العلم والتعليم في خدمة المجتمع - ملتقى الشفاء الإسلامي
القرآن الكريم بأجمل الأصوات mp3 جديد الدروس والخطب والمحاضرات الاسلامية الأناشيد الاسلامية اناشيد جهادية دينية اناشيد طيور الجنة أطفال أفراح أعراس منوعات انشادية شبكة الشفاء الاسلامية
الرقية الشرعية والاذكار المكتبة الصوتية

مقالات طبية وعلمية

شروط التسجيل 
قناة الشفاء للرقية الشرعية عبر يوتيوب

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 11910 - عددالزوار : 190826 )           »          فتاوى رمضانية ***متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 554 - عددالزوار : 92676 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 114 - عددالزوار : 56885 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 78 - عددالزوار : 26178 )           »          شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 33 - عددالزوار : 724 )           »          الدين والحياة الدكتور أحمد النقيب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 16 - عددالزوار : 57 )           »          فبهداهم اقتده الشيخ مصطفى العدوي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 16 - عددالزوار : 56 )           »          يسن لمن شتم قوله: إني صائم وتأخير سحور وتعجيل فطر على رطب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 24 )           »          رمضان مدرسة الأخلاق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          أمور قد تخفى على بعض الناس في الصيام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > الملتقى العلمي والثقافي

الملتقى العلمي والثقافي قسم يختص بكل النظريات والدراسات الاعجازية والثقافية والعلمية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 11-11-2020, 01:44 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,566
الدولة : Egypt
افتراضي العلم والتعليم في خدمة المجتمع

العلم والتعليم في خدمة المجتمع


الشيخ محمود شلتوت






الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى.

أمَّا بعدُ:
فمن القضايا المقرَّرة أنه لا خير فيمَن لا خلودَ له، ولا خلود لمن يقف نفسه على نفسه، أو يقف بفكره في مجتمعه عند مخلّفات الماضي الذي طُوِيت صفحته، وكذلك لا خلود لمن يقود مجتمعه على غير أساسٍ من شخصيَّته التي يَنبع احترامها من قلبه، ويَنحرف إلى العواصف التي تُرسلها القوى المضادة، بزعْمِ أن فيها خدمة المجتمع وبها حياته.

ولكن الخلود لمن يقف فكره وراحته لخير مجتمعه، الذي يلبِّي حاجة إحساسه ووِجدانه ووقته، ثم يُخلِّص عوامل التوجيه من آثار المخلفات الزمنية البالية، ويَصونها من العواصف الهَوجاء، التي تثار حول مجتمعه ابتغاء زَلزلته عن مصدر حياته: عقيدته، وإيمانه.



وليس من شكٍّ في أن أوَّل ما يُشاد عليه بناء المجتمعات الفاضلة، التي تَعرف حقها وواجبها في الحياة، هو "العلم والتعليم".

وقد كان العلم والتعليم بمعناهما الواسع - الذي يتناول ظاهر الحياة وباطنها، ووسيلتهما، وهي مَحو الأمية - أوَّل لَبِنة تُوضَع في بناء الشخصية للمجتمعات الإسلامية، ولا أدلَّ على ذلك من أن يَجيء أول نداء إلهي لرسول تلك الشخصية: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1 - 5].

وعلى هذا الأساس نشأ المجتمع الإسلامي، وغاص بفكره في ملكوت السموات والأرض، حتى اقتعَد مركز الأستاذية العلمية والتوجيهية في العالم كله، ثم جاءت عهود أُصيب فيها بنكسة في حياته، وشُغِل القائمون بالأمر فيه عن متابعة السير في طريق الصون والكمال، وناموا عن العمل في تنمية العلم، وانتقاء الطرق المُثلى في التعليم، وكذلك أُهمِل في تعليمه عنصرُ التربية والتهذيب الذي يَملِك عليه قلبه وضميره، ويَحتفظ له بكلِّ الآثار الطيبة التي يَرقُبها الناس من العلم، والتي تحقِّق فيه رِباط الوَحدة في الشعور والإحساس والهدف.

جاءت تلك العهود وامتدَّ بها الوجود، حتى اتَّصلت بحياتنا الحاضرة، ورأيناها في معاهد العلم والتعليم، وفي ذلك الجو الذي انعقَد فيه على رؤوس الناس غُبار الفتن السياسية والحزبية، والتنافس على مراكز الحكم - وَجَدت عواملُ الهدْم الأجنبية الفرصةَ سانحةً، فأخَذت تَنفُث سمومها الفتَّاكة في أجهزة المجتمع؛ من اقتصاد واجتماع، وتربية وعقيدة، وإيمان وأخلاق.




