رؤيةٌ جديدةٌ في تَفسير معلقة امريء القيس - ملتقى الشفاء الإسلامي
 

اخر عشرة مواضيع :         انشودة يا أهل غزة كبروا لفريق الوعد (اخر مشاركة : أبـو آيـــه - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4421 - عددالزوار : 858896 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3953 - عددالزوار : 393259 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12535 - عددالزوار : 215630 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 64 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 51 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 50 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 53 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 50 )           »          اضطراباتي النفسية دمرتني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 52 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى الشعر والخواطر

ملتقى الشعر والخواطر كل ما يخص الشعر والشعراء والابداع واحساس الكلمة

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 20-01-2020, 11:34 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رؤيةٌ جديدةٌ في تَفسير معلقة امريء القيس

رؤيةٌ جديدةٌ في تَفسير معلقة امريء القيس
د. أيوب جرجيس العطية


رؤيةٌ جديدةٌ في تَفسير المُقدّمَة الطَّلليّة- مُعلّقة امريء القيس نموذجا

فاتحة:
هذه الدراسة جاءت محاولةً على نص امرئ القيس لأسباب متعددة:
1ـ لأنه نصِّ عربي قديم شاع عنه بأنه مفكك الأجزاء لا وحدة فيه فيثبت التحليل خلاف ما هو مشهور.
2ـ وجاهلي لأنه يرى ضرورة إقامة جسور بين هذا الخط الوافد في التحليل، والموروث الأدبي.
3ـ ولأن القصيدة متداولة بين طلاب العربية ودارسيها، ومعنى ذلك أن تحليلها سيفتح آفاقاً في تحليل النصوص ولا سيما القديمة منها.
تقسيم النصّ ومفاتِحُه:
شاع عند الدارسين والنقاد أن معظم النصوص القديمة تلتزم ببناء تقليدي الوقوف على الأطلال، ثم الدخول في الموضوع (المدح، الهجاء، الوصف...)، ثم يختمها بأبيات من الحكمة، وهذه الأجزاء أو الموضوعات لا تلاحم بينها ولا يربطها رابط بمعنى أنها تفتقر إلى الوحدة الموضوعية (الفنية).
أقول:آن للدارس أن يتأمل النص الشعري، وينظر إليه نظرة فاحصة وشمولية ليتمكن من الوقوف على مفاتيح النص وتقسيماته ودلالاته .
وإذا وقف الناقد على مفاتيح النص صار التحليل في صميم النصّ ومعناه، وقرُب من مراد الشاعر ورؤاه.
فالمتأمل في معلقة امرئ القيس يجد أنّها غوص في شجن الذات، في آمالها وآلامها، يتخللها موقف شعوري عام تتقابل لوحاته وتتراسل ليمنح القصيدة حركة ويبعدها من الرتابة والسكون[1].
ولا بأس أن يستعين الباحث أو يستأنس بمناهج ـ فضلاً عن النص ـ كالمنهج النفسي إن لزم الأمر، وإن كان المنهج الأسلوبي لا يعترف بما هو خارج النصّ.
وبدأً فالموقف الشعوري الذي تنبعث منه القصيدة هو الإحساس بالضعف والانكسار: في زوال دولة (كِنْدة)، أو(مملكته)، ومطاردة (المنذر بن ماء السماء) له حتى وصل القسطنطينيّة ([2])، ويشير (د.جواد علي) أن مطاردة المنذر لامرئ القيس كانت أعنف شيء أصاب الشاعر بعد مقتل والده ([3]). فامتلأت نفسه بالتوتر والضيق وبلغ به الإحساس بالعجز حداً عطل قدرته على تجاوز وضعه المتأزم ولم يجد من سبيل ينتهجُه إلا الحُلم الذي تتمثل فيه القوة والانتصار ليعوض ما افتقده من قوة تمكنه من تحقيق ما يصبو إليه. وليس الموقف الشعوري هو أزمة جنسية عميقة كما يتصور بعض الكتاب([4]).
ويتعلق بالماضي الذي يرى فيه القوة والصلابة، أو يسرح مع الحُلم فيتحقق له بالخيال ما لا يقدر عليه في حاضره المشهود، وذلك مايفسره علم النفس،ويسميه بـظاهرة (التعويض) ([5]).
