فن المقالة في العدد الأول من مجلة الرسالة - ملتقى الشفاء الإسلامي
 
اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12535 - عددالزوار : 215324 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          اضطراباتي النفسية دمرتني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          زوجي مصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 182 - عددالزوار : 61192 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 123 - عددالزوار : 29177 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها > ملتقى الإنشاء

ملتقى الإنشاء ملتقى يختص بتلخيص الكتب الاسلامية للحث على القراءة بصورة محببة سهلة ومختصرة بالإضافة الى عرض سير واحداث تاريخية عربية وعالمية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 15-02-2021, 04:59 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي فن المقالة في العدد الأول من مجلة الرسالة

فن المقالة في العدد الأول من مجلة الرسالة (1-4)


الصادرة عام 1350هـ (1)


شفاء محمد خير يوسف



التمهيد:


ملأتْ فراغًا، وحلّت أزمة... نعم، لقد كانت ثمة أزمة عند القُراء بأنهم لم يجدوا ما يقرؤونه، وأزمة للكُتّاب بعدم وجود صحيفة أدبية متخصصة تنشر إنتاجهم وتذيعه على الناس، يتناقشون على صفحاتها، ويختصمون، ويتفقون.

فقد كان هؤلاء الأدباء رهن إشارة مجلة الرسالة، ففي أول ظهور لها وقفوا معها، وأيّدوها. وتشجيعهم هذا لم يكن لمجرد صداقتهم للزيات، وإنما كان تحقيقًا لأمنياتهم الأدبية.


وسأذكر هنا كلماتٍ سطّرها هؤلاء الأدباء إجلالاً وشكرًا لها -شعرًا ونثرًا-:


يقول الدكتور شكري فيصل: "كانت مقالات الزيات أو الرافعي في مجلة الرسالة تُرصد رصدًا وتُترقب ترقبًا في بلاد الشرق العربي"[1].


ويقول الدكتور مهدي علام: "الذين يعرفون الزيات، يعرفون مجلة الرسالة التي ظلت أكثر من ربع قرن، تحمل رسالة الفكر العربي في كل مكان من العالم الناطق بالضاد والتي كانت مدرسة حقيقية ربت جيلًا وأنشأت أدبًا، وثقفت وعلمت، وقامت على صفحاتها معارك النقد والتجديد".



وتروي لنا الدكتورة نعمات أحمد فؤاد في كتابها (قمم أدبية): أن علي أمين سافر إلى الشرق بعد احتجاب الرسالة وعاد يقول: "لو أن الحكومة أغلقت سفارتها في الشرق وأبقت على الرسالة لكان خيرًا لها وأجدى عليه"[2].


وينظم فيها أحمد العجمي:



حيّ الرسالةَ واقبس من محيّاها ما شئتَ من حسنها أو من حُميّاها
رفّت على الشرق أندى من أزاهره كأن من نفَحات الخلد ريّاها
وأشرقَت بشعاعِ الفكر ناضرةً تُسبي القلوب وتَجري في حناياها
[3]





ويصعب هنا حصر أقوال قُراء هذه التحفة الأدبية، ولكن حسبنا أن نستنتج من اهتمامهم بها أن جملة "كلام جرايد" لا ينطبق على الرسالة أبدًا؛ لأن تأثير الرسالة على قُرائها يختلف عن تأثير المجلات الأخرى التي تحتال على طلبهم بألوان المسابقات واليانصيب. وإن كانت الرسالة ضعيفة المظهر من ناحية الطباعة والتصميم، فإنها كانت قوية التحرير، متقدمة الاتجاهات والرأي متعمقةً فيما تنشره، فأشبعت بذلك رغبات الباحثين عن الجوهر لا المظهر[4].

ويلحق بتأثيرها على قُرائها أن مدرّسي المرحلة الأساسية - وهم من عشاق الرسالة- كانوا يستخرجون موضوعات الإنشاء من هذه المجلة ويدرّسونها لطلابهم.

وبما أن وسائل الإعلام لم تكن قد تطورت خلال عمر الرسالة فإن القُراء كانت عندهم فسحة من الوقت لاقتناء الرسالة...[5].


أما الأثر الأدبي لها، فنقسمه قسمين:


أولهما: ملؤها للفراغ الأدبي عند القُراء والكُتاب قبل صدورها وقد تحدثنا عنه.


ثانيهما: هو موقعها من سلسلة المجلات الأدبية التي صدرت في مصر وغيرها من البلاد العربية ، فإن موقعها له ميزات أربع، هي:


1/ العمر الذي عاشته المجلة.

2/ الاستمرار والانتظام في الصدور.

3/ المضمون الذي احتوته المجلة في أعدادها.

4/ الأثر الذي أحدثته[6].

من هذه الميزات نستنتج بأن الرسالة تُعتبر أولى المجلات الأدبية الأسبوعية في التقييم منذ أن عرفت اللغة العربية المجلات الأدبية حتى توقفت الرسالة عن الصدور وحتى بعد توقفها[7].


ونستطيع أن نُجمل الآثار الأدبية للرسالة في نقاط موجزة:


أولاً: أنها مصدر لتاريخ الأدب ولدراسته.

ثانيًا: أنها نشرت الأدب وتابعته بالنقد والتقييم.

ثالثًا: كانت مدرسة لتخريج الأدباء والأديبات.

رابعًا: كانت ناقدة للأدب العالمي.

خامسًا: صنعت عُشاقًا للتعبير العربي السليم[8].


كما أنها لم تكتفِ بأن تترك أثرًا أدبيًا وحسب بل أثّرت فكريًا وثقافيًّا أيضًا في مجالات عدة:


أما مجال الاتجاه الإسلامي: فإن طابَع الرسالة هو طابَع إسلامي، فلقد كانت في كل ما تنشره تقريبًا تخدم الفكر الإسلامي[9].


وفي مجال العروبة: لم يكن دورها نظريًا فقط، بل طبّقت عمليًًّا لما تدعو إليه في مجال العروبة وقضية الوحدة العربية، ويَبرُز هذا التطبيق في توزيعها في مصر والبلدان العربية. وأيضًا يتّضح في مداومتها نشر مقالات وقصائد الأدباء العرب من غير المصريين[10].



ولم تنسَ أن تترك بصمتها الخاصة في المجتمع، فقد كان لها دور في الرأي العام المصري والعربي، وكانت تعرِض المشاكل الاجتماعية وتعرض لها الحلول[11].



أما أثرها في مجال الفكر والفن والعلوم والفلسفة: فيكفي أنها أغنت المكتبة العربية بما نشرته من فصول عديدة جُمعت في كتب، وأوضح الأمثلة: وحي الرسالة للزيات، والبرج العاجي لتوفيق الحكيم، وترجمات دريني خشبة.



لاسيما أنها أتاحت الفُرص للظواهر الأدبية والفكرية الجديدة كالشعر الحُر والشعر المنطلق...[12].



وكما أن بعد كل ليل صبح، فإن بعد كل صبح ليل..



واحتجبت الرسالة، فسطّر الأدباء والشعراء خواطرهم حول ما نَشر احتجابها من البؤس والكآبة.



ومن تلك الخواطر تَبرز خاطرة الأستاذ العقاد الحزينة حيث يقول: "ولم يكن يدور بخلدي حين كتبتُ هذا أن مجلتين في طليعة مجلاتنا الأدبية تضطران للاحتجاب عن قُرائهما قبل انقضاء شهرين، فبدأت السنة الحاضرة باحتجاب (الثقافة)، وقد مضى على ظهورها (ست عشرة سنة)، ولم ينقضِ الشهر الثاني من السنة حتى أعلنت زميلتها (الرسالة) أنها تختم أعدادها، وتودع قُراءها، وقد مضى على ظهورها أكثر من عشرين سنة، ولا شك أنهما حادثان سيُذكران من حوادث هذه السنة عند الكتابة عن تاريخ الأدب العربي الحديث"[13].



وتعود الرسالة للظهور عام1963م، باسم (الرسالة الجديدة)، ويُسند تحريرها إلى الزيات، ولكنه حاول جاهدًا أن يوقفها في وجه الآلام والأماني، ولكنه لم يستطع أن يشحذ همتها وسط عوامل التجديد والسرعة، وعوامل الثقافة المذبذبة، أو أدب الساندويتش، أو طغيان العامية على الفصحى... فتوقفت الرسالة كما توقفت أخت لها من قبل[14].