أخذت بإرساليَّاتها وكُتبها وجمعيَّاتها، والأقلام المأجورة في هدْم ذلك البناء الشامخ، واقتلاع شخصيَّته من نفوس أبنائه ووَرَثته، وبذلك قضَت فيما بيننا على العلم بمعناه الصحيح، قضَت على الرحم العلمي والوطني والإسلامي بين أبناء الأمة، ووقع المجتمع في اضطراب فكري، يَتبعه اضطراب عملي، فتَزعزَعت جوانبه، وتَزلزَلت أركانه، وكاد يُسلم نفسه وحياته.

ولكن الله الذي يغار على مجتمع التوحيد والإيمان، أسعَفه بفِتْيَة من أبنائه، تَفهم نفسها، وتفهم مجتمعها، وتَعرف معنى الخلود، وتَتلمَّسه من وجوهه الصادقة، فأخذوا بإيمانهم - الذي هو من إيمان المجتمع - يعملون جاهدين في إنقاذ المجتمع من شرِّ ما نزَل به، أخذوا يَبحثون ويُنقِّبون، ويستعرضون ويختارون ويُنفِّذون، وكان ذلك شأنهم وخُطتهم في خدمة المجتمع وتقْويمه من كل نواحيه، وكان من ذلك ندوة: "العلم والتعليم في خدمة المجتمع"، تدعو إليها وزارة الشؤون، ويَرْأسها وزير التربية والتعليم.

ليس من شكٍّ في أن هذه العهود التي أشرنا إليها، وقَفت عند حدٍّ من العلم والتعليم، لا يَنهض بمسايرة مجتمعنا لِما حوله من مجتمعات العالم، ومكَّنت في الوقت نفسه للقوى المضادة أن تعمل على سَلْخ شخصيَّته التي كُوِّن عليها من جهة إيمانه وإحساسه، وبذلك وقف وقفة المَبهوت الحائر، المتردِّد بين إيمانه وإحساسه، وبين ما غرَسته فيه تلك العهود.

فإذا كنا نريد حقًّا أن نُنقذ مجتمعنا من هَوْل ما أُصيب به من داخله وخارجه - وهو الذي أعتقده ولا أشكُّ فيه، وهو الذي تقوم الدلائل في كل يوم وفي كل وقت على صِدقه، وعلى الإيمان به - فإنه يجب علينا أن نؤمن بأن لكلِّ مجتمع خصائصَ وشؤونًا نفسية وقلبية، عليها نشَأ وبها آمَن، وأن نؤمن بأن أساس تعليمه المثمر وخدمته المفيدة، هو ما طُبِع عليه من تلك الخصائص وتلك الشؤون، وأنها وحدها هي التي تُملي عليه عوامل الثبات والنمو في سبيل ما يرسم له من مناهج الخير والتقدُّم.


ولا ريبَ أن قادة اليوم من صميم المجتمع، شخصيَّتهم شخصيته، وإيمانهم إيمانه، وإحساسهم إحساسه، وإذًا فليس أمامنا ما يَعوقنا عن اتخاذ شخصيَّتنا الخاصة، شخصية الإحساس والإيمان، العنصر الأول في التعليم والتهذيب.


وإني أعتقد أن قادة اليوم لا يَقنعون - بمقتضى إيمانهم - أن يَقفوا بهذا العنصر عند منهج التعليم في المرحلة الأولى، هذه المرحلة التي لا يتذوَّق الطالب فيها طعْم شخصيَّته، ولا يَعرفها إلا بكلمات يَضطرب معناها ومدلولاتها في ذِهنه، ولا يستطيع أن يكون له منها شخصية معنوية يسير بها في طريق الكمال والنضج.

إن قادة اليوم يعرفون حقَّ المعرفة أن القوى المضادة تعمل من كل جانب - في مُحيطنا المِصري - على نبْذ المبادئ الإيمانية التي تكوَّنت بها شخصيته، ويعرفون حق المعرفة أن الجرائم الخُلقية والاجتماعية التي تقع في حياتنا على غير مثال سابقٍ، ونقرؤها في الصحف والمجلات - أوضحُ مظهر لنجاح هذه القُوى المضادة في ثورتها على شخصيَّتنا الفاضلة.

