ابنا آدم - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4645 - عددالزوار : 1376062 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4195 - عددالزوار : 890894 )           »          لو سمحتوا يااخوتي ممكن اعرف كم تكلفة العلاج باابر الكوزنتكس في السعودية (اخر مشاركة : هبة الله مرعى - عددالردود : 40 - عددالزوار : 13990 )           »          الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 103 - عددالزوار : 44351 )           »          إسهامات علماء المسلمين.. في تطوير علم التاريخ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 72 )           »          فواصل للمواضيع . (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 10 - عددالزوار : 48 )           »          كلمات قرآنية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 68 )           »          إنِّي وَإِنْ كانَ ابْنُ عَمِّيَ عاتِباً (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 95 )           »          هل الإنسان مخير أم مسير؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 79 )           »          أصول الدين وأصول الفقه، أية علاقة؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 77 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 12-10-2024, 01:09 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 142,036
الدولة : Egypt
افتراضي ابنا آدم

ابنا آدم ـ 1 ـ

العلامة محمد أبو زهرة



[وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ(27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ(28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ(29) ]. {المائدة}..

1 ـ هذا النص القرآني فيه تعليل لما كان من اليهود من قبله من بسط أيديهم بالأذى للنبي صلى الله عليه وسلم ونقضهم المواثيق، وقتلهم للنبيين، وادعائهم الكاذب الفضل على الناس، فإنَّ علة ذلك هو الحسد الكمين في نفوسهم، والحسد قديم في الخليقة قدم الإنسان فيها، فهذا أحد ولدي آدم يحسد أخاه، حتى في العبادة التي تقتضي تنقية النفوس وتقوية القلوب، وذلك دليل على كمون الحسد في بعض النفوس مما لا علاج له إلا الصبر على الذين تصيبهم هذه الآفة، كما صبر الأخ الذي قتله أخوه، فإذا كان في النصوص بيان لآفة الحسد، ففيها أيضاً بيان لحلية الصبر والصفح، والرضا بما يقدره رب العالمين من أذى المؤذين، والإخلاص لله تعالى.

وكل هذا فيه عزاء للنبي صلى الله عليه وسلم، يدعوه إلى الصبر، كما قال تعالى:[وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ] {النحل:127}.
وكما أن في النص تعليلاً لما سبقه ففيه تمهيد لما يلحقه فإنَّه سيجيء بعد ذلك عقوبات رادعة للذين يعيثون في الأرض فساداً، ويخربون، ويقتلون الأنفس البريئة، ويزعجون الآمنين بالسرقات والاختطاف، ففي هذا النص يبين قسوة المعتدي ليتبين استحقاقه هو وأمثاله من عقاب ردعاً وزجراً، ونكالاً يمنع غيرهم من العبث، ولذلك كانت الآية التي أعقبت هذا النص فيها بيان لسببيته في شرعية العقاب الرادع، فقال تعالى:[مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا] {المائدة:32} .

[وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ] {المائدة:27}.

2 ـ ابنا آدم، يقول المؤرخون وبعض المفسرين فيهما، كما جاء في التوراة هما: هابيل التقي، وقابيل الباغي، ويقول أكثر المفسرين: أنهما ولدا آدم من صلبه، ولكن الحسن من التابعين قال: إنهما من بني إسرائيل، ولعل مما يشير إلى ذلك قوله تعالى من بعد: [مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا] {المائدة:32} .

ولا يهمنا أن نعرف من هما، ولكن الذي يهمنا أن نعرف ما يومئ إليه النص من حقائق، والقصص صادق وواقع، ولكن نترك ما تركه القرآن ولا نهيم في إسرائيليات صادقة أو كاذبة، والنص القرآني واضح في مقصده من غير حاجة إلى ما يوضحه من خارجه.

ويقول سبحانه: [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالحَقِّ]. ومعناه: اذكر خبر ابني آدم ذكراً متتابعاً منسقاً يشبه الكلام العظيم المتلو، وأصل التلاوة القراءة المتتابعة الواضحة في مخارج حروفها والمصورة للمعاني في وقوفها.

والمؤدَّى: أخبرْهم بخبر هذين الابنين بعناية، وأخبرهم بهذا الخبر وصار حليته، ومظهره وحقيقته، والنبأ هو الخبر العظيم، ذو الشأن الذي يستدعي دراسة وعناية، ولا شك أن خبر ابني آدم (خبر له شأنه) بما فيه من قتل الأخ لأخيه من غير جريمة ارتكبت، ولا شر وقع، ولا اعتداء، بل بسبب العبادة الخالصة لوجه الله تعالى، فما كان سبب الاعتداء إلا ذلك، ولذا ذكر سبحانه وقت الجريمة، وهو سببها، وباعثها مما يدل على أن القلب الخبيث لا يدفعه فعل الخير المقبول إلا إلى الأذى الممقوت، فقال:[ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآَخَرِ] {المائدة:27}.

3 ـ أي اذكرهما ذكراً حقاً صادقاً في الوقت الذي قربا فيه قربناً وكانت نتيجة القربان تقبلاً حسناً من أحدهما، وعدم تقبل من الآخر فكان من وراء ذلك الاعتداء الشنيع من الذي لم يقبل قربانه، والقربان العبادة التي يتقرب بها إلى الله تعالى، وهي تطلق في أكثر أحوال العبادة على الذبائح التي يتقرب إلى الله تعالى بذبحها كذبح الهدي في مكة.

والتقبل معناه القبول بقوة من القابل سبحانه، فهو قبول ورضا وترحيب، وقد ذكر اللفظ في الإثبات لمعنى القصد الطيب والنية الحسنة من الابن الصالح، وذكر اللفظ في النفي بقوله سبحانه: (ولم يتقبل من الآخر). للمقابلة بين النفي والإثبات، لأن قربان ذلك الآثم لم يقبل أصلا، فنفيه منصب على أصل القبول، لا على وصفه.

وكان عدم قبوله لسوء نيته، ولنقص تقواه؟ ولأنه قصد الخبيث من ماله وأراد به التقرب، ولأنه قصد المباهاة والفخر، ولم يقصد وجه الله، ولأن قلبه متأشب بالآثام كما تبين من سوء فعله وخبثه، وعدم رحمته من بعد ذلك، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أن أحدهما لم يتقبل قربانه، ولم يبين سبحانه كيف عرف أنه لم يقبل، ولقد ذكر العلماء كلاماً في هذا، فقيل: إن القربان تنزل عليه نار فتأكله، والآخر لا تنزل عليه نار، وقد علم القبول بهذه الأمارة، وقال آخرون: إن ذلك كان بوحي أوحي إلى نبي هذا الزمان، وعندي أن ذلك كان برؤيا صادقة أو بحال المتصدق في نفسه، وقد علم من حاله أن تصدقه غير مقبول، وقد يكون بإخبار نبي الزمان إن كانا غير ولدى آدم الصلبيين.

