الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة - الصفحة 4 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         انشودة يا أهل غزة كبروا لفريق الوعد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 32 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4421 - عددالزوار : 859173 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3953 - عددالزوار : 393498 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12535 - عددالزوار : 215772 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 73 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 57 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 58 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 59 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 55 )           »          اضطراباتي النفسية دمرتني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 57 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى حراس الفضيلة
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى حراس الفضيلة قسم يهتم ببناء القيم والفضيلة بمجتمعنا الاسلامي بين الشباب المسلم , معاً لإزالة الصدأ عن القلوب ولننعم بعيشة هنية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #31  
قديم 07-10-2023, 09:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,061
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمة ضالة المؤمن (33)

زر غبا تزدد حبا




الأخوة الإيمانية، ورابطة العقيدة الإسلامية من أهم الركائز التي يقوم عليها المجتمع المسلم، كما قال تعالى: {إنما المؤمنون إخوة}، وقال النبي [: «المسلم أخو المسلم»، فالمسلمون إخوة تجمعهم رابطة الإيمان وأخوة العقيدة على اختلاف الزمان وتنوع المكان.
ولهذه الأخوة حقوق وواجبات، وآثار ومقتضيات، كما أن لها أسبابا تقويها، وموانع تحول دون تحقق آثارها ونتائجها.
والزيارة بين الإخوان من أسباب ترسيخ المحبة وتأكيد الأخوة، كما أنها من الأعمال الدينية المستحبة كما دلت على ذلك النصوص الشرعية كقوله [: «من عاد مريضا أو زار أخا في الله ناداه مناد: أن طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلا « رواه الترمذي، قال شراح الحديث:»قوله: «من عاد مريضا» أي: محتسبا «أو زار أخا له» في الدين لوجه الله لا للدنيا ناداه مناد» أي ملك «أن طبت» دعاء له بطيب عيشه في الدنيا والآخرة، وطاب ممشاك قال الطيبي: كناية عن سيره وسلوكه طريق الآخرة بالتعري عن رذائل الأخلاق والتحلي بمكارمها، «وتبوأت من الجنة منزلا» أي تهيأت من منازل الجنة العالية منزلة عظيمة ومرتبة جسيمة بما فعلت «اهـ.
وقال النبي [: «أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى، فأرصد الله له على مدرجته - أي: طريقه - ملكا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربّها عليه؟ - أي: تقوم بإصلاحها - قال: لا، غير أني أحببته في الله عز وجلّ، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه» أخرجه مسلم، قال النووي:»في هذا الحديث فضل المحبة في الله تعالى، وأنها سبب لحب الله تعالى العبد، وفيه فضيلة زيارة الصالحين والأصحاب «اهـ
ومما جاء في فضل الزيارة قوله [:» ألا أخبركم برجالكم من أهل الجنة ؟ ثم ذكر منهم :» والرجل يزور أخاه في ناحية المصر في الله، في الجنة» أخرجه الدارقطني وحسنه الألباني.
وفي الحديث القدسي قال الله عز وجلّ: «حقت محبتي للمتزاورين فيّ» أخرجه أحمد وصححه الألباني.
ونلاحظ من الأحاديث المتقدمة وغيرها اشتراط الإخلاص لله تعالى في الزيارة وابتغاء وجه الله والتماس الأجر والمثوبة منه سبحانه، فلا يقصد الزائر مصلحة دنيوية أو منفعة مادية، حتى ينال ذلك الجزاء والفضل، ومن المقاصد المشروعة طلب العلم، وصلة الرحم، وعيادة المريض، وتفقد الأحوال لقضاء الحاجات، وترويح الأنفس بالمباحات ونحوها من مقاصد حسنة ونيات صالحة.
قال أبو حاتم في روضة العقلاء:»الواجب على العاقل تعاهد الزيارة للإخوان، وتفقد أحوالهم؛ لأن الزائر في قصده الزيارة يشتمل على مصادفة معنيين:
أحدهما : استكمال الذخر في الآجل بفعله ذلك.
والآخر : التلذذ بالمؤانسة بالأخ المزور، مع الانقلاب بغنيمتين معا «.
وللزيارة آداب وأحكام ينبغي للزائر مراعاتها؛ منها أحكام الاستئذان والسلام وآداب المجلس والحديث، ومنها أيضا أن تكون الزيارة سببا لزيادة الود وليست لترسيخ القطيعة وغرس البغضاء بسبب إثقال الزائر على المزور، أو مضايقته ببعض التصرفات الساذجة، كطلب بعض الأطعمة، أو التدخل في الأمور الخاصة، أو انتقاد ما يراه من أثاث أو طعام أو غير ذلك، أو اصطحاب الأطفال المزعجين، ومن ذلك عدم الإطالة في الزيارة أو تكرارها بما يقتضي الملل؛ ولهذا جاء في الحديث:» زر غبا تزدد حبا» أخرجه البزار وغيره وصححه الألباني.
ويبين ابن الأثير معنى الحديث فيقول:»الغِبّ من أوراد الإبل أن ترد الماء يوما وتدعه يوما ثم تعود، فنقله إلى الزيارة وإن جاء بعد أيام، يقال : غبّ الرجل إذا جاء زائرا بعد أيام، وقال الحسن: في كل أسبوع، ومنه الحديث:»أغبوا في عيادة المريض» أي لا تعودوه في كل يوم؛ لما يجد من ثقل العوّاد «اهـ.
فإن قيل إن النبي [ كان يكثر زيارة أبي بكر رضي الله عنه كل يوم بكرة وعشيا، كما ذكرته عائشة رضي الله عنها فيما أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب: هل يزور صاحبه كل يوم بكرة وعشيا؟ فهل هذا يعارض الحديث المذكور؟
فالجواب كما قال ابن حجر :»لا منافاة بين هذا الحديث وحديث الباب - يعني حديث عائشة - لأن عمومه يقبل التخصيص، فيحمل على من ليست له خصوصية ومودة ثابتة، فلا ينقص كثرة زيارته من منزلته. قال ابن بطال: «الصديق الملاطف لا تزيده كثرة الزيارة إلا محبة بخلاف غيره»اهـ.
وقال أبو حاتم :» الناس في الزيارة على ضربين :
فمنهم من صحح الحال بينه وبين أخيه، وتعرى عن وجود الخلل، وورود البغض فيه، فإذا كان بهذا النعت، أحببت له الإكثار من الزيارة، والإفراط في الاجتماع ؛ لأن الإكثار من الزيارة بين من هذا نعته لا يورث الملالة، والإفراط في الاجتماع بين من هذه صفته يزيد في المؤانسة.
والضرب الآخر : لم يستحكم الود بينه وبين من يواخيه، ولا أداهما الحال إلى ارتفاع الحشمة بينهما فيما يبتذلان لمهنتيهما، فإذا كان بهذا النعت أحببت له الإقلال من الزيارة؛ لأن الإكثار منها بينهما يؤدي إلى الملالة، وكل مبذول مملول، وكل ممنوع ملذوذ، وقد روي عن النبي [ أخبار كثيرة تصرح بنفي الإكثار من الزيارة حيث يقول: «زر غبا تزدد حبا»اهـ.
فالمسلم يراعي حقوق الله تعالى بالإخلاص والاتباع، ويراعي حقوق العباد بالأخوة والرحمة والإنصاف، دون أن يضر نفسه أو يؤذي غيره حسيا أو معنويا، فيقدر ظروفهم، ويراعي مشاعرهم، ويثمن أخوتهم، وينمي محبتهم، ويحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه؛ لأنه وإياهم كالجسد الواحد يكمل بعضه بعضا، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #32  
قديم 26-02-2024, 08:54 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,061
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمـة ضالـة المؤمن (35)