وإذا كنا نعرف ذلك حق المعرفة، وصِرنا فعلاً إلى حياة الحرية الصادقة، المُكْنة العملية التي تَرفع عنا ضغط القوى المضادة في حياتنا الاجتماعية - فقد أصبح لزامًا علينا أن نَسير في طريق الكمال التهذيبي، كما نسير في طريق الكمال الاقتصادي والصناعي والسياسي، وبهذا نستطيع من طريق قريب أن نستردَّ ما فقَدناه من عزَّة وكرامة.



لا ينبغي لنا أن نُصيخ إلى تلك الصيحات التي تَنطلق من حينٍ إلى آخر في جو مجتمعنا المصري بأسماء خلاَّبة، لها ما وراءها من زلزلة المجتمع في معتقداته وأخلاقه، ثم في انسلاخه عن نفسه، وذوَبانه في غيره، هذه الصيحات التي تنطلق كلها باسم المذاهب الحديثة في الاقتصاد والاجتماع، والتربية والإيمان، وهي في واقعها تدور كلها حول نقطة واحدة، هي العمل على طرْح القِيم الأخلاقية، والمبادئ الروحية الإيمانية التي تجعل من الإنسان رقيبًا على نفسه، والتي تُلبِّي طبيعته في الخضوع للضمير الإيماني الذي يخشاه ويعمل على إرضائه.

إذا صح أن يكونَ من مذهب الحرية والوجودية والمنفعية أساس لحياة، فهي أساس لحياة أصحابها فقط، أما أنها تكون أساسًا عمليًّا لحياة الأمم والجماعات - وخاصة الأمم والجماعات التي تؤمن بشخصيَّتها، والتي لا تشعر قلوبها بشيء من الخير لهذه المذاهب - فهذا إن أمكَن أن يَضرب على الأمة بسيف القهر والقوة، فلا يَعدو شأنه شأنَ الإكراه الذي لا يعرف الإخلاص والإيمان، الإكراه الذي به يقع الإنسان في اضطراب وزَلزلة بين ضميره وبين القوة المجردة في وجهه، المُسلطة على رأسه.

وهذه حياة لا يمكن أن يقومَ عليها مجتمع مثالي فاضل، وهي فوق ذلك مُعرَّضة في كل وقتٍ لثورة النفوس عليها، وترقب الفرص التي تَرفع عن كاهلها قوى الضغط في سلوك سبيلها، كما نعرفه حق المعرفة في شعوب كانت معنا في الشخصية بالأمس، ثم حمَلها قادتها على غير تلك الشخصية.

إن بناء الحياة على عنصر الإيمان والإحساس الطبيعي الذي خُلِق الإنسان على تَلبيته بصدق وإخلاصٍ - هو ما رسَمه الله للإنسان منذ أن دبَّرت له قوة الشر ما دبَّرت؛ ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 123- 127].



هذا هو الأساس الذي يَملك باطن الحياة قبل ظاهرها، وهو الذي يَنبع من القلب والوِجدان، من قبل أن تمرَّ عليهما التيارات العقلية المنحرفة والمتضاربة.

إن وصايا الدين - كما تُؤخَذ من مصادرها الصحيحة، ومن قبل أن يَعبث بها العقل الإنساني، فيَصرفها إلى غاية بشرية معيَّنة - لتَقفُ بالإنسان في جميع نواحيه عند حدِّ التوازن والاعتدال، وبذلك يُصان المجتمع عن الركود في نموِّه وتكامُله، وعن الطُّغيان في سلوكه وتصرُّفه.

وهذا هو ما يرمي إليه الإرشاد الإلهي حينما يقول: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّار ﴾ [هود: 112- 113].

فالاستقامة ليست سوى الوقوف في مستوى التوازن، والطغيان ليس سوى الانحراف عن هذا المستوى، والركون إلى الظالمين ليس سوى متابعة أرباب الأهواء والأفكار النادَّة، الذين يحاولون صَرْف الناس عن حدِّ التوازن.