وكانت نتيجة ذلك أن كان بين الأخوين تلك المجاوبات الكلامية ثم الجريمة الكبرى التي هي أعظم ما ظهر من جرائم في الوجود الإنساني، ولنذكر المجاوبة بين التقى المؤمن العادل السمح، والفاجر الباغي الظالم الحاسد، قال: (لأقتلنك).

4 ـ تلك كلمة الظالم الآثم الذي خلا قلبه من كل شعور بالحق، فلم يشعر بالعدالة في ذاتها، ولم يشعر بالرحم الواصلة بينهما، ولم يشعر بحق الحياة التي خلقها الله تعالى وأودعها كل نفس ولم يشعر بحرمة الدم، وبأن القتل أعظم جريمة في هذا الوجود الإنساني، وقد أكد عزمته الآثمة، وإصراره عليها من غير خَوَرٍ ولا ضعف؟ ولذلك أكَّدهما أولا بالقسم المطوي في القول، والذي تدل عليه اللام، وهى مؤكدة أيضا بنون التوكيد الثقيلة، وكانت المجابهة الآثمة لأخيه بذلك الخطاب المواجه، ولم يستر نيته، فكان التبجُّح السافر الذي أدَّى إليه الفُجْر في القول، والإجرام في العمل، والكسب الآثم.

وإن هذا يدل على تصميمه على القتل، وهذا النص الموجز يبين روح الإجرام في المجرمين الذين يريدون السوء بالأخيار في المجتمع، وكلما زاد خير الأخيار، أوغل المجرمون في الشر والإيذاء، حتى أنهم ليستمرئون الشر، كما يستطيب الأخيار حب الخير، وإن هؤلاء آفة الجماعة الإنسانية، ومن تظهر مآثمه منهم تحق عليه كلمة العقاب زجراً وردعاً، وتهذيباً للمجتمع وتطهيراً له، فالذين يذهب بهم فرط رأفتهم إلى الاعتذار لهم آثمون في حق جماعتهم، راضون بأن يعيش الشر في قلوب الآثمين.

[قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ]

5 ـ تلك أول كلمة نطق بها التقي البر في مجاوبة اعتداء أخيه، أو الجهر بنية الاعتداء، وهي في ذاتها اعتداء، فقد قال كلمات أربعة، كل واحدة منها تنبئ عن إيمان مكين عميق، وتلك هي الأولى، وهذه الكلمة تفيد السبب في القبول، وترشد أخاه إلى تطهير قلبه، وإلى الاتجاه إلى ربه، وإلى الاستشعار لخشيته، وفي تلك الكلمات الطيبة معان كريمة.
فهي أولاً تفيد قصر القبول بلفظ (إنما) على المتقين، والقصر نفي وإثبات، أي: أن التقوى هي: سبب القبول، فإن وجدت كان القبول، وإن لم توجد انتفي القبول، وتفيد ثانيا أن عدم القبول إنما يكون من نفس المتصدق، لا من أمر خارجي فالجزاء على قدر النية، فالتقوى دائما من القلوب.
وتفيد ثالثا توجيه أخيه الفاسد إلى الإقلاع عن ذنبه بموضع الداء في قلبه، وأن عليه أن يطب له.

والتقوى التي اعتبرت سببا للجزاء الطيب، تتضمن خشية الله تعالى، وامتلاء القلب بطلب رضاه، وتتضمن اتقاء الذنوب والآثام، وتتضمن احترام حق الإنسان على أخيه الإنسان، فهي كلمة جامعة لكل معاني الفضيلة الدينية والخلقية والاجتماعية.
[لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ] {المائدة:28}

6 ـ هو تلك هي الكلمة الثانية، وبَسْطُ اليد: مَدُّها بالاعتداء، ونرى في هذا النص قسما ينبئ عن الطيبة والخلق السمح في مقابل قسم ينبئ عن الشر ونية الأذى والتصميم عليه، وهذا يصور ما بين الأخيار والأشرار من تضاد، فهو يؤكد هنا سلامة القلب وسلامة العمل، أقسم الأول على القتل، وأقسم الثاني على عدم الرد، وقد أكد نفيه بهذا القسم، وبالتعبير بالجملة الاسمية في جوابي القسم؟ لأن جواب القسم: [مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ] {المائدة:28}.

وقد أكد النفي بأمور ثلاثة:
أولها: التعبير بالوصف، فهو ينفي عن نفسه وصف بسط اليد لأجل الاعتداء؛ لأن ذلك ليس من شأنه ولا من رغباته.
والثاني: التعبير (باليد) للإشارة إلى أن ما بينهما من رابطة الرحم الموصولة عنده تمنعه من أن يمد إليه يده بالأذى.
والمؤكد الثالث:التعبير (لأقتلك) فيه أن هذه الجريمة تنفر منها الطبائع السليمة، ولا ترضى بها العقول المستقيمة، وخصوصا إذا كان يريد قتله.

وقد أقسم الأول على الفعل فقال (لأقتلنك ) وردَّد كلامه في نيَّة الاعتداء بالفعل أيضا؛ لأن موضوع القول هو ذلك الفعل الذي كان ثمرة للنية الخبيثة من فاعله، أما النفي الذي كان من الشاب الطيب، فقد كان عن نفي الوصف، أي أنه لا يقع منه ذلك الفعل، ولا يمكن أن يقع.