خلـق الإنسـان من عجـل



لا نزال نسمع أن هذا العصر هو (عصر السرعة)؛ لما فيه من سرعة المواصلات، وسرعة التقنيات، وسرعة الإنجازات، وهذا أمر جيد ولا شك؛ لأن فيه تيسير الحياة على الناس وتوفير الأوقات والجهود، إلا أن الأمر اللافت للنظر هو انعكاس هذه المقولة على ثقافة الناس وسلوكهم، فالعجلة والاستعجال، والضجر وقلة الصبر، والرعونة والاستهتار سواء في الطرقات، أم في مواضع الاجتماعات كالوزارات والمجمعات تجد هذه الظاهرة بارزة بشكل واضح ولافت فكم من أرواح أزهقت بسبب العجلة في الشوارع، وكم من أسرة تهدمت بسبب عجلة أحد الزوجين في الحكم على الآخر أو استعجاله في ردة فعله، بل وصلت العجلة إلى المساجد فبعض الأئمة يستعجل في صلاته فلا يدرك المأموم القراءة أو التشهد، وبعض المأمومين يستعجل في صلاته فلا يطمئن في ركوعه أو سجوده، أو يبادر بمغادرة المسجد قبل أن يردد أذكار الصلاة أو يؤدي النافلة.
وكذلك تبرز العجلة في المجتمع في الحكم على الناس والأشياء قبل التثبت سواء في وسائل الإعلام أم في المجالس واللقاءات، وكذلك في سرعة الجواب بين المتحاورين قبل فهم الكلام أو حتى قبل أن يكمل الآخر كلامه، وأمثلة لا تنتهي من مظاهر العجلة المذمومة وآثارها الخطيرة.
وبالتأمل في كتاب الله تعالى نجد أن العجلة - في غير أمور الدين والآخرة - مذمومة، كما قال [: «التؤدة في كل شيء خير، إلا في عمل الآخرة»أخرجه أبو داود وصححه الألباني.
فقوله تعالى:{خلق الإنسان من عجل} أكبر دلالة على هذه الحقيقة الشرعية، وقد تباينت أقوال العلماء في المراد بهذه الآية:
قال ابن سعدي: «{خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} أي: خلق عجولا، يبادر الأشياء، ويستعجل بوقوعها، فالمؤمنون يستعجلون عقوبة الله للكافرين، ويتباطئونها، والكافرون يتولون ويستعجلون بالعذاب، تكذيبا وعنادا، ويقولون: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} والله تعالى يمهل ولا يهمل ويحلم، ويجعل لهم أجلا مؤقتا { إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَْ} ولهذا قال: { سَأُرِيكُمْ آيَاتِي} أي: في انتقامي ممن كفر بي وعصاني {فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} ذلك، وكذلك الذين كفروا يقولون: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} قالوا هذا القول، اغترارا، ولما يحق عليهم العقاب، وينزل بهم العذاب.»اهـ.
وقال القرطبي: «{خلق الإنسان من عجل} أي ركب على العجلة فخلق عجولا ؛ كما قال الله تعالى:{الله الذي خلقكم من ضعف} أي: خلق الإنسان ضعيفا، أي: طبع الإنسان العجلة، فيستعجل كثيرا من الأشياء وإن كانت مضرة.»اهـ.
وقال ابن كثير: «وقوله: {خلق الإنسان من عجل}، كما قال في الآية الأخرى: {وكان الإنسان عجولا} أي: في الأمور. والحكمة في ذكر عجلة الإنسان هاهنا أنه لما ذكر المستهزئين بالرسول، صلوات الله وسلامه عليه، وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم واستعجلت، فقال الله تعالى:{خلق الإنسان من عجل}; لأنه تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، يؤجل ثم يعجل، وينظر ثم لا يؤخر; ولهذا قال: {سأوريكم آياتي} أي: نقمي وحكمي واقتداري على من عصاني، {فلا تستعجلون}.
وقال الطاهر: «والعجل: السرعة، وخلق الإنسان منه استعارة لتمكن هذا الوصف من جبلة الإنسانية، شبهت شدة ملازمة الوصف بكون مادة التكوين موصوفة؛ لأن ضعف صفة الصبر في الإنسان من مقتضى التفكير في المحبة والكراهية. فإذا فكر العقل في شيء محبوب استعجل حصوله بداعي المحبة، وإذا فكر في شيء مكروه استعجل إزالته بداعي الكراهية، ولا تخلو أحوال الإنسان عن هذين؛ فلا جرم كان الإنسان عجولا بالطبع فكأنه مخلوق من العجلة، ونحوه قوله تعالى: {وكان الإنسان عجولا}، وقوله تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعا}. ثم إن أفراد الناس متفاوتون في هذا الاستعجال على حسب تفاوتهم في غور النظر والفكر، ولكنهم مع ذلك لا يخلون عنه.
وجملة: {سأريكم آياتي} هي المقصود من الاعتراض، وهي مستأنفة، والمعنى: وعد بأنهم سيرون آيات الله في نصر الدين، وذلك بما حصل يوم بدر من النصر وهلاك أئمة الشرك وما حصل بعده من أيام الإسلام التي كان النصر فيها عاقبة المسلمين.
وتفرع على هذا الوعد نهي عن طلب التعجيل، أي عليكم أن تكلوا ذلك إلى ما يوقته الله ويؤجله، ولكل أجل كتاب، فهو نهي عن التوغل في هذه الصفة وعن لوازم ذلك التي تفضي إلى الشك في الوعيد»اهـ.
ومن عجيب أمر العجلة أنها تحمل الإنسان على أن يضر نفسه كما قال تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولا }، قال ابن سعدي: «وهذا من جهل الإنسان وعجلته حيث يدعو على نفسه وأولاده وماله بالشر عند الغضب ويبادر بذلك الدعاء كما يبادر بالدعاء في الخير، ولكن الله - بلطفه - يستجيب له في الخير ولا يستجيب له بالشر: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ}»اهـ.
ولخطورة العجلة نسبت إلى الشيطان كما جاء في الحديث: «التأني من الله، والعجلة من الشيطان» أخرجه البيهقي وحسنه الألباني، ومعلوم أن كل ما أضيف إلى الشيطان فهو مذموم كما قال تعالى: {هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين}.
ولهذا كثرت أقوال العلماء في بيان فضل الرفق والتؤدة والتحذير من العجلة والطيش، قال الحسن بن علي رضي الله عنهما: «اعلموا أن الحلم زينة، والوفاء مروءة، والعجلة سفه، والسفر ضعف، ومجالسة أهل الدناءة شين، ومخالطة أهل الفسق ريبة».
قال أبو حاتم في روضة العقلاء: «الرافق لا يكاد يسبق، كما أن العَجِل لا يكاد يلحق، وكما أن من سكت لا يكاد يندم، كذلك من نطق لا يكاد يسلم، والعجل يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويحمد قبل أن يجرب، ويذم بعد ما يحمد، ويعزم قبل أن يفكر، ويمضي قبل أن يعزم، والعجل تصحبه الندامة، وتعتزله السلامة، وكانت العرب تكني العجلة، أم الندامات.
ونقل عن إبراهيم بن عمر بن حبيب قوله: كان يقال:لا يوجد العجول محمودا، ولا الغضوب مسرورا، ولا الحر حريصا، ولا الكريم حسودا، ولا الشره غنيا، ولا الملول ذا إخوان».
وقال أبو حاتم أيضا مبينا سبب العجلة وأثرها: «العجلة تكون من الحدة، وصاحب العجلة إن أصاب فرصته لم يكن محمودا، وإن أخطأها كان مذموما، والعجل لا يسير إلا مناكبا للقصد، منحرفا عن الجادة.
ونقل عن خالد بن برمك أنه قال: من استطاع أن يمنع نفسه من أربعة أشياء فهو خليق ألا ينزل به كبير مكروه؛ العجلة، واللجاجة، والعجب، والتواني، فثمرة العجلة الندامة، وثمرة اللجاجة الحيرة، وثمرة العجب البغضة، وثمرة التواني الذل.»اهـ.
فما أحوجنا في عصر السرعة إلى التأني والروية، والتؤدة والرفق، والصبر والنظر، في أمورنا كلها لنظفر بالمقاصد والغايات ونسلم من الندامة والخسران، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #33  
قديم 26-02-2024, 09:10 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,061
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمة ضالة المؤمن (36 )

