونك والمعنى واحد ) عن الذي أوحينا إليك ( أي حكم القرآن لأن في إعطائهم ما سألوه مخالفة لحكم القرآن ) لتفتري علينا غيره ( أي لتختلق علينا غير ما أوحينا إليك وهو قول ثقيف : وحرم وادينا كما حرمت مكة شجرها وطيرها ووحشها فإن سألتك العرب لم خصصتهم فقل الله أمرني بذلك حتى يكون عذرا لك ) وإذا لاتخذوك خليلا ( أي لو فعلت ما أرادوا لاتخذوك خليلا أي والوك وصافوك مأخوذ من الخلة [ بالضم ] وهي الصداقة لممايلته لهم وقيل : لاتخذوك خليلا أي فقيرا مأخوذ من الخلة [ بفتح الخاء ] وهي الفقر لحاجته إليهم الإسراء : ) 74 ( ولولا أن ثبتناك . . . . . ) الاسراء 74 : 75 ( قوله تعالى : ) ولولا أن ثبتناك ( أي على الحق وعصمناك من موافقتهم ) لقد كدت تركن إليهم ( أي تميل ) شيئا قليلا ( أي ركونا قليلا قال قتادة : لما نزلت هذه الآية قال عليه السلام : ) اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ) وقيل : ظاهر الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وباطنه إخبار عن ثقيف والمعنى : وإن كادوا ليركنونك أي كادوا يخبرون عنك بأنك ملت إلى قولهم فنسب فعلهم إليه مجازا واتساعا كما تقول لرجل : كدت تقتل نفسك أي كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت ذكره المهدوي وقيل : ما كان منه هم بالركون إليهم بل المعنى : ولولا فضل الله عليك لكان منك ميل إلى موافقتهم ولكن تم فضل الله عليك فلم تفعل ذكره القشيري وقال بن عباس : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) معصوما ولكن هذا تعريف للأمة لئلا يركن أحد منهم إلى المشركين في شيء من أحكام الله تعالى وشرائعه "صفحة رقم 301" وقوله : ) إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ( أي لو ركنت لأذقناك مثلي عذاب الحياة في الدنيا ومثلي عذاب الممات في الآخرة قاله بن عباس ومجاهد وغيرهما وهذا غاية الوعيد وكلما كانت الدرجة أعلى كان العذاب عند المخالفة أعظم قال الله تعالى : يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وضعف الشيء مثله مرتين وقد يكون الضعف النصيب كقوله عز وجل : لكل ضعف أي نصيب وقد تقدم في الأعراف الإسراء : ) 76 ( وإن كادوا ليستفزونك . . . . . ) الاسراء 76 ( هذه الآية قيل أنها مدنية حسبما تقدم في أول السورة قال بن عباس : حسدت اليهود مقام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة فقالوا : إن الأنبياء إنما بعثوا بالشام فإن كنت نبيا فالحق بها فإنك إن خرجت إليها صدقناك وآمنا بك فوقع ذلك في قلبه لما يحب من إسلامهم فرحل من المدينة على مرحلة فأنزل الله هذه الآية وقال عبد الرحمن بن غنم : غزا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) غزوة تبوك لا يريد إلا الشام فلما نزل تبوك نزل وإن كادوا ليستفزونك من الأرض بعد ما ختمت السورة وأمر بالرجوع وقيل : إنها مكية قال مجاهد وقتادة : نزلت في هم أهل مكة بإخراجه ولو أخرجوه لما أمهلوا ولكن الله أمره بالهجرة فخرج وهذا أصح لأن السورة مكية ولأن ما قبلها خبر عن أهل مكة ولم يجر لليهود ذكر وقوله : ) من الأرض ( يريد أرض مكة كقوله : فلن أبرح الأرض أي أرض مصر دليله وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك محمد يعني مكة معناه : هم أهلها بإخراجه فلهذا أضاف إليها وقال أخرجتك وقيل : هم الكفار كلهم أن يستخفوه من أرض العرب بتظاهرهم عليه فمنعه الله ولو أخرجوه "صفحة رقم 302" من أرض العرب لم يمهلوا وهو معنى قوله : ) وإذا لايلبثون خلافك إلا قليلا ( وقرأ عطاء بن أبي رباح لا يلبثون الباء مشددة خلفك نافع وبن كثير وأبو بكر وأبو عمرو ومعناه بعدك وقرأ بن عامر وحفص وحمزة والكسائي خلافك واختاره أبو حاتم اعتبارا بقوله : فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله ومعناه أيضا بعدك قال الشاعر : عفت الديار خلافهم فكأنما بسط الشواطب بينهن حصيرا بسط البواسط في الماوردي يقال : شطبت المرأة الجريد إذا شقته لتعمل منه الحصر قال أبو عبيد : ثم تلقيه الشاطبة إلى المنقية وقيل : خلفك بمعنى بعدك وخلافك بمعنى مخالفتك ذكره بن الأنباري ) إلا قليلا ( فيه وجهان : أحدهما أن المدة التي لبثوها بعده ما بين إخراجهم له إلى قتلهم يوم بدر وهذا قول من ذكر أنهم قريش الثاني ما بين ذلك وقتل بني قريظة وجلاء بني النضير وهذا قول من ذكر أنهم اليهود الإسراء : ) 77 ( سنة من قد . . . . . ) الاسراء 77 ( قوله تعالى : ) سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ( أي يعذبون كسنة من قد أرسلنا فهو نصب بإضمار يعذبون فلما سقط الخافض عمل الفعل قاله الفراء وقيل : انتصب على معنى سننا سنة من قد أرسلنا وقيل : هو منصوب على تقدير حذف الكاف التقدير لا يلبثون خلفك إلا قليلا كسنة من قد أرسلنا فلا يوقف على هذا التقدير على قوله : إلا قليلا ويوقف على الأول والثاني قبلك من رسلنا وقف حسن ) ولاتجد لسنتنا تحويلا ( أي لا خلف في وعدها الإسراء : ) 78 ( أقم الصلاة لدلوك . . . . . ) الاسراء 78 ( "صفحة رقم 303" فيه سبع مسائل : الأولى قوله تعالى : ) أقم الصلاة لدلوك الشمس ( لما ذكر مكايد المشركين أمر نبيه عليه السلام بالصبر والمحافظة على الصلاة وفيها طلب النصر على الأعداء ومثله ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين وتقدم القول في معنى إقامة الصلاة في أول سورة البقرة وهذه الآية بإجماع من المفسرين إشارة إلى الصلوات المفروضة واختلف العلماء في الدلوك على قولين : أحدهما أنه زوال الشمس عن كبد السماء قاله عمر وابنه وأبو هريرة وبن عباس وطائفة سواهم من علماء التابعين وغيرهم الثاني أن الدلوك هو الغروب قاله علي وبن مسعود وأبي بن كعب وروي عن بن عباس قال الماوردي : من جعل الدلوك اسما لغروبها فلأن الإنسان يدلك عينيه براحته لتبينها حالة المغيب ومن جعله اسما لزوالها فلأنه يدلك عينيه لشدة شعاعها وقال أبو عبيد : دلوكها غروبها ودلكت براح يعني الشمس أي غابت وأنشد قطرب : هذا مقام قدمى رباح ذبب حتى دلكت براح براح [ بفتح الباء ] على وزن حزام وقطام ورقاس اسم من أسماء الشمس ورواه الفراء [ بكسر الباء ] وهو جمع راحة وهي الكف أي غابت وهو ينظر إليها وقد جعل كفه على حاجبه ومنه قول العجاج : والشمس قد كادت تكون دنفا أدفعها بالراح كي تزحلفا قال بن الأعرابي : الزحلوفة مكان منحدر أملس لأنهم يتزحلفون فيه قال : والزحلفة كالدحرجة والدفع يقال : زحلفته فتزحلف ويقال : دلكت الشمس إذا غابت قال ذو الرمة : مصابيح ليست باللواتي تقودها نجوم ولا بالافلات الدوالك "صفحة رقم 304" قال بن عطية : الدلوك هو الميل في اللغة فأول الدلوك هو الزوال وآخره هو الغروب ومن وقت الزوال إلى الغروب يسمى دلوكا لأنها في حالة ميل فذكر الله تعالى الصلوات التي تكون في حالة الدلوك وعنده فيدخل في ذلك الظهر والعصر والمغرب ويصح أن تكون المغرب داخلة في غسق الليل وقد ذهب قوم إلى أن صلاة الظهر يتمادى وقتها من الزوال إلى الغروب لأن الله سبحانه علق وجوبها على الدلوك وهذا دلوك كله قاله الأوزاعي وأبو حنيفة في تفصيل وأشار إليه مالك والشافعي في حالة الضرورة الثانية قوله تعالى : ) إلى غسق الليل ( روى مالك عن بن عباس قال : دلوك الشمس ميلها وغسق الليل اجتماع الليل وظلمته وقال أبو عبيدة : الغسق سواد الليل قال بن قيس الرقيات : إن هذا الليل قد غسقا واشتكيت الهم والأرقا وقد قيل : غسق الليل مغيب الشفق وقيل : إقبال ظلمته قال زهير : ظلت تجود يداها وهي لاهية حتى إذا جنح الإظلام والغسق يقال : غسق الليل غسوقا