موسوعة الشفاء للإعجاز العلمي فى القران والسنه .. بالإضافه الى اخر المقالات المنشوره - الصفحة 68 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         الأمثال في القرآن ...فى ايام وليالى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 654 )           »          فقه الصيام - من كتاب المغنى-لابن قدامة المقدسى يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 923 )           »          دروس شَهْر رَمضان (ثلاثون درسا)---- تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 1087 )           »          أسرتي الرمضانية .. كيف أرعاها ؟.....تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 849 )           »          صحتك فى شهر رمضان ...........يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 834 )           »          اعظم شخصيات التاريخ الاسلامي ____ يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 914 )           »          فتاوى رمضانية ***متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 564 - عددالزوار : 92789 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 11935 - عددالزوار : 190995 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 114 - عددالزوار : 56912 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 78 - عددالزوار : 26184 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > الملتقى العلمي والثقافي

الملتقى العلمي والثقافي قسم يختص بكل النظريات والدراسات الاعجازية والثقافية والعلمية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #671  
قديم 23-06-2008, 09:49 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً


الصبر في اللغة معناه: حبس النفس وتثبيتها، وضدُّه: الجزع. قال تعالى:﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾(الكهف:28). أي: احبسها وثبتها. وهو نوعان: صبر على المكروه، وصبر عن المحبوب. والأول يعدَّى إلى المفعول بـ{ على }، والثاني بـ{عن }. تقول: صبرت على ما أكره. وصبرت عمَّا أحب. والأول هو الأكثر استعمالاً، ومنه قوله تعالى:﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً﴾(المزّمِّل:10).
وقال تعالى في مدح الصابرين:﴿ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ (البقرة:177).وقال تعالى:﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾(الزمر:10).
وقول لقمان يوصي ابنه:﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾(لقمان:17) هو أمر بالصبر على ما يصيبه من المحن جميعها دون تخصيص. وقوله:﴿ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ إشارة إلى ما تقدم، ممَّا نهاه عنه، وأمره به، ويدخل فيه الأمر بالصبر على المحن كلها.
وأما قوله تعالى:﴿ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾(الشورى:43) فهو حثٌّ على الصبر على المكروه، والمغفرة لمن تسبب فيه، وأكَّد ذلك بقوله:﴿ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾. أي: إن الصبر على أذى الغير، والمغفرة لمن عزم الأمور؛ كقوله تعالى:﴿وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى(البقرة:237). وقوله تعالى:﴿وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾(الشورى:40). وهذا إذا كان الجاني نادمًا مقلعًا. أما إذا كان الجاني مصرًّا على البغي، فالأفضل الانتصار منه، بدليل الآية قبلها، وهي قوله تعالى:﴿ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ(الشورى:41)؛ فإن هذا يقتضي إباحة الانتصار من الجاني.
وقيل: سَبَّ رجلٌ آخرَ في مجلس الحسن، فكان المسبوبُ يكظم ويعرق، ويمسح العرق، ثم قام فتلا الآية:﴿ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾، فقال الحسن: عَقِلَها، والله، وفهمها! لِمَ هذه ضيَّعها الجاهلون ؟!
وأما { اللام } في قوله تعالى:﴿ وَلَمَنِ انتَصَرَ ﴾(الشورى:41)، وقوله تعالى:﴿ وَلَمَن صَبَرَ ﴾(الشورى:43)فهي مثل { اللام }، التي في قوله تعالى:﴿لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ(آل عمران:157).وقوله تعالى:﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾(البقرة:103).
ويجوز في هذه { اللام } أن تكون الموطِّئة لقسم محذوف، و{ مَنْ } شرطية، وجواب القسم في الأول قوله تعالى:﴿ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ(الشورى:41)، وفي الثاني قوله تعالى:﴿ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾. وجواب الشرط محذوف، لدلالة جواب القسم عليه.
ويجوز أن تكون { اللام } لام الابتداء،و{ مَنْ } موصولة في موضع المبتدأ، والخبر في الأول قوله تعالى:﴿ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ ، وفي الثاني قوله تعالى:﴿ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾. والإشارة بـ{ ذلك } إلى ما يفهم من مصدر{ صبر وغفر }، والعائد على الموصول المبتدأ من الخبر محذوف. أي: إن ذلك منه { لمن عزم الأمور }، لدلالة المعنى عليه.
وخبر الموصول يجوز اقترانه بـ{ الفاء }، لشبهه بالشرط في دلالته على الإبهام. ويجوز عدم اقترانه بها. والفرق بين الموضعين: أنك إذا قلت:{مَنْ يأتيني فله درهم }، استحق الدرهم بمجرد إتيانه. وذلك بخلاف قولك:{مَنْ يأتيني إن له درهمًا }.
فإذا تأملت ذلك، تبيَّن لك أنه لا وجه للمقارنة بين قوله تعالى:﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾(لقمان:17)، وقوله تعالى:﴿ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾(الشورى:43)؛ لأن الأول أمرٌ بالصبر على المصائب، والثاني حثٌّ على الصبر عليها، وكلاهما من عزم الأمور.. قال تعالى:﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾(الأحقاف:35). فالصبر في الآيتين صبر واحد.. وإذا كانت الآية الثانية قد أكِّدت بـ{ إن }، وبـ{اللام }،دون الآية الأولى، فلأنها جمعت بين الصبر، والمغفرة؛ ولأنها جاءت مؤكَّدة بـ{ اللام } في أولها:{ لَمَنْ صَبَرَ وغَفَرَ }. ونحو ذلك قوله تعالى:﴿إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾(المنافقون:1).
ومن المعلوم في علم البلاغة أن للمخاطب ثلاث حالات عندما يُلقَى إليه خبرٌ مَّا:
أولها: أن يكون خالي الذهن من الحكم. وفي هذه الحالة يلقَى إليه الخبر خاليًا من التوكيد. ويسمى هذا الضرب من الخبر ابتدائيًا.
وثانيها: أن يكون مترددًا في الحكم، طالبًا أن يصل إلى اليقين في معرفته. وفي هذه الحالة يحسن توكيده له، ليتمكن من نفسه. ويسمى هذا الضرب طلبيًّا.
وثالثها: أن يكون منكرًا له. وفي هذه الحالة يجب أن يؤكد الخبر بمؤكِّد، أو أكثرَ، على حسب إنكاره قوةً وضعفًا. ويسمى هذا الضرب إنكاريًا.
ومثال الحالة الأولى قولك للمؤمن: محمد رسول الله .. ومثال الحالة الثانية قولك للمتردد في إيمانه: إن محمدًا رسول الله.. ومثال الحالة الثالثة قولك للمنكر الخالي من الإيمان: إن محمدًا لرسول الله.. واللهإن محمدًا لرسول الله.
وعلى الحالة الثانية يقاس قوله تعالى:﴿ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾(لقمان:17).. وعلى الحالة الثالثة يقاس قوله تعالى:﴿إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾(الشورى:43).
هذا ما أردت توضيحه وبيانه والله الهادي سواء السبيل !
الأستاذ: محمد إسماعيل عتوك
الباحث
في الإعجاز اللغوي والبياني للقرآن
[email protected]

  #672  
قديم 23-06-2008, 09:50 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يـريـدون أن يطفئـوا نـور الله. لمسات بيانية وإعجاز غيبي


بقلم: حسـن يوسـف شهـاب الديـن
أستــاذ فيــزياء
أخي القارئ: ما أَكثر الحروب الإعلامية التي تُشنُّ لتشويه الإسلامِ ورموزهِ الحيَّة، من بعض كبار المشاهير في أميركا والعالم الغربي، الذين رأوا في مَنهجِ وتشريع هذا الدين القويم خطراً كبيراً عليهم، فما كان منهم إلا أن يرفعوا رايات التشويه والإساءة حفاظاً على علاقة العداء وتمكيناً للحقد المتملك من قلوبهم وأفئدتهم، ليواصلوا ما بدأه أسلافهم منذ بدء الرسالة التي حملها نبي الرحمة والعدالة محمد صلى الله عليه وسلم، النبي الذي جاء مصدقاً لما معهم من الكتاب، فكان الخطر الذي يحوم حول مصالحهم، ويكبح طموحهم.
قال الله سبحانه وتعالى:
﴿ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ {32} هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ {33}﴾. [ التوبة].
وقال الله عزَّ وجل: ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ {8} هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ {9}﴾ [الصف].
لمســات فـي الإعجـاز البيـانـي
استخدام الفعل (يطفئ) دون الفعل (يخمد).
قال الله تعالى: ﴿ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ ﴾.
الإطفاء هو الإخماد، وكلاهما يستعملان في النار، وفيما يجري مجراها من الضياء والظهور.
ولكن العرب تفرق بين الإطفاء والإخماد بأن:
الإطفاء يستعمل في القليل والكثير، والإخماد إنما يستعمل في الكثير دون القليل.[2].
ومنه فإنَّ الكفار يريدون إبطال ما استطاعوا من الحق الذي جاء به نبي الرحمة قليلاً كان أم كثير، بغض النظر عن كمية الحقائق التي يحاولون طمسها، وهذا يدل على رضاهم بالقليل لما تحمل قلوبهم من غيظٍ وحقدٍ وغلّ.
الفرق بين " أن يطفئوا " و " ليطفئوا ".
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ ﴾.
يقصد الكفار إطفاء نور الله تعالى مباشرة، وإرادتهم متوجهة إلى الغاية (الهدف) بشكل مباشر، بعد إعداد الوسائل واتباع الطرق التي من خلالها يمكن الوصول إلى غايتهم بحسب تصورهم، فطلبهم هنا الغاية.
أما في قول الله عزَّ وجل: ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا ﴾.
يقصدون أمراً يتوصلون به إلى إطفاء نور الله، فهم يريدون إعداد الوسائل التمهيدية والطرق المناسبة التي تضمن الوصول لغايتهم، والمعنى هنا طلب الوسيلة. [3].
استخدام كلمة الكافرون دون المشركون
قال الله تعالى: ﴿ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾.
إن: أصل الكفر في كلام العرب: الستر والتغطية، ومنه قول الله تعالى: ﴿ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ﴾ [الحديد {20}]. {الكافر: الزارع الذي يغطي الحب بالتراب ليستره}.
فالكفار يخفون الشيء بعد معرفتهم به، وهذا مَثَلُ (أهل الكتاب) الذين أخفوا الكتاب وكتموا الحق بعد إذ جاءهم فهم يعرفون رسول الله كما يعرفون أبنائهم.
أما الشرك فهو من المشاركة: وقيل هو أن يوجد شيء لاثنين أو أكثر، وشرك الإنسان في الدين: إثباته شريك لله تعالى. وفرق الفقهاء بين الشرك والكفر، فالشرك يكون من الناس الذين جعلوا لله أنداداً، دون أن يكون لهم كتاب، أما الكفر فيكون من أهل الكتاب،
معتمدين بذلك على قول الله سبحانه وتعالى: ﴿ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ {105}﴾ [البقرة]. حيث نجد في الآية الكريمة السابقة إفراد المشركين عن أهل الكتاب، فالمشركون (الوثنيون) لم يكونوا يعلموا بظهور نبي الإسلام، وكانوا يحاربوه لأنه صغرَّ آلهتهم وجاء بأمرٍ معارضٍ لمصالحهم، فكانوا السند والعون لأهل الكتاب في حربهم على الإسلام لأن غايتهم واحدة، بالرغم من اختلاف سبب الحقد والعداء. [4].
الإعجــاز الغيبـــي
استخدام صيغة المضارع
ورد في الآية الكريمة أربعة أفعال كلها بصيغة المضارع، وهي على الترتيب: (يريدون)، (يطفئوا)، (يأبى)، (يتم). والفعل بصيغة المضارع يدل على الحال والاستقبال (الاستمرار).
استخدام الحرف " أن" بعد الفعل " يريد ".
بعض الأفعال في اللغة العربية لا يجوز أن تقع في زمن الماضي، لأنها تفيد الاستقبال، مثل فعلي " أمرت " و" أردت ". فلا يجوز أن تقول: أمرتك أن قمت، ولا أردت أن قمت.
واعتمد العلماء على هذا القول من استخدام الحرف "أن" التي يمكن أن تكون مع الماضي في غير "أردت" و "أمرت"، وذكروا لها معنى الاستقبال بما لا يكون معه ماض من الأفعال بحال.
ومنه عندما يأتي الحرف "أن" بعد الفعل " يريد " فإن الاستقبال يكون من وجهتين:
الأولى: من الفعل نفسه لأنه بزمن المضارع.
والثاني: في دخول الحرف "أن" الذي يفيد مع الفعل "يريد" زمن المستقبل.
"ويأبى الله إلا أن يتم نوره".
الإباء: شدة الامتناع، فكل إباء امتناع وليس كل امتناع إباء.
ولكن كيف دخلت "إلا" والكلام ليس فيه حرف نفي؟ مع العلم أن العرب لا تقول "ضربت إلا زيداً ". والجواب أن العرب تحذف حرف النفي مع الفعل " أبى ". والتقدير: ويأبى الله كل شيء إلا أن يتم نوره، وقد تمَّ وانتشر وظهر في كل أصقاع المعمورة ولله الحمد، وهذا مصداق قول الله سبحانه وتعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ {33}﴾.[التوبة].{5}.
الخلاصـــــــة:
يريد الكفار أن يطفئوا نور الله بأفواههم: وهنا لا يقتصر القول فقط على الحملات التي شنها الكفار الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلموشهدوا ما شهدوا من المعجزات التي لا تقبل الشك أبداً بأنه نبي مرسل، بل تتعدى ذلك الزمن إلى يومنا هذا ليقوم أعداء الدين بمحاربته وتشويه سمعته والنيل من أحكامه عبر وسائل الإعلام والمؤتمرات والندوات، وستستمر إلى يوم القيامة، وهنا يكمن إعجاز القرآن الكريم الكتاب الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلمعندما أخبرنا عن أمور غيبية نشهدها اليوم بعد مرور أربعة عشر قرناً من البعثة، وذلك من خلال استخدام صيغة الفعل بالمضارع ليدل على الحال (زمن النبوة)، والاستقبال (الاستمرار) إلى عصرنا الحالي.
وختاماً إلـــــــى:
كل من يدين بدين الإسلام وترخص روحه لنصرة نبي الرحمة والعدالة والسلام.
انصروا حبيبكم وقرة أعينكم، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، من خلال اتباع سنته الشريفة، والتخلق بأخلاقه العظيمة والعمل بمضمون آيات القرآن الكريمة.
والله وحــده الموفـق.
أرجو الدعاء لوالــديَّ
للمراسلة: [email protected]
المراجــــــع:
1 – القرآن الكريم.
2 – مفردات ألفاظ القرآن. للأصفهاني كتاب الطاء.
وجامع البيان عن تأويل آي القرآن. للإمام الطبري، ج 5، تفسير الآية 26 من سورة النساء.
3- درة التنزيل للإسكافي ص 195.
4– مفردات ألفاظ القرآن الكريم، كتاب الشين.
5– جامع البيان عن تأويل آي القرآن. للإمام الطبري، ج 5، تفسير الآية 26 من سورة النساء.
  #673  
قديم 23-06-2008, 09:51 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