ويثير الفقهاء بحثا في هذا الموضوع، وهو حول ما قرروه من أن الدفاع عن النفس عند محاولة الجاني للقتل أمر مشروع لا يتجافى مع التقوى، ويقرر الحنفية أن الشخص إذا تأكد أنه مقتول إذا لم يدفع عن نفسه ولو بالقتل، يكون الدفاع واجباً حفظاً لنفسه، ويكتفي الأكثرون من الفقهاء بالقول بأن الدفاع يكون مشروعاً، ولا يكون لازماً، وسواء أكان هذا أم ذاك، فإنه ليس من التقوى أن يقف المجنيُّ عليه مكتوفَ اليدِ لا يُدافع.
وقد أجاب جمهور الفقهاء بأن التقوى في هذا المقام اختياريَّة، أي: أنه يختار أي الطريقين. فإما أن يدفع الشر وإما أن يكون عبد الله المظلوم، ولا يكون عبد الله الظالم، وليس في كليهما ما ينافي التقوى، أما الحنفية الذين قالوا: إنَّ الدفاع عن النفس واجب، فقد قالوا: إنَّ السكوت واعتباره من التقوى كان شرع من قبلنا، أما شرعنا فهو واضح في قوله تعالى: [فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ] {البقرة:194}

ونقول: إنَّ موقف ولدي آدم خارجٌ عن موضوع الخلاف؛ لأن موضوع الخلاف هو في دفع الصائل الذي يجيء ليقتل، فإنه يجب دفعه، حتى لا يستشرى شره، أما هنا فأخ يهدد أخاه بالقتل، ولو أنه هدده بمثل ما هدده به لدخلا في ملحمة، ولا يدرى أيهما الغالب، ويكون هذا داخلا في معنى قوله عليه السلام: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)، قالوا: هذا القاتل يا رسول الله، فما بال المقتول، فقال صلى الله عليه وسلم: ( إنه كان حريصا على قتل صاحبه ) ـ رواه البخاري: الإيمان ـ على أن في الصبر أجراً، وقد قال تعالى: ([وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ] {النحل:126}
فهذه القضية خارجة خروجا تاما عن موضع الخلاف، وخصوصا أن الأمر بين أخوين، لا بين صائل يضرب بالسيف ابتداء من غير فرصة للموازنة والتفكير.

[إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ] {المائدة:28}
7ـ هذه هي الكلمة الثالثة، وهى تنبئ عن الباعث الذي جعله يقف ذلك الموقف السلبي ويتخلى حتى عن الدفاع عن نفسه، والباعث عليه هو خوف الله تعالى، وفي ذلك إشعار لأخيه الذي يهم بقتله بأن يقف موقفه ويخاف الله تعالى الذي يقبل الطاعات ويرد المعاصي، وهو عليم بكل ما في الصدور، وهو شهيد على حركات الجوارح والأعضاء والقلوب، لا يخفي عليه شيء في الأرض، وفي النص الكريم إشارات بيانية، يحسن التنبيه إليها:

الأولى - تأكيد خوف الله بذكر (إن) المؤكِّدة للقول.
الثانية - ذكر الله تعالى جل جلاله بلفظ الجلالة، للإشعار بأنه هو وحده، صاحب السلطان على نفسه، ولا سلطان سواه فلا يدفعه غضب أو حب انتقام إلى مخالفة أمره.
الثالثة - وصف الله جلَّ جلاله بأنه رب العالمين، أي منشىْ الكون ومن فيه، وهو يتعهدهم بالنماء والتغذية والتربية، فقتل النفس التي حرَّم الله تعالى قتلها هدم لما بناه الله تعالى، وتخريب في الأرض، ونشر للفساد.
[إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ] {المائدة:29}

8 ـ (تبوء) هنا معناها: ترجع، ويلازمك الإثم ملازمة من يقيم في مكان ويبوء إليه، وهنا نتكلم عن معنى ( إثمي وإثمك ) روي عن ابن عباس أن المعنى إثمي أي: إثم قتلى، فهي تشبه إضافة الفعل إلى المفعول، أي: الإثم الذي ترتكبه في شأني بقتلك إياي، وإثمك الأصلي الذي عوق صدقتك عن أن تُقبل، فترتكب إثمين، وتضيف إلى ذنبك الأصلي ذنباً آخر، فلا تكون قد خلعت نفسك من المعاصي، بل أركست نفسك فيها، وزدتها.

وهذا الذي نختاره وهو معنى مستقيم، وروي عن الحسن أن المعنى أن يحمل يوم القيامة ما عسى أن يكون التقى قد ارتكبه من إثم، فوق آثامه الأصلية.

والزمخشرى يقول في تفسير هذه الآية: (إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك): أن تحتمل إثم قتلى لك لو قتلتك وإثم قتلك لي، ثم يقول المراد بمثل إثمي) وروي ذلك عن مجاهد، وإني أرى في هذا تكلفا، والواضح هو ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه.

وهنا قد يسأل سائل أكان من التقوى أن يريد أن يتحمل غيره الأوزار، ونقول: إن ذلك بيان للنتيجة لامتناعه عن مقاومة أخيه، فهو إذ أراد الامتناع عن بسط يد الأذى لأخيه فكأنه أراد النتيجة المحتومة لذلك، وهى أن يبوء بإثم نفسه وإثمه، فإنَّ إرادة السبب كأنها إرادة للمسبب.

وقد ختم كلامه السمح بتبصير أخيه بالنتيجة النهائية، وهى أن يكون من أصحاب النار الملازمين لها الذين لا يخرجون منها يوم القيامة، ثم يبصره بأنَّ ذلك جزاء الظالمين، وأنه في فعلته التي يهم بفعلها، يكون ظالما داخلا في زمرة الظالمين.
اللهم جَنِّبنا الظُّلم وأهله، وإنك نعم المولى ونعم النصير.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 12-10-2024, 01:09 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 142,036
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ابنا آدم