الفصل الأول.. المقالة الذاتية:


عند قراءتنا لمقالات الصحف اليومية أو المجلات الأسبوعية والشهرية، نجد أنفسنا عند بعضها وكأننا أمام معلم يعلمنا كل مفيد، وعند بعضها مستمتعين في عالم الخيال والزخرفة الأدبية.

لذلك؛ فإن النقاد قسّموا المقالة إلى قسمين اثنين: المقالة الذاتية، والمقالة الموضوعية. ويهمنا في هذا الفصل، الحديث عن المقالة الذاتية، وتلحقه المقالة الموضوعية في الفصل الذي يليه.



لنعرّف أولاً المقالة الذاتية، كما يعرفها الدكتور ربيعي عبد الخالق بأنها: "نفثة نثرية يفضي بها الكاتب فتكون لسان حاله،ومعرِض تطلعاته، وتأملاته، وتتّسع لتجسيد انطباعاته، واهتمامات حسّه الاجتماعي والإنساني، في إطار جاد تارة، ومتفكهًا تارة أخرى، رغبة في الإثارة، والتأثير، إمتاعًا وإقناعًا"[15].



ويستطيع القارئ أن يميزها بسهولة عن غيرها، من خلال هاتين السمتين:


1 /العناية بإبراز تجربة صاحبها، وبيان إحساسه الذاتي بها.

2/ البراعة في الأسلوب، وهو سبب قوي من أسباب المتعة التي يجدها القارئ في قراءتها[16].


أما هيكل المقالة الذاتية : "فلا تخضع لنظام صارم يقوم على تقسيمها تقسيمًا يمزق أوصالها، فتأتي في مقدمة وعرض وخاتمة، حيث إن تقسيمها يعرقل تدفق المعاني وعفويتها"[17].



كما أن لها أنماطًا متعددة، يتخير الكاتب أيًّا منها ويكتب بها قطعته:


- "أسلوب الزخرفة البديعية: الذي يهتم بالزخرفة الشكلية، ويحرص على توظيف فنون البديع، وفي طليعتها السجع، والمجانسة، وتوازن الجمل.

- أسلوب الترسل: حيث الزهد في ألوان البديع، حرصًا على انطلاقة الأسلوب ورحابة الفكر، وسعة مجال التعبير عن خطرات النفس.

- الأسلوب التصويري الساخر(الكاريكاتوري): يتّسم كاتبها بخفة الظل، والميل إلى الدعابة، أو حرصه على التهكم والسخرية، وقد يعمد بعض الكُتاب إلى تصوير النقائص الخلقية، والعيوب الاجتماعية، تصويرًا مبالغًا فيه.

- الأسلوب القصصي: حيث اعتمد نفر من الكُتاب على عنصر الحوار، وأسلوب القص والسرد في تجسيد مواقف اجتماعية، أو إنسانية"[18].


أما الموضوعات التي يمكن للذاتية أن تتناولها، فكثيرة لا يمكن حصرها هنا، "فهي مجالات الحياة بمختلف أشكالها، من حوادث يومية، ومشكلات بيئية، وقضايا اجتماعية، وهموم إنسانية"[19].



وفي هذا المبحث سنتناول بالدراسة والتحليل نماذج لمقالات أدبية، واجتماعية، ونقدية.



الفصل الثاني.. المقالة الموضوعية:


(هي تلك المقالة التي لا يمكن لنا أن نستشف منها شخصية كاتبها..)[20].

ولكي نوضح للقارئ الكريم المقالة ذات الأسلوب الموضوعي بشكل أفضل، يضع لنا الدكتور (عطاء كفافي) حدًّا لتلك المقالة فيقول: "تكون شخصية الكاتب فيها متوارية وراء موضوعه، واهتمام الكاتب فيها يكون موجهًا لموضوعه وفكرته، ويرى الكاتب في هذه الحالة أن جلاء الموضوع، وشرح الأفكار في عبارة كاشفة محددة المعالم، وإيراد الجمل في سلاسة، يُعد إرضاءً لعقل القارئ، وفكره، ومتعة لمشاعره وأحاسيسه".[21]


وكأنّ الدكتور (ربيعي عبد الخالق) يسهل علينا تمييز المقالة الموضوعية عن غيرها بميزتين:


1- تجلّي الموضوع، بحيث تُنحّى شخصية الكاتب وأهواؤه الخاصة قدر الإمكان.

2- الارتكاز على الحقائق الموضوعية المُسلّم بها، ووضع الأمور في نصابها، سعيًا وراء الإفهام والإقناع.[22]


كما شرط (د.عبدالعزيز شرف) شرطًا لها، وهو الاعتماد على التفكير العلمي، ويقصد بالتفكير العلمي، الخلو من اختلاف النظرات الفردية التي تتحكم بها الأهواء والرغبات.[23]



وكأنّ الدكتور عبد العزيز شرف ينبهنا إلى خطورة وصعوبة الصياغة والمضمون في المقالة الموضوعية -على غير من دُرِّّبوا عليه-، وسأرتب قوله –تسهيلاً- في نقاط:


1- ذلك أن المقال الموضوعي يقتضي دقّة العبارة، على النحو الذي يخلّصها من الزوائد الوجدانية، فلا يبقى منها إلا تقرير الحقيقة الموضوعية وحدها.

2- وهذه الحقيقة الموضوعية المذكورة آنفًا، يحدّدها الدكتور بأنها هي "التي يمكن غيره أن يشاركه في تقرير الواقعة"[24].

3- الابتعاد عن الطاقة الوجدانية في عبارتها؛ حتى لا تفقد موضوعية الصياغة العلمية[25].

4- أن لا تكون القضية التي يطرحها الكاتب، مسألة فردية تخصّه وحده، بل يجب أن تخدم مسألة بحثية اجتماعية.

5- ليس من حق الكاتب أن يجعل القضية التي يطرحها أمرًا خاصًّا به، بل ينبغي عليه أن يقيم أمام العلماء دليل صدقها، "بأن تكون لغة ورموزًا اصطلحها علماء المجال الذي يكتب فيه"[26].



((يتبع: 2/4 إن شاء الله)).




ــــــــــــــــــــــــــ

[1] انظر:الزيات والرسالة: د.محمد سيد محمد، ص201، دار الرفاعي، الرياض، ط1، 1402هـ.

[2] السابق:ص202.

[3] السابق: ص204.

[4] انظر: السابق، ص206.

[5] انظر: السابق، ص207.

[6] السابق: 207.

[7] السابق: ص208.

[8] الزيات والرسالة: ص209-211-213-214.

[9] انظر: السابق، ص214-215.

[10] الزيات والرسالة: ص215.

[11] انظر: السابق:ص216-217.

[12] انظر: ص217-218.

[13] سلسلة اقرأ، 367، 1981م، أحمد حسن الزيات ومجلة الرسالة: د.علي محمد الفقي، ص189-190.

[14] المصدر السابق:ص192.

[15] فن المقالة الذاتية: د. ربيعي عبد الخالق، ص73، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، ط1، 1988م

[16] انظر: فن المقالة:د. محمد يوسف نجم، ص129، دار بيروت، بيروت، ط2، 1963م.

[17] أدب المقالة: د.عبد العزيز شرف، ص75، مكتبة لبنان والشركة المصرية العالمية، ط1، 1997م.

[18] فن المقالة الذاتية: ص259-260- 261باختصار.

[19] المقالة الأدبية: د. عطاء كفافي، ص47، هجر للطباعة والنشر، مصر، ط1، 1985م.

[20] أدب المقالة: ص56.

[21] المقالة الأدبية: ص57.

[22] انظر: فن المقالة الذاتية، ص69.

[23] انظر: أدب المقالة: ص53.

[24] أدب المقالة: ص55، (بتصرّف).

[25] انظر: المرجع السابق:ص56.

[26] انظر: السابق: ص57-58.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 15-02-2021, 04:59 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فن المقالة في العدد الأول من مجلة الرسالة

فن المقالة في العدد الأول من مجلة الرسالة (2-4)


شفاء محمد خير يوسف




المبحث الأول.. المقالة الاجتماعية:



لن نعيد الحديث عن المقالة الاجتماعية؛ لأننا تحدثنا عنها في الفصل الأول من هذا البحث...

