تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله - الصفحة 25 - ملتقى الشفاء الإسلامي
 

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12535 - عددالزوار : 215416 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »          اضطراباتي النفسية دمرتني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »          زوجي مصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 41 )           »          مجالس تدبر القرآن ....(متجدد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 182 - عددالزوار : 61204 )           »          مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 123 - عددالزوار : 29184 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #241  
قديم 06-12-2019, 04:27 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (241)
تفسير السعدى
سورة يوسف
من الأية(44) الى الأية(52)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة يوسف بن يعقوب عليهما الصلاة والسلام
وهي مكية

قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) .

و ( قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ ) أي أحلام لا حاصل لها، ولا لها تأويل.
وهذا جزم منهم بما لا يعلمون، وتعذر منهم، [بما ليس بعذر] ثم قالوا: ( وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلامِ بِعَالِمِينَ ) أي: لا نعبر إلا الرؤيا، وأما الأحلام التي هي من الشيطان، أو من حديث النفس، فإنا لا نعبرها.
فجمعوا بين الجهل والجزم، بأنها أضغات أحلام، والإعجاب بالنفس، بحيث إنهم لم يقولوا: لا نعلم تأويلها، وهذا من الأمور التي لا تنبغي لأهل الدين والحجا، وهذا أيضا من لطف الله بيوسف عليه السلام. فإنه لو عبرها ابتداء - قبل أن يعرضها على الملأ من قومه وعلمائهم، فيعجزوا عنها -لم يكن لها ذلك الموقع، ولكن لما عرضها عليهم فعجزوا عن الجواب، وكان الملك مهتما لها غاية، فعبرها يوسف- وقعت عندهم موقعا عظيما، وهذا نظير إظهار الله فضل آدم على الملائكة بالعلم، بعد أن سألهم فلم يعلموا. ثم سأل آدم، فعلمهم أسماء كل شيء، فحصل بذلك زيادة فضله، وكما يظهر فضل أفضل خلقه محمد صلى الله عليه وسلم في القيامة، أن يلهم الله الخلق أن يتشفعوا بآدم، ثم بنوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى عليهم السلام، فيعتذرون عنها، ثم يأتون محمدا صلى الله عليه وسلم فيقول: "أنا لها أنا لها" فيشفع في جميع الخلق، وينال ذلك المقام المحمود، الذي يغبطه به الأولون والآخرون.
فسبحان من خفيت ألطافه، ودقَّت في إيصاله البر والإحسان، إلى خواص أصفيائه وأوليائه.
( وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا ) أي: من الفتيين، وهو: الذي رأى أنه يعصر خمرا، وهو الذي أوصاه يوسف أن يذكره عند ربه ( وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ) أي: وتذكر يوسف، وما جرى له في تعبيره لرؤياهما، وما وصاه به، وعلم أنه كفيل بتعبير هذه الرؤيا بعد مدة من السنين فقال: ( أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ) إلى يوسف لأسأله عنها.
فأرسلوه، فجاء إليه، ولم يعنفه يوسف على نسيانه، بل استمع ما يسأله عنه، وأجابه عن ذلك فقال: ( يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ ) أي: كثير الصدق في أقواله وأفعاله. ( أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ) فإنهم متشوقون لتعبيرها، وقد أهمتهم.
< 1-400 >
فعبر يوسف، السبع البقرات السمان والسبع السنبلات الخضر، بأنهن سبع سنين مخصبات، والسبع البقرات العجاف، والسبع السنبلات اليابسات، بأنهن سنين مجدبات، ولعل وجه ذلك - والله أعلم - أن الخصب والجدب لما كان الحرث مبنيا عليه، وأنه إذا حصل الخصب قويت الزروع والحروث، وحسن منظرها، وكثرت غلالها، والجدب بالعكس من ذلك. وكانت البقر هي التي تحرث عليها الأرض، وتسقى عليها الحروث في الغالب، والسنبلات هي أعظم الأقوات وأفضلها، عبرها بذلك، لوجود المناسبة، فجمع لهم في تأويلها بين التعبير والإشارة لما يفعلونه، ويستعدون به من التدبير في سني الخصب، إلى سني الجدب فقال: ( تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا ) أي: متتابعات.
( فَمَا حَصَدْتُمْ ) من تلك الزروع ( فَذَرُوهُ ) أي: اتركوه ( فِي سُنْبُلِهِ ) لأنه أبقى له وأبعد من الالتفات إليه ( إِلا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُونَ ) أي: دبروا أيضا أكلكم في هذه السنين الخصبة، وليكن قليلا ليكثر ما تدخرون ويعظم نفعه ووقعه.
( ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ) أي: بعد تلك السنين السبع المخصبات. ( سَبْعٌ شِدَادٌ ) أي: مجدبات جدا ( يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ ) أي: يأكلن جميع ما ادخرتموه ولو كان كثيرا. ( إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ ) أي: تمنعونه من التقديم لهن.
( ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ) أي: بعد السبع الشداد ( عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ) أي: فيه تكثر الأمطار والسيول، وتكثر الغلات، وتزيد على أقواتهم، حتى إنهم يعصرون العنب ونحوه زيادة على أكلهم، ولعل استدلاله على وجود هذا العام الخصب، مع أنه غير مصرح به في رؤيا الملك، لأنه فهم من التقدير بالسبع الشداد، أن العام الذي يليها يزول به شدتها،.ومن المعلوم أنه لا يزول الجدب المستمر سبع سنين متواليات، إلا بعام مخصب جدا، وإلا لما كان للتقدير فائدة، فلما رجع الرسول إلى الملك والناس، وأخبرهم بتأويل يوسف للرؤيا، عجبوا من ذلك، وفرحوا بها أشد الفرح.

وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) .

يقول تعالى: ( وَقَالَ الْمَلِكُ ) لمن عنده ( ائْتُونِي بِهِ ) أي: بيوسف عليه السلام، بأن يخرجوه من السجن ويحضروه إليه، فلما جاء يوسف الرسول وأمره بالحضور عند الملك، امتنع عن المبادرة إلى الخروج، حتى تتبين براءته التامة، وهذا من صبره وعقله ورأيه التام.
فـ ( قَالَ ) للرسول: ( ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ ) يعني به الملك. ( فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ) أي: اسأله ما شأنهن وقصتهن، فإن أمرهن ظاهر متضح ( إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ) .
فأحضرهن الملك، وقال: ( مَا خَطْبُكُنَّ ) أي: شأنكن ( إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ ) فهل رأيتن منه ما يريب؟
فبرَّأنه و ( قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ) أي: لا قليل ولا كثير، فحينئذ زال السبب الذي تنبني عليه التهمة، ولم يبق إلا ما عند امرأة العزيز، فـ ( قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ) أي: تمحض وتبين، بعد ما كنا ندخل معه من السوء والتهمة، ما أوجب له السجن ( أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) في أقواله وبراءته.
( ذَلِكَ ) الإقرار، الذي أقررت [أني راودت يوسف] ( لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ )

يحتمل أن مرادها بذلك زوجها أي: ليعلم أني حين أقررت أني راودت يوسف، أني لم أخنه بالغيب، أي: لم يجر منِّي إلا مجرد المراودة، ولم أفسد عليه فراشه، ويحتمل أن المراد بذلك ليعلم يوسف حين أقررت أني أنا الذي راودته، وأنه صادق أني لم أخنه في حال غيبته عني. ( وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ) فإن كل خائن، لا بد أن تعود خيانته ومكره على نفسه، ولا بد أن يتبين أمره.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #242  
قديم 06-12-2019, 04:28 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (242)
تفسير السعدى
سورة يوسف
من الأية(53) الى الأية(63)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة يوسف بن يعقوب عليهما الصلاة والسلام
وهي مكية

وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57) .

