الأربعــون الوقفيــة - الصفحة 2 - ملتقى الشفاء الإسلامي
اخر عشرة مواضيع :         انشودة يا أهل غزة كبروا لفريق الوعد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 28 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4421 - عددالزوار : 859134 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3953 - عددالزوار : 393465 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12535 - عددالزوار : 215751 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 73 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 57 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 58 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 59 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 55 )           »          اضطراباتي النفسية دمرتني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 57 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث

ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #11  
قديم 02-03-2024, 08:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,061
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأربعــون الوقفيــة

الأربعون الوقفية (11)



جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقل، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وغيرها، وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاما وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها. أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملا, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا.
والحديث الحادي عشر فيه بشرى للعاملين في نشر ثقافة الوقف، فكلما وقف واقف، وكلما أسهم مسلم في الوقف، كان للداعي له والدال عليه الأجر المستمر ما دام الوقف جارياً.
الحديث الحادي عشر
الوقف إحياء سنة
عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المُزني، حدثني أبي عن جدي؛ أن رسول الله [ قال: «من أحيا سنة من سنتي فعمل بها الناس، كان له مثل أجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شيئا، ومن ابتدع بدعة فعمل بها، كان عليه أوزار من عمل بها لا ينقص من أوزار من عمل بها شيئا»(1).
الحديث بوب له ابن ماجه باباً أسماه: «باب من أحيا سنة قد أميتت»، قال السندي في شرح سنن ابن ماجه: ‏«قيل المراد بالسنة ما وضعه رسول الله [ من الأحكام وهي قد تكون فرضا كزكاة الفطر وغير فرض كصلاة العيد وصلاة الجماعة وقراءة القرآن من غير الصلاة وتحصيل العلم ونحو ذلك، وإحياؤها أن يعمل بها ويحرض الناس ويحثهم على إقامتها”(2).
وفي الحديث بيان أن من كان أصلاً في عمل من أعمال البر والخير والهدى، وتبعه عليه غيره، كان له أجر هذا العمل وثوابه، وإحياء سنة الوقف الذي أرشد النبي محمد [ صحابته إليه، وحثهم عليه، وفعله بنفسه حين أوقف أراضي مخيريق، إحياء لسنة النبي [، وإحياء لأحكامه وفقهه فضائله ومقاصده.
ونشر ثقافة الوقف دعوة إلى الهدى، قال [: «من دعَا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا يَنقص ذلك مِن أجورهم شيئا «(3). وقال [: «من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله» (4).
قال النووي في شرحه للحديث: «فيه فضيلة الدلالة على الخير والتنبيه عليه والمساعدة لفاعله، والمراد بمثل أجر فاعله، أن له ثواباً بذلك الفعل كما أن لفاعله ثواباً، ولا يلزم أن يكون قدر ثوابهما سواء»(5).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: ولهذا كان المبتدئ بالخير والشر، له مثل من تبعه من الأجر والوزر، كما قال النبي [: “من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً”؛ وذلك لاشتراكهم في الحقيقة؛ وأن حكم الشيء حكم نظيره، وشبه الشيء منجذب إليه، فإذا كان هذان داعيين قويين فكيف إذا انضم إليهما داعيان آخران؟ وذلك أن كثيرا من أهل المنكر يحبون من يوافقهم على ما هم فيه، ويبغضون من لا يوافقهم، وهذا ظاهر في الديانات الفاسدة من موالاة كل قوم لموافقيهم، ومعاداتهم لمخالفيهم” (6).
وسنة الوقف النبوية الشريفة هي من أعظم نعم الله عز وجل على أمتنا؛ إذ لم تترك مجالا من مجالات الحياة إلا طرقته، ووفرت من الموارد ما يكفل استمرارية الصرف وفق شروط الواقفين، مما وفر المناخ الملائم لنشأة الحضارة الإسلامية التي أشرقت على العالم قرونا عديدة، ومهمة إحياء سنة الوقف مثلت أحد الأهداف الاستراتيجية للأمانة العامة للأوقاف منذ نشأتها(7).
وإحياء سنة الوقف ونشرها وترسيخها في الأمة هو استئناف لمسيرة الحضارة الإسلامية المجيدة ودفع للأمة إلى منزلة خير أمة أخرجت للناس، فقد جعل ديننا العظيم الرحمة الاجتماعية والتعاون الإنساني والحرص على نفع الآخرين أساساً يبنى عليه تقويم الإنسان وجزاؤه.
فالجوانب الخيرية والتطوعية – إن فعلت لوجه الله تعالى – فهي عبادة, وإن أخلصت النية، فتكون كل حركة وكل كلمة وكل جهد وكل تفكير وكل سلوك في دائرة ذلك المقصد تجارة مع الله تعالى(8).
وثقافة الوقف ثقافة غائبة، ولا سيما لدى الأجيال الناشئة والشباب، وهذا أدى إلى ضعف الأوقاف، وتباطؤ المساهمة بالجديد منها، والتطوع في مؤسساتها، فانحسر - بهذا الغياب- دور الأوقاف في الوقت الحالي بشكل ملحوظ.
فإذا أردنا المآل الأفضل للوقف الإسلامي وقطاعه المتنوع في أوطاننا، فلا بد أن نحيي سنته الغائبة بين الأجيال، وتعريفهم بأحكامه ومقاصده وأبعاده وخصائصه ومساهماته الحضارية، وتهيئتهم وتأهيلهم ودفعهم للتطوع بمؤسساته، والبذل من أجل إيجاد أوقاف تخدم الجيل الشبابي، وترعى اهتماماته وتطلعاته وآماله وتوجهه التوجيه السوي لما يصلح له دنياه ولآخرته.
والخطوة الأولى لإحياء سنة الوقف هي نشر ثقافته، ودفع عامة الناس للإسهام في مشاريعه، وتوجيه المختصين بتقديم مساهماتهم الفكرية والعلمية والعملية في إيجاد أوقاف عصرية، تواكب التغيرات والمتطلبات في المجتمعات العربية والإسلامية والعالمية.
ويتطلب ذلك تبسيط ثقافة الوقف ليستوعبها الجميع، وجعلها على مراحل ومستويات لكي يدركها العامة، فالخطاب المتخصص والأكاديمي له منابره ودراساته، ما نريده أن تكون ثقافة الوقف حاضرة مستوعبة دافعة للعمل لكسب الأجر وصلاح البلاد والعباد.
فلا يتحقق ما نصبو إليه من إحياء سنة الوقف، ورعاية المهمل منه، ونمائه إلا بزيادة الفقه والمعارف حول الوقف، وهذا يتطلب - وبشكل عاجل – وضع برامج مدروسة بدقة للتوعية بأهمية الوقف، يتنوع بها الخطاب والأسلوب والأدوات والرسائل والوسائل، ثم مراقبة تجاوب وتقبل وتفاعل الجمهور العام معها، وهل أوجدت وأحيت فيهم المبادرة والرغبة في الإسهام والمشاركة لإعادة الوقف لما كان عليه في العهود الماضية.
ثقافة الوقف لا بد أن تعم ويدرك الناس أهميتها ونتاجها، وهذا يتطلب أن تكون المؤسسات الوقفية على قدر المسؤولية، وأن تستوعب طاقات الشباب المتطوعة، وأن تدربهم وتأهلهم ليحسنوا العمل والإدارة في تلك المؤسسات، ثقافة منطلقها أن ما شرع في الإسلام يصلح الدين والدنيا، ويقود البشرية إلى ما يحقق لهم السعادة والأمان والكرامة والعزة في كل زمان ومكان، وثقافة بما حقق الوقف من استقامة حياة الناس وتوجيههم إلى ربهم وجهة صحيحة.
ونحن بحاجة إلى إحياء سنة الوقف من خلال التعريف بدوره التنموي وبتاريخه وفقهه ومنجزاته، التي شهدتها الحضارة الإسلامية حتى تاريخها القريب، ولا يتأتى ذلك إلا بتجديد الخطاب المستندإعلى أصول في نهجنا لإحياء سنة الوقف ونشر ثقافته التي ألخصها بالآتي:
1- الآيات الكريمة في كتاب الله تعالى، التي تحث على الصدقة بالعموم، ويدخل ضمنها الوقف.
2- الأحاديث النبوية في فعل النبي [ ووقف الأوقاف وحث المسلمين على الوقف والصدقة الجارية.
3- فعل الصحابة وأوقافهم الكثيرة، وتوثيقهم للوقف، وإشهادهم عليه، وحرصهم على رعايته ونظارته في حياتهم، وتحديد من يتولاه من بعدهم، والمجالات التي أوقفوا فيها.
4- كتب الفقه التي خصصت لأحكام الوقف ومشروعيته باباً مستقلاً، وأخرجت له العديد من المسائل.
5- أقوال المتقدمين في الوقف، من فقه وأحكام وخصائص وسمات ومجالات، وأكثره نفعاً.
6- دور الوقف في بناء الحضارة الإسلامية في العهود، وحماية المسلمين مع انتقاء بعض العبارات المناسبة.
7- روائع ونوادر أوقاف المسلمين، وكيف خلدها ومجدها التاريخ.
8- مقومات نجاح المؤسسات الوقفية التي تملكها الأمة حصراً، عن غيرها من الأمم.
9- إيضاح دور الغرب في رعاية الوقف وأصوله، وسن التشريعات لحمايته، وكيف أنه استفاد كثيراً من نظام الوقف في الإسلام.
10- حاجة المجتمعات المعاصرة لأوقاف جديدة (عصرية) تفي بحاجات المجتمع، وتنشيء مجالات جديدة للوقف والرعاية.
ونستخلص من الحديث فوائد منها: إن إحياء سنة الوقف إحياء لسنة من سنن الإسلام، وكل من أوقف ولو سَهمًا واحدًا يرجو برَّه وذخره عند الله فقد ساهم في إحياء سنته،
وفيه فضيلة الداعي إلى سبل الخير في الأمة وإحياء السنة التي أميت منها الكثير، وأنه على قدر الفضل العظيم الذي يحصل في نشر السنة، فإن وزر ناشر الشر والداعي إلى الضلال عظيم.
وفيه بشرى للعاملين في نشر ثقافة الوقف، فكلما وقف واقف، وكلما ساهم مسلم في الوقف، كان للداعي لها والدال عليها الأجر المستمر مادام الوقف جارياً، وأمتنا أمة عطاء، فما علينا إلا أن نحسن مخاطبة العقول، ومس الإحساس، وإدراك الحاجة.
فما أحوجنا اليوم إلى إحياء الوقف كسنة عملية حققت بتطبيقاتها ومخرجاتها للأمة التقدم والعدالة، لتكون سلوكاً يعم الأمة بأسرها، وإسهاماً في دعم حركة المجتمع والدولة باتجاه التنمية ومكافحة العوز والجهل والمرض، ودعم مؤسسات التعليم والبحث العلمي والتقني بكل مجالاته.
لا شك أن إحياء سنة الوقف الحميدة بين الناس مسؤولية جماعية، كل حسب إمكاناته وطاقته من دعاة وقضاة ومؤسسات خيرية ووقفية، ووسائل إعلام مختلفة، ومسؤولية أيضاً القطاع الحكومي والتجاري كشريك في إيصال رسالة الوقف والمساهمة في مؤسساته ودعم مشاريعه وإعلامه.
ولإحياء سنة الوقف بين الناس، لا بد أن تحييها بنفسك أولاً، ثم تنقلها إلى غيرك، فنسأل الله تعالى أن يكتب لنا الأجر في إحياء سنة قد أميتت في العديد من الأوطان والبلدان، ومن أحياها فله الأجر المستمر.

(الهوامش)
1 - صحيح سنن ابن ماجه، للألباني، باب من أحيا سنة قد أُميتت. برقم 173.
2- انظر: حاشية السندي على ابن ماجه، لأبي الحسن الحنفي المشهور بالسندي.
3 - أخرجه مسلم، برقم (2674).
4 - أخرجه مسلم، برقم ( 1893).
5 - المنهاج في شرح صحيح مسلم، طبعة بيت الأفكار الدولية، ص 1214.
6 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمــــد بن تيمية ( 28/150).
7 - د. عبد المحسن الخرافي، أمين عام الأمانة العامة، كلمته التي ألقاها ممثلا دولة الكويت في افتتاح فعاليات منتدى قضايا الوقف الفقهية الخامس، الذي أقيم في العاصمة التركية في الفترة من 13-15 مايو 2011م   = 10- 12 جمادى الآخر 1432. انظر: صحيفة القبس 15 مايو 2011م.
8 - للاستزادة: انظر: السلوك الاجتماعي في الإسلام، الشيخ حسن أيوب، ص 16. دار السلام، مصر، ط3(1427هـ-2006م).


