العلم والغرور

[ابوالوليد المسلم]

العلم والغرور


الأستاذ راغب القباني






الغرور وهمٌ يراه صاحبه علماً، فهو جهل مركب، لأن المتصف به لا يدري ولا يدري أنه لا يدري.
هذا الجهل آفة عظيمة جامعة لمفاسد الأخلاق وقع في مهواتها الكثيرون، لأحد سببين: إما لأن الغرور لم ينل في نشأته شيئاً من التربية الصحيحة؛ أو لأنه نال حظاً ناقصاً؛ ويلحق بالآخر من كان علمه غير مطابق لحاله و لا عذر ولا سيما إذا كان علمه غير قائم على دليل، فإن دليل الحكم مع كمال المعلم، أو العالم المتكلم كمالاً وافياً له من التأثير على التلميذ أو السامع لهذا العلم ما يدفع به إلى الانطلاق في ميدان العمل، وقد صح في الواقع أن المعلم إنما هو مرآة تلميذه، كما أن القائم على تربية من يربيه هو مرآته، وكذلك يقال في القاضي والوالي وسائر ولاة الأمور، ومن كان آمراً لدائرته ومنـزله فالعلم الصحيح يتناول أمر التربية الأساسية بل هي أساس له ومن دلائل المتحلي بالعلم الصحيح والتربية الكاملة أنه إذا أخطأ وظهر له خطاؤه أو لفت نظره إليه بادر إلى العدول عنه آخذاً بالصواب الذي انتبه أو نبه إليه، ومن تلك الدلائل أيضاً أن المتحلين بالعلم والتربية إذا اختلفوا في رأي فإما أن يتفاهموا في ذات مجلسهم أو بعده بدون تنازع ولا هوى، ولنا من خيرة الشواهد على ذلك ما كان بين أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب وبين سيف الله المسلول في أرضه خالد بن الوليد وكيف كان انتهاء ذلك بينهما بقبول «الخالد» ما أمر به «الفاروق» من ترك القيادة لأبي عبيدة عامر بن الجراح وخضوعه لمجالسته، وانضوائه بعد ذلك تحت لوائه متطوعاً مجاهداً، أضف إلى ذلك جوابه لمن استفزه على الفاروق إذ قال كلمته: إنني لا أحارب لعمر بل لرب عمر، وبقوله أيضاً «الحمد لله الذي جمع بيني وبين عمر في الإسلام».

فهذا من خيرة الدلائل على معرفة نضج التربية الصحيحة مع نضج العلم الصحيح الذي يستلزم العمل، فمتى كانت الأمة كذلك كانت من خيرة الأمم، وكانت عزيزة الجانب، قوية الدولة، منيعة الاستقلال، وكانت طبقاتها متماسكة تماسك البناء المرصوص يشد بعضه بعضاً لهذا فإن على المصلحين العاملين على حياة الأمم في عهودها الإنشائية خاصة أن يسيروا بها على ذلك الصراط المستقيم، ولا سيما وأن شريعة الإسلام هي الصوى والمنار لهذا الصراط بدون ريب ولا شبهة، وإن أقرب مأخذ لكل من صحة الاستشهاد على قلناه أن يرجع إلى محاضرات جمعية التمدن الإسلامي ولا سيما ما ألقي في ربيع الأنور الماضي، ولعلها تجمع تلك المحاضرات وتنشرها نشراً عاماً بقيمة رخيصة حباً بالنفع العام لجميع طبقات الأمة وتنشر أيضاً «مداواة النفوس» لابن حزم، والله ولي من اتقاه وأحسن له العاقبة[1].

مجلة التمدن الإسلامي، السنة الثالثة، العدد السابع، 1356هـ - 1937م


[1] ألفت جمعيتنا لجنة للتأليف والترجمة والنشر وقد بدأت خطوتها أن بنشرها للأستاذ إبراهيم الباروني (الطرابلسي المغربي نزيل بغداد) رسالة «بشائر الإسلام» وجعلت ثمنها فرنكاً عدا أجرة البريد، ولعلها توفق باستمرار الخطو من تحقيق الأماني المرجوة ولو سارت ( لعسر الحال الاقتصادي العام والخاص معاً ) بادئ ذي بدء على مهل؛ فليمد المناصرون أيديهم للمعونة والله ولي التوفيق.