ابنا آدم ـ 2 ـ

العلامة محمد أبو زهرة


[فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخَاسِرِينَ(30) فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ(31) ]. {المائدة}.
1 ـ الآيات المتلوة استمرارٌ في بيان قصة ابنَيْ آدم التي ضربها الله تعالى مثلا للشر كيف يستحكم في النفس وينتصر على نوازع الخير والمحبة فيها، وأن فيها مغالبة بين الخير والشر بين أخوين، وكان الشرُّ مُعْتديا، والخير مسالما وكان الخير في قلب الشرير ينازع الشر، حتى انتصر الشرُّ في قلبه، وقد كان أخوه الخير يرجو أن تثور في قلب أخيه الشرير نوازع الرحمة والمودة والأخوة الواصلة، ولا تقطعها جفوة الحسد العارضة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله ضرب لكم ابني آدم مثلاً، فخذوا من خيرهما ودعوا الشر).
ولقد تمت جريمة الأخ الآثم، ولكن بعد مجاوبات نفسية انتهت بانتصار الشر، ولذلك قال تعالى:[فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ] {المائدة:30} .
2 ـ هذا النص الكريم يدلُّ على أمرين: أحدهما - أن قابيل الذي قتل أخاه، ولو أنه أكَّد عَزْمته على الاعتداء بقوله: (لأقتلنك) كانت نَفْسَه يتردَّد فيها عاملان: الأول: عامل الودِّ والرَّحِم الواصلة، والثاني عامل الحسد والضغن.
وثانيهما: أن أخاه فيما ساقه من قول كان يريد أن ينمى في نفسه روح المودة والأخوة لتنتصر على الأخرى، ولذلك ما تحرك لمقاومته، بل تحرك لمراجعته ليثوب إلى نفسه.
ومعنى كلمة (طوعت) قال فيها مفسرو السلف معاني تدل على أن هناك مقاومة في داخل شعوره قبل أن يقع في الجريمة، وقد فسر مجاهد (طوعت): شجعت، وفسرها بعض التابعين بسهلت ووسعت، وبعضهم: بزينت وحسنت، وكلها يشير إلى أنه كانت هناك معركة في داخل نفسه بين الخير والشر، بين الإقدام على الجريمة، والإحجام عنها، حتى انتصرت، وقرأ الحسن بدل (طوعت) (طاوعت) وهذه الصيغة تدل على المشاركة، وهو يدل على معنى المقاومة، وقد صور السيد رشيد رضا في تفسير المنار معنى المغالبة في النفس تصويرا حسنا فقال: (إن هذه الكلمة (طوعت) تدل على تكرار في حمل الفطرة على طاعة الحسد، الداعي إلى القتل، كتذليل الفرس والبعير الصعب، فهي تمثل لمن يفهمها ولد آدم الذي زين له حسده لأخيه قتله، وهو بين إقدام وإحجام يفكر في كل كلمة من أخيه الحكيم، فيجد في كل منها صارفا له عن الجريمة، ويدعم ما في الفطرة من صوارف العقل والقرابة، فيكر الحسد من نفسه الأمارة بالسوء على كل صارف من صوارف نفسه اللوامة، فلا يزالان يتنازعان، ويتجاذبان حتى يغلب الحسد ويجذبه إلى طاعته).
وإن في النص الكريم إشارة إلى هذه المعاني من حيث التردد، فقد عبر عن
المقتول بقوله: [فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ] {المائدة:30}). والمعنى: أن الأخوة، والاطمئنان إلى القرابة كانا يعارضان دواعي القتل، وعبر عن الجريمة بقوله: (فقتله)، مما يدلُّ على أن التطويع للحسد بعد المغالبة ترتب عليه أقوى شر في هذا الوجود، وهو إزهاق النفس التي حرَّم الله قتلها من غير جريمة إلا أن يكون قبول الله لقربانه جريمة عند الحاسدين.
والنص القرآني مع كل ما سبق فيه إشارة إلى شناعة الجرم في ذاته من حيث الباعث عليه ومن حيث الصلة بين القاتل والمقتول، ومن حيث ذات الفعل، فإنه أكبر جريمة إنسانية في هذا الوجود، ولكل هذه المعاني أشار القرآن الكريم بأوجه تعبير، وأدق الألفاظ، وهو سرُّ الإعجاز، وفيه بلاغة الإيجاز مع الوضوح، وإشعاع المعاني بالنور من ثنايا الألفاظ.
[فَأَصْبَحَ مِنَ الخَاسِرِينَ] {المائدة:30}.
3 ـ أي: فصار من الخاسرين بعد تلك الجريمة الكبيرة التي تحيط بها الشناعة من كل أطرافها، والتعبير بـ (أصبح) هيأ لها المقام في الكلام لأن (أصبح) تدل على أنه كان مدركا لما ارتكب عندما أشرق نور الصبح، كأنه وقت الحيرة أو إرادة الارتكاب في ظلمة من عقله وقلبه، وفي ديجور من الظلام يشبه ظلام الليل، حتى كان الصبح المنير الذي أراه الأمور على وجهها، وأدركَ في ذلك الضوء الذي جاء عند الصباح مقدار الإثم فيما فعل.
والخسران الذي لحقه هو خسران القلب المؤمن إذا أربد بالمعاصي، وطغى عليه الشر، حتى غلبه، وأركس في مهاوي الشر بسبب ضغن نفسه، وامتلاء قلبه بالحسد، وأحسّ بأنه خسر أخاه الطيب الطاهر العفيف، وأحسَّ بغضب الله تعالى، وذلك هو الخسران المبين، وهكذا صار ممن غلبت عليه شقوته، وامتلأت نفسه بالحسرة على سوء ما فعل.
وهنا إشارة بيانية، وهى في التعبير بقوله تعالى: [فَأَصْبَحَ مِنَ الخَاسِرِينَ]. فإن مؤدَّاه أنَّه صار في زمرة الخاسرين الذين كسبوا السيئات، وأركست نفوسهم في مهاوي الخسران، وأصبحوا ولا منجاة لهم، ولا بقاء، لأنهم نزلوا إلى قاع الهاوية، بارتكاب أعظم الجرائم بإصرار وتصميم.
[فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ] {المائدة:31}
4 ـ هذا الكلام يتضمن معاني سبقته، ولم يذكرها القرآن الكريم، لأنها تفهم من المعنى والسياق من غير حاجة إلى الذكر، ولا يدرك المعنى ولا يستقيم إلا بتقديرها، وذلك أن القاتل بعد أن ارتكب الجريمة، وأحس بالخسارة الشديدة التي نالته، لم يرد أن يترك أخاه تنهشه السباع، أو تنقره جوارح الطيور، ولا أن يترك جسمه ملقى، وألهم بالفطرة أنه لا بد من مداراة جسمه، وستره، وإبعاده عن الأنظار، لأنه بعد موته صار جسمه كله سوءة يسوء النظر إليها، ولا تألف الطباع السليمة رؤيته، فالمراد بالسوءة الجسم كله بعد موته، لأنه يسوء النظر، وخصوصا بعد أن تتحول حاله ويتعفن، وقد استيقظت الأخوة في نفسه، بعد أن خبت أمدا ارتكب فيه جريمته.
اتجه الأخ القاتل لمواراة جثَّة أخيه أي: سترها، وقد أراد الله تعالى أن يعلمه ذلك، فبعث غرابا، ومعنى بعثه: أنه أفهمه أن يفعل ذلك، وقد رأى ذلك الغراب الملهم غرابا آخر ميتا، وأراد أن يستره عن الأنظار، فأخذ (يبحث في الأرض) أي: يثيرها ويحفرها برجليه، حتى أوجد حفرة تسع الغراب الميت، فوضعه فيها، فكان هذا إعلاما للقاتل بالطريق التي يوارى بها جثة أخيه.
5ـ وقد فهم بعض المفسرين من الآية أنه لم يكن ثمة غراب قد مات، أو قتله صاحبه، ولكنه رأى الغراب يبحث في الأرض عن شيء من الأشياء ليدفنه، لأن من عادة الغربان حفر الأرض لدفن الأشياء، فلما رأى قاتل أخيه الغراب يحفر الأرض اهتدى إلى حفر الحفرة التي ألقى فيها جثة أخيه القتيل.
والكثيرون من المفسرين على أن غرابين تناقرا فمات أحدهما، فدفنه الآخر بحفر حفرة في الأرض.