ولكن -وكما سيتّضح للقارئ الكريم- سنذكر في هذا المبحث، سبب تصنيفنا المقالة الاجتماعية ضمن الأسلوب الموضوعي...


سندرس مقالة (اللغة العربية كأداة علمية) للدكتور علي مصطفى مشرفة[1]،كنموذج للمقالة الاجتماعية الموضوعية:


نجد أولاً أن الأسلوب الذي كُتبت به هذه المقالة موضوعي من ناحية أن اهتمام كاتبها متوجه لموضوعه وشرح أفكاره وإيراد جمله في سلاسة تُرضي عقل القارئ وفكره، ومن حيث ارتكازُها على حقائق مسلّم بها مثل خمول اللغة الآن بعد ازدهارها في البادية، وغلبة الروح العلمية على البيئة الحديثة، كما خلت من اختلاف النظرات الفردية الخاصة.


ولكنها فقدت موضوعيتها وتحولت إلى الذاتية في نواحٍ منها: أنها اجتماعية، وأننا استطعنا أن نستشف منها شخصية كاتبها من ناحية أخرى خاصة عندما كان يقول: "إن مآل اللغة العربية في مستقبلها متوقف علينا نحن اليوم" و في قوله: "ولذا ففي يدنا قتلها وفي يدنا إحياؤها".



تفيض من هذه الجمل غيرة الكاتب على العربية والرغبة في أن يهز العالم العربي فينفض عنه غبار الكسل.



ولكن بما أن الغالب على المقالة كان تحليلاً وسرداً للأفكار وطرق العلاج بطريقة علمية، لذا فقد صنفتها ضمن المقالات الموضوعية.



أما موضوعها فمُزج – امتزاجاً يصعب التفريق فيه – بين التحليل والاجتماع:


التحليل، لأنه قارن بين البيئة الفكرية الحديثة وبين البيئة في البادية، والنظر إلى المستقبل، وتركيزه على المصطلحات في اللغة العربية.


وهي اجتماعية أيضاً لأنها
تصدّت في إيجابية للعيب الاجتماعي، عن طريق التأثر للعربية وإحيائها من جديد بتأليف اللجان المختصة بمراجعة المؤلفات العلمية وغير ذلك، ولأنها حددت أيضاً الأدواء والدواء تصحيحاً لمسيرة ما انحرف.



.. عنوان هذه القطعة[2]: علمي، مفصّل، حامل لفكرة المقال بوضوح، لكنه لم يكن جذّابًا؛ ذلك أنه جامد، فلم يكن على صورة تساؤل مثلاً ليبحث القارئ عن الإجابة من داخل القطعة، أو على صورة ساخرة أو طريفة.



ونمط المقالة هو الترسل؛ حتى لا يمنعه الانشغال بتزيين كلامه عن إيصال فكرته أو قضيته بالشرح والتفصيل ليفكر القُراء بالحل العاجل لهذه المعضلة.



فلا يجد القارئ في هذه المقالة أي نوع من أنواع البديع أو التصاوير البيانية، اللهم إلا تشخيص اللغة العربية أو أنسنتها... حتى هذه الصورة فقد استخدمها الكاتب ليوصل فكرته وليفهمها بوضوح.

هذه المقالة خلَت من المقدمة، وهذا جائز في أدب المقالة[3] فقد دخل الدكتور مشرفة في عرضه أو موضوعه مباشرة، والذي يبدأ من: "تجتاز اللغة العربية في عصرنا الحالي... [إلى:] فرأيي أن يكون له عندنا لفظ عربي مرتبط بأدبنا وتفكيرنا".. طويلة، أخذ الكاتب في معالجة موضوعه بحيوية ونشاط، فتارة يشرح تطور اللغة من البادية إلى البيئة الحديثة وتارة يصف غربة العربية وتارة يقارن بين تلك البيئتين وحيناً يحاول أن يتنبأ بمستقبل اللغة ثم يشرح كيفية إحيائها فيقترح الحلول... إلخ.



أما الخاتمة وهي من قوله: "ولا يتسع المجال لزيادة تفصيل [حتى:] من أهم المواضيع المرتبطة بحياتنا وتقدمنا".. قصيرة. قرر الكاتب أن يختم قطعته بتمنّيه للقراء أن يكونوا قد تأثروا بالمقالة، فيؤثروا هم مستقبلاً. أما النتيجة التي ينبغي على كل كاتب أن يتوصل إليها في النهاية، فلن تتوفر هنا، إلا إن كانت رجاء التأثير في القراء التي يمكن أن تؤدي إلى نتيجة في المستقبل. كما لم يحلّ الدكتور علي المشكلة في نفس المقالة لأن الحل في طور التنفيذ.. وببطء.



فِكرته الأساس واضحة، نجح في توحيد بناء مقالته وتوحيد موضوعه كذلك، فلم يكن فيها حشوٌ، فكل كلمة كان لها أهميتها، ولم يستطرد كاتبها في موضوعه.



وقد أعطى الكاتب لمحة زاد فيها من نبض حياة القطعة وهي (إن مآل اللغة العربية في مستقبلها متوقف علينا نحن اليوم).



وأغلب الظن أن لو كتب الدكتور مشرفة بأساليب ملفتة فاستعمل أساليب الإغراء أو العتاب لكان شوّق القارئ إلى أن يقرأ المقالة ثم يعمل بما تتطلب المقالة من عمل.



المبحث الثاني.. المقالة العلمية:


وتُعْرَف وتُميّز بأنها "تُعنى بمعالجة قضية من قضايا العلم، كأن تتحدّث عن نظرية في الطب، أو في الجبر، أو الهندسة، أو الكيمياء، أو الفيزياء، أو الطبيعيات، أو تعرض ما وصلت إليه هذه العلوم، أو تُعرّف الناس بالمكتشفات العلمية الحديثة، أو تحاول توضيح المعطيات التي ترتكز عليها الأبحاث العلمية عامة"[4].

وسنتناول معًا مقالة علمية من مصدر بحثنا – مجلة الرسالة – عنوانها (النوم واليقظة) للكاتب الدكتور أحمد زكي[5]. فإلى الدراسة النقدية...


إذا طبّقنا ما قلناه في التعريف بالأسلوب الموضوعي، فسندرك أن هذه المقالة كُتبت بأسلوب موضوعي، ذلك أن تجلّي الحقائق الموضوعية وشرْح الأفكار طغى على عواطف كاتبها وشخصيته، ونجدها تميزت بالمزايا التالية:


1- اعتمدت على التفكير العلمي؛ فلم نر امتزاجها بالذاتية والأهواء.

2- دقّة عباراتها العلمية التي تتمثل في الكلمات التالية -ليس حصراً-: (وعلاقة الشمس بالنوم ليست مصادفة وليست عادة ابتدعها الإنسان، أما جوهر النوم وكنهه فقد حار فيه العلماء، ولقلة دخل الجسم من الحرارة أثناء النوم يتغطى المرء حين ينام). إلا أنه لم يبتعد عن الطاقة الوجدانية في عباراته تماماً، فظاهرها تقرير عقليّ علميّ وحقيقتها تعبير مشحون بالوجدان[6]، مثل: (النوم ما أحلاه، تكون فيها صحيفة ذهنه بيضاء من كل شر أو خير، يتخذ من الليل نهاراً يطلب القوت تحت ستاره في أمان).


وأما موضوعها، فمن عنوانها يتضح أنها علمية، ولكن نجد أن مقالة الدكتور زكي بالذات من المقالات العلمية الخفيفة، فيكفي أن يقرأ القارئ أول سطر فقط، حتى يجد نفسه تلقائيًّا بعد دقائق في آخر سطر من المقالة.



كما استخدم لغة ورموزاً اصطلحها علماء الأحياء، مثل: (أكسيد الفحم، الأكسجين، الأشعة، الكسوف).



عالجت قضية من قضايا العلم وهي النوم واليقظة، وهي تتصل بعلم الأحياء وتعرض ما وصل إليه العلم في هذه القضية كما في: (أما جوهر النوم وكنهه فقد حار فيهما العلماء)، فزاد من معلومات القارئ، ووسّع ثقافته، ونمّى عقله[7].