اعداد: عيسى القدومي




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #12  
قديم 02-03-2024, 08:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,061
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأربعــون الوقفيــة

الأربعون الوقفية (12)



جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقل، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وغيرها، وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاما وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها. أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملا, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا.
والحديث الثاني عشر فيه البلاغة والإيجاز والبيان لفضل الخيل، وجعلها في سبيل الله تعالى، والترغيب والتوجيه لباب من أبواب جريان الحسنات بعد الممات.

الحديث الثاني عشر: الوقف يثقل ميزان العبد يوم القيامة
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من احتبس فرساً في سبيل الله، إيماناً بالله، وتصديقاً بوعده، فإن شبعهُ وريَّه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة»(1).
الحديث بوب له البخاري باباً اسماه: «باب من احتبس فرساً في سبيل الله، لقوله تعالى: {ومن رباط الخيل}(2). وفيه ترغيب وتوجيه لباب من أبواب جريان الحسنات بعد الممات، وبيان لفضل الخيل وجعلها في سبيل الله تعالى، مبتدؤها «إيماناً بالله»، ومنتهاها «تصديقاً بوعده» الذي وُعد به المحسنون والمتصدقون من ثواب عظيم على ذلك.
والحبس من ألفاظ الوقف(3)، والوقف هو: الحبس، يقال: وقفت الدابة وقفاً أي حبستها في سبيل الله. والحبس: المنع. وهو يدل على التأبيد، يقال: وقف فلان أرضه وقفاً مؤبداً، إذا جعلها حبيساً لا تباع ولا تورث(4). والوقف عند الحنابلة: «تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة»(5).
فمن احتبس فرساً للجهاد في سبيل الله، إن أطعمه وأشبعه، وإن سقاه وأرواه، وإن تحمل روثه وبوله، فكل هذا في ميزان حسنات من احتبسه إلى يوم القيامة.
«وروثه» يريد ثواب ذلك لا أن الأرواث بعينها توزن(6).
يقول الإمام الشوكاني: «فيه دليل على أنه يجوز وقف الحيوان»(7). والحيوان من المملوك المنقول الذي تبقى عينه بعد الانتفاع به غالباً، ولو لم يجز وقفه لما رتب عليه النبي [ ذلك الأجر العظيم.
وفي صحيح البخاري سبق ذلك الباب: «باب الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة»‏، وورد فيه حديثان: الأول من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله [ « الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة»(8)، والثاني من حديث عروة بن الجعد عن النبي [ قال: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة»(9). المراد بها ما يتخذ للغزو بأن يقاتل عليه، أو لحماية الثغور، أو لحفظ المسلمين ورعاية بلدانهم. قال العياض‏:‏ «في هذا الحديث مع وجيز لفظه من البلاغة والعذوبة ما لا مزيد عليه في الحسن، مع الجناس السهل الذي بين الخيل والخير‏»(10).‏
والخيل هي الأساس في الجهاد في سبيل الله؛ قال الله عز وجل:{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}(11)، روى ابن ماجه من حديث تميم الداري مرفوعا «: من ارتبط فرسا في سبيل الله، ثم عالج علفه بيده كان له بكل حبة حسنة»(12).
وروى الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الخيل لثلاثة: هي لرجل أجر، وهي لرجل ستر، وهي على رجل وزر، فأما الذي هي له أجر فالذي يتخذها في سبيل الله فيعدها له، هي له أجر لا يغيب في بطونها شيئا إلا كتب الله له أجرا» (13).
وفي حديث مسلم بالسند إلى أبي هريرة رضي الله عنه تفصيل للخيل الثلاثة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخيل ثلاثة: هي لرجل وزر، وهي لرجل ستر، وهي لرجل أجر، فأما التي هي له وزر، فرجل ربطها رياء وفخراً ونواءً على أهل الإسلام فهي له وزر، وأما التي هي له ستر، فرجل ربطها في سبيل الله، ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها، فهي له ستر، وأما التي هي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام، في مرج وروضة، فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شيء، إلا كتب له، عدد ما أكلت، حسنات، وكتب له عدد أرواثها وأبوالها، حسنات، ولا تقطع طِوَلها فاستنت شرفاً أو شرفين إلا كتب الله له، عدد آثارها وأرواثها، حسنات، ولا مر بها صاحبها على نهر فشربت منه ولا يريد أن يسقيها، إلا كتب الله له، عدد ما شربت، حسنات» (14).
والخيل شديدة الارتباط بالإنسان، وثيقة الصلة به، قريبة الموقع منه، ونص القرآن على تكريمها، وبيان مكانتها وأهمِّيَّتها، وتحديد موقعها إلى جانب الإنسان، قال تعالى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ}.
وأوقاف المسلمين تعدت حاجة الإنسان لتفي بحاجة الحيوان، وقد وجدنا في ثبت التاريخ أوقافاً خاصة لتطبيب الحيوانات المريضة، وأوقافاً للخيول المُسِّنة، والعاجزة كوقف أرض المرج الأخضر بدمشق. وأوقفت في العهود الإسلامية العديد من الأوقاف التي خصص ريعها لخدمة الحيوانات والرفق بها(15).
والحضارة الإسلامية، كانت أكثر حضارات العالم إنسانية، ولها السبق في الرفق بالحيوان ليس بكونها ممارسة اجتماعية، من قبيل التقليد والعرف الاجتماعي، ولكن باعتبارها تعبدا لله وطاعة بما أمر واجتناباً لما نهى؛ فالرحمة بالحيوان قد تدخل صاحبها الجنة، والقسوة عليه قد تدخله النار.
وحينما كانت أممٌ تلهو بتعذيب الحيوانات وقتلها؛ حيث لا ترى أنَّ للحيوان نصيبًا منَ الرِّفق، أو حظًّا منَ الرحمة، كان الإسلام بتشريعاته وأحكامه يرفق بالحيوان الذي له خصائصه وطبائعُه وشعوره، قال تعالى {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ}(16).
فقد وقفت الأوقاف للتدريب على الفروسية الصرف على الثغور ورد المعتدين، ومنها في العصر المملوكي أوقاف خصصت لتدريب الخيول على الفروسية، ويصرف من ريع الوقف رواتب للمدربين، وللخيول فترة تدريبها وتهيئتها للجهاد.
وهذا لوعي المسلمين منذ القرون الأولى ما للوقف من مقاصد سامية ومصالح ملموسة في الحفاظ على مكانة الأمة وأمنها، فالوقف كان خير معين على الجهاد وحماية الثغور ببناء الربط والمراكز في مناطق التماس مع العدو وتقديم الدعم للمجاهدين، ولاسيما في عهود نشر الإسلام والفتوحات في المشرق والمغرب.
أوقفت أمكنة المرابطة على الثغور لمواجهة الغزو الأجنبي على البلاد، وتبع ذلك وقف الخيول والسيوف والنبال وأدوات الجهاد على المقاتلين في سبيل الله - عز وجل - وقد كان لذلك أثر كبير في رواج الصنعة الحربية وقيام مصانع كبيرة لها في بلادنا، حتى كان الغربيون في الحروب الصليبية، يفدون إلى بلادنا - أيام الهدنة - ليشتروا منا السلاح، وكان العلماء يفتون بتحريم بيعه للأعداء.
وقد بلغت صناعة الأسلحة الحربية الثقيلة والنارية عند المسلمين في أيام الدولة المملوكية مبلغاً عظيماً؛ حيث امتازت بالدقة والإتقـان والمهارة العاليـة في استخدامها مع التجديد والإبداع؛ ما جعلهم ينتصرون على أعدائهم - بعد توفيق الله - في كثير من معاركهم، ولاسيما ضـد الصليبيين والمغول. والأوروبيون استفادوا منها، وبنوا عليها الكثير مما وصلوا إليه الآن من تقنية متقدمة في صناعة مختلف أنواع الأسلحة.
ومن فوائد الحديث: جواز وقف الخيل للمدافعة عن المسلمين، ويستنبط منه جواز وقف غير الخيل من المنقولات ومن غير المنقولات من باب الأولى، وفيه أن المرء يؤجر بنيته كما يؤجر العامل، وأنه لا بأس بذكر الشيء المستقذر بلفظه للحاجة لذلك(17).
وفيه أن أفضل الخيل ما أعد للجهاد ومدافعة الأعداء والتدريب على الفروسية، وفيه أن الخيل لا غنى عنها في كل زمان، والخير ملازمها إلى يوم القيامة، وفيه إشارة إلى تفضيل الخيل على غيرها من الدواب.
وفيه أن كل من احتبس فرساً وجعلها وأعدها للجهاد تقرباً إلى الله تعالى، فإن كل حركة وفعل لها يسجل في حسناته، وفيه أن لفظ حبس هو من صيغ الوقف، ويعني حبس العين وتسبيل ثمرتها، أي التصدق بمنفعتها.
فأعمال العبد على نوعين، أعمال تنتهي عند موت صاحبها، وأعمال تستمر مادامت بعد موت صاحبها؛ والوقف من الأعمال التي يدوم أجرها بعد موت موقفها، ما دام نفعها.
وما من عهد من العهود الإسلامية إلا امتاز بإبداعات وقفية تفي بحاجات وضرورات لازمة لعهدهم، أوقاف قدمت رسالتها ليرى العالم أجمع محاسن ديننا ومعالم حضارتنا، وحددت مصارفها حسب رغبة الواقف، وفي كثير من الأحيان لم تكن تلك الأوقاف مقتصرة على لون دون آخر، ولا على عرق دون غيره، فهي لكل كبدٍ رطبة تدب على الأرض، رجا مُوقِفُها الأجر والمثوبة من الله تعالى، بل كثير من الأوقاف وثقها التاريخ لا يعرف من حبسها وأنفق عليها، فحفظ اسمه عن الخلق ليذكر عند رب البرية.
الهوامش
(1) أخرجه البخاري في الجهاد والسير، من احتبس فرساً في سبيل الله برقم (2853).
2 - سورة الأنفال، آية 60.
3 - ألفاظ الوقف الصريحة وهي:وقفت، وحبست، وسبَّلت.وأما الألفاظ الكنائية فهي:تصدقت، وحرمت، وأبَّدت.
4 - انظر: اللسان ص63، مادة (أبد).
5 - المغني 8/184.
6 - فتح الباري بشرح صحيح البخاري، (7/125).
(7) الشوكاني: نيل الأوطار 6/25.
8 - أخرجه البخاري في صحيحه، برقم 2849.
9 - أخرجه البخاري في صحيحه، برقم 2850.
10 - فتح الباري، (7/122).
11 - سورة الأنفال، الآية: 60.
12 - صحيح ابن ماجه، للألباني، برقم 2268.
13 - صحيح الترمذي للألباني برقم 1636.
14 - أخرجه مسلم في صحيحه، برقم 987.
15 - انظر للاستزادة: من روائع حضارتنا، د.مصطفى السباعي، ص 184.
16 - سورة الأنعام، الآية: 38.
17 - انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، (7/125).