والحق أنَّ الآية الكريمة نصت على أن الغراب قد أخذ يبحث في الأرض، حتى حفر حفرة، دفن فيها شيئاً أو طيراً ميتاً، ولم تتعرض لكون المدفون طيراً أو غير طير، ولا لكون الطير مات بقتل الدافن، أو مات بسبب آخر، والآية الكريمة بينة واضحة المقصد من غير فَرْضِ واحدٍ من هذه الفروض بعينه، وما دامت الأخبار التي لا مناص من قبولها لصدقها غير موجودة فليس لنا أن نفرض واحدا من هذه الفروض بعينه، والفرض الواحد الذي يقتضيه بيان الغرض والمغزى هو أن نفرض أن الغراب أخذ يحفر في الأرض، حتى أتمَّ حفرة وضع فيها شيئا، فعلم القاتل الجهول أنَّ ذلك هو الطريق لدفن أخيه.
وأصل كلمة (يبحث) معناها: كشف أو دق الأرض أو حفرها، وقد جاء في مفردات الراغب الأصفهانى: (البحث) الكشف والطلب، فيقال: بحثت عن الأمر، وبحثت كذا، قال تعالى: [فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ] {المائدة:31}.
وقيل: بحثت الناقة الأرض بأرجلها في السير إذا شددت الوطء تشبيها بذلك.
والمعنى: أنَّ الغراب أخذ يدق بمنقاره مثيراً الأرض، حتى حفر حفرة فيها، ثم دفن ما شاء أن يدفنه، وأنه دأب في ذلك وقتاً طويلاً بدليل التعبير بقوله (يبحث) بالمضارع بدل الماضي، لأن في التعبير بالمضارع إشارةً إلى حال استمرت، لا إلى واقعة وقعت فقط، فالتعبير بالمضارع عن أمر مضى لبيان أن الفعل مكث وقتاً وكان مجال استمرار، وفي كل هذه الأمور التي كانت بعد قتل أخيه ما يُثير العبرة، وإذا كان الغراب قد أراه كيف يوارى سوءة أخيه، فإنَّ ضميره قد استيقظ، وأصبح لا يستطيع كيف يواري سوءة فعله التي فتحت باب القتل والقتال إلى يوم القيامة؟ ولذلك صرح القرآن بأنه اعتراه الندم، ولكن في غير مندم لأن الجريمة قد وقعت، ولا منجاة منها ولذلك قال سبحانه: [قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي] {المائدة:31}.
6 ـ أخذ القاتل تعتريه الحسرة بعد الفعلة التي فعلها، واكتسب بها ذلك الجرم الشديد البليغ الأثر في هذا الوجود، وقد كانت حسرته للفعل الذي ارتكبه، للعجز الذي لحقه، ولصغر نفسه أمام الطائر، وهو الذي أبى واستكبر لأن الله قبل قربان أخيه، ولم يقبل قربانه، وطغى على أخيه وتجبَّر.
والويلة والويل: البلية والفضيحة، والألف في قوله تعالى: (يا ويلتى)، هي مقلوب ياء المتكلم، مثل الألف في قوله تعالى: [يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ] {يوسف:84} والمعنى: (يا ويلتاه) أي: يا فضيحتي وبليتي أقبلي فهذا وقتك، لأني قد نزلت بي أسبابك، وهذا النداء يستعمل للتحسر وإظهار الألم النفسي، وإنَّ هذه البلية والفضيحة اللتين نزلتا به، ويتحسر منهما، ويناديهما، وهما بين جنبيه انبعثا من قلبه، ومن فعلته التي فعلها، ومن جهله وغبائه، وعدم التفاته إلى ما يجب عليه بالنسبة لجثمان أخيه الذي كان سببا في جعله جثة هامدة، بعد أن كان لسانا نقيا وقلبا تقيا، وأخا مباركا.
وقد صوَّر جهله بهذا الاستفهام التقريرى الذي يصور جهله، وغفلته وحسرته، وقد حكاه الله تعالى عنه بقوله: [أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي] {المائدة:31}.
والمعنى: أنه يقرر عجزه عن أن يكون مثل هذا الغراب، ولكنه قال ذلك بصيغة الاستفهام للتقرير والتثبيت وللحسرة على ما وقع منه، وللأسى والألم، ولذلك عبر باللفظ (أخي) و الذي كان يوجب المودة والمحبة بدل الحسد، وما أدَّى إليه من قتله، وشطر لحمه، وهو جزء أبيه، فقال: (سوءة أخي) وحسرته ليست للعجز عن مواراتها التراب وغفلته، ولكن لذلك ولأصل الجريمة بالذات، ولذلك كان التعبير بـ(أخي) وإن هذه أولى درجات الندم، إذ إن أولى الدرجات فيه أن يحسَّ بعظم الجريمة التي ارتكبها، وأثر الإثم الذي فعله، فقد فعل ما فعل بعد ترديد الفكرة مرتين، ولكنه ما إن فعل حتى رأى أثر الجريمة مجسما، وبذلك كانت الحسرة، ثم كان الندم، ولذلك قال سبحانه بعد ذلك:
[فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ] {المائدة:31}.
7 ـ بعد أن رأى جثَّة أخيه بين يديه، وغفل! عن أن يواريها، وأحسَّ البلية التي وقع فيها من رؤية جثمان أخيه الطيب ملقى، وهو عرضة لسباع البهائم وسباع الطير تنهشه - أدرك مقدار الشر الذي ارتكبه، ومن المقررات العلمية أنَّ أول إحساس بهول الجريمة أن يرى المجرم الفريسة التي افترسها، سواء أكان ذا قربى أم لم يكن ذا قربى، فما بالك إذا كان المقتول لم يرتكب إثماً، بل فعل برا، ولم يكن منه شر وأذى، بل كان منه عظة وإرشاد.
وإنَّ ذوى الخبرة من رجال التحقيق يستخدمون رؤية المقتول سبيلا لاعتراف القاتل، فإنَّه بمجرد رؤيته تضطرب أعصابه، ويتخلى عنه ثباته وإصراره على الإنكار، وإن لم يصرح بالاعتراف، فإنَّ قرائن الارتكاب تتكون من اضطراب ظاهر، ومن سرعة نبض، ومن اصفرار وجه، وذلك سبيل لأخذ الاعتراف الصريح؛ لأن صوت الفطرة المستنكر يستيقظ ويتحرك، ويظهر في حركات الجوارح، وخلجات اللسان، واضطراب الأعصاب، وسرعة النبض، ولذلك كانت الندامة التي اعترت أول حاسد وأول قاتل، وقد صار من النادمين، أي: أنه دخل في زمرة النادمين، بعد أن كان في زمرة المترددين الحاقدين الحاسدين الباغين.
وإن هذا الندم لا يعد غافرا للذنب، وإن كان أول طريق للتوبة هو الندم على الفعل الذي وقع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (التوبة ندم)، كما روى الإمام أحمد والإمام البخاري رضي الله عنهما، وإنما كان ذلك الندم ليس من التوبة لأنه استجابة لصوت الفطرة، والتوبة المقبولة تكون ابتغاء مرضاة الله تعالى، وتكون في غير الاعتداء على العباد.
8 ـ وبعد، فإنَّ سبب هذه الجريمة الكبرى التي فَتحتْ بابَ القتل والقتال هو الحسد، والحقد، وهما يأكلان القلوب، ويشعلانها بالشر، كما تشعل النار الحطب، وإنَّ ذلك الحسد كان في العبادة وقبولها، وذكر الله تعالى هذا النوع من الحسد ليبين أنَّ الحسد كيفما كان الباعث عليه شر يؤدى إلى أقبح الشرور والآثام، وإذا كانت أول جريمة في البشرية سببها الحسد، فإنَّ ذلك تنبيه إلى أنَّ الباعث على أكثر جرائم هذا الوجود الإنساني هو الحسد المقيت، فالكفر بالنبيين، وخصوصاً نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم كان سببه الحسد، وأكثر الجرائم بين الآحاد سببها الحسد، والحسد دائما يكون على فضل في المحسود، وعجز في الحاسد، وقى الله العاملين شر الحاسدين.
وإلى تتمة للمادة في حلقة ثالثة وأخيرة.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 12-10-2024, 11:29 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 142,036
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ابنا آدم