حولهـــا ندنــدن



هذه الجملة المختصرة تتكرر على ألسنة كثير من الناس مستشهدين بها عند تقرير بعض الغايات المتفقة، وتأكيد بعض الأهداف المشتركة، فإذا التقت المقاصد واتفقت الوجهات قال أحدهم للآخر : حولها ندندن، أي قد اتفقت مقاصدنا وإن اختلفت عباراتنا أو وسائلنا.
ولا يخفى أن هذه العبارة الوجيزة هي كلام نبوي بليغ، حدد فيه النبي [ بكل وضوح وإيجاز الغاية التي ينبغي للمسلم أن يطلبها، والمقصد الذي ينبغي أن يسعى إليه؛ وذلك لأن تحديد الأهداف يعين على تعيين السبل، وضياع الأهداف يجعل سعي الإنسان عبثا وضلالا؛ لذا كان تحديد الأهداف مهما، كما أن وضوحها لا يقل أهمية؛ لأن الأهداف المبهمة تزيد حيرة الإنسان وتشتته، ولا تعينه على تحديد طريقه؛ لذا نجد أن القرآن الكريم واضح ومحدد ومباشر في تحديد الأهداف العليا للإنسان فقال تعالى:{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، وقال سبحانه:{ فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز}.
وبين الوسيلة بقوله عز وجلّ: {إياك نعبد وإياك نستعين} وقال تعالى: {ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون} فالعبادة والاستعانة والدعاء والتقوى والمجاهدة سبيل لتحقيق أعلى الغايات وأسمى المقاصد.
وهذا الحديث الكريم يؤكد هذا المعنى، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ] قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ [ لِرَجُلٍ: «مَا تَقُولُ فِي الصَّلاةِ؟» قَالَ: أَتَشَهَّدُ ثُمَّ أَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِهِ مِنْ النَّارِ، أَمَا وَاللَّهِ مَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ، فَقَالَ: «حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ» أخرجه أبو داود وصححه الألباني.
قال شراح الحديث: «الدندنة ـ بدالين مفتوحتين ونونين ـ هِيَ أَنْ يَتَكَلَّم الرَّجُل بِالْكَلامِ تُسْمَع نَغْمَته وَلا يُفْهَم، أَيْ: لا أَدْرِي مَا تَدْعُو بِهِ أَنْتَ يَا رَسُول اللَّه وَمَا يَدْعُو بِهِ مُعَاذ إِمَامنَا، وَلا أَعْرِف دُعَاءَك الْخَفِيّ الَّذِي تَدْعُو بِهِ فِي الصَّلاة وَلا صَوْت مُعَاذ، ولا أقدر على نظم ألفاظ المناجاة مثلك ومثل معاذ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الرَّجُل الصَّحَابِيّ مُعَاذًا - وَاَللَّه أَعْلَم - لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ قَوْم مُعَاذ أَوْ هُوَ مِمَّنْ كَانَ يُصَلِّي خَلْف مُعَاذ، والحاصل: إني أسمع صوتك وصوت معاذ ولكن لا أفهم.
ومعنى قوله: «حَوْلهَا»: أَيْ حَوْل الْجَنَّة وَالنَّار نُدَنْدِن, وَإِنَّمَا نَسْأَل الْجَنَّة وَنَتَعَوَّذ مِنْ النَّار كَمَا تَفْعَل، كما جاء في الرواية الأخرى : «حول هاتين»، قال المناوي :«أي ما ندندن إلا حول طلب الجنة والتعوذ من النار، فالحقيقة لا مباينة بين ما ندعو به وبين دعائك».
هذا الحديث العظيم اشتمل على فوائد نفيسة وحكم جليلة منها كما تقدم أهمية تحديد المقاصد والغايات ووضوحها حتى يبذل الإنسان لها السعي المناسب فلا يبالغ ولا يقصر كما قال تعالى :{ ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا}.
ومن فوائد الحديث أنه على المعلم أن يتفقد تلاميذه، وعلى الشيخ أن يتابع طلابه، وكذلك الداعية عليه أن يوجه المدعوين، فيبحث عن أحوالهم، ويسأل عن أوضاعهم الدينية؛ فمن كان محسنا شجعه وأثنى عليه، ومن كان مخطئا نصحه ووجهه، ومن كان متأولا علمه وبين له وجه الصواب، كما كان النبي [ يفعل مع الصحابة الكرام، تفقدا ومتابعة وتعليما وتوجيها، ولم يكن يكتف فقط بالبلاغ وإنما يزيد عليه التربية والتوجيه والتعليم.
ومن فوائد الحديث استحباب الدعاء في الصلاة ؛ فإن الصلاة مناجاة بين العبد وربه، والله تعالى يحب الدعاء ويحب من عبده أن يسأله ويتضرع إليه، ويستحب الدعاء بعد التشهد والصلاة الإبراهيمية وقبل السلام؛ لحديث ابن مسعود حيث علمه [ التشهد ثم قال: «ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو» متفق عليه، وفي لفظ مسلم:» ثم ليتخير من المسألة ما شاء». ولما قال أبو بكر ] للنبي [ :«علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال [: «قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم»متفق عليه.
ومن فوائد الحديث تقرير أن سؤال الله تعالى الجنة والاستعاذة به من النار هو طريقة الأنبياء والمرسلين والمؤمنين، وأنه لا ينقص من توحيد العابدين، كما يزعم بعض المتصوفين؛ حيث قرر بعضهم أن العبادة الحقة هي عبادة الله تعالى حبا في ذاته لا خوفا من ناره ولا طمعا في جنته، كما قال الغزالي في الإحياء: «العامل لأجل الجنة عامل لبطنه وفرجه كالأجير السوء ودرجته درجة البله، وأما عبادة ذوي الألباب فإنها لا تجاوز ذكر الله تعالى والفكر فيه حبا لجماله وجلاله، وهؤلاء أرفع درجة من الالتفات إلى المنكوح والمطعوم في الجنة فإنهم لم يقصدوها، بل هم الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه... ويسخرون ممن يلتفت إلى الحور العين «اهـ. ونقل في «الإحياء» عن رابعة العدوية أنه قالت: «ما عبدته خوفا من ناره ولا حبا في جنته فأكون كالأجير بل عبدته حبا له وشوقا إليه» ونقل عن أبي سليمان الداراني أنه قال: «إن لله عبادا ليس يشغلهم عن الله خوف نار ولا رجاء جنة»، ونقل عن بعض المتصوفة ولم يذكر اسمه: «من عبد الله لعوض فهو لئيم»، وغيرها من أقوال لبعض المتصوفة تؤكد هذا المعنى.
والقرآن الكريم يؤكد أن الرغبة والرهبة، والخوف والرجاء، وسؤال الله الجنة والتعوذ به من النار هو طريقة المرسلين، وسنة النبيين، ومنهج المؤمنين، وهو من توحيد رب العالمين، الذي خلق الجنة والنار، وجعلهما دار القرار لمن شاء من عباده الأبرار والفجار كما قال تعالى:{إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين}، مبينا حال النبيين عليهم السلام : وقال تعالى: {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه }، وقال عزوجل:{ إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين}.
ووصف سبحانه عباده المؤمنين فقال:{ إنما يخشى الله من عباده العلماء}،وقال سبحانه: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا}، وقال تعالى: {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون. والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون}، والآيات في الترغيب في الجنة والترهيب من النار كثيرة لا تخفى.
وكان النبي [ أشد الناس خشية لله تعالى كما قال :«إني أعلمكم بالله وأشدكم له خشية»، وكان يسأل الله تعالى الجنة ويستعيذ به من النار كما ورد في الحديث المذكور، وكان يطلب من المسلمين أن يدعوا الله تعالى أن يرزقه (الوسيلة) بعد الأذان لأنها أعلى درجة عند الله فقال [: «الوسيلة درجة عند الله ليس فوقها درجة، فسلوا الله أن يؤتيني الوسيلة «أخرجه أحمد وصححه الألباني وفي لفظ سأله الصحابة: وما الوسيلة ؟ قال: «أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل واحد، وأرجو أن أكون هو».
وكان يأمر المسلمين بالاستعاذة من النار وسؤال الله الجنة كما قال [: «استعيذوا بالله من عذاب القبر، استعيذوا بالله من عذاب جهنم..الحديث، وقال: «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه سر الجنة»أخرجه الطبراني يعني أفضل موضع فيها، فإنه أعلا درجات الجنة وأعظم مراتبها كما روى الترمذي وغيره أن رسول الله [ قال: «في الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة، ومن فوقها يكون العرش، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس». صححه الألباني.
فعلى المسلم أن يحدد أهدافه العليا، ويستحضرها أمامه كل حين، ليستعد لها الاستعداد المناسب، ولا يغفل عنها، فلا تستهويه الغفلات، ولا يبطره الأمل، وإنما هو التشمير والعمل، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #34  
قديم 27-02-2024, 10:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,061
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمة ضالة المؤمن (37) ليس كل ما يلمع ذهباً



لا شك أن بعض الأشياء قد تتشابه في الظاهر ، وتتماثل في نظر بعض الناس عند الوهلة الأولى، إلا أنها تختلف في واقع الأمر، ولا تخفى حقائقها على ذوي البصائر والتمييز، فهم يعرفون الفرق بين المتماثلات ظاهرا، ويدركون أن ليس كل ما يلمع ذهبا، في حين أن بسطاء التفكير ومحدودي العلم يغترون بالمظاهر، وينجرفون وراء البريق الزائف والدعاوى العريضة التي لا تستند إلى دليل ولا يؤيدها برهان.
والنصوص الشرعية تؤكد أن العبرة بالحقائق، وتحذر من الاغترار بالمظاهر، فمن ذلك قوله تعالى عن المنافقين :{ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ }، قال ابن كثير :«أَيْ وَكَانُوا أَشْكَالا حَسَنَة وَذَوِي فَصَاحَة وَأَلْسِنَة، وَإِذَا سَمِعَهُمْ السَّامِع يُصْغِي إِلَى قَوْلِهِمْ لِبَلاغَتِهِمْ ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ فِي غَايَة الضَّعْف وَالْخَوَر وَالْهَلَع وَالْجَزَع وَالْجُبْن».
وقال الشيخ ابن سعدي:» { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ } من روائها ونضارتها، { وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } أي: من حسن منطقهم تستلذ لاستماعه، فأجسامهم وأقوالهم معجبة، ولكن ليس وراء ذلك من الأخلاق الفاضلة والهدي الصالح شيء، ولهذا قال: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ } لا منفعة فيها، ولا ينال منها إلا الضرر المحض، { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} وذلك لجبنهم وفزعهم وضعف قلوبهم، والريب الذي في قلوبهم يخافون أن يطلع عليهم».
ويؤكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى، فعن سهل ابن سعد قال: مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس: «ما رأيك في هذا؟» قال: رجل من أشراف الناس، حَرِيٌّ – والله - إن خَطَبَ أنْ يُنكح، وإنْ شَفَعَ أن يُشَفَّع، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل آخر، فقال صلى الله عليه وسلم للرجل: «ما رأيك في هذا»؟ فقال: يا رسول الله! هذا رجل من فقراء المسلمين، حَرِي إنْ خَطَبَ ألا يُنكَح، وإنْ شَفَعَ ألا يُشَفَّع، وإنْ قال ألا يُسمَع لقوله، فقال [: «هذا خير من ملء الأرض مثل هذا» أخرجه البخاري.
وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الاغترار بأصحاب الأهواء والبدع مهما كان ظاهرهم حسنا، كما قال صلى الله عليه وسلم عن الخوارج: «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» أخرجه البخاري، فالخوارج بالغوا في التدين إلا أن ذلك لم ينفعهم لما كانوا عليه من انحراف منهجي وضلال فكري؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «يمرقون من الدين»، وعن أنس رضي الله عنه قال: ذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج فيكم أو يكون فيكم قوم يتعبدون ويتدينون حتى يعجبوكم وتعجبهم أنفسهم، يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية» أخرجه ابن أبي عاصم وقال الألباني: إسناده صحيح.
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تعجبوا بعمل أحد حتى تنظروا بما يختم له؛ فإن العامل يعمل زمانا من دهره أو برهة من دهره بعمل صالح لو مات دخل الجنة ثم يتحول فيعمل عملا سيئا ، وإن العبد ليعمل زمانا من دهره بعمل لو مات دخل النار ثم يتحول فيعمل عملا صالحا ، فإذا أراد الله بعبده خيرا استعمله قبل موته فوفقه لعمل صالح» أخرجه ابن أبي عاصم في السنة وقال الألباني :إسناده صحيح.
وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا عليكم ألا تعجبوا بأحد حتى تعلموا بما يختم له» أخرجه ابن أبي عاصم وقال الألباني : إسناده صحيح.
وحذر سلف الأمة من الاغترار بالمظاهر الزائفة والدعاوى المغشوشة، فعن يونس ابن عبد الأعلى الصدفي قال: قلت للشافعي: «كان الليث بن سعد يقول: «إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء: فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة». فقال الشافعي: «قصر الليث رحمه الله، بل إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء، ويطير في الهواء : فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة».
وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: «ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون »، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: «إن فيما أخشى عليكم زلة عالم وجدال المنافق بالقرآن ـ والقرآن حق ـ وعلى القرآن منار كأعلام الطريق».
وعن ابن عباس: «ويل للأتباع من عثرات العالم، قيل: كيف ذلك؟ قال: يقول العالم شيئا برأيه ثم يجد من هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منه فيترك قوله ذلك، ثم تمضي الأتباع»، وقال علي بن أبي طالب: «إياكم والاستنان بالرجال؛ فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل النار فيموت وهو من أهل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل الجنة فيموت وهو من أهل الجنة، فإن كنتم لا بد فاعلين فبالأموات لا بالأحياء» الجامع لابن عبد البر ، وقال ابن مسعود: «ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن ، وإن كفر كفر؛ فإنه لا أسوة في البشر»، وقال أيضا: «من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحيّ لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة ؛ أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا، اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه ، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم على أثرهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم».
وقال عبد الله بن المبارك: «رب رجل في الإسلام له قدم حسن وآثار صالحة، كانت منه الهفوة والزلة لا يُقتدى به في هفوته وزلته»، وقال الإمام مالك: «ليس كل ما قال رجل قولا – وإن كان له فضل – يتبع عليه؛ لقول الله عز وجل: {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه}، وقال مجاهد: «ليس من أحد إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم»، وقال ابن خزيمة: «ليس لأحد قول مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صح الخبر عنه».
وخلاصة القول أن الشرع المطهر قد وضع لنا معايير دقيقة وموازين عادلة للحكم على الاعتقادات والأقوال والأفعال والأشخاص والأشياء، الأخذ بها نجاة، والإعراض عنها أو تعطيلها باب الضلال والهلاك، فالمسلم يستضيء بنور الله الذي أنزله إلينا في كتابه وسنة رسوله [ ويميز بين المظاهر والحقائق، ولا يغتر بكل ناعق، ولا يشتري كل لامع؛ فليس كل ما يلمع ذهبا، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #35  
قديم 29-02-2024, 09:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,061
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمة ضالة المؤمن (38)