وبناء على ذلك فالشاعر بنى قصيدته على شكل لوحات أو مقاطع أو وحدات (ثمان) متقابلة أ أو متضادة، فإذا كان يعاني من حالة نفسية متأزمة ومنهارة , وضعيفا أمام المرأة، وعانى من هول الليل وثقله فقد مثلت تلك الحالات لوحات (الطلل، و فاطمة، و الليل) وما فيها من نظائر دلالية من (الضعف والانكسار).
ولأنه يعاني صراعا ً بين الضعف والقهر في الواقع المشهود , وبين قوة و نصر مرجو وهو حلم مفقود , فقد مثلت لوحات (اللهو والمجون، بيضة الخِدر، الخيل، السيل ) تلك الحالات وما فيها من نظائر دلالية (القوة والانتصار).
فالتجربة تبدو ذات طبيعة درامية تتقابل فيها الأضداد متصارعة بين قبول ورفض، بين واقع مشهود وحلم مفقود في ذلك تشكل القصيدة، وهي تتكون من ثماني لوحات:
1
لوحة الطلل
من ب1 ـ ب9
2
لوحة اللهو والمجون
من ب10 ـ 18
3
لوحة المرأة (فاطمة)
من 19 ـ 22
4
لوحة بيضة الخِدر
من 23 ـ 43
5
لوحة الليل
من 44 ـ 48
6
لوحة الذئب
من 49 ـ 52
7
لوحة الخيل (الفرس)
من 53 ـ 70
8
لوحة السيل
من 71 ـ 83
تتشابك بعض هذه اللوحات ببعضها بعلاقات انفصال واتصال،تراسل وتضاد على النحو الآتي ([6]):
تتراسل لوحة (الطلل) مع لوحة (المرأة) مع لوحة (الليل) في مستوى دلالي واحد.
فلوحة (الطلل) تتشكل من النظائر الدلالية الآتية:
البكاء (نبك، ناقف حنظل، عَبْرة مهراقة)، ورجاء الآخرين،(قفا، وقوفاً لا تهلك أسى..) وهي نظائر تسهم في تأليف لوحة متناظرة هي(الضعف).
وهنا تظهر الذات على علاقة انفصام مع الطلل؛ لأنه مصدر شقاء وتعاسة البقاء فيه مستحيل ما دام الأحبة قد رحلوا عنه.
ولوحة (المرأة) فيها نظائر دلالية هي:الخنوع (مهلاً، أجملي، والاستسلام، سلي ثيابي من ثيابك تنسل، حبك قاتلي، ما ذرفت عيناك)، والعجز من مباشرة الفعل، والاعتماد عليها (أجملي ، سُلَّي)، وعدم القدرة على التحدي (مهما تأمري القلب يفعل)، وهذه النظائر تشكل لوحة سمتها (الضعف)، وهنا تظهر علاقة انفصام بين الذات الشاعرة والمرأة لأنها آمرة قوية متجبرة، أما الذات الشاعرة فهي شخصية ضعيفة تترجى المودة وتستجدي الحنان.
وتتشكل لوحة (الليل) من نظائر دلالية أخرى هي: الشكوى من الليل (وليل كموج البحر، كأن نجومه شدّت بيذبُل)، وتمني زواله (ألا انجل بصبح)، والحسرة (وما الإصباح منك بأمثل) وهي نظائر تألف لوحة متناظرة هي (الضعف).
وتتراءى علاقة انفصام ثالثة بين الذات المتكلمة والليل، فالليل يبدو عملاقاً لا سلوى فيه ولا سكن.
وهذه اللوحات الثلاث تتلاحم فيما بينها في مستوى دلالي واحد هو (الضعف) وتنتظم في زمن واحد هو الحاضر المقول فيه القصيدة
وهذه اللوحات تضادّها لوحات أُخر هي: لوحة (اللهو والمجون)، فنجد الكرم، (عقرت مطيتي)، والتسلّط (سيري، أرخي، لا تبعديني)، والزهو بالمغامرات الجنسية (مثلك حبلى طرقت، ألهيتها، تحتي شق لم يحول)، وهذه نظائر دلالية تكون لوحة هي (القوة) وهنا تبدو الذات الشاعرة (المتكلمة) متحدة مع معاني اللهو والمجون.