ابنا آدم ـ 3 ـ

العلامة محمد أبو زهرة



[مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جميعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جميعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ] {المائدة:32}.
1 ـ يتنازع النفسَ الإنسانية نزوعان: نزوع الخير ونزوع الشر؟ ولذلك قال تعالى: [وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا] {الشمس:8}. وقال تعالى: [وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ] {البلد:10}، أي: أودع الله تعالى نفسه العلم بالخير والاتجاه إليه، وأودعها الشر والاتجاه إليه، فمن غلبت عليه نزعة الشر كان من الأشرار، ومن غلبت عليه نزعةُ الخير كان من الأخيار الأبرار، وكل مُيسَّر لما خلق له، وما يتجه إليه، وقد أودعه الله سبحانه وتعالى مع ذلك عقلاً به يُميِّز الخير من الشر، والطيب من الخبيث، ويعتبر بماضيه وحاضره، وحاضر غيره وقابله. ولا بد من زواجر اجتماعية تنبه الضال، حتى لا يستمر في ضلاله، وتوضح له بالعيان عقبى الشر، وثمرة الخير.
وهذان أخوان أحدهما: غلب عليه الخير، حتى أنه لم يبسط يده ليقتل أخاه، مع أنه رأى بوادر الشر، والثاني: غلبه الشر، حتى أنه ليستعديه الحسد على أخيه، فيقتله، ولقد ذكر الله تعالى في سابق الآيات ما كان من ابني ادم، ويذكر هنا ما سنه من نظم ليرى فيها النازعون إلى الشر ما يردعهم، فقال تعالى:
[مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ...] {المائدة:32}
2 ـ أي: من جراء هذه الجناية التي ارتكبها أحد ابني ادم، ودلالتها على تغلغل الشر في نفوس بعض الناس، واستعدادهم لأن تكون منهم الجريمة في كل وقت وحين، كان لابد من رادع زاجر مانع، وهو العقاب – فـ (أجل) هنا معناها: جناية، وقد فسرها كذلك اللغويون في معاجمهم، فذكر ذلك ابن منظور في لسان العرب، وذكره الأصفهانى في مفرداته، فقال: والأجل الجناية التي يخاف منها أجلا، فكل أجل جناية، وليس كل جناية أجلا، يقال فعلت كذا من أجله، قال تعالى: ([مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ...] {المائدة:32} أي: من جراء ذلك، وقد فسر الأجل بالجناية أكثر المفسرين، وقد حقق الطبري الأصل اللغوي واستشهد بقول الشاعر:
وأهل ضباء صالح بينهم قد احتربوا في عاجل أنا آجله
يعنى بقوله: أنا اجله أي أنا الجار عليهم ذلك والجاني.
وقد أشار الأصفهانى إلى معنى جدير بالنظر وترديده، وهو أن الأجل هو الجناية التي يخاف منها أجلاً، أي تكون لها عواقب وخيمة على الأشخاص، أو على الجماعات، أي الجناية التي لا تنتهي مغبتها بوقت وقوعها، بل يكون لها آثار مؤجلة بعدها، إن لم تعالج تلك الآثار. وكذلك كانت جريمة أحد ابني آدم، فإنها جناية قد فتحت باب القتل والقتال إلى يوم القيامة، وهى جناية دلت على مكنون النفس البشرية الذي استتر فيها من غلبة الحق والحسد على بعض النفوس، حتى طغت على كل عناصر الخير فيها، فهي جناية اجلها وخيم كحاضرها، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقتل نفس ظلما، إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه كان أول من سن القتل).
و (من) هنا للسببية، أي سبب هذه الجناية كان ما شرعه الله تعالى من شريعة القصاص الخالدة الباقية لدفع الشر إلى يوم القيامة، وعبر عن السببية بـ (من)، لبيان الابتداء في الحكم، فمع كون من أجل ذلك دالة على السببية وتشير إلى ابتداء الحكم، وأنه مقترن بما وقع من جريمة كان لها اجل هو شر إن لم تقمع النفوس وتردع الأهواء المتغلبة الطاغية.
3 ـ وهنا معان بيانية تجب الإشارة إليها:
أولها - في الكلمة السَّامية (كتبنا)، فإنها تدل على تقرير العقاب، وتسجيله حتى لا يقبل المحو، فإن الواجب الذي يكتب يكون مسجلا على القراطيس، ويبقى أثر الكتابة باقيا غير قابل للنسيان، وفيها إضافة الفرضية والكتابة إلى الله تعالت قدرته، وجل جلاله، وتقدست ذاته، وفي ذلك إشارة إلى عظمة المكتوب المفروض، وهو شريعة القصاص فهي شريعة عظيمة تمد المجتمع بحياة هادئة مطمئنة، إذ تحميه من أوضاره أن تتغلغل في كيانه ومن شراره من أن يتحكموا في خياره.
ثانيها - أن الله تعالى خص بنى إسرائيل بالذكر مع أن القصاص شريعة عامة لم يخل منها دين من الأديان السماوية بل لم تخل منه شريعة وضعية على انحراف في تطبيقه، أو إهمال في العدالة فيه، والنفوس التي انحرفت عنه في الأيام الأخيرة قد غلب عليها هواها، فغلبت عليها شقوتها، وعرضت الجماعات فيها لأعظم المخاطر من عدوان الأشرار. فلماذا خص الله تعالى بنى إسرائيل بالذكر مع أنه مفروض قبلهم، ومفروض بعدهم، والجواب عن ذلك نتلمسه، ولا نجد نصا يدل عليه، ونقول في ذلك والله أعلم بمراده: إن التوراة فيما بقى منها هي الكتاب الذي اقترن هو والإنجيل بالقرآن زمنيا، فالقرآن جاء مهيمنا عليها، ومصدقا للصادق منهما، فذكر بنى إسرائيل دليل على أنه مفروض علينا بحكم الاقتران الزمني، وبحكم أن هذا المبدأ الخالد قرره القرآن، وجدده في مثل قوله تعالى: [وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالعَيْنَ بِالعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالجُرُوحَ قِصَاصٌ] {المائدة:45}