والغسق اسم بفتح السين وأصل الكلمة من السيلان يقال : غسقت العين إذا سالت تغسق وغسق الجرح غسقانا أي سال منه ماء أصفر وأغسق المؤذن أي أخر المغرب إلى غسق الليل وحكى الفراء : غسق الليل وأغسق وظلم وأظلم ودجا وأدجى وغبس وأغبس وغبش وأغبش وكان الربيع بن خثيم يقول لمؤذنه في يوم غيم : أغسق أغسق يقول : أخر المغرب حتى يغسق الليل وهو إظلامه الثالثة اخلف العلماء في آخر وقت المغرب فقيل : وقتها وقت واحد لا وقت لها إلا حين تحجب الشمس وذلك بين في إمامة جبريل فإنه صلاها باليومين لوقت واحد وذلك غروب الشمس وهو الظاهر من مذهب مالك عند أصحابه وهو أحد قولي الشافعي في المشهور عنه أيضا وبه قال الثوري وقال مالك في الموطأ : فإذا غاب الشفق فقد خرجت من وقت المغرب ودخل وقت العشاء وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه والحسن "صفحة رقم 305" بن حي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود لأن وقت الغروب إلى الشفق غسق كله ولحديث أبي موسى وفيه : أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلى بالسائل المغرب في اليوم الثاني فأخر حتى كان عند سقوط الشفق خرجه مسلم قالوا : وهذا أولى من أخبار إمامة جبريل لأنه متأخر بالمدينة وإمامة جبريل بمكة والمتأخر أولى من فعله وأمره لأنه ناسخ لما قبله وزعم بن العربي أن هذا القول هو المشهور من مذهب مالك وقوله في موطئه الذي أقرأه طول عمره وأملأه في حياته والنكتة في هذا أن الأحكام المتعلقة بالأسماء هل تتعلق بأوائلها أو بآخرها أو يرتبط الحكم بجميعها والأقوى في النظر أن يرتبط الحكم بأوائلها لئلا يكون ذكرها لغوا فإذا ارتبط بأوائلها جرى بعد ذلك النظر في تعلقه بالكل إلى الآخر قلت : القول بالتوسعة أرجح وقد خرج الإمام الحافظ أبو محمد عبد الغني بن سعيد من حديث الأجلح بن عبد الله الكندي عن أبي الزبير عن جابر قال : خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من مكة قريبا من غروب الشمس فلم يصل المغرب حتى أتى سرف وذلك تسعة أميال وأما القول بالنسخ فليس بالبين وإن كان التاريخ معلوما فإن الجمع ممكن قال علماؤنا : تحمل أحاديث جبريل على الأفضلية في وقت المغرب ولذلك اتفقت الأمة فيها على تعجيلها والمبادرة إليها في حين غروب الشمس قال بن خويز منداد ولا نعلم أحدا من المسلمين تأخر بإقامة المغرب في مسجد جماعة عن وقت غروب الشمس وأحاديث التوسعة تبين وقت الجواز فيرتفع التعارض ويصح الجمع وهو أولى من الترجيح باتفاق الأصوليين لأن فيه إعمال كل واحد من الدليلين والقول بالنسخ أو الترجيح فيه إسقاط أحدهما والله أعلم الرابعة قوله تعالى : ) وقرآن الفجر ( انتصب قرآن من وجهين : أحدهما أن يكون معطوفا على الصلاة المعنى : وأقم قرآن الفجر أي صلاة الصبح قاله الفراء وقال أهل البصرة انتصب على الإغراء أي فعليك بقرآن الفجر قاله الزجاج وعبر عنها بالقرآن ![]()
__________________
|
#440
|
||||
|
||||
![]() ![]() تَّفْسِيرِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ ) الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ المجلد (10) سُورَةُ الإسراء من صــ 306 الى صــ 315 الحلقة (440) "صفحة رقم 306" خاصة دون غيرها من الصلوات لأن القرآن هو أعظمها إذ قراءتها طويلة مجهور بها حسبما هو مشهور مسطور عن الزجاج أيضا قلت : وقد استقر عمل المدينة على استحباب إطالة القراءة في الصبح قدرا لا يضر بمن خلفه يقرأ فيها بطوال المفصل ويليها في ذلك الظهر والجمعة وتخفيف القراءة في المغرب وتوسطها في العصر والعشاء وقد قيل في العصر : إنها تخفف كالمغرب وأما ما ورد في صحيح مسلم وغيره من الإطالة فيما استقر فيه التقصير أو من التقصير فيما استقرت فيه الإطالة كقراءته في الفجر