وفي لوحة (بيضة الخدر) نجد: الثقة بالنفس (لا يرام خباؤها، تمتعت بها، تجاوزت أحراساً)، والظفر ونيل المطالب (تمايلت عليّ)، والجرأة والإقدام (جئت وقد نضتْ، خرجتُ بها، أجزنا ساحة الحي) وهي نظائر دلالية تشكل لوحة متناظرة هي (القوة).
ومن الجدير بالذكر أن حديثه عن مغامراته الجنسية تبدو ليست حقيقية، إنّما هو نوع من أحلام اليقظة لجأ إليها الشاعر عندما تضخم إحساسه بالعجز ولم يجد عالماً آخر يحقق منه ما عزّ عليه تحقيقه في الواقع وعلاقاته بـ (عنيزة، حبلى، بيضة الخدر) إنما هي علاقات على مستوى الخطاب العري، وليس على الواقع لأمور منها:
1ـ أنه يزعم أنه ظفر بالحبلى، والمرضع، والممنّعة في خدرها،فلو فعل ذلك كله فهل يحتاج إلى أن يمتدح بما فعل ؟
ويزهو به بغية الوصول إلى واحدة تأبّتْ عليه وعجز عن نيلها ؟ ولم َيتذلل أمام واحدة وهو المتسلط على النساء والمتصرف في أقدارهن ؟
2ـ أن بعض الأخبار تشير إلى أنه كان مُفركاً تبغضه النساء ([7]).
3ـ أحاديثه عن المغامرات وإنْ منحته شيئاً من التماسك والقوة لا تمكنه من الاندماج في إطار الجماعة، بل الجماعة على نقيض من ذلك تستهجن ذلك السلوك وتزدريه.
وفي ضوء ذلك يمكن القول:إنّ حديثه عن مغامرته إنما هي تعويض لما يعانيه من ضعف وتخاذل.
ولوحة (الذئب) تشير إلى أن الشاعر أقوى منه (وواد، قفر قطعته) إلا أنه اعترف أنهما سواسية فكلاهما إذا ما نال شيئاً أفاته (أنفده) والعلاقة بين الذات المتكلمة والذئب علاقة اتحاد وألفة.
ولوحة (الخيل) تبدو: ضخمة (هيكل، جلمود صخر، عظيم الجنبين، و شديد، يزل اللبد عن حال متنه، يلوي بأثواب العنيف، المثقّل)، والسرعة والنشاط (مكرّ مفرّ مُدبر معاً، اهتزامه كفلي المرجل، كخذروف الوليد) وتشكل لوحة متناظرة هي(القوة)
وأما (السيل والمطر) فيتّسم بالغزارة (برق ذو لمعان، سحاب متراكب، حبي، سح الماء، وشدة الاندفاع، يكبّ على الأذقان، دوح الكنَهْبُل، وأنزل منه العُصم من جبل القنان، لم يترك بتيماء جذع نخلة) وهي تسهم في تكوين لوحة متناظرة هي (القوة).
وإذا كانت لوحات (الطلل، والمرأة، والليل) تتلاحم في مستوى دلالي واحد هو (الضعف والانكسار) فإن اللوحات الأخرى (اللهو والمجون، بيضة الخدر، والخيل، والذئب، والسيل) تمثل مستوى دلاليا مضاداً وهو القوة والانتصار الذي ينشده، غير أن يلحظ أن الغاية من لوحتي (اللهو، وبيضة الخدر) هي التمرد على المجتمع وأعرافه فهي تتسم بـ (علاقة انفصال) أما في لوحات (الخيل، الذئب، السيل) فالغاية منها التقرب من العالم المحيط به والتواصل معه وتمثل قيمه، وهو ما لم يتمكن الشاعر من تحقيقه فاستحالت (البطولة) ـ الممثلة في الخيل ـ إلى صيد وقنص وأمور عابرة (عنّ لي سرب، ألحقنا بالهاديات، عادي عداءً بين ثور ونعجة)، واستحال (العطاء) المتمثل في (السيل) إلى تدمير وهلاك.
ويتضح أكثر عندما نتحدث عن مستويين من مستويات النصّ:
مستويات اللغـة:
الأول: المستوى التركيبي:
تبدأ اللوحة الأولى - وهي لوحة الأطلال - بجملة فعلية:
1ـ قَفَاَ نَبْكِ مِنْ ذِكُرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَالدَّخُولِ فَحَوْ مَلِ
وهو فعل أمر يدل على (الالتماس)، يطلب من صحبه أن يشاركوه في حزنه، والعربي لا يطلب المشاركة من صحبه في أحزانه إلا إذا كان ذا مصاب جلل، وهذا إنْ دلّ على شيء فإنّما يدل على الحالة النفسية التي كان عليها الشاعر عند نظم القصيدة فهو ضعيف عاجز لا يستطيع أن يفعل شيئاً بمفرده فمضى يطلب المعونة من الآخرين.
وإذا كان (قفا) يدل على السكون، فإنّ (نبك) تدل على الجزم والانقطاع، فيظل الزمن) جامداً عند لحظتي (الوقوف) و (البكاء) وإن كان الفعل ـ نحوياً يدل على التجدد والحدوث إلا أن (نبك) مقيد بـ (قفا) فإذا انتفى الأول انتفى الثاني.
ونكّر (حبيب ومنزل) لإفادة الشمول والعموم بمعنى أنه يطلب مشاركتهم لأدنى سبب.
وإذا كان قد تشبّث بـ (الأشخاص) فإنه قدْ تشبّث بـ (الجمادات) فذكر (المنزل، والدخول، وحومل) ثم:
2ـ فَتُوِضحَفَاْلِمقْرَاةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُهَلِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وَشَمْأَلِ
وما أكثر من ذكر (الأماكن) إلا ليزداد شجنه وحزنه،ثم يعود إلى الماضي حيث أدخل (لم) على (يعف) فالرسوم لم تندثر تماماً بل باقية، ونحن نحزن، ولو زالت لاسترحنا ويزيده أسى أنها أصبحت مسرحاً للظباء بقوله:
3ـ تَرى بَعَرَ الآرْآمِ فِي عَرَضَـاتِوقِيــعانِها كَأَنَّهُ حَبُّ فُلْفُلِ
ثم تتحول الجمل الفعلية إلى اسمية بقوله في:
4 _ كَأَنِّي غَدَاةَ الْبَيْنِ يَوْمَ تحملوالَدَى سَمُراتِ الَحْيِّ نَاقِفحَنْظَلِ
جملة اسمية تدل على الدوام والثبوت، وكأن حاله الدائمة هي البكاء الغزير كما تجري الدموع من ناقف الحنظل وزاد الشاعر لفظاً جديداً هو (كأنّ) فعمد إلى التشبيه لتجسيد الحالة (المعنوية) إلى (حسية ملموسة).
والجملة الاسمية تتراسل مع حالته الدائمة التي يعيشها (الحزن، والذكرى، والحسرة) وهذه الجملة تتراسل مع البيت الذي يليه:
5ـ وُقُوفاً بِهَا صَحْبي عَلَيَّ مَطِيَّهُميقُولُونَ: لاتَهلِكْ أَسىً وَتَجَمَّلِ
فلقد وقف صحبُهُ بتلك الديار يوم رحل منها أهلها، وأوقفوا مطاياهم لأجله، شفقة به، ورغبة في التخفيف، يواسونه (لا تهلك أسى وتجملْ) التماساً، وبناء على ذلك يتضح أن بناء الجملة يتناسب مع حالته النفسية فكثرتْ فيها عناصر التحويل، فنجد الاستغناء بـ المصدر (وقوفاً) عن الفعل (وقف)، والتغيير في ترتيب الجملة (وقوفاً....، وأصلها (وقوف صحبي مطيهم بها عليّ)، ثم زيادة المصدر (وقوفاً) ليفيد توكيد الحث).
تتبعها جملة اسمية تتراسل مع ثبات الزمن، عند لحظتي (الوقوف والبكاء) في البيت الأول:
6ـ وإِنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ مُهْراقَةفَهَلْعِنْدَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ
ومن المعلوم أن الجملة الاسمية تدل على (الثبات والدوام) وهي جملة محولة بزيادة عنصر توكيد (إنّ) وذلك لحاجة الشاعر لتوكيد ما هو بحاجة إلى توكيده وهو شفاؤه مما أصيب به.
وهو يبحث عن الشفاء يضعف ثانية،فيطلب من الآخرين البكاء فهل عند رسم دارس من مبكى ؟؟
واستغراقه في الذكرى لم يقف عند طلب الشفاء، بل أوغل في حالات الوجدان الماضية، فمضى يطلب حالة تتشابه مظاهرها مع:
7ـ كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الْحَوْ يرِثِقَبْلَهوَجَارَتِها أُمِّ الرِّبابِ بِمَأْسَـــلِ
جملة اسمية محولة استغنى الشاعر فيها عن العامل (قفا) ثم أفراد الخطاب للواحد كدأبك) والأصل أن يخاطب المثنى كما في(قفا)، فيقول كدأبيك، وهذا تحويل آخر، وكأنه أراد الإسراع في طلب ما يريد فاكتفى بخطاب الواحد، أو لأنه اهتم به هنا هو مماثلة الحالتين (الحاضرة)، (الماضية) في وجدانه لذلك قال:
8ـ إِذَا قَامَتاتَضَوَّعَ المِسْكُ مِنْهُمَا نَسِيمَ الْصِّبَا جَاءَتْ بِرَيَّا الْقَرَنْفُلِ
أراد أن يخرج من حالة الكآبة والحزن فعدل الجملة الشرطية ثم زاد عنصراً آخر هو المفعول المطلق (نسيم الصبا، تنسّم نسيم الصبا) وإذا كان المعنى تضوع المسك منها تضوعاً مثل نسيم الصبا فـ (النسيم) قام مقام صفت لمصدر محذوف فالتحويل هنا أكثر: حذف المصدر (متضوعاً) وموصوفه (مثل) لتغير الحالة النفسية هنا فتذكر فرحاً وابتهاجاً، تضوع المسك، نسيم الصبا، ريا القرنفل، في جوِّ من الكآبة والحزن، ولئلا تنفتح بنية الطلل ضمّها فعاد إلى الحزن بقوله:
9_فَفَاضَتْ دُمُوعُ الْعَيْنِ مِنِّي صَبَابَةًعَلى الْنَّحْرِ حَتَّى بَلَّ دَمْعِي محْمَليِ
فعاد إلى حزنه وآلامه ثم عدل إلى الجملة الفعلية، ثم قيّد الجملة بحرف الجر (في) لإفادة الاختصاص أو التعيين، وزاد (صبابة) ليبين علة انسكاب الدموع على نحره.
لقد جاءت الجملة (بلّ دمعي...) على الأصل؛ لأنه قصد الإخبار عن أمر كأن السامع يعرفه، ويسلّم به فلا يحتاج إلى تحويل عناصر وهنا نلمح تراسلاً بين بنية هذه الجملة وبين بنيتها في البيت الأول من اللوحة، فجاءت اللوحة كأنها دائرة مغلقة ما تنطلق من نقطة حتى تعود إليها مرة أخرى.
وتتلو هذه اللوحة لوحة ثانية مباينة لها في طبيعة حدثها هي (اللهو والمجون) وتتكون من (ب10 ـ 18) من النص. فهل يا ترى تختلف عنها في بنائها التركيبي ؟
تبدأ اللوحة بقوله:
10ـ أَلا رُبَّ يَوْمٍ لَكَ مِنْهُنَّ صَالِحٍوَلا سِيمَّا يَوْمٍبِدَارَةِ جُلْجُـــل
بدأ الشاعر جملته بأداة الاستفتاح (ألا) وكأن الجملة منفصلة عما سبق، وأما الجملة الاسمية فقد جاءت محولة فزاد (رُب) لإفادة التكثير، كأنه يحتاج إلى أيام جميلة متكاثرة يملؤها الفرح.
وذكر (يوم) على أنها خبر لمبتدأ محذوف عند النحويين ثم عيّن المكان (دارة جلجل) لأنه تميّز من بقية الأيام، في حين جعل (يوم العقر) و (يوم دخول الحذر) عاماً.
وهذا العدول المتعدد بدءاً بذكر (ألا) والتحويلات الأخرى مؤذن بحالة جديدة، فالبكاء والحزن والضعف والانكسار، يكاد يتحول إلى قوة وانتصار من اقتحام للخدور، وتحدّ المشاعر، ولا مبالاة بالآخرين فيقول:
11ـ وَيَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعَذَارَى مَطِيِّتي فَيَا عَجَباًمِنْ كُورِهَا الُمتَحَمَّلِ
جملة فعلية محوّلة عن الأصل أصلها (واذكر يوم عقرت مطيتي للعذارى) إن اهتمام الشاعر بـ (عقر) ولمن عقر له المطية (العذارى) جعله يقوم ما حقه التأخير، ثم أخرج الأسلوب من الخبر إلى الإنشاء بقوله (فيا عجبُ...) وذكر (يا عجباً) لإفادة التعظيم أيضاً لأن العرب إذا أرادت أن تعظم أو الخبر جعلته نداء فكأنك قلت: تعالَ يا عجبُ فهذا أبلغ من قولك عجيب، ثّم تزداد عنده النشوة بما صنع فيأنف عن الطعام وتبقى العذارى يتناولن اللحم كأنهن يتهادين الحرير المفتل.
12ـ فَظَلَّ الْعَذَارَى يَرْتِمَينَبِلَحْمِهَا وَشَحْمٍ كهُدَّابِ الدِّمَقْسِ الُمَفَّتلِ
ولما ازدهت عنده النشوة بما صنع جعله هذا التغير يعمد إلى الجملة فيدخل فيها عناصر متعددة من التحويل أولها تحول الفاعل (العذارى) عن موقعه الأصلي إلى مركز الصدارة للاهتمام به، ثم زاد على الفعل ضميراً عائداً ([8]) على الفاعل لتوكيد (الفعل)، وهو (النون) وجاء بعنصر أخر هو (ظل) ليفيد منه الإشارة إلى الزمن الذي حدث فيه الفعل، وأردفها بتشبيه جميل فقدْ شبه اللحم اللذيذ كالحرير الأبيض اللطيف، وقال: (المفتل) وهو يفيد الكثرة ولو قال المفتول لكان للقليل والكثير ([9]) .
وهذا أول يوم أما الثاني فهو:
13ـ وَيَوْمَ دَخَلْتُالْخِدْرِ خَدْرَ عُنَيْزَةٍفَقَالَتْ لَكَ الْوَيْلاتُ إِنَّكَ مُرْجِلي
وهنا يتداخل صوت الشاعر مع صوت (عنيزة) فجاءت الجملة على أصلها: دخلت الخدر خدر عنيزة، لأن غايتها الإخبار.أما صوت عنيزة فقد جاء جملة اسمية محوّلة، قدم الجار: (لك) على المبتدأ (الويلات) لإفادة الاختصاص بالدعاء له لا لغيره.
أما الجملة (إنك مرجلي) فقد زاد عنصراً (إنّ) لتوكيد الجملة، ثم يتعالى صوتها في قوله:
14ـ تَقُولُ وَقَدْ مَالَ الْغَبِيط بِنَامَعاًعَقَرْتَ بَعيري يَا امْرأَ القَيْسِ فَانْزِلِ
جملة (وقد مال......) اعتراضية محولة تُبْين حالهما، زاد فيها (قد) لتحقيق الحدث وتوكيده و(معاً) هو حال.
أما الجملة الفعلية في حديث عنيزة فقد جاء على الأصل،والتمست منه النزول بفعل الأمر (انزل) ويمكن أن يكون تمنياً لأنه لا سبيل لحصوله وقد انثنى عليها يقبلها فصارا معاً في شق واحد ([10]).
ويلحظ هنا أن (عنيزة) تدرجت في تعبيرها عن مقاصدها فبدأت بالدعاء عليه (لك الويلات) ثم تلتْهُ بما يحرك فيه النخوة (إنك مرجلي) فتمشى راجلة بعد أن كانت راكبة عزيزة مدللة لتلجأ إلى حيلة أنثوية لتنجو من طيشه (عقرت بعيدي)، أما حين أعياها الأمر عمدت إلى الفعل الواضح (أنزل) لكن امرأ القيس ما يزال على إصراره وتحديه لمشاعرها وعدم اكتراثه بما يصيبها من إساءة.
15ـ فَقُلْتُ لَهَا سِيري وأرْخِي زِمَامَهُوَلا تُبْعِدِيني مِنْ جَنَاكِاُلْمعَـلَّلِ
وهنا يعلو صوته على رغبات (عنيزة) فيأمرها بـ (سيري، وأرخي) على سبيل الإلزام فامرؤ القيس ما يزال يستشعر في نفسه شيئاً من القوة يدفعه إلى التسلط والجبروت.
ولما عزّ عليه أن ينال منها لتأبّيها لم يجد وسيلة يرضى بها غروره سوى التباهي بما نال من غيرها من النساء بقوله:
16فَمِثْلِكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ وَمُرْضِعٍفَأَلهيْتُهَا عَنْذِي تَمائِمَ مُحْوِلِ
هذه جملة محوّلة وأصلها (طرقت امرأة حبلى مثلك) لكن الشاعر لم يُرد الأخبار عمّا حدث، إنما قصد أموراً منها ما يتعلق بالشاعر نفسه ومنها ما يتعلق بالمخاطبة، لذلك أحدث تحولاً في بُنية الجملة فقدم ما حقه التأخير (مثلك) وأدخل عليها رُبّ لإفادة التكثير ثم حذفها مكتفياً بالفاء (فمثلك) ورغبة منه في فلِّ ما تماسك من شخصية (عنيزة)، ولم يكتف بهذا بل جرّدها من كل ما يميزها من الأخريات فإذا هي شبيهة بالحبلى والمرضع من نساء الآخرين، ثم أضاف إلى الفعل (قد) ليزيل أي شك يخامر نفس (عنيزة) وكأنه يتباهي أو يُنفّق نفسه عليه فيقول: إن الحامل والمرضع لا ترغبان في الرجال وهما ترغبان فيه لجماله ([11]) ويظهر أنه سلطان الغرام بقوله (ألهيتها) ولم يقل أشغلتها ؛ لأن الإلهاء أشد منه، فالإلهاء يكون بالقلب والجوارح خلافاً بالانشغال لا يكون إلا بالجوارح، فعظّم نفسه وقدرته أيّما تعظيم.
غير أن التباهي بالظفر لا يشفي غليل النفس، بل لا بُد من التأكيد على ميل المرأة إليه وتعلقها به تعلقاً شديداً لا يصرفها إلا أمر مهم أو ضروري يقول:
17ـ إِذا ما بَكى مَنْ خَلْفِها انْصَرَفَتْ لهُ بِشِقٍّوَتحْتي شِقّها لم يُحَوَّلِ
ولما أراد أن يصف شدة تعلقها به لم تكن تنصرف إلا لأمر مهم فجعل الجملة الخبرية (انصرفت المرأة لطفلها من خلفها بشق، جملة شرطية لا تنصرف عن الشاعر الجذاب إلا لبكاء الطفل وصراخه، فأتى بالشرط ليعبر عن مراده، وأما الجملة الثانية فقد عمد الشاعر إلى إجراء وتحويل لأمر مقصود أيضاً فقدم الظرف (تحتي) وخصصه بياء المتكلم ليؤكد حضور (الأنا) أو الذات المتكلمة في حضرة (الآخر).
وكأن الطفل منافس خطير للعاشق يأبى أن تنصرف عنه المعشوقة ولو لحظة عابرة، ثم غير بُنية الفعل إلى (المبني للمجهول) بقوله (لم يُحوّل) وأصلها (لم تُحولْ شقَّها) أي أن العاشق لم يسند فعل التحويل إلى المعشوقة لينفي بذلك دلالة الكلام على نفورها منه أو رغبتها عنه.
يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 139.76 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 138.06 كيلو بايت... تم توفير 1.70 كيلو بايت...بمعدل (1.22%)]