إنك لا تهدي من أحببت



لو تفحص العاقل نعم الله عليه - ولن يحصيها عدا - فلن يجد أعظم نعمة من نعمة الهداية، قال ابن القيم: «فإن أفضل ما يقدر الله بعبده وأجل ما يقسمه له (الهدى)، وأعظم ما يبتليه به ويقدره عليه (الضلال)، وكل نعمة دون نعمة الهدى، وكل مصيبة دون مصيبة الضلال»، ولهذا قال عز وجل: {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين}.
ومن عظمة الهداية أن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة ورأوا ما فيها من أنواع النعيم فإن أول ما يقولونه: {الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله}، وأعظم ما يتحسر عليه المفرط حين يرى العذاب أنه لم يكن من المهتدين كما قال تعالى: {أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين}، وقال[: «كل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول : لولا أن الله هداني، فيكون له شكرا، وكل أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول: لو أن الله هداني، فيكون عليه حسرة». أخرجه أحمد والحاكم.
وقد ذكر الله عز وجل في مواضع كثيرة من كتابه أن الهدى والضلال بيده سبحانه وتعالى فقال: {من يهد الله فهو المهتِد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا}، وهذَا من عظمته وكمال تفرده بالخلق والتدبير أنه يصطفي من يشاء من عباده فيوفقه للخير وهذا من فضله كما قال عز وجل في الحديث القدسي: «يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم».
وقد يشكل على بعض الأفهام آيتان قرآنيتان تثبت إحداهما الهداية لرسول الله[ والأخرى تنفيها عنه، فالآية الأولى قوله تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}، والأخرى قوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت}.
قال الشيخ ابن سعدي: «يخبر تعالى أنك يا محمد - وغيرك من باب أولى- لا تقدر على هداية أحد، ولو كان من أحب الناس إليك، فإن هذا أمر غير مقدور للخلق هداية للتوفيق، وخلق الإيمان في القلب، وإنما ذلك بيد اللّه سبحانه تعالى، يهدي من يشاء، وهو أعلم بمن يصلح للهداية فيهديه، ممن لا يصلح لها فيبقيه على ضلاله.
وأما إثبات الهداية للرسول في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}؛ فتلك هداية البيان والإرشاد، فالرسول[ يبين الصراط المستقيم، ويرغب فيه، ويبذل جهده في سلوك الخلق له، وأما كونه يخلق في قلوبهم الإيمان، ويوفقهم بالفعل، فحاشا وكلا.
ولهذا، لو كان قادرا عليها، لهدى من وصل إليه إحسانه، ونصره ومنعه من قومه، عمه أبا طالب، ولكنه أوصل إليه من الإحسان بالدعوة للدين والنصح التام، ما هو أعظم مما فعله معه عمه، ولكن الهداية بيد اللّه تعالى.»اهـ.
ومما يزيد الأمر وضوحا ويزيل ما قد يطرأ على الأذهان من تساؤلات، أن نعلم أن الهداية ليست نوعا واحدا بل إنها أقسام عديدة ومراتب متنوعة.
فالمرتبة الأولى: الهداية العامة:
وهي هداية كل نفس إلى مصالح معايشها وما يقيمها وهي أعم المراتب ، وهو ما فطر الله عليه عباده من الأعمال الفطرية التي فيها مصالحهم والبعد عن مضارهم، كما قال عز وجل: {الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى}، وقال على لسان موسى عليه السلام: {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى}، فإعطاء الخلق هو إيجاده في الخارج الموجود، والهداية هي التعليم والدلالة على سبيل بقائه وما يحفظه وما يقيمه.
المرتبة الثانية: هداية الإرشاد والبيان للمكلفين:
وهي هداية المكلفين ببيان الحق من الباطل وتمييز طريق الرشد من طريق الغواية وبيان الخير من الشر ، وهذه المرتبة أخص من التي قبلها؛ لأنها تختص بالمكلفين فقط وهي حجة الله عز وجل على خلقه التي لا يعذب أحدا إلا بعد إقامتها عليه كما قال عز وجل: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}، وقال: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}.
وهذه الهداية هداية بيان وتوجيه وإرشاد وتعليم ولا تستلزم حصول التوفيق واتباع الحق في الأمر نفسه، فلا دخل لها بإدخال الهداية في القلوب وشرح الصدور كما قال عز وجل: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى}؛ فقد تمت هدايتهم ببعثة الرسول المبين لهم، وقال عز وجل: {وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون}، فهداهم الله تعالى هداية البيان والدلالة فلم يهتدوا؛ فأضلهم الله عقوبة لهم بعد أن عرفوا الحق فأعرضوا عنه، وقال عز وجل: {إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا}، فقد أودع الله في كل نفس حب الخير وكراهية الشر كما قال عز وجل: {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها}.
المرتبة الثالثة: هداية التوفيق والإلهام:
وهي أخص من التي قبلها، وتتحقق هذه الهداية بأن يوفق الله عز وجل العبد إلى سلوك طريق الحق والاستقامة ويبعده عن طريق الانحراف، كما قال عز وجل: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام}، وقال: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه}، وقال: {ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان}، وهذه الهداية هي فعل الله عز وجل الذي اختص به وقد نفاه عن رسوله الكريم[ فقال: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين}، وقال: {إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل}، فالرسول[ يهدي هداية البيان والتوجيه، وهي المرتبة الثانية، كما قال تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}، لكنه لا يملك هداية التوفيق وشرح الصدور كما تقدم.
وحيث تقرر أن الهداية بيد الله عز وجل وجب على العبد أن يسعى في تحصيلها ويجتهد في اكتسابها، تماما كما يسعى في تحصيل الرزق والبحث عن أسباب الشفاء مع إيمانه التام واعتقاده الجازم بأن الرزق بيد الله والشفاء من عنده وحده عز وجل.
وأول أسباب تحصيل الهداية سؤال الله عز وجل أن يرزق العبد الهداية وأن يوفقه للحق علما وإرادة وقبولا، كما أن الاعتصام بالله ودينه والقيام بالأعمال الصالحة سبيل لتحصيل الهداية كما قال عز وجل: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم}، وقال عز وجل: {ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم}، وأيضا فإن التوبة النصوح سبب للهداية؛ قال عز وجل: {قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب}.
نسأل الله تعالى أن يهدينا سواء السبيل، وأن يوفقنا لصالح الأعمال والأخلاق، وأن يتقبل منا اليسير، وأن يتجاوز عن التقصير، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #36  
قديم 29-02-2024, 10:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,061
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمة ضالة المؤمن (39)