إني أتخيَّل صوتًا يتردَّد في بعض الصدور، ويكاد يُفصح عن نفسه: ما هذا الذي يريدنا الشيخ عليه؟ أيريدنا أن نُطلق للرجل حريَّته في طلاق زوجه، فيتشرَّدَ أبناؤه وبناته، وفي تزوَّجه بأربع؟ فتَلتهم بيتَه وأسرتَه نارُ العداوة والبَغضاء؟ أيريدنا أن يُحالَ بين الفتى وخطيبته دون أن يتعرَّف كلٌّ منهما خواص صاحبه واتجاهاته؟ أيريدنا أن تظلَّ البنت في بيت أبيها محرومة من العلم والسعي والعمل، وهي إنسان يحب العلم والمعرفة، ويهفو إلى الأعمال ويُحسنها؟! أيريدنا أن تظلَّ المرأة هضيمة الجَناح، تُساق إلى بيت الطاعة بالقوة والضغط، وتُعطى النصيب الأقل بالنسبة لأخيها وزوجها في التَّرِكة والميراث؟! أيريدنا أن نُغلق المصارف المالية والشركات التعاونية، التي تقوم بضرورات المجتمع وخِدماته، بما يُحقق للناس سعادتهم ويُمكنهم من معيشتهم؟ أيريدنا أن نضغط الحرية الشخصية، فلا يسمح للمرأة بحقِّ الاجتماع، ولا بحق الاختلاط ولا بحق الخَلْوة؟ أيريدنا أن نَحكم بقطْع يد السارق لدراهم معدودة قد تكون الحاجة هي التي دفَعته إلى أخْذها؟ وأخيرًا أيريدنا أن نترك مجالسنا الساهرة التي نُرَفِّه بها عن أنفسنا، ثم نَخلع أحْذيتنا وملابسنا؛ لنتوضَّأ ونصلي قبل فوَات الوقت؟ أيريدنا أن نغضَّ أبصارنا عن التمتُّع بالجمال السافر، الذي تتوارد علينا صُوره في الطرقات والمجتمعات؟ وهكذا أتخيَّل هذا الصوت يتردَّد في صدر صاحبه بهذا وأمثاله مما نسمع ونقرأ.




وإني لأُجمل الرد على هذا الصوت بكلمتين اثنتين:
أُولاهما: إن هذا الصوت يحمل في طيَّاته القريبة رُوح التنكُّر لِما عُرِف أنه من صميم المبادئ الإلهية، والقِيم الأخلاقية، وهو - دون شكٍّ - من هذا الجانب أثرٌ من آثار نزعات التحلُّل، التي تعمل عليها ولها الأفكار الوافدة الهدَّامة التي أشرنا إليها، والتي ليس لها في مجتمعنا سوى ضياع الشخصية الإسلامية، التي كان بها لمصر فضْلُ تبنِّيها والمحافظة عليها، والتي كان بها لمصر فضل صدارتها للعالم الإسلامي، وكان بها لمصر أن اتَّجهت إليها الشعوب الإسلامية، فبعثَت بأبنائها لتثقيفهم في أزهرها، وكان بها لمصر أن سدَّت حاجة الدول الإسلامية كلها إلى أساتذة أزهريين، يقومون في معاهدها بتدريس الشريعة واللغة.

وكان بها لمصر أن لبَّت الشعوبُ الإسلامية دعوتها لتكوين مؤتمر إسلامي عام؛ يبحث في شؤونهم، ويَجمعهم على أساس موحد، وأخيرًا طاف بحرارتها في النفوس وقوَّتها في تلك الشعوب السيد وزير الدولة، وسكرتير المؤتمر الإسلامي - جميعَ البلدان الإسلامية، للتحدث في شؤون المؤتمر، واستُقبِل فيها بالحفاوة البالغة، يَعلوها اسم الإسلام، واسم مصر الإسلامية.

أما الكلمة الثانية، فهي أن هذا الصوت قد يكون له عُذر إلى حدٍّ ما، فإن بعض ما يذكر قد صُوِّر بغير واقعه الصحيح في الإسلام، وفيه ما لم يُشرَح بوجهة النظر الإسلامية، وأقولها صريحة:
إن منشأ ذلك ليس إلا ترْك المصادر الأولى في استنباط الأحكام ودراستها، والتعلق بالشروح والتفاسير الإنسانية التي اتَّصلت بالمصادر في عهود الضغط على الفكر الإسلامي، واتُّخِذت هذه الشروح دينًا ونصًّا يجب اتِّباعه، ويَحرُم بجانبها أن ننظر وأن نجتهد في تلك المصادر التي جاءت على أساس التقبُّل لكل خير وصلاحٍ، وطرْح كلِّ شرٍّ وفساد.