اعداد: عيسى القدومي




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #13  
قديم 03-03-2024, 05:48 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,061
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأربعــون الوقفيــة

الأربعون الوقفية (13)



جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقل، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وغيرها، وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاماً وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها. أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملاً, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا.
والحديث الثالث عشر من الأدلة على مشروعية الوقف، وعلى تأكيد فعل النبي صلى الله عليه وسلم لهذه السنة، وتوجيهه لصحابته وأمته من بعده، دلالة على فضلها وأثرها على الفرد والمجتمع.
الحديث الثالث عشر:
وقف النبي صلى الله عليه وسلم لابن السبيل
عن عمرو بن الحارث قال: «ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناراً ولا درهماً ولا عبداً ولا أمة إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه، وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة»1.
بوّب البخاري هذا الحديث في: «باب الوصايا»، وأهل العلم عدُّوه من الأدلة التي يستدل بها على مشروعية الوقف، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد حبس بنفسه أرضاً تخصه لمنفعة ابن السبيل. قال في تلك الأرض ابن حجر في الفتح: «إنه تصدق لمنفعة الأرض، فصار حكمها حكم الوقف». قال النووي: «الأرض التي كانت للنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر وفدك فقد سبلها في حياته ونجز الصدقة بها على المسلمين»2.
قال ابن حجر في الفتح: «قوله ولا عبداً، ولا أمةً» أي في الرق، وفيه دلالة على أن من ذكر من رقيق النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في جميع الأخبار كان إما مات و إما أُعتقه»3. وقالت عائشة رضي الله عنها: «تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة بثلاثين صاعاً من شعير»4. وبوب ابن كثير في البداية والنهاية: «باب بيان أن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لم يترك ديناراً ولا درهماً ولا عبداً ولا أمة ولا شاة ولا بعيراً ولا شيئاً يُورث عنه: بل أرضاً جعلها كلها صدقة لله - عزَّ وجلَّ –»5.
وقد حرص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن يبدأ بنفسه، ففي مغازي الواقدي أن أول صدقة موقوفة كانت في الإسلام أراضي مخيريق التي أوصى بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقفها النبي صلى الله عليه وسلم »6.
وخصص وقفه صلى الله عليه وسلم ، لابن السبيل، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «السبيل: الطريق، وابن السبيل أي: المسافر، وسمي بابن السبيل؛ لأنه ملازم للطريق، والملازم للشيء قد يضاف إليه بوصف البنوة، كما يقولون: ابن الماء، لطير الماء، فعلى هذا يكون المراد بابن السبيل المسافر الملازم للسفر، والمراد المسافر الذي انقطع به السفر أي نفدت نفقته، فليس معه ما يوصله إلى بلده7.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث جابياً وخازناً للأموال، إنما بعث هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه، وسراجاً منيراً؛ وهذا هو شأن أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم «إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر»8. وقال [ «لا نورث ما تركنا فهو صدقة»9. وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: «ما ترك رسول اللَّه دينارًا ولا درهَمًا ولا شاةً وَلا بَعيرًا وَلا أوصى بشيءٍ» 10.
فالأنبياء لا يورثون كما يورث غيرهم, ولهذا قال ابن عباس: وإنما ترك ما بين الدفتين يعني القرآن. وميراث النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو الكتاب والسنة؛ ولهذا توفي صلى الله عليه وسلم ولم يترك درهماً ولا ديناراً ولا عبداً ولا أمة ولا بعيراً ولا شاة ولا شيئاً، إلا بغلته وأرضا جعلها صدقة لابن السبيل. هكذا كان النبي عليه السلام، لم يكن همه الدنيا، بل كان همه الآخرة, وكانت همته لإرشاد الناس ودعوتهم إلى الصلاح, لم يجمع الدنيا وحطام الدنيا, ولم تدر بخلده عليه الصلاة والسلام، ولم يبال بها ولم يلتفت إليها، بل كان يأخذ الدنيا ويصرفها , ويأتيه المال العظيم فلا يقوم إلا وقد أنفقه كله.
والسنة مفسرة له ومبينة وموضحة له، فهي تابعة له، والمقصود الأعظم كتاب الله تعالى، كما قال تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} 11.
وهذه الآية من أعظم آي الرجاء، لما فيها من توريث هذه الأمّة لهذا الكتاب، ولما وهب من الفضل الكبير والجزاء الحسن يوم الحساب، فقد بيّن تعالى أنّ إيراث هذه الأمّة لهذا الكتاب دليل على أنّ الله اصطفاها واختارها على من سواها.
فالأنبياء - عليهم السلام - لم يخلقوا للدنيا يجمعونها ويورثونها، وإنما خلقوا للآخرة يدعون إليها ويرغبون فيها، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا نورث، ما تركناه صدقة»، وكان أول من أظهر هذه المحاسن من هذا الوجه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، لما سئل عن ميراث النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبر عنه بذلك، ووافقه على نقله عنه - عليه السلام - غير واحد من الصحابة، فمنهم عمر وعثمان وعلي والعباس وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وأبو هريرة وعائشة رضي الله عنهم12.
وقد فهم الصحابة رضي الله عنهم ذلك، فعن سليمان بن مهران: بينما ابن مسعود رضي الله عنه يوما معه نفر من أصحابه إذ مر أعرابي فقال: على ما اجتمع هؤلاء؟ قال ابن مسعود رضي الله عنه « على ميراث محمد صلى الله عليه وسلم يقسمونه». فميراث النبي - صلى الله عليه وسلم – الحقيقي الذي ورثه هو الدين؛ هو العلم الذي أخذه عنه الصحابة، ومن بعدهم التابعون ثم الأمة من بعد، فهذا الميراث ما زالت الأمة تنهل منه حتى يأتي أمر الله.
ومرَّ أبوهريرة بسوق المدينة فوقف عليها فقال: يا أهل السوق! ما أعجزكم قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟ قال: ذاك ميراثُ رسول الله- صلى الله عليه وسلم – يُقسَّم، ولا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه؟ قالوا: وأين هؤلاء؟ قال: في المسجد، فخرجوا سراعاً, ووقف أبوهريرة لهم حتى رجعوا، فقال لهم: وما لكم؟ فقالوا: يا أبا هريرة! قد أتينا المسجد فدخلنا فيه، فلم نر فيه شيئاً يُقسَّم، فقال لهم أبوهريرة: وما رأيتم في المسجد أحداً ؛ قالوا: بلى رأينا قوماً يصلون، وقوماً يقرؤأون القرآن، وقوماً يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبوهريرة - رضي الله عنه -: ذلك ميراث محمد13.
وقد يلتبس على بعضهم ورود أحاديث كثيرة ذكر أشياء كان يختص بها صلوات الله وسلامه عليه في حياته من دور ومساكن نسائه، وإماء، وعبيد، وخيول، وإبل، وغنم، وسلاح، وبغلة، وثياب، وأثاث، وخاتم، وغير ذلك - في كتب السنن - فلعله عليه السلام تصدق بكثير منها في حياته منجزا، وأعتق من أعتق من إمائه وعبيده، وأرصد ما أرصده من أمتعته مع ما خصه الله به من الأرضين من بني النضير وخيبر وفدك في مصالح المسلمين، ولم يخلف من ذلك شيئا يورث عنه.
وللحديث دروس وفوائد وعبر كثيرة: ففيه دلالة على مشروعية الوقف، فهو نظام إسلامي شرع بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة. وفيه أن الوقف سنة قائمة عمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واتبعه الصحابة والتابعون والمسلمون من بعدهم.
وفيه دلالة أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يبعثوا لجمع الأموال وإنما بعثوا لهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور؛ ولهذا لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر.
وفيه دلالة على زهد النبي صلى الله عليه وسلم ، في الدنيا وحطامها الفاني؛ وإنما هو كالراكب الذي استظل تحت شجرة ثم راح وتركها؛ وهو صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة لنا في زهده وتواضعه ورغبته عن الدنيا وزينتها.
وفيه أن يختار الوقف الذي يحقق نفعاً أكثر في زمنه، فابن السبيل كان في غاية الحاجة لأن يرعى وتوفر له الحاجات الضرورية وسبل الخير كثيرة؛ لذا ينبغي على المسلم أن يقدم بعض ما في يده لمستقبله، ويبني آخرته بما يجد من دنياه، بأن يوقف شيئاً يعود أجره عليه بعد وفاته، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة، وهو الذي غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع ذلك لم ينس نصيبه من الوقف، فأوقف أرضاً لتكون له ذخراً عند ربه في يوم لقائه، وكان ذلك دافعاً للصحابة لأن يوقفوا الأوقاف التي تنوعت وتعددت مجالاتها لتكون أكثر نفعاً في مجتمعهم.
فالوقف من أعظم صور الإنفاق، وأكثرها أجرا وأعمها نفعا, فالواقف أكثر الناس انتفاعا بالوقف؛ لأنه يخلف عليه في الدنيا أضعافا، وبعد موته يسري له الأجر وهو في قبره، فالوقف صدقة جارية، فيها نفع للأحياء، ورحمة للأموات. وفضل من الله على عباده أن تجري لهم الحسنات في دنياهم وأخراهم.

الهوامش
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، برقم 2739.
2 - المنهاج في شرح صحيح مسلم، ص 1039.
3 - فتح الباري، (6/669).
4 - أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب ما قيل في درع النَّبيّ والقميص في الحرب، برقم (2916).
5 - البداية والنهاية (3/247).
6 - فتح الباري، (7/18)
7 - أنظر: الشرح الممتع على زاد المستقنع، للشيخ محمد بن صالح العثيمين، (6/244).
8 - أخرجه الترمذي في سننه، برقم: 2682، وفي صحيح ابن ماجه، برقم 183.
9 - أخرجه البخاري في صحيحه، برقم 3711.
10 - أخرجه مسلم في كتاب الوصية، باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي، برقم: 1653.
11 - سورة فاطر، الآية 32.
12 - تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة، السعودية، ط2، 1420هـ/ 1999م، (1/ 57).
13 - صحيح الترغيب والترهيب، برقم 83.


اعداد: عيسى القدومي




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #14  
قديم 03-03-2024, 06:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,061
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأربعــون الوقفيــة




الأربعون الوقفية (14)



جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقل، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وغيرها، وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاماً وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها. أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملاً, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا.
والحديث الرابع عشر دليل على مشروعية الوقف، وصحة وقف المنقول، من الأعتاد والدروع، وجواز وقف كل ما جاز بيعه، وجاز الانتفاع به مع بقاء عينه، كالعقار، والحيوان، والسلاح، والأثاث، وأشباه ذلك.