-الجماعة رحمة والفرقة عذاب



من المعلوم أن اجتماع المسلمين ووحدة صفهم وكلمتهم مقصد شرعي لا يمكن إهماله أو التغافل عنه، وقد دلت على هذا الأصل نصوص كثيرة منها قوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا}، قال ابن مسعود]: «حبل الله الجماعة»، وقال تعالى: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}.
والاجتماع على الدين وعدم التفرق فيه وصية الله تعالى للسابقين واللاحقين، كما قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}.
قال الشيخ ابن سعدي: «أي أمركم أن تقيموا جميع شرائع الدين، أصوله وفروعه، تقيمونه بأنفسكم، وتجتهدون في إقامته على غيركم، وتتعاونون على البر والتقوى، ولا تتعاونون على الإثم والعدوان، {ولا تتفرقوا فيه} أي ليحصل منكم اتفاق على أصول الدين وفروعه، واحرصوا على ألا تفرقكم المسائل، وتحزبكم أحزابا وشيعا، يعادي بعضكم بعضا، مع اتفاقكم على أصل دينكم»اهـ.
ونهى سبحانه عن اتباع سبيل المتفرقين الذين تركوا سبب اجتماعهم وهو الدين والبينات واتبعوا أهواءهم فضلوا وتفرقوا واستحقوا العذاب فقال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وأولئك لهم عذاب عظيم}.
وقال[ مبينا وحدة المسلمين وأهمية اجتماعهم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».
والاجتماع على الحق مما يحبه الله تعالى ويرضاه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ] قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ[: «إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلاثًا؛ فَيَرْضَى لَكُمْ: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ؛ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ» رواه مسلم، قال النووي: «أمر بلزوم جماعة المسلمين، وتآلف بعضهم ببعض، وهذه إحدى قواعد الإسلام».
والتفرق أمر مذموم ليس من هدي المسلمين بل هو من شأن الضالين؛ فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ] قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ[: «إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرَقَتْ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَإِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلا وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ» رواه ابن ماجه.
وبين النبي [ أن التفرق غاية الشيطان ووسيلته فقال: «إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم» رواه مسلم، قال النووي: «التحريش بينهم بالخصومات والشحناء والحروب والفتن وغيرها».
وحرص النبي [ على اجتماع المسلمين في كل المناسبات وعدم تفرقهم؛ فعن جابر بن سمرة ] قال: خَرَجَ عَلَيْنَا فَرَآنَا حِلَقًا، فَقَالَ: «مَا لِي أَرَاكُمْ عِزِينَ» رواه مسلم. قال النووي: «معناه النهي عن التفرق والأمر بالاجتماع».
وفي سنن أبي داود قال أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ]: كَانَ النَّاسُ إِذَا نَزَلُوا مَنْزِلًا تَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ[: «إِنَّ تَفَرُّقَكُمْ فِي هَذِهِ الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ إِنَّمَا ذَلِكُمْ مِنْ الشَّيْطَانِ»، فَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْزِلا إِلا انْضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ حَتَّى يُقَالَ: لَوْ بُسِطَ عَلَيْهِمْ ثَوْبٌ لَعَمَّهُمْ.
وبين النبي [ أن الجماعة سبيل الجنة فقال: «مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فليلزم الجماعة»رواه الترمذي، وبحبوحتها: أي: وسطها وأفضلها.
والجماعة سبب لنيل تأييد الله ورعايته كما قال [: «يد الله مع الجماعة» رواه الترمذي. والمعنى: أن الله يؤيد بعونه الجماعةَ التي تعتصم بحبله.
وعَنِ النعمان ] عَنِ النَّبِيِّ [ أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: «الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ».
وقد أمر الله عز وجل بالإصلاح بين الناس فقال تعالى: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم}، ونهى عن كثير من أسباب الفرقة كالغيبة والنميمة والسخرية والبيع على بيع المسلم والخطبة على خطبته ونحو ذلك؛ لأن ذلك سبيل لجمع شمل الأمة وإبعاد سبل التفرق المذموم عنها كما قال عز وجل : {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}.
والتآلف والتواد وشيوع المحبة بين المسلمين مطلب شرعي ومن أعظم مقاصد الشريعة، والاختلاف المقبول أمر واقع كما شهد به تاريخ العلماء في السابق والحاضر مع قيامهم بواجب الأخوة الإيمانية والحرص على دوام المحبة والبعد عن أسباب القطيعة والعداوة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا }، وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين».
وقال أيضا: «وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا معصية».
وقد كان ابن مسعود يناقش عثمان في مسألة قصر الصلاة في منى نقاشا شديدا، فإذا حضرت الصلاة صلى خلفه ويقول: «الخلاف شر»، وكان الشافعي يناظر يونس الصدفي ثم يقول له: «يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة؟!» قال الذهبي: «وهذا يدل على كمال عقل هذا الإمام وفقه نفسه فما زال النظراء يختلفون».
وتناظر الإمام أحمد وعلي بن المديني في مسألة حتى علت أصواتهما وخشي أن يقع بينهما جفاء، فلما أراد علي الانصراف قام أحمد فأخذ بركابه.
فالاجتماع على الحق، ونبذ الفرقة والاختلاف، من مقاصد الدين العظيمة، ومن مقتضيات الأخوة الإيمانية التي أمر الله بها ومدح المؤمنين بها في قوله: {إنما المؤمنون إخوة} وقال[: «وكونوا عباد الله إخوانا» ، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #37  
قديم 01-03-2024, 06:34 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,061
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمـة ضالـة المؤمن (40)