ثم لما كان في هذا الكلام نوع تزكية لنفسها، وأنه لم يجر منها ذنب في شأن يوسف، استدركت فقالت: ( وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ) أي: من المراودة والهمِّ، والحرص الشديد، والكيد في ذلك. ( إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ) أي: لكثيرة الأمر لصاحبها بالسوء، أي: الفاحشة، وسائر الذنوب، فإنها مركب الشيطان، ومنها يدخل على الإنسان ( إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي ) فنجاه من نفسه الأمارة، حتى صارت نفسه مطمئنة إلى ربها، منقادة لداعي الهدى، متعاصية عن داعي الردى، فذلك ليس من النفس، بل من فضل الله ورحمته بعبده.
( إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أي: هو غفور لمن تجرأ على الذنوب والمعاصي، إذا تاب وأناب، ( رَحِيمٌ ) بقبول توبته، وتوفيقه للأعمال الصالحة،. وهذا هو الصواب أن هذا من قول امرأة العزيز، لا من قول يوسف، فإن السياق في كلامها، ويوسف إذ ذاك في < 1-401 > السجن لم يحضر.
فلما تحقق الملك والناس براءة يوسف التامة، أرسل إليه الملك وقال: ( ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ) أي: أجعله خصيصة لي ومقربا لديَّ فأتوه به مكرما محترما، ( فَلَمَّا كَلَّمَهُ ) أعجبه كلامه، وزاد موقعه عنده فقال له: ( إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا ) أي: عندنا ( مَكِينٌ أَمِينٌ ) أي: متمكن، أمين على الأسرار، فـ ( قَالَ ) يوسف طلبا للمصلحة العامة: ( اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرْضِ ) أي: على خزائن جبايات الأرض وغلالها، وكيلا حافظا مدبرا.
( إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) أي: حفيظ للذي أتولاه، فلا يضيع منه شيء في غير محله، وضابط للداخل والخارج، عليم بكيفية التدبير والإعطاء والمنع، والتصرف في جميع أنواع التصرفات، وليس ذلك حرصا من يوسف على الولاية، وإنما هو رغبة منه في النفع العام، وقد عرف من نفسه من الكفاءة والأمانة والحفظ ما لم يكونوا يعرفونه.
فلذلك طلب من الملك أن يجعله على خزائن الأرض، فجعله الملك على خزائن الأرض وولاه إياها.
قال تعالى: ( وَكَذَلِكَ ) أي: بهذه الأسباب والمقدمات المذكورة، ( مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ) في عيش رغد، ونعمة واسعة، وجاه عريض، ( نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ ) أي: هذا من رحمة الله بيوسف التي أصابه بها وقدرها له، وليست مقصورة على نعمة الدنيا.
( وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) ويوسف عليه السلام من سادات المحسنين، فله في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، ولهذا قال: ( وَلأجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ ) من أجر الدنيا ( لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ) أي: لمن جمع بين التقوى والإيمان، فبالتقوى تترك الأمور المحرمة من كبائر الذنوب وصغائرها، وبالإيمان التام يحصل تصديق القلب، بما أمر الله بالتصديق به، وتتبعه أعمال القلوب وأعمال الجوارح، من الواجبات والمستحبات.

وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) .

أي: لما تولى يوسف عليه السلام خزائن الأرض، دبرها أحسن تدبير، فزرع في أرض مصر جميعها في السنين الخصبة، زروعا هائلة، واتخذ لها المحلات الكبار، وجبا من الأطعمة شيئا كثيرا وحفظه، وضبطه ضبطا تاما، فلما دخلت السنون المجدبة، وسرى الجدب، حتى وصل إلى فلسطين، التي يقيم فيها يعقوب وبنوه، فأرسل يعقوب بنيه لأجل الميرة إلى مصر. ( وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ) أي: لم يعرفوه.
( وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ ) أي: كال لهم كما كان يكيل لغيرهم، وكان من تدبيره الحسن أنه لا يكيل لكل واحد أكثر من حمل بعير، وكان قد سألهم عن حالهم، فأخبروه أن لهم أخا عند أبيه، وهو بنيامين.
فـ ( قَالَ ) لهم: ( ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ ) ثم رغبهم في الإتيان به فقال: ( أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزلِينَ ) في الضيافة والإكرام.
ثم رهبهم بعدم الإتيان به، فقال: ( فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ ) وذلك لعلمه باضطرارهم إلى الإتيان إليه، وأن ذلك يحملهم على الإتيان به.
فـ ( قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ ) دل هذا على أن يعقوب عليه السلام كان مولعا به لا يصبر عنه، وكان يتسلى به بعد يوسف، فلذلك احتاج إلى مراودة في بعثه معهم ( وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ) لما أمرتنا به.
( وَقَالَ ) يوسف ( لِفِتْيَانِهِ ) الذين في خدمته: ( اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ ) أي: الثمن الذي اشتروا به من الميرة. ( فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا ) أي: بضاعتهم إذا رأوها بعد ذلك في رحالهم، ( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) لأجل التحرج من أخذها على ما قيل، والظاهر أنه أراد أن يرغبهم في إحسانه إليهم بالكيل لهم كيلا وافيا، ثم إعادة بضاعتهم إليهم على وجه لا يحسون بها، ولا يشعرون لما يأتي، فإن الإحسان يوجب للإنسان تمام الوفاء للمحسن.

( فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ ) أي: إن لم ترسل معنا أخانا، ( فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ ) أي: ليكون ذلك سببا لكيلنا، ثم التزموا له بحفظه، فقالوا: ( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) من أن يعرض له ما يكره.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #243  
قديم 06-12-2019, 04:28 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (243)
تفسير السعدى
سورة يوسف
من الأية(64) الى الأية(69)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة يوسف بن يعقوب عليهما الصلاة والسلام
وهي مكية

قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُو نَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68) .

( قَالَ ) لهم يعقوب عليه السلام: ( هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ ) أي: تقدم منكم التزام، أكثر من هذا في حفظ يوسف، ومع هذا لم تفوا بما عقدتم من التأكيد، فلا أثق بالتزامكم وحفظكم، وإنما أثق < 1-402 > بالله تعالى.
( فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) أي: يعلم حالي، وأرجو أن يرحمني، فيحفظه ويرده علي، وكأنه في هذا الكلام قد لان لإرساله معهم.
ثم إنهم ( وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ ) هذا دليل على أنه قد كان معلوما عندهم أن يوسف قد ردها عليهم بالقصد، وأنه أراد أن يملكهم إياها. فـ ( قَالُوا ) لأبيهم - ترغيبا في إرسال أخيهم معهم -: ( يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي ) أي: أي شيء نطلب بعد هذا الإكرام الجميل، حيث وفَّى لنا الكيل، ورد علينا بضاعتنا على الوجه الحسن، المتضمن للإخلاص ومكارم الأخلاق؟
( هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا ) أي: إذا ذهبنا بأخينا صار سببا لكيله لنا، فمرنا أهلنا، وأتينا لهم، بما هم مضطرون إليه من القوت، ( وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنزدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ) بإرساله معنا، فإنه يكيل لكل واحد حمل بعير، ( ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ) أي: سهل لا ينالك ضرر، لأن المدة لا تطول، والمصلحة قد تبينت.
فـ ( قَالَ ) لهم يعقوب: ( لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنْ اللَّهِ ) أي: عهدا ثقيلا وتحلفون بالله ( لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ ) أي: إلا أن يأتيكم أمر لا قبل لكم به، ولا تقدرون دفعه، ( فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ ) على ما قال وأراد ( قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ) أي: تكفينا شهادته علينا وحفظه وكفالته.
ثم لما أرسله معهم وصاهم، إذا هم قدموا مصر، أن ( لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ) وذلك أنه خاف عليهم العين، لكثرتهم وبهاء منظرهم، لكونهم أبناء رجل واحد، وهذا سبب.
( وَ ) إلا فـ ( مَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ) فالمقدر لا بد أن يكون، ( إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ ) أي: القضاء قضاؤه، والأمر أمره، فما قضاه وحكم به لا بد أن يقع، ( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ) أي: اعتمدت على الله، لا على ما وصيتكم به من السبب، ( وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُو نَ ) فإن بالتوكل يحصل كل مطلوب، ويندفع كل مرهوب.
( وَلَمَّا ) ذهبوا و ( دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ ) ذلك الفعل ( يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا ) وهو موجب الشفقة والمحبة للأولاد، فحصل له في ذلك نوع طمأنينة، وقضاء لما في خاطره.
وليس هذا قصورا في علمه، فإنه من الرسل الكرام والعلماء الربانيين، ولهذا قال عنه: ( وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ ) أي: لصاحب علم عظيم ( لِمَا عَلَّمْنَاهُ ) أي: لتعليمنا إياه، لا بحوله وقوته أدركه، بل بفضل الله وتعليمه، ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) عواقب الأمور ودقائق الأشياء وكذلك أهل العلم منهم، يخفى عليهم من العلم وأحكامه ولوازمه شيء كثير.

وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) .

أي: لما دخل إخوة يوسف على يوسف ( آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ ) أي: شقيقه وهو "بنيامين" الذي أمرهم بالإتيان به، [و] ضمه إليه، واختصه من بين إخوته، وأخبره بحقيقة الحال، و ( قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ ) أي: لا تحزن ( بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) فإن العاقبة خير لنا، ثم خبره بما يريد أن يصنع ويتحيل لبقائه عنده إلى أن ينتهي الأمر.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #244  
قديم 06-12-2019, 04:29 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (244)
تفسير السعدى
سورة يوسف
من الأية(70) الى الأية(78)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة يوسف بن يعقوب عليهما الصلاة والسلام
وهي مكية

فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِم ْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) .

( فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ ) أي: كال لكل واحد من إخوته، ومن جملتهم أخوه هذا. ( جَعَلَ السِّقَايَةَ ) وهو: الإناء الذي يشرب به، ويكال فيه ( فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ ) أوعوا متاعهم، فلما انطلقوا ذاهبين، ( أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ) ولعل هذا المؤذن، لم يعلم بحقيقة الحال.
( قَالُوا ) أي: إخوة يوسف ( وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ) لإبعاد التهمة، فإن السارق ليس له همٌّ إلا البعد والانطلاق عمن سرق منه، لتسلم له سرقته، وهؤلاء جاءوا مقبلين إليهم، ليس لهم همٌّ إلا < 1-403 > إزالة التهمة التي رموا بها عنهم، فقالوا في هذه الحال: ( مَاذَا تَفْقِدُونَ ) ولم يقولوا: "ما الذي سرقنا" لجزمهم بأنهم براء من السرقة.
( قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ ) أي: أجرة له على وجدانه ( وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) أي: كفيل، وهذا يقوله المؤذن المتفقد.
( قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرْضِ ) بجميع أنواع المعاصي، ( وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ) فإن السرقة من أكبر أنواع الفساد في الأرض، وإنما أقسموا على علمهم أنهم ليسوا مفسدين ولا سارقين، لأنهم عرفوا أنهم سبروا من أحوالهم ما يدلهم على عفتهم وورعهم، وأن هذا الأمر لا يقع منهم بعلم من اتهموهم، وهذا أبلغ في نفي التهمة، من أن لو قالوا: " تالله لم نفسد في الأرض ولم نسرق "
( قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ ) أي: جزاء هذا الفعل ( إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ ) بأن كان معكم؟
( قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ ) أي: الموجود في رحله ( جَزَاؤُهُ ) بأن يتملكه صاحب السرقة، وكان هذا في دينهم أن السارق إذا ثبتت عليه السرقة كان ملكا لصاحب المال المسروق، ولهذا قالوا: ( كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ).
( فَبَدَأَ ) المفتش ( بِأَوْعِيَتِهِم ْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ) وذلك لتزول الريبة التي يظن أنها فعلت بالقصد، فلما لم يجد في أوعيتهم شيئا ( اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ ) ولم يقل "وجدها، أو سرقها أخوه" مراعاة للحقيقة الواقعة.
فحينئذ تم ليوسف ما أراد من بقاء أخيه عنده، على وجه لا يشعر به إخوته، قال تعالى: ( كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ) أي: يسرنا له هذا الكيد، الذي توصل به إلى أمر غير مذموم ( مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ ) لأنه ليس من دينه أن يتملك السارق، وإنما له عندهم، جزاء آخر، فلو ردت الحكومة إلى دين الملك، لم يتمكن يوسف من إبقاء أخيه عنده، ولكنه جعل الحكم منهم، ليتم له ما أراد.
قال تعالى: ( نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ ) بالعلم النافع، ومعرفة الطرق الموصلة إلى مقصدها، كما رفعنا درجات يوسف، ( وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) فكل عالم، فوقه من هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى عالم الغيب والشهادة.
فلما رأى إخوة يوسف ما رأوا ( قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ ) هذا الأخ، فليس هذا غريبا منه. ( فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ) يعنون: يوسف عليه السلام، ومقصودهم تبرئة أنفسهم وأن هذا وأخاه قد يصدر منهما ما يصدر من السرقة، وهما ليسا شقيقين لنا.
وفي هذا من الغض عليهما ما فيه، ولهذا: أسرها يوسف في نفسه ( وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ ) أي: لم يقابلهم على ما قالوه بما يكرهون، بل كظم الغيظ، وأسرَّ الأمر في نفسه. و ( قَالَ ) في نفسه ( أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا ) حيث ذممتمونا بما أنتم على أشر منه، ( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ ) منا، من وصفنا بالسرقة، يعلم الله أنا براء منها، ثم سلكوا معه مسلك التملق، لعله يسمح لهم بأخيهم.

فـ ( قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا ) أي: وإنه لا يصبر عنه، وسيشق عليه فراقه، ( فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) فأحسن إلينا وإلى أبينا بذلك.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #245  
قديم 06-12-2019, 04:29 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (245)
تفسير السعدى
سورة يوسف
من الأية(79) الى الأية(86)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة يوسف بن يعقوب عليهما الصلاة والسلام
وهي مكية

قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) .

فـ ( قَالَ ) يوسف ( مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ ) أي: هذا ظلم منا، لو أخذنا البريء بذنب من وجدنا متاعنا عنده، ولم يقل "من سرق" كل هذا تحرز من الكذب، ( إِنَّا