المعوذتين كما رواه النسائي وكقراءة الأعراف والمرسلات والطور في المغرب فمتروك بالعمل ولإنكاره على معاذ التطويل حين أم قومه في العشاء فافتتح سورة البقرة خرجه الصحيح وبأمره الأئمة بالتخفيف فقال : ) أيها الناس إن منكم منفرين فأيكم أم الناس فليخفف فإن فيهم الصغير والكبير والمريض والسقيم والضعيف وذا الحاجة ) وقال : ) فإذا صلى احدكم وحده فليطول ما شاء ) كله مسطور في صحيح الحديث الخامسة قوله تعالى : ) وقرآن الفجر ( دليل على أن لا صلاة إلا بقراءة لأنه سمى الصلاة قرآنا وقد اختلف العلماء في القراءة في الصلاة فذهب جمهورهم إلى وجوب قراءة أم القرآن للإمام والفذ في كل ركعة وهو مشهور قول مالك وعنه أيضا أنها واجبة في جل الصلاة وهو قول إسحاق وعنه أيضا تجب في ركعة واحدة قاله المغيرة وسحنون وعنه أن القراءة لا تجب في شيء من الصلاة وهو أشذ الروايات عنه وحكي عن مالك أيضا أنها تجب في نصف الصلاة وإليه ذهب الأوزاعي وعن الأوزاعي أيضا وأيوب أنها تجب على الإمام والفذ والمأموم على كل حال وهو أحد قولي الشافعي وقد مضى في [ الفاتحة ] مستوفى السادسة قوله تعالى : ) كان مشهودا ( روى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله : وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا قال : ) تشهده "صفحة رقم 307" ملائكة الليل وملائكة النهار ) هذا حديث حسن صحيح ورواه علي بن مسهر عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وروى البخاري عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ) فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح ) يقول أبو هريرة : إقرءوا إن شئتم وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ولهذا المعنى يبكر بهذه الصلاة فمن لم يبكر لم تشهد صلاته إلا إحدى الفئتين من الملائكة ولهذا المعنى أيضا قال مالك والشافعي : التغليس بالصبح أفضل وقال أبو حنيفة : الأفضل الجمع بين التغليس والإسفار فإن فاته ذلك فالإسفار أولى من التغليس وهذا مخالف لما كان عليه السلام يفعله من المداومة على التغليس وأيضا فإن فيه تفويت شهود ملائكة الليل والله أعلم السابعة استدل بعض العلماء بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار ) على أن صلاة الصبح ليست من صلاة الليل ولا من صلاة النهار قلت : وعلى هذا فلا تكون صلاة العصر أيضا لا من صلاة الليل ولا من صلاة النهار فإن في الصحيح عن النبي الفصيح عليه السلام فيما رواه أبو هريرة : ) يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فيجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر ) الحديث ومعلوم أن صلاة العصر من النهار فكذلك تكون صلاة الفجر من الليل وليس كذلك وإنما هي من النهار كالعصر بدليل الصيام والإيمان وهذا واضح الإسراء : ) 79 ( ومن الليل فتهجد . . . . . ) الاسراء 79 ( فيه ست مسائل : الأولى قوله تعالى : ) ومن الليل ( من للتبعيض والفاء في قوله فتهجد ناسقة على مضمر أي قم فتهجد ) به ( أي بالقرآن والتهجد من الهجود وهو من الأضداد يقال : هجد نام وهجد سهر على الضد قال الشاعر "صفحة رقم 308" ألا زارت وأهل منى هجود وليت خيالها بمنى يعود آخر : ألا طرقتنا والرفاق هجود فباتت بعلات النوال تجود يعني نياما وهجد وتهجد بمعنى وهجدته أي أنمته وهجدته أي أيقظته والتهجد التيقظ بعد رقدة فصار اسما للصلاة لأنه ينتبه لها فالتهجد القيام إلى الصلاة من النوم قال معناه الأسود وعلقمة وعبد الرحمن بن الأسود وغيرهم وروى إسماعيل بن إسحاق القاضي من حديث الحجاج بن عمر صاحب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : أيحسب أحدكم إذا قام من الليل كله أنه قد تهجد إنما التهجد الصلاة بعد رقدة ثم الصلاة بعد رقدة