وقد أشِيعَ بين المسلمين تبريرٌ لهذه الوقفة أن السابقين حلَّلوا المصادر، وطبَّقوا قواعدها على كل ما يُمكن أن يَجيء به الزمن، ويحدث من قضايا الناس وحاجاتهم إلى يوم الدين، وبذلك انطوَت صحف تلك المصادر، وأصبح المسلمون لا يعرفون منها إلا ما يَحكيه أربابُ المذاهب والآراء، من الجانب الذي يؤيِّد مذاهبهم وآراءهم، وأصبحوا كذلك لا يعرفون من دينهم إلا ما دُوِّن في الكتب، وشاع في الأجيال الماضية على أنه دينٌ وشرع.

وبهذا تهيَّأ لقوى المعارضة أن تَزحَف، ولأرباب المذاهب المُستحدثة أن يهاجموا، ولأرباب النزعات التحليلية أن يَجهروا بمبادئهم إن صحَّ تسميتها مبادِئَ.




هذا والأزهر الذي قام فيما مضى برسالة الثقافة الإسلامية في العقيدة، والتشريع، والتهذيب، وتركيز الفكر الإسلامي وتنميته، على أساسٍ من الحرية في الاجتهاد والنظر لمعرفة الصالح، قد أصابَته هو الآخر ما أصاب غيره من وجود الضغط وعوامل الركود.

وإذا كنا - والحمد لله - صِرنا إلى عهد الإنقاذ الجاد، فاني أرى - علاجًا لهذا الشأن - أن أهم ما يجب أن يُتَّجه إليه، ويُبادَر بوضْع أُسس التوجيه فيه خدمةً للمجتمع، هو الأزهر الذي احتلَّ مكانته منذ القِدم في قلوب المسلمين جميعًا، فهو وحده الذي يستطيع - إذا هُيِّئت له السبل، ومُهِّد له طريق البحث والتوجيه - أن يعمل على غرْس الرُّوح الديني السليم في النفوس، وهو وحده - باعتبار مكانته الدينية - الذي يستطيع توجيه المجتمع، ويَضم شَتات المسلمين في جميع بقاع الأرض على أساسٍ من الوحدة المثالية التي يَصفها الله بقوله: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110].

إن آياتِ القرآن الكريم، وإرشادات النبي -صلى الله عليه وسلم- وهما أصل النظام الإلهي الإسلامي؛ يَدفعان المسلمين إلى مسايرة العالم غربيه وشرقيه في علومه الكونية، وفي جميع وسائل الخير والتقدُّم، بل يُلحَّان ويَشتدان في الإلحاح عليهم، أن يتفوَّقوا على مَن سواهم في كل ما يتصل بالعزة والكرامة والمجد، حتى إنهما لم يَجعلا العزةَ لمن سواهم، ويُلحان في أن يكوِّنوا - كذلك - المُثُلَ العليا للبشرية في الأخلاق والروابط الاجتماعية، التي يُقرِّران مبادئها في كل ناحية وفي كل مجتمع.



ولا يظن ظانٌّ أن أبناء الأزهر غفلوا في تلك الحِقبة الطويلة عن ركود الأزهر واطمأنُّوا إليه؛ فقد قامت فيه من نصف قرن مضى إلى الآن ثورات تَعمل على دفْعه، وعلى تخليصه من الركود والجمود، تعمل على بسْط رسالته، وقيامه بها حقَّ القيام.

كانت ثورة الشيخ محمد عبده، وكانت ثورة الشيخ المراغي في عهده الأوَّل للمشيخة، ولا تزال بيدنا مذكرته الإصلاحية التي يقول فيها بعد كلام طويل، يذكر فيه مهاجمة المذاهب الحديثة للثقافة الإسلامية، ويصف به علماء القرون الأخيرة، ويصف به الكتب الملتزمة، وطرق التدريس المُتبعة، ثم يقول: وإني أُقرِّر مع الأسف: أن كل الجهود التي بُذِلت لإصلاح المعاهد منذ عشرين سنة، لم تَعُد بفائدة تُذكَر في إصلاح التعليم.

