أثر البيان القرآني في تثبيت العقيدة - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         الاكتفاء بسماع أذكار الصباح والمساء عند قولها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          الفرق بين صلاة التراويح وصلاة القيام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          قراءة القرآن بصوت مرتفع في المسجد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          الفرصة الأخيرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          ترزقوا وتنصروا وتجبروا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          لا سمَرَ إلَّا لِمُصَلٍّ ، أوْ مُسافِرٍ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          على أبواب العشر الأواخر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          رمضان شهر الإقبال على مجالس العلم والعبادة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          التغيير الشامل في رمضان .. هل هو ممكن؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          تاريخ غزوة بدر .. الميلاد الثاني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها > ملتقى الإنشاء

ملتقى الإنشاء ملتقى يختص بتلخيص الكتب الاسلامية للحث على القراءة بصورة محببة سهلة ومختصرة بالإضافة الى عرض سير واحداث تاريخية عربية وعالمية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 31-12-2019, 12:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,505
الدولة : Egypt
افتراضي أثر البيان القرآني في تثبيت العقيدة

أثر البيان القرآني في تثبيت العقيدة

الدكتور محمد الحجوي



لم يكن شيء أكثر قدرة على تغيير مشاعر وانفعالات وأحاسيس الإنسان العربي من العبارة البيانية البليغة المؤثرة بدلالتها وإيحائها ورمزها وإيمائها، كانت الكلمة البليغة المحكمة تفعل فيه ما لا يفعله السحر الذي كان يؤمن به، وتغير أوضاعه من حال إلى حال، ومن صورة إلى صورة، فترى حزنه قد تحول إلى فرح، وسخطه إلى رضى، وصراخه إلى صمت، وانفعاله إلى طمأنينة وسكينة· كان تأثير الكلمة أقوى من ضربة سيف، وطعنة رمح، بل أكثر من منازلة جيش جرار بعدته وعتاده، وكم من كلمة شاردة أججت حرباً ضروساً قضت على الأخضر واليابس، وكم من كلمة محكمة بليغة شريفة أخمدت فتناً وحروباً ما كانت لتهدأ بالجيوش الجرارة، وكم من كلمة طيبة ضمدت جروحاً عميقة كانت تفرق بين الأخ وأخيه، وبين أفراد العشيرة الواحدة، وكم من كلمة طيبة بدلت اليأس والقنوط أملاً، والخوف والفزع رجاء، والكره والبغضاء محبة، وبالكلمة وحدها تغلب الإنسان العربي على جدب الصحراء، وشظف العيش، وقساوة الطبيعة· وبالكلمة الطيبة التي بشر بها الإسلام، كلمة التوحيد والسلام والمحبة توحدت القبائل العربية بعد تمزق وقتال، وتأسست الدولة الإسلامية قوية البنيان، عزيزة الجانب، منيعة الأركان، هدت عروش الطغاة الجبابرة، ونشرت عدلها في أقطار المعمورة، شرقها وغربها، شمالها وجنوبها، ونعمت الإنسانية في حكم الدولة الإسلامية بظلالها الوارفة، وثمارها الطيبة بالمساواة في الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية فامتدت جذورها، وتشعبت فروعها عريزة قوية منيعة، مصداقاً لقوله تعالى: (ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيِّبة كشجرة طيِّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء· تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها) إبراهيم:24ـ25·
وإذا كان للكلمة هذا السلطان القوي في النفوس، وهذا السحر العجيب في العقول، فإن الشرفاء والعقلاء، وأهل الخير والصلاح والفضل كانوا يخشون أثرها القوي في النفوس ولا سيما كلمة الذم والفحش، لأنهم يعلمون أنها إذا خرجت لا يستطيع أحد ردها، أو تغيير مسارها، ولذلك كان الإنسان العربي الذي ولد في بيئة الفصاحة والبلاغة، وشب في منهلهما العذب أكثر الناس معرفة بأثرها، وبقدرة تغلغلها في القلوب، وقوة سلطانها على العقول والنفوس، وقد كان العرب في محافلهم ونواديهم وأسواقهم الأدبية، وفي كل تجمع يريدون منه تحقيق هدف مادي أو معنوي في السلم والحرب، يقدمون خيرة الخطباء والشعراء والبلغاء والفصحاء ليعددوا ببلاغة وفصاحة وبيان مناقبهم وأنسابهم وأحسابهم وأمجادهم أمام الوفود والجماعات· ومن هنا ندرك السبب الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتمد على حسان بن ثابت، رضي الله عنه، في الرد على شعراء المشركين حينما اشتعلت حرب الكلمة بين المسلمين وأعدائهم، لأن حسان، وهو الشاعر الفحل المتمرس بالكلمة قبل مجيء الإسلام، كان أقدر شعراء الإسلام على القيام بهذه المهمة الجليلة في مرحلة قيام الدولة الإسلامية التي كانت تحتاج إلى قوة السيف لرد كيد الكائدين، وإلى الكلمة الحادة القوية التي تفحم أعداء الدعوة، كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستدعيه للرد على وفود قبائل العرب التي كانت تأتي لتقديم البيعة وإعلان إسلامها حين أتم الله نعمته على المسلمين بفتح مكة، معقل الشرك، وموطن العصبة الضالة التي ناصبت العداء للرسول صلى الله عليه وسلم طوال ثلاثة وعشرين عاماً حتى هزم الله الأحزاب· وقد كانت الوفود تصحب معها أشرافها وخطباءها وفحول شعرائها، فكانوا يقفون أمام الرسول صلى الله عليه وسلم يذكرون ماضيهم وساداتهم وأشرافهم وأمجاد قبيلتهم، كقول الزبرقان بن بدر، وكان في وفد تميم:

نحن الكرام فلا حي يعادلنا

منَّا الملوك وفينا تنصبُ البيعُ
فرد حسان على الوفد بقصيدة أبلغ من قصيدة شاعرهم، جعلت أحد أشرافهم يقر بأن شاعر الرسول أشعر من شاعرهم، وفي هذه الإشارة دلالة قوية على نصرة الإسلام بالكلمة بعد سقوط معاقل الشرك التي كانت تحاربه بالسيف والكلمة معاً· لكن كلمة الحق والإيمان والهدى التي جاء بها الإسلام كانت أقوى من ضلالهم وبهتانهم وكذبهم·
والقصيدة التي رد بها حسان، رضي الله عنه، على الوفد قال فيها:

إن الذوائب من فهر وإخوتهم

قد بيَّنوا سنة للناس تتبع

يرضى بها كل من كانت سريرته

تقوى الإله، وبالأمر الذي شرعوا(1)
وكان حسان بمواقفه النبيلة وقوافيه المحكمة شاعر الدعوة الإسلامية بحق، وفارس حلبتها، والمعبِّر بصدق عن سماحة الإسلام، لأنه رد على الأعداء بسهام أنفذ من سهامهم حينما اشتد إيذاؤهم، وقوي شرهم قبل الفتح في معقل الشرك مكة· ولما أتمَّ الله نعمته على رسوله الصادق الأمين بفتح هذا المعقل، وأصبح الناس يدخلون أفواجاً في الإسلام طواعية وإيماناً بمبادئه السمحة، وشريعته المنقذة من الضلال، كان حسان ينشر فضائل الإسلام ومثله العليا، وقيمه السامية، وأخلاقه الفاضلة، وشريعته الربانية بين وفود القبائل التي قدمت إلى مكة، فحقق بلسانه ما لم تحققه السيوف والرماح، ونال من الأعداء ما لم تقدر عليه الجيوش الجرارة في ميدان القتال: >كان حسان يتولى في الدولة الإسلامية الناشئة عملاً جليلاً لا يقل خطره عن قيادة الجيوش المحاربة<(2)·
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو العربي الفصيح الذي أوتي جوامع الكلم، يتأثر بالكلمة البليغة الطيبة، ويثني على البيان، وهو القائل: >إن من الشعر لحكمة، وإن من البيان لسحراً<·
وأخباره عليه الصلاة والسلام مع الشعراء وأصحاب البيان كثيرة، وكلها تدل على التأثر والإعجاب بقوة الكلمة البليغة· قيل: >إن قتيلة بنت النضر بن الحارث عرضت له ـ وهو يطوف ـ فاستوقفته، وجذبت رداءه حتى انكشف منكبه<، وكان قد قتل أباها، فقالت: فليسمعن النضر إن ناديته

أم كيف يسمع ميت لا ينطق

ظلت سيوف بني أبيه تنوشه

لله أرحام هناك تشقق

قسراً يقاد إلى المنية متعباً

رسف المقيد، وهو عان موثق

أمحمد ها أنت ضئن نجيبة

من قومها، والفحل فحل معرق

ما كان ضرك لو مننت، وربما

من الفتى، وهو المغيظ المحنق

والنضر أقرب من قتلت وسيلة

وأحقهم إن كان عتق يعتق
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: >لو كنت سمعت شعرها هذا ما قتلته<(3)·
إذا كان هذا هو حال العرب في البلاغة والفصاحة في مرحلة نزول الوحي على الرسول الأمين، فلا نستغرب أن يكون الكتاب المنزل على خير خلق الله أجمعين أبلغ من بلاغة العرب، وأفصح من فصاحتهم، ليكون حجة للرسول عليه الصلاة والسلام في عصر كان للخطباء والشعراء والفصحاء نفوذ وتأثير كبيرين في المجتمع· لقد نزل القرآن على أمة البيان بقوة تراكيبه، ومحكم بيانه، وصدق وعده ووعيده، وسمو حكمه، ودلالة مواعظه، وصدق أخباره وقصصه وغيبياته، ولم يستطع أصحاب البيان أن ينبسوا بكلمة واحدة، وعجزوا عجزاً مطلقاً في الرد، والحيرة بادية على وجوههم وهم يسمعون قرآناً عربياً مبيناً جاء بلسانهم يتحداهم ويطلب منهم الحجة والبيِّنة فيما يدعون وهم الذين كانت أقوالهم تسير بها الركبان، وتتردد في الأندية والمحافل، يباهون بها سائر الأمم· فقال لهم، عزَّ من قائل: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين· فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أُعدت للكافرين) البقرة:23 ـ 24·
هذا التحدي له دلالته القوية وسره الكبير في تثبيت العقيدة، لأن فيه تقريعاً فظيعاً واستخفافاً كبيراً بأصحاب العقول والجاه، وتطاولاً صارخاً على الذين لم يخلقوا إلا للكلمة والشجاعة والتحدي والمقارعة والمواجهة، كانوا يحيون من أجلها، ويتعلمها الخلف عن السلف، ويحرصون على استمرارها فيهم جيلاً بعد جيل حتى ضرب بهم المثل في البيان والشجاعة· ولا ريب أن بعض بلغائهم وفصحائهم أرادوا كسر هذا التحدي صيانة وحفظاً لمكانتهم، وقد فعلوا، لكنهم اكتشفوا ضعف محاولاتهم، وسخف كلامهم، فلم يعلنوه للناس لعلمهم أنه لم يبلغ سمو كلمة القرآن في حقيقتها ومجازها، وفي إيجازها وإطنابها، وإجمالها وتفصيلها، وتصريحها وكنايتها، وذكرها وحذفها، وإيمائها وإشارتها· والعقلاء منهم، سواء شعراء كانوا أو خطباء أو فصحاء أو حكماء، أدركوا هذه الحقيقة، فتفرغوا لتدبر آياته البينات، وفتحوا عقولهم وقلوبهم لهذا النور الذي شع ليزيل عنهم ظلمات الجهل، وينشر بينهم الأمن والود والسلام والمحبة، فهداهم الله إلى معرفة أسراره وبيانه وحكمه ومواعظه، وعملوا بتعاليمه في عبادتهم وشؤون حياتهم، فصلح حالهم في الدنيا، ولقوا الله، وهو راض عنهم، وأما الذين طمس الله على قلوبهم، وعميت بصيرتهم، فقد كانوا يهزأون بهذا النور بالرغم من علمهم كان كلام حق، وهداية إلى الخير والصلاح، وطريق إلى الفضائل والمثل والسلام فأمعنوا في الباطل والكذب، وجاهروا الرسول عليه السلام بقولهم: >قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه، لا نفقه ما تقول، وفي آذاننا وقر، لا نسمع ما تقول، ومن بيننا وبينك حجاب قد حال بيننا وبينك، فاعمل بما أنت عليه، إننا عاملون بما نحن عليه، إنا لا نفقه عنك شيئاً<·(4) فحرموا من فضائله، وساءت أحوالهم في الحياة الدنيا والآخرة·
وإن ما أدركه العقلاء وأصحاب الفضل من العرب الأوائل الذين فتح الله قلوبهم لهذا النور في بلاغته وبيانه وإعجازه وأسراره بسليقتهم وملكتهم وطبعهم، أدركه العلماء في عصور ازدهار البحث العلمي وانتشار حركة التأليف في علوم اللغة العربية وآدابها، وفي الفلسفة والفكر الإسلامي·
لقد وقف هؤلاء العلماء بالدراسة المتأنية والبحث الجاد، والمقارنة الدقيقة للأساليب على خصائص اللغة تركيباً ودلالة وتصويراً وصوتاً، فوجدوا لغة القرآن ألفت تأليفاً منسجماً في حروفها ومفرداتها ومخارج أصواتها، وأحكمت إحكاماً دقيقاً في معانيها ودلالتها وتصويرها ونسجها، فلا عوج ولا غموض ولا إبهام، ولا اضطراب ولا إسفاف ولا إحالة· وهذا هو السبب الذي جعل لغة القرآن الكريم ترتل بنغم موسيقي بديع، يريح النفوس، ويطمئن القلوب، وتتقبله الأسماع بارتياح، فينفذ إلى القلوب مثل الهواء العليل، ويحدث فيها مثل ما يحدث الماء في التربة الطيبة، وصدق رب العزة، وهو أصدق القائلين في قوله: (ألر· كتاب أحكمت آياته ثم فُصِّلت من لدن حكيم خبير) هود:1·
ومن هنا نجد العلماء قد اجتهدوا في فترة مبكرة لبيان هذا السر الإلهي في قرآنه المجيد، وجعلوا آياته البينات في تركيبها ودلالتها مقياساً للرصانة والبهاء والجلال والوقار، يقتبس منه البلغاء لتحسين كلامهم، والعلماء لتوثيق حجتهم· قال السكاكي: >ولله در أمر التنزيل، وإحاطته على لطائف الاعتبارات في إيراد المعنى على أنحاء مختلفة بحسب مقتضيات الأحوال، ولا ترى شيئاً منها يراعى في كلام البلغاء من وجه لطيف إلا عثرت عليه مراعى فيه من ألطف وجوه<·(5)
وكلما تطورت العلوم الإنسانية، ومناهج البحث، وطرائق الكتابة والتأليف وبخاصة الأدب واللغة إلا ازداد العلماء اقتناعاً وإيماناً بسمو البيان القرآني، وعلو شأنه، وتفوقه على سائر ضروب الأساليب· وأسلوبه المعجز أصبح في عصرنا الحديث يخضع في دراسته وتحليله مثل سائر الأساليب لمنهج علمي يعتمد على التحليل الدقيق والمقارنة مع ضروب الأساليب، لملاحظة خصائصة التركيبية والدلالية المتميزة· ولم يعد أي أحد، وبخاصة الأسلوبيون، يرتاب في أن أسلوب القرآن جاء بالصفة التي وصفه الله سبحانه وتعالى بها، وهي سلامته من العوج والاضطراب والإسفاف·(6)
وكتاب الله بقدر ما اشتمل على هذه اللغة البيانية البليغة الفصيحة المحكمة المعجزة تركيباً ومعنى حتى أصبح مصدراً للبيان العربي الإسلامي، فإنه كتاب شرائع وأحكام وقوانين تهدي إلى الإيمان بالله الواحد الصمد، وتنظم علاقات الأفراد والجماعات في التعامل والسلوك، وتبني مجتمعاً متكاملاً في عقيدته وتفكيره على أساس العدل والمساواة بين جميع الطبقات، ولذلك كان كتاب الله ميداناً للدراسات الفقهية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية، تنير للمسلمين جوانب كثيرة في حياتهم، وتهديهم إلى أفضل وسائل الإنتاج والإبداع والتميز والتفرد·
ولا يقدح في هذه الجوانب التي درسها العلماء إلا معاند أو جاهل أو جاحد، عميت بصيرته عن تتبعها لكشف أسرارها، فلذلك تجده يمعن في الإنكار ظاناً ـ عن جهل ـ أنه قادر على إطفاء نور الله بكلامه السقيم، وفكره القاصر، وإن من يبتعد عن قوانين هذه الشريعة السمحة، أو يهمل العمل بها، فإنه لا محالة يسير في طريق لا يرى فيها إلا ظلاماً وسديماً، ولا يسمع من حوله إلا طنيناً وضجيجاً، وأنَّى له أن يهتدي إلى الحق والخير والفلاح، وهو يشيح بوجهه عن نور أنقذ أمة من الضلال، وجعلها خير أمة أخرجت للناس·
إن دعاة الباطل والمدافعين عن الأهواء والنزوات والشعارات البعيدة عن روح الإسلام ومنهجه القويم لم يخل منهم زمان ومكان· أما في عصرنا الحديث فقد ملأ ضجيجهم كل مكان، واصفين شريعة الإسلام السمحة بسمات التخلف والجمود والرجعية لكي يوهموا شباب هذه الأمة أن سبب تخلف المسلمين كان نتيجة تشبثهم بأحكام شريعة كتاب الله التي لم تعد ـ كما يزعمون ـ تلائم تطور العصر، وما يعرفه من ثورة علمية وتقنية وفكرية تقتضي التخلص من كل ما هو قديم، وأخذ كل ما عند الغرب جملة وتفصيلاً· هذا الوهم السقيم، والفكر القاصر، والضلال البعيد، والافتراء الصريح، والجهل الأعمى بحقيقة الإسلام عقيدة وفكراً وسلوكاً لم يستطع أن ينفذ في عقول معظم شباب هذه الأمة، لأن بيدهم كتاباً منيراً أحكمت آياته، وسنَّة اشتملت على آداب وأخلاق وسلوك ومعاملات، وهما معاً يحضان المسلم على العمل والإنتاج والإبداع والتفكير في كل ما يفيد الأمة في العقيدة والحياة الدنيا، كما أن وراء هذا الشباب علماء أجلاء عرفوا مقاصد الشريعة، وصلاحيتها لكل زمان ومكان، فوهبوا حياتهم لشرح كتاب الله وسنَّة رسوله عليه السلام، وكشف أنوارهما الوهاجة، ووقفوا على سيرة الرسول الأمين، وما فيها من عبادة خالصة، واستقامة دائمة، وعمل صالح، وجهاد في سبيل الله عز نظيره، وصبر على المكاره، لتكون قدوة لشباب أمة الإسلام في العبادة والسلوك والمعاملات والبناء يرسون بها أسس مجتمعهم، وتدفعهم إلى مدارج الكمال والتطور الذي حض عليه ديننا الحنيف·
إن تاريخ أمة التوحيد المليء بالمفاخر والبطولات والأمجاد العطرة في البحث والعلم والتشييد والحفاظ على الحضارة الإنسانية في أبهى صورها، لم يكتسبه إلا من أنوار هذه الشريعة السمحة·
إن دستور أمة التوحيد منذ فجر تاريخ الإسلام يقوم على الثوابت الأصيلة من الكتاب والسنَّة، وما أصابنا من ضعف وتخاذل وهوان وتفرقة وهزائم متتالية هو نتيجة ابتعاد المسلمين عن دستورهم القويم الذي شرعه أحكم الحاكمين· (ألمر · تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) الرعد:1، (ألر· كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور) إبراهيم:1·
إن عودة المجد والعزة والقوة والمنعة للمسلمين رهين بعودتهم قلباً وفكراً ووجداناً إلى الكتاب والسنَّة، وجعلهما مناراً لهم في سلوكهم وأخلاقهم وتعليمهم، وفي حياتهم الفكرية والثقافية والعلمية والاقتصادية، لأن شريعة الإسلام لم تهمل ذكر سبب من الأسباب يعين المسلمين على التطور والخروج من التخلف·
وما نرى الآن من تهافت على ما ينشره الغرب من آراء وأفكار يعدها بعضهم جديرة بالاهتمام لكونها قادرة على أن تسهم في إثراء الحضارة الإنسانية، ودعوة إلى الإيمان بها، وجعلها في الصدارة في تفكيرهم ومنهج حياتهم دون غربلتها لمعرفة ما فيها من صالح وطالح، وما تنطوي عليه من بذور الخير والشر·
هذا التهافت نراه نزوة عابرة لا تليق بالشباب المسلم الذي ينبغي أن يكون ركيزة وعماداً لهذه الشريعة السمحة، يثريها بفكره ووجدانه ومنهجه واجتهاده، ويسعى إلى طلب العلم بوعي كامل مما يأخذه، إن الإسلام في حقيقته وجوهر تعاليمه لا يعادي الآراء والأفكار والعلوم العقلية، بل يطالب بالانفتاح عليها ومناقشتها بالفكر النير، وبالحجة القاطعة والبيِّنة الواضحة، كما يطالبهم باقتباس ما يلائم روح الشريعة في صفائها وقدسيتها، وهذا ما فعله أسلافنا الذين بنوا حضارة زاهرة في مشرق الأرض ومغربها، أنقذت الإنسانية من الظلام والجهل والهمجية والتخلف الذي فتك بها طوال قرون عديدة·
إن العلوم المتجددة وبخاصة العلوم التجريبية والعقلية، وكذا الثقافة الحديثة بجميع فروعها وتشعباتها ينبغي أن تكون هدفاً ومقصداً للمجتمعات الإسلامية، وشباب هذه الأمة بخاصة مطالب بمسايرة تطور العصر، وبالتفتح على العلوم الحديثة، وبإتقان اللغات الأجنبية للاطلاع على أحوال الأمم الأخرى في فكرها ومنهجها وتعليمها، وما تحققه من تقدم في مجال العلوم الدقيقة، وكيف تنظر هذه الأمم إلى ديننا وفكرنا وحضارتنا· إن العلم بهذا يجعلنا نرد كل الاتهامات والأباطيل التي ينعتون بها الإسلام وحضارته·
أما إتقان اللغة العربية، والتعرف إلى خصائصها، فهو واجب وآكد على كل مسلم، لأنها لغة القرآن الكريم، ولغة التراث والحضارة العربية الإسلامية· والأمم التي تهمل لغتها تقتل، من دون أن تدري، جذورها وأصولها، وتصبح غير قادرة على الصمود والتحدي· ونحن نعرف أن مرحلة الحماية والاستعمار لدول العالم العربي والإسلامي في المشرق والمغرب كانت مرحلة القضاء على الدين والتاريخ والفكر، وتشويه الحضارة الإسلامية، وكان المستعمر يعلم أن تحقيق هذا الهدف لا يتم إلا بإضعاف اللغة العربية التي هي قوام الدين والفكر والتاريخ، ولولا ثلة من العلماء والرجال الأفذاذ الذين أدركوا أبعاد المستعمر الآنية والمستقبلية لكنا الآن نجهل أبسط الأشياء عن لغتنا وحضارتنا وفكرنا وتراثنا·
لقد أسس هؤلاء الرجال مدارس ومعاهد دينية جعلوا لغة التدريس فيها اللغة العربية مع تعميق البحث في العلوم الدينية، والتاريخ والحضارة والفكر الإسلامي، كما أسسوا مجلات ودوريات تعنى بإحياء التراث ونشره باللغة العربية· وبهذه الخطة الوطنية الواعية فشل المستعمر في تحقيق أهدافه، وبقي الدين سليماً من الشوائب، ونجت اللغة العربية من وهدة السقوط، وقُدِّر لها أن تستكمل مسيرتها في بناء حضارة الإسلام في مجال التأليف والبحث في العلوم الإنسانية والعلوم الدقيقة، كما أصبحت لغة المؤتمرات والندوات الدولية· والدول العربية التي تنعم باستقلالها الآن ينبغي أن تجعل حماية الدين واللغة والتراث هدفاً وغاية لها لأن المستقبل الواعد لهذا الشعوب يمر عبر إصلاح مناهج ونظم التعليم، وجعل اللغة العربية تساير التطور في البحوث العلمية الدقيقة·
والمغرب باعتباره دولة عربية إسلامية حافظ على الدين واللغة والتراث، قد تنبَّه إلى هذا الأمر في برامج إصلاح التعليم، حيث جعل للغة العربية مكانة في التعليم والبحث العلمي والتأطير، وقد نص على هذه الغاية في >الميثاق الوطني<، وهو مجموعة من النصوص التنظيمية التي وضعت من أجل إصلاح ميدان التربية والتعليم، وجاء في الفصل الذي ركز على الأهداف والغايات من تدريس اللغة العربية: >حيث إن اللغة العربية، بمقتضى دستور المملكة المغربية، هي اللغة الرسمية للبلاد، وحيث إن تعزيزها واستعمالها في مختلف مجالات العلم والحياة كان ولا يزال وسيبقى طموحاً وطنياً<(7)·
وكل دراسة بيانية أو تركيبية للغة القرآن الكريم ينبغي أن تكشف عبقرية هذه اللغة، وما تضمنت من عجائب وأسرار في المعاني والتصوير، ومثل هذه الدراسات تبرز وجوه الإعجاز الظاهرة والخفية في كتاب الله، وتثبت العقيدة في النفوس·
الهوامش
1 ـ ديوانه: 304 ـ الذوائب: السادة·
2 ـ حسان بن ثابت، ص 180·
3 ـ العمدة: 1/137 ـ 138·
4 ـ السير: 1/338·
5 ـ مفتاح العلوم، ص 238·
6 ـ مصداقاً لقوله تعالى: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً) الكهف:1·
7 ـ الميثاق الوطني، ص 51·
المراجع
1 ـ حسان بن ثابت، تأليف الدكتور محمد طاهر درويش ـ دار المعارف ـ مصر·
2 ـ ديوان حسان بن ثابت، تصحيح عبدالرحمن البرقوقي· دار الأندلس·
3 ـ السيرة النبوية، لابن هشام، تحقيق المجموعة، دار إحياء التراث العربي، بيروت·
4 ـ العمدة في محاسن الشعر وآدابه، تحقيق الدكتور محمد قرقزان، ط2، مطبعة الكاتب العربي، دمشق·
5 ـ مفتاح العلوم، أبويعقوب يوسف السكاكي· ضبط وتعليق نعيم زرزور، دار الكتب العلمية ـ لبنان ـ ط1، 1983م·
6 ـ الميثاق الوطني للتربية والتكوين، اللجنة الوطنية، سنة 2000م·




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 71.29 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 69.41 كيلو بايت... تم توفير 1.88 كيلو بايت...بمعدل (2.64%)]