البلاغة في القرآن الكريم - قل سيروا في الأرض


الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله
قال تعالى : ( قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [الأنعام : 11] .. لماذا لم يقل الله : قل سيروا على الأرض .. هل أنا أسير في الأرض .. أو على الأرض .. حسب مفهوم الناس جميعا .. فأنا أسير على الأرض .. ولكننا نجد أن الله قد استخدم كلمة في .. ولم يستخدم كلمة على .. يقول : سيروا في الأرض ( ففي ) تقتضي الظرفية .. والمعنى يتسع لأن الأرض ظرف المشي .. ومن هنا فإن التعبير جائز .. ولكن ليس في القرآن كلمة جائز .. فالتعبير بقدر المعنى تماما .. والحرف الواحد يغير المعنى وله هدف .. وقد تم تغييره لحكمة لكن ما هي حكمة استخدام حرف ( في ) بدل من حرف ( على ) .. ؟ عندما تقدم العلم وتفتح وكشف الله أسرار الأرض وأسرار الكون .. عرفنا أن الأرض ليس مدلولها المادي فقط .. أي أنها ليست الماء والأرض .. أو الكرة الأرضية وحدها .. ولكن الأرض هي بغلافها الجوي .. فالغلاف الجوي جزء من الأرض يدور معها ويلازمها .. ومكمل للحياة عليها .. وسكان الأرض يستخدمون الخواص التي وضعها الله في الغلاف الجوي في اكتشافاتهم العلمية .. والدليل على ذلك أنك إذا ركبت الطائرة فإنها ترتفع بك 30 ألف قدم مثلا عن سطح الأرض .. ولكنك تقول أنت تطير في الأرض .. متى تخرج من الأرض علميا وحقيقة .. عندما تخرج من الغلاف الجوي للكرة الأرضية مادمت أن في الغلاف الجوي المحيط بالكرة الأرضية .. فأنت في الأرض .. وليست خارج الأرض .. فإذا خرجت من الغلاف الجوي .. فأنت في هذه اللحظة التي تخرج فيها خارج الأرض .. الغلاف الجوي متمم للأرض .. وجزء منها .. ويدور معها نعود إلى الآية الكريمة ونقول : لماذا استخدم الله سبحانه وتعالى لفظ في ولم يستخدم لفظ على .. ؟ لأنك في الحقيقة تسير في الأرض .. وليس على الأرض .. هذه حقيقة علمية لم يكن يدركها العالم وقت نزول القرآن .. ولكن الله سبحانه وتعالى هو القائل .. وهو الخالق يعرف أسرار كونه .. يعلم أن الإنسان يسير في الأرض .. أنه يسير على سطح الأرض .. ومن هنا فهو يسير في الأرض التي هي جزء آخر .. وهكذا نجد دقة التعبير في القرآن في حرف .. ونجد معجزة القرآن في حرف
  #674  
قديم 23-06-2008, 10:08 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

الفرق بين الرؤية والإدراك


أولاً- الرؤية هي إدراك المرئي من الجهة المقابلة، وتكون مع العلم، خلافًا للنظر؛ لأنه يقال: نظرت، فلم أر شيئًا. ولا يقال ذلك في: رأيت.والأصل في الرؤية أن تكون بالحاسة؛ نحو قوله تعالى:﴿ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (التكاثر:5 - 7). وقد تكون بالوهْم والتخيُّل؛ نحو قوله تعالى:﴿ وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ (الأنعام:27). وقد تكون بالتفكُّر؛ نحو قوله تعالى:﴿ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ (الأنفال:48). وقد تكون بالفؤاد؛ نحو قوله تعالى:﴿ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾(النجم:11). أما الرؤية في نحو قوله تعالى:﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ﴾(الإسراء:99) فهي من رؤية البصر. وقد يتعُدَّى فعل الرؤية بـ{ إلى }، فيقتضي معنى النظر المؤدي إلى الاعتبار؛ كما في قوله تعالى:﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ﴾(الملك:19).
ثانيًا- أما الإدراك فهو بلوغ أقصى الشئ. ويقال: أدرك الصبيُّ، إذا بلغ غاية الصبا؛ وذلك حين البلوغ. وقوله تعالى:﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ(يونس:90) يعني: أنه الغرق قد أحاط به من جميع الجهات. وقوله تعالى:﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ (الأنعام:103). يعني: أن الأبصار لا يمكنها أن تحيط به سبحانه. ومنهم من حمله على رؤية البصيرة، وذكر أنه قد نبَّه به على ما روي عن أبى بكر- رضى الله عنه- في قوله:يا من غاية معرفته القصور عن معرفته؛ إذ كان غاية معرفته تعالى أن تعرف الأشياء، فتعلم أنه ليس بشيء منها، ولا بمثلها؛ بل هو مُوجِدٌ كلَّ ما أدركته.
ومثل قوله تعالى:﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ﴾(الأنعام:103) في نفي الإدراك على سبيل الاستغراق والشمول قوله تعالى:﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً(طه:110) في نفي الإحاطة. قال الرازي: وذلك يدل على كونه تعالى منزَّهًا عن المقدار والشكل والصورة، وإلا لكان الإدراك والعلم محيطين به؛ وذلك على خلاف هذين النصَّين. فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنه، وإن كان جسمًا، لكنه جسم كبير؛ فلهذا المعنى لا يحيط به الإدراك والعلم ؟ قلنا: لو كان الأمر كذلك، لصح أن يقال بأن علوم الخلق وأبصارهم لا تحيط بالسموات ولا بالجبال ولا بالبحار ولا بالمفاوز؛ فإن هذه الأشياء أجسام كبيرة، والأبصار لا تحيط بأطرافها، والعلوم لا تصل إلى تمام أجزائها. ولو كان الأمر كذلك، لما كان في تخصيص ذات الله تعالى بهذا الوصف فائدة .
ثالثًا- ولما كانت الرؤية تعني إدراك المرئي من الجهة المقابلة، سأل موسى عليه السلام ربه الرؤية، فقال:﴿رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ(الأعراف: 143). ولما كانت رؤيته سبحانه غير جائزة في الدنيا، أجابه تعالى بقوله:﴿ لَن تَرَانِي، فأتى بفعل الرؤية منفيًّا بـ{ لن }، التي تدل على قصر النفي، بخلاف النفي بـ{ لا }، التي تدل على طول النفي وامتداده. فدل ذلك على أن رؤيته تعالى ممتنعة في الدنيا، جائزة في الآخرة، خلافًا للمعتزلة، الذين احتجوا بقوله تعالى:﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ(الأنعام:103) على عدم جواز رؤيته سبحانه في الآخرة. والآية حجة عليهم، لا لهم؛ لأن الإدراك إما أن يراد به: مطلق الرؤية. أو يراد به: الرؤية المقيدة بالإحاطة. والأول باطل؛ لأنه ليس كل من رأى شيئًا، يقال: إنه أدركه؛ كما لا يقال: أحاط به. وقد سُئِل ابن عباس رضي الله عنهما عن ذلك، فقال: ألست ترى السماء ؟ قال: بلى. قال: أكلها ترى ؟ قال: لا. .
ومن رأى جوانب الجيش أو الجبل أو البستان أو المدينة، لا يقال: إنه أدركها؛ وإنما يقال: أدركها، إذا أحاط بها رؤية. فثبت بذلك أن الإدراك في لغة العرب ليس مرادفًا للرؤية، وأنه ليس كل من رأى شيئًا، يقال في لغتهم: إنه أدركه. وكيف يقال بترادف اللفظين، وبين لفظ الرؤية، ولفظ الإدراك عموم وخصوص. أو اشتراك لفظي، فقد تقع رؤية بلا إدراك، وقد يقع إدراك بلا رؤية؛ فإن الإدراك يستعمل في إدراك العلم، وإدراك القدرة، فقد يدرك الشيء بالقدرة، وإن لم يشاهد؛ كالأعمى الذي طلب رجلاً هاربًا منه، فأدركه، ولم يره. وقد قال تعالى:﴿ فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ* قََالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (الشعراء:61-62)، فنفى موسى- عليه السلام- الإدراك مع إثبات الترائي، فعُلِم أنه قد يكون رؤية بلا إدراك. والإدراك هنا هو إدراك القدرة. أي: إنا لملحقون، محاط بنا. وإذا انتفى هذا الإدراك، فقد تنتفي إحاطة البصر أيضًا.
ومما يبين ذلك أن الله تعالى ذكر قوله:﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ (الأنعام:103)، يمدح به نفسه سبحانه وتعالى. ومعلوم أن كون الشيء لا يرى، ليس بصفة مدح؛ لأن النفي المحض لا يكون مدحًا، إن لم يتضمَّن أمرًا ثبوتيًّا؛ ولأن المعدوم أيضًا لا يرى. والمعدوم لا يمدح، فعلم أن مجرد نفي الرؤية لا مدح فيه. وهذا أصل مستمر، وهو أن العدم المحض، الذي لا يتضمن ثبوتًا، لا مدح فيه، ولا كمال، فلا يمدح الرب جل وعلا نفسه به. بل ولا يصف تعالى نفسه به؛ وإنما يصفها بالنفي المتضمِّن معنى ثبوتٍ؛ كقوله تعالى:﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ﴾(الكهف: 49) مستلزم لثبوت صفة عدله، ومتضمِّن لكمالها. وقوله تعالى:﴿لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ(البقرة: 255)مستلزم لثبوت صفة حياته وقيوميته، ومتضمِّن لكمالهما. وقوله تعالى:﴿ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء(البقرة: 255)مستلزم لثبوت علمه، ومتضمِّن لكماله، وكذلك قوله تعالى:﴿ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ﴾(سبأ: 3).. وهكذا كل نفي يأتي في صفات الله تعالى في القرآن والسنة؛ إنما هو لثبوت كمال ضده، سبحانه وتعالى !
الأستاذ: محمد إسماعيل عتوك
الباحث
في الإعجاز اللغوي والبياني للقرآن
[email protected]
  #675  
قديم 23-06-2008, 10:14 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ






صورة مكبرة لذرة الهليوم بواسطة المجهر الإلكتروني

قال الله تعالى:﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾(يونس: 61)
وقال جل جلاله:﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾(سبأ: 3)
أولاً-الآية الأولى من هاتين الآيتين الكريمتين هي خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وهو شامل لأهل الأرض جميعهم في كل زمان ومكان. وسياقها في تقرير الوحي، وإلزام المنكرين له من المشركين بالدليل العقلي. ومناسبتها لما قبلها أن الله تعالى، لما ذكر جملة من أحوال الكفار ومذاهبهم، والردعليهم ومحاورة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، وذكر فضله تعالى على الناس،وأن أكثرهم لا يشكره على فضله، أخبر سبحانه عن عظيم اطلاعه على الخواطر، وما يجري في الضمائر، فذكر اطلاعه على أحوالهم، وحال الرسول صلى الله عليه وسلم معهم في مجاهدته لهم، وتلاوة القرآن عليهم، وأنه تعالى شاهد على جميع أعمالهم، لا يخفى عليه جل شأنه خاطر، ولا ضمير، ولا يغيب عنه عمل من الأعمال. ثم أخبر جل وعلا عن سلطان علمه الواسع لكل شيء، وإحاطته بكل شيء، على سبيل الاستغراق والشمول، مقرِّرًا بذلك سبحانه أن كل شيء في الأرض والسماء صغر أو كبر، لا يخرج عن دائرة علمه، خاضع لرقابته، محفوظ برعايته.
وأما الآية الثانية فتحكي إنكار الذين كفروا للساعة، وكفرهم بنعمة الآخرة، وردَّ الله تعالى عليهم بتوكيد مجيئها. وكان النبي صلى الله عليه وسلم، قد أخبرهم عن وقوع البعث، فأنكروه، ونفوه بقولهم:﴿لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ﴾،على سبيل القطع والجزم، مع جهلهم بالغيب؛ لأن البعث كان عندهم من المحال، فجاء الرد عليهمقويًا بقوله تعالى:﴿قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ﴾، وهو تأكيد لإتيان الساعة على أتم الوجوه وأكملها.وجاء القسم بالرب جل وعلا، للإشارة إلى أن إتيان الساعة من شؤون الربوبية، وأتى به مضافًا إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليدل على شدة القسم. ثم عقَّب سبحانه على ذلك بقوله:﴿ عَالِمِ الْغَيْبِ ﴾؛ ليعلم الناس جميعًا أن إتيان الساعة من الغيب، الذي تفرَّد به الله، الذي يعلم ببواطن الأمور دقيقها وجليلها؛ وكأنه قيل: وربي العالم بوقت قيامها، لتأتينكم، وأكد سبحانه ذلك زيادة تأكيد بأن علمه جل وعلا محيط بجميع الأشياء من الكليات والجزئياتعلى سبيل الاستغراق والشمول؛ وذلك لأنه سبحانه، إذا كان عالمًا بجميع الأشياء، فعلمه بأجزاء الأحياء، وقدرته على جمعها من باب أولى.
ويتضح مما تقدَّم أن الغرض من نفي العزوب عن الله جل وعلا في الآيتين هو إقامة الدليل على أن علم الله تعالى محيط بكل شيء من الكليات والجزئيات، على سبيل الاستغراق والشمول، وأنه ما من شيء في هذا الكون إلا وواقع في دائرة علمه، خاضع لرقابته، محفوظ برعايته سبحانه. وقد جاء ذلك موضحًا في آيات أخرى؛ كقوله تعالى:
﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ،﴿وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ،﴿لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴾، سبحانه وتعالى!
ثانيًا-وقرأ الجمهور:﴿ يَعْزُبُ ﴾، في الآيتين، بضم الزاي فيهما، وقرأ الكسائي:﴿ يَعْزِبُ ﴾، بكسر الزاي، وهما لغتان. يقال:{عزَب الشيء يعزُب،ويعزِب }، مثل:{عكَف يعكُف، ويعكِف }. ومعناه، على قراءة الضم: يعزُب عزوبًا قويًّا، وعلى قراءة الكسر: يعزِب عزوبًا ضعيفًا.
وأصل العزوب: البعد مع تنحٍّ وشرود. قال ابن فارس:العين والزاء والباء أصل صحيح، يدل على تباعدٍ وتنَحٍّ. يقال: عَزَب يعزُبُ عُزُوبًا. والعَزَب: الذي لا أهلَ له. وقد عَزَبَ يَعْزُبُ عُزوبَةً.. يقال: عَزَب حلْم فلان. أي: ذهب. وأعْزَبَ الله حلْمَه. أي: أذهَبَه. والعازب من الكلأ: البَعِيد المَطْلَب.. وكلُّ شيء يفوتُك لا تَقْدِر عليه فقد عَزَب عنك .
ويقال: عزب الرجل بإبله، إذا أرسلها إلى موضع بعيد من المنزل. وسمِّي الرجل عزبًا لبعده عن الأهل، وعزب الشيء عن علمي، إذا بعد. وفي الحديث:من قرأ القرآن في أربعين يومًا، فقد عزَب .أي: بعُد عهدُه بالختمة. أي: أبطأ في تلاوته.
فعلى ذلك يكون معنى قوله تعالى:﴿ مَا يَعْزُبُ ﴾: ما يبعد ، وما يندُّ. وكذلك قوله:﴿ لَا يَعْزُبُ ﴾ معناه: لا يبعد ، ولا يندُّ. وقيل: معناهما: ما يغيب، بلغة كنانة. وقيل: ما يخفى؛ كقوله تعالى:
﴿وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ(النمل: 75)
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (آل عمران: 5)
والفرق بينهما، وبين العزوب، أن الشيء قد يكون غائبًا عنك، أو خافيًا عليك، وهو قريب منك، وليس كذلك العزوب.
ونفي ذلك كله عنه سبحانه مستلزم لثبوت علمه، ومتضمِّن لكماله. وإذا كان كذلك، فهو صفة مدح له جل وعلا. والنفي لا يكون مدحًا، إلا إذا تضمن ثبوتًا؛ وإلا فالنفي المحض لا مدح فيه.. وهكذا كل نفي يأتي في صفات الله تعالى في الكتاب والسنة إنما هو لثبوت كمال ضده؛ كقوله تعالى:﴿لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ(البقرة: 255)، فنفي أخذ السَّنَة والنوم له سبحانه مستلزم لثبوت صفة حياته وقيوميته، ومتضمِّن لكمالهما. وقوله تعالى:﴿وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ﴾(ق: 38)مستلزم لثبوت صفة قدرته، ومتضمِّن لكمالها. وقوله تعالى:﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ﴾(الكهف: 49) مستلزم لثبوت صفة عدله، ومتضمِّن لكمالها..ونظائر ذلك كثيرة.
ومثقال كل شيء ميزانه من مثله. ومثقال ذرة، أو حبة. أي: وزنهما. قال تعالى:﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍوَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا(النساء: 40).
وقال تعالى:﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًاوَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ(الأنبياء: 47)
ومن وصية لقمان لابنه قوله:﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾(لقمان: 16)
وفي الدُّرِّ المنثور للسيوطي: أخرج أحمد ومسلم عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر.
والمثقال- في الأصل- اسم آلة لما يعرف به مقدار ثِقَل الشيء، أيَّ شيء كان من قَلِيل، أو كثير. والناس يُطْلقونه في العُرف على الدّينار خاصَّة وليس كذلك. ووزنه: مِفعال، من الثِّقَل، كالمقدار من القدْر. وعبَّر سبحانه عن ذلك بالمثقال، ولم يعبر عنه بالمقدار ونحوه، للإشارة بما يفهم منه من الثقل، الذي يعبر به عن الكثرة والعظم؛ كما في قوله تعالى:﴿فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ موازينه ﴾(القارعة: 6). ويطلق المِثقال على مطلق المقدار، وهو المراد هنا. ويطلَق على المقدار المعلوم، الذي لم يختلف جاهلية وإسلامًا. وقيل هو في الشرع أربعة وعشرون قيراطًا، أخرج ذلك ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبي جعفر. قال الألوسي:والصحيح أنه لم يختلف جاهلية وإسلامًا، فقد نقل الجلال السيوطي عن الرافعي أنه قال: أجمع أهل العصر الأول على التقدير بهذا الوزن، وهو أن الدرهم ستة دوانيق، وكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، ولم يتغير المثقال في الجاهلية، ولا في الإسلام .
والذرة في قول أكثر اللغويين والمفسرين هي النملة. أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله:﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾، قال: نملة. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن ابن عباس في قوله:﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾، قال: رأس نملة خضراء.وقيل: هي بيضة النملة، التي تبدو حبيبة صغيرة بيضاء. وقيل: الذرة هي الخردلة.
وروى أبو هريرةعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:يا أيها الناس ! لا تغتروا بالله؛ فإن الله، لو كان مغفلاً شيئًا، لأغفل البعوضة، والذرة، والخردلة ، فدل على أن الذرة غير الخردلة.
وأخرج هنَّاد عن ابن عباس في قوله:﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ أنه أدخل يده في التراب ثم رفعها ثم نفخ فيها، وقال: كل من هؤلاء مثقال ذرة.
وأخرج عبد بن حميد عن جعفر بن برقان، قال: بلغنا أن عمر بن الخطاب أتاه مسكين، وفي يده عنقود من عنب، فناوله منه حبة، وقال: فيه مثاقيل ذر كثيرة.
وأخرج سعد عن عطاء بن فروخ أن سعد بن مالك أتاه سائل، وبين يديه طبق عليه تمر، فأعطاه تمرة، فقبض السائل يده، فقال سعد: ويحك ! تقبل الله منا مثقال الذرة والخردلة، وكم في هذه من مثاقيل الذر !
وقد أثبت العلم أخيرًا أن الذرة هي إحدى الوحدات الأساسية، التي تساهم في بناء المادة، وأن كل شيء في هذا الكون مكوَّن من بلايين الذرات، وهي جسيمات دقيقة جدًا، يستحيل على المرء أن يراها، حتى باستخدام أقوى الميكروسكوبات.
وقد كان الاعتقاد السائد قديمًا أن الذرة هي أصغر شئ يتصور عقلُ الإنسان وجودَه من المادة، وأنه لا شئ أصغر منها حجمًا ووزنًا، وأنها غير قابلة للتجزئة، وقد ظل هذا الاعتقاد سائدًا إلى القرن التاسع عشر.وفي أوائل القرن العشرين حول كثير من علماء الطبيعة اهتمامهم إلى دراسة الذرة، وخواصِّها، وإمكانية تجزئتها، فظهر لهم أن بعض المواد، كالراديوم واليورانيوم، تتجزأ من تلقاء نفسها، وتخرج منها جسيمات ذات كهرباء موجبة تسمى:{ألفا }، وجسيمات ذات كهرباء سالبة تسمى:{بيتا }، وأشعة تسمى:{جاما }. وتبين لهم أن الذرة، تلك الشئ الضئيل، الذى لا يمكن أن يرى بالعين المجردة، مادة قابلة للتجزئة، وأنها تحتوي على الدقائق التالية: الإلكترونات، والبروتونات، والنيوترونات. وهذا ما يجعل منها قوة رهيبة، يمكن استخدامها لدمار العالم، أو عماره.
ونقرأ قوله تعالى:﴿ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ، فنجد في لفظ ﴿ أَصْغَر ﴾ تصريحًا واضحًا بإمكان تحطيم الذرة وتجزئتها. كما يشير قوله تعالى:﴿ وَلاَ فِي السَّمَاء ﴾ إلى أن خواص الذرات الموجودة في الأرض هي خواص الذرات الموجودة في الشمس والنجوم والكواكب نفسها. أي: أنها تحتوي على الأنواع، التي ذكرناها آنفًا. كل ذلك وغيره مثبت في علم الله تعالى، أو في اللوح المحفوظ، الذي اشتمل على معلومات الله تعالى.
ثالثًا- وفي قوله تعالى:﴿وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ ﴾ في الآية الأولى، وقوله تعالى:﴿ عَالِِمِِ الغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ﴾ في الآية الثانية ما يسأل عنه: لماذا جاء النفي في الجملة الأولى بـ{ مَا }، وفي الجملة الثانية بـ{ لَا } ؟ وهل من فرق بينهما ؟
ولم أر أحدًا من المفسرين، أو النحويين- قديمًا وحديثًا- تعرض للإجابة عن هذا السؤال سوى الدكتور فاضل السامرائي في كتابه:( لمسات بيانية )، ويتلخَّص بما يأتي:
أولاً- الفرق بين{ ما يعزب }، و{ لا يعزب }:
في آية يونس استخدم ( ما )، أما في سورة سبأ استخدمت ( لا )، والسبب أن في الأولى جاء سياق الكلام عن مقدار إحاطة علم الله تعالى بكل شيء، كما جاء في أول الآية:(وما تكون في شأن ). أما في الآية الثانية في سورة سبأ فالسياق في التذييل والتعقيب على الساعة.
في آية سبأ:(لا تأتينا الساعة ) نفوا شيئًا مستقبليًّا، فرد عليهم بـ( لا ): (لا يعزب)، ثم إنه أقسم بقوله:(بلى وربي)، جوابه في المضارع:( لتأتينكم )، وجوابه في النفي:(لا ).. إذناقتضى المقام كله النفي بـ( لا )، فناسبت الآية( لا ) من كل جهة: الاستقبال. والقسم المتقدم إثباته وجوابه.. أما آية يونس فالكلام ليس عن مستقبل، بل عن الحال، فناسب أن يأتي بـ( ما ).
ثانيًا- وأما عن الفرق بين{ من مثقال }، و{ مثقال }فأجاب بأن( من ) هذه هي من الزائدة الاستغراقية، التي تفيد الاستغراق والتوكيد.. وسبب مجيئها في الأولى دون الثانية: أن آية سبأ ليس الكلام فيها عن علم الغيب أصالة، الكلام في التعقيب على الساعة.. أما سورة يونس فالكلام أصلاً عن سعة علم الله عز وجل، وبيان مقدار إحاطة هذا العلم بكل شيء..وسياق إحاطة علم الله بكل شيء هو الذي يقتضي التوكيد، والإتيان بـ( من ) الاستغراقية.
هذا ملخَّص لما أجاب به الدكتور فاضل، وقد سبق أن ذكرت في الفقرة الأولى من هذا المقال أن الغرض من نفي العزوب عن الله جل وعلا في الآيتين هو إقامة الدليل على إحاطة علم الله جل وعلا بكل شيء، من الكليات والجزئيات، على سبيل الاستغراق والشمول، وأنه ما من شيء في هذا الكون إلا وواقع في دائرة علمه، خاضع لرقابته، محفوظ برعايته سبحانه. فلو كان سبب نفي العزوب في آية يونس بـ{ ما } أنها جاءت لبيان مقدار إحاطة علم الله بكل شيء، وسعة ذلك العلم، لوجب أن ينفى العزوب في آية سبأ بـ{ ما } أيضًا، كما نفي بها في آية يونس. ولوجب أن تؤكد آية سبأ بـ{ من } الاستغراقية، كما أكدت سورة يونس بها.
وإذا كان التركيز الأكبر في سورة يونس على قضية العقيدة والوحي، وإنكار المشركين له، فإن التركيز الأكبر في سورة سبأ على قضية البعث والجزاء، وعلى إحاطة علم الله تعالى وشموله، ودقتهولطفه. وتتكرر الإشارة في السورة إلى هاتين القضيتين المترابطتين بطرق منوعة، وأساليب شتى، وتظلل جو السورة كله من البدء إلى النهاية.
فعنقضية البعث والجزاء ورد قوله تعالى:﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ﴾(سبأ: 3) ، وقوله تعالى:﴿ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾(سبأ: 4)

يتبـــــــــــــــــــــــــــــع
  #676  
قديم 23-06-2008, 10:25 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبــع موضوع ... وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ
وعنقضية العلم الإلهي الشامل ورد قوله تعالى في مطلع السورة:﴿ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ﴾(سبأ: 2). وورد قوله تعالى تعقيبًا على التكذيب بمجيء الساعة:﴿عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ.. ﴾(سبأ: 3). وورد قوله قرب ختام السورة:﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴾(سبأ: 48).
فكيف يقال بعد هذا: آية سبأ ليس الكلام فيها عن علم الغيب أصالة. الكلام في التعقيب على الساعة.. أما سورة يونس فالكلام أصلًا عن سعة علم الله عز وجل، وبيان مقدار إحاطة هذا العلم بكل شيء.. فسياق إحاطة علم الله بكل شيء هو الذي يقتضي التوكيد، والإتيان بـ( من ) الاستغراقية ؟!
أليس الكلام على الساعة هو من الكلام على الغيب، والعلم بها من العلم بالغيب ؟! ألم يأت نفي العزوب في آية سبأ:﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ﴾ عقب قوله تعالى:﴿عَالِمِ الْغَيْبِ ﴾(سبأ: 3). ثم ألم تأت هذه الآية عقب قوله تعالى:﴿ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ﴾(سبأ: 2). ألا يدل ذلك كله على أن السياق في سورة سبأ هو سياق إحاطة علم الله تعالى بكل شيء، على سبيل الاستغراق والشمول ؟!
وأما القول بأن { لا } مطلقة، تكون للاستقبال، وقد تكون للحال، وأن { ما } تكون للحال، فهو قول جمهور النحاة والمفسرين. وكان الزمخشري، ومعظم المتأخرين قد نصّوا على أن { ما }، إذا دخلت على المضارع، أخلصته للحال، وأن { لا }، إذا دخلت عليه، أخلصته للاستقبال، وهو ظاهر قول سيبويه في ( باب نفي الفعل ) من كتابه: إذا قال: هو يفعل. أي: هو في حال فعل، فإنَّ نفيه: ما يفعل.وإذا قال: هو يفعل، ولم يكن الفعل واقعًا، فنفيه: لا يفعل. وإذا قال: ليفعلنَّ، فنفيه: لا يفعل؛ كأنه قال: والَّله ليفعلنَّ، فقلت: والَّله لا يفعل .
وذهب الأخفش، والمبرد، وتبعهما ابن مالك إلى أن ذلك ليس بلازم؛ بل قد يكون المنفي بـ{ لا } للحال؛ كقولهم:{جاء زيد لا يتكلم }. وعلى ذلك حملوا آيات؛ منها قول سليمان عليه السلام:﴿ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ ﴾(النمل: 20).. وذهب ابن مالك إلى أن المنفي بـ{ ما } قد يكون مستقبلاً على قلة؛ كقوله تعالى آمرًا لنبيه صلى الله عليه وسلم:﴿ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي(يونس:15).
وأجيب عن الجمهور بأنهم إنما جعلوا{ ما } مخلصة للحال، و{ لا } مخلصة للاستقبال، إذا لم يوجد قرينة غيرها، تدل على غير ذلك. وأجيب عن سيبويه بأنه إنما نبَّه إلى الأوْلى، في رأيه، والأكثر في الاستعمال.
وتحقيق القول في هذه المسألة أن بناء المضارع لا يدل بصيغته على الحال، أو الاستقبال، إذا لم يوجد معه قرينة تقيده بأحدهما، وتقصره عليه؛ وإلا فإنه يدل على الدوام والاستمرار، بلا انقطاع؛ لأنه موضوع لما هو كائن، لم ينقطع. ويستوي في ذلك المثبت، والمنفي فإذا قلت:{فلان يعطي، ويمنع }، فمعناه: أنه في حالة عطاء، ومنع دائمين مستمرين، غير منقطعين. وإذا قلت في النفي:{ما يعطي، ولا يمنع }، دل على دوام نفي العطاء والمنع واستمرارهما، بلا انقطاع. ولا فرق في ذلك بين المنفيِّ بـ{ ما }، والمنفيِّ بـ{ لا }.
تأمل قوله تعالى:﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ﴾(المدّثر: 3)، كيف نفى سبحانه العلم بجنوده عن مخلوقاته بـ{ ما }، وأثبته لنفسه سبحانه على سبيل الحصر. ثم تأمل قوله تعالى في آية أخرى:﴿ قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ﴾(النمل: 65)، كيف نفى سبحانه العلم بالغيب عن مخلوقاته بـ{ لا }، وأثبته لنفسه سبحانه على سبيل الحصر. ثم استأنف تعالى قوله:﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾(النمل: 65)، فنفى سبحانه عن الكافرين، أو معبوداتهم شعورهم بوقت بعثهم بـ{ ما }.
ولما كان بناء الماضي المثبت لا يدل بصيغته على الديمومة والاستمرار، عُدِلَ عن منفيه إلى المضارع المنفي، في نحو قوله تعالى:﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ(الأنفال: 21). أي: لا تكونوا كالذين يدَّعون السماع، وهم لا يسمعون.
قال أبو حيان: وجاءت الجملة النافية على غير لفظ المثبتة؛ إذ لم تأتِ{وهم ما سمعوا }؛ لأن لفظ المضيِّ لا يدل على استمرار الحال، ولا ديمومته، بخلاف نفي المضارع. فكما يدل إثباته على الديمومة في قولهم:{هو يعطي، ويمنع }، كذلك يجيء نفيه .
وأما قوله عقب ذلك: وجاء حرف النفي { لا }؛ لأنها أوسع في نفي المضارع من { ما }، وأدلُّ على انتفاء السماع في المستقبل فليس كما قال؛ لأن { لا }، وإن كانت أوسعَ من { ما } في نفي المضارع، وأدلَّ على انتفاء السماع في المستقبل، فإن المراد من الآية نفي السماع عنهم على الدوام والاستمرار، بلا انقطاع. وإذا كان كذلك، فليس من فرق بين نفي المضارع بـ{ ما }، وبين نفيه بـ{ لا }.
وقد كان من حقِّ النفي في قوله تعالى:﴿ وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَأن يأتي بـ{ ما }، فيقال:{وهم ما يسمعون }؛ لأنه من مواضعها، فهو جواب عن دعوى، وهو قولهم:﴿قَالُواْ سَمِعْنَا. أي: ادَّعوا السماع؛ ولكن عدل عنه إلى{ لا }؛ لأن هذه تدل على شمول النفي، واستغراقه لكل جزء من أجزاء الزمن بدون قرينة تصحبها، خلافًا لـ{ ما }، فإنها لا تدل على الشمول والاستغراق إلا بوجود قرينة؛ كأن يقال مثلاً:{وهم ما يسمعون من شيء }.. فتأمل.
وقد اجتمع النفي، والإثبات في قوله تعالى:﴿يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ(البقرة: 185).فالأول يدل على إثبات الإرادة في الحالة الدائمة المستمرة ، التي لا تتقيَّد بزمن معيَّن، والثاني يدل على نفيها في الحالة نفسها. قال أبو حيان في تعقيبه على هذه الآية: قالوا:{يريد }- هنا- بمعنى:{أراد }، فهو مضارع أريد به المُضيُّ. والأوْلى أن يراد به الحالة الدائمة هنا؛ لأن المضارع هو الموضوع لما هو كائن، لم ينقطع .
وما قيل في:{ يريد }، يقال مثله في:{لا يريد }،وفي:{ ما أريد }،من قولهتعالى:﴿ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ﴾(الذاريات: 57). أي: ما أريد منهم عطاءً أنتفع به، ولا أن يطعمون فأنتفع بإطعامهم.
وجاء نفي الإرادة الأولى بـ{ ما }؛ لأن الآية مستأنفة. والاستئناف هو ابتداء كلام آخر، مبيِّن لما قبله ومؤكِّد له، فحكمه حكم الابتداء. و{ ما } النافية لها صدر الكلام مطلقًا بإجماع البصريين، بخلاف { لا }؛ فإنها لا تقع في صدر الكلام إلا في جواب القسم. وأما الإرادة الثانية فجاء نفيها بـ{ ما }؛ لأنها معطوفة مع ما بعدها على ما قبلها. وإنما جاز ذلك؛ لأن الفاعل واحد في المعطوف، والمعطوف عليه. ولولا ذلك، لوجب العطف بـ{ لا }؛ كأن يقال:{وما أريد منكم... ولا تريدون مني }. وعلى هذا جاء النفي في قوله تعالى:
﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ.. ﴾(يونس: 61).
فقوله تعالى:﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ كلام مستأنف، وهو عبارة عن خطابين للرسول صلى اللهعليه وسلم: الأول منهما عام بجميع شؤونه عليه الصلاة والسلام. والثاني منهما خاص؛ لكنه مندرج تحت عموم الأول. وإنما خُصَّ من العموم؛ لأن القرآن الكريم هو أعظم شؤونه عليه الصلاة والسلام. والغرض منهما بيان الحالة الدائمة المستمرة، التي كان- عليه الصلاة والسلام- عليها في الماضي، والحاضر، والتي يكون عليها في المستقبل؛ ولهذا عطف الثاني على الأول بـ{ ما }.
ومثلهما في ذلك قوله تعالى:﴿وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ﴾إلا أن الخطاب به عام، يشمل أهل الأرض جميعهم، ويدخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم، والمؤمنون دخولاً أوليًّا. والغرض منه بيان الحالة الدائمة المستمرة، التي كان أهل الأرض عليها في الماضي والحاضر، والتي يكونون عليها في المستقبل.
ولأجل ما تقدَّم من نفي الديمومة والاستمرار في الأفعال الثلاثة السابقة، على سبيل الاستغراق والشمول، صيغت تلك الأفعال بصيغ المضارع المنفي، فعمَّ النفي فيها كل جزء من أجزاء الزمن، دون قيد يقيِّده بزمن معيَّن. ويدلك على ذلك الاستثناء في قوله تعالى:﴿إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ﴾ فهو استثناء مفرغ من عموم الأحوال، التي اقتضاها عموم الشأن، وعموم التلاوة، وعموم العمل. والمراد: أنه تعالى شاهد- أي: رقيب- على أهل الأرض جميعهم بما كان منهم، وبما يكون ولم يقع، وما هو كائن لم ينقطع، يحصي عليهم أعمالهم؛ وكأنه قيل:{وما كنت وتكون في شأن، وما تلوت، وما تتلو فيه من قرآن، وما عملتم، وما تعملون من عمل؛ إذ أفضتم وتفيضون فيه، إلا كنا عليكم شهودًا }.
ويعلم من قرينة العموم في الأفعال الثلاثة بواسطة النكرات الثلاث، المتعلقة بتلك الأفعال، والواقعة في سياق النفي، أن ما حصل في الماضي، وما يحصل في الحال، والمستقبل من تلك الأفعال سواء، وهذا من بديع الإيجاز والإعجاز.
ولما كان قوله تعالى:﴿إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً ﴾فيه تحذير وتنبيه، عدل عن خطاب الخصوص في قوله:﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ إلى خطاب العموم بقوله:﴿وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ ﴾، وقد روعي في كل من المقامين ما يليق به، فعبَّر في مقام الخصوص في الأول بالشأن؛ لأن عمل العظيم عظيم، وعبَّر في مقام العموم في الثاني بالعمل العام للعظيم والحقير.
ثم واجه تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بالخطاب وحده بقوله:﴿وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ.. ﴾، تشريفًا له وتعظيمًا. وجاء به منفيًّا بـ{ما } على سبيل الاستغراق والشمول؛ لأنه استئناف مبيِّن لما قبله ومؤكِّد له.
وقد كان من آثار اختلاف هذا الخطاب خصوصًا وعمومًا، ثم خصوصًا، اختلاف النفي بـ{ ما } في الفعلين:{ ما تكون، وما تتلو }، وبـ{ لا } في الفعل:{ولا تعملون }، وبـ{ ما } في فعل العزوب:{ وما يعزب }.
وجاء الخطاب في قوله تعالى:{ولا تعملون } منفيًّا بـ{ لا } بعد الواو العاطفة، دون{ ما }؛ ليدخل فيه الخطابان الأولان. ولو نفي بـ{ ما }، فقيل:{ ما تكون، وما تتلو، وما تعملون }، لكان خطابًا مستأنفًا غير معطوف على ما قبله، وحينئذ لا يصح دخول الخطابين الأولين فيه.




يتبـــــــــــــــــــــع
  #677  
قديم 23-06-2008, 10:29 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبــع موضوع ... وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ

وجاء الخطاب في قوله تعالى:﴿وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ ﴾؛ لأنه استئناف مؤكِّد لما قبله، خلافًا لمن ذهب إلى أنه معطوف؛ لأنه لا يجوز عطف نفي على آخر إلا بـ{ لا }. ولو كان معطوفًا، لوجب أن يقال:{ولا يعزب عن ربك من مثقال ذرة }؛ كما قيل قبله:﴿وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً ﴾. ولما جاء منفيًّا بـ{ ما }، علم أن المراد به الاستئناف، خلافًا لقوله تعالى في آية سبأ:﴿ عَالِمِ الغيب لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ﴾.
وقد سبق أن ذكرت أن قوله تعالى:﴿ عَالِمِ الْغَيْبِ ﴾ جاء تعقيبًا على جملة القسم:﴿قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ﴾؛ ليعلم الناس جميعًا أن إتيان الساعة من الغيب، الذي تفرَّد به الله، الذي يعلم ببواطن الأمور دقيقها وجليلها. فقوله تعالى:﴿قُلْ بَلَى ﴾ رد لقولهم:﴿لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ، وإثبات لما نفوه.وقوله تعالى:﴿وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ﴾تكرير لإِيجابه، مؤكَّدًا بالقسم، مقرِّرًا لوصف المقسم به بصفات تقرِّر إمكانه، وتنفي استبعاده؛ وكأنه قيل:
{قل، وربي، العالم بوقت قيامها، لتأتينكم، لا يعزب عنه مثقال ذرة }
فقوله تعالى:﴿ عَالِمِ الغيب لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ﴾هو من جملة الردِّ على قولهم:﴿لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ؛ ولهذا جاء منفيًّا بـ{ لا }؛ لأن من مواضع { لا }-على ما سيأتي- أن تكون ردًّا على كلام سابق.
والفرق بين:﴿لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ، و﴿ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ﴾: أن الأول نفي لإتيان الساعة في المستقبل؛ لأنه مقيَّد بقرينة تدل على ذلك، وهي أنهم أخبروا عن إتيان الساعة في المستقبل؛ لأن إتيانها لا يكون في الحال. وأما الثاني فهو نفي للعزوب في الماضي والحاضر والمستقبل؛ لأنه مطلق، لم يقيَّد بقرينة تدل على حصره في زمن معيَّن.
فإذا تأملت ذلك، تبيَّن لك أنه لا فرق بين قوله تعالى:﴿مَا يَعْزُبُ ﴾، وقوله تعالى:﴿ لَا يَعْزُبُ ﴾، من حيث دلالة كل منهما على دوام نفي العزوب واستمراره، على سبيل الاستغراق والشمول، دون قيد يقيِّده بزمن معيَّن.
وأما القول بأن {مَا يَعْزُبُ } هو نفي للعزوب في الحاضر بدليل نفيه بـ{ ما }، وأن { لَا يَعْزُبُ } هو نفي للعزوب في المستقبل بدليل نفيه بـ{ لا }، فهو قول فاسد؛ لأنه يلزم من كل منهما نفي العزوب عن الله سبحانه في زمن، وإثباته له سبحانه في زمن آخر، وهذا باطل.
ومن هنا لا يصح حصر النفي الأول في الحال، والثاني في الاستقبال، إلا بوجود قرينة تقيِّده بأحدهما؛ كأن يقال:{ما يعزب الآن، ولا يعزب غدًا }. أما إذا قيل:{ ما يعزب، ولا يعزب }، على الإطلاق، فليس للنفي فيهما من دلالة سوى نفي العزوب على الدوام والاستمرار دون قيد.
وإلى نحو هذا أشار الزركشي بقوله:وقد يُنفَى المضارع مُرادًا به نَفْيُ الدوام؛ كقوله تعالى:﴿ عَالِمِ الغيب لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ﴾. ثم قال في معرض حديثه عن{ لا }:وقيل يُنفَى بها الحاضر على التشبيه بـ{ ما }؛ كقولك في جواب من قال:{ زيد يكتب الآن: لا يكتب }.
ففرَّق بين نفي الدوام، الذي لا يتقيَّد بزمن معيَّن، وبين نفي الحاضر، فالأول مطلق، والثاني مقيَّد. وبذلك يعلم أن أداة النفي ليست بقرينة على معنى الزمن؛ لأن ذلك ليس من وظائفها، وإنما هو من وظائف القرائن اللفظية والمعنوية، التي تصحب الفعل؛ ولهذا تسمَّى قيودًا على الفعل؛ لأنها هي التي تحدِّد علاقته بالزمان.
تأمل قوله تعالى:﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ(إبراهيم: 25)، كيف قيَّد إتيان الشجرة أُكُلَها بالظرف { كل حين }. ولو قيل:{تؤتي أكلها } على الإطلاق، لدل ذلك على أن هذه الشجرة تؤتي أكلها على الدوام والاستمرار، بلا انقطاع، وهو خلاف المراد.
ثم تأمل قوله تعالى في سورة الجن:﴿ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِفَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً(الجن: 9)، كيف قيَّد الجن استماعهم بالظرف { الآن }، فدل على الحال، رغم تعليقه بأداة الشرط. ولو قيل:{فمن لا يستمع الآن، لا يجد له شهابًا رصدًا }، لما كان بينه، وبين الإثبات فرق، من حيث دلالة كل منهما على الحال.
وأما من ذهب إلى أن { الآن } معناه هنا: القرب مجازًا، فيصح مع الماضي والمستقبل. أو أنه ظرف للحال، واتُّسِع فيه، فاستعمل للاستقبال، فليس بشيء؛ لأن قولهم:﴿ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ نصٌّ على الاستماع في الحال، بدليل قولهم قبله:﴿ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ﴾. وكذلك قوله تعالى:﴿ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ ﴾(البقرة: 187) هو أمر بمباشرة الفعل في الحال، وإن كان مستقبلاً؛ ولهذا عقَّب تعالى عليه بقوله:﴿وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ(البقرة: 187).
وأما قول سليمان عليه السلام:﴿ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ ﴾(النمل: 20) فإنه يدل على نفي الرؤية في الحال؛ لأن المراد: ما لي لا أرى الهدهد الآن. بدليل قوله تعالى قبله:﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ ﴾(النمل: 20). ودلالته على الحال ليست بمستفادة- على ما قيل- من أداة النفي{ لا }؛ بل هو مستفاد مما تضمنه قوله:{ ما لي لا أَرَى } ؟ من الدلالة على الحال. فهو استفهام عن شيء، حصل له في حال عدم رؤيته الهدهد. والمعنى: أغاب عني الآن، فلم أره في حالة التفقد ؟
ونحو ذلك قول صاحب ياسين:﴿وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي(يس: 22). أي: وما لي لا أعبد الآن الذي فطرني؟ أي: لا شيء يمنعني من ذلك؛ وكأنه يرد بذلك على قومه، الذين أنكروا عليه عبادته للذي فطره؛ لأن صيغة:{ما لي لا أفعل } ؟ صيغة استفهام إنكاري، يوردها المتكلم في الردِّ على من أنكر عليه فعلاً. أو ملكه العجب من فعله؛ كما في آية الهدهد.
ونحو ذلك قوله تعالى آمرًا لنبيه صلى الله عليه وسلم:﴿ قُُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ(الكافرون: 1- 2). أي: لا أعبد الآن ما تعبدون، بدليل مقابلته بقوله:﴿ وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَمَا أَعْبُدُ (الكافرون: 3).
ولما كان أكثر النحاة والمفسرين على القول بأن { ما } لا تدخل على مضارع إلا وهو في موضع الحال، ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال، فسَّر الزمخشري قوله تعالى:﴿وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾(الحجر: 11) على أنه حكاية حال ماضية، وفسَّره الألوسي على أن المراد به الاستقبال، مع أن دلالته على دوام النفي واستمراره ظاهرة، بدليل قوله تعالى:﴿إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾؛ فإنهيدل على تكرر ذلك منهم، وأنه سنتهم، وسجيَّة لهم. فقوله:{كَانُواْ} دل على أنه سنتهم، وسجية لهم، وقوله:{يَسْتَهْزِئُونَ} دل على تكرره منهم. والمعنى: ما يأتيهم من رسولفي حال من الأحوال، وزمن من الأزمان، إلا كانوا مستهزئين به لاهين عنه.
نخلص مما تقدم إلى أن نفي العزوب في قوله تعالى:﴿وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ ﴾، وقوله تعالى:﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ﴾ لا يدل على الحال، والاستقبال، إلا بوجود قرينة تقيِّده بأحد الزمانين. ولما كانت هذه القرينة غير موجودة، كانت دلالة نفي العزوب في الآيتين على الدوام والاستمرار، على سبيل الاستغراق والشمول هي المرادة، ولا ينبغي لأحد العدول عنها إلى غيرها إلا بوجود قرينة. وأنه ليس من فرق بين نفيه بـ{ ما }، ونفيه بـ{ لا }، وإن كانت الثانية- على ما يقال- أرسخ قدمًا في النفي من الأولى، وأوسع منها في نفي المضارع، وأدلَّ على انتفائه في المستقبل.
وإذا ثبت ذلك، فالسؤال الذي ينبغي أن يسأل هنا: متى ينفى بـ{ ما }، ومتى ينفى بـ{ لا } ؟ والجواب عن ذلك يكون بمعرفة ما بين الأداتين من فرق في الاستعمال. ويبدو هذا الفرق من وجوه:
الوجه الأول: أن { ما } تكون جوابًا عن دعوى،وأن { لا } تكون جوابًا عن استفهام، وهذه تحذَف الجمل بعدها كثيرًا، بخلاف الأولى. يقال لك:{ أتقول كذا } ؟ فتجيب بقولك:{ لا }. والأصل:{ لا، أقول }، فتذكرأداة النفيمستغنيًا بها عن الفعل. وعلى ذلك يحمل قوله تعالى:﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً ﴾(الأعراف: 187).
فقوله تعالى:﴿ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً ﴾ جملة مستأنفة جاءت تكملة للإخبار عن وقت حلول الساعة؛ فهو من جملة الجواب عن سؤالهم عن وقت مجيء الساعة ولهذا جاء منفيًّا بـ{ لا }.
ويقال لك:{ فلان يقول كذا }. أي: يدِّعي أنه يقول كذا، فيكون الجواب:{ ما يقول }. ولا يجوز أن تجيب بقولك:{ لا أقول }. وعلى ذلك يحمل قوله تعالى:﴿وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ ﴾(الجاثية: 32).
فأجابوا بقولهم:﴿ مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ ﴾؛ لأنهم اعتبروا قوله تعالى:﴿وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا مجرد ادعاء، لا صحَّة له، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا !
والوجه الثاني: أن { لا } تكون ردًّا لكلام سابق؛ لأنه ينفى بها في أكثر الكلام ما قبلها، فيكون ما بعدها في حكم الوجوب، فيقال لمن أثبت لزيد قيامًا، فقال:{يقوم زيد }، يقال له:{لا }. أي:{لا، يقوم }، فيوقف عليها كما يوقف عليها في جواب السؤال، ثم يستأنف الكلام بعدها. ولا يجوز ذلك في { ما }؛ لأنه لا ينفى بـ{ ما } أبدًا إلا ما بعدها. تأمل قوله تعالى:
﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ(النساء: 65)
كيف جاءت { لا } بعد الفاء ردًّا لكلام سبق. أي: فلا يكون الأمر كما زعموا أنهم يؤمنون. ثم استؤنف القسم بعدها بقوله تعالى:﴿وَرَبِّكَ ﴾، وأجيب عنه بقوله:﴿لاَ يُؤْمِنُونَ. ولا يجوز أن يقال:{فما، وربك لا يؤمنون }، للسبب الذي تقدم ذكره.
ومما يحمل على ذلك قول عمر رضي الله عنه، وقد أفطر يومًا في رمضان، فظن أن الشمس قد غربت، ثم طلعت: لا، نقضيه ما تجانفنا الإثم فيه ؛ وذلك أن قائلاً قال له: قد أثمنا، فقال: لا، نقضيه. فقوله:{لا } ردٌّ لكلامه:{ قد أثمنا }، ثم استأنف فقال:{نقضيه }.
ونحو ذلك قوله تعالى:﴿ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ تأمل كيف نفى عليه الصلاة والسلام عبادة ما يعبد المشركون بـ{ لا }، ولم ينفه بـ{ ما }، مع أنه يريد نفي العبادة في الحاضر. والمعنى: لا أعبد الآن ما تعبدون. والسر في ذلك أن { لا } ردٌّ لما قبلها؛ ألا ترى أنهم قالوا:يا محمد ! هَلُمَّ، فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرًا مما نعبد، كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرًا مما تعبد، كنت قد أخذت بحظك منه ! فأنزل الله تعالى فيهم: ﴿قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ ، إلى آخر السورة ؟
يتبــــــــــع
  #678  
قديم 23-06-2008, 10:31 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبــع موضوع ... وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ

والوجه الثالث:أن{ لا } ينفَى بها الجنس على سبيل الاستغراق والشمول؛ سواء كان المنفي اسمًا؛ كقوله تعالى:﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾(البقرة:2)، أم كان فعلاً؛ كقوله تعالى:﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ﴾(الأنعام: 103)، وقوله تعالى:﴿ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ(الإسراء: 88)، وقوله تعالى:﴿وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ(الجمعة: 7)، وقوله تعالى:﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (آل عمران: 5).
تأمل كيف جاء النفْيُ في ذلك كله بـ{ لا } نفيًا دائمًا على سبيل الاستغراق والشمول. ومثله في ذلك قوله تعالى:﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ﴾.
وأما { ما } فيحتمل النفي بها استغراق الجنس كله، ويحتمل نفي فرد واحد منأفراده؛ ولهذا يجوز أن تقول:{ما يوجد في الدار رجل، بل رجلين }، ولا يجوز ذلك في { لا }. فإذا أريد نفي الجنس بـ{ ما } على سبيل الاستغراق والشمول، وجب أن تصحبها { من } الاستغراقيَّة، فتقول:{ ما يوجد من رجل فيالدار }؛ ونحو ذلك قوله تعالى:﴿ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ﴾(فاطر: 13). ومثله قوله تعالى:﴿وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ ﴾. ومن هنا يخطىء كل من يقول بزيادة { من } في هذه الآية، ونحوها، كما يخطىء كل من يقول: إن قوله تعالى:﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ﴾،ونحوه لا يفيد معنى الاستغراق.
بقي أن تعلم أن الفرق بين قول الذين كفروا:﴿لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ﴾(سبأ: 3)،وقولهم:﴿ مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ ﴾ ؟ هو أن الأول قالوه على سبيل القطع والجزم؛ إما جهلاً، وإما تعنُّتًا. وأما الثاني فقالوه على سبيل الظن، بدليل تعقيبهم عليه بقولهم:﴿إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ(الجاثية: 32).
والوجه الرابع:إذا كان الكلام منفيًّابـ{ ما }، أو بـ{ لا }، وعطف عليه كلام آخر، وجب أن يكون المعطوف منفيًّا بـ{ لا}، إلا إذا كان الفاعل في المعطوف والمعطوف عليه واحدًا، أو كان المعطوف من جنس المعطوف عليه. ومثال الأول ما تقدم من قوله تعالى::﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً ﴾(يونس: 61).
ومثال الثاني قوله تعالى:﴿وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء﴾، وقوله تعالى:﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ﴾.فعطف قوله:﴿ وَلاَ فِي السَّمَاء، وقوله:﴿وَلَا فِي الْأَرْضِ ﴾على ما قبلهما.
وجمهور النحاة والمفسرين على القول بأن { لا}- هذه- جيء بها بعد الواو العاطفة زائدة، توكيدًا للنفي، وهي ليست كذلك؛ لأنه لو قيل:
{ ما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض، والسماء }، بدون { لا }، احتمل أن يكون المراد: نفيُ العزوب عنه سبحانه في كل من الأرض، والسماء على كل حال. أو نفيه عنه سبحانه في أحداهما، دون الأخرى. فلما جيء بـ{ لا } بعد الواو العاطفة، صار الكلام نصًّا في المعنى الأول، ولم يبق للاحتمال الثاني أيُّ جود.
ومثلهما في ذلك قوله تعالى:﴿ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾(الأنعام: 59). وقوله تعالى:﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ (البقرة: 255).
رابعًا- وممَّا يسأل عنه أيضًا في هاتين الآيتين: لمَ قدِّم لفظ { الأرض } على لفظ { السماء } في قوله تعالى:﴿وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء،وأخِّر عن لفظ { السموات } في قوله تعالى:﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ﴾؟
ويجاب عن ذلك بأن حق { السماء } أن تقدم على { الأرض }؛ إلا أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى شهادته على أحوال أهل الأرض، وأعمالهم بقوله:﴿وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ﴾، وأعمالهم إنما تكون في الأرض، ثم وصل بذلك قوله سبحانه:﴿وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ ﴾،ناسب ذلك كله تقديم لفظ ﴿ الْأَرْضِ ﴾ على لفظ ﴿السَّمَاءِ ﴾. وهذا بخلاف الآية الثانية؛ إذ قدِّم فيها لفظ ﴿السَّمَاوَاتِ ﴾ على لفظ ﴿الْأَرْضِ ﴾؛ لأنها تنتظم في سياق علم الغيب.
وفي الحكمة من ذلك قال ابن قيِّم الجوزيَّة:وأما تقديم السماء على الأرض ففيه معنى؛ وهو أن السموات والأرض تذكر غالبًا في سياق آيات الرب الدالة على وحدانيته وربوبيته.. وأما تقديم الأرض عليها في قوله:﴿وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء، وتأخيرها عنها في ( سبأ )، فتأمل كيف وقع هذا الترتيب في ( سبأ ) في ضمن قول الكفار:﴿لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ﴾، كيف قدم السموات هنا؛ لأن الساعة إنما تأتي من قبلها، وهي غيب فيها، ومن جهتها تبتدئ وتنشأ. وأما تقديم الأرض على السماء، في سورة ( يونس ) فإنه لما كان السياق سياق تحذير وتهديد للبشر، وإعلامهم أنه سبحانه عالم بأعمالهم دقيقها وجليلها، وأنه لا يغيب عنه منها شيء، اقتضى ذلك ذكر محلهم، وهو الأرض قبل ذكر السماء.
خامسًا- ولما ذكر تعالى أنه ما يعزب، ولا يعزب عنه أدق الأشياء، التي لا يعرف المخاطبون أصغر منها، وهي الذرة، بدأ سبحانه وتعالى بذكرها أولاً، ثم أبان لهم بالعطف عليها أنه يوجد ما هو أصغر منها. وهنا ينطلق الذهن في المصغرات إلى مقدار، يستحيل عليه تصوره. ثم عطف عليه بعد ذلك ما هو أكبر. وهنا ينطلق الذهن إلى الأشياء الكبيرة العظيمة، التي لا يستطيع التصور الإحاطة بها، فشمل النص كل شيء. ومعلوم أن من علم أدق الأشياء وأخفاها، كان علمه متعلقًا بأكبر الأشياء وأظهرها.
وقرأ الجمهور:﴿وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَإِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ، بفتح الراء في { أصغرَ }، و{ أكبرَ }، عطفًا على ﴿ مِن مِثْقَالِ ذَرَّةٍ ﴾، باعتبار لفظه؛ إلا أن لفظهما غير منصرف، فكان مفتوحًا.
وقرأ حمزة:﴿وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ ﴾، بضم الراء فيهما، عطفًا على ﴿ مِن مِثْقَالِ ذَرَّةٍ ﴾، باعتبار محله؛ لأنه فاعل.ونظيره على القراءتين قولك:{ما أتاني من أحد عاقلٌ، وعاقلٍ }، بضم اللام في عاقل، وكسرها. وكذا قوله تعالى:﴿مَالَكُمْ مّنْ إلهٍ غَيْرُهُ(الأعراف:59)، بضمِّ الراء في غيره، وكسرها.
ويقوي العطفَ على القراءتين أنه لم يقرأ في قوله تعالى:﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ، إلا بالضم.
وقيل: لو صح هذا العطف، لصار تقدير هذه الآية: وما يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا أصغرَ من ذلك وأكبرَ، إلا في كتاب فيعزب، وحينئذ يلزم أن يكون الشيء، الذي في الكتاب، خارجًا عن علم الله تعالى، وهذا مشكل.
ولهذا ذهب الزمخشري تابعًا لاختيار الزجاج إلى أن قوله تعالى:﴿وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَإِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ جملة مستقلة عما قبلها، وليست معطوفة عليه. والوجه النصب على نفي الجنس، والوجه الرفع على الابتداء. والخبر على الوجهين:﴿فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾.
ويرد على ذلك بنحو قوله تعالى:﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾(الأنعام: 95)؛ إذ لا يمكن أن يحمل ذلك على نفي الجنس.
أما الجرجاني فقد ذهب إلى أن الكلام قد تمَّ وانقطع عند قوله تعالى:﴿ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك وَلا أَكْبَرَ ﴾، ثم وقع الابتداء بكلام آخر؛ وهو قوله:﴿إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾. أي: وهو أيضًا في كتاب مبين. قال: والعرب تضع { إلا } موضع { واو النسق } كثيرًا، على معنى الابتداء .
وهذا الوجه- على ما قال الرازي- في غاية التعسف. والإنصاف- على ماقال الألوسي- أنه لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى العزيز على ذلك، ولو اجتمع الخلق إنسهم وجنهم على مجيء { إلا } بمعنى:{ الواو }.
وأجاب بعضهم بأن الإشكال في الآية الكريمة إنما يكون على تقدير اتصال الاستثناء، وأما على تقدير انقطاعه، فيصير التقدير:{ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبر؛لكن هو في كتاب مبين }. وبهذا التقدير يزول الإشكال، وإليه ذهب أبو البقاء العكبري.
وأجاب بعضهم الآخر على تقدير اتصال الاستثناء بأنه على حدِّ قوله تعالى:﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى(الدخان: 56). فالمعنى: لا يبعد عن علمه شيء إلا ما في اللوح، الذي هو محل صور معلوماته، تعالى شأنه، بناء على تفسير الكتاب المبين به. أو: إلا ما في علمه، بناء على تفسير الكتاب المبين بالعلم. فإن عُدَّ ذلك من العزوب، فهو عازب عن علمه. وظاهرٌ أنه ليس من العزوب قطعًا، فلا يعزب عن علمه شيء قطعًا.
ونقل عن بعض المحققين قوله في دفع هذا الإشكال بأن العزوب عبارة عن مطلق البعد، وأن الأشياء المخلوقة على قسمين: قسم أوجده الله تعالى ابتداء من غير وساطة؛ كالملائكة والسموات والأرض. وقسم آخر أوجده الله تعالى بوساطة القسم الأول؛ مثل الحوادث الحادثة في عالم الكون.. ولا شك أن هذا القسم الثاني قد يتباعد في سلسلة العلية والمعلولية عن مرتبة وجود واجب الوجود. فالمعنى: ما يبعد عن مرتبة وجوده من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، إلا وهو في كتاب مبين، وهو كتاب كتبه الله تعالى، وأثبت صور تلك المعلومات فيه. ومتى كان الأمر كذلك، فقد كان عالمًا بها، محيطًا بأحوالها.
وإثبات العزوب بمعنى: البعد عنه تعالى في سلسلة الإيجاد- على ما قال الألوسي- لا محذور فيه، وهو وجه دقيق، إلا أنه أشبه بتدقيقات الحكماء، وإن خالف ما هم عليه في الجملة.. ويؤيده أن سورة ( سبأ ) جاءت مستهلة بالحمد لله تعالى على نعمة الإيجاد الثاني، وهو البعث.
وذكر المفسرون أجوبة أخرى غير التي ذكرتها، لا تخلو من التكلف. ويبدو مما تقدم أن أقل الأقوال تكلفًا على ما قال الألوسي: القول بانقطاع الاستثناء في الآية، وأجلها قدرًا، وأدقها سرًّا القول باتصاله، وإخراج الكلام مخرج قوله تعالى:
﴿ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ (النساء: 23)
ونظائره الكثيرة، نثرًا ونظمًا، ولا عيب فيه، إلا أن الآية عليه أبلغ، فليفهم.
وقال ابن عاشور:وجوز أن يكون استثناء متصلاً من عموم أحوال عزوب مثقال الذرة، وأصغرَ منها وأكبرَ. وتأويله أن يكون من تأكيد الشيء بما يشبه ضده. والمعنى: لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء، إلا في حال كونه في كتاب مبين. أي: إلا معلومًا مكتوبًا. ويعلم السامع أن المكتوب في كتاب مبين، لا يمكن أن يعزب، فيكون انتفاء عزوبه حاصلاً بطريق برهاني .
فتبارك من أودع كلامه من الحكم والأسرار والعلوم ما يشهد أنه كلام الله تعالى، وأن مخلوقًا لا يمكن أن يصدر منه مثل هذه الحكم والأسرار أبدًا !
الأستاذ: محمد إسماعيل عتوك
الباحث
في الإعجاز اللغوي والبياني للقرآن
  #679  
قديم 23-06-2008, 10:41 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

من أسرار الإعجاز اللغوي والبياني في سورة الكافرون




قال الله جل وعلا:﴿قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَمَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَاأَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ(الكافرون: 1- 6).
أولاً- لم يكن العرب في جاهليتهم الأولى يجحدون الله تعالى؛ ولكنهم كانوا لا يعرفونه بحقيقته، التي وصف بها نفسه، والتي عرفه بها نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنون؛ ولهذا كانوا يشركون به آلهتهم في العبادة، وكانوا لا يقدرونه حق قدره، ولا يعبدونه حق عبادته. لقد كانوا يؤمنون بوجود الله تعالى، وأنه الخالق للسموات والأرض، والخالق لذواتهم؛ ولكنهم مع إيمانهم به، كان الشرك يفسد عليهم تصورهم؛ كما كان يفسد عليهم تقاليدهم وشعائرهم. وكانوا يعتقدون أنهم على دين إبراهيم عليه السلام، وأنهم أهدى من أهل الكتاب، الذين كانوا يعيشون معهم في الجزيرة العربية؛ لأن اليهود كانوا يقولون: عزيرٌ ابن الله. والنصارى كانوا يقولون: عيسى ابن الله، بينما هم كانوا يعبدون الملائكة والجن، على اعتبار قرابتهم من الله- على حدِّ زعمهم- فكانوا يحسبون أنفسهم أهدى وأقوم طريقاً؛ لأن نسبة الملائكة والجن إلى الله أقرب من نسبة عزير وعيسى.. وكله شرك، وليس في الشرك خيار.
ولما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم يقول:﴿ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾(الأنعام: 161)، قالوا: نحن على دين إبراهيم، فما حاجتنا- إذًا- إلى ترك ما نحن عليه، واتباع محمد ؟! وفي الوقت ذاته راحوا يحاولون مع الرسول صلى الله عليه وسلم خطة وسطًا بينهم، وبينه، فعرضوا عليه أن يسجد لآلهتهم مقابل أن يسجدوا هم لإلهه، وأن يسكت عن عيب آلهتهم وعبادتهم، وله فيهم وعليهم ما يشترط !
ولعل اختلاط تصوراتهم، واعترافهم بوجود الله مع عبادة آلهة أخرى معه، كان يشعرهم أن المسافة بينهم، وبين محمد قريبة، يمكن التفاهم عليها، بقسمة البلد بلدين، والالتقاء في منتصف الطريق، مع بعض الترضيات الشخصية؛ كما يفعلون في التجارة تمامًا. وفرق بين الاعتقاد والتجارة كبير! فصاحب العقيدة لا يتخلى عن شيء منها؛ لأن الصغير منها كالكبير؛ بل ليس في العقيدة صغير وكبير، إنها حقيقة واحدة متكاملة الأجزاء، لا يطيع فيها صاحبها أحدًا، ولا يتخلى عن شيء منها أبدًا. وما كان يمكن أن يلتقي الإسلام والجاهلية في منتصف الطريق، ولا أن يلتقيا في أي طريق؛ وذلك حال الإسلام مع الجاهلية في كل زمان ومكان- جاهلية الأمس، وجاهلية اليوم، وجاهلية الغد كلها سواء- إن الهوة بينها، وبين الإسلام لا تُعْبَرُ، ولا تقام عليها قنطرة، ولا تقبل قسمة، ولا صلة، ولا مساومة؛ وإنما هو النضال الكامل، الذي يستحيل فيه التوفيق بين الحق، والباطل !
ولقد وردت روايات شتى فيما كان يساوم فيه المشركون النبي صلى الله عليه وسلم، ويدهنون له؛ ليدهن لهم ويلين، كما يودون، ويترك سب آلهتهم وتسفيه عبادتهم، أو يتابعهم في شيء مما هم عليه؛ ليتابعوه في دينه، وهم حافظون ماء وجوههم أمام جماهير العرب، على عادة المساومين الباحثين عن أنصاف الحلول ! ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان حاسمًا في موقفه من دينه، لا يساوم فيه، ولا يدهن، ولا يلين، حتى وهو في أحرج المواقف العصيبة في مكة، وهو محاصر بدعوته، وأصحابه القلائل يتخطفون، ويعذبون، ويؤذون في الله أشد الإيذاء، وهم صابرون، ولم يسكت عن كلمة واحدة ينبغي أن تقال في وجوه الطغاة المتجبرين، تأليفًا لقلوبهم، أو دفعًا لأذاهم، ولم يسكت كذلك عن إيضاح حقيقة تمس العقيدة من قريب، أو من بعيد، وهو فيما عدا الدين ألين الخلق جانبًا، وأحسنهم معاملة، وأبرُّهم بعشيرة، وأحرصهم على اليسر والتيسير. فأما الدين فهو الدين، وهو فيه عند توجيه ربه؛ حيث يقول له سبحانه:﴿فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ(القلم: 8) !
وروى ابن اسحق في سبب نزول هذه السورة الكريمة، فقال: اعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يطوف بالكعبة- فيما بلغني- الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل السهمي، وكانوا ذوي أسنان في قومهم، فقالوا: يا محمد ! هَلُمَّ، فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرًا مما نعبد، كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرًا مما تعبد، كنت قد أخذت بحظك منه ! فأنزل الله تعالى فيهم:
﴿قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَمَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَاأَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ
وهكذا بهذا الجزم، وبهذا التوكيد، نزلت هذه السورة الكريمة؛ لتحسم كل شبهة واهية، وتقطع الطريق على كل محاولة رخيصة، ومساومة مضحكة، وتفصل فصلاً حاسمًا بين عبادة الحق وعبادة الباطل، وتفرق نهائيًاً بين التوحيد والشرك، وتقيم المعالم واضحة، لا تقبل المساومة والجدل في قليل، ولا كثير.
ثانيًا- وافتتاح السورة الكريمة بهذا الأمر الإلهي الحاسم:﴿قُلْ ﴾، لإِظهار العناية بما بعد القول، وهو افتتاح موح بأن أمر هذه العقيدة هو أمر الله تعالى وحده، ليس لمحمد صلى الله عليه وسلم فيه شيء؛ إنما هو الله الآمر، الذي لا مردَّ لأمره، والحاكم، الذي لا رادَّ لحكمه. ﴿قُلْ ﴾: ﴿ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ !
وإنما ابتدىء الخطاب بهذا النداء ﴿ يَاأَيُّهَا ﴾، الذي يجمع بين نداء النفس، ونداء القلب، ونداء الروح؛ لأن النداء به يستدعي إقبال المنادَى على ما سيلقى عليه، بنفسه، وقلبه، وروحه.
و﴿الْكَافِرُونَ جمع: كافر، صفة فاعل، من: كفر يكفر. وتعريفه للجنس، فيعمُّ كل كافر. والكفر في اللغة: ستر الشئ. ووصف الليل بالكافر لستره الأشخاص، والزارع لستره البذر في الارض. وكفْر النعمة وكفْرانها: سترها، بترك أداء شكرها. قال تعالى:﴿فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ ﴾(الأنبياء: 94).
وأعظم الكفر جحود الوحدانية، أو الشريعة، أو النبوة. واستعمال الكفران في جحود النعمة أكثر من استعمال الكفر، واستعمال الكفر في الدين أكثر من استعمال الكفران، والكفور يستعمل فيهما جميعًا. قال تعالى:﴿فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُوراً(الإسراء: 99).
وجاء الأمر- هنا- بندائهم بوصف{ الكافرين }:﴿قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وجاء في سورة الزمر بندائهم بوصف{ الجاهلين }:﴿قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ(الزمر: 64).
وبيانه: أن هذه السورة نزلتفيهم بتمامها، وليس كذلك سورة الزمَر؛ ولهذا كان لا بدَّ من أن تكون المبالغة بالوصف فيها أبلغَ وأشدَّ. ولا يوجد لفظ أبلغ في الكشف عن حقيقتهم، وأشدُّ وقعًا عليهم من لفظ { الكافرين }. ثم إنه لا يوجد لفظ أبشع، ولا أشنع من هذا اللفظ؛ لأنه صفة ذمٍّ عند جميع الخلق. قال القرطبي: قال أبو بكر بن الأنباري: إن المعنى: قل للذين كفروا:﴿يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ! أن يعتمدهم في ناديهم، فيقول لهم:﴿يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ! وهم يغضبون من أن ينسبوا إلى الكفر .
ولكون هذا اللفظ صفة ذمٍّ عند جميع الخلق، ويتضمَّن مع الذمِّ الإهانة، لم يقع الخطاب به في القرآن في غير موضعين، هذا أحدهما، والثاني قوله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ(التحريم: 7).
والفرق بين الوصفين أن ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ يحتمل أن يكونوا قد آمنوا، ثم كفروا. أما ﴿الْكَافِرُونَفيدل على أن الكفر صفة ملازمة لهم، ثابتة فيهم، وأنهم ليسوا أصحاب عقيدة، يؤمنون بأنها الحق؛ لأنهم ليسوا على دين، خلافًا لما كانوا يدَّعون من أنهم على دين إبراهيم عليه السلام؛ وإنما هم أصحاب ظواهر، يهمهم أن يستروها؛ لأنهم كافرون، ولا التقاء بين الكفر، والإيمان في طريق.
وهكذا يوحي مطلع السورة وافتتاحها بهذا الخطاب، بحقيقة الانفصال، الذي لا يرجَى معه اتصال بين الكفر والإيمان، والحق والباطل !
ولسائل أن يسأل: لمَ جاء خطابهم في قوله تعالى:﴿قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ، بوساطة الأمر ﴿قُلْ، وجاء بدونه في قوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ(التحريم: 7) ؟
ويجاب عن ذلك بأن الخطاب في سورة ( التحريم )؛ إنما هو خطاب لهميوم القيامة، وهو يوم لا يكون فيه الرسول رسولاً إليهم؛ ولهذا جاء خطابهم بدون وساطة الأمر ﴿قُلْ. ثم إنهم في ذلك اليوم يكونون مطيعين، لا كافرين؛ فلذلك ذكرهم الله تعالى بقوله:﴿الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾.

يتبـــــــــــع
  #680  
قديم 23-06-2008, 10:44 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي

يتبـــع موضوع ... من أسرار الإعجاز اللغوي والبياني في سورة الكافرون



أما الخطاب في سورة ( الكافرون )فهو خطاب لهم في الدنيا، وأنهم كانوا موصوفين بالكفر، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم رسولاً إليهم؛ فلهذا جاء خطابهمبوساطة الأمر ﴿قُلْ. وفي ذلك إشارة إلى أن من كان الكفر وصفًا ثابتًاله، لازمًا لا يفارقه، فهو حقيق أن يتبرَّأ الله تعالى منه، ويكون هو أيضًا بريئًامن الله تعالى ورسوله.
ثالثًا- وقوله:﴿ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ جواب للنداء، وهو نفي للحال، ويقابله قوله:﴿ وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَمَا أَعْبُدُ ﴾. أي: لا أعبد الآن ما تعبدون، ولا أنتم تعبدونالآن ما أعبد أنا.
أما قوله:﴿وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ﴾ فهو نفي للمستقبل، ويقابله قوله:﴿ وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَمَا أَعْبُدُ ﴾. أي: ولا أعبد أنا في المستقبل، ما عبدتم أنتم في الماضي. ولا أنتم عابدون في المستقبل ماأعبد الآن، وفي المستقبل.
وعلى هذا فلا تكرار أصلاً في السورة، خلافًا لمن زعم أن هذا تكرار، الغرض منه التوكيد. وبهذا الذي ذكرت تكون الآيات الكريمة قد استوفت أقسام النفي عن عبادته صلى الله عليه وسلم، وعبادة الكافرين، في الماضي،والحاضر، والمستقبل، بأوجز لفظ، وأخصره، وأبينه.
ثم إن في تكرير الأفعال بلفظالحال والمستقبل، حين أخبر صلى الله عليه وسلم عن نفسه، وتكريرها بلفظ الماضي، حين أخبر عنهم،سرٌّ بديع من أسرار البيان، وهو الإشارة والإيماء إلى عصمة الله تعالى له عن الزيغ، والانحراف عنعبادة معبوده، والاستبدال به غيره، وأن معبوده عليه الصلاة والسلام واحد في الحال، وفي المآل على الدوام، لا يرضى به بدلاً، ولا يبغي عنه حولاً، بخلاف الكافرين، فإنهم يعبدون أهواءهم، ويتبعون شهواتهم في الدين، وأغراضهم، فهم بصدَد أن يعبدوااليوم معبودًا، وغدًا يعبدون غيره.
رابعًا- وقال:﴿ وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَمَا أَعْبُدُ ﴾، فعبَّر عن معبوده بـ﴿ مَا ﴾ دون ﴿ مَنْ ﴾؛ لأن المراد التعبير عن معبوده عليه الصلاة والسلام على الإطلاق دون تخصيص؛ لأن امتناعهم عن عبادة اللهتعالى ليس لذاته، بل كانوا يظنون أنهم كانوا يعبدون الله؛ ولكنهم كانوا جاهلين به؛ ولهذا ناسب إيقاع ﴿ مَا ﴾ عليه دون ﴿ مَنْ ﴾ لمَا في الأولى من دلالة على الإبهام، والوقوععلى الجنس العام.
وهذا ما أجاب به الشيخ السهلي رحمه الله، ثم ذكر جوابًا آخر؛ وهو:أنهم كانوا يشتهون مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حسدًا له، وأنفة مناتباعه، فهم لا يعبدون معبوده، لا كراهية لذات المعبود؛ ولكن كراهية لاتباعه صلىالله عليه وسلم، وشهوة منهم لمخالفته في العبادة، كائنًا ما كان معبوده، وإن لم يكن معبوده إلا الحق سبحانه وتعالى.. فعلى هذا لا يصح في النظم البديع، والمعنى الرفيع إلا ﴿ مَا ﴾، لإبهامها، ومطابقتها الغرض الذي تضمنته الآية .
وأقرب من هذا وذاك- كما قال ابن قيِّم الجوزيَّة-: هو أن المقصود هنا ذكر المعبود، الموصوف بكونهأهلاً للعبادة، مستحقًا لها، فأتى بـ﴿ مَا ﴾ الدالة على هذا المعنى؛كأنه قيل: ولا أنتمعابدون معبودي، الموصوف بأنه المعبود الحق. ولو أتى بلفظ ﴿ مَنْ ﴾، لكانت إنما تدل علىالذات فقط، ويكون ذكر الصلة تعريفًا، لا إنه جهة العبادة. ففرق بين أن يكون كونهتعالى أهلاً لأن يعبد تعريف محض، أو وصف مقتض لعبادته.. فتأمله، فإنه بديعٌ جدًّا .
خامسًا- ومن يتأمل صيغ النفي في السورة الكريمة، يجد أن النفي لم يأت في حقالكافرين إلا بصيغة الفاعل:﴿ وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ. وأما في جهة النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاءالنفي بالفعل المضارع:﴿ لا أَعْبُدُ ﴾ تارة، وبصيغة الفاعل:﴿وَلا أَنَا عَابِدٌ ﴾ تارة أخرى؛ وذلك- والله أعلم- لنكتة بديعة، وهي أن المقصود الأعظم من ذلك براءته صلى الله عليهوسلم، من معبوديهم بكل وجه، وفي كل وقت؛ ولهذا أتى في هذا النفي بصيغة الفعل الدالةعلى الحدوث والتجدد، ثم أتى بصيغة اسم الفاعل الدالة على الوصف والثبوت؛ فأفاد في النفي الأول أن تلك العبادة لا تقع منه أبدًا، وأفاد في النفي الثاني أن تلك العبادة ليست من وصفه، ولا من شأنه؛ فكأنه قال عليه الصلاة والسلام: عبادة غير اللهتعالى لا تكون فعلاً لي، ولا وصفًا من أوصافي، فأتى بنفييْن لمنفيَّين مقصودين بالنفي.
وأمافي حق الكافرين فإنما أتى بصيغة الفاعل الدالة على الوصف والثبوت دون الفعل؛ فأفادذلك أن الوصف الثابت اللازم، العائد لله تعالى، منتفٍ عن الكافرين؛ لأن هذا الوصف ليسثابتًا لهم؛ وإنما هو ثابت لمن خصَّ الله تعالى وحده بالعبادة، ولم يشرك معه فيهاأحدًا.
قال ابن قيِّم الجوزيَّة: فتأمل هذه النكتة البديعة، كيف تجد في طيَّها أنه لا يوصف بأنه عابدٌ للهتعالى، وأنه عَبْدُهُ المستقيم على عبادته، إلا من انقطع إليه بكلِّيته، وتبتَّل إليهتبتيلاً، لم يلتفت إلى غيره، ولم يشرك به أحدًا في عبادته، وأنه، وإن عبده وأشركبه غيره، فليس بعابدٍ لله تعالى، ولا عَبْدًا له سبحانه. وهذا من أسرار هذه السورة العظيمة الجليلة، التي هي إحدى سورتيْ الإخلاص،والتي تعدل ربع القرآن، كما جاء في بعض السنن. وهذا لا يفهمه كل أحد، ولا يدركه إلامن منحه الله فهمًا من عنده.. فلله الحمد والمِنَّة .
سادسًا- ومن أسرارهذه السورة، التي لا يكاد يُفطَن إليها أنالنفي فيها أتى بأداة النفي { لا }، ولم يأت بالأداة { ما }،مع أن نفي الحاضر الدائم والمستمر بـ{ ما } أولى من نفيه بـ{ لا }، وأكثر منه استعمالاً. والسر في ذلك أن { ما } لا ينفى بها في الكلام إلا ما بعدها، وأنها لا تكون إلا جوابًا عن الدعوى. أما { لا } فينفى بها في أكثر الكلام ما قبلها، فيكون ما بعدها في حكم الوجوب، وأنها تكون جوابًا عن السؤال، وتكون ردًّا لكلام سبق. هذا من جهة.. ومن جهة أخرى فإن { لا }، إذا نفي بها المضارع، فإنها تدل على نفيه نفيًا شاملاً مستغرقًا لكل جزء من أجزاء الزمن، بدون قرينة تصحبها؛ كقوله تعالى:﴿عَالِمِ الغَيْبِلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ﴾(سبأ: 3). أما { ما } فلا تدل على نفي المضارع على سبيل الاستغراق والشمول إلا بوجود قرينة تصحبها، وهي{ من } الاستغراقية؛ كقوله تعالى:﴿وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ ﴾(يونس: 61).
وبهذا تكون هذه السورة العظيمة قد اشتملت على النفي المحض. وهذا هو خاصيَّتها؛ فإنها سورة براءةٍ من الشرك- كما جاء في وصفها- فالمقصود الأعظم منها هو البراءة المطلوبة بين الموحدين، والمشركين؛ ولهذا جيء بالنفي في الجانبين تحقيقًا للبراءة المطلوبة، مع أنها متضمنَّة للإثبات صريحًا، فقول النبي صلى الله عليه وسلم:﴿ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ براءة محضة. وقوله:﴿ وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَمَا أَعْبُدُ ﴾إثبات أن له عليه الصلاة والسلام معبودًا، يعبده، وأنهم بريئون من عبادته، فتضمَّنت بذلك النفي، والإثبات، وطابقت قول إمام الحنفاء سيدنا إبراهيم عليهالسلام:﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ﴾(الزخرف: 26- 27)،وطابقت قول الفئة الموحِّدين:﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا ﴾(الكهف: 16)، فانتظمت بذلك حقيقة { لا إله إلا الله }.
ولهذا- كما قال ابن قيِّم الجوزيَّة- كان النبيصلى الله عليه وسلم يقرن هذه السورة العظيمة بسورة ( قل هو الله أحد )، في سنةالفجر، وسنة المغرب؛ فإن هاتين السورتين ( سورتي الإخلاص ) قد اشتملتا على نوعَيْالتوحيد، الذي لا نجاة للعبد، ولا فلاح له إلا بهما:
النوع الأول: توحيد العلموالاعتقاد، المتضمِّن تنزيه الله تعالى عمَّا لا يليق به، من الشرك والكفر، والولدوالوالد، وأنه إله أحد صمد، لم يلد فيكون له فرع، ولم يولد فيكون له أصل، ولم يكنله كفوًا أحد، فيكون له مِثْل. ومع هذا فقد اجتمعت له جل جلاله صفات الكمال كلها؛فتضمنَّت السورة إثبات ما يليق بجلاله من صفات الكمال، ونفي ما لا يليق بجلاله منالشريك أصلاً وفرعًا، وشبهًا ومثلاً.. فهذا هو توحيد العلم والاعتقاد.
والنوع الثاني:توحيد القصد والإرادة؛ وهو أن لا يُعبدَ إلا إياه، فلا يُشرَك به في عبادته سواه، بليكون وحده هو المعبود. وسورة ( الكافرون ) مشتملة على هذا النوع من نوعيْالتوحيد، فتضمنت بذلك السورتان نوعيْ التوحيد، وأخلصتا له.
سابعًا- ومن أسرار هذه السورة العظيمة ما تضمنه قوله تعالى في ختامها من التأكيد:﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ.
والسؤال هنا: هل أفاد هذا معنى زائدًا على ما تقدَّم ؟ والجواب: أن النفي في الآياتالسابقة أفاد براءته صلى الله عليه وسلم من معبوديهم، وأنه لا يتصور منه، ولاينبغي له أن يعبدهم، وهم أيضًا لا يكونون عابدين لمعبوده؛ كما أفاد إثبات ما تضمنهالنفي من جهتهم من الشرك والكفر، الذي هو حظهم ونصيبهم، فجرى ذلك مجرى من اقتسمهو، وغيره أرضًا، فقال له: لا تدخل في حدِّي، ولا أدخل في حدِّك، لك أرضك، وليأرضي. فتضمَّنت الآية أن هذه البراءة اقتضت أن المؤمنين، والكافرين اقتسموا حظهمفيما بينهم، فأصاب المؤمنين التوحيدُ والإيمان، فهو نصيبهم، الذي اختصوا به، لايشركهم الكافرون فيه. وأصاب الكافرين الشركُ بالله تعالى والكفر به، فهو نصيبهم، الذياختصوا به، لا يشركهم المؤمنون فيه.
ثم إن في تقديم حظ الكافرين ونصيبهم في هذه الآية على حظ المؤمنين ونصيبهم، وتقديم ما يختص به المؤمنون على ما يختص به الكافرون فيأول السورة، من أسرار البيان، وبديع الخطاب ما لا يدركه إلا فرسان البلاغةوأربابها، وبيان ذلك:
أن السورة، لما اقتضت البراءة، واقتسام دينَيْ التوحيد،والشرك بين النبي صلى الله عليه وسلم، وبين الكافرين، ورضي كلٌّ بقسمه، وكان المحقهو صاحب القسمة، وعلم أنهم راضون بقسمهم الدون، وأنه استولى على القسم الأشرف،والحظ الأعظم، أراد أن يشعرهم بسوء اختيارهم، فقدم قسمهم على قسمه، تهكمًا بهم،ونداءً على سوء اختيارهم، فكان ذلك- كما يقول ابن قيِّم الجوزيَّة- بمنزلة من اقتسمهو، وغيره سُمًَّا، وشفاءً، فرضي مقاسمه بالسمِّ؛ فإنه يقول له: لا تشاركني فيقسمي، ولا أشاركك في قسمك. لك قسمك، ولي قسمي !
ولهذا كان تقديم قوله تعالى:﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ ﴾ على قوله:﴿ وَلِيَ دِينِ هنا أبلغ وأحسن؛ وكأنه يقول: هذا هو قسمكم، الذي آثرتموهبالتقديم، وزعمتم أنه أشرف القسمين، وأحقهما بالتقديم !!
وذكر ابن قيِّمالجوزيَّة وجهًا آخر، وهو: أن مقصود السورة براءة النبي صلى الله عليه وسلم مندينهم، ومعبودهم- هذا هو لبُّها ومغزاها- وجاء ذكر براءتهم من دينه ومعبوده بالقصدالثاني مكمِّلاً لبراءته، ومحققًا لها. فلما كان المقصود براءته من دينهم، بدأ بهفي أول السورة، ثم جاء قوله تعالى:﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ ﴾ مطابقًا لهذا المعنى. أي: لا أشارككم فيدينكم، ولا أوافقكم عليه؛ بل هو دين تختصون به أنتم، فطابق آخر السورةأولها.
فتأمل هذه الأسرار البديعة المعجزة، واللطائف الدقيقة، التي تشهد أنالقرآن الكريم تنزيل من حكيم حميد، وأنه الأعلى في الفصاحة، والبلاغة،والبيان !
الأستاذة: رفاه محمد علي زيتوني
مدرسة لغة عربية- حلــــب
[email protected]
موضوع مغلق


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 16 ( الأعضاء 0 والزوار 16)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 296.03 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 290.21 كيلو بايت... تم توفير 5.82 كيلو بايت...بمعدل (1.97%)]