و فوق ذلك ما يزال هذا المبدأ باقيا في التوراة ولم يندثر فيها، مع أنهم حرفوا ما حرفوا، والأنبياء الذين سبقوا يعقوب، وليست كتبهم قائمة في أيدي الناس في عصر التنزيل، كما بقيت التوراة مع تحريفهم فيها الكلم عن مواضعه وكانت شريعة القصاص باقية بعد هذا التحريف.
ثم إن بنى إسرائيل قد كتبت عليهم شريعة القصاص كما كتبت على غيرهم من قبلهم ومن بعدهم، ومع ذلك هم أشد الناس إسرافا في قتل الأبرياء والأطهار، وما أشبههم في قتلهم أنبياءهم ودعاة الحق بقابيل الذي قتل أخاه هابيل، فهو قتله لما ظهر فيه من خير، وهم قد قتلوا أنبياءهم، لأنهم دعوهم إلى الخير.
ثالثا - أن الله تعالى عندما بين شريعة القصاص، قد ذكر الباعث عليها، وحكمتها، وما يؤدى إليه تنفيذها، واكتفي ببيان ذلك مكتفيا بما فصلته شرائع النبيين فيها، وما أتت به من بينات، ولذلك قال تعالى:
[مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جميعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا] {المائدة:32}.
4ـ هذا هو ما كتبه الله تعالى، وهو أن من قتل نفسا بغير حق شرعي مبيح لها، فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً، وقد بين القرآن الكريم متى يكون القتل بغير حق مشيراً بإيجازه المعجز إلى القتل بحق، فبين أن القتل بغير حق، هو ألا يكون في نظير نفسٍ، فالقتل قصاصاً لا يكون إلا بالحق ولكن بعد أن يقرر القضاء أنه يجب القصاص، أو يمكن ولي الدم من القصاص، وكذلك القتل لمنع الفساد في الأرض، كقتل الذين يعتدون على الجماعات المؤمنة، ويرهقونهم في تدينهم، أو من يرتدون ليفسدوا عقائد المؤمنين، أو الزنادقة الذين يفسدون العقائد، أو أهل الدعارة والفساد من أهل الحرابة الذين يخرجون على الجماعات ويحاربون النظم التي قررها الشرع الشريف، وهكذا، فإذا كان القتل لغير هذين الأمرين، فهو قتل بغير حق، ومن فعل ذلك فكأنما قتل الناس جميعا.
ولقد تكلم العلماء في معنى هذا التشبيه، وكيف يكون قتل الواحد بغير حق مشابها لقتل الناس أجمعين، قال بعض العلماء: إن المراد نفس الإمام العادل؟ وذلك لأن قتل الإمام العادل الاعتداء فيه ليس على شخصه وحده، ولكن على كل من يسعدون بحكمه ويظلهم عدله، فمن قتله فكأنه قتلهم، إذ يصير أمرهم بورا من بعده، وتضطرب أحوالهم، وذلك قتل للجماعة؟ لأن تفريق الجماعة وحل رباطها هو موت لها، ومع سلامة ذلك التفكير، فإن قصر القتل المفسد على قتل الإمام لا دليل عليه؟ ولذلك كان الأولى التعميم بدل التخصيص والإطلاق بدل التقييد، إذ لا دليل من مخصصاً ومقيد، فالأولى هو تفسيرها بالعموم، ويبقى مع ذلك التشبيه سليما، لا شبهة فيه، ووجه الشبه الذي جعل قتل النفس الواحدة كقتل الناس جميعاً يكون من نواح.
الأولى - أن من قتل نفسا فقد استباح حق الحياة المصون المحترم الذي حماه الإسلام، ومن استباحه في نفس واحدة فقد استباحه في نفوس الناس جميعاً، وقد أشار إلى هذا المعنى ابن كثير، فقال في تفسيره للقرآن العظيم: من قتل نفسا واحدة بغير سبب من قصاص أو فساد في الأرض واستحل قتلها بلا سبب ولا جناية، فكأنما قتل الناس جميعا... وعن أبى هريرة قال: (دخلت على عثمان يوم الدار، فقلت: جئت لأنصرك، وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين، فقال: يا أبا هريرة، أيسرك أن تقتل الناس جميعاً، وإياي معهم؟ قلت: لا، قال: فإنك إن قتلت رجلا واحدا فكأنما قتلت الناس جميعاً، فانصرف مأذونا لك مأجورا، غير مأزور، قال فانصرفت ولم أقاتل). وروى عن سعيد بن جبير أنه قال: من استحل دم امرئ فكأنما استحل دم الناس جميعاً، ومن حرم دم امرئ، فكأنما حرم دماء الناس جميعا.
الثانية - أن وزر من قتل نفسا واحدة، كوزر من قتل ألفا.
الثالثة - أن عقاب قتل نفس كعقاب قتل الأنفس، وهو في الدنيا بالقصاص العادل، وفي الآخرة بعذاب جهنم، كما قال تعالى: [وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا] {النساء:93}.
وإذ كان قتل نفس واحدة كقتل الناس جميعاً، فإحياؤها كإحياء الناس جميعاً ولذا قال سبحانه: [وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا] {المائدة:32}.
5 ـ في هذا النص السامي نتكلم عن أمرين:
أولهما - معنى إحياء النفس، وثانيهما - معنى تشبيه من أحيا نفسا فكأنما أحيا الناس جميعا.