وأُقرِّر أن نتائج الأزهر والمعاهد تُؤلِم كل غيور على أُمته وعلى دينه، وقد صار من الحتْم لحماية الدين - أن يُغيَّر التعليم في المعاهد، وأن تكون الخطوة إلى ذلك جريئة، ويُقصَد بها وجه الله.

وعاد الشيخ المراغي إلى مشيخة الأزهر للمرة الثانية، ومكَث نحو عشر سنوات والحال هو الحال، فتقدَّم عضو من جماعة كبار العلماء، يُحسُّ من الأزهر إحساس الشيخ - عليه الرحمة والرضوان - بمُقترحات في الإنتاج العلمي - بما يُحقِّق للأزهر رسالته - ثم قدَّمها بعد ذلك مرات متعددة لمن تولَّى - بعد فضيلة الشيخ - مشيخةَ الأزهر، كما ألقى صاحب المقترحات على الأزهريين - أساتذة وطُلابًا - محاضرة بعنوان: "السياسة التوجيهية العلمية في الأزهر"، ثم تحدَّث فيها عن التَّرِكة المُثقلة التي خلَّفتها العصور المُظلمة، واحتمَلها الأزهر حتى أثقَلت كاهله، وها هي ذي لا تَزال مطبوعة.

حصَل كل هذا، ولكن الأزهر - كما قلنا - ليس إلا ناحية من نواحي الحياة المصرية العامة، التي أُصيبت في تلك الفترة كلها بالركود؛ نتيجة لفساد الحكم، والفتن الحزبية من الداخل، وللضغط الأجنبي من الخارج، ومن هنا ظلَّ الأزهر كسائر المرافق الحيوية قابعًا في مكانه من حي الدَّرَّاسة؛ يُجاور المقابر، يَحضُر طُلابه متى شاؤوا، وينصرفون متى شاؤوا، ويَدرسون من المقرَّرات ما شاؤوا، ويَتركون منها ما شاؤوا.




وقد عرَف فضيلة الشيخ المراغي في حياته هذه الحالة، وكتب بها منشورًا جاء فيه: وهناك أمثلة ظاهرة العَوار - في قراءة المقرَّرات - تَعلمونها كما أعلم، وتشعرون بأنها أمثلة سيِّئة لا يجوز أن تبقى ماثلة.

وعلى الرغم من هذا كله، ظلَّ الأزهر قائمًا على ركوده في البحث والنظر، وعلى خطة الحرية المنحرفة التي فرَضها الطلاب لأنفسهم في الحضور والانصراف، ومقدار ما يدرسون، حتى في عهدنا الحاضر، عهد الإنقاذ، وعامنا الحاضر، عام السكون والدرس في جامعاتنا المصرية، فإنه بينما تَفرُغ الجامعات من دراسة الفترة الأولى، وتؤدي امتحانها في نصف موادها، ثم تَشرع في دراسة الفترة الثانية، وتَستعد للامتحان بالدرس والتحصيل في آخر العام الدراسي - نرى الأزهر الآن ومن نصف شهر مضى تقريبًا تَخلو حلقاته، وحجر دراسته من الطلاب، ولَم يَمضِ عليهم أكثر من ثلاثة أشهر، وينصرفون إلى بلادهم باسم الاستعداد للامتحان السنوي، وباسم الاستعداد لصوم رمضان!!

ولا أُخفي على حضراتكم أنه حينما أشرَقت على بلادنا شمس الثورة المباركة، انقدَح في ذهني أن هذا العهد هو عهد الخُطوة الجريئة التي جاءت في المذكرة المَرَاغية لإصلاح الأزهر، ولا أُخفي عليكم مرة أخرى، أنه قد حزَّ في نفسي أن أرى أن يد الإصلاح والإنقاذ في هذا العهد تمتد إلى جميع نواحي الحياة - وخاصة النواحي العلمية الجامعية والمدرسية - دون أن أراها تمتدُّ - ولو قليلاً - إلى الأزهر بأكثر من بضع قرارات، لا أعرف مدى اتصالها بالإصلاح الذي عقَدنا الآمال عليه من أوَّل عهود الثورة.




إن الثورة الإصلاحية الموفَّقة - بإذن الله - والتي هيَّأ الله ظروفها وعواملها لإنقاذ هذا البلد، لا تَرضى أن تحتمل في التاريخ، ولا في الشعوب الإسلامية - الإعراضَ عن الأزهر إلى هذا الحد، ومعاذ الله أن أكون من المتشائمين، وإني لأعتقد أن رجال الثورة يرون أن في العناية بالأزهر الوقايةَ من الأفكار النادَّة الهدَّامة، والوقاية من الأخلاق المُقوِّضة للجماعات.

ومن هنا أرى أن الثورة لا بدَّ أن تعالج الأزهر، بما يُحقِّق لها أهدافها النبيلة - لا في مصر وحدها - بل في العالم الإسلامي كله، التي كانت منه مصر بفضْل الأزهر في مكان الصدارة والقيادة والتوجيه.

إن مهمة الأزهر لم تكن تخريج مُدَرِّسين ومعلمين فقط، وإنما تَنتظم - في أول ما تَنتظم - أمرين، هما أهم ما يجب أن يُناط بالأزهر، بل هما أساس رسالته، والعنصر الأول الذي يحقِّق وجوده ومعناه.

أولهما: تخريج علماء مُبرزين، أرباب بحثٍ واجتهاد سليم، وابتكار مفيدٍ، ونقْد سليم في جميع نواحي الفكر الإسلامي، ومن هؤلاء نرى الأئمَّة، والمصادر التشريعية والأخلاقية الكبرى، الذين يُرجع إليهم في معرفة ما هو من الإسلام، وما ليس من الإسلام.

وقد وُضِع قديمًا في قانون الأزهر - لهذه المهمة - ما عُرِف باسم: "تخصُّص المادة"، لكن أتى عليه هو الآخر في تلك الفترة الماضية ما يأتي على كل حي، فطُوِيت صفحته، ونسيه الأزهرُ والناس.

وثاني الأمرين: تخريج دعاة ومُرشدين، أقوياءَ في العلم والإدراك والتديُّن، لا تُلهيهم تجارة ولا بيع عن الدعوة إلى الله، تقرير الحق والتضحية في سبيله رائدُهم، وتهذيب النفوس وتقويمها هدفُهم، وإصلاح البشرية وتوجيهها إلى ما يُسعدها أقصى ما يَبتغون.

ومن هنا يتَّضح لنا أن الأزهري ليس فقط أستاذ فصْلٍ أو فرقة، وإنما هو قبل ذلك أستاذ علمٍ وبحثٍ، وأستاذ دعوة وإرشاد، وبذلك كانت مدرسته الشعب كله، والعالم الإسلامي كله، وكان طُلابُه المسلمين في جميع بقاع الأرض بكل طبقاتهم، وبكل لُغاتهم وأجناسهم وأقطارهم.

هذا هو الأساس الذي يجب أن يُشاد عليه صرح الأزهر.

قد شَعَّ من الشرق على العالم كلِّه نورٌ أحيا القلب الإنساني، وأرشد الحائر، وهدى الضال، وقد تجمَّعت منابعه في مصر، وأصبحت مصر - بفضل الأزهر الذي تلقَّى تُراث الفكر الإسلامي - مسؤولة عن إعادة هذا النور إلى الشرق كله، بل إلى العالم أجمع، وقد تضاعَفت مسؤوليَّتها حين هيَّأ الله لها عوامل الإنقاذ بثورتها.

وإن العالم الآن ليَسوده طُغيان المادة في جميع جوانبه، ويسوده التعصُّب الجنسي أو الطائفي في كثير من هذه الجوانب، وكلا الأمرين - طغيان المادة والتعصُّب - من أقوى أسباب التناكُر والتخاذل، والتناكر والتخاذل سببان قويَّان لِما يتقلَّب العالم اليوم في جَمره من وَيلات شديدة متلاحقة.

ولا مُنقذ لنا من هذا الشر المستطير إلا بأن يتضامَن الشرق - مَبعث الهدى والنور - على تركيز الروح الديني في النفوس، وإنماء الناحية المعنوية في العالم، ويومئذ تكون ثورتنا قد وصلَت إلى هدفها من تكوين مجتمع شرقي إسلامي فاضلٍ، له قلبه النابض ورُوحه الحي.

هذا هو ما أردتُ أن يكون نصيبي في هذه الندوة المباركة، أضعه بين يدي رجال التوجيه والقيادة، وأرجو أن أكون قد أبْرَأت به ذِمَّتي، وأدَّيت أمانتي، والله المستعان وإليه المصير.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 76.37 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 74.49 كيلو بايت... تم توفير 1.88 كيلو بايت...بمعدل (2.46%)]