ثم الصلاة بعد رقدة كذلك كانت صلاة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل : الهجود النوم يقال : تهجد الرجل إذا سهر وألقى الهجود وهو النوم ويسمى من قام إلى الصلاة متهجدا لأن المتهجد هو الذي يلقى الهجود الذي هو النوم عن نفسه وهذا الفعل جار مجرى تحوب وتحرج وتأثم وتحنث وتقذر وتنجس إذا ألقى ذلك عن نفسه ومثله قوله تعالى : فظلتم تفكهون معناه تندمون أي تطرحون الفكاهة عن أنفسكم وهي انبساط النفوس وسرورها يقال رجل فكه إذا كان كثير السرور والضحك والمعنى في الآية : ووقتا من الليل اسهر به في صلاة وقراءة الثانية قوله تعالى : ) نافلة لك ( أي كرامة لك قاله مقاتل واختلف العلماء في تخصيص النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالذكر دون أمته فقيل : كانت صلاة الليل فريضة عليه لقوله : نافلة لك أي فريضة زائدة على الفريضة الموظفة على الأمة قلت : وفي هذا التأويل بعد لوجهين : أحدهما تسمية الفرض بالنفل وذلك مجاز لا حقيقة الثاني قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) خمس صلوات فرضهن الله على العباد ) وقوله تعالى : ) هن خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدي ) وهذا نص فكيف يقال افترض عليه صلاة زائدة على الخمس هذا ما لا يصح وإن كان قد روي عنه عليه السلام "صفحة رقم 309" ) ثلاث علي فريضة ولأمتي تطوع قيام الليل والوتر والسواك ) وقيل : كانت صلاة الليل تطوعا منه وكانت في الابتداء واجبة على الكل ثم نسخ الوجوب فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة كما قالت عائشة على ما يأتي مبينا في سورة المزمل إن شاء الله تعالى وعلى هذا يكون الأمر بالتنفل على جهة الندب ويكون الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه مغفور له فهو إذا تطوع بما ليس بواجب عليه كان ذلك زيادة في الدرجات وغيره من الأمة تطوعهم كفارات وتدارك لخلل يقع في الفرض قال معناه مجاهد وغيره وقيل : عطية لأن العبد لا ينال من السعادة عطاء أفضل من التوفيق في العبادة الثالثة قوله تعالى : ) عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ( اختلف في المقام المحمود على أربعة أقوال : الأول وهو أصحها الشفاعة للناس يوم القيامة قاله حذيفة بن اليمان وفي صحيح البخاري عن بن عمر قال : إن الناس يصيرون يوم القيامة جثا كل أمة تتبع نبيها تقول : يا فلان اشفع حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود وفي صحيح مسلم عن أنس قال حدثنا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ) إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض فيأتون آدم فيقولون له اشفع لذريتك فيقول لست لها ولكن عليكم بإبراهيم عليه السلام فإنه خليل الله فيأتون إبراهيم فيقول لست لها ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله فيؤتى موسى فيقول لست لها ولكن عليكم بعيسى عليه السلام فإنه روح الله وكلمته فيؤتى عيسى فيقول لست لها ولكن عليكم بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فأوتى فأقول أنا لها ) وذكر الحديث وروى الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا سئل عنها قال : ) هي الشفاعة ) قال : هذا حديث حسن صحيح "صفحة رقم 310" الرابعة إذا ثبت أن المقام المحمود هو أمر الشفاعة الذي يتدافعه الأنبياء عليهم السلام حتى ينتهي الأمر إلى نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيشفع هذه الشفاعة لأهل الموقف ليعجل حسابهم ويراحوا من هول موقفهم وهي الخاصة به ( صلى الله عليه وسلم ) ولأجل ذلك قال : ) أنا سيد ولد آدم ولا فخر ) قال النقاش : لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثلاث شفاعات : العامة وشفاعة في