الحديث الرابع عشر
وقف الأدرع والأعتاد في سبيل الله
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أما إنكم تظلمون خالداً، فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله».
امتدح رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، على وقفه أَعْتَاده وأدراعه. فقال: «فإنكم تظلمون خالداً»: والمعنى إنكم تظلمونه بطلبكم الزكاة منه، إذ ليس عليه زكاة «فقد احتبس» أي وقف قبل الحول «أدراعه» جمع درع الحديد، (وأعتاده) جمع عتد، وهو ما يعده الرجل من الدواب والسلاح. وقيل: الخيل خاصة.
وفي شرح النووي على مسلم: «قال أهل اللغة: الأعتاد: آلات الحرب من السلاح والدواب وغيرها، والواحد عتاد بفتح العين، ويجمع أعتاداً وأعتدة. ومعنى الحديث: أنهم طلبوا من خالد زكاة أعتاده ظنا منهم أنها للتجارة، وأن الزكاة فيها واجبة، فقال لهم: لا زكاة لكم علي، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن خالداً منع الزكاة، فقال لهم: إنكم تظلمونه؛ لأنه حبسها ووقفها في سبيل الله قبل الحول عليها، فلا زكاة فيها. ويحتمل أن يكون المراد: لو وجبت عليه زكاة لأعطاها ولم يشح بها؛ لأنه قد وقف أمواله لله تعالى متبرعا فكيف يشح بواجب عليه؟».
والسبيل هي الطريق، وسبيل الله في القرآن تطلق على معنيين: الأول: معنى عام، وهو كل طريق يوصل إلى الله، فيشمل كل الأعمال الصالحة كقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، وكقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} أي: دينه. والثاني: خصوص الجهاد، وهذا مثل قوله: {ِإنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا}... {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ}. أي: الغازون في سبيل الله، ويشمل الغزاة وأسلحتهم، وكل ما يعين على الجهاد في سبيل الله من سلاح وغيره.
واستدل أهل العلم بهذا الحديث من جملة ما استدلوا على جواز وقف كل ما جاز بيعه، وجاز الانتفاع به مع بقاء عينه، وكان أصلاً يبقى بقاءً متصلاً. كالعقار، والحيوان، والسلاح، والأثاث، وأشباه ذلك، وهذا مذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة.
ولا يشترط للوقف مبالغ كبيرة، فقد يكون الوقف مصحفاً، أو غرس نخل، أو حفر بئر، أو جريان نهر، أو عتاد وأدراع في سبيل الله، أو غيرها، مما يصح وقفه؛ وأفضله ما كان أنفع في زمنه للمسلمين ولكل كبد رطب.
والتطبيقات التاريخية للمؤسسات الوقفية أنتجت حضارة إسلامية ما زالت بعض آثارها العملية ماثلة أمامنا، فقد تعدت المؤسسات الوقفية في العهود الإسلامية دور الفاعلية في حالات الطوارئ، إلى دور توفير كل متطلبات ومستلزمات حفظ المسلمين ورعاية أمن الأمة.
والأوقاف التي خصصت للصرف من ريعها على الصناعات الحربية كانت خير معين على الجهاد وحماية الثغور وتوفير العتاد لرد المعتدين على بلاد المسلمين، فنشأت الكثير من المصانع، خاصة في بلاد الشام ومصر أيام الحروب الصليبية على بلاد المسلمين. وقد كان لذلك أثر كبير في رواج الصنعة الحربية وقيام مصانع كبيرة لها في بلادنا، حتى كان الغربيون في الحروب الصليبية، يفدون إلى بلادنا - أيام الهدنة - ليشتروا منا السلاح، وكان العلماء يفتون بتحريم بيعه للأعداء.
وقد بلغت صناعة الأسلحة الحربية الثقيلة والنارية عند المسلمين في أيام الدولة المملوكية مبلغاً عظيماً؛ حيث امتازت في الدقة والإتقـان والمهارة العاليـة في استخدامها مع التجديد والإبداع؛ ما جعلهم ينتصرون على أعدائهم - بتوفيق الله تعالى- في كثير من معاركهم، ولاسيما ضـد الصليبيين والمغول.
وكان للمسلمين باع طويل في تأليف الكتب العسكرية المختلفة التي تبحث في الفنون الحربية كالفروسية والرمي وإدارة المعارك وسياسة الحروب، وبعضها خصص للبحث في صنوف الأسلحة وصفاتها وصناعتها وأساليب استعمالها والتدريب عليها، وكان للوقف دور في توفير البيئة لهذا النتاج. واستمر هذا الإبداع في التصنيع العسكري في العهد العثماني، بل إن زيارة متاحف إسطنبول تؤكد التقنية الصناعية التي بلغت فيها الصناعة الحربية مبلغاً عظيماً؛حيث كان للوقف الدور الكبير في تطور تلك الصناعة وحماية الخلافة لأكثر من خمسة قرون، ومما حققت من انتشار.
والحديث فيه من فوائد جمة: فهو دليل على مشروعية الوقف، وصحة وقف المنقول، من الأعتاد والدروع، وأن الذي يجوز وقف ما جاز الانتفاع به مع بقاء عينه، وكان أصلا يبقى بقاء متصلاً كالعقار والسلاح والأثاث وأشباه ذلك.
وفيه بيان لفضيلة من فضائل خالد بن الوليد رضي الله عنه، أن دافع عنه النبي صلى الله عليه وسلم ورد ما قيل عنه، وامتدح وقفه لأدرعه وأعتاده.وفيه الاعتذار عن أهل الفضل بما لا يُعرف عنهم من العيوب، كما كان النبي مع خالد رضي الله عنه.
وفيه أن ما أوقف لا تجب فيه الزكاة؛ لأنه خرج من ملكه إلى ملك الله تعالى فلا تجب فيه الزكاة. فالأشياء الموقوفة لا زكاة فيها.
وفيه حث النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين على أن يجعلوا لأنفسهم صدقات جارية بعد موتهم تعود على عموم المسلمين بالنفع، وتعود عليهم بالأجر حتى بعد موتهم.
وفيه فضل واستحباب أن يوقف الإنسان شيئا من ماله ولو بالقليل على المجالات الخيرية، كأن يوقف في سبيل الله، أو على طلبة العلم، أو الأعمال الخيرية، وكلما كان مصرف الوقف نفعه أكثر، كان أفضل.
وفيه أن الوقف ليس محصوراً في الأراضي والدور، بل يتعدى ذلك إلى كل ما جاز الانتفاع به وصح وقفه وإن قل ثمنه؛ فهو باب عظيم من أبواب العمل الصالح الذي يضمن لصاحبه رصيداً جارياً من الحسنات لا ينقطع بعد مفارقته الدنيا.
لا شك أن الوقف كان وما زال مصدر قوة للأمة، والتاريخ شاهد على ما قام به نظام الوقف من إنجازات عجزت عن مجاراتها كل أمم الأرض، فهو من أشرف معالم الحضارة الإسلامية، وجوانبه الإنسانية بلغت في استيفاء حاجات الفرد والمجتمع مبلغاً لم يعرف له مثيل بين الأمم والشعوب، لقد عملت الأوقاف على حفظ بيضة المسلمين، وإسعاد المسلمين بالحفاظ على عقيدتهم وتوحيدهم وعلمهم وكرامتهم وسمو أخلاقهم، وهناء حياتهم، وحمايتهم من كل ما يضرهم.
والوقف أفضل ما يستثمر فيه العبد أمواله؛فهو تجارة رابحة لا تبور وصدقة مستمرة لا تنفد، وكم من ميت مازالت حسناته حية من بعده، بل إن بعض الناس يحصد من الحسنات بعد موته أضعاف ما أدركه في حياته؛ لأن نفع وقفه الذي قدمه في حياته يستمر من بعده، وكلما عمت مساحة الانتفاع زاد الأجر وعظم الثواب.




اعداد: عيسى القدومي




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #15  
قديم 03-03-2024, 08:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,061
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأربعــون الوقفيــة

الأربعون الوقفية (15)



جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقل، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وغيرها، وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاماً وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها. أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملاً, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا.
وفي الحديث الخامس عشر يخبرنا ويبشرنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بأن الخازن المسلم المؤتمن، الذي عمل على حفظ الأمانة ورعاها، وأداها كما أَمر بذلك صاحبها، مع طيب نفس منه، فهو بهذا يكون أحد المتصدقين.

الحديث الخامس عشر:
فضل نظارة الوقف
عن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الخازنَ المسلمَ الأمينَ، الذي يُنْفِذُ (وربما قال يُعطي) ما أُمرَ به، فيعطيه كاملاً مُوَفَّراً، طيبةً به نفسُهُ، فيدفعُه إلى الذي أُمر له به؛ أحدُ المتصدقين»(1).
من فضل الله تعالى على عباده أن جعل المشارك في الطاعة مشاركاً في الأجر، فالصدقة طاعة وقربى إلى الله، والمتصدق له الأجر العظيم من رب العالمين، وهذا الأجر لا يناله فقط صاحب الصدقة، بل من كان مسلماً وخازناً أميناً لها، يرعاها ويؤديها بحقها، ملتزماً شروطها، مع الرضا والسرور، وطيبة النفس منه، فله بذلك أجر كما لصاحب الصدقة أجر، وليس معناه أن يزاحمه في أجره، لهذا نصيب بماله، ولهذا نصيب بعمله، لا يزاحم صاحب المال العامل في نصيب عمله، ولا يزاحم العامل صاحب المال في نصيب ماله.
قال النووي: «فيكون لهذا ثواب ولهذا ثواب، وإن كان أحدهما أكثر، ولا يلزم أن يكون مقدار ثوابهما سواء.. واعلم أنه لا بد للعامل وهو الخازن.. من إذن المالك في ذلك، فإن لم يكن إذن أصلاً فلا أجر للخازن بل عليه وزر بتصرفه في مال غيره بغير إذنه» (2).
وقال ابن حجر في فتح الباري: «وقد قيد الخازن فيه بكونه مسلما فأخرج الكافر لأنه لا نية له، وبكونه أمينا فأخرج الخائن لأنه مأزور، ورتب الأجر على إعطائه ما يؤمر به غير ناقص لكونه خائناً أيضاً، وبكون نفسه بذلك طيبة لئلا يعدم النية فيفقد الأجر وهي قيود لا بد منها» (3).
وفي شرح الحديث قال الشيخ محمد بن صالح عثيمين - رحمه الله -: «الخازن مبتدأ، وأحد المتصدقين خبر، يعني أن الخازن الذي جمع هذه الأوصاف الأربعة: المسلم، الأمين، الذي ينفذ ما أمر به، طيبة بها نفسه.
فهو مسلم: احترازاً من الكافر، فالخازن إذا كان كافراً وإن كان أميناً وينفذ ما أُمر به ليس له أجر؛ لأن الكفار لا أجر لهم في الآخرة فيما عملوا من الخير، قال الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً}(4)، وقال تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(5)، أما إذا عمل خيراً ثم أسلم فإنه يسلم على ما أسلف من خير ويعطى أجره.
الوصف الثاني: الأمين، يعني الذي أدى ما ائتمن عليه، فحفظ المال، ولم يفسده، ولم يفرط فيه، ولم يعتد فيه.
الوصف الثالث: الذي ينفذ ما أمر به، يعني يفعله؛ لأن من الناس من يكون أميناً لكنه متكاسل، فهذا أمين ومنفذ يفعل ما أمر به، فيجمع بين القوة والأمانة.
الوصف الرابع: أن تكون طيبة به نفسه، إذا نفذ وأعطى ما أمر به أعطاه وهو طيبة به نفسه، يعني لا يمن على المعطى، أو يظهر أن له فضلاً عليه بل يعطيه طيبة به نفسه، فهذا يكون أحد المتصدقين مع أنه لم يدفع من ماله فلساً واحدا»ً(6).
والمؤتمن هو أحد المتصدقين، فالمتصدق طرف والمؤتمن على تلك الصدقة طرف آخر، وكلاهما ينالون من الله تعالى الأجر بهذا العمل؛ فالذي يرعى الصدقة ويحفظها ويوصلها إلى مستحقيها، ويصرفها بالوجه الصحيح الذي اشترطه صاحب الصدقة، وكان أميناً على ذلك المال فلا يحابي ولا يداهن، ولا يمنُ على أحد، فيعطيه كاملاً من دون أن يقتطع لنفسه منه، وهو في نفس الوقت فرح مسرور بهذا العمل، لأنه نقل الأمانة من صاحبها إلى مستحقها.
وناظر للوقف، هو مؤتمن على أصل وريع ذلك الوقف، وكل من يعمل في المشروع الوقفي هو مؤتمن لذلك الأصل المحبوس. فالناظر للوقف هو خازن مؤتمن، مكلف برعاية ما أؤتمن به، فإن أدى هذه الأمانة موفرة كاملة، غير منقوصة أو مستغلة، مع طيب نفس ورضا وسرور منه، بهذا يكون هو أحد المتصدقين، أي له ثواب كالمتصدق لأنه أعان صاحب المال على إيصال المال والصدقة إلى مستحقيها.
فكل وقف لا بد له من متول يدير شؤونه ويحفظ أعيانه، وذلك بعمارته وصيانته، واستثماره على الوجه المشروع، وصرف غلته إلى مستحقيه بمقتضى وثيقة الوقف، والدفاع عنه والمطالبة بحقوقه، كل ذلك حسب شروط الواقف المعتبرة شرعاً(7).
ويشترط فيمن يتولى النظر على الوقف جملة من الشروط هي:
1- الإسلام: وذلك لأن النظر ولاية ولا ولاية لكافر على مسلم.
2- العقل: فلا يصح أن يتولى النظر مجنون.
3- البلوغ: فلا يصح تولية النظر لصغير.
4- العدالة: هي المحافظة الدينية على اجتناب الكبائر وتوقي الصغائر وأداء الأمانة وحسن المعاملة. فلا يصح تولية النظر لفاسق أو خائن للأمانة.
5- الكفاية: وهي قدرة الناظر على التصرف فيما هو ناظر عليه بما فيه المصلحة(8).
والناظر يستحق أجرة مناسبة، لقاء ما بذله من جهد ووقت في إدارة الوقف. وذلك في كل شهر أو سنة أو مقداراً نسبياً معيناً من الغلة نظير قيامه بأمور الوقف ورعاية مصالحه، وقد استدل العلماء على حق الناظر في الأجرة، بما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقتسم ورثتي ديناراً ولا درهماً، ما تركت بعد نفقة نسائي، ومؤنة عاملي، فهو صدقة»(9). قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث: وهو دال على مشروعية أجرة العامل على الوقف، ومراد العامل في هذا الحديث القيم على الأرض(10).
وكما استدل العلماء بما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عندما وقف عمر أرضه بخيبر، حيث قال: فتصدق بها عمر في الفقراء وذوي القربى والرقاب وابن السبيل والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها، أو يطعم صديقاً بالمعروف، غير متأثل فيه(11).
والناظر على الوقف يستحق أجرة المثل، ولا يزاد على ذلك إلا إذا كانت تلك الزيادة بتحديد من الواقف. فيعطى هذه الزيادة إتباعاً لشرط الواقف، وهو لا يستحقها باعتبار إدارته للوقف، وإنما باعتباره مستحقاً في الوقف(12).
ويعتبر الناظر أمينا على مال الوقف، ووكيلاً عن المستحقين فهو مسئول عما ينشأ عن التقصير نحو أعيان الوقف وغلته وفقاً للقواعد العامة للمسئولية، كما يفترض عليه القيام بتقديم حساب سنوي إلى القضاء وفقا لأسانيد مكتوبة.
لذا يجب على الناظر القيام بكل ما من شأنه الحفاظ على الوقف وعمارته ورعاية مصلحته، لأن إهمال عمارة الوقف أو ترميمه أو إصلاحه قد يؤدي إلى خرابه وهلاكه، وقد أجمع الفقهاء على أن العمارة هي أول واجب يلقى على عاتق الناظر، وعمارة الأعيان الموقوفة مقدمة على الصرف إلى المستحقين سواء في الوقف الخيري أو الأهلي، لأنها تؤدي إلى دوام الانتفاع بالوقف وعدم تفويت منفعة من منافعه.
وللشيخ بن عثيمين – رحمه الله – قول نفيس في التزام الناظر بشروط الواقف نصه: «على نظار الوقف أن يلتزموا بشروط الواقف، وأن يرعوا الوقف ويحافظوا عليه، وأن يحذروا التساهل بحفظ أصله وتوزيع ريعه، قال تعالى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ}(13). والمؤمَّل في النظارِ بذلُ النفيس في تنفِيذ وتحقيق شروطِ الواقف وإقامة ضوابط الوقفِ وتعمير أصوله واستثمارِ محصولِه والسلوك بالمستفيدين ما يوجِب لهم الإكرام والإنعامَ وأخذهم بطرائق الرحمة وسجيحِ الأخلاق وسُبُل الشفقة والإرفاق. روى البخاري من حديثِ أبي موسى الأشعريّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الخازن المسلم الأمين أحدُ المتصدِّقين»(14).
فوائد من الحديث: الحديث دليلٌ على فضل الأمانة، وعلى فضل التنفيذ فيما وُكل فيه وعدم التفريط فيه، ودليلٌ على أن التعاون على البر والتقوى يكتب لمن أعان مثل ما يكتب لمن فعل، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.
وفيه أن الأوصاف التي ذكرت في الحديث شروط لحصول هذا الثواب، فينبغي أن يعتنى بها ويحافظ عليها، ليكون له أجر متصدق. وفيه التأكيد على مكانة وأجر المسلم المؤتمن على أمانة، والذي يعمل بصدق وإخلاص وفاعلية، بلا محاباة ولا طمع ولا انتقاص منها، وبحسن خلق وطيب نفس، فهو بذلك يكون أحد المتصدقين.
وفيه توجيه وحث على القيم الأساسية التي ينبغي أن تتجذر في نفوس العاملين وتتجلى في أعمالهم، من إخلاص وأمانة وصدق وتجرد، فإن ذلك أنفع للمؤتمن في دنياه وأخراه، وأدعى للبركة والتوفيق في عمله.
وفيه الحث على حسن التعامل مع الآخرين، فالعاملون على الصدقات والأوقاف تسلط عليه الأنظار، لأن أهل الخير قد أمّنوهم على صدقاتهم ومشاريعهم، فكل فعل محسوب عليهم، فلا بد أن يكون لدى الشخص الذي يتصدى لهذه المهمة السامية إخلاص في القصد والنية من خلال ابتغاء وجه الله عز وجل وحده بهذا العمل؛ كما يجب أن يكون متبعا فيه للكتاب والسنة، وعليه أن يكون نموذجاً للشخص المتفاني في خدمة المسلمين، وأن يتعامل مع أهل العوز والحاجة بالحسنى والكلمة الطيبة، فالكلمة الطيبة صدقة وتبسمك في وجه أخيك صدقة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم .
فالواجب على كل من جند نفسه للعمل الخيري والوقفي أن يسلك مسالك الإصلاح، وأن يعمل بما فيه الخير للأمة، وأن يجتنب كل شيء يقدح في عمله، لأنه عمل لأجل الدار الآخرة، ورجاء الثواب من الله تعالى. لذا أنصح إدارات العمل الخيري والوقفي أن تهتم في تأهيل موظفيهم ومتطوعيهم وتدريبهم وتنمية قدراتهم في حسن استقبال المراجعين من متبرعين، ومحتاجين، والتعامل مع جميع الفئات بالأخلاق الإسلامية السمحة.
(الهوامش)
1 - أخرجه البخاري في صحيحه، برقم ( 1438). ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب أجر الخازن الأمين برقم ( 1023)، واللفظ لمسلم.
2 - صحيح مسلم بشرح النووي، (7/156- 158)، وبتصرف يسير، مؤسسة قرطبة، ط1 (1412هـ= 1991م ).
3 - فتح الباري شرح صحيح البخاري، ( 3/382)، دار السلام الرياض، ط1( 1418هـ= 1997م)
4 - سورة الفرقان، الآية:23.
5 - سورة البقرة، الآية: 217.
6 - شرح رياض الصالحين، للشيخ محمد بن صالح العثيمين، (4/461)، دار الوطن، ط1، 1416هـ.
7- أنظر: روضة الطالبين 5/348، شرح منتهى الإرادات 2/362.
8 - أنظر:موجز أحكام الوقف، د.عيسى زكي، ص 11-12.
(9) أخرجه البخاري في الوصايا، باب: نفقة القيِّم للوقف برقم (2776).
(10) أخرجه فتح الباري 5/476.
(11) أخرجه البخاري في الوصايا، باب: نفقة القيِّم للوقف برقم (2777).
(12) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4/88، روضة الطالبين 5/348، كشاف القناع 4/269.
13 - سورة البقرة، الآية: 283.
14 - خطبة للشيخ بن عثيمين بعنوان: الوصية والوقف.