أما الجزء الأول وهو معنى الإحياء، فقد ذكر العلماء له معاني كثيرة، منها أن إحياءها بمعنى تحريم قتلها على نفسه، والامتناع عن انتهاك حرماتها، ولكن ذلك أقرب إلى المعنى السلبي، اللهم إلا أنه يقال: إنه كب نفسه عن ذلك الفعل الأثيم عندما تساوره قوة الشر دافعة خاملة له، فإن الكف حينئذ ليس عملا سلبيا، بل هو عمل إيجابي، ومنها أن معناها: من أنقذ إنسانا كان مشرفا على الهلاك في حرق أو غرق، أو مصاولة إنسان أو حيوان، فإن ذلك إحياء له، ولكن مع سلامة هذين المعنيين لا يمكن أن يكون تشبيه من يفعل ذلك سلبا أو إيجابا بإحياء الناس جميعاً واضحا، لأنه إحياء لفرد، اللهم إلا أن يقال إن مجرد حماية حق الحياة أو احترامه في فرد هو احترام أو حماية له في الناس أجمعين.
ولقد قال بعض المفسرين: إن المراد بإحياء النفس حماية نفس الإمام، ومعاونته على دفع شرور البغاة، والخارجين عليه، هان ذلك سير على أن قتل النفس الذي يكون قتلا للجميع هو قتل الإمام، وقد بينا أنه غير الأولى.
والحق الذي نراه أن المراد بإحياء النفس، هو بالتمكين من القصاص؟ لأن
الله تعالى قال: [وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ] {البقرة:179}،. فإحياء النفس المقتولة بالقصاص لها ممن اعتدى وقتلها، وقد وجدنا الألوسي ذكر ذلك الرأي فقال:
وقيل المراد، ومن أعان على استيفاء القصاص فكأنما... الخ.
وبهذا يتبين بوضوح الأمر الثاني، وهو أن من أحيا نفسا قد قتلت بالتمكين من القصاص لها فقد أحيا نفوس الناس جميعاً، بأن يوجد الردع العام عن القتل والاعتداء، فتحيا النفوس، وينقمع الأشرار، وهذا ما أشار إليه ما تلونا من قوله تعالى: [وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ] {البقرة:179} .
[وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ].
6 ـ يخبر الله سبحانه وتعالى أن الله تعالى أرسل الرسل لبنى إسرائيل يبينون لهم الحقائق التي يقوم عليها بناء المجتمع السليم الذي تحمى فيه الدماء والأعراض، والفضيلة الإنسانية، والتي تشتمل على ما كتبه الله تعالى من أجل اعتداء أحد ابني آدم على أخيه من غير ظلم وقع منه ولا باعث على ما ارتكب إلا الحسد والحقد.
وقد ذكر سبحانه وتعالى أنه أرسل الرسل بالبينات، وهى الشرائع البينة الواضحة التي تحمل في نفسها دليل صلاحها، وتوضح غاياتها ومراميها، ومعها الدليل القاطع المثبت لصحة الرسالة من معجزات باهرة، وخوارق صارخة، وقد أكد سبحانه بعث هؤلاء الرسل وسلامة ما يدعون إليه بمؤكدات ثلاثة:
أولها - باللام وقد، إذ قال: (ولقد جاءتهم رسلنا). وقد: مؤكدة للخبر، واللام مؤكدة لما بعدها.
ثانيها - بالتعبير بأن الرسل جاءتهم، أي لاصقوهم وصاروا قريبين منهم يخاطبونهم ويحاجونهم ويبينون لهم، ولا يدعون أمرا فيه التباس إلا أزالوا لبسه، ومنعوا الاشتباه عليهم.
وثالثها - أنه سبحانه أضاف الإرسال إلى ذاته العليا، وفى ذلك بيان قدسية الرسالة، و فوق ذلك هي في ذاتها فيها حقائق واضحات منيرة للحق في ذاتها، فلها بذلك شرفان: شرف ذاتي من حقائقها، وشرف إضافي من منزلها.
ولكن الآيات والنذر إنما تغنى من يذعنون للحق ويؤمنون، والبينات مهما تكن نيرة لا يدرك نورها إلا ذو البصيرة المستنيرة، وليس بنو إسرائيل من هذا الصنف، ولذا قال سبحانه:
[ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ] {المائدة:32}.
7ـ كان العطف بـ ثم للإشارة إلى بعد ما بين البينات الواضحات التي جاءت بها الرسل، ونتيجتها في قلوبهم، فهي في ذاتها أمر بين ولكن نتيجتها لم تكن كحقيقتها طيبة مثمرة في قلوبهم، بل كانت كالبذر الطيب يلقى في أرض سبخة لينبت قليلا، ويخرج حبطا في أكثرها، ولم يحكم سبحانه على اليهود جميعهم بأنهم كانوا جميعا مفسدين، بل حكم على كثير منهم ذلك الحكم، كما قال تعالى: [مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ] {المائدة:66}.
وقد وصف سبحانه وتعالى كثيراً منهم بأنهم مسرفون، أي: مفسدون، لأنهم قتلوا المخلصين، وعصوا أوامر الله، وعاثوا في الأرض فسادا، ونشروا الشر في العالم، حتى إنك لا تجد فساداً إلا إذا كانوا مصدره، فهم الذين نشروا الربا والمجون والعبث والخمور، وكل ما هو شرٌ في الأرض، والإسراف: هو الفساد مأخوذ من السُّرفة، وهى: الدودة التي تأكل الشجر، والإسراف حتى فيما أصله خير يقلبه إلى شر وفساد، وقد أكَّد الله تعالى إسراف اليهود في الشر بـ(إن) وباللام في قوله: (لمسرفون)، وبالجملة الاسمية..
وقى الله المسلمين شرَّهم، وألبسهم لباسَ الذلِّ والخوف إلى يوم القيامة، وهدانا جميعاً للخير، إنَّه الهادي إلى قصد السبيل.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع



مجموعة الشفاء على واتساب


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 90.83 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 88.29 كيلو بايت... تم توفير 2.54 كيلو بايت...بمعدل (2.80%)]