السبق إلى الجنة وشفاعة في أهل الكبائر بن عطية : والمشهور أنهما شفاعتان فقط : العامة وشفاعة في إخراج المذنبين من النار وهذه الشفاعة الثانية لا يتدافعها الأنبياء بل يشفعون ويشفع العلماء وقال القاضي أبو الفضل عياض : شفاعات نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) يوم القيامة خمس شفاعات : العامة والثانية في إدخال قوم الجنة دون حساب الثالثة في قوم من موحدي أمته استوجبوا النار بذنوبهم فيشفع فيهم نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) ومن شاء الله أن يشفع ويدخلون الجنة وهذه الشفاعة هي التي أنكرتها المبتدعة الخوارج والمعتزلة فمنعتها على أصولهم الفاسدة وهي الاستحقاق العقلي المبني على التحسين والتقبيح الرابعة فيمن دخل النار من المذنبين فيخرجون بشفاعة نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) وغيره من الأنبياء والملائكة وإخوانهم المؤمنين الخامسة في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها وترفيعها وهذه لا تنكرها المعتزلة ولا تنكر شفاعة الحشر الأول الخامسة قال القاضي عياض : وعرف بالنقل المستفيض سؤال السلف الصالح لشفاعة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ورغبتهم فيها وعلى هذا لا يلتفت لقول من قال : إنه يكره أن تسأل الله أن يرزقك شفاعة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأنها لا تكون إلا للمذنبين فإنها قد تكون كما قدمنا لتخفيف الحساب وزيادة الدرجات ثم كل عاقل معترف بالتقصير محتاج إلى العفو غير معتد بعمله مشفق أن يكون من الهالكين ويلزم هذا القائل ألا يدعو بالمغفرة والرحمة لأنها لأصحاب الذنوب أيضا وهذا كله خلاف ما عرف من دعاء السلف والخلف روى البخاري عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ) من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة "صفحة رقم 311" القول الثاني أن المقام المحمود إعطاؤه لواء الحمد يوم القيامة قلت : وهذا القول لا تنافر بينه وبين الأول فإنه يكون بيده لواء الحمد ويشفع روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وبيدي لواء الحمد ولا فخر وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي ) الحديث القول الثالث ما حكاه الطبري عن فرقة منها مجاهد أنها قالت : المقام المحمود هو أن يجلس الله تعالى محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) معه على كرسيه وروت في ذلك حديثا وعضد الطبري جواز ذلك بشطط من القول وهو لا يخرج إلا على تلطف في المعنى وفيه بعد ولا ينكر مع ذلك أن يروى والعلم يتأوله وذكر النقاش عن أبي داود السجستاني أنه قال : من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم ما زال أهل العلم يتحدثون بهذا من أنكر جوازه على تأويله قال أبو عمر ومجاهد : وإن كان أحد الأئمة يتأول القرآن فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم : أحدهما هذا والثاني في تأويل قوله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة قال : تنتظر الثواب ليس من النظر قلت : ذكر هذا في باب بن شهاب في حديث التنزيل وروي عن مجاهد أيضا في هذه الآية قال : يجلسه على العرش وهذا تأويل غير مستحيل لأن الله تعالى كان قبل خلقه الأشياء كلها والعرش قائما بذاته ثم خلق الأشياء من غير حاجة إليها بل إظهارا لقدرته وحكمته وليعرف وجوده وتوحيده وكمال قدرته وعلمه بكل أفعاله المحكمة وخلق لنفسه عرشا استوى عليه كما شاء من غير أن صار له مماسا أو كان العرش له مكانا قيل : هو الآن على الصفة التي كان عليها من قبل أن يخلق المكان والزمان فعلى هذا القول سواء في الجواز أقعد محمد على العرش أو على الأرض لأن استواء الله تعالى على العرش ليس بمعنى