|
|
ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
ويل للشجي من الخلي
ويل للشجي من الخلي محمد الفناني عُرِف العرب منذ القِدَم بفصاحتهم وبيانهم، ودقَّة اختيارهم للعبارات، واشتهروا بعدة ألوان أدبيَّة؛ كالشِّعر والخطابة والمقامة وغيرها، وكان لفَنِّ الأمثال حضورٌ بارز في أدبهم، ونقف في هذا المقال مع مَثَل من الأمثال التي ذكرها العرب قديمًا، وهو: "ويل للشجيِّ من الخليِّ"، فما المقصود بهذا المثل؟ وما هي الظواهر التي يعالجها؟ ويل للشجيِّ من الخليِّ، يقال هذا المثل لمن ابتلاه الله بصحبةِ شخص لا يهتمُّ بآلامه، ولا تشغله همومه، فهو يحكي له أرزاءَه ومشاكله، لكن الصاحب خلوٌ من كلِّ هذا، وذهنه فارغ من كلِّ همٍّ. وفي هذا يقول الشاعر الحكيم أبو تمام: أيَا ويلَ الشجيِّ مِن الخليِّ ♦♦♦ وبالي الرَّبع من إحدى بليِّ "والمعنى ويل للشجيِّ مما يمنى به الخليُّ، ومن الرَّبع البالي من إحدى نساء بليِّ، وبليُّ هو حيٌّ من قضاعة، وإنما قال ذلك؛ لأنَّ الخليَّ يلومه ويعنِّفه، والربع يشجوه ويشوقه"[1]. ويقال أيضًا لمن جعله الله بين قومٍ لا همَّ لهم إلا معاشُهم وقوتهم، ولا يتطلَّعون للأمور العظيمة، فهو يدعوهم إليها؛ لكنه يخاطب أمواتًا؛ فلا يُسمَع نداؤه. وهذا حال غالبية أهل زماننا، فغالب شغلهم هم الدنيا المعاشي، حتى إنهم أصبحوا يتناصحون على هذا، وصار الحكيم الناصح عندهم مَن يرشدك إلى حصر همِّك في جزيئات شُخيصك، فيقول باللهجة العامية المغربية عندنا: "ديها في راسك"، "دخل سوق راسك"، "سبق الميم ترتاح". وفي هذه النصائح ما فيها من دعوة إلى كتمان الشهادة، وإلى عيشة البهائم، ولا شك أنَّ الإنسان الحرَّ لا يرضى بهذه الدونيَّة والدودية والسفحية الذليلة، بل إنَّ هذه النصائح كانت تُعتبر في زمن العزَّة الإسلامي سُبَّةً يستحقُّ صاحبها السجن، أو قطع اللسان كما في قصة سيدنا عمر مع الحُطيئة وخَصيمِه الزبرقان، وخلاصتها أنَّ الحطيئة هجا الزبرقان بن بدر فقال: دعِ المكارمَ لا ترحَلْ لبُغيتِها ♦♦♦ واقعد فإنك أنت الطاعمُ الكاسي فشكاه الزبرقان إلى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال عمر: لا بأس إنما هي معاتبة، أَمَا ترضى أنْ تكون طاعمًا كاسيًا؟ وذلك أنَّ الأمر استشكل على سيدنا عمر، فلمَّا أصرَّ الزبرقان على أنه تنقيص وهجاء، استعان عمر رضي الله عنه بأهل الصنعة، فقدم إليه حسان بن ثابت، فلما سمع مقالةَ الحُطيئة قال: لم يهجه ولكن سَلَحَ عليه، والمعنى تغوَّط عليه، كناية عن شدَّة الهجاء، فعزم سيدنا عمر على قطع لسان الحُطيئة، لولا أنَّه قدَّم من الأعذار ما جعل عمر رضي الله عنه يتراجع عن ذلك، على ألا يعود إلى أذية الناس بلسانه[2]. تشير هذه القصة ومثيلاتها إلى أنَّ الدعوة إلى الاقتصار على طلب الطعام والكسوة كانت سُبَّة وهجاء في ذلك الزمان؛ إذ إنَّ مطالب الطعام والشراب والنوم هي مطالب مشتركة بين الإنسان والحيوان، والإنسان لا يكون إنسانًا حتى يطلب ما يميِّزه عن الحيوان؛ مِن عدلٍ وكرامة وحرية، وغيرها من المطالب السامية. لذلك فالإسلام حرَص على القضاء على هذه الذهنية، وذلك عبر الانتصار للوحدة الإسلامية واللحمة بين المؤمنين، والدعوة لحماية وحدة الأمة والولاء لها. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن للمؤمن كالبُنيان يشدُّ بعضه بعضًا، ثم شبَّك بين أصابعه...))[3]، ولا يحصل هذا المعنى حتى يهتمَّ المسلمُ بهموم أخيه الدنيويَّة والأخرويَّة، وينخرط معه فيها انخراطًا كاملًا، ولا يحصل هذا المدلولُ في معناه الجماعيِّ حتى يهتمَّ المؤمنون بهموم إخوانهم في كلِّ أقطار المعمورة. قال صلى الله عليه وسلم أيضًا: ((ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادِّهم وتعاطفهم كمثل الجسد؛ إذا اشتكى عضو، تداعى له سائرُ جسده بالسهر والحمَّى))[4]. وبالتالي فحرصُ الإسلام على الوحدة والتعاضد بين أفراد الأمَّة من شأنه أنْ يقضي على مثل هذه الأمراض ومثل هذه الذهنيات. فلك أنْ تتخيَّل كم الويلات التي تحلُّ بشخص يحكي همومه وغصصه على آخَر لا همَّ له إلا بطنُه وفرجه، وأكبر من هذا أنْ يجد عالِمٌ مصلحٌ نفسَه في زمنٍ راكد، ومع قومٍ لا عزم لهم ولا إرادة على التغيير ولا همَّة تسعى لذلك، ولولا أنَّ رسل الله كانت تسليهم الصلة بالله عن طريق الوحي، لماتوا كَمَدًا وحزنًا بسبب إعراض أقوامهم. [1] شرح ديوان أبي تمام، الخطيب التبريزي، ج 2 ص: 845. [2] انظر: كنز العمال، ج:3 ص:843 - 845. [3] صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب تعاون المؤمنين بعضهم بعضًا. [4] صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|