إنّ وجود هذه المقالة العلمية في مجلة أدبية يدل على نجاح وتميز هذه المجلة، فلم يمنعها الموضوع العلمي واهتمامها به أن تُكتب بنمط أدبي بديعي. وإن وُضعت في مجلة علمية، لتميزت ولَسَمتْ؛ لأنّ كاتبها جمع بين ديباجة القول والمعلومة المفيدة.



كان هذا تحليلاً عاماً سطحياً أما إذا دخلنا في التفاصيل، فإننا نجد عنوانه علمياً صرفاً، وقد ينفر القارئ من هذه المقالة أو يقلب صفحتها، إلا إذا كان عاشقاً للجانب العلمي من العلوم أو متخصصاً فيها. فلم ينجح الكاتب في اختياره من ناحية الجذب والتشويق[8]، ولكنه نجح من حيث أنه وضّح الفكرة الرئيسة[9].



أما النّمط الذي كَتبَ به الدكتور مقالته فهو خليط بين نمطي الزخرفة البديعية، ونمط الترسل. وتمثَّل نمط الزخرفة البديعية في أول مقالته فقط (المقدمة)، كصيغ التعجب والطباق والسجع والجناس والتشبيه، واهتم أيضاً بالتوازن بين الجمل. وإذا قلنا إن بقية المقالة ترسّلَ فيها الدكتور زكي؛ فلأنه انطلق برحابة فكره وسعة مجال تعبيره عن معلوماته وومضات ذهنه مع ما يتطلب ذلك من زهد في البديع[10].



وإذا أخذنا كل جزء من المقالة بالنقد والتحليل، فإننا نجد مقدمتهُ التي تبدأ من: (النومُ ما أحلاه!.. إلى ليعود إلى ما كان عليه في أمسه) مشوقةً جداً – وإن لم تكن موجزة – فإذا لمح القارئُ العنوان ثم قرأ أول سطرٍ؛ تفاجأ وتوقع أن يكون العنوانُ خاطئاً فالعنوانُ علميٌّ والمقالة أدبية. كما أنه جعل توقع القارئِ وأحاسيسه تتلون، فقد يظنُّ القارئُ أن الكاتبَ سيمثلُ دورَ وسنانٍ مشتاقٍ للنوم منذ سنوات، أو أن يخافُ من حلاوة النومِ –بما أن لذة النومِ مسلَّمٌ بها–، فيُؤنبُ نفسه، ويطلقُ الأيمان المغلظةَ على ألا يشعُرَ بلذة النومِ بعد الآن، حتى يكملَ بقية الموضوعِ فيجده موضوعاً علمياً بحتاً... بذلك شوقَ القارئَ إلى إكمالِ موضوعه.



أما العرض –الذي يبدأ من قوله: "غريبٌ فعلُ هذه الشمس... إلى قوله: لأنهم لم يجمعوا على إحداها"– فنجده خالياً من الزخرفةِ، لا يخرجُ عن إطار الحقائق العلمية، والتحليل، وإيراد الأمثلة التوضيحية، والحسابات.



أما خاتمته - التي تبدأ من: "وقد حاول قومٌ في عصر المحاولات الغريبة... حتى قوله: واحتراق الفتيل) – فنجدها موجزةً، طريفةً، ساخرة، تتحدثُ عن المحاولات في الاستغناءِ عما كان يتحدثُ عنهُ، وعن فضائلهِ، وحاجةِ الإنسانِ إليه في كلِّ تلكَ المقدمةِ والعرض السابقين. وإن كنا ننتظرُ نتيجةً في آخر المقالةِ فإنهُ أقرَّ بأهميةِ النومِ، وألا يحاولَ أيُّ إنسانٍ يأكل ويشرب، ألاّ ينام".



وإذا حاولنا أن نعرفَ أي نوعٍ من الناس يكونُ الدكتور زكي فلن نستطيعَ؛ لأن المقالة موضوعية[11].



كانت فكرته الأساسية واضحة. وقد نجَح بل تميزَ في وحدةِ بناء المقالة، أي الربطُ بين المقدمة والعرضِ والختام. وابتعدَ عن الحشوِ[12].



كما أنه لم يستطرد في موضوعه، فقد كانت كلُّ المواضيعِ – وإن تنوعت – متلازمة، كحديثه عن الشمسِ، والأحلامِ، وزيادة الأكل[13].



أما فنونُ البلاغة التي وردت في المقالة فيمكن أن نوردَ اسم الفنِّ ومثالاً عليه:


التعجب: (النومُ ما أحلاه! - النومُ، ما أروحه!).

السجع: (القيام – الآلام، العظمى – الكبرى، رجلان - عينان).

الطباق: (صحيح – غافل، مبدأ – منتهى).

الجناس: (تعذَّرَ عليه القيام – سرى السقامُ في عظامهِ بصنوفِ الآلام).

وكلُّ هذا كان في المقدمة، وكانَ في فن البديع.

كما حوّلَ النومَ (المعقول) إلى جثةٍ (محسوسة): فهو جميلٌ، ونفيسٌ، ومريح، وهذا تشبيه من علمِ البيان.




((يتبع: 3/4 إن شاء الله)).




ــــــــــــــــــــــــــــ

[1] د.علي مصطفى مُشَرّفة (1316-1369هـ):

علي بن مصطفى بن عطية بن جعفر، من آل مشرفة ، ويعرف بالدكتور علي مصطفى مشرفة باشا: باحث بالفلسفة والرياضيات، مصري. من كبار رجال التربية والتعليم. ولد في دمياط، وتخرج بمدرسة المتعلمين العليا بالقاهرة، ثم بجامعة نوتنجهام ، فالكلية الملكية بلندن. ولقب دكتورًا في الفلسفة والعلوم. وألّف من الكتب: "النظرية النسبية الخاصة" و"نحن والعلم" . توفي بالقاهرة. ولسكرتيره أحمد سباق كتاب "الدكتور علي مصطفى مشرفة" في ترجمته وما قيل في تأبينه. الأعلام للزركلي ج5.

[2] انظر: المقالة الأدبية، ص59.

[3] انظر:السابق ، ص55.

[4] التحرير الأدبي: ص202، نقلاً عن البلاغة والتحليل الأدبي، أحمد أبو حماقة.

[5] د.أحمد زكي أبو شادي (1309-1374هـ):

أحمد زكي بن محمد بن مصطفى أبي شادي: طبيب جراثيمي، أديب، نحال، له نظم كثير. ولد بالقاهرة. وتعلم بها وبجامعة لندن. وعمل في وزارة الصحة بمصر. وكان هواه موزعًا بين أغراض مختلفة لا تلاؤم بينها: أراد أن يكون شاعرًا ، فأخرج فيضًا من دواوين مزخرفة ، ومن أسماء المطبوع منها "الشفق الباكي" و"أغاني أبو شادي" . ترجم بعض الكتب عن الإنجليزية . هاجر إلى نيويورك وقام بتدريس العربية في معهد آسيا بنيويورك. وتوفي فجأة في "واشنطن" . ولا يزال في أوراقه دواوين غير المتقدم ذكرها . الأعلام للزركلي ج1.

[6] انظر: أدب المقالة، ص 55.

[7] انظر: أدب المقالة، ص 57 – 58.

[8] انظر: التحرير الأدبي، ص 202 – 203.

[9] انظر: المقالة الأدبية، ص 59.

[10] انظر: فن المقالة الذاتية، ص 74.

[11] انظر: فن المقالة: د. محمد يوسف نجم، ص 123.

[12] انظر: فن المقالة: د. أبو إصبع، د. عبيدالله، ص130.

[13] انظر: رجل الصناعتين، ص 238.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 15-02-2021, 05:00 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فن المقالة في العدد الأول من مجلة الرسالة

فن المقالة في العدد الأول من مجلة الرسالة (3-4)


شفاء محمد خير يوسف




الفصل الثالث:



المبحث الأول.. المقالة الأدبية:
سنعرّف أولاً المقالة الأدبية، ثم سنطبّق هذا التعريف على أنموذج من المجلة، حتى يتّضح هذا النوع من المقالات للقارئ الكريم.