الانتقال والزوال وتحويل الأحوال من القيام والقعود والحال التي تشغل العرش بل هو مستو على عرشه "صفحة رقم 312" كما أخبر عن نفسه بلا كيف وليس إقعاده محمدا على العرش موجبا له صفة الربوبية أو مخرجا له عن صفة العبودية بل هو رفع لمحله وتشريف له على خلقه وأما قوله في الأخبار : ) معه ) فهو بمنزلة قوله : إن الذين عند ربك ورب بن لي عندك بيتا في الجنة وإن الله لمع المحسنين العنكبوت ونحو ذلك كل ذلك عائد إلى الرتبة والمنزلة والحظوة والدرجة الرفيعة لا إلى المكان الرابع إخراجه من النار بشفاعته من يخرج قاله جابر بن عبد الله ذكره مسلم وقد ذكرناه في [ كتاب التذكرة ] والله الموفق السادسة اختلف العلماء في كون القيام بالليل سببا للمقام المحمود على قولين : أحدهما أن الباريء تعالى يجعل ما شاء من فعله سببا لفضله من غير معرفة بوجه الحكمة فيه أو بمعرفة وجه الحكمة الثاني أن قيام الليل فيه الخلوة مع الباريء والمناجاة دون الناس فأعطى الخلوة به ومناجاته في قيامه وهو المقام المحمود ويتفاضل فيه الخلق بحسب درجاتهم فأجلهم فيه درجة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه يعطى ما لا يعطى أحد ويشفع ما لا يشفع أحد وعسى من الله عز وجل واجبة ومقاما نصب على الظرف أي في مقام أو إلى مقام وذكر الطبري عن أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ) المقام المحمود هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي ) فالمقام الموضع الذي يقوم فيه الإنسان للأمور الجليلة كالمقامات بين يدي الملوك الإسراء : ) 80 ( وقل رب أدخلني . . . . . ) الاسراء 80 ( قيل : المعنى أمتني إماتة صدق وابعثني يوم القيامة مبعث صدق ليتصل بقوله : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا كأنه لما وعده ذلك أمره أن يدعو لينجز له "صفحة رقم 313" الوعد وقيل : أدخلني في المأمور وأخرجني من المنهي وقيل : علمه ما يدعو به في صلاته وغيرها من إخراجه من بين المشركين وإدخاله موضع الأمن فأخرجه من مكة وصيره إلى المدينة وهذا المعنى رواه الترمذي عن بن عباس قال : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بمكة ثم أمر بالهجرة فنزلت وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا قال : هذا حديث حسن صحيح وقال الضحاك : هو خروجه من مكة ودخوله مكة يوم الفتح آمنا أبو سهل : حين رجع من تبوك وقد قال المنافقون : ليخرجن الأعز منها الأذل المنافقون يعني إدخال عز وإخراج نصر إلى مكة وقيل : المعنى أدخلني في الأمر الذي أكرمتني به من النبوة مدخل صدق وأخرجني منه مخرج صدق إذا أمتني قال معناه مجاهد والمدخل والمخرج [ بضم الميم ] بمعنى الإدخال والإخراج كقوله : أنزلني منزلا مباركا المؤمنون أي إنزالا لا أرى فيه ما أكره وهي قراءة العامة وقرأ الحسن وأبو العالية ونصر بن عاصم مدخل ومخرج بفتح الميمين بمعنى الدخول والخروج فالأول رباعي وهذا ثلاثي وقال بن عباس : أدخلني القبر مدخل صدق عند الموت وأخرجني مخرج صدق عند البعث وقيل : أدخلني حيثما أدخلتني بالصدق وأخرجني بالصدق أي لا تجعلني ممن يدخل بوجه ويخرج بوجه فإن ذا الوجهين لا يكون وجيها عندك وقيل : الآية عامة في كل ما يتناول من الأمور ويحاول من الأسفار والأعمال وينتظر من تصرف المقادير في الموت والحياة فهي دعاء ومعناه : رب أصلح لي وردي في كل الأمور وصدري وقوله : ) واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا ( قال الشعبي وعكرمة : أي حجة ثابتة وذهب الحسن إلى أنه العز والنصر وإظهار دينه على الدين كله قال : فوعده الله لينزعن ملك فارس والروم وغيرها فيجعله له الإسراء : ) 81 ( وقل جاء الحق . . . . . ) الاسراء 81 ( "صفحة رقم 314" فيه ثلاث مسائل : الأولى روى البخاري