اعداد: عيسى القدومي




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #16  
قديم 04-03-2024, 08:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,061
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأربعــون الوقفيــة

الأربعون الوقفية (16)



جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقل، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وأصوله؛ وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكام وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها.
أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملاً, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا.
والحديث السادس عشر بيان لجواب بني النجار حين طلب منهم رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أن يبيعوا أرضاً تخصهم لتكون موضع مسجد الرسول في المدينة، فقالوا: لا نأخذُ لهُ ثمناً أبدًا.

الحديث السادس عشر:
وقف بني النجار
عن أنس رضي الله عنه قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد، فقال: «يا بني النجار، ثامنوني بحائطكم هذا». قالوا: لا والله، لا نطلب ثمنه إلا إلى الله.
حينما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأمر ببناء المسجد، أرسل إلى أعيان وكبار بني النجار، وطلب إليهم أن يبيعوا أرضاً لهم، ليبني عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجداً، فكان جوابهم أنهم جعلوا تلك الأرض وقفاً لله تعالى، لا يطلبون ثمناً لها من أحد، إلا الأجر والثواب من الله تعالى.
وفي لفظ آخر، قال أنس رضي الله عنهُ: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وأمر ببناء المسجد، فقال: «يا بني النجار، ثامنوني»، فقالوا: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله، فأمر بقبور المشركين فنبشت، ثم بالخرب فسويت، وبالنخل فقطع، فصفوا النخل قبلة المسجد».
وبنو النجار قبيلة من الأنصار وبطن من الخزرج، وهم بنو تَيْم اللات بن ثعلبة بن عمرو بن الجَمُوح، والحَائِط هو البستان المزروع بالنخيل إذا كان محاطاً، وثامنوني: أي بايعوني، وقدروا لي ثمن حائطكم لأذكر لكم الثمن الذي أختاره؛ بمعنى أعطوني حائطكم بالثمن على سبيل المساومة؛ وثامنه بكذا أي قدر معه الثمن.
فكان جواب بني النجار للنبي صلى الله عليه وسلم سريعاً، فالأمر لا يحتمل التأخير وطول المشورة؛ بأنهم لا يرغبون بثمنه من أحد إلا من الله، والمعنى لا نطلب الثمن بل نتبرَّع بِه، ونطلب الثمن أي الأجر من اللَّه تعالى.
وبهذا الفعل وفق الله تعالى بني النجار أن كان لهم بذلك الوقف أجراً إلى يوم الدين، فكل من شد الرحال من سائر أنحاء الدنيا إلى مسجد رسول الله امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم : «لا تشد الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول، ومسجد الأقصى». قال النووي في شرح حديث لا تشد الرحال: «فيه بيان عظيم فضيلة هذه المساجد الثلاثة، وميزتها على غيرها؛ لكونها مساجد الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ولفضل الصلاة فيها، وفضيلة شد الرحال إليها».
وقال الحافظ في «الفتح»: «وفي الحديث فضيلة هذه المساجد، ومزيتها على غيرها؛ لكونها مساجد الأنبياء، ولأن الأول: قبلة الناس وإليه حجهم، والثاني: كان قبلة الأمم السالفة، والثالث: أسس على التقوى».
ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم هو المسجد الذي أسس على التقوى، وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام».
وقد اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه البقعة لتكون مسجداً يجتمع المسلمون فيه لأداء صلواتهم وعباداتهم، وشرع مع أصحابه في بنائه، فاستغرق ذلك شهوراً عدة، وأسس النبي صلى الله عليه وسلم المسجد في ربيع الأول من العام الأول من هجرته، وكان طوله سبعين ذراعاً، وعرضه ستين ذراعاً، أي ما يقارب 35 متراً طولاً، و30 عرضاً وارتفاع جدرانه: 2م، ومساحته الكلية: 1060 متراً مربعاً تقريباً، وجعل أساسه من الحجارة والدار من اللَّبِن وهو الطوب الذي لم يحرق بالنار، وكان النبي يبني معهم اللَّبِن والحجارة، وسقفه من الجريد، وكانت إنارة المسجد تتم بواسطة مشاعل من جريد النخل، توقد في الليل. وجعل للمسجد ثلاثة أبواب: الأول: في الجهة الجنوبية، والثاني: في الجهة الغربية، ويسمى باب عاتكة، ثم أصبح يعرف بباب الرحمة. والثالث: من الجهة الشرقية، ويسمى باب عثمان، ثم أصبح يعرف بباب جبريل.
منذ تلك اللحظة صار المسجد منارة تشع في أرجاء دولة الإسلام الناشئة، كما كان أيضاً بداية الانطلاقة جيوش الإسلام التي فتحت مشارق الأرض ومغاربها في عهده [ وعهد من جاء بعده من خلفاء المسلمين، ولبني النجار أجر جار منذ أن بني المسجد النبوي إلى يومنا هذا، بل إلى آخر الزمان؛ فكلما صلى فيه المصلون؛ واعتكف فيه المعتكفون؛ وقُرئ فيه القرآن، وعقدت في جنباته حلقات العلم، منذ أكثر من أربعة عشر قرناً إلى ما يشاء الله تعالى، لا يحصي أجورهم على أرضهم تلك إلا الله تعالى، وهذه بركة من بركات الوقف لله تعالى؛ فهنيئاً لبني النجار على هذا الأجر العظيم.
جاء في الفتح: «أن بني النجار تصدقوا بالأرض لله عز وجل، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ولم ينكر قولهم، وهذا دليل على أنه إذا أوقف جماعة أرضًا مشَاعًا فهو جائز. فلو كان وقف المشاع لا يجوز لأنكر عليهم وبين لهم الحكم، واستدل بهذه القصة على أنه حكم المسجد يثبت للبناء إذا وقع بصورة المسجد ولو لم يصرح الباني بذلك، وعن بعض المالكية إن أذن فيه ثبت له حكم المسجد، وعن الحنفية إن أذن للجماعة بالصلاة فيه ثبت والمسألة مشهورة، ولا يثبت عند الجمهور إلا إن صرح الباني بالوقفية أو ذكر صيغة محتملة ونوى معها‏.‏ وجاء أيضاً: «ومراد البخاري أن الوقف يصح بأي لفظ دل عليه إما بمجرده وإما بقرينة والله أعلم».
وفي الحديث فوائد نذكر منها: فيه جواز التصريح بالوقف وإشهاره وإعلانه، والجهر بطلب أجر ذلك العمل من الله تعالى.
وفيه مشروعية وقف الأرض للمسجد، وهذا هو الحائط الذي بني فيه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه صحة وقف المشاع الذي ينتفع به، والأرض المشاع يصح وقفها كما فعل بنو النجار وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
وفيه أن الوقف يعقد بالتصريح، وأنه قد تم انعقاد الوقف قبل البناء، فيؤخذ منه أن من وقف أرضاً على أن يبنيها مسجداً، انعقد الوقف قبل البناء.
وفيه أهمية بناء المساجد، وأن إقامة المساجد أول وأهم ركيزة في بناء المجتمع الإسلامي. امتثالاً لقول الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ}. وقول النبي صلى الله عليه وسلم : «من بنى مسجداً لله تعالى يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة». وما كان هذا الفضل من الله إلا لعظمة هذه المساجد وأهمية وجودها في الأرض للمسلمين، ولقد كان السلف الصالح -رضوان الله عليهم- إذا فتحوا بلاداً بنوا فيها المساجد، وتركوا فيها من يعلم الناس الخير، ويؤدي رسالة هذه المساجد، باعتبارها مركزاً إسلامياً لتفقيه المسلمين في شؤون دنياهم وآخرتهم، لم تكن لتنتشر المساجد هذا الانتشار في تاريخ الإسلام كله إلا بطريق الأوقاف.
ونظام الوقف في الإسلام يعد أحد أهم النظم التي أسهمت في تحقيق المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، وفي مقدمتها حفظ الدين من عقائد وعبادات وأحكام شرعها الله سبحانه وتعالى، والوقف حفظ الضرورات الخمس وفي مقدمتها حفظ الدين للمسلمين، بإقامة المساجد وحفظها ورعايتها، وفي حفظ الهوية الإسلامية، ونشر العلم.
والوقف وعاءٌ تصب فيه خيرات العباد، ويفيض بالخيرات على البلاد، وقد تنافس أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على الوقف الذي هو من أنفع أنواع الصدقات وأفضلها وأكثرها أجراً.
ومن إبداعات الناصر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله وروائعه حينما حرر القدس وفلسطين من أيدي الصليبيين، أنه أعاد الحياة إلى القدس بأن أوقف الأوقاف التي تصرف على إمام المسجد الأقصى والعاملين فيه، ثم تتالت الأوقاف التي طالت كل ما يصلح البلاد والعباد، لتسهيل شد الرحال والمكوث في القدس وتوفير الطعام والشراب والمأوى والتعليم والطبابة لأهل القدس وما حولها، وبذلك عادت الحياة إلى القدس سريعاً بعد أن غُيب عنها المسلمون 91 عاماً وهي في ظل رماح الاحتلال الصليبي.
وخلال أقل من سنة كانت القدس تُقصَد ويشد إليها الرحال ويتقرب إلى الله في مجاورة المسجد الأقصى وهو ثالث المساجد التي يشد إليها الرحال، وهذا من فقه الناصر صلاح الدين وحنكته أن أعاد الحياة الاقتصادية للقدس وبعودتها عاد النبض لكل مناحي الحياة.
وقد تتابع المسلمون جيلاً بعد جيل يوقفون الأراضي والبساتين والدور وأعمال الخير والبر، مما ملأ الدولة الإسلامية بالمنشآت والمؤسسات والتي بلغت حداً من الكثرة يصعب إحصاؤه والإحاطة به، وكان في مقدمة تلك البيوت المساجد التي تنافس المسلمون وما زالوا في إقامتها، لتكون ذخراً لهم في آخرتهم، وما من عهد من العهود الإسلامية إلا امتاز بإبداعات وقفية تفي بحاجات وضرورات لازمة لعهدهم.


اعداد: عيسى القدومي




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #17  
قديم 04-03-2024, 09:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,061
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأربعــون الوقفيــة




الأربعون الوقفية (17)



جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقل، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وأصوله؛ وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاماً وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها. أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملاً, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا.
والحديث السابع عشر إرشاد وبُشرى: إرشاد للمسلم أن يكون ذا همة عالية من التكليف حتى الممات، مهما اعترته عقبات الحياة، وتشويش الأعداء، وظلم الآخرين، وأن يعمل لهذا الدين وأن يجدد العطاء؛ وبشرى للمسلم إذا أراد الله بعبد خيراً، يقبضه بأحسن أعماله، وهذا من حسن الخاتمة.
الحديث السابع عشر:
الوقف توفيق لعمل صالح قبل الموت
عن أبي عنبه الخولاني رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله بعبد خيراً عسله، قيل: وما عسله؟ قال: يفتح له عملاً صالحاً قبل موته، ثم يقبضه عليه».
الحديث من جوامع كلم النبي صلىالله عليه وسلم ، جمع معاني عظيمة، وأرشد لبرنامج حياة تسعد فيه القلوب، فمن إكرام الله تعالى وتوفيقه إلهامه العبد من عباده التزود من الطاعات وأعمال الخير قبل موته، وأفضل الأعمال التي يوفق لها المسلم ويطيب ذكره ومنفعته في حياته وبعد مماته الوقف لأبواب الخير؛ وذلك من علامات حسن الخاتمة أن يوفق العبد قبل موته لعمل صالح يدوم نفعه وأجره؛ وأفضل ما يدوم فيه النفع هو الوقف، بأن يحبس مما يملك ويجعله وقفاً لله تعالى.
وقد شبه الرسول صلى الله عليه وسلم ما رزق الله العبد من العمل الصالح قبل الموت، بالعسل الذي هو الطعام الصالح الذي يحلو به كل شيء؛ والعرب اعتادت أن تسمي ما تستحليه بالعسل، جاء في كتاب النهاية في غريب الحديث والأثر: العسل: طيب الثناء، مأخوذ من العسل، يقال: عسل الطعام يعسله: إذا جعل فيه العسل، شبه ما رزقه الله تعالى من العمل الصالح الذي طاب به ذكره بين قومه بالعسل الذي يجعل في الطعام فيحلولى به ويطيب، ومنه الحديث: إذا أراد الله بعبد خيراً عسله في الناس، أي: طيب ثناءه فيهم.
وفي لسان العرب: «أي جعل له من العمل الصالح ثناء طيِّباً شبه ما رزقه الله من العمل الصالح الذي طاب به ذِكرُه بين قومه بالعَسَل الذي يُجْعَل في الطعام فَيَحْلَوْلي به ويَطِيب، وهذا مَثَلٌ من وفَّقَه الله لعمل صالح يُتْحِفه كما يُتْحِف الرجل أَخاه إِذا أَطعمه العَسَل، والعُسُل: الرجال الصالحون. قال: وهو جمع عاسل وعَسُول، قال: وهو ممَّا جاء على لفظ فاعل وهو مفعول به، قلت: كأنه أراد: رجل عاسل: ذو عسل أي ذو عمل صالح الثناء عليه به، مستحلى كالعسل».
وفي معجم مقاييسُ اللّغة: «إذا أراد الله بعبدٍ خيراً عَسَلَه، معناه طيَّبَ ذِكرَه وحلاَّهُ في قلوب النّاس بالصَّالح من العمل، من قولك عَسَلْتُ الطَّعامَ، أي جعلتُ فيه عَسلاً، وفلانٌ معسول الخُلُق، أي طيِّبه، وعَسَلْتُ فلاناً: جَعلتُ زادَه العسل».
والحديث إرشاد للمسلم أن يكون ذا همة عالية من التكليف حتى الممات، مهما اعترته عقبات الحياة، وتشويش الأعداء، وظلم الآخرين، وأن يعمل لهذا الدين وأن يجدد العطاء؛ لأن أمتنا أمة تجديد لا أمة تبديد، وأمة إبداع لا أمة ابتداع، وأمة ابتكار لا أمة تكرار.
ومن حسن الخاتمة أن يوفق العبد قبل موته للتوبة من الذنوب والمعاصي، والإقبال على الطاعات وأعمال الخير، ثم يكون موته بعد ذلك على هذه الحال الحسنة، وهذا من علامات حسن الخاتمة، فيتذكره الناس بفعله للخير، وبما حبسه لله تعالى من وقف لنفع المسلمين وغيرهم، فكم من الأوقاف بقيت بعد موت واقفها، يدعى له بالرحمة والمغفرة على ما قدم.
من هذا الحديث أخذ بعضهم عبارة الثناء: «عسلك الله»، فيا فوز من عسله الله ويا حسرة من كان كالحنظلة مرة المذاق كريهة الرائحة، فالحرص الحرص على تعسيل العبد لأعماله حتى يعسله الله.
وخير ما يعسل المسلم دنياه وآخرته الوقف، فهو أفضل الصدقات التي حث الإسلام عليها وعدها من أكثر الأعمال تقرباً إلى المولى عزَّ وجلَّ ومن أفضل أعمال البر، ومجالاً من مجالات الإنفاق، ورافداً من روافد الخير والعطاء، يعم فيه الخير، وتتنامى فيه الصلات بين الأقارب، والألفة والتراحم بين أفراد المجتمع، فيه الاستمرار والبقاء، لا غنى عنه للأمة التي تريد العزة والحضارة، فكم خرَّجت مدارسه من علماء وفقهاء، وكم حفظت مكتباته من مخطوطات، وكم رعت نزله من مسافرين، وكم أطعمت تكياته من منقطعين، وكم عالجت مشافيه من مرضى، وكم قدمت صيدلياته من عقاقير ودواء، وكم نسجت مشاغله من كساء، وكم آوت ملاجئه من أيتام وعجزة، وكم سقت آباره من إنسان وطير وبهيمة، وكم حفظت عطاءاته من كرامة الإنسان، وكم كفلت إيراداته من طلبة علم تفرغوا للتحصيل العلمي، وكم ساهمت مؤسساته في حل المشاكل الاجتماعية، وكم عالجت مؤسساته الثقافية من ظواهر وآفات.
أَلا إنَّ مَنْ رامَ الفلاحَ لنفسِه
وفازَ مِن الدُّنيا بمالٍ وَافِ
فَلا بُد أنْ يسعَى حثيثا لبذلِه
ويُخرجَ بعضًا منه للأوقافِ
فذلِك فوزٌ للغنيِّ وبلغةٌ
ليجني في الأُخرى عظيمَ قِطافِ
فوائد من شرح الحديث: فيه الحث على إلزام النفس بالعمل الصالح، والتجديد بالأعمال التي تقرب إلى الله تعالى؛ وإن العمل الصالح إن كان تعدى لما ينفع النفس لينفع الآخرين كان أجره أعظم لأنه دال على الخير.
وفيه حث للمسلم على التوبة والإنابة قبل غلق الإجابة، فما زال الباب مفتوحاً، وأبواب الخير عظيمة، فاجتهد بما ينفع نفسك والمسلمين؛ ولا تؤجل ولا تسوف إن أردت الفلاح، وأردت تعسيل الله لك، فلا تركن إلى التسويف والأمل حتى يسبقه الأجل.
وفيه أن يكون المسلم دائم السعي للخاتمة الطيبة؛ لأنه لا يعرف متى تقبض روحه، وفيه كذلك أن من حسن الخاتمة أن يوفق المسلم قبل موته للابتعاد عما يغضب الرب سبحانه، والتوبة من الذنوب والمعاصي، والإقبال على الطاعات وأعمال الخير، ثم يكون موته بعد ذلك على هذه الحال الحسنة.
وفيه من علامات حسن الخاتمة الموت على عمل صالح، لقوله صلى الله عليه وسلم: «من قال لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة، ومن تصدق بصدقة ختم له بها دخل الجنة»، لذا على المسلم أن يلح في دعاء الله تعالى أن يتوفاه على الإيمان والتقوى، وأن يقيه شر الدنيا وفتنتها؛ وأن يداوم على الطاعات، وعمل الخير.
وفيه حث للمداومة على الأعمال الصالحة، وهي من أحبِّ الأعمال إلى الله، ومن علامات التوفيق أن يوفق العبد لنفع الناس، وقضاء حوائجهم، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أحب الناس إلى الله أنفعهم». وإذا قبل الله تعالى عمل عبد من عباده، وفقه إلى عمل صالح بعده.
وللعمل الصالح جزاءٌ في الدنيا والآخرة، فالجزاء في الدنيا حسن رعاية الله، ففي الحديث القدسي: «وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها». وفي الآخرة الأجر الواسع من رب العالمين.
والعمل الصالح توفيق من الله تعالى، وهو بيد الله وليس بيد العبد، والتوفيق مفتاحه الدعاء والافتقار وصدق اللجوء والرغبة والرهبة إليه، وهو لا يقتصر على عباداتٍ معيّنة وحالات مخصوصة، فمن بنى مسجدًا أو أنشأ مدرسةً أو أقام مستشفى أو شيَّد مصنعًا ليسُد حاجة الأمة فإنه يكون بذلك قد عمل صالحاً وله به أجر، من وَاسَى فقيرًا وكفل يتيماً وعاد مريضًا وأنقذ غريقًا وساعد بائساً وأنظر معسِراً أرشد ضالاًّ فقد عمل صالحاً.



اعداد: عيسى القدومي




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #18  
قديم 04-03-2024, 09:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,061
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأربعــون الوقفيــة




الأربعون الوقفية (18)



جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقل، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وأصوله؛ وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاماً وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها. أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملاً, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا .
والحديث الثامن عشر، يخبرنا فيه النبي صلى الله عليه وسلم أنه مهما حرص على المال، فليس له حقيقة إلا ما أكل فاستهلك، ولبس فأبلى، وتصدق فأنفذ، وما سوى ذلك فإنه تاركه للناس لا محالة.
الحديث الثامن عشر:
الوقف والصدقة مال باقٍ
عَنْ مُطَرِّفٍ بن عبدالله عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: ألهاكم التكاثر، قال: «يقول ابن آدم: مالي مالي (قال) وهل لك يا ابن آدم! من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟».
إن مال الإنسان الحقيقي هو ما قدمه لنفسه ذخراً عند ربه كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ}. أي تركتم ما أعطيناكم من أموال الدنيا وراء ظهوركم للوارثين من بعدكم؛ فليس لنا من مالنا إلا ما تصدقنا به فأمضينا، ولبسنا فأبلينا, وأكلنا فأفنينا، وما سوى ذلك فإننا ذاهبون وتاركوه للناس؛ فالصدقة هي الباقية، كما قالت عائشة: «أنهم ذبحوا شاة فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما بقي منها؟ قلت: ما بقي منها إلا كتفها. قال: بقي كلها غير كتفها».
فالسعيد من اتخذ من دنياه ما ينفعه في آخرته، ويجعل منها ما يمتد فيه الأجر والثواب، فالعاقل هو من قدّم من ماله ما يحبه فيفوز به في دار الإقامة، فإن من أحب شيئاً استصحبه معه ولا يدعه لغيره فيندم ولا ينفع الندم؛ وهذا من فعل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان ابن عمر لا يعجبه شيء من ماله إلا قدمه لله، حتى إنه كان يومًا راكباً على ناقة فأعجبته، فنزل عنها في الحال، (وقلدها) وجعلها هديًا لله عز وجل.
قال ابن كثير في تفسيره سورة التكاثر: «يقول تعالى أشغلكم حب الدنيا ونعيمها وزهرتها عن طلب الآخرة وابتغائها، وتمادى بكم ذلك حتى جاءكم الموت وزرتم المقابر وصرتم من أهلها»، وقال ابن القيِّم: «ما أعظمها من سورة، وأجلَّها وأعظمها فائدةً، وأبلغها موعظةً وتحذيرًا، وأشدَّها ترغيبًا في الآخِرة، وتزهيدًا في الدُّنيا، على غاية اختصارها وجزالة ألفاظها، وحُسْن نظمها، فتبارَك مَنْ تكلَّم بها حقًّا، وبلَّغها رسولُه عنه وَحْيًا».
وفي لفظ آخر عند مسلم كذلك: «يقول العبد: مالي مالي، إنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى، وما سوى ذلك فهو ذاهب، وتاركه للناس».
والمعنى: أن الذي يحصل له من ماله ثلاث منافع في الجملة، لكن منفعة واحدة منها حقيقيَّة باقية، والباقي منها صوريَّة فانية: (مَا أَكَلَ) أي ما استعمل من جنس المأكولات والمشروبات (فَأَفْنَى) أي فأعدمها، (أَوْ لَبِسَ) أي من الثياب (فَأَبْلَى) أي فأخلقها، (أَوْ أَعْطَى) أي لله تعالى (فَاقْتَنَى) المعنى في اللغة: «يقتَني» وهو أنْ يتخذه لنفسه لا للبيع، والمقصود في الحديث أنه لـمّا أعطى هذا المالَ لله تعالى جعله اللهُ ذخيرةً له للآخرة، (وَمَا سِوَى ذَلِكَ) أي وما عدا ما ذُكِرَ من سائر أنواع المال من المواشي والعقار والخدم والنقود والجواهر ونحو ذلك (فَهُوَ) أي ذلك العبدُ (ذَاهِبٌ) عنه، (وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ) أي تاركه للورثة أو غيرهم بلا فائدةٍ راجعةٍ إليه، مع أنّ مطالبة المحاسبة في القبر والآخرة والمعاقبةُ عليه هو.
فالموفق من جعل من المال عملاً يبلغ به إلى الآخرة، فعن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى معه واحد: يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله». وعن أبي بَرْزَةَ الأَسْلَمي رضي الله عنه: أنَّ النبيَ صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزول قَدَما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره: فيمَ أفناه، وعن علمه فيمَ فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وعن جسمه فيمَ أبلاه».
لذا قال الأوزاعي:
المال يذهب حله وحرامه
يومًا ويبقى بعده آثامه
ليس التقي بمتق لإلهه
حتىيطيب طعامه وكلامه
وذكر الحافظ بن عساكر في ترجمة الأحنف بن قيس واسمه الضحاك أنه رأى في يد رجل درهماً فقال لمن هذا الدرهم فقال الرجل لي فقال إنما هو لك إذا أنفقته في أجر أو ابتغاء شكر، ثم أنشد الأحنف متمثلا قول الشاعر:
أنت للمالِ إذا أمْسَكته
فَإِذا أنْفَقته فالمال لك
والحديث فيه فوائد جمة: فهو دلالة واضحة على أن ما كان لعاجلة أمرك من الدنيا فهو الفاني والبالي, وما جعلته لله من الصدقة فهو ما أمضيته وأبقيته وجعلته أمامك ذخراً لك ساعة لقاء الله تعالى.
وفيه توجيه للمسلم في نهج التعامل مع ما اكتسبه من مال يخصه، فمهما حرص الشخص وتعامل بالمال، وجمع وأكثر، فليس له حقيقة إلا مأكل، ولبس فأبلى، وتصدق فأنفذ، وما سوى ذلك فإنه لا محالة تاركه. وفيه أن الصدقة ذخر لصاحبها وكنز له.
وفيه أن مال العبد في الحقيقة هو ما قدم لنفسه ليكون له ذخراً بعد موته، وليس ماله ما جمع فاقتسمه الورثة بعده. فأرباح الدنيا مهما بلغت لن ترحل معنا إلى القبور، وثروة الإنسان مهما زادت فهي إلى الورثة من بعده ثم إلى الأحفاد ثم إلى مالك الملك فهو الوارث الحقيقي للأرض ومن فيها ومن عليها: {إنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}.
وأفضل ما يتصدق به المسلم هو الوقف الذي يستمر ثوابه، قال الله تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاق}. فالوقف صدقة ليست بواجبة، وإنما يتطوع بها المسلم ويبذلها لوجه الله تعالى، وهو سنة مستحبة، مسنونة مشروعة، ولا سيما مع حاجة الناس إليها، وفي السنة المطهرة حث على الصدقة الجارية، والتي هي باب من أبواب الصدقة، بل أفضل تلك الأبواب.



اعداد: عيسى القدومي




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #19  
قديم 05-03-2024, 09:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,061
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأربعــون الوقفيــة

الأربعون الوقفية (19)



جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقل، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وأصوله؛ وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاماً وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها. أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملاً, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا .


والحديث التاسع عشر، بيان للأمة من رسولها الأمين صلى الله عليه وسلم أن المال الذي ينسب لك حقيقة هو ما قدمته ليكون ذخراً لك بعد موتك، وليس مالك ما جمعته فاقتسمه الورثة بعدك، فاعمل على أن تدخر لنفسك في دنياك لتجده أمامك في آخرتك.

الحديث التاسع عشر
الوقف هو المال الحقيقي
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال النبي
صلى الله عليه وسلم
: «أيُّكُمْ مالُ وارثِهِ أحبُّ إليهِ مِنْ مالِهِ؟» قالوا: يا رسولَ الله، ما منَّا أحدٌ إلا مالُهُ أحبُّ إليْهِ، قال: «فإنَّ مالَهُ مَا قدَّم ومَالُ وارثِه ما أخَّر». - في الحديث : «أيكم مال وارثه أحبُّ إليه من ماله؟»، سؤال طرحه النبي
صلى الله عليه وسلم
على الصحابة، فقالوا رضوان الله عليهم: «ما منا أحدٌ إلا ماله أحبُّ إليه»، فمال العبد في الحقيقة هو ما قدم لنفسه ليكون له ذخراً بعد موته، وليس ماله ما جمع فاقتسمه الورثة بعده، فالذي يخلفه الإنسان من المال وإن كان منسوباً إليه، فإنه بانتقاله إلى وارثه يكون منسوباً للوارث. النبي
صلى الله عليه وسلم
يسأل صحابته سؤالاً فيه تمهيد لما بعده، مع علمه أن كل إنسان ماله أحب إليه من مال وارثه، لكنه أراد أن يكون ذلك مدخلاً ليخبرهم بالمال الحق الذي ينفعهم. فكان جوابهم : «ما منا من أحد مال وارثه أحب إليه من ماله» فلما تقرر هذا منهم -بما النافية- بأفواههم، قال صلى الله عليه وسلم
: «فإن ماله - أي الحق – ما قدم ومال وارثه ما أخر».
وفي فتح الباري، «فإن ماله ما قدم»: أي هو الذي يضاف إليه في الحياة وبعد الموت، بخلاف المال الذي يخلفه، قال ابن بطال وغيره: فيه التحريض على تقديم ما يمكن تقديمه من المال في وجوه القربة والبر لينتفع به في الآخرة، فإن كل شيء يخلفه المورث يصير ملكاً للوارث، فإن عمل فيه بطاعة الله اختص بثواب ذلك وكان ذلك الذي تعب في جمعه ومنعه، وإن عمل فيه بمعصية الله فذاك أبعد لمالكه الأول من الانتفاع به إن سلم من تبعته، ولا يعارضه قوله
صلى الله عليه وسلم
لسعد : «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة»؛ لأن حديث سعد محمول على من تصدق بماله كله أو معظمه في مرضه وحديث ابن مسعود في حق من يتصدق في صحته وشحه». فما تدخره لمن بعدك فينتفع به فليس في الحقيقة يعد مالاً لك، وما قدمته بين يدي الله جل وعلا من الصدقات والأوقاف التي أردت بها وجه الله هو المال الحقيقي لك، فهو الذي ينفعك يوم القيامة.
وقد حرص النبي
صلى الله عليه وسلم
على غرس هذا الأمر وتقريره في نفوس صحابته رضوان الله عليهم، بإخبارهم بأن من مات وترك مالاً للورثة؛ لم ينتفع به بعد موته, إلا ما كان عنه صدقة أو صدقة جارية، فذلك هو مال العبد الحقيقي. ووعى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
ذلك جيداً، فزهدوا بالدنيا وأكثروا من الصدقة، فحياة العبد دار امتحانه وموضع سعيه، وبموته ينقطع عمله ويتوقـف كسبه؛ فلا ينقـص مـن حسناته ولا يزاد إلا بأعمال محددة جلاها الشارع وأوضحتها النصوص، ومن أجلِّ الأعمال التي تزيد الحسنات وأبرزها الصدقة الجارية الباقية بعد موت العبد سواء ما كان منها في سبيل نصرة الدين أم في تخفيف معاناة المعوزين أو غير ذلك من أبواب البر.
فلو لم يكن في الصدقة من فضل إلا هذا لكان فيه كفاية لمن عقل وأراد النجاة. فيا من إذا مات انقطع عمله، وفاته أمله، وحق ندمه، وتوالى همه، احرص على ما ينفعك، وأكثر صدقتك التي يجري أجرها لك بعد موتك؛ فإن ذلك قرض منك لك مدخر عند ربك.
وأفضل وسيلة لاستثمار الأموال هي الصدقة الجارية الباقية بعد أن توزع الأموال للورثة، وبعد أن ينقطع العمل بانقطاع الحياة، وهذه الوسائل والسبل سلكها من سبقونا فعادت عليهم الأرباح في الدنيا سكينة في النفس وطمأنينة في القلب وبركة في العمر والرزق والبدن والزوجة والولد، ورحمة ومحبة في قلوب الخلق، وعادت منافعها عليهم في الآخرة ثواباً موصولاً لا ينقطع، فانتفع بالوقف جميع الناس أحياءا وأمواتاً.
والوقف عمل ناجز في الحياة، تقر عين صاحبه به، وذلك أنه يباشره بنفسه ويرى آثاره الطيبة، وقد سئل النبي
صلى الله عليه وسلم
أي الصدقة أفضل فقال: «أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الروح الحلقوم، قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان». وكم من وقف انتفعت به ألوف وملايين وأصحابها في التراب واراهم النسيان، ولكن أجورهم موصولة، وهذا هو باب الخير المفتوح بعد ممات الإنسان، قال تعالى: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون}. ومن مات ولم يوفق لهذه السنة من الخير سنة الوقف فمن بر الأبناء بآبائهم أن يسارعوا بالإحسان بعمل وقف لهم في حياتهم أو بعد مماتهم، فهذه زيادة في درجاتهم عند الله، وهو خير مدخر للولد عندما يصير أباً، فيسخر الله له من يقوم على بره وطاعته كما كان بارا ًبوالديه، والجزاء من جنس العمل، فالبر لا يبلى والإثم لا ينسى والديان لا يموت، فكن كما شئت كما تدين تدان.
كل مسجد يبنى من مال الوقف, وكل يتيم يترعرع ويعيش على مال الوقف, وكل مريض يعالج، وكل مسن يراعى في دار للمسنين، والأرامل التي ينفق عليها من مال الوقف، وكذلك كل معاق يعال من مال الوقف، وكل طالب علم يدرس من مال الوقف فإن الأجر والثواب يكتب للواقف وكذلك الذين دلوا على الخير وأرشدوا إليه أو ساعدوا فيه، فما أعظم هذا الجزاء الذي يسهل من أجله العطاء.
وحقاً ما قال الشاعر:
قد مات قومٌ وما ماتت مَكارِمُهُمْ
وعاش قومٌ وهمْ في الناس أمواتُ
والوقف منه الخيري، أو الأهلي أي الذُرِّي، أو المشترك :
- أما الوقف الخيري: فهو ما يصرف منه الريع من أول الأمر إلى جهة خيرية، كالفقراء والمساجد والمدارس والمستشفيات ونحوها.
- والوقف الأهلي أو الذُرّي: ما جعلت فيه المنفعة للأفراد، أما على الواقف نفسه، أو أقاربه، أو شخص معين.
- وهناك نوع ثالث سمي بالوقف المشترك: وهو ما يجمع بين الوقف الأهلي والخيري؛ يوقفه الواقف على جهة خيرية وعلى الأفراد، أو أن يكون لأقاربه بداية ثم لأبواب الخير من بعدهم.
وتقسيم الوقف وتسميته بالأهلي والخيري لم يكن موجوداً في العصور الأولى للإسلام، بل كانت الأوقاف معروفة بالصدقات، ولذلك كان يقال: (هذه صدقة فلان)، وكتب أوقاف الصحابة كلها عبرت عن الوقف بالتصدق: فتصدق بها عمر على كذا وكذا، وتصدق أبوبكر بداره بمكة على ولده، وكثير من هذه التعبيرات.
وبالرغم من عدم وجود تقسيم للوقف وتسميته بالأهلي أو الخيري، إلا أنه كان موجوداً بنوعيه منذ أن عرف الوقف في الإسلام، بل إن وقف عمر الذي يعد أساساً لما جاء بعده من أوقاف، كان موزعاً بين جهات البر وذوي القربى. وحقيقة الأمر أن الوقف سواء كان على الأهل، أو على سائر جهات البر، فيه معنى الخير، والإحسان، والصدقة.
- والحديث فيه فوائد جمة: فيه حكمة عظيمة ممن أوتي جوامع الكلم
صلى الله عليه وسلم
، فمالك الذي تقدمه لله عز وجل تجده أمامك يوم القيامة، ومال الوارث ما يبقى بعدك من الذي ينتفع به ويأكله هو الوارث، فهو مال وارثك على الحقيقة. وفيه أن الصدقة، والوقف على وجه الخصوص خير استثمار وإن فنيت الأعمار. وفيه تنوع خطاب النبي
صلى الله عليه وسلم
للصحابة بسؤالهم، ولفت أنظارهم، حتى لا يصيب السامعين السآمة والملل. وفيه حسن خلق النبي بإنصاته للصحابة، وسماع جوابهم، وهذا من الأخلاق الكريمة التي ربى عليها رسولنا الكريم صحابته الكرام رضوان الله عليهم، بأن يتواصل معهم يُسمعهم ويَسمعهم.
وفيه الحث على بذل المال حسب ما شرع الله عز وجل، وفيه الحث على العمل أن تدخر لنفسك في دنياك لتجده أمامك في آخرتك.
فما دام مالك أحب إليك من مال ورثتك، فأنفق مالك فيما يرضي الله، وإذا أنفقت؛ فإن الله يخلفه؛ قال تعالى: {إنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ}، قال أهل العلم: «ومن آثارهم الوقف بعد مماتهم». أن من آثار الموتى التي تكتب لهم ويؤجرون عليها الوقف فدل على مشروعية الوقف.ومعناه: «أن الله يكتب أعمال العباد التي باشروها في حياتهم، وآثارهم التي أثروها من بعدهم، فيجزيهم على ذلك إن خيراً فخير، وإن شراً فشر».
- ولأبي السعود كلام جلي يقول فيه: « ونكتب ما قدموا أي ما أسلفوا من الأعمال الصالحة وغيرها، وآثارهم التي أبقوها من الحسنات كعلم علَّموه، أو كتاب ألَّفوه، أو حبيس وقَفُوه، أو بناء بنوه من المساجد والرباطات والقناطر وغير ذلك من وجوه البر، ومن السيئات كتأسيس قوانين الظلم والعدوان، وترتيب مبادئ الشر والفساد فيما بين العباد، وغير ذلك من فنون الشر التي أحدثوها وسنوها لمن بعدهم من المفسدين».
فالمال غاد ورائح، وما هو إلا وسيلة للإنفاق والبذل، وكم من وقف انتفعت به ألوف وملايين وأصحابها في التراب واراهم النسيان، ولكن أجورهم موصولة، وهذا هو باب الخير المفتوح بعد ممات الإنسان.


اعداد: عيسى القدومي





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #20  
قديم 05-03-2024, 09:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,061
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأربعــون الوقفيــة




الأربعون الوقفية (20)



جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقلا، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وأصوله، وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاما وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها. أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملا, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا.
الحديث العشرون :
فضل الوقف في سبيل الله
عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه قال: جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: هذه في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لك بها يوم القيامة سبعمئة ناقة كلها مخطومة».
الوقف في سبيل الله من أفضل وجوه الإنفاق، وأعظمها أجراً، وأعمها فائدة، وأدومها نفعاً، وأبقاها أثراً، وقد بين نبينا صلى الله عليه وسلم فضل الإنفاق والتصدق في سبيل الله، وثماره وآثاره، ومضاعفة الأجر لصاحبه.
ففي الحديث أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، بناقة فيها خطام، فقال: «هذه في سبيل الله» أي صدقة في سبيل الله تعالى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :» لك بها، يوم القيامة سبعمئة ناقة كلها مخطومة».
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم: معنى «مخطومة» أي: فيها خطام، وهو قريب من الزمام، قيل: يحتمل أن المراد له أجر سبعمائة ناقة، ويحتمل أن يكون على ظاهره، ويكون له في الجنة بها سبعمئة كل واحدة منهن مخطومة يركبهن حيث شاء للتنزه، كما جاء في خيل الجنة ونجبها، وهذا الاحتمال أظهر.
وقد وردت في السنة أحاديث بمضاعفة الحسنة إلى سبعمئة ضعف؛ فعن عياض ابن غطيف قال: دخلنا على أبي عبيدة نعوده من شكوى أصابته – وامرأته تحيفة قاعدة عند رأسه – قلنا: كيف بات أبو عبيدة؟ قالت: والله لقد بات بأجر، قال أبو عبيدة: ما بت بأجر، وكان مقبلا بوجهه على الحائط، فأقبل على القوم بوجهه، وقال: ألا تسألوني عما قلت؟ قالوا: ما أعجبنا ما قلت فنسألك عنه! قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فبسبعمائة، ومن أنفق على نفسه وأهله، أو عاد مريضا أو ما زاد أذى، فالحسنة بعشرة أمثالها، والصوم جنة ما لم يخرقها، ومن ابتلاه الله، عز وجل ببلاء في جسده فهو له حطة».
واستدل العلماء من الحديث على أن الناقة من دواب الجنة، ومن وسائل التنقل فيها. وكذلك الخيل لحديث النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا دخلت الجنة أتيت بفرس من ياقوتة له جناحان فحملت عليه ثم طار بك حيث شئت في الجنة». وفي الجنة من الطيور والدواب ما لا يعلمه إلا الله تعالى، قال تعالى فيما يناله أهل الجنة من النعيم: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّما يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ}.
وفي فضل الفرس التي حبست في سبيل الله تعالى، قال القرطبي: «حكي عن عبد الله بن المبارك: خرج إلى غزو فرأى رجلا حزينا قد مات فرسه فبقي محزونا فقال له: بعني إياه بأربعمئة درهم، ففعل الرجل ذلك أي باعه له، فرأى من ليلته في المنام كأن القيامة قد قامت وفرسه في الجنة وخلفه سبعمائة فرس، فأراد أن يأخذه، فنودي أن دعه فإنه لابن المبارك وقد كان لك بالأمس، فلما أصبح جاء إليه وطلب الإقالة فقال له: ولم؟ قال : فقص عليه القصة فقال له: اذهب فما رأيته في المنام رأيناه في اليقظة».
وقد تنوعت عبارات السلف في بيان معنى في سبيل الله ، فقال سعيد بن جبير: «يعني في طاعة الله»، وقال مكحول: «يعني به الإنفاق في الجهاد من رباط الخيل وإعداد السلاح وغير ذلك»، وقال ابن عباس: «الجهاد والحج يضعف الدرهم فيهما إلى سبعمئة ضعف». وقال بعض أهل العلم بأن «في سبيل الله» تعم جميع الإنفاق في وجوه الخير، ومن أعظمها الجهاد.
وفي وقف الخيل وأشباهه من الحيوانات، يقول ابن قدامة في المغني: «الذي يجوز وقفه هو ما جاز الانتفاع به مع بقاء عينه، وكان أصلاً يبقى بقاء متصلاً، كالعقار، والحيوانات، والسلاح والأثاث، وأشباه ذلك..والفرس الحبيس إذا عطب فلم ينتفع به في الجهاد، جاز بيعه، وصرف ثمنه في مثله، ولم يجز إنفاقها على الفَرَس؛ لأنه صرف لها إلى غير جهتها».
وفي الحديث فوائد: ففيه فضيلة الوقف والإنفاق في سبيل الله، وفيه جواز وقف المنقول كالحيوان وغيره، وفيه الحث والترغيب في الإنفاق في سبيل الله، وفيه أن ثواب الله وفضله أكثر من عمل العامل؛ لأنه لو عُومل العامل بالعدل لكانت الحسنة بمثلها؛ لكن الله يعامله بالفضل، والزيادة؛ فتكون الناقة الواحدة بسبعمائة ناقة؛ بل أزيد؛ لقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم}.
وفيه بيان لفضل الله تعالى على عباده، ومعاملته لعباده بالفضل والزيادة، فأجر الناقة الواحدة التي جعلت في سبيل الله بسبعمائة ناقة يوم القيامة، فللصدقة ثمرات يجنيها المتصدق، في مقدمتها أن الله يضاعف أجرها إلى سبعمئة ضعف يوم القيامة، بل تكون سبباً في دخول الجنة.
وفيه الإشارة إلى الإخلاص لله في العمل، وموافقة الشرع في ذلك؛ وذلك لقول الرجل «في سبيل الله»، وفيه اتساع مجالات الإنفاق في سبيل الله، وتنوع مصارفه، وتعدد أوجه البر والإحسان فيه، مما يجعله من أولى ما يتسابق إليه المحسنون، وأهم ما يتنافس فيه المتنافسون .
والوقف في سبيل الله خيرٌ يقدمه المسلم في حياته لأخراه، قال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا}، والوقف في سبيل الله يدفع الله عز وجل به عن العبد البلاء، حتى كان بعضُ العلماء يوصي إخوانه إذا أصابتهم الشدائد والملمات، أن يكثروا من الصدقات الجارية حتى يعافيهم الله عز وجل.
وكل صدقة جارية هي في أصلها صدقة، بل من أفضل الصدقات لأن نفعها يدوم ومن ثمراتها: أنها تدخل الجنة من باب الصدقة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «ومن كان من أهلِ الصَّدقةِ دُعِي من بابِ الصَّدقةِ». ووجه سؤال للشيخ صالح بن عثيمين- رحمه الله – مفاده: هل أن الصدقة الجارية، أفضل الصدقات؟ فأجاب: «فضلها بسبب دوامهما، لكن قد تعرض بعض الأحوال تجعل غيرها أفضل منها، كوقت المسغبة» .
وكان صلى الله عليه وسلم سباقا إلى الصدقة؛ قال ابن القيم: كان صلى الله عليه وسلم أعظم الناس صدقة بما ملكت يده، وكان لا يستكثر شيئاً أعطاه لله تعالى ولا يستقله، وكان لا يسأله أحد شيئاً عنده إلا أعطاه، قليلاً كان أو كثيرا، وكان عطاؤه عطاء من لا يخاف الفقر، وكان العطاء والصدقة أحب شيء إليه، وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظم من سرور الآخذ بما يأخذه، وكان أجود الناس بالخير، يمينه كالريح المرسلة».
وعلى هذا النهج القويم سار التابعون ومن بعدهم عبر العصور الإسلامية المتعاقبة فتوسعت الأوقاف، وشملت بنفعها كثيراً من المرافق الخيرية، والاجتماعية، والعلمية، وأسهمت إسهاما كبيراً في خدمة المجتمع الإسلامي، والنهوض برقيه وتقدمه.



اعداد: عيسى القدومي




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 195.42 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 189.43 كيلو بايت... تم توفير 6.00 كيلو بايت...بمعدل (3.07%)]