المقالة الأدبية كما يعرّفها الدكتور عطاء كفافي: تعرض ما خطر للكاتب بأسلوب جميل يثير الخيال، وغرضه المتعة النفسية، إلى جانب توفر عنصر العاطفة، مع وجود الأفكار، ووضوح شخصية الكاتب، وهذا ما يميزه عن المقالة العلمية[1].


وسنتناول -بإذن الله– مقالة (مصر في دورة الفلك) لكاتبها: د. محمد عوض محمد[2]، أنموذجًا لهذا النوع من المقالات.


عند دراستنا للقطعة الأدبية-دراسة تحليلية- نجزئ العمل الأدبي إلى شكل ومضمون، أما الشكل فمثل المحسنات البديعية، وأما المضمون فكما سنذكر لاحقًا الحديث عن عاطفة الكاتب وما إلى ذلك.. وقد يلاحظ القارئ الكريم أن طريقة تحليلي لهذه المقالة -ولبقية المقالات- هي أن أربط الشكل بالمضمون، فلن أشق المقالة إلى شقين منفصلين تمامًا بأن أذكر التحليل الشكلي وحدَه والمضموني وحده؛ لأنهما متلازمان.


نستطيع أولاً أن ندرك أن أسلوب المقالة ذاتي؛ لتجلّي شخصية الكاتب فيه، وللأسباب التي ذكرتها في الفصل الأول.. ونستطيع أن نلاحظ أن الكاتب تجاوز حدود الذاتية إلى آفاق وطنية، في إطار من حسه المرهف[3]..


أما موضوعها فنجد أنه امتزج فيها الموضوع الأدبي بالتأملي، أدبي للأسباب السالفة الذكر في مقدمة المبحث، وتأملي لأن الكاتب –كما يقول د.محمد يوسف نجم في التعريف بالمقالة التأملية-: بعدما عَرَضَ لمشكلة صرْفهِ فكره عن مصر، "درسها درسًا من وجهة نظره الخاصة، بنظام خاص به"[4].


نفصّل الآن في تحليل هذه المقالة ونقدها:

من حيث العنوان: نجح الكاتب في اختيار العنوان الجذّاب لأن فيه شيئًا من الخيال، والتشويق، وشحذ توقع القارئ. وقد ساعد على نجاح اختياره للعنوان، ابتعاده عن العناوين التقليدية والعلمية الصّرفة[5]. وينبغي التوضيح هنا أن العنوان لم يوضِّح الفكرة الرئيسة[6]، فلم يُفهم منه الموضوع إلا بعد قراءة النص الذي اقتبس منه الكاتب عنوانه وهو "أيُّ أصبع قد أدارت الفلك تلك الدورة الهائلة".

أما النمط الذي استخدمه الدكتور في مقالته، فخليط من نمط الزخرفة البديعية ونمط الترسل؛ لأنه اهتم بالزخرفة الشكلية فوظف السجع، والطباق، والترادف، والتشخيص، واهتم بالتوازن بين الجمل، وهذه من ميزات نمط الزخرفة البديعية. ونجد الكاتب كذلك ينطلق بأسلوبه، ورحابة فكره، وسعة مجال تعبيره عن خطرات النفس ودفقات القلب..وهذا يخص نمط الترسل[7].


نأخذ الآن كل جزء من المقالة بالتحليل، فقط لغرض الدراسة النقدية[8]:

المقدمة: وتبدأ من قوله: (على الرغم مني.... إلى: غير ذكرك)، مهّد الكاتب لموضوعه بمقدمة قصيرة، يبين فيها عدم رغبته في التفكير في بلده مصر، وقد برز فيها عنصر الجذب والتشويق؛ لأنه عبّر عن مشاعر سلبية تجاه الوطن، بعكس ما يشعره المواطن عادة تجاه وطنه، وكأنه يشكو لصديق له ما به، بذلك استعد القارئ لاستيعاب الموضوع.

العرض: وهو جوهر المقالة، ويبدأ من: (ولماذا أصرف فكري عنكِ.... إلى: لتكذيبهم)، وفيها أطلَق العنان لمشاعره، فأخذ يسرد أسباب محاولتِه صرفَ فكره إلى غير مصر، على شكل عتاب، فهو يحبها لكن تغيُّرها إلى الأسوأ هو السبب في خشيته من التفكير فيها؛ حتى لا يظل أبدًا مقطب الجبين..


ومما يمكن أن يؤثّر في القارئ في هذا المقال، وصفه لما آلت إليه مصر، وذكر الشواهد على عظمتها، وحضارتها في القديم، وعقد مقارنة بين مصر القديمة العظيمة ومصر الآن مكسورة الجناح.


أما الخاتمة، والتي تبدأ من قوله: (أي مصر..... إلى قوله: فما أقساه)، ففضّل الكاتب أن يختم مقالته بذكر مقولة مألوفة وفطرية بين الناس، وكأنه يدلّل على أن شموخ مصر كان مألوفًا، ويتساءل الآن عن غير المألوف، وهو تحطم حضارتها، وذلها بعد أنفتها، ويتساءل أخيرًا: هل سيستمر هذا الهوان؟ ..


وإن كان في قوله: "إن كان هذا حكم الدهر فما أجوره"! تجاوزًا دينيًا؛ لأن الله تعالى هو الدهر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر). رواه مسلم[9]. ومما هو مسلّم به، أن حكم الله عادل أبدًا، ومن أسماءه العدل.


ولم يصل الكاتب إلى نتيجة شافية، والدليل أنه يظل يتساءل: هل سيستمر هذا الضعف؟ وإن أجاب على نفسه بالتضجر من استمرار هذا الحكم فقط، فهذا ليس جوابًا.


وإذا أردنا أن ندخل إلى أعماق هذا الأديب[10]، نجده من الأشخاص الثائرين الذين يعشقون الحرية، والعظمة والتطور، ويبغضون كل ما هو مخالف لذلك. والدليل على ذلك عدم استسلامه ونشره لما دار في نفسه الأبية، ثم صراحته في لهجته بأنه لا يريد أن يفكر فيها.


وتجلّت عاطفته بقوة، فقد كانت جريئة، حزينة أدت إلى التشاؤمية، وقوتها ناتجة عن إيمانه بالفكرة التي طرحها[11]، وبالتالي يمكن للقارئ أيضًا أن يقتنع ويؤمن بها. وأسلوبه في التعبير عنها غير قائم على المنطق بل على العاطفة[12].


كانت فكرته الأساسية واضحة، مؤثرة..

ونجح الكاتب في وحدة بناء المقالة، فلاءم في الانتقال بين المقدمة والعرض والخاتمة.. إلى جانب ذلك ابتعد الكاتب عن الحشو فكانت جُمله مركزة[13]...

أما الفنون البلاغية التي أوردها الأديب في قطعته فهي:

- السجع، وهو "تواطؤ الفاصلتين في النثر على حرف واحد"[14]، ويسمى بالموسيقى الداخلية، وجاء في جُمل كثيرة، منها (جمال-خيال)، (نجم-أُمم)، (خبراتك-هباتك)، (رواهم-آواهم).
- الطباق وهو التضاد، جاء قليلاً: (قريب - بعيد).
- الترادف اللغوي: (تحطّمَ –كُسر)، (ثائر الفؤاد- لا أستقر على قرار).
- التشخيص أو الأنسنة: الذي جعل القطعة تنضح بالجمال، حيث انحرف عن نموذج الكلام، وجعل مصر وكأنها شخص أو إنسان له سمع –أولًا- ثم عقل ومشاعر، ونجاحات وإخفاقات.. فيخاطبه ويعاتبه. وتتّضح الأنسنة في قوله "ألأني آلم إذ أفكر فيما تُعانين"، "كنتِ من قبل ورأسكِ يسامي النجم"، "كانت في كفك كنوز الحضارة"...وغيرها.

أما من حيث الأصوات فقد كثُرت حروف المد التي تسمح للعاطفة بالانطلاق بعكس الحروف الساكنة، حيث العاطفة الملجومة: (السنين- مريرًا- جحود- هباتك- الأبطال- مهين- ما أقساه).

وساهمت هذه الديباجة الأدبية المتناسقة في رسم لوحة من المشاعر، من حزن وضجر وعتاب وتشاؤم.