ثرثرة الإنسان مرآة أفكاره


لا شك أن من أعظم نعم الله تعالى على الإنسان أن جعل له عقلا مفكرا، وقلبا واعيا، ولسانا معبرا، كما قال الله تعالى:{الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان}.
وقد ذكر ابن كثير اختلاف المفسرين في معنى قوله تَعَالَى: {عَلَّمَهُ الْبَيَان}، فنقل عن الْحَسَن أنه قال:«يَعْنِي النُّطْق»، في حين اختار الضَّحَّاك وَقَتَادَة وَغَيْرهمَا أن المراد:»الْخَيْر وَالشَّرّ»، وَرجح ابن كثير قَوْل الْحَسَن؛ لأَنَّ السِّيَاق فِي تَعْلِيمه تَعَالَى الْقُرْآن وَهُوَ أَدَاء تِلَاوَته، وَإِنَّمَا يَكُون ذَلِكَ بِتَيْسِيرِ النُّطْق عَلَى الْخَلْق وَتَسْهِيل خُرُوج الْحُرُوف مِنْ مَوَاضِعهَا مِنْ الْحَلْق وَاللِّسَان وَالشَّفَتَيْنِ عَلَى اِخْتِلَاف مَخَارِجهَا وَأَنْوَاعهَا.» وقال الشيخ ابن سعدي:«{عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} أي: التبيين عما في ضميره، وهذا شامل للتعليم النطقي والتعليم الخطي، فالبيان الذي ميز الله به الآدمي على غيره من أجلّ نعمه، وأكبرها عليه.»
فاللسان معرب عما في الجنان من خير أو شر؛ ولهذا يمكن معرفة دخيلة الإنسان من فلتات لسانه كما قال تعالى عن المنافقين: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أن لن يخرج الله أضغانهم وَلَوْ نَشَاءُ لأرَينَاكهُم فَلَعَرَفَتهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}.
قال ابن سعدي: «يقول تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} من شبهة أو شهوة، بحيث تخرج القلب عن حال صحته واعتداله، أن الله لا يخرج ما في قلوبهم من الأضغان والعداوة للإسلام وأهله؟؛ هذا ظن لا يليق بحكمة الله؛ فإنه لا بد أن يميز الصادق من الكاذب، وذلك بالابتلاء بالمحن، التي من ثبت عليها، ودام إيمانه فيها، فهو المؤمن حقيقة، ومن ردته على عقبيه فلم يصبر عليها، وحين أتاه الامتحان، جزع وضعف إيمانه، وخرج ما في قلبه من الضغن، وتبين نفاقه، هذا مقتضى الحكمة الإلهية، مع أنه تعالى قال: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} أي: بعلاماتهم التي هي كالوسم في وجوههم {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} أي: لا بد أن يظهر ما في قلوبهم، ويتبين بفلتات ألسنتهم؛ فإن الألسن مغارف القلوب، يظهر منها ما في القلوب من الخير والشر {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} فيجازيكم عليها».
وقال ابن كثير: «يَقُول عَزَّ وَجَلَّ: وَلَوْ نَشَاء يَا مُحَمَّد لَأَرَيْنَاك أَشْخَاصهمْ فَعَرَفْتهمْ عِيَانًا وَلَكِنْ لَمْ يَفْعَل الله تَعَالَى ذَلِكَ فِي جَمِيع الْمُنَافِقِينَ سَترًا مِنْهُ عَلَى خَلْقه وَحَمْلا لِلأمُورِ عَلَى ظَاهِر السَّلَامَة وَرَدًّا لِلسَّرَائِرِ إِلَى عَالِمهَا ،{وَلَتَعْرِفَنَّهُم فِي لَحْن الْقَوْل} أَيْ فِيمَا يَبْدُو مِنْ كَلَامهمْ الدَّالّ عَلَى مَقَاصِدهمْ يُفْهَم الْمُتَكَلِّمُ مِنْ أَيّ الْحِزْبَيْنِ هُوَ بِمَعَانِي كَلَامه وَفَحْوَاهُ، وَهُوَ الْمُرَاد مِنْ لَحْن الْقَوْل كَمَا قَالَ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَان بْن عَفَّان ]:» مَا أَسَرَّ أَحَد سَرِيرَة إِلَّا أَبْدَاهَا اللَّه عَلَى صَفَحَات وَجْهه وَفَلَتَات لِسَانه» وَفِي الْحَدِيث: «مَا أَسَرَّ أَحَد سَرِيرَة إِلَّا كَسَاهُ اللَّه تَعَالَى جِلْبَابهَا إِنْ خَيْرًا فَخَيْر وَإِنْ شَرًّا فَشَرّ».
فحري بالمسلم أن يكون نقي السريرة، سليم الباطن؛ ولهذا ذكر الله تعالى تعليما لنا وإرشادا، دعاء المؤمنين أنهم يقولون: {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} مما يدل على أن طهارة الباطن وسلامة الصدر من الأمور المطلوبة، كما أن خبث الباطن وسوء الدخيلة والغل من الأمور المحظورة التي على المسلم أن يتجنبها ويسأل الله تعالى السلامة منها.
قال ابن سعدي: «ولهذا ذكر الله في الدعاء نفي الغل عن القلب، الشامل لقليل الغل وكثيره، الذي إذا انتفى ثبت ضده، وهو المحبة بين المؤمنين والموالاة والنصح، ونحو ذلك مما هو من حقوق المؤمنين.»
وفي الحديث عن عبد الله بن عمرو قال: قيل لرسول الله [: « أي الناس أفضل؟ قال: «كل مخموم القلب ، صدوق اللسان» قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال « هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد «أخرجه ابن ماجه.
فعلى المسلم أن يحذر من فلتات لسانه، وسقطات كلامه؛ فلا يكون مهذارا، ثرثارا، يتكلم بكل ما خطر بباله، ويتلفظ بما جرى على قلبه، بل يتخير ألفاظه ومعانيه، وينتقي مجالسيه ومستمعيه، ويعطي كل مجلس حقه من الحديث المناسب، ويحرص من آثار كلامه لئلا ترتد في نحره.
كما أن الكلام معيار العقل ، ومقياس الثقافة، وقد قيل :«كلام الرجل بيان فضله وترجمان عقله، فاقصره على الجميل واقتصر منه على القليل».
وكانت العرب قديما تقول: «كل إناء بما فيه ينضح»، فقلب المرء إذا امتلأ خيرا وطهارة ظهر على لسانه، وكذلك إذا ملئ خبثا وشرا برز في لفظه ومنطقه ، قال في «صبح الأعشى» : «كل ما يكون في خاطر الإنسان يظهر من الكلام الذي يخرج من فيه، وكل وعاء ما ينضح إلا بما فيه».
وقال الشاعر:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
أي: مهما حاول الإنسان أن يتصنع الخير وهو يضمر الشر فإن الله سوف يظهر ما بباطنه ويكشف عن سريرته يوما ما، فمهما كان للمرء من صفات أو عيوب خفية، أو حاول إخفاءها فسوف تنكشف للناس.
ومن الشعر الحكيم قول نصر بن أحمد:
لسان الفتى حتف الفتى حين يجهل
وكلّ امرئ ما بين فكَّيه مقتل
وكم فاتحٍ أبواب شرٍّ لنفسه
إذا لم يكن قفلٌ على فيه مقفل
إذا ما لسان المرء أكثر هذره
فذاك لسـانٌ بالبـلاء موكّـل
إذا شئت أن تحيا سعيداً مسلَّماً
فدبّر وميّز ما تقـول وتفعل
وقال صالح بن جناح:
أقلل كلامك واستعذ من شرّه
إنّ البلاء ببعضه مقرون
واحفظ لسانك واحتفظ من غيّه
حتّى يكون كأنَّه مسجون
وكِّل فؤادك باللِّسان وقل له
إنّ الكلام عليكما موزون
فزناه وليكُ محكماً في قلّةٍ
إنّ البلاغة في القليل تكون
- وخلاصة القول: إن ثرثرة المرء مرآة أفكاره، مثل صيني يدل على أن أفكار الإنسان تنعكس في كلامه، فليحذر من لسانه، وليطهر سريرته، وليعمر قلبه ولسانه بذكر الله والعلم النافع والعمل الصالح والذكر الدائم لينال خيري الدنيا والآخرة، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #38  
قديم 01-03-2024, 08:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,061
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمـة ضالـة المؤمن (41)

كونـــوا ربانــيين



دعا النبي صلى الله عليه وسلم بعض أهل الكتاب للإيمان به، ودعاهم إلى طاعته، فكان جوابهم : أتريد يا محمد أن نعبدك مع الله؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون}، وفيها ذكر بعض مقاصد البعثة ووظائف الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم يأمر أتباعه أن يكونوا ربانيين؛ ولهذا كان من الأهمية أن يتعرف محب الرسول صلى الله عليه وسلم ومتبعه على معنى الربانية وأبعادها حتى يتحقق بهذا الوصف.
فالرباني في لغة العرب منسوب إلى الرب ـ بزيادة ألف ونون للمبالغة ـ وقيل: هو من الرب بمعنى التربية، كانوا يربون المتعلمين بصغار العلوم قبل كبارها.
وقد اختلف المفسرون في المراد بالربانيين؛ فَقَالَ بَعْضهمْ : مَعْنَاهُ : كُونُوا حُكَمَاء عُلَمَاء فقهاء وهو قول اِبْن عَبَّاس وأَبِي رَزِين ومُجَاهِد والسُّدِّيّ، وذهب سَعِيد بْن جُبَيْر إلى أنهم الْحُكَمَاء الأتْقِيَاء، وَقَالَ آخَرُونَ: هُمْ وُلاة النَّاس وَقَادَتهم ، كما قال اِبْن زَيْد: الرَّبَّانِيُّونَ : الَّذِينَ يَرُبُّونَ النَّاس وُلاة هَذَا الْأَمْر، يَرُبُّونَهُمْ: يَلُونَهُمْ، وَقَرَأَ: {لَوْلَا يَنْهَاهُم الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَار} قَالَ: الرَّبَّانِيُّونَ : الْوُلاة, وَالْأَحْبَار : الْعُلَمَاء.
- وقال ابن سعدي: «أي: علماء حكماء حلماء معلمين للناس ومربيهم، بصغار العلم قبل كباره، عاملين بذلك، فهم يأمرون بالعلم والعمل والتعليم التي هي مدار السعادة، وبفوات شيء منها يحصل النقص والخلل»اهـ.
ويمكن هنا أن نلخص أهم سمات الربانيين:
أولاً : التوحيد والإخلاص
توحيد الله تعالى أساس دعوة الرسل كما قال عز وجل: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون}، والإخلاص من أهم ما يأمر به الرسل الناس كما قال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء}، ولا يخفى أن الرباني منسوب إلى الرب وهو الله تعالى، قال الطاهر ابن عاشور: «لأن النسب إلى الشيء إنما يكون لمزيد اختصاص المنسوب بالمنسوب إليه. ومعنى ذلك أن يكونوا مخلصين لله دون غيره» ولهذا قال في الآية التي تليها تأكيدا لهذا المعنى : {ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون }.
ثانياً: التعلم والتعليم
من أهم سمات الرباني الاشتغال بالعلم؛ دراسة عميقة وتدريسا رفيقا، وهذا ما تدل عليه نصوص العلماء؛ قال ابن الأعرابي: «الرباني: العالم المعلم، الذي يغذو الناس بصغار العلم قبل كبارها»، وقال محمد بن علي ابن الحنفية لما مات عبد الله بن عباس ]: «اليوم مات رباني هذه الأمة»، وروي عن علي ] أنه قال: «الناس ثلاثة؛ عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق».
وقال ابن سعدي : «والباء في قوله (بما كنتم تعلمون) باء السببية، أي: بسبب تعليمكم لغيركم المتضمن لعلمكم ودرسكم لكتاب الله وسنة نبيه، التي بدرسها يرسخ العلم ويبقى، تكونون ربانيين.»
وقال الطاهر: «وقوله {بما كنتم تعلمون الكتاب} أي لأن علمكم الكتاب من شأنه أن يصدكم عن إشراك العبادة، فإن فائدة العلم (العمل)، و(تدرسون) معناه: تقرؤون، أي قراءة بإعادة وتكرير: لأن مادة درس في كلام العرب تحوم حول معاني التأثر من تكرر عمل يعمل في أمثاله، وقالوا: درس الكتاب إذا قرأه بتمهل لحفظه، أو للتدبر، وفي الحديث: « ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة» رواه الترمذي، فعطف التدارس على القراءة، فعلم أن الدراسة أخص من القراءة، ومادة درس تستلزم التمكن من المفعول؛ فلذلك صار درس الكتاب مجازا في فهمه وإتقانه ولذلك عطف في هذه الآية {وبما كنتم تدرسون} على {بما كنتم تعلمون الكتاب}» اهـ.
ثالثاً : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الرباني يقوم بوظيفة الرسل والنبيين، ومنها إرشاد الناس إلى مصالحهم، ودعوتهم إلى خيري الدنيا والآخرة، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر كما قال تعالى: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون} قال ابن سعدي: «هلّا ينهاهم العلماء المتصدون لنفع الناس، الذين منّ الله عليهم بالعلم والحكمة عن المعاصي التي تصدر منهم، ليزول ما عندهم من الجهل، وتقوم حجة الله عليهم، فإن العلماء عليهم أمر الناس ونهيهم، وأن يبينوا لهم الطريق الشرعي، ويرغبوهم في الخير ويرهبوهم من الشر»اهـ.
ولهذا ذهب الطبري إلى أن الرَّبَّانِيّ ْمَنْسُوب إِلَى الرَّبَّان وهو الَّذِي يَرُبّ النَّاس, وَهُوَ الَّذِي يُصْلِح أُمُورهمْ وَيَرُبّهَا, وَيَقُوم بِهَا، قال: «وَكَانَ الْعَالِم بِالْفِقْهِ وَالْحِكْمَة مِنْ الْمُصْلِحِينَ , يَرُبّ أُمُور النَّاس بِتَعْلِيمِهِ إِيَّاهُمْ الْخَيْر , وَدُعَائِهِمْ إِلَى مَا فِيهِ مَصْلَحَتهمْ , وَكَانَ كَذَلِكَ الْحَكِيم التَّقِيّ لِلَّهِ, وَالْوَلِيّ الَّذِي يَلِي أُمُور النَّاس عَلَى الْمِنْهَاج الَّذِي وَلِيَهُ الْمُقْسِطُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ أُمُور الْخَلْق بِالْقِيَامِ فِيهِمْ, بِمَا فِيهِ صلاح عَاجِلهم وَآجِلهم, وَعَائِدَة النَّفْع عَلَيْهِمْ فِي دِينهمْ وَدُنْيَاهُمْ; كَانُوا جَمِيعًا مُسْتَحِقِّينَ أَنَّهُمْ مِمَّنْ دَخَلَ فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ}، فَالرَّبَّانِيُّونَ إِذًا, هُمْ عِمَاد النَّاس فِي الْفِقْه وَالْعِلْم وَأُمُور الدِّين وَالدُّنْيَا؛ وَلِذَلِكَ قَالَ مُجَاهِد: « وَهُمْ فَوْق الْأَحْبَار «, لِأَنَّ الْأَحْبَار هُمْ الْعُلَمَاء؛ وَالرَّبَّانِيّ: الْجَامِع إِلَى الْعِلْم وَالْفِقْه, الْبَصَر بِالسِّيَاسَةِ وَالتَّدْبِير, وَالْقِيَام بِأُمُورِ الرَّعِيَّة, وَمَا يُصْلِحهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَدِينهمْ .»اهـ.
ولا شك أن هناك صفات أخرى للربانيين، يجمعها الالتزام بكل ما شرعه الله تعالى من العقائد والأخلاق والأعمال، ظاهرا وباطنا ، فعلا وتركا ، مع الإخلاص لله تعالى والاتباع لرسول الله [ والنصح للخلق ورحمتهم، نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #39  
قديم 01-03-2024, 09:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,061
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمة ضالة المؤمن (42)

المتشبع بما لم يُعطَ كلابس ثوبَيْ زور



أدت الوفرة المالية لدى بعض الناس إلى ظهور سلوكيات غريبة في المجتمع، فقد نمت الصبغة الاستهلاكية لديهم فصاروا يشترون كل شيء، ويقتنون ما يحتاجون إليه وما لا يحتاجون، وأصبحوا يتباهون بالأمور الكمالية، ويتنافسون في إبراز مظاهر الغنى والثراء؛ مما حدا ببعضهم الآخر إلى تقليدهم ومحاكاتهم ولو كان ذلك خارجا عن قدرتهم المالية، وقد يوقعهم ذلك في الديون والأعباء المالية المتراكمة وما يتبعها من مطالبات وسجن ونحوها.
إن الشرع المطهر يدعونا إلى القناعة والعفاف، ويحذرنا من الاستكثار المذموم من الدنيا ومظاهرها البراقة، ويوجهنا إلى الاشتغال بمعالي الأمور، والاستعداد ليوم المعاد، وتوظيف ما بأيدينا من الدنيا لخدمة الدين وتعمير الآخرة، من غير إهمال لحظوظنا الدنيوية من التمتع المباح والتنعم بما سخر الله عز وجل لنا من النعم وأخرج لنا من الأرزاق دون إفراط ولا تفريط، كما قال عز وجل: {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك}.
فالقناعة والرضا بما رزق الله من أسباب السعادة القلبية والراحة البدنية كما قال صلى الله عليه وسلم: « قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنـّعه الله بما آتاه» أخرجه مسلم.
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: « اللهم قنعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف على كل غائبة لي بخير «أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
ومن أسباب القناعة أن يعرف المسلم نعمة الله عليه وما فضله به بأن ينظر إلى من هو أقل منه مالا وأدنى درجة كما قال صلى الله عليه وسلم: «انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله»متفق عليه.
فحقيقة الغنى فيما يكون في القلب من قناعة ورضا وليس فيما يكون في اليد من أموال ومقتنيات كما قال صلى الله عليه وسلم: «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس»متفق عليه، قال النووي: «العرض: متاع الدنيا، ومعنى الحديث: الغنى المحمود غنى النفس، وشبعها، وقلة حرصها، لا كثرة المال مع الحرص على الزيادة؛ لأن من كان طالبا للزيادة لم يستغن بما معه، فليس له غنى»اهـ.
قال ابن القيم: «يكمل غنى القلب بغنى آخر هو غنى النفس، وآيته: سلامتها من الحظوظ، وبراءتها من المراءاة»، فالجري وراء المظاهر الجوفاء، والاستكثار من المتاع الزائل لا يزيد الإنسان إلا فقرا في نفسه، وذلا لحاجاته، وتأمل كيف وصف النبي صلى الله عليه وسلم من كان هذا حاله بالعبودية والذل لهذه المطلوبات فقال صلى الله عليه وسلم « تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة، إن أعطي رضي وإن مُنع غضب، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش».
- قال أبو حاتم: «من نازعته نفسه إلى القنوع، ثم حسد الناس على ما في أيديهم فليس ذلك لقناعة ولا لسخاوة، بل لعجز وفشل، فمثله كمثل حمار السوء الذي يعرج بخفة حمله، ويحزن إذا رأى العلف يؤثر به ذو القوة والحمل الثقيل، فالقانع الكريم أراح قلبه وبدنه، والشره اللئيم أتعب قلبه وجسمه.»اهـ.
- فقوله صلى الله عليه وسلم: «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي ‏ ‏زور» من الحكم النبوية الجليلة التي تعالج سلوكا اجتماعيا مريضا، ابتلي صاحبه بالمظهرية الجوفاء، وظن أن الاستكثار من المظاهر البراقة يرفع صاحبها أو يزيد من غناه في أعين الناس، وسبب ورود الحديث ما روته ‏‏أسماء بنت أبي بكر ‏- رضي الله عنهما - ‏قالت: « ‏جاءت امرأة إلى النبي ‏صلى الله عليه وسلم ‏فقالت: يا رسول الله إن لي ضرة فهل عليّ جناح أن أتشبع من مال زوجي بما لم يعطني؟ وفي رواية عائشة: أقول: إن زوجي أعطاني ما لم يعطني؟ فقال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم: « ‏المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي ‏ ‏زور».
- قال النووي: «قال العلماء: معناه: المتكثر بما ليس عنده، بأن يظهر أن عنده ما ليس عنده يتكثر بذلك عند الناس، ويتزين بالباطل فهو مذموم كما يذم من لبس ثوبي زور.
- قال أبو عبيد وآخرون: هو الذي يلبس ثياب أهل الزهد والعبادة والورع، ومقصوده أن يظهر للناس أنه متصف بتلك الصفة، ويظهر من التخشع والزهد أكثر مما في قلبه فهذه ثياب زور ورياء، وقيل: هو كمن لبس ثوبين لغيره وأوهم أنهما له، وقيل: هو من يلبس قميصاً واحداً ويصل بكميه كمين آخرين فيظهر أن عليه قميصين، وحكى الخطابي قولاً آخر: أن المراد هنا بالثوب الحالة والمذهب، والعرب تكني بالثوب عن حال لابسه، ومعناه: أنه كالكاذب القائل ما لم يكن، وقولاً آخر: أن المراد الرجل الذي تطلب منه شهادة زور فيلبس ثوبين يتجمل بهما فلا ترد شهادته لحسن هيئته. والله أعلم». انتهى.
- وقال ابن حجر في الفتح: “قوله “المتشبع” أي المتزين بما ليس عنده يتكثر بذلك ويتزين بالباطل، كالمرأة تكون عند الرجل ولها ضرة فتدعي من الحظوة عند زوجها أكثر مما عنده تريد بذلك غيظ ضرتها، وكذلك هذا في الرجال».
- وعن سبب تثنية الثوبين: قال ابن حجر: «للإشارة إلى أن كذب المتحلي مثنى؛ لأنه كذب على نفسه بما لم يأخذ وعلى غيره بما لم يعط، وكذلك شاهد الزور يظلم نفسه ويظلم المشهود عليه».
- وقال الداودي: في التثنية إشارة إلى أنه كالذي قال الزور مرتين مبالغة في التحذير من ذلك، وقال ابن التين «هو أن يلبس ثوبي وديعة أو عارية يظن الناس أنهما له ولباسهما لا يدوم ويفتضح بكذبه، وأراد بذلك تنفير المرأة عما ذكرت خوفاً من الفساد بين زوجها وضرتها ويورث بينهما البغضاء فيصير كالسحر الذي يفرق بين المرء وزوجه، ويحتمل أن تكون التثنية إشارة إلى أنه حصل بالتشبع، حالتان مذمومتان: فقدان ما يتشبع به وإظهار الباطل» اهـ.
وخلاصة الأمر أنه على المسلم أن يرضى بما قسم الله عز وجل له، ولا يظهر نفسه بأعلى مما هو فيه، ولا يحمل نفسه من النفقات والديون ما لا يطيق ليظهر بصورة تخالف واقعه وحقيقة أمره، ولا مانع من الطموح المشروع بأن يصل إلى أعلى المراتب، ويكسب أعلى الدخول، ولكن ليس عن طريق المظاهر المزورة، بل بالسعي الجاد والتحصيل المتقن للعلوم النافعة، والخبرات المفيدة، والعمل الدؤوب، فبذلك يرقى بجد في سلم الكمالات، ويعلو في سماء الرفعة، كما قال عز وجل: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #40  
قديم 02-03-2024, 08:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,061
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمة ضالة المؤمن (43)

من يظهر عيوب الآخرين ينحط في نظر المستمعين



يتلذذ بعض الناس بذكر عيوب الآخرين والانتقاص منهم، فيشغل فراغه بتتبع أخبارهم، ثم يقضي وقته في مضغ عيوبهم وفضح أسرارهم، وقد يحمله ذلك المرض على الكذب والافتراء ليزيد للخبر نكهة تحمل السامعين على مشاركته في لذة الوقيعة بالآخرين، وعدم استنكار ذلك أو الإعراض عنه.
وهذا السلوك المريض المنحرف سماه الشرع «غيبة» فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أتدرون ما الغيبة؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «ذكرك أخاك بما يكره» أخرجه مسلم، قال المناوي: «ومن أحسن تعاريفها: ذكر العيب بظهر الغيب».
وهذا المرض وللأسف شائع لدى النساء والرجال على حد السواء إلا من رحم الله وعافاه من أكل لحوم الآخرين والتفكه بأعراضهم في غيبتهم، وقد نهانا الله عز وجل عن هذا الفعل القبيح بأشد التحذير فقال عز وجل: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}، قال ابن سعدي: «وفي هذه الآية دليل على التحذير الشديد من الغيبة، وأن الغيبة من الكبائر؛ لأن الله شبهها بأكل لحم الميت، وذلك من الكبائر».
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس: إِنَّمَا ضَرَبَ اللَّه هَذَا الْمَثَل لِلْغِيبَةِ لِأَنَّ أَكْل لَحْم الْمَيِّت حَرَام مستقذر, وَكَذَا الْغِيبَة حَرَام فِي الدِّين وَقَبِيح فِي النُّفُوس. وَقَالَ قَتَادَة: كَمَا يَمْتَنِع أَحَدكُمْ أَنْ يَأْكُل لَحْم أَخِيهِ مَيِّتًا كَذَلِكَ يَجِب أَنْ يَمْتَنِع مِنْ غِيبَته حَيًّا.
والعلماء متفقون على أَنَّ الْغِيبَة مِنْ الْكَبَائِر, وَأَنَّ مَنْ اِغْتَابَ أَحَدًا عَلَيْهِ أَنْ يَتُوب إِلَى اللَّه عز وجل، قال ابن كثير: «وَالْغِيبَة مُحَرَّمَة بِالْإِجْمَاعِ لَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا رُجِّحَتْ مَصْلَحَتُهُ»، والدليل على ذلك: ما أخرجه أَبو دَاوُد عَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه [: «لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْت بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَار مِنْ نُحَاس يَخْمُشُونَ وُجُوههمْ وَصُدُورهمْ فَقُلْت: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيل؟ قَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُوم النَّاس وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضهمْ».
قال الشراح:» لما كان خمش الوجه والصدر من صفات النساء النائحات جعلهما جزاء من يغتاب ويفري في أعراض المسلمين إشعارا بأنهما ليسا من صفات الرجال، بل هما من صفات النساء في أقبح حالة وأشوه صورة «.
وَعَنْ الْمُسْتَوْرِد أَنَّ رَسُول اللَّه [ قَالَ: «مَنْ أَكَلَ بِرَجُلٍ مُسْلِم أَكْلَة فَإِنَّ اللَّه يُطْعِمهُ مِثْلهَا مِنْ جَهَنَّم، وَمَنْ كُسِيَ ثَوْبًا بِرَجُلٍ مُسْلِم فَإِنَّ اللَّه يَكْسُوهُ مِثْله مِنْ جَهَنَّم، وَمَنْ أَقَامَ بِرَجُلٍ مَقَام سُمْعَة وَرِيَاء فَإِنَّ اللَّه يَقُوم بِهِ مَقَام سُمْعَة وَرِيَاء يَوْم الْقِيَامَة».
قال الشراح: «قوله: «مَنْ أَكَلَ بِرَجُلٍ مُسْلِم أَكْلَة» أي بسبب اغتيابه والوقيعة فيه أو بتعرضه له بالأذية عند من يعاديه، قال ابن الأثير: معناه الرجل يكون صديقا ثم يذهب إلى عدوه فيتكلم فيه بغير الجميل ليجيزه بجائزة فلا يبارك الله له فيها» اهـ.
وقَوْله [:«يَا مَعْشَر مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُل الْإِيمَان قَلْبه، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ»، قال الشراح: «فيه تنبيه أن غيبة المسلم من شعار المنافق لا المؤمن».
وعن سعيد بن زيد عن النبي [ قال: «إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق» أخرجه أبو داود، قال الشراح: «أي من أكثر الربا وبالا وأشده تحريما إطالة اللسان في عرض المسلم، أي احتقاره والترفع عليه والوقيعة فيه بنحو قذف أو سب، وإنما يكون أشد تحريما لأن العرض أشد على النفس من المال» «أهـ.
وَقَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رضي الله عنه: «إِيَّاكُمْ وَذِكْر النَّاس فَإِنَّهُ دَاء , وَعَلَيْكُمْ بِذِكْرِ اللَّه فَإِنَّهُ شِفَاء»، وقال الحسن: «والله للغيبة، أسرع في دين الرجل من الأكلة في الجسد».
ما واجب المسلم تجاه الغيبة؟
أولاً: يجب على المسلم أن يتجنب الغيبة ويتوب منها ويقلع عنها؛ لما ورد فيها من الوعيد الشديد والترهيب الرهيب كما تقدم، وقد أخرج أبو داود والترمذي عن عائشة أنها قالت للنبي [: «حسبك من صفية أنها كذا وكذا» تعني قصيرة، فقال [: «لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته» أي عكرته.
ثانياً: إذا ابتلي المسلم بالغيبة فعليه أن يعالج نفسه منها، وذلك بالعلم والعمل كما قال الغزالي: «إعلم أن مساوئ الأخلاق كلها إنما تعالج بمعجون العلم والعمل، وعلاج كف اللسان عن الغيبة إجمالا: أن يعلم أنه يتعرض لسخط الله تعالى إذا اغتاب لارتكابه ما نهى الله عنه، فمهما آمن العبد بما ورد من الأخبار في الغيبة لم يطلق لسانه بها خوفا من ذلك».
وينفعه أيضا أن يتدبر في نفسه، فإذا وجد فيها عيبا اشتغل بعيب نفسه [، وفي الأثر: «طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس».
ومهما وجد عيبا فينبغي أن يستحيي من أن يترك ذم نفسه ويذم غيره، بل ينبغي أن يتحقق أن عجز غيره عن نفسه بالتنزه عن ذلك العيب كعجزه، هذا إذا كان ذلك عيبا يتعلق بفعله واختياره، وإن كان أمرا خلقيا، فالذم له ذم للخالق؛ فإن من ذم صنعة فقد ذم الصانع، وإذا لم يجد العبد عيبا في نفسه فليشكر الله تعالى ولا يلوثن نفسه بأعظم العيوب، فإن ثلب الناس وأكل لحم الميتة من أعظم العيوب؛ بل لو أنصف لعلم أن ظنه بنفسه أنه بريء من كل عيب جهل بنفسه، وهو من أعظم الذنوب.
وينفعه أيضا أن يعلم أن تألم غيره بغيبته كتألمه بغيبة غيره له؛ فإذا كان لا يرضى لنفسه أن يُغتاب، فينبغي ألا يرضى لغيره ما لا يرضاه لنفسه.
وبالجملة: فمن قوي إيمانه انكف عن الغيبة لسانه. اهـ.
ثالثا: على المسلم إذا سمع غيبة مسلم أن يدافع عنه ما استطاع ويزجر قائلها، فعن أبي الدرداء أن النبي [ قال: «من رد عن عرض أخيه ردّ الله عن وجهه النار يوم القيامة»، وقال رسول الله [: «من ذبّ عن عرض أخيه بالغيبة كان حقا على الله أن يعتقه من النار» أخرجه أحمد، وقَالَ رَسُول اللَّه [: «مَا مِنْ امْرِئ يَخْذُل امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِع تُنْتَهَك فِيهِ حُرْمَته وَيُنْتَقَص فِيهِ مِنْ عِرْضه إِلَّا خَذَلَهُ اللَّه تَعَالَى فِي مَوَاطِن يُحِبّ فِيهَا نُصْرَته، وَمَا مِنْ امْرِئ يَنْصُر اِمْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِع يُنْتَقَص فِيهِ مِنْ عِرْضه وَيُنْتَهَك فِيهِ مِنْ حُرْمَته إِلَّا نَصَرَهُ اللَّه عز وجل فِي مَوَاطِن يُحِبّ فِيهَا نُصْرَته» أخرجه أَبُو دَاوُدَ.
فنسأل الله تعالى أن يعافينا جميعا من الغيبة وسائر آفات اللسان، وبالله التوفيق.


اعداد: د.وليد خالد الربيع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 167.41 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 161.53 كيلو بايت... تم توفير 5.88 كيلو بايت...بمعدل (3.51%)]