الدوافع والمنطلقات في البحث العلمي بين الماضي والحاضر
د. مصطفى حسن مكي
المتأمل فيما كتبه العلماء قديمًا وحديثًا يجد أن دوافع البحث والكتابة قديمًا كان الغرض الأساس منها خدمة العلم والدين وتحقيق الحق وإبطال الباطل، فمن أنشأ مصنفًا أو كتب كتابًا تجد أن باعثه على ذلك إنما هو العلم والوصول إلى الحق حتى في ردود العلماء وتعقُّبات بعضهم على بعض تجد هذا واضحًا، وأضرب على ذلك مثالًا مشهورًا الإمام البخاري رحمه الله؛ ما الذي دفعه لإخراج كتابه الصحيح؟ يحكي هو لنا قصة بداية وجود فكرة الكتاب، وهو أن شيخه إسحاق بن راهويه قال أمامهم ذات مرة: لو جمعتم كتابًا مختصرًا لصحيح سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فوَقَعَ في قلبي، فأخذت في جمع الجامع الصحيح، فانظر إلى الدافع والباعث؛ إنما هو جمع صحيح السُّنَّة تيسيرًا على من يطلب الأحكام والفقه، فليس محتاجًا إلى أن يبحث عن صحَّته؛ لأن صاحب الصحيح بصنيعه هذا قد كفاه، فما عليه إلا أن يُوجِّه هِمَّته لاستنباط أحكامه، وهذا لعمري باعث ودافع فيه من حرص التلميذ على تحقيق رغبات أستاذه التي فيها توجيه لخدمة العلم، وقبل ذلك وبعده أن يقدم شيئًا ينفع ويضع أساسًا ودعامة في بناء عظيم يخدم الدين، ومما يدلُّك على عظمة الباعث وصدق التوجُّه أنه ابتدأ كتابه بالحديث الذي يشير به إلى رجاء أن يأجره الله على عمله إن كان خالصًا، فكان أول حديث "إنما الأعمال بالنيَّات"؛ لتأكيد سلامة باعثه وصدقه فيه بل بلغ الغاية، وذلك أن تلميذه الفربري يحكي عنه قوله: ما كتبت في كتاب الصحيح حديثًا إلا اغتسلت قبل ذلك، وصلَّيت ركعتين، فإذا تأملنا صنيع العلماء بعد البخاري ونظراتهم نحو الجامع الصحيح نجد أن من انتقد ومن شرح ومن جمع، رجاله كل هؤلاء، كأن غرضهم وباعثهم ليس هدمًا للجامع الصحيح بل تتميم وتكميل ومحاولة بل محاولات لتقريب هذا الكتاب وتيسير الانتفاع به، ودونك مثلًا محاولة الإمام الدارقُطْني في كتابَيْه الإلزامات والتتبُّع، وهو مَنْ هو عَلَم من أعلام الصنعة وإمام من أئمتها، فذكر أن هناك أحاديث لرواة أخرج لهم صاحب الجامع تركها وكأنه يرى أنه يلزمه إخراج أحاديث كل راوٍ أخرج له، كما تَتَبَّعه في بعض رواة رأى أن مروياتهم تنزل عن الدرجة التي التزمها، وظاهر من خلال الكتابين أن غرضهما التكميل والتتميم لا الهدم والتدمير والقضاء على جهود السابقين، وبمثل هذا النموذج في التَّتَبُّع لمؤلفات علماء القرون الأولى ومن تلاهم لترى وراء كل مؤلف قصة تدُلُّك على نقاء البواعث والدوافع، وصدق المنطلقات؛ ما يجعلك تدرك سِرًّا من أسرار بقاء هذه المؤلفات وانتشارها على مدى قرون متطاولة، ونجد كلمة كاشفة للإمام مالِك عندما جمع كتابه الموَطَّأ، وكان قد سبق بمثله، فلَمَّا قيل له ذلك، أجاب "ما كان لله بقي" وتلك كلمة لا تحتاج إلى شرح أو بيان، فإذا هرولنا مسرعين إلى القرون المتأخِّرة لا سيَّما هذا القرن الأخير، وحاولنا النظر في البواعث والمنطلقات لكثير من البحوث والمؤلفات فستجد أمرًا يثير الحزن والألم؛ لأنك كثيرًا ما تصادف بحثًا في تضعيف حديث مشهور والعمل به منتشر، ما الذي دفعك أيها الباحث الهمام لمحاولة التضعيف وتخطئة مخالفك يأتيك الجواب بلسان الحال؛ لأنه يخالف التوجُّه الذي هو عليه، أو لا تعجبه الفكرة التي يدور حولها الحديث، فبدلًا من أن يجد لها مخرجًا تستقيم معه معانيه إذا به يحاول التخَلُّص منه بالكليَّة، ولن تعجزك النظرة العجلى لترى أمثلة كثيرة لهذه البواعث والدوافع التي يعوزها الصدق في خدمة العلم والانتصار للحق والدفاع عن الدين، وأنك لتعجب أن ألسنة الجميع تسارع إلى القول بأن غرضها خدمة العلم ولكن تجد أن الانتصار للتوجُّه وخدمة الأغراض الشخصية، وأودُّ أن أقول لا شك أن هناك أقلامًا مخلصة؛ ولكن هذا في المتأخرين قليل في حين كان في المتقدمين هو الغالب.