ولم يستطرد الكاتب في مقالته[15]، بل كانت الوحدة الموضوعية واضحة فيه، فلم يخرج أو لم ينتقل من موضوع إلى آخر.



وبسبب حسن اختيار الكاتب للكلمات، والاستخدام الواعي للتعبيرات، جاءت فكرته مفهومة، ثم مؤثرة. وكما ذكرنا سابقاً فالدكتور نجح في إشراك القارئ بما يشعر به.. فنتج عن قوة التأثير، والوضوح في الفكرة، صفة الجمال التي تجعل القارئ يشعر بالمتعة الأدبية[16].








(( يتبع: 4/4 بإذن الله)).





ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر: المقالة الأدبية، ص 34.
[2] د. محمد عوض محمد (1313-1391هـ)، الدكتور: عالم جغرافي مصري. من أعضاء مجمع اللغة العربية في القاهرة . تخرج بمدرسة المعلمين العليا وتخصص في الجغرافية، وحاز الدكتوراه من جامعة لندن. له مؤلفات ومترجمات منها: "نهر النيل" و"جغرافية السودان" و"هرمن ودروتيه" لجوته، نقله عن الألمانية. الأعلام: خير الدين الزركلي، ج6/220 ، دار العلم للملايين بيروت، ط4، 1979م.
[3] انظر: المقالة الأدبية، ص13.
[4] فن المقالة: محمد يوسف نجم، ص118.
[5] انظر: المقالة الأدبية، ص59.
[6] انظر:فن المقالة الذاتية، ص74.
[7] انظر: السابق، ص259-260.
[8] انظر: المقالة الأدبية، ص55-56.
[9] رقم الحديث:5827. كتاب الدعاء: 1/565 .
[10] انظر: فن المقالة: د. محمد يوسف نجم، ص123.
[11] انظر: المقالة الأدبية، ص20.
[12] انظر السابق : ص14.
[13] انظر: فن المقالة: أ.د.صالح أبو إصبع-د.محمد عبيد الله، ص130، دار مجدلاوي، عمّان، ط1،2002م.
[14] بغية الإيضاح: عبد المتعال الصعيدي، ص81، مكتبة الآداب، القاهرة، طبعة 1999م.
[15] انظر: رجل الصناعتين: عبد الله الرشيد، ص238، مكتبة التوبة، الرياض، ط1، 1415هـ.
[16] انظر: المقالة الأدبية، ص51-52.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 15-02-2021, 05:01 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فن المقالة في العدد الأول من مجلة الرسالة

فن المقالة في العدد الأول من مجلة الرسالة (4-4)


شفاء محمد خير يوسف




* المبحث الثاني .. المقالة الاجتماعية:



المقالة الاجتماعية واضحة ويستطيع القارئ أن يميزها بسهولة عن غيرها من المواضيع، وسأعرّفها حتى يطبّق القارئ نموذج المقالة الذي اخترناه على هذا النوع:
يحدد لنا الدكتور ربيعي عبد الخالق بحدّ شامل في كتابه (فن المقالة الذاتية) المقالة الاجتماعية بأنها التي "انطلقت وراء مغزى اجتماعي تنشد غاية نفعية، تدل على سمو الذات التي لا تتوقف عند (الأنا)، فتجتر آلامها وملذاتها فقط، بل تتسع في حسها ونفعها، ولذا فقد تصدت المقالة الذاتية في ايجابية للعيوب الاجتماعية وقضايا الحياة ومشكلاتها في مواجهة نشطة فعالة تنشد التقويم والإصلاح، حيث انغمس الكتاب في قومهم معبرين من منطلق معاناتهم الفعلية وتضامنهم الواقعي وانتمائهم الاجتماعي عن الآلام والآمال، يحددون بلسان صدق الأدواء ويصفون في تعاطف وإشفاق الدواء، حرصاً على إصلاح ما فسد وتصحيح مسيرة من انحرف[1]".

وسنتناول مثالاً على هذا النوع مقالة (حلقة مفقودة) لمدونها الأستاذ أحمد أمين[2].

نلاحظ أولاً أن أسلوب المقالة ذاتي، مع أني أعلم أن كثيراً من قرائها يعدّونها موضوعية؛ بما أن عاطفة الكاتب لم تظهر جلية، بل كانت حيادية، ولكننا إذا أمعنّا النظر في اختياره لموضوعه - وهو في رأيه مشكلة اجتماعية - فهذا ينبئُ عن إنسانية ورقة ورهافة حس عظيمة، بأن استثارتْهُ الحميّة على مجتمعه، - وهذا ناتجٌ عن حبه له، ثم دقة تأمله فيه - فنبّه هذا المجتمع وسهَّل عليه الطريق للانطلاق نحو الأفق.

أما موضوعها فهو اجتماعي، للأسباب السالفة الذكر... كما أن الدكتور ربيعي اعتبر المقالة الاجتماعية متفرعة من المقالة الذاتية في الصفحة نفسها.

إن كانت الأسطر السابقة وصفت المقالة الاجتماعية بأنها تتناول العيوبَ والآلام والآمال، فإن الأستاذ أمين يسعى في مقالته إلى التطوير - أي الجانب التكميلي - حتى يَظهر مجتمعه في أبهى حال، ليس الجانب التأسيسي من دعوة إلى التعليم في مجتمع جاهل؛ لأن المجتمع المصري مجتمع متعلم كما يوضح في مقالته قوله: "إن أكثر من عندنا قومٌ تثقفوا ثقافةً عربية إسلامية بحتة"، فقط أن يعالج جانب: "وهم جاهلون كل الجهل بما يجري في العصر الحديث من آراء ونظريات...".

نجد أن الكاتب حدّد المشكلة أولاً عندما قال: "في مصر حلقة مفقودة.... إلى أن قال: ولا نسلك الطريق إلا على ضوئهم.."، ثم شرحها شرحاً وافياً تحليلياً فقارن بين من يريدُ - الكاتب - أن يجمعوا بين الطائفتين وهما: الأولى: الذين لم يستطيعوا فهم روح العصر ولا لغته، وإنما التزموا بالقديم في كل العلوم. الثانية: من ضَعُفت ثقافتهم العربية الإسلامية ولم يستطيعوا التأليف ولا الترجمة. ثم يوجدُ هذه الحلقة المفقودة مقارنة فيها شيءٌ من العتاب، ثم ذكر النتائج السلبية للمشكلة وهي سبب كتابته للمقالة، ثم وجد أن الحل يكون بالعمل على إيجاد هذه الحلقة وبيَّنها مفصلةً مرتبة. ثم توقع أو تخيل النتائج الإيجابية التي ستظهر بعد تطبيق الحل المقترح سابقاً كما ظهرت عند من استشهد بهم مثل رفاعة باشا والسيد محمد إقبال، فطارَ صيتهم ونهضَ مجتمعهم.

إذا صحّ أن نطلق على عنوان المقالة أنه عنوان نفيس فهو كذلك، فكاتب هذا العنوان يقدّر هذا الشيء الضائع لدرجة أنه كتب عنه مقالة طويلة عريضة، موضّح للفكرة الرئيسة[3]، ولابد أنه أثار اهتمام القارئ[4]..

النمط المستخدَم في المقالة هو نمط الترسل[5]، حيث الزهدُ في ألوان البديع حرصاً على انطلاقة الأسلوب وسعة مجال التعبير عن خطرات النفس.

نتناول الآن أجزاء المقالة الثلاثة بالدراسة والنقد:

المقدمة: وتبدأ من قوله: "في مصر حلقة مفقودة..... إلى: ولا نسلك الطريق إلا على ضوئهم"، موجزة. بدأها بتشويق بالغ، خصوصًا للمصري، خاصة أنه أشعرَ القارئ بخفائها، فأثار بذلك فضول القارئ ليجد شفاءً لهذا الفضول بعد أسطر قليلة. كما جعل الكاتبُ القارئَ يشعر أولاً أن هناك مشكلة خفية، تحتاج إلى حلٍّ عاجل، ثم عرّف بها بوضوح.