والترمذي عن بن مسعود قال : دخل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مكة عام الفتح وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نصبا فجعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يطعنها بمخصرة في يده وربما قال بعود ويقول : ) جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد ) لفظ الترمذي وقال : هذا حديث حسن صحيح وكذا في حديث مسلم نصبا وفي رواية صنما قال علماؤنا : إنما كانت بهذا العدد لأنهم كانوا يعظمون في يوم صنما ويخصون أعظمها بيومين وقوله : ) فجعل يطعنها بعود في يده ) يقال : إنها كانت مثبتة بالرصاص وأنه كلما طعن منها صنما في وجهه خر لقفاه أو في قفاه خر لوجهه وكان يقول : ) جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ) حكاه أبو عمر والقاضي عياض وقال القشيري : فما بقي منها صنم إلا خر لوجهه ثم أمر بها فكسرت الثانية في هذه الآية دليل على كسر نصب المشركين وجميع الأوثان إذا غلب عليهم ويدخل بالمعنى كسر آلة الباطل كله وما لا يصلح إلا لمعصية الله كالطنابير والعيدان والمزامير التي لا معنى لها إلا اللهو بها عن ذكر الله تعالى قال بن المنذر : وفي معنى الأصنام الصور المتخذة من المدر والخشب وشبهها وكل ما يتخذه الناس مما لا منفعة فيه إلا اللهو المنهي عنه ولا يجوز بيع شيء منه إلا الأصنام التي تكون من الذهب والفضة والحديد والرصاص إذا غيرت عما هي عليه وصارت نقرا أو قطعا فيجوز بيعها والشراء بها قال المهلب : وما كسر من آلات الباطل وكان في حبسها بعد كسرها منفعة فصاحبها أولى بها مكسورة إلا أن يرى الإمام حرقها بالنار على معنى التشديد والعقوبة في المال وقد تقدم حرق بن عمر رضي الله عنه وقد هم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بتحريق دور من تخلف عن صلاة الجماعة وهذا أصل في العقوبة في المال مع قوله عليه السلام في الناقة التي لعنتها صاحبتها "صفحة رقم 315" ) دعوها فإنها ملعونة ) فأزال ملكها عنها تأديبا لصاحبتها وعقوبة لها فيما دعت عليه بما دعت به وقد أراق عمر بن الخطاب رضي الله عنه لبنا شيب بماء على صاحبه الثالثة ماذكرنا من تفسير الآية ينظر إلى قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ) والله لينزلن عيسى بن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها ) الحديث خرجه الصحيحان ومن هذا الباب هتك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الستر الذي فيه الصور وذلك أيضا دليل على إفساد الصور وآلات الملاهي كما ذكرنا وهذا كله يحظر المنع من اتخاذها ويوجب التغيير على صاحبها إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم : أحيوا ما خلقتم وحسبك وسيأتي هذا المعنى في النمل إن شاء الله تعالى قوله تعالى : ) وقل جاء الحق ( أي الإسلام وقيل : القرآن قاله مجاهد وقيل : الجهاد ) وزهق الباطل ( قيل الشرك وقيل الشيطان قاله مجاهد والصواب تعميم اللفظ بالغاية الممكنة فيكون التفسير جاء الشرع بجميع ما انطوى فيه وزهق الباطل : بطل الباطل ومن هذا زهوق النفس وهو بطلانها يقال زهقت نفسه تزهق زهوقا وأزهقتها ) إن الباطل كان زهوقا ( أي لا بقاء له والحق الذي يثبت الإسراء : ) 82 ( وننزل من القرآن . . . . . ) الاسراء 82 ( فيه سبع مسائل : الأولى قوله تعالى : ) وننزل ( قرأ الجمهور بالنون وقرأ مجاهد وينزل بالياء خفيفة ورواها المروزي عن حفص ومن لابتداء الغاية ويصح أن تكون لبيان الجنس كأنه قال : وننزل ما فيه شفاء من القرآن وفي الخبر ) من لم يستشف بالقرآن ![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 15 ( الأعضاء 1 والزوار 14) | |
ابوالوليد المسلم |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |