أم أنس بن مالك - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         لغة البكاء.. هل تفهمها؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          قـامـوس البدع العقـديــة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 46 - عددالزوار : 2534 )           »          وحدة الصف ليست بالتمني ولا بالتحلي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          إصلاح عيوب النفس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 80 - عددالزوار : 18345 )           »          تفضيل بعض القرآن على بعض (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          ضوابط في التعامل مع مواقع التواصل الاجتماعي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4433 - عددالزوار : 869337 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3964 - عددالزوار : 401798 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العام > الملتقى العام > ملتقى أعلام وشخصيات
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى أعلام وشخصيات ملتقى يختص بعرض السير التاريخية للشخصيات الاسلامية والعربية والعالمية من مفكرين وأدباء وسياسيين بارزين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 16-03-2020, 03:51 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,579
الدولة : Egypt
افتراضي أم أنس بن مالك

أم أنس بن مالك
أحمد الجوهري عبد الجواد




وراء كل عظيم أم

(4) أم أنس بن مالك


لو كان لأمٍّ أن تفخر على ابنها بعطيَّة، وأن تفخر بابنها على أمَّة الإسلام، وأن تفخر على أمَّة الإسلام بحظِّ بيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكان ذلك - مجتمعًا - مِن نصيب أمِّ أنس بن مالك رضي الله عنها وعنه.

فقد قدَّمَت أمُّ أنسٍ لولدها أنس وللأمَّة خيرَ هديَّة، حين أخدَمتْه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فكانت بذلك سببًا من أسباب حفظ الله للسنَّة النبويَّة، ومن ثَمَّ حِفظ الدِّين كله؛ فقد استطاع أنس من خلال خدمته للنبي صلى الله عليه وسلم أن ينقل لنا ألوف الأحاديث، بل نقل لنا من أحواله وأقواله وأفعاله ما لم ينقله غيره؛ لموضعه ذاك، إذ أتاح له أن يطَّلع على ما لم يطَّلع عليه أحدٌ سواه.

فمن حقِّ أم أنس إذًا أن تفخر بعملها وبابنها وصنيعِه ذاك.
لقد كانت فكرة الخدمة تلك من بُنيَّات أفكار أمِّ أنس، فكَّرتْ فيها حين غابت عن غيرها من الأمَّهات، وسَعَتْ في تنفيذها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجاب النَّبي الكريم طلبها، وحقَّق رغبتها.

فعن أنس، قال: قَدِم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ وأنا ابن ثمان سنين، فأخذَتْ أمِّي بيدي، فانطلَقتْ بي إليه، فقالت: يا رسول الله، لم يبقَ رجل ولا امرأة مِن الأنصار إلا وقد أتحفك بتحفة، وإنِّي لا أقدر على ما أُتحفك به إلا ابني هذا، فخُذه، فليَخدُمك ما بدا لك.
قال: فخدمتُه عشرَ سنين، فما ضرَبني، ولا سبَّني، ولا عبس في وجهي[1].

ونِعم التحفةُ تحفةُ أمِّ أنس، ونِعم الهمَّة همَّتها، إنَّها لهمَّة عالية، ورغبة سامية من تلك الأم الكريمة، حين أرادت أن يَحظى ابنُها بهذا الشرف، ويدوم له على طول الزمان فخره وعزُّه، وقد كان ذلك، فقد ارتبط اسم أنس على مرِّ القرون باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلقب: "خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ذلك اللَّقب الذي كان أنس يتلقَّب به ويفتخر به، فكثيرًا ما كان يقول: إنِّي لأرجو أن ألقى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في يوم القيامة، فأقول له: يا رسول الله، هذا خُوَيدمك أنس[2].

كانت أمُّ أنس - واسمها مليكة بنت ملحان، وتُلقَّب بالغميصاء أو الرميصاء، وشهرتها أمُّ سليم[3]- هي التي قامت على تربية ابنها والعنايةِ بشأنه، وقد احتملَتْ أمانتها بقوَّة، ومضت بها في عزيمة عُهدت عنها من أول يوم دخلَتْ فيه دين الإسلام؛ فقد كانت تحت مالك بن النَّضر في الجاهلية، فولدت له أنسَ بن مالك، فلما بعث الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم بالإسلام، كانت أم سُليم ممَّن سارَع إليه، فأسلمت مع قومها، ودعت زوجها مالكًا إلى الدخول في دين الإسلام، فأبى وغضب عليها وهجَرها، ثمَّ إنه خرج إلى الشام فهلك هناك[4]، والرجل يومئذٍ عمود البيت وقوامه وأساسه، فثباتها رضي الله عنها يدلُّ على إيمانٍ راسخ، وجَنان ثابت، وعزمٍ قوي، وهمَّة عالية.

كان على أمِّ سُليم أن تُكمل المسيرةَ في تربية وليدها وحدَها، وقد وفت بذلك وكفَتْ رضي الله عنها، ومَن لهذا المقام مثلها وهي ذات العقل الراجح، والرأي الناصح؟ وموقفها مع زوجها أبي طلحة يوم وفاة ولدهما يدل على ذلك، فعن أنس رضي الله عنه قال: كان ابنٌ لأبي طلحة رضي الله عنه يَشتكي، فخرج أبو طلحة فقُبض الصَّبي، فلما رجع أبو طلحة قال: ما فعل ابني؟ قالت: أمُّ سُليم - وهي أمُّ الصبي -: هو أسكن ما كان، فقرَّبَتْ إليه العشاءَ، فتعشَّى ثمَّ أصاب منها، فلما فرغ قالت: واروا الصَّبي، فلما أصبح أبو طلحة أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: ((أعرستم الليلةَ؟))، قال: نعم، قال: ((اللهمَّ بارِك لهما))، فولدَتْ غلامًا، فقال لي أبو طلحة: احْمِله حتى تأتي به النَّبي صلى الله عليه وسلم، وبعث معه بتمرات، فقال: ((أمَعه شيء؟))، قال: نعم، تمرات، فأخذها النبي رضي الله عنهم فمضغها، ثمَّ أخذها من فيه فجعلها في فِي الصَّبي ثمَّ حنَّكه، وسمَّاه عبدالله.

وفي روايةٍ للبخاري قال ابن عُيينة: فقال رجل من الأنصار: فرأيتُ تسعةَ أولاد كلهم قد قرؤوا القرآن؛ يعني: من أولاد عبدالله المولود[5].
تلك امرأة صابرة مباركٌ صبرُها.

وهي أيضًا ذات حكمة بالِغة؛ فقد ورَد في بعض الروايات الصحيحة أنَّ أمَّ أنس رضي الله عنه علَّمتْه القراءةَ والكتابة وهو دون عشر سنين، ولم تأتِ به النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان يجيدهما، روى أحمد في مسنده عن أنس قال: أخذَتْ أمُّ سُليم بيدي مَقدَمَ النَّبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ، فأتَتْ بي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسولَ الله، هذا ابني، وهو غلام كاتِب، قال: فخدَمتُه تسعَ سنين، فما قال لي لشيءٍ قط صنعتُه: أسأتَ، أو: بئسما صنعتَ[6].

ومَن عرَف حالَ العرب من حيث القراءة والكتابة في ذلك الزَّمان العتيق، أدرك أيَّ عمل عظيم قامت به تلك الأم العظيمة لأجل البلوغ بولدها منازل العظماء، فلله درُّها!
ومِن عظيم منَّة أم سُليم على ابنها أنس - وهو شاهد على وَفرة فطنتها كذلك -: أنَّها أبَتِ الزواجَ بعدَ والده، مشترطة لحدوث ذلك أن يكبر أنس، ويجلس في المجالس، ويحدِّث الرجال، فكانت تقول: لا أتزوَّج حتى يبلغ أنس ويجلس في المجالس، وكان أنس يقول عن ذلك: جزى الله أمِّي عنِّي خيرًا، لقد أحسنَتْ ولايتي[7].

تحقق شرط أم أنَس في ولدها، وبلَغ وجلس مجلسَ الرجال وتكلَّم، فجاءها الخُطَّاب من كل ناحية، وكان فيمن أتاها الصحابي الجليل أبو طلحة زيد بن سهل الأنصاري[8]، وتزوَّجتْ به أمُّ سليم، وقد أخلَف الله عليها به، وكان زواجهما آيةً من آيات الله تعالى، فإنه حين ذهب لخطبتها - وكان إذ ذاك كافرًا - قالت له أمُّ سُليم صاحبة العقل الكبير: "يا أبا طلحة، ما مثلك يُردُّ، ولكنَّك امرؤ كافر، وأنا مسلمة لا تحلُّ لي، فإن تُسلِمْ فذلك مَهري"، فأسلَمَ، فكان ذلك مهرها، قال ثابت البناني: فما سمِعنا بمَهر كان قط أكرم مِن مَهر أم سليم: الإسلام[9]، وبذلك كان مهرها أعظمَ مَهر عُرف في الأمة كلِّها، كان مهرها الإسلام!
وهذا المهر مَهرٌ ما أظنُّه وقع في التاريخ مثله، ويندر أن يتكرَّر.

مَنَّ الله على أبي طلحة، فكان بعد إسلامه وزواجه من أمِّ سُليم من المقدَّمين في قومه المسلمين مِن الأنصار في المدينة، فكان أحد النُّقباء الاثني عشر في بيعة العقبة، وشهد بدرًا وما بعدها من المَشاهد، وقد كان رضي الله عنه من الشُّجعان والرماة المعدودين في الجاهلية والإسلام.
لقد شملَتْه برَكةُ أمِّ سليم، تلك المرأة والأم المباركة.

ومن جميل ما قرأتُه في أمر زواجهما أنَّ أبا طلحة لما خطب أمَّ سُليم قالت له: يا أبا طلحة، ألستَ تعلم أنَّ إلهك الذي تعبد نَبتَ مِن الأرض؟ قال: بلى، قالت: أفلا تَستحي تَعبد شجرة؟! إن أسلمتَ فإنِّي لا أريد منك صَداقًا غيره، قال: حتى أنظر في أمري، فذهب ثم جاء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فقالت: يا أنس، زوِّج أبا طلحة، فزوَّجها[10].

تلكم أم أنس، وذاكم عقلها، فمَن مِن النساء تُجاريها في ذلك، أو تحاول لأعمالها تشبيهًا؟
وقد كان أنسٌ بين هذين العظيمين - أم سُليم وزوجها أبي طلحة - ولو قُدِّر له أن يتربَّى بينهما وفي بيتهما، لكان صاحب مقام عظيم، ولَتبوَّأ مكانةً مرموقة في الإسلام، لكن ذلك المقام وتلك المكانة ما كانا أبدًا ليصِلا به إلى ما وصله بخِدمته رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتربيته على يدي مربِّي الإنسانيَّة محمد صلى الله عليه وسلم!

حين بلَغ أنس العاشرةَ من عمره، أتتْ به أمُّه أم سُليم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ليخدمه ويتربَّى على يديه، قائلة: "هذا أنسٌ غلامٌ يخدمك"[11]، فقَبِله رسولُ الله، وإن أنسًا ليَذكرُ ذلك اليوم ويحدِّث به في كلِّ مجلس مفتخرًا ومبتهجًا بما آتاه الله من فَضْل، وأكرمه من نعمة، يذكره بحذافيره، حتى إنَّه ليذكر ملابسَه وقتَها؛ ما كانت، ومن أيِّ نوع، وعلى أيِّ نحو لبسها، يقول: قد أزَّرَتْني بنِصف خمارها، وردَّتني ببعضه، فقالت: يا رسولَ الله، هذا أُنيس ابني، أتيتُك به يخدمك، فادعُ اللهَ له، فقال: ((اللهمَّ أكثر مالَه وولدَه))[12].

ومنذئذٍ وأنسٌ يتقلَّب في نِعَم مِن ورائها نِعَم، يستمدها من مَعين التَّربية المصطفويَّة، ويقبسها من الشَّمائل المحمَّديَّة، ثمَّ يذيع ذلك على آذان الأمَّة لتعيها أُذن واعية.
يقول أنس: "خدمتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عشرَ سنين، فما قال لي: أفٍّ قَطُّ، وما قال لشيء صنعتُه: لِمَ صنعتَه؟! ولا لشيء تركتُه: لِمَ تركتَه؟! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن أحسن الناس خُلُقًا، ولا مسستُ خزًّا قطُّ ولا حريرًا ولا شيئًا كان أليَنَ من كفِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممتُ مسكًا قطُّ ولا عِطرًا كان أطيب من عرَق رسول الله صلى الله عليه وسلم"[13].

على مثل هذه القيم العظمى تربَّى أنس، وبها تخرَّج في مدرسة النبوَّة.
ومجالُ الحديث عن أنس وعن أثَر تربية النبي صلى الله عليه وسلم في حياته - مجالٌ خصبٌ، ينتظر الأقلامَ المبدعة لتستخرج منه للأجيال دررًا ولآلئ.

أسَرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يومًا إلى خادمه أنس بسِرٍّ، وكأنَّه أمره أن يحمله ويبلِّغه عنه إلى بعض نسائه، ثمَّ أوصاه فقال له: ((لا تخبر بسرِّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أحدًا))، فخرج أنس إلى الطريق، وهو يومئذٍ صَبي يَلهو كما يلهو الصِّبيان، ويستهويه ما يستهويهم، فوجد الصبيانَ يلعبون فقعد يلعب معهم، ثم إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم خرج في بعض حاجته فوجد أنسًا يلعب، فجاء النبيُّ فسلَّم على الصبيان، ثمَّ أخذ بأُذن أنس يداعبها، وقال: ((أيْ لُكع! ألم أبعثك في حاجة؟))، فقال أنس معتذِرًا: نسيتُ، فقال له صلى الله عليه وسلم: ((الآن فاذهب)).

وكأنَّ أنسًا عرَّج في طريقه على بيتهم لحاجة، فسألَتْه أمُّه أمُّ سليم: فيمَ كنتَ؟ فقال لها: كنتُ في حاجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت - تختبره -: ما حاجتُه؟ فقال أنس: إنها سرٌّ! قالت أمُّ سليم: احفَظْ سِرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تُخبِرْ به أحدًا.
لقد كان أنس رضي الله عنه يحدِّث بهذا الحديث تلميذَه الوفي "ثابتًا البنانيَّ"، وأنس حينئذٍ ابن تسعين سنة - وقد مَرَّ على الحادثة قريب من ثمانين سنة - فقال له: واللهِ، لو حدَّثتُ به أحدًا، لحدَّثتُك يا ثابت، وإنِّي ما أخبرتُ به أحدًا بعد رسول الله، ولقد سألتني أمِّي أم سُليم، فما أخبرتُها به[14].

هذا موقفٌ واحد من ألوف المواقف كانت بين النبي وخادمه أنس، وجميعها ينضح عطرًا، ويرشح عنبرًا.
ويسترعي الانتباهَ في هذا الموقف: حُسنُ تربية النَّبي صلى الله عليه وسلم في مسلكها وأثرها، وعظم دور أم أنس رضي الله عنها في دَعْم هذه التربية وتثبيتها وتشجيعها، وتفاصيل أُخر لها مناسبات أخرى تليق بتفصيلها[15].

فأيُّ أمٍّ أعظم منَّة على ولدها من أمِّ أنس بن مالك بصنيعها ذلك له؟
لقد صار أنس كلُّه وكلُّ ما قدَّمه لهذا الدين في ميزان أمِّه، فنِعم العطاء الذي أعطَتْه له، ونِعم العمل الذي قدَّمتْه لهذا الدِّين!
لقد كانت أم أنس سببًا في دُعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنس بن مالك أكثر من مرَّة، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم له: ((اللهمَّ ارزقه مالًا وولدًا، وبارِك له))، روى مسلم عن أنسٍ، قال: دخَل النبيُّ صلى الله عليه وسلم علينا، وما هو إلَّا أنا وأمي وأم حرامٍ خالتي، فقالت أمِّي: يا رسول الله، خُويدمك، ادعُ الله له، قال: فدعا لي بكلِّ خيرٍ، وكان في آخر ما دعا لي به أن قال: ((اللهمَّ أكثِرْ مالَه وولدَه، وبارِك له فيه))[16].

وقد استجاب الله سبحانه دعاءَ نبيِّه؛ فكان أنس أكثرَ الأنصار مالًا، وأوفرهم ذريَّةً، حتى إنَّه رأى من أولاده وحفدَتِه ما يزيد على المائة، وقد بارك الله له في عمره حتى عاش قرنًا كاملًا وفوقه ثلاث سنوات[17].
قال أنس - يشير إلى بركة دعاء النبي له -: فقد رأيتُ اثنتين، وأنا أنتظر الثالثةَ، واللهِ إنَّ مالي لكثير، وإنَّ ولدي وولد ولدي لَيَتعادُّونَ على نحو من مائة، وفي رواية: وإنَّ كرمي ليحمل في السنة مرَّتين، وإن ولدي لِصُلبي مائة وستة أولاد[18].

وكان آخر أصحاب النبي موتًا[19].
وهو صلى الله عليه وسلم مَن كان كنَّاه أبا حمزة.
لقد كانت الرميصاء فقيهةً، ومِن فقهها قولُها رضي الله عنها لما سمعت بمقتل عثمان رضي الله عنه: "رحمه الله، أمَا إنَّه لم يحلبوا بعده إلا دمًا"[20]، وكانت عالمةً، أخذَتْ عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا من الأحاديث وسألَتْه في كثير من الأحكام؛ ولذا كانت بعد ذلك تُسأل فتعرف، وتُستفتى فتُفتِي بما سمعَتْ من النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت رضي الله عنها عاملةً بما تَعلم، وفيَّةً للعلم الذي تحمله؛ فقد وفت بما عاهدَتْ عليه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مع النساء بما أخذ عليهنَّ من عهد، قالت أمُّ عطية رضي الله عنها: "أخذ علينا النَّبيُّ عند البيعة أن لا ننوح، فما وفت منا غير خمس نسوة: أم سليم، وأم العلاء، وابنة أبي سبرة، وامرأة معاذ، وامرأة أخرى"[21].

وكانت أم سُليم تُجِلُّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وتوقِّره، وتَعرف فضلَه وتقدِّره، وتحرص على بركته واقتفاءِ أثره؛ عن أنس أنَّ أم سُليم كانت تَبسط للنبيِّ عليه الصلاة والسلام نِطعًا فيَقيل عندها على ذلك النِّطع، قال: فإذا نام النَّبي عليه الصلاة والسلام، أخذَتْ مِن عرَقه وشَعَرِه فجمعَتْه في قارورة، ثمَّ جمَعتْه في سُكٍّ، قال: فلما حضَر أنسَ بن مالك الوفاةُ، أَوصى إلى أن يُجعل في حَنوطه من ذلك السُّكِّ، قال: فجُعل في حَنوطه[22].

وعن أنس بن مالك أيضًا، قال: دخَل علينا النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقَالَ عِندنا، فعَرِق، وجاءت أمِّي بقارورة، فجعلَتْ تَسلُتُ العرَقَ فيها، فاستيقظ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا أمَّ سُليم، ما هذا الذي تَصنعين؟!))، قالت: هذا عَرَقُك نجعله في طِيبِنا، وهو مِن أطيَب الطِّيب[23].
لقد أرادت أمُّ سُليم أن ينال بيتها - كما نال ابنها - مِن برَكة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فكان لها أيضًا ما تمنَّتْ؛ إذ لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثِر أن يَدخل بيتًا بعد بيوت أزواجه غير بيت أم سُليم وأبي طَلحة رضي الله عنهما[24].

وكانت السيدة الكريمة إذا زارهم النَّبي صلى الله عليه وسلم تتحفه بالشيء تَصنعه له.
تبوَّأ ولدُها أنس بن مالك رضي الله عنه مرتبةً عليَّة أيضًا بمحفوظاته عن رسول الله؛ إذ يأتي في المرتبة الثالثة بعد ابنِ عمر وأبي هُريرة رضي الله عنهم في كثرة الأحاديث التي رَواها وحفِظها مِن رسول الله، ويبلغ مسنده (2286) حديثًا، اتَّفق له البخاريُّ ومسلم على (180) حديثًا، وانفرد البخاريُّ بـ (80)، ومسلم بـ (90) حديثًا[25].

قال السيوطيُّ في ألفية الحديث:
وَالمُكْثِرُونَ فِي رِوَايَةِ الأَثَرْ
أَبُو هُرَيْرَةَ يَلِيهِ ابْنُ عُمَرْ

وَأَنَسٌ وَالبَحْرُ كَالخُدْرِيِّ
وَجَابِرٌ وَزَوْجَةُ النَّبِيِّ[26]


وكان النبيُّ قدِم إلى المدينة وأنَسٌ ابن عشر سنين، ومات وهو ابن عشرين سنة، فقضى معه أنس عشر سنين يُصبِح ويمسي مع رسول الله، يحيا معه ويخدمه، ويطَّلع على شؤونه كلها.
هذا بعض عَطاءِ أنس لنا ولأمَّتنا، وهو عطاء أمِّه لنا مِن قبله، وعطاؤها للإسلام وأهله مِن خلال ولدها، فانظروا كيف تستطيع أمٌّ أن تقدِّم أعظمَ الخدمات الشرعيَّة والتربوية والحضارية من خلال تربية أبنائها؟

ومِن مآثِر تلك الأم العظيمة إلى جانب التربية الذي جلينا بعض جوانبه: شجاعتها وإقدامها في المَشاهد المختلفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كانت تَخرج فيمن يخرجنَ مِن النساء، ولها في ذلك قصص كثيرة؛ منها ما أخرجه مسلم عن أنس، أنَّ أمَّ سُليم اتَّخذتْ يومَ حُنينٍ خَنجرًا فكان معها، فرآها أبو طلحة فقال: يا رسول الله، هذه أم سُليم معها خنجر، فقال لها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((ما هذا الخَنجرُ؟!))، قالت: اتَّخذتُه؛ إن دنا منِّي أحد من المشركين، بقَرتُ به بطنَه، فجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَضحك، قالت: يا رسولَ الله، اقْتُل مَن بعدنا مِن الطُّلَقاء انهزموا بك، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أمَّ سُلَيم، إنَّ الله قد كَفى وأحسَن))[27].

عاشت الرميصاء أيامَ النبيِّ، فوَفتْ بما عاهدَتْه عليه، وتوفِّي عنها وهو عنها راضٍ، بل بشَّرها قبل أن يمضي بالجنَّة؛ كما في البخاري من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((رأيتُني دخلتُ الجنَّةَ، فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طَلحة، وسمعتُ خَشْفَةً، فقلتُ: مَن هذا؟ فقال: هذا بلالٌ، ورأيتُ قَصرًا بفنائه جاريةٌ، فقلتُ: لِمن هذا؟ فقال: لعمر، فأردتُ أن أدخلَه فأنظر إليه، فذكرتُ غَيْرتَك))، فقال عمر: بأبي وأمِّي يا رسول الله، أعليك أغار؟

عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((دخلتُ الجنَّةَ فسمعتُ خشفةً - يعني: صوتَ حركة المشي - فقُلتُ: مَن هذا؟ قالوا: هذه الغميصاء بنت ملحان أم أنس بن مالكٍ)).
وعاشَتْ رضي الله عنها أيَّام الخير عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين، ثمَّ توفِّيتْ في حدود الأربعين أيام معاوية رضي الله عنه.

وفي حياة أم أنس رضي الله عنها للأمِّ المسلمة فوائدُ وعِبَر كثيرة، منها:
إقدامها على الخير رغم ما تكتنفه من صعوباتٍ؛ فقد رأيناها تُسارِع مع السَّابقين الأولين إلى الإسلام، ولم تتراجَع عن إقدامها حين أبَى زوجُها موقفَها وهجَرَها لأجله؛ بل ثبتَتْ على المبدأ الذي رأَتْه صوابًا.

علوُّ همَّتها وحرصها على خير الخير لابنها.
إبداعها في موقفها؛ إذ فكَّرَتْ رضي الله عنها في عمل حقَّقتْ من خلاله خدمةَ الإسلام، وخدمة الرَّسول، وخدمة الأمَّة، وخدمة ابنها، وكانت فكرتها تلك فريدةً من نوعها.

حرصها على جَوْدة مخرجها وإنتاجها، فلم تكتف بإيداع ولدها لدى مَن تثق به السماوات والأرض، حتى دعمَتْ تلك التربية بالسؤال والتحفيز والتشجيع والتأييد، وكان أنس يقول: "كُنَّ أمَّهاتي يَحْثُثْنني على خِدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم"[28].

وغير ذلك من الفوائد التي لا تَخفى على اللَّبيب.
أجزل الله لأمِّ سُليم المثوبةَ والجزاء على ما أعطَتِ الإسلام وبذلَتْ لأجله، ورَزَقنا بأمَّهاتٍ مثلها، يقمن بمثل عملها.


[1] رواه أبو يعلى (3624)، وغيره، وانظر سنن الترمذي ح (589)، وإتحاف الخيرة (8/ 405) للبوصيري.

[2] رواه أبو داود الطيالسي، وأبو يعلى الموصلي، وانظر إتحاف الخيرة المهرة (7/ 259).

[3] انظر في ترجمتها: الإصابة في تمييز الصحابة (8/ 227).

[4] الإصابة في تمييز الصحابة (8/ 227).

[5] رواه البخاري (1301)، ومسلم (2144).

[6] رواه أحمد في المسند (12273)، وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.

[7] طبقات ابن سعد (10/ 396).

[8] انظر سيرته في: سير أعلام النبلاء (2/ 27).

[9] أخرجه عبدالرزاق (10417) والطيالسي في مسنده (2590) وغيرهما بإسناد صحيح.

[10] حلية الأولياء (2/ 60).

[11] يأتي تخريجه من مسند أحمد.

[12] أخرجه مسلم (2481).

[13] أخرجه مسلم (2330)، وغيره.

[14] سُقتُه من مجموع روايات، انظر: البخاري (5931)، وشرح الحافظ على الحديث.

[15] انظر: كتاب "من معين التربية الإسلامية"، الفصل الأخير؛ للأستاذ منير الغضبان، فقد أجاد رحمه الله التحليق في سماء التربية بهذا الحديث.

[16] رواه مسلم (2481).

[17] صور من حياة الصحابة (16).

[18] انظر: البداية والنهاية (8/ 301)، ط هجر.

[19] سير أعلام النبلاء (3/ 396).

[20] البداية والنهاية (7/ 195).

[21] رواه البخاري (1244).


[22] رواه البخاري (5925).

[23] رواه مسلم (2331).

[24] رواه البخاري (2689).

[25] دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (1/ 98)، وانظر في حياة أنس: سير أعلام النبلاء (3/ 395).

[26] ألفية الحديث؛ للسيوطي، وانظر شرحها لمحيي الدين عبدالحميد (2/ 22) دار ابن القيم.

[27] رواه مسلم (1809).

[28] أخرجه أحمد (3/ 110)، ومسلم (2029).


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 75.09 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 73.38 كيلو بايت... تم توفير 1.71 كيلو بايت...بمعدل (2.28%)]