العرض: ومطلعه: "إن أكثر من عندنا قوم تثقفوا.... إلى قوله: كما يعرض الأوربي فلسفة قومه شيّقة عذبة لذيذة"، يشعر القارئ أثناء قراءته للعرض بحرص الكاتب على تطوير مجتمعه بإفهامه المشكلة، فتارة يضرب أمثلة توضيحية، وحينًا يقارن بشكل عام بين الطائفتين المذكورتين آنفًا، وتارة يسرد نتائج المشكلة حتى يثير غيرة القارئ على هذا المجتمع وعلى الإسلام، وتارة يتخيل أن المشكلة قد حُلت، فيصف المجتمع في حالته البهية التي يريدها.

الخاتمة: وهي من قوله: "إنما يتغذى الشرق بهذا.. إلى ويوم يُلوى الخطان المتوازيان فيلتقيان"، قصيرة، وكأن الكاتب خصّصها ليثبت في نفس القارئ أمنيته بالتحديد، فيجب أن تكون في العالم العربي وباللغة العربية- لأن هذه الحلقة وُجدت باللغة الإنجليزية- ولخّصها بأن تحيي هذه الحلقة آثار الأولين بأسلوب الآخرين، ومثّلهما بالخطين المتوازيين.

ولأن ما يتحدّث عنه الكاتب يُعد أمنية، فلم يصل في خاتمته إلى نتيجة أو حلٍّ لمشكلته..

وإذا التفتنا إلى جانب العاطفة عند الكاتب، فسنجده غيورًا على وطنه "في مصر حلقة مفقودة"، وعلى دينه عندما يتحدّث عن نوابغ خريجي المدارس العصرية والبعثات، فضعُفت ثقافتهم العربية والإسلامية، وعلى لغته عندما قال: "ولكن الهنود يعرضون - وا أسفاه - ذلك باللغة الإنجليزية، فلا يغذّون جمهورنا..". وإن كاتبنا من الشخصيات المبدعة أيضًا، التي تبحث عن الجديد، حيث إنه فكّر في إيجاد طائفة جديدة من العلماء، تتلاقح مع الطوائف الأخرى المعروفة[6].

نجح الكاتب في وحدة بناء المقالة، فلاءم في الانتقال بين المقدمة والعرض والختام.. لكنه كان بإمكانه أن يوجز كلامه؛ لأنه يظهر فيه بعض الحشو، مثلاً وصفَ طائفتي خريجي الأزهر وخريجي المدارس العصرية مرتين بشكل منفصل، فذكر الصفات عينها مكررة[7]. كما لم نلاحظ على القطعة استطرادًا أبدًا..

أما الفنون البلاغية، فلم يكثر منها؛ لأن التزيين في الجمل يُذهب جدِّيةَ الفكرة والرغبة في تطبيقها، ولكن نجدُ أن هذا العنوان والقطعة كلها قائمة على تشبيه الجهة التي تقومُ بالتوصيل بين الطرفين المذكورين المنفصلين المتناقضين، بالحلقة الرابطة بين شيئين ليكونا أشبه بالشيء الواحد فنتُجُ تواءم وتوافق في الأفكار.

أما من الناحية الصوتية، فحركة حروفه لم تسكن ولم تهدأ؛ لأن عاطفته لا تسكن حتى تحقق ما تريد.

نستطيع أخيراً أن نستنتج أن الأستاذ أمين لن يشرك معه أي قارئ إنما القارئ النشيط المتحمس للعلم والإسلام والإبداع.

* المبحث الثالث.. المقالة النقدية:

هي التي "يُعنى فيها الكاتب بوضع تصميمٍ دقيق وخطة محكمة لِما يكتب، حتى لا يضِل قارئهُ السبيل، ولابد في هذا النوع من المقالة أن يكون لها مقدمة وعرض وخاتمة وخطة يسير عليها ويصل إلى نتائج في النهاية، وتعتمد على قدرة الكاتب على تذوق الأثر الأدبي أو مناقشة القضية التي يعرض لها ثم تعليل الأحكام وتفسيرها وتقويم الأثر بوجه عام"[8].

وسندرس مقالة (العبقرية والقريحة) للأستاذ أحمد حسن الزيات[9]، دراسة نقدية، وقد اخترناها هنا لأجل ارتباطها الوثيق بالنوع المخصص لهذا المبحث.


سأذكر في الأسطر القادمة سبب تصنيفي للمقالة من حيث أسلوبها وموضوعها معاً...

أسلوب الكتابة في هذه المقالة ذاتي - وسأذكر الأسباب لاحقاً - مع أن الدكتور عبدالعزيز شرف[10] يرى أن المقالة النقدية تتفرع من الكتابة بالأسلوب الموضوعي، مع أني لم أتعرف إلى الآن إلى سبب تصنيفه هذا؛ ذلك أن الناقد الماهر هو الناقد المحايد، الذي لا يشرك في نقده رأيه الخاص، وهناك ناقد لا يستغني عن إشراك رأيه وانطباعه الخاص في نقده، فبذلك يمكن لنا أن نصنّف المقالة النقدية الانطباعية ضمن الذاتية والمقالة المحايدة ضمن الموضوعية.

مقالة الأستاذ الزيات تنضح بالذاتية؛ وقد يكون السبب أنه اتخذ جانباً واحداً من النقد وهو ذكر مواطن الجمال والقوة بشكل وضحت فيه شخصيته وهواه، حيث أورد كلمات تدل على الحزن "فجيعة الشعر العربي"، والهتاف والعظمة "لأنها إلى الهتاف بالعظيمين أقرب" والإعجاب "تجد أول ما يبهرك منه لفظه المونق"، أي ليس ذكر مواطن الجمال مجردةً من مشاعره ورأيه الخاص. لأنه قد يأتي ناقد آخر ويعارضه تماماً، هذا دليل على أنه أشرك فيه هواه ولم يكن محايداً، حيث إن من شروط الأسلوب الموضوعي الخلو من اختلاف النظرات الفردية الخاصة كما ذكرنا في الفصل الثاني للبحث. ولكنه استخدم مصطلحات نقدية معروفة بين نقاد الأدب مثل "يحسن الصوغ - يجيد السبك - ومن خصائصها الوضوح والاتساق والأناقة والسهولة والطبعية والدقة".

وقد ذكرت أنها نقدية لأنها اعتمدت على قدرة الكاتب على تذوق الأثر الأدبي أو مناقشة القضية التي يعرض لها، وهو هنا يعلل الأحكامَ ويفسرها. وكانت خطته منسقة مرتبة حيث بيَّن أولاً أن لكل من الشاعرين حافظ وشوقي طريقته، ثم شرح الفرق بينهما، وعرّف بهما من حيث العاطفة الشعرية ثم شكْل القصيدة ثم البناء ثم التسلسل ثم وحدة الهاجس[11].

وأغلب الظن في سبب تركيزه على الجانب الإيجابي في تحليله ونقده، قرب وفاتهما، فرأى أن ذكر محاسنهما: "تمهيد لأسباب الحكم الصحيح"، ربما يكون لقصر مجال التعبير في المجلة علّة لهذا أيضًا.

أمّا إذا التفتنا إلى العنوان "العبقرية والقريحة"، فسنجده مباشرًا، موضّحًا للفكرة الرئيسة، فأكثر ما يميزه إثارة انتباه القارئ، وجعْله يحاول التفريق بين شيئين معنويين مخفيين، يَصعُب التفريق بينهما[12].

ومن حيث النمط: فضّل الناقد أن يزخرف نقده لمن يعظّمه ويروق له. وتظهر الزخرفة في استخدامه الفنون التالية: التشبيه - الطباق - الجناس - السجع. لأنه لم تكن غايته النقد الموضوعي الذي يخلو من التزيين.

وإذا تناولنا المقدمة والعرض والختام للنقد والتحليل فإننا نجد المقدمة، التي تبدأ من: (فجيعة الشعر العربي... إلى قوله: وتمهيد لأسباب الحكم الصحيح): موجزة، معبّرة عن تواضع وحسن أخلاق هذا الناقد الذي نحّى عبقريته في النقد جانباً أمام موت شاعرين، فلم يذكرهما إلا بكل خير، تعريفية حتى إذا كان القارئُ ينتظر من هذا المقال نقداً للشاعرين فإنه يصرِّحُ بأنه يهتف بهما الآن فقط ليمهد بعد فترة لأسباب الحكم الصحيح. ولمحب الجمال وعالمه، والنقد وعالمه انجذابٌ نحو بقية المقال لأن الكاتب وعَد القارئ أنه لن يذم أو يهجو الشاعرين.

