تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله - الصفحة 56 - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         أسئلة بيانية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 26 - عددالزوار : 630 )           »          الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 20 - عددالزوار : 257 )           »          معنى حديث «من ستر مسلماً ستره الله..» (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          صلاة التراويح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          حمل المأموم للمصحف في صلاة التراويح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          ركعتا تحية المسجد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          حكم صيام من دخل بعض الماء إلى جوفه دون قصد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          دروس رمضانية محمد بن سند الزهراني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 15 - عددالزوار : 366 )           »          قراءة في مقال حقائق مذهلة عن الكون المدرك (اخر مشاركة : رضا البطاوى - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4387 - عددالزوار : 836997 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #551  
قديم 14-08-2020, 05:01 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,626
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (550)
تفسير السعدى
سورة ق
من الأية(23)
الى الأية(35)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة ق
{ وَقَالَ قَرِينُهُ هَـٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } 23 { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ } 24 { مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ } 25 { ٱلَّذِي جَعَلَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلشَّدِيدِ } 26 { قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ وَلَـٰكِن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } 27 { قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِٱلْوَعِيدِ } 28 { مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ }29


يقول تعالى: { وَقَالَ قَرِينُهُ } أي: قرين هذا المكذب المعرض، من الملائكة، الذين وكلهم الله على حفظه وحفظ أعماله، فيحضره يوم القيامة ويحضر أعماله ويقول: { هَـٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } أي: قد أحضرت ما جعلت عليه، من حفظه وحفظ عمله، فيجازى بعمله.
ويقال لمن استحق النار: { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ } أي: كثير الكفر والعناد لآيات الله، المكثر من المعاصي، المجترئ على المحارم والمآثم.
{ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ } أي: يمنع الخير الذي عنده، الذي أعظمه الإيمان بالله [وملائكته] وكتبه ورسله مناع، لنفع ماله وبدنه، { مُعْتَدٍ } على عباد الله، وعلى حدوده، { مُّرِيبٍ } أي: شاك في وعد الله ووعيده، فلا إيمان ولا إحسان ولكن وصفه الكفر والعدوان، والشك والريب والشح، واتخاذ الآلهة من دون الرحمن، ولهذا قال: { ٱلَّذِي جَعَلَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ } أي: عبد معه غيره، ممن لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً، ولا نشوراً، { فَأَلْقِيَاهُ } أيها الملكان القرينان { فِي ٱلْعَذَابِ ٱلشَّدِيدِ } الذي هو معظمها وأشدها وأشنعها. { قَالَ قرِينُهُ } الشيطان، متبرئاً منه، حاملاً عليه إثمه: { رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ } لأني لم يكن لي عليه سلطان ولا حجة ولا برهان، ولكن كان في الضلال البعيد، فهو الذي ضل وأبعد عن الحق باختياره، كما قال في الآية الأخرى:
{ وَقَالَ ٱلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ ٱلأَمْرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُم ْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوۤاْ أَنفُسَكُمْ... } الآية [إبراهيم: 22].
قال الله تعالى مجيباً لاختصامهم: { لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ } أي: لا فائدة في اختصامكم عندي، { وَ } الحال أني { وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِٱلْوَعِيدِ } أي: جاءتكم رسلي بالآيات البينات، والحجج الواضحات، والبراهين الساطعات، فقامت عليكم حجتي، وانقطعت حجتكم، وقدمتم عليَّ بما أسلفتم من الأعمال التي وجب جزاؤها.
{ مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَيَّ } أي: لا يمكن أن يخلف ما قاله الله وأخبر به، لأنه لا أصدق من الله قيلاً، ولا أصدق حديثاً. { وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } بل أجزيهم بما عملوا من خير وشر، فلا يزاد في سيئاتهم، ولا ينقص من حسناتهم.
{ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } 30 { وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ } 31 { هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } 32 { مَّنْ خَشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } 33 { ٱدْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلُخُلُودِ } 34 { لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ }35


يقول تعالى مخوفاً لعباده: { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلأَتِ } وذلك من كثرة ما ألقي فيها، { وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } أي: لا تزال تطلب الزيادة من المجرمين العاصين، غضباً لربها، وغيظاً على الكافرين. وقد وعدها الله ملأها، كما قال تعالى:{ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [هود: 119] حتى يضع رب العزة عليها قدمه الكريمة المنزهة عن التشبيه، فينزوي بعضها على بعض، وتقول: قط قط، قد اكتفيت وامتلأت.
{ وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ } أي: قربت بحيث تشاهد وينظر ما فيها، من النعيم المقيم، والحبرة والسرور، وإنما أزلفت وقربت، لأجل المتقين لربهم، التاركين للشرك، صغيره وكبيره ، الممتثلين لأوامر ربهم، المنقادين له، ويقال لهم على وجه التهنئة: { هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } أي: هذه الجنة وما فيها مما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، هي التي وعد الله كل أواب أي: رجَّاع إلى الله في جميع الأوقات، بذكره وحبه، والاستعانة به، ودعائه وخوفه ورجائه. { حَفِيظٍ } أي: يحافظ على ما أمر الله به، بامتثاله على وجه الإخلاص والإكمال له، على أكمل الوجوه، حفيظ لحدوده. { مَّنْ خَشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ } أي: خافه على وجه المعرفة بربه، والرجاء لرحمته، ولازم على خشية الله في حال غيبه أي: مغيبه عن أعين الناس، وهذه هي الخشية الحقيقية، وأما خشيته في حال نظر الناس وحضورهم، فقد تكون رياء وسمعة، فلا تدل على الخشية، وإنما الخشية النافعة، خشية الله في الغيب والشهادة ويحتمل أن المراد بخشية الله بالغيب كالمراد بالإيمان بالغيب، وأن هذا مقابلٌ للشهادة حيث يكون الإيمان والخشية ضرورياً لا اختيارياً، حيث يعاين العذاب وتأتي آيات الله وهذا هو الظاهر.
{ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } أي: وصفه الإنابة إلى مولاه، وانجذاب دواعيه إلى مراضيه، ويقال لهؤلاء الأتقياء الأبرار: { ٱدْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ } أي: دخولاً مقروناً بالسلامة من الآفات والشرور، مأموناً فيه جميع مكاره الأمور، فلا انقطاع لنعيمهم ولا كدر ولا تنغيص، { ذَلِكَ يَوْمُ ٱلُخُلُودِ } الذي لا زوال له ولا موت، ولا شيء من المكدرات.
{ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا } أي: كل ما تعلقت به مشيئتهم فهو حاصل فيها ولهم فوق ذلك { مَزِيدٌ } أي: ثواب يمدهم به الرحمن الرحيم، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وأعظم ذلك وأجلُّه وأفضله، النظر إلى وجه الله الكريم، والتمتع بسماع كلامه، والتنعم بقربه، نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #552  
قديم 17-08-2020, 06:06 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,626
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (551)
تفسير السعدى
سورة ق
من الأية(36)
الى الأية(45)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة ق
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ } 36 { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ }37


يقول تعالى - مخوفاً للمشركين المكذبين للرسول:- { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ } أي: أمماً كثيرة هم أشد من هؤلاء بطشاً أي: قوةً وآثاراً في الأرض.
ولهذا قال: { فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ } أي: بنوا الحصون المنيعة والمنازل الرفيعة، وغرسوا الأشجار، وأجروا الأنهار، وزرعوا، وعمروا، ودمَّروا، فلما كذَّبوا رسل الله، وجحدوا آيات الله، أخذهم الله بالعقاب الأليم، والعذاب الشديد، فـ { هَلْ مِن مَّحِيصٍ } أي: لا مفر لهم من عذاب الله حين نزل بهم ولا منقذ، فلم تغن عنهم قوتهم، ولا أموالهم، ولا أولادهم.
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } أي: قلب عظيم حيٌّ ذكيٌّ زكِيٌّ، فهذا إذا ورد عليه شيء من آيات الله، تذكر بها، وانتفع فارتفع، وكذلك من ألقى سمعه إلى آيات الله، واستمعها استماعاً يسترشد به، وقلبه { شَهِيدٌ } أي: حاضر، فهذا له أيضاً ذكرى وموعظة، وشفاء وهدى.
وأما المعرض، الذي لم يلق سمعه إلى الآيات، فهذا لا تفيده شيئاً، لأنه لا قبول عنده، ولا تقتضي حكمة الله هداية من هذا وصفه ونعته.
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } 38 { فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ } 39 { وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ ٱلسُّجُودِ }40