وإن كان في قوله: (وليس مما يزكو بالمنصف أن يجشِّمَ نظره رؤية الحق من خلال الدموع فإن في ذلك اعتداءً على العقل) مبالغة أو هي بلاغة راعى فيها مقتضى الحال أو هي مثالية أخلاقية.

أما العرض وهو من: (شوقي شاعر العبقرية.. إلى قوله: من أبيَن خصائص حافظ). اكتفى بنقدهما من غير ذكر شواهد فلم يشرك القارئ معه في الحكم عليهما؛ يبدو أنه فعل ذلك لأنهما مشهوران فلا حاجة لذكر شيء من شعرهما. وانطلق يسرد بسلاسةٍ مواطنَ التأثير والجمال بتحليل ودقة عجيبين وعبّر عنهما بأجمل الكلمات وأسهلها.

الخاتمة: تبدأ من قوله: (وهنا نحجز القلم.... إلى: ثم ترك بعدهما رسالة الشعر عرضة للشعوذة والجمود)، قصيرة، أعلن فيها توقف قلمه عن ذكر أي شيء قد يسيء إليهما، فقد عاد فيها إلى الحزن كما بدأ في مقدمته بالحزن. ثم إطلاق صراح الدموع لتنطلق حزناً عليهما. ووصل به شدة الحزن أن يصف الشعر بعدهما بالشعوذة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

ونستطيع أن نقول إن النتيجة التي توصل إليها أنه لن ينظم أحدٌ الشعر مثلما نظم شوقي وحافظ.

أما الأستاذ الزيات نفسه، فعقليته عقلية ناقدة دقيقة محللة، حيث استطاع كشف الفروق الدقيقة بين نظمهما بنجاح. وتجلت هذه الشخصية بقوة في قطعته هذه.

فكرته الأساسية كانت واضحة... استطاع أن يربط المقدمة بالموضوع بالختام، من حيث وحدة الموضوع لكنه فصل بينهما، بحيث جعل المقدمة محددة تبدأ وتنتهي بكلمات تنبئ أنها مقدمة، ثم بدأ العرض بكلمات يستطيع القارئ بسهولة أن يدرك أن هذا عرض، ثم أنهى بخاتمة يتضح أنها خاتمة لحديثه. ومن الجيد أنه لم يستطرد في مقالته، ولم يكن في مقالته حشو.

والفنون البلاغية التي زيّن بها الكاتب قطعته هي كالتالي:

- الأنسنة (التشخيص): أنسن الكاتب الشعر وشخّصه في قوله: (فجيعة الشعر العربي في حافظ وشوقي يعز عليها الصبر).
- الطباق: تلازم - تنفك، يعلو - يسفل، سبّاق - محاقر متخلف، الجليل - التافه الوضيع.
- السجع: يحييه - يقويه، نفسك - ذهنك.
- الجناس: (فيبعث فيه من روحه ما يحييه - ومن حرارته ما يقويه)، (وليس لها أثر في نفسك - ولا صورة في ذهنك).
كما بثّ في مقالته كلمات فيها غرابة مثل: (يشخب- لزكانته).

لقد أتت هذه المقالة بمثابة كلمة تأبينية من تقديم رجل ذي قلم بارع.. فإذا ضُبطت هذه الكلمات بوزن وقافية لكانت قصيدة رثاءٍ تردّد فيهما عند تذكرهما.

الختام ...

تم عملي في هذا البحث، بحمد الله، وأرجو من الله أن يتقبله خالصا لوجهه الكريم.
وبعدُ فقد كان اختياري لهذا الموضوع بمثابة تحدٍّ لنفسي، فقد كنت أستبعد تمامًا أن أحكم على نصّ أدبي، وأبين المناقب، وأنبه على المثالب... وبالأخص إذا كان نقدًا لبعضٍ من أكبر الأدباء العرب المعاصرين.

ولكنّي أرجو أن أكون قد حقّقتُ الهدفين التاليين:

1- تحقيق النجاح في تحديّ لنفسي، وإن كان نقدي بسيطًا.
2- أن يُفيد منه المبتدئون في مجال النقد، لمعرفة بعض الأسس التحليلية التي جمعتها من كتب كثيرة، وصفحاتٍ متفرّقة.

ثبت بأهمّ المراجع:

1- أدب المقالة: د.عبد العزيز شرف، مكتبة لبنان والشركة المصرية العالمية، ط1، 1997م.
2- الأعلام : خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، ط4، 1979م.
3- سلسلة اقرأ،367 ، 1981م، أحمد حسن الزيات ومجلة الرسالة: د.علي محمد الفقي.
4- بغية الإيضاح:عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب، القاهرة، طبعة 1999م.
5- التحرير الأدبي: د. حسين علي محمد، مكتبة العبيكان، الرياض،ط5، 1425هـ.
6- رجل الصناعتين: عبد الله الرشيد، مكتبة التوبة، الرياض، ط1، 1415هـ.
7- الزيات والرسالة: د.محمد سيد محمد، دار الرفاعي، الرياض، ط1، 1402هـ.
8- فن المقالة: أ.د.صالح أبو إصبع- د.محمد عبيد الله، دار مجدلاوي، عمّان، ط1، 1422هـ.
9- فن المقالة:د. محمد يوسف نجم، دار بيروت، بيروت، ط2، 1963م.
10- فن المقالة الذاتية: د. ربيعي عبد الخالق، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، ط1، 1988م.
11- المقالة الأدبية: د. عطاء كفافي، هجر للطباعة والنشر، مصر، ط1، 1985م.


ـــــــــــــــــــــ
[1] فن المقالة الذاتية: ص 128 - 129.
[2] أحمد أمين (1295 - 1373هـ) هو أحمد أمين ابن الشيخ إبراهيم الطباخ. عالم بالأدب، غزير الاطلاع على التاريخ، من كبار الكتاب. مولده ووفاته بالقاهرة. تخرج بمدرسة القضاء الشرعي، كان من أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق، بلغت مقالاته في المجلات والصحف ولاسيما مجلتي الرسالة والثقافة عشرة مجلدات جمعها في كتابه "فيض الخاطر"، ومن تآليفه المطبوعة: "فجر الإسلام". تتمة الأعلام للزركلي ج1.
[3] انظر: فن المقالة الذاتية، ص74.
[4] انظر: المقالة الأدبية، ص60.
[5] انظر: فن المقالة الذاتية، ص 260.
[6] انظر: فن المقالة، د.محمد يوسف نجم، ص123.
[7] انظر: فن المقالة، د.أبو إصبع ود.عبيد الله، ص130.
[8] التحرير الأدبي: د. حسين علي محمد، مكتبة العبيكان، الرياض، ص 185.
[9] أحمد حسن الزيات (1302-1388هـ): صاحب "الرسالة". أديب من كبار الكتاب، مصري ، ولد بقرية كفر دميرة القديم، في طلخا، ودخل الأزهر قبل الثالثة عشرة، وفصل قبل إتمام دراسته. علّم العربية في مدرسة "الفرير" نحو سبع سنوات. أقام ثلاث سنوات في بغداد صنف فيها كتابه "العراق كما عرفته" واحترق الكتاب قبل نشره. وعاد إلى القاهرة، فأصدر مجلة "الرسالة" سنة 1933-53 ثم إلى جانبها "الرواية" وأغلقهما. وانتخب عضوًا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة. وتوفي بالقاهرة. وأول ما علت به شهرته كتاب "تاريخ الأدب العربي". وترجم عن الفرنسية "آلام فرتر" لجوته. كان من أنصع كتاب العربية ديباجة وأسلوبًا. الأعلام للزركلي ج1.
2 انظر: أدب المقالة، ص 58.
[11] انظر: التحرير الأدبي، د. حسين علي محمد، مكتبة العبيكان، الرياض، ص 185
[12] انظر: المقالة الأدبية، ص60.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 134.13 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 130.99 كيلو بايت... تم توفير 3.14 كيلو بايت...بمعدل (2.34%)]