وهذا إخبارٌ منه تعالى عن قدرته العظيمة، ومشيئته النافذة، التي أوجد بها أعظم المخلوقات { ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أوّلها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة، من غير تعب ولا نصب، ولا لغوب، ولا إعياء، فالذي أوجدها - على كبرها وعظمتها - قادر على إحياء الموتى، من باب أولى وأحرى. { فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ } من الذم لك والتكذيب بما جئت به، واشتغل عنهم واله بطاعة ربك وتسبيحه، أول النهار وآخره، وفي أوقات الليل، وأدبار الصلوات. فإن ذكر الله تعالى مُسلٍّ للنفس، مؤنس لها، مُهوِّنٌ للصبر.
{ وَٱسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ ٱلْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } 41 { يَوْمَ يَسْمَعُونَ ٱلصَّيْحَةَ بِٱلْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْخُرُوجِ } 42 { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِـي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا ٱلْمَصِيرُ } 43 { يَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } 44 { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِٱلْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ }45


أي: { وَٱسْتَمِعْ } بقلبك نداء المنادي وهو إسرافيل عليه السلام، حين ينفخ في الصور { مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } من الخلق { يَوْمَ يَسْمَعُونَ ٱلصَّيْحَةَ } أي: كل الخلائق يسمعون تلك الصيحة المزعجة المهولة { بِٱلْحَقِّ } الذي لا شك فيه ولا امتراء. { ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْخُرُوجِ } من القبور، الذي انفرد به القادر على كل شيء، ولهذا قال: { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِـي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا ٱلْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلأَرْضُ عَنْهُمْ } أي: عن الأموات. { سِرَاعاً } أي: يسرعون لإجابة الداعي لهم إلى موقف القيامة، { ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } أي: هيّن على الله، يسير لا تعب فيه ولا كلفة، { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ } لك مما يحزنك من الأذى، وإذا كنا أعلم بذلك، فقد علمت كيف اعتناؤنا بك، وتيسيرنا لأمورك، ونصرنا لك على أعدائك، فليفرح قلبك، ولتطمئن نفسك، ولتعلم أننا أرحم بك وأرأف من نفسك، فلم يبق لك إلا انتظار وعد الله، والتأسِّي بأولي العزم من رسل الله، { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } أي: مسلط عليهم{ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [الرعد: 7] ولهذا قال: { فَذَكِّرْ بِٱلْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } والتذكير، [هو] تذكير ما تقرر في العقول والفطر، من محبة الخير وإيثاره، وفعله، ومن بغض الشر ومجانبته، وإنما يتذكر بالتذكير، من يخاف وعيد الله، وأما من لم يخف الوعيد ولم يؤمن به، فهذا فائدة تذكيره إقامة الحجة عليه، لئلا يقول:{ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ } [المائدة: 19].

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #553  
قديم 17-08-2020, 06:07 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,626
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (552)
تفسير السعدى
سورة الذاريات
من الأية(1)
الى الأية(14)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الذاريات
{ وَٱلذَّارِيَاتِ ذَرْواً } 1 { فَٱلْحَامِلاَتِ وِقْراً } 2 { فَٱلْجَارِيَاتِ يُسْراً } 3 { فَٱلْمُقَسِّمَا تِ أَمْراً } 4 { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ } 5 { وَإِنَّ ٱلدِّينَ لَوَٱقِعٌ }6


هذا قسم من الله الصادق في قيله، بهذه المخلوقات العظيمة التي جعل الله فيها من المصالح والمنافع ما جعل على أن وعده صدق، وأن الدين الذي هو يوم الجزاء والمحاسبة على الأعمال، لواقع لا محالة، ما له من دافع، فإذا أخبر به الصادق العظيم وأقسم عليه، وأقام الأدلة والبراهين عليه، فلم يكذب به المكذبون، ويعرض عن العمل له العاملون.
والمراد بالذاريات: هي الرياح التي تذروا في هبوبها { ذَرْواً } بلينها، ولطفها، وقوتها، وإزعاجها، { فَٱلْحَامِلاَتِ وِقْراً } السحاب، تحمل الماء الكثير، الذي ينفع الله به البلاد والعباد، و { فَٱلْجَارِيَاتِ يُسْراً }: النجوم التي تجري على وجه اليسر والسهولة، فتتزين بها السماوات، ويهتدى بها في ظلمات البر والبحر، وينتفع بالاعتبار بها، { فَٱلْمُقَسِّمَا تِ أَمْراً }: الملائكة التي تقسم الأمر وتدبره بإذن الله، فكل منهم قد جعله الله على تدبير أمر من أمور الدنيا وأمور الآخرة، لا يتعدى ما قدر له وما حُدّ ورسم، ولا ينقص منه.
{ وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْحُبُكِ } 7 { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } 8 { يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ }9


أي: والسماء ذات الطرائق الحسنة، التي تشبه حبك الرمال، ومياه الغدران، حين يحركها النسيم. { إِنَّكُمْ } أيها المكذبون لمحمد صلى الله عليه وسلم، { لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } منكم من يقول ساحر، ومنكم من يقول كاهن، ومنكم من يقول مجنون، إلى غير ذلك من الأقوال المختلفة، الدالة على حيرتهم وشكهم، وأن ما هم عليه باطل.
{ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } أي: يصرف عنه من صرف عن الإيمان، وانصرف قلبه عن أدلة الله اليقينية وبراهينه، واختلاف قولهم دليل على فساده وبطلانه، كما أن الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، متفق [يصدق بعضه بعضًا] لا تناقض فيه ولا اختلاف، وذلك دليل على صحته، وأنه من عند الله
{ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } [النساء: 82].
{ قُتِلَ ٱلْخَرَّاصُونَ } 10 { ٱلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ } 11 { يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلدِّينِ } 12 { يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ } 13 { ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ }14


يقول تعالى: { قُتِلَ ٱلْخَرَّاصُونَ } أي: قاتل الله الذين كذبوا على الله، وجحدوا آياته، وخاضوا بالباطل، ليدحضوا به الحق، الذين يقولون على الله ما لا يعلمون، { ٱلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ } أي: في لجة من الكفر، والجهل، والضلال، { سَاهُونَ } { يَسْأَلُونَ } على وجه الشك والتكذيب أيان يبعثون أي: متى يبعثون، مستبعدين لذلك، فلا تسأل عن حالهم وسوء مآلهم { يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ } أي: يعذبون بسبب ما انطووا عليه من خبث الباطن والظاهر، ويقال [لهم ]: { ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ } أي: العذاب والنار، الذي هو أثر ما افتتنوا به، من الابتلاء الذي صيرهم إلى الكفر والضلال، { هَـٰذَا } العذاب، الذي وصلتم إليه، [هو] { ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } فالآن تمتعوا بأنواع العقاب والنكال، والسلاسل والأغلال، والسخط والوبال.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #554  
قديم 17-08-2020, 06:07 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,626
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (553)
تفسير السعدى
سورة الذاريات
من الأية(15)
الى الأية(23)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الذاريات

{ إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } 15 { آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } 16 { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } 17 { وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } 18 { وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ }19


يقول تعالى في ذكر ثواب المتقين وأعمالهم، التي أوصلتهم إلى ذلك الجزاء: { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ } أي: الذين كانت التقوى شعارهم، وطاعة الله دثارهم، { فِي جَنَّاتٍ } مشتملات على جميع [أصناف] الأشجار والفواكه التي يوجد لها نظير في الدنيا، والتي لا يوجد لها نظير، مما لم تنظر العيون إلى مثله، ولم تسمع الآذان، ولم يخطر على قلوب العباد، { وَعُيُونٍ } سارحة، تشرب منها تلك البساتين، ويشرب بها عباد الله، يفجرونها تفجيراً.
{ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ } يحتمل أن المعنى أن أهل الجنة قد أعطاهم مولاهم جميع مناهم، من جميع أصناف النعيم، فأخذوا ذلك، راضين به، قد قرت به أعينهم، وفرحت به نفوسهم، ولم يطلبوا منه بدلاً، ولا يبغون عنه حولاً، وكل قد ناله من النعيم ما لا يطلب عليه المزيد، ويحتمل أن هذا وصف المتقين في الدنيا، وأنهم آخذون ما آتاهم الله، من الأوامر والنواهي أي: قد تلقوها بالرحب وانشراح الصدر، منقادين لما أمر الله به، بالامتثال على أكمل الوجوه، ولما نهى عنه، بالانزجار عنه لله، على أكمل وجه، فإن الذي أعطاهم الله من الأوامر والنواهي هو أفضل العطايا، التي حقها أن تتلقى بالشكر [لله] عليها والانقياد.
والمعنى الأول ألصق بسياق الكلام، لأنه ذكر وصفهم في الدنيا، وأعمالهم بقوله: { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ } الوقت الذي وصلوا به إلى النعيم { مُحْسِنِينَ } وهذا شامل لإحسانهم بعبادة ربهم، بأن يعبدوه كأنهم يرونه، فإن لم يكونوا يرونه، فإنه يراهم، وللإحسان إلى عباد الله ببذل النفع والإحسان، من مال، أو علم، أو جاه، أو نصيحة، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو غير ذلك من وجوه الإحسان، وطرق الخيرات. حتى إنه يدخل في ذلك، الإحسان بالقول، والكلام اللين، والإحسان إلى المماليك، والبهائم المملوكة وغير المملوكة، ومن أفضل أنواع الإحسان في عبادة الخالق، صلاة الليل، الدالة على الإخلاص، وتواطؤ القلب واللسان، ولهذا قال: { كَانُواْ } أي: المحسنون { قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } أي: كان هجوعهم أي: نومهم بالليل، قليلاً، وأما أكثر الليل، فإنهم قانتون لربهم، ما بين صلاة، وقراءة، وذكر، ودعاء، وتضرع، { وَبِٱلأَسْحَارِ } التي هي قبيل الفجر { هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } الله تعالى، فمدوا صلاتهم إلى السحر، ثم جلسوا في خاتمة قيامهم بالليل، يستغفرون الله تعالى، استغفار المذنب لذنبه، وللاستغفار بالأسحار فضيلة وخصيصة ليست لغيره، كما قال تعالى في وصف أهل الإيمان والطاعة:
{ وَٱلْمُسْتَغْفِ رِينَ بِٱلأَسْحَارِ } [آل عمران: 17] { وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ } واجب ومستحب { لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } أي: للمحتاجين الذين يطلبون من الناس، والذين لا يطلبون منهم.
{ وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } 20 { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } 21 { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } 22 { فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ }23


يقول تعالى - داعياً عباده إلى التفكر والاعتبار -: { وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } وذلك شامل لنفس الأرض، وما فيها من جبال وبحار وأنهار وأشجار ونبات، تدل المتفكر فيها، المتأمل لمعانيها، على عظمة خالقها، وسعة سلطانه، وعميم إحسانه، وإحاطة علمه، بالظواهر والبواطن. وكذلك في نفس العبد من العبر والحكمة والرحمة ما يدل على أن الله وحده الأحد الفرد الصمد، وأنه لم يخلق الخلق سدى. وقوله: { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ } أي مادة رزقكم من الأمطار، وصنوف الأقدار، الرزق الديني والدنيوي، { وَمَا تُوعَدُونَ } من الجزاء في الدنيا والآخرة، فإنه ينزل من عند الله كسائر الأقدار، فلما بين الآيات ونبه عليها تنبيهاً ينتبه به الذكي اللبيب، أقسم تعالى على أن وعده وجزاءه حق، وشبه ذلك بأظهر الأشياء [لنا] وهو النطق، فقال: { فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } فكما لا تشكون في نطقكم، فكذلك لا ينبغي الشك في البعث بعد الموت.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #555  
قديم 17-08-2020, 06:08 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,626
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (554)
تفسير السعدى
سورة الذاريات
من الأية(24)
الى الأية(37)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الذاريات
{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ٱلْمُكْرَمِينَ } 24 { إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } 25 { فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ } 26 { فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ } 27 { فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ } 28 { فَأَقْبَلَتِ ٱمْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } 29 { قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ } 30 { قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا ٱلْمُرْسَلُونَ } 31 { قَالُوۤاْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } 32 { لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ } 33 { مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ } 34 { فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } 35 { فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } 36 { وَتَرَكْنَا فِيهَآ آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ }37


يقول تعالى: { هَلْ أَتَاكَ } أي: أما جاءك { حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ٱلْمُكْرَمِينَ } ونبأهم الغريب العجيب، وهم: الملائكة الذين أرسلهم الله لإهلاك قوم لوط، وأمرهم بالمرور على إبراهيم، فجاؤوه في صورة أضياف. { إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ } مجيباً لهم { سَلاَمٌ } أي: عليكم { قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } أي: أنتم قوم منكرون، فأحب أن تعرفوني بأنفسكم، ولم يعرفهم إلا بعد ذلك. ولهذا راغ إلى أهله أي: ذهب سريعاً في خفية، ليحضر لهم قراهم، { فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ } وعرض عليهم الأكل، فـ { قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } حين رأى أيديهم لا تصل إليه، { قَالُواْ لاَ تَخَفْ } وأخبروه بما جاؤوا له { وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ } وهو: إسحاق عليه السلام. فلما سمعت المرأة البشارة { أَقْبَلَتِ } فرحة مستبشرة { فِي صَرَّةٍ } أي: صيحة { فَصَكَّتْ وَجْهَهَا } وهذا من جنس ما يجري من النساء عند السرور [ونحوه] من الأقوال والأفعال المخالفة للطبيعة والعادة، { وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } أي: أنَّى لي الولد، وأنا عجوز، قد بلغت من السن، ما لا تلد معه النساء، ومع ذلك، فأنا عقيم، غير صالح رحمي للولادة أصلاً، فَثَمَّ مانعان، كل منهما مانع من الولد، وقد ذكرت المانع الثالث في سورة هود بقولها:{ وَهَـٰذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ } [هود: 72]. { قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ } أي: الله الذي قدر ذلك وأمضاه، فلا عجب في قدرة الله تعالى { إِنَّهُ هُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ } أي: الذي يضع الأشياء مواضعها، وقد وسع كل شيء علماً فسلموا لحكمه، واشكروه على نعمته. قال لهم إبراهيم عليه السلام: { فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا ٱلْمُرْسَلُونَ } الآيات، أي: ما شأنكم وما تريدون؟ لأنه استشعر أنهم رسل، أرسلهم الله لبعض الشئون المهمة. { قَالُوۤاْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } وهم قوم لوط، قد أجرموا ، أشركوا بالله، وكذبوا رسولهم، وأتوا الفاحشة الشنعاء التي ما سبقهم إليها أحد من العالمين. { لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ } أي: معلمة، على كل حجر منها سمة صاحبه، لأنهم أسرفوا وتجاوزوا الحد، فجعل إبراهيم يجادلهم في قوم لوط، لعل الله يدفع عنهم العذاب، فقال الله:{ يَٰإِبْرَٰهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَآ إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } [هود: 76]. { فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } وهم بيت لوط عليه السلام، إلا امرأته، فإنها من المهلكين.
{ وَتَرَكْنَا فِيهَآ آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ } يعتبرون بها ويعلمون أن الله شديد العقاب، وأن رسله صادقون مصدقون. فصل في ذكر بعض ما تضمنته هذه القصة من الحكم والأحكام منها: أن من الحكمة، قص الله على عباده نبأ الأخيار والفجار، ليعتبروا بحالهم، وأين وصلت بهم الأحوال.
ومنها: فضل إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، حيث ابتدأ الله قصته، بما يدل على الاهتمام بشأنها، والاعتناء بها. ومنها: مشروعية الضيافة، وأنها من سنن إبراهيم الخليل، الذي أمر الله هذا النبي وأمته، أن يتبعوا ملته، وساقها الله في هذا الموضع، على وجه المدح له والثناء. ومنها: أن الضيف يكرم بأنواع الإكرام، بالقول والفعل، لأن الله وصف أضياف إبراهيم بأنهم مكرمون أي: أكرمهم إبراهيم، ووصف الله ما صنع بهم من الضيافة، قولاً وفعلاً، ومكرمون أيضاً عند الله تعالى. ومنها: أن إبراهيم عليه السلام، قد كان بيته مأوى للطارقين والأضياف، لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان، وإنما سلكوا طريق الأدب في الابتداء السلام، فرد عليهم إبراهيم سلاماً أكمل من سلامهم وأتم، لأنه أتى به جملة اسمية دالةً على الثبوت والاستمرار.
ومنها: مشروعية تعرف من جاء إلى الإنسان، أو صار له فيه نوع اتصال، لأن في ذلك، فوائد كثيرة. ومنها: أدب إبراهيم ولطفه في الكلام، حيث قال: { قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } ولم يقل: " أنكرتكم " [وبين اللفظين من الفرق ما لا يخفى]. ومنها: المبادرة إلى الضيافة والإسراع بها، لأن خير البر عاجله [ولهذا بادر إبراهيم بإحضار قرى أضيافه].
ومنها: أن الذبيحة الحاضرة، التي قد أعدت لغير الضيف الحاضر، إذا جعلت له، ليس فيها أقل إهانة، بل ذلك من الإكرام، كما فعل إبراهيم عليه السلام، وأخبر الله أن ضيفه مكرمون.
ومنها: ما منّ الله به على خليله إبراهيم، من الكرم الكثير، وكون ذلك حاضراً عنده، وفي بيته معداً، لا يحتاج إلى أن يأتي به من السوق أو الجيران، أو غير ذلك. ومنها: أن إبراهيم، هو الذي خدم أضيافه، وهو خليل الرحمن، وكبير من ضيَّف الضيفان. ومنها: أنه قرَّبه إليهم في المكان الذي هم فيه، ولم يجعله في موضع، ويقول لهم: " تفضلوا، أو ائتوا إليه " لأن هذا أيسر عليهم وأحسن. ومنها: حسن ملاطفة الضيف في الكلام اللين، خصوصاً عند تقديم الطعام إليه، فإن إبراهيم عرض عليهم عرضاً لطيفاً، وقال: { أَلاَ تَأْكُلُونَ } ولم يقل: " كلوا " ونحوه من الألفاظ، التي غيرها أولى منها، بل أتى بأداة العرض، فقال: { أَلاَ تَأْكُلُونَ } فينبغي للمقتدي به أن يستعمل من الألفاظ الحسنة، ما هو المناسب واللائق بالحال، كقوله لأضيافه: " ألا تأكلون " أو: " ألا تتفضلون علينا وتشرفوننا وتحسنون إلينا " ونحوه. ومنها: أن من خاف من الإنسان لسبب من الأسباب، فإن عليه أن يزيل عنه الخوف، ويذكر له ما يؤمن روعه، ويسكن جأشه، كما قالت الملائكة لإبراهيم [لما خافهم]: { لاَ تَخَفْ } وأخبروه بتلك البشارة السارة، بعد الخوف منهم.
ومنها: شدة فرح سارة امرأة إبراهيم، حتى جرى منها ما جرى، من صك وجهها، وصرَّتها غير المعهودة. ومنها: ما أكرم الله به إبراهيم وزوجته سارة، من البشارة بغلام عليم.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #556  
قديم 17-08-2020, 06:10 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,626
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (555)
تفسير السعدى
سورة الذاريات
من الأية(38)
الى الأية(46)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الذاريات
{ وَفِي مُوسَىٰ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } 38 { فَتَوَلَّىٰ بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } 39 { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي ٱلْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ }40

أي: { وَفِي مُوسَىٰ } وما أرسله الله به إلى فرعون وملئِه بالآيات البينات، والمعجزات الظاهرات، آية للذين يخافون العذاب الأليم، فلما أتى موسى بذلك السلطان المبين، فتولى فرعون { بِرُكْنِهِ } أي: أعرض بجانبه عن الحق ولم يلتفت إليه، وقدح فيه أعظم القدح، فقالوا: { سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } أي: إن موسى، لا يخلو إما أن يكون ساحراً وما أتى به شعبذة ليس من الحق في شيء، وإما أن يكون مجنوناً لا يؤخذ بما صدر منه لعدم عقله. هذا، وقد علموا، خصوصاً فرعون، أن موسى صادق، كما قال تعالى:{ وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْ هَآ أَنفُسُهُمْ [ظُلْماً وَعُلُوّاً] } [النمل: 14] وقال موسى لفرعون:{ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـٰؤُلاۤءِ إِلاَّ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ [بَصَآئِرَ } الآية] [الإسراء: 102]، { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي ٱلْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ } أي: مذنب طاغ، عات على الله، فأخذه عزيز مقتدر.
{ وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلرِّيحَ ٱلْعَقِيمَ } 41 { مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَٱلرَّمِيمِ }42

أي { وَفِي عَادٍ } القبيلة المعروفة آية عظيمة { إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلرِّيحَ ٱلْعَقِيمَ } أي: التي لا خير فيها، حين كذبوا نبيهم هوداً عليه السلام، { مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَٱلرَّمِيمِ } أي: كالرميم البالية، فالذي أهلكهم على قوتهم وبطشهم، دليل على [كمال] قوته واقتداره، الذي لا يعجزه شيء، المنتقم ممن عصاه.
{ وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حَتَّىٰ حِينٍ } 43 { فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ } 44 { فَمَا ٱسْتَطَاعُواْ مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ }45

أي { وَفِي ثَمُودَ } [آية عظيمة]، حين أرسل الله إليهم صالحاً عليه السلام، فكذبوه وعاندوه، وبعث الله له الناقة آية مبصرة، فلم يزدهم ذلك إلا عتواً ونفوراً. فقيل { لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حَتَّىٰ حِينٍ * فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّاعِقَةُ } أي: الصيحة العظيمة المهلكة { وَهُمْ يَنظُرُونَ } إلى عقوبتهم بأعينهم، { فَمَا ٱسْتَطَاعُواْ مِن قِيَامٍ } ينجون به من العذاب، { وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ } لأنفسهم.
{ وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ }46

أي: وكذلك ما فعل الله بقوم نوح، حين كذبوا نوحاً عليه السلام وفسقوا عن أمر الله، فأرسل الله عليهم السماء والأرض بالماء المنهمر، فأغرقهم الله تعالى [عن آخرهم]، ولم يبق من الكافرين دياراً، وهذه عادة الله وسنته، فيمن عصاه.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #557  
قديم 17-08-2020, 06:12 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,626
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (556)
تفسير السعدى
سورة الذاريات
من الأية(47)
الى الأية(60)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الذاريات
{ وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَٰهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } 47 { وَٱلأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ ٱلْمَاهِدُونَ } 48 { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } 49 { فَفِرُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } 50 { وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ }51


يقول تعالى مبيناً لقدرته العظيمة: { وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَٰهَا } أي: خلقناها وأتقنَّاها، وجعلناها سقفاً للأرض وما عليها.
{ بِأَييْدٍ } أي: بقوة وقدرة عظيمة { وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } لأرجائها وأنحائها، وإنا لموسعون [أيضاً] على عبادنا، بالرزق الذي ما ترك الله دابة في مهامه القفار، ولجج البحار، وأقطار العالم العلوي والسفلي، إلا وأوصل إليها من الرزق، ما يكفيها، وساق إليها من الإحسان ما يغنيها. فسبحان من عم بجوده جميع المخلوقات، وتبارك الذي وسعت رحمته جميع البريات، { وَٱلأَرْضَ فَرَشْنَاهَا } أي: جعلناها فراشاً للخلق، يتمكنون فيها من كل ما تتعلق به مصالحهم، من مساكن، وغراس وزرع وحرث وجلوس، وسلوك للطرق الموصلة إلى مقاصدهم ومآربهم، ولما كان الفراش قد يكون صالحاً للانتفاع من كل وجه، وقد يكون من وجه دون وجه، أخبر تعالى أنه مهدها أحسن مهاد، على أكمل الوجوه وأحسنها، وأثنى على نفسه بذلك، فقال: { فَنِعْمَ ٱلْمَاهِدُونَ } الذي مهد لعباده ما اقتضته [حكمته]، رحمته وإحسانه، { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } [أي: صنفين]، ذكر وأنثى، من كل نوع من أنواع الحيوانات، { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [لنعم الله التي أنعم بها عليكم] في تقدير ذلك، وحكمته حيث جعل ما هو السبب لبقاء نوع الحيوانات كلها، لتقوموا بتنميتها وخدمتها وتربيتها، فيحصل من ذلك ما يحصل من المنافع. فلما دعا العباد النظر لآياته الموجبة لخشيته والإنابة إليه، أمر بما هو المقصود من ذلك، وهو الفرار إليه أي: الفرار مما يكرهه الله ظاهراً وباطناً إلى ما يحبه، ظاهراً وباطناً، فرار من الجهل إلى العلم، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن المعصية إلى الطاعة، و من الغفلة إلى ذكر الله، فمن استكمل هذه الأمور، فقد استكمل الدين كله وقد زال عنه المرهوب، وحصل له نهاية المراد والمطلوب.
وسمى الله الرجوع إليه فراراً، لأن في الرجوع لغيره أنواع المخاوف والمكاره، وفي الرجوع إليه أنواع المحاب والأمن، [والسرور] والسعادة والفوز، فيفر العبد من قضائه وقدره، إلى قضائه وقدره، وكل من خفت منه فررت منه إلاّ الله تعالى، فإنه بحسب الخوف منه يكون الفرار إليه، { إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي: منذر لكم من عذاب الله، ومخوف بين النذارة.
{ وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ } هذا من الفرار إلى الله، بل هذا أصل الفرار إليه أن يفر العبد من اتخاذ آلهة غير الله من الأوثان والأنداد والقبور، وغيرها، مما عبد من دون الله، ويخلص العبد لربه العبادة والخوف والرجاء والدعاء والإنابة.
{ كَذَلِكَ مَآ أَتَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } 52 { أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ }53


يقول الله مسلياً لرسوله صلى الله عليه وسلم عن تكذيب المشركين بالله، المكذبين له، القائلين فيه من الأقوال الشنيعة، ما هو منزه عنه، وأن هذه الأقوال ما زالت دأباً وعادة للمجرمين المكذبين للرسل، فما أرسل الله من رسول إلا رماه قومه بالسحر أو الجنون. يقول الله تعالى: هذه الأقوال التي صدرت منهم - الأولين والآخرين - هل هي أقوال تواصوا بها، ولقن بعضهم بعضاً بها؟ فلا يستغرب - بسبب ذلك - اتفاقهم عليها: { بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } تشابهت قلوبهم وأعمالهم بالكفر والطغيان، فتشابهت أقوالهم الناشئة عن طغيانهم؟ وهذا هو الواقع، كما قال تعالى:{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا ٱللَّهُ أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } [البقرة: 118] وكذلك المؤمنون، لما تشابهت قلوبهم بالإذعان للحق وطلبه، والسعي فيه، بادروا إلى الإيمان برسلهم وتعظيمهم وتوقيرهم وخطابهم بالخطاب اللائق بهم.
{ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ } 54 { وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ }55


يقول تعالى آمراً رسوله بالإعراض عن المعرضين المكذبين: { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } أي: لا تبال بهم ولا تؤاخذهم، وأقبل على شأنك.
فليس عليك لوم في ذنبهم، وإنما عليك البلاغ، وقد أديت ما حملت، وبلّغت ما أرسلت به. { وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } والتذكير نوعان: تذكير بما لم يعرف تفصيله، مما عرف مجمله بالفطر والعقول، فإن الله فطر العقول على محبة الخير وإيثاره، وكراهة الشر والزهد فيه، وشرعه موافق لذلك، فكل ما أمر به ونهى من الشرع، فإنه من التذكير، وتمام التذكير، أن يذكر ما في المأمور به، من الخير والحسن والمصالح، وما في المنهي عنه من المضار. والنوع الثاني من التذكير: تذكير بما هو معلوم للمؤمنين، ولكن انسحبت عليه الغفلة والذهول، فيُذكَّرون بذلك، ويكرر عليهم ليرسخ في أذهانهم، وينتبهوا ويعملوا بما تذكروه من ذلك، وليحدث لهم نشاطاً وهمة، توجب لهم الانتفاع والارتفاع. وأخبر الله أن الذكرى تنفع المؤمنين، لأن ما معهم من الإيمان والخشية والإنابة واتباع رضوان الله، يوجب لهم أن تنفع فيهم الذكرى، وتقع الموعظة منهم موقعها، كما قال تعالى:
{ فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ * وَيَتَجَنَّبُهَ ا ٱلأَشْقَى } [الأعلى: 9-11] وأما من ليس له معه إيمان ولا استعداد لقبول التذكير، فهذا لا ينفع تذكيره، بمنزلة الأرض السبخة، التي لا يفيدها المطر شيئاً، وهؤلاء الصنف، لو جاءتهم كل آية لم يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم.
{ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } 56 { مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } 57 { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ }58


هذه الغاية التي خلق الله الجن والإنس لها، وبعث جميع الرسل يدعون إليها، وهي عبادته المتضمنة لمعرفته ومحبته، والإنابة إليه والإقبال عليه، والإعراض عما سواه، وذلك يتضمن معرفة الله تعالى، فإن تمام العبادة، متوقف على المعرفة بالله، بل كلما ازداد العبد معرفة لربه، كانت عبادته أكمل، فهذا الذي خلق الله المكلفين لأجله، فما خلقهم لحاجة منه إليهم.
فما يريد منهم من رزق وما يريد أن يطمعوه، تعالى الله الغني المغني عن الحاجة إلى أحد بوجه من الوجوه، وإنما جميع الخلق فقراء إليه، في جميع حوائجهم ومطالبهم، الضرورية وغيرها، ولهذا قال: { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ } أي: كثير الرزق، الذي ما من دابة في الأرض ولا في السماء إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها، { ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ } أي: الذي له القوة والقدرة كلها، الذي أوجد بها الأجرام العظيمة، السفلية والعلوية، وبها تصرف في الظواهر والبواطن، ونفذت مشيئته في جميع البريات، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا يعجزه هارب، ولا يخرج عن سلطانه أحد، ومن قوته أنه أوصل رزقه إلى جميع العالم، ومن قدرته وقوته أنه يبعث الأموات بعد ما مزقهم البلى، وعصفت بترابهم الرياح، وابتلعتهم الطيور والسباع، وتفرقوا وتمزقوا في مهامه القفار، ولجج البحار، فلا يفوته منهم أحد، ويعلم ما تنقص الأرض منهم، فسبحان القوي المتين.

{ فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ } 59 { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ }60


أي: وإن للذين ظلموا وكذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم من العذاب والنكال { ذَنُوباً } أي: نصيباً وقسطاً، مثل ما فعل بأصحابهم من أهل الظلم والتكذيب. { فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ } بالعذاب، فإن سنة الله في الأمم واحدة، فكل مكذب يدوم على تكذيبه من غير توبة وإنابة، فإنه لا بد أن يقع عليه العذاب، ولو تأخر عنه مدة، ولهذا توعدهم الله بيوم القيامة، فقال: { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ } وهو يوم القيامة، الذي قد وعدوا فيه بأنواع العذاب والنكال والسلاسل والأغلال، فلا مغيث لهم، ولا منقذ من عذاب الله تعالى [نعوذ بالله منه].

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #558  
قديم 17-08-2020, 06:13 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,626
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (557)
تفسير السعدى
سورة الطور
من الأية(1)
الى الأية(16)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الطور

{ وَٱلطُّورِ } 1 { وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ } 2 { فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ } 3 { وَٱلْبَيْتِ ٱلْمَعْمُورِ } 4 { وَٱلسَّقْفِ ٱلْمَرْفُوعِ } 5 { وَٱلْبَحْرِ ٱلْمَسْجُورِ } 6 { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } 7 { مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ } 8 { يَوْمَ تَمُورُ ٱلسَّمَآءُ مَوْراً } 9 { وَتَسِيرُ ٱلْجِبَالُ سَيْراً } 10 { فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِي نَ } 11 { ٱلَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ } 12 { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } 13 { هَـٰذِهِ ٱلنَّارُ ٱلَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ } 14 { أَفَسِحْرٌ هَـٰذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ } 15 { ٱصْلَوْهَا فَٱصْبِرُوۤاْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }16


يقسم تعالى بهذه الأمور العظيمة، المشتملة على الحكم الجليلة، على البعث والجزاء للمتقين والمكذبين، فأقسم بالطور الذي هو الجبل الذي كلم الله عليه نبيه موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، وأوحى إليه ما أوحى من الأحكام، وفي ذلك من المنّة عليه وعلى أمته، ما هو من آيات الله العظيمة، ونعمه التي لا يقدر العباد لها على عدٍّ ولا ثمن.
{ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ } يحتمل أن المراد به اللوح المحفوظ، الذي كتب الله به كل شيء، ويحتمل أن المراد به القرآن الكريم، الذي هو أفضل كتاب، أنزله الله محتوياً على نبأ الأولين والآخرين، وعلوم السابقين واللاحقين.
وقوله: { فِي رَقٍّ } أي: ورقٍّ { مَّنْشُورٍ } أي: مكتوب مسطر، ظاهر غير خفي، لا تخفى حاله على كل عاقل بصير. { وَٱلْبَيْتِ ٱلْمَعْمُورِ } وهو البيت الذي فوق السماء السابعة، المعمور مدى الأوقات بالملائكة الكرام، الذي يدخله كل يوم سبعون ألف ملك [يتعبدون فيه لربهم ثم] ، لا يعودون إليه إلى يوم القيامة وقيل: إن البيت المعمور هو بيت الله الحرام، المعمور بالطائفين والمصلين والذاكرين كل وقت، وبالوفود إليه بالحج والعمرة. كما أقسم الله به في قوله:
{ وَهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ ٱلأَمِينِ } [التين: 3] وحقيق ببيت أفضل بيوت الأرض، الذي قصده بالحج والعمرة، أحد أركان الإسلام، ومبانيه العظام، التي لا يتم إلا بها، وهو الذي بناه إبراهيم وإسماعيل، وجعله الله مثابة للناس وأمناً، أن يقسم الله به، ويبين من عظمته ما هو اللائق به وبحرمته. { وَٱلسَّقْفِ ٱلْمَرْفُوعِ } أي: السماء، التي جعلها الله سقفاً للمخلوقات، وبناء للأرض، تستمد منها أنوارها، ويقتدى بعلاماتها ومنارها، وينزل الله منها المطر والرحمة وأنواع الرزق. { وَٱلْبَحْرِ ٱلْمَسْجُورِ } أي: المملوء ماء، قد سجره الله، ومنعه من أن يفيض على وجه الأرض، مع أن مقتضى الطبيعة، أن يغمر وجه الأرض، ولكن حكمته اقتضت أن يمنعه عن الجريان والفيضان، ليعيش من على وجه الأرض، من أنواع الحيوان وقيل: إن المراد بالمسجور، الموقد الذي يوقد [ناراً] يوم القيامة، فيصير ناراً تلظى، ممتلئاً على عظمته وسعته من أصناف العذاب. هذه الأشياء التي أقسم الله بها، مما يدل على أنها من آيات الله وأدلة توحيده، وبراهين قدرته، وبعثه الأموات، ولهذا قال: { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } أي: لا بد أن يقع، ولا يخلف الله وعده وقيله. { مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ } يدفعه، ولا مانع يمنعه، لأن قدرة الله تعالى لا يغالبها مغالب، ولا يفوتها هارب، ثم ذكر وصف ذلك اليوم، الذي يقع فيه العذاب، فقال: { يَوْمَ تَمُورُ ٱلسَّمَآءُ مَوْراً } أي: تدور السماء وتضطرب، وتدوم حركتها بانزعاج وعدم سكون، { وَتَسِيرُ ٱلْجِبَالُ سَيْراً } أي: تزول عن أماكنها، وتسير كسير السحاب، وتتلون كالعهن المنفوش، وتبث بعد ذلك [حتى تصير] مثل الهباء، وذلك كله لعظم هول يوم القيامة، وفظاعة ما فيه من الأمور المزعجة، والزلازل المقلقة، التي أزعجت هذه الأجرام العظيمة، فكيف بالآدمي الضعيف!؟ { فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِي نَ } والويل: كلمة جامعة لكل عقوبة وحزن وعذاب وخوف، ثم ذكر وصف المكذبين الذين استحقوا به الويل، فقال: { ٱلَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ } أي: خوض في الباطل ولعب به.
فعلومهم وبحوثهم بالعلوم الضارة المتضمنة للتكذيب بالحق، والتصديق بالباطل، وأعمالهم أعمال أهل الجهل والسفه واللعب، بخلاف ما عليه أهل التصديق والإيمان من العلوم النافعة، والأعمال الصالحة.
{ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } أي: يوم يدفعون إليها دفعاً، ويساقون إليها سوقاً عنيفاً، ويجرون على وجوههم، ويقال لهم توبيخاً ولوماً: { هَـٰذِهِ ٱلنَّارُ ٱلَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ } فاليوم ذوقوا عذاب الخلد الذي لا يبلغ قدره، ولا يوصف أمره.
{ أَفَسِحْرٌ هَـٰذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ } يحتمل أن الإشارة إلى النار والعذاب، كما يدل عليه سياق الآية أي: لما رأوا النار والعذاب قيل لهم من باب التقريع: " أهذا سحر لا حقيقة له، فقد رأيتموه، أم أنتم في الدنيا لا تبصرون " أي: لا بصيرة لكم ولا علم عندكم، بل كنتم جاهلين بهذا الأمر، لم تقم عليكم الحجة؟ والجواب انتفاء الأمرين: أما كونه سحراً، فقد ظهر لهم أنه أحق الحق، وأصدق الصدق، المخالف للسحر من جميع الوجوه، وأما كونهم لا يبصرون، فإن الأمر بخلاف ذلك، بل حجة الله قد قامت عليهم، ودعتهم الرسل إلى الإيمان بذلك، وأقامت من الأدلة والبراهين على ذلك، ما يجعله من أعظم الأمور المبرهنة الواضحة الجليَّة.
ويحتمل أن الإشارة [بقوله: { أَفَسِحْرٌ هَـٰذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ } ] إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الحق المبين، والصراط المستقيم أي: هذا الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم سحرٌ أم عدم بصيرة بكم، حتى اشتبه عليكم الأمر، وحقيقة الأمر أنه أوضح من كل شيء وأحق الحق، وأن حجة الله قامت عليهم. { ٱصْلَوْهَا } أي: ادخلوا النار على وجه تحيط بكم، وتستوعب جميع أبدانكم، وتطلع على أفئدتكم. { فَٱصْبِرُوۤاْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ } أي: لا يفيدكم الصبر على النار شيئاً، ولا يتأسى بعضكم ببعض، ولا يخفف عنكم العذاب، وليست من الأمور التي إذا صبر العبد عليها هانت مشقتها وزالت شدتها.
وإنما فعل بهم ذلك، بسبب أعمالهم الخبيثة وكسبهم، [ولهذا قال] { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #559  
قديم 17-08-2020, 06:14 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,626
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (558)
تفسير السعدى
سورة الطور
من الأية(17)
الى الأية(28)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الطور

{ إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ } 17 { فَاكِهِينَ بِمَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ } 18 { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } 19 { مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ }20


لما ذكر تعالى عقوبة المكذبين، ذكر نعيم المتقين، ليجمع بين الترغيب والترهيب، فتكون القلوب بين الخوف والرجاء، فقال: { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ } لربهم، الذين اتقوا سخطه وعذابه، بفعل أسبابه من امتثال الأوامر واجتناب النواهي.
{ فِي جَنَّاتٍ } أي: بساتين، قد اكتست رياضها من الأشجار الملتفة، والأنهار المتدفقة، والقصور المحدقة، والمنازل المزخرفة، { وَنَعِيمٍ } [وهذا] شامل لنعيم القلب والروح والبدن، { فَاكِهِينَ بِمَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ } أي: معجبين به، متمتعين على وجه الفرح والسرور بما أعطاهم الله من النعيم الذي لا يمكن وصفه، ولا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين، ووقاهم عذاب الجحيم، فرزقهم المحبوب، ونجاهم من المرهوب، لما فعلوا ما أحبه الله، وجانبوا ما يسخطه ويأباه.
{ كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ } أي: مما تشتهيه أنفسكم، من [أصناف] المآكل والمشارب اللذيذة، { هَنِيئَاً } أي: متهنئين بتلك المآكل والمشارب على وجه الفرح والسرور والبهجة والحبور.
{ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي: نلتم ما نلتم بسبب أعمالكم الحسنة، وأقوالكم المستحسنة.
{ مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ } الاتكاء: هو الجلوس على وجه التمكن والراحة والاستقرار، والسرر: هي الأرائك المزينة بأنواع الزينة من اللباس الفاخر والفرش الزاهية.
ووصف الله السرر بأنها مصفوفة، ليدل ذلك على كثرتها، وحسن تنظيمها، واجتماع أهلها وسرورهم، بحسن معاشرتهم، ولطف كلام بعضهم لبعض، فلما اجتمع لهم من نعيم القلب والروح والبدن ما لا يخطر بالبال، ولا يدور في الخيال، من المآكل والمشارب [اللذيذة]، والمجالس الحسنة الأنيقة، لم يبق إلا التمتع بالنساء اللاتي لا يتم سرور بدونهن، فذكر الله أن لهم من الأزواج أكمل النساء أوصافاً وخلقاً وأخلاقاً، ولهذا قال: { وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ } وهن النساء اللواتي قد جمعن من جمال الصورة الظاهرة وبهاءها، ومن الأخلاق الفاضلة، ما يوجب أن يحيرن بحسنهن الناظرين، ويسلبن عقول العالمين، وتكاد الأفئدة أن تطيش شوقاً إليهن، ورغبة في وصالهن، والعِين: حسان الأعين مليحاتها، التي صفا بياضها وسوادها.

{ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُم ْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ ٱمْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } 21 { وَأَمْدَدْنَاهُ م بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } 22 { يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ } 23 { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } 24 { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } 25 { قَالُوۤاْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِيۤ أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ } 26 { فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ ٱلسَّمُومِ } 27 { إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْبَرُّ ٱلرَّحِيمُ }28


وهذا من تمام نعيم أهل الجنة، أن ألحق الله [بهم] ذريتهم الذين اتبعوهم بإيمان أي: الذين لحقوهم بالإيمان الصادر من آبائهم، فصارت الذرية تبعاً لهم بالإيمان، ومن باب أولى إذا تبعتهم ذريتهم بإيمانهم الصادر منهم أنفسهم، فهؤلاء المذكورون، يلحقهم الله بمنازل آبائهم في الجنة وإن لم يبلغوها، جزاءً لآبائهم، وزيادةً في ثوابهم، ومع ذلك، لا ينقص الله الآباء من أعمالهم شيئاً، ولما كان ربما توهم متوهم أن أهل النار كذلك، يلحق الله بهم أبناءهم وذريتهم، أخبر أنه ليس حكم الدارين حكماً واحداً، فإن النار دار العدل، ومن عدله تعالى أن لا يعذب أحداً إلا بذنب، ولهذا قال: { كُلُّ ٱمْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } أي: مرتهن بعمله، فلا تزر وازرة وزر أخرى، ولا يحمل على أحد ذنب أحد. هذا اعتراض من فوائده إزالة الوهم المذكور. وقوله: { وَأَمْدَدْنَاهُ م } أي: أمددنا أهل الجنة من فضلنا الواسع ورزقنا العميم، { بِفَاكِهَةٍ } من العنب والرمان والتفاح، وأصناف الفواكه اللذيذة الزائدة على ما به يتقوتون، { وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } من كل ما طلبوه واشتهته أنفسهم، من لحم الطير وغيرها.
{ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً } أي: تدور كاسات الرحيق والخمر عليهم، ويتعاطونها فيما بينهم، وتطوف عليهم الولدان المخلدون بأكواب وأباريق وكأسٍ { لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ } أي: ليس في الجنة كلام لغو، وهو الذي لا فائدة فيه ولا تأثيم، وهو الذي فيه إثم ومعصية، وإذا انتفى الأمران، ثبت الأمر الثالث، وهو أن كلامهم فيها سلام طيب طاهر، مسر للنفوس، مفرح للقلوب، يتعاشرون أحسن عشرة، ويتنادمون أطيب المنادمة، ولا يسمعون من ربهم، إلا ما يقر أعينهم، ويدل على رضاه عنهم [ومحبته لهم].
{ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ } أي: خدم شباب { كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } من حسنهم وبهائهم، يدورون عليهم بالخدمة وقضاء ما يحتاجون إليه، وهذا يدل على كثرة نعيمهم وسعته، وكمال راحتهم.
{ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } عن أمور الدنيا وأحوالها.
{ قَالُوۤاْ } في [ذكر] بيان الذي أوصلهم إلى ما هم فيه من الحبرة والسرور: { إِنَّا كُنَّا قَبْلُ } أي: في دار الدنيا { فِيۤ أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ } أي: خائفين وجلين، فتركنا من خوفه الذنوب، وأصلحنا لذلك العيوب.
{ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا } بالهداية والتوفيق، { وَوَقَانَا عَذَابَ ٱلسَّمُومِ } أي: العذاب الحار الشديد حره.
{ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ } أن يقينا عذاب السموم، ويوصلنا إلى النعيم، وهذا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة أي: لم نزل نتقرب إليه بأنواع القربات، وندعوه في سائر الأوقات، { إِنَّهُ هُوَ ٱلْبَرُّ ٱلرَّحِيمُ } فمن برّه بنا ورحمته إيانا، أنالنا رضاه والجنة، ووقانا سخطه والنار.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #560  
قديم 17-08-2020, 06:15 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,626
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (559)
تفسير السعدى
سورة الطور
من الأية(29)
الى الأية(43)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الطور
{ فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ } 29 { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ } 30 { قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُتَرَبِّصِي نَ } 31 { أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَـٰذَآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } 32 { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ } 33 { فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ } 34 { أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ ٱلْخَالِقُونَ } 35 { أَمْ خَلَقُواْ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ } 36 { أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ ٱلْمُصَيْطِرُون َ } 37 { أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } 38 { أَمْ لَهُ ٱلْبَنَاتُ وَلَكُمُ ٱلْبَنُونَ } 39 { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } 40 { أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } 41 { أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ ٱلْمَكِيدُونَ } 42 { أَمْ لَهُمْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ }43


يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يذكر الناس، مسلمهم وكافرهم، لتقوم حجة الله على الظالمين، ويهتدي بتذكيره الموفقون، وأنه لا يبالي بقول المشركين المكذبين وأذيتهم وأقوالهم التي يصدون بها الناس عن اتباعه، مع علمهم أنه أبعد الناس عنها، ولهذا نفى عنه كل نقص رموه به، فقال: { فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } أي: مَنِّه ولطفه، { بِكَاهِنٍ } أي: له رَئِيٌّ من الجن، يأتيه بأخبار بعض الغيوب، التي يضم إليها مائة كذبة، { وَلاَ مَجْنُونٍ } فاقد للعقل، بل أنت أكمل الناس عقلاً، وأبعدهم عن الشياطين، وأعظمهم صدقاً، وأجلهم وأكملهم، وتارة { يَقُولُونَ } فيه: إنه { شَاعِرٌ } يقول الشعر، والذي جاء به شعر، والله يقول:{ وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ } [يس: 69]. { نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ } أي: ننتظر به الموت، فسيبطل أمره، [ونستريح منه]، { قُلْ } لهم جواباً لهذا الكلام السخيف: { تَرَبَّصُواْ } أي: انتظروا بي الموت، { فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُتَرَبِّصِي نَ } نتربص بكم، أن يصيبكم الله بعذاب من عنده، أو بأيدينا.
{ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَـٰذَآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } أي: أهذا التكذيب لك، والأقوال التي قالوها؟ هل صدرت عن عقولهم وأحلامهم؟ فبئس العقول والأحلام، التي أثرت ما أثرت، وصدر منها ما صدر. فإن عقولاً جعلت أكمل الخلق عقلاً مجنوناً، وأصدق الصدق وأحق الحق كذباً وباطلاً، لَهِيَ العقول التي ينزه المجانين عنها، أم الذي حملهم على ذلك ظلمهم وطغيانهم؟ وهو الواقع، فالطغيان ليس له حد يقف عليه، فلا يستغرب من الطاغي المتجاوز الحد كل قول وفعل صدر منه. { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ } أي: تقول محمد القرآن، وقاله من تلقاء نفسه؟ { بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ } فلو آمنوا، لم يقولوا ما قالوا.
{ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ } أنه تقوله، فإنكم العرب الفصحاء، والفحول البلغاء، وقد تحداكم أن تأتوا بمثله، فتصدق معارضتكم أو تقروا بصدقه، وأنكم لو اجتمعتم، أنتم والإنس والجن، لم تقدروا على معارضته والإتيان بمثله، فحينئذ أنتم بين أمرين: إما مؤمنون به، مهتدون بهديه، وإما معاندون متبعون لما علمتم من الباطل.
{ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ ٱلْخَالِقُونَ } وهذا استدلال عليهم، بأمر لا يمكنهم فيه إلا التسليم للحق، أو الخروج عن موجب العقل والدين، وبيان ذلك: أنهم منكرون لتوحيد الله، مكذبون لرسوله، وذلك مستلزم لإنكار أن الله خلقهم.
وقد تقرر في العقل مع الشرع، أن الأمور لا يخلو من أحد ثلاثة أمور: إما أنهم خلقوا من غير شيء أي: لا خالق خلقهم، بل وجدوا من غير إيجاد ولا موجد، وهذا عين المحال.
أم هم الخالقون لأنفسهم، وهذا أيضاً محال، فإنه لا يتصور أن يوجدوا أنفسهم.
فإذا بطل [هذان] الأمران، وبان استحالتهما، تعين [القسم الثالث] أن الله الذي خلقهم، وإذا تعين ذلك، علم أن الله تعالى هو المعبود وحده، الذي لا تنبغي العبادة ولا تصلح إلا له تعالى.
وقوله: { أَمْ خَلَقُواْ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ } وهذا استفهام يدل على تقرير النفي أي: ما خلقوا السماوات والأرض، فيكونوا شركاء لله، وهذا أمر واضح جداً.
ولكن المكذبين { لاَّ يُوقِنُونَ } أي: ليس عندهم علم تام، ويقين يوجب لهم الانتفاع بالأدلة الشرعية والعقلية.
{ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ ٱلْمُصَيْطِرُون َ } أي: أعند هؤلاء المكذبين خزائن رحمة ربك، فيعطون من يشاؤون ويمنعون من يريدون؟ أي: فلذلك حجروا على الله أن يعطي النبوة عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، وكأنهم الوكلاء المفوضون على خزائن رحمة الله، وهم أحقر وأذل من ذلك، فليس في أيديهم لأنفسهم نفع ولا ضر، ولا موت ولا حياة ولا نشور.
{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [الزخرف: 32].
{ أَمْ هُمُ ٱلْمُصَيْطِرُون َ } أي: المتسلطون على خلق الله وملكه، بالقهر والغلبة؟ ليس الأمر كذلك، بل هم العاجزون الفقراء، { أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ } أي: ألهم اطلاع على الغيب، واستماع له بين الملأ الأعلى، فيخبرون عن أمور لا يعلمها غيرهم؟ { فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم } المدعي لذلك { بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } وأنّى له ذلك؟ والله تعالى عالم الغيب والشهادة، فلا يظهر على غيبه [أحداً] إلا من ارتضى من رسول يخبره بما أراد من علمه. وإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل وأعلمهم وإمامهم، وهو المخبر بما أخبر به، من توحيد الله، ووعده، ووعيده، وغير ذلك من أخباره الصادقة، والمكذبون هم أهل الجهل والضلال والغي والعناد، فأيُّ المخبرين أحق بقبول خبره؟ خصوصاً والرسول صلى الله عليه وسلم قد أقام من الأدلة والبراهين على ما أخبر به، ما يوجب أن يكون خبره عين اليقين وأكمل الصدق، وهم لم يقيموا على ما ادعوه شبهة، فضلاً عن إقامة حجة. وقوله: { أَمْ لَهُ ٱلْبَنَاتُ } كما زعمتم { وَلَكُمُ ٱلْبَنُونَ } فتجمعون بين المحذورين؟ جعلكم له الولد، واختياركم له أنقص الصنفين؟ فهل بعد هذا التنقص لرب العالمين غاية أو دونه نهاية؟ { أَمْ تَسْأَلُهُمْ } يا أيها الرسول { أَجْراً } على تبليغ الرسالة، { فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } ليس الأمر كذلك، بل أنت الحريص على تعليمهم، تبرعاً من غير شيء، بل تبذل لهم الأموال الجزيلة، على قبول رسالتك، والاستجابة [لأمرك و] دعوتك، وتعطي المؤلفة قلوبهم [ليتمكن العلم والإيمان من قلوبهم]. { أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } ما كانوا يعلمونه من الغيوب، فيكونون قد اطلعوا على ما لم يطلع عليه رسول الله، فعارضوه وعاندوه بما عندهم من علم الغيب؟ وقد علم أنهم الأمة الأمية، الجهال الضالون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي عنده من العلم أعظم من غيره، وأنبأه الله من علم الغيب على ما لم يُطْلِعْ عليه أحداً من الخلق، وهذا كله إلزام لهم بالطرق العقلية والنقلية على فساد قولهم، وتصوير بطلانه بأحسن الطرق وأوضحها وأسلمها من الاعتراض، وقوله: { أَمْ يُرِيدُونَ } بقدحهم فيك وفيما جئتهم به { كَيْداً } يبطلون به دينك، ويفسدون به أمرك؟ { فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ ٱلْمَكِيدُونَ } أي: كيدهم في نحورهم، ومضرته عائدة إليهم، وقد فعل الله ذلك - ولله الحمد - فلم يُبْقِ الكفار من مقدورهم من المكر شيئاً إلا فعلوه، فنصر الله نبيه ودينه عليهم، وخذلهم وانتصر منهم.

{ أَمْ لَهُمْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ } أي: ألهم إله يدعى ويرجى نفعه، ويخاف من ضره، غير الله تعالى؟ { سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } فليس له شريك في الملك، ولا شريك في الوحدانية والعبادة، وهذا هو المقصود من الكلام الذي سيق لأجله، وهو بطلان عبادة ما سوى الله وبيان فسادها بتلك الأدلة القاطعة، وأن ما عليه المشركون هو الباطل، وأن الذي ينبغي أن يعبد ويُصلى له ويسجد ويخلص له دعاء العبادة ودعاء المسألة، هو الله المألوه المعبود، كامل الأسماء والصفات، كثير النعوت الحسنة، والأفعال الجميلة، ذو الجلال والإكرام، والعزّ الذي لا يرام، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الكبير الحميد المجيد.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 343.54 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 337.48 كيلو بايت... تم توفير 6.06 كيلو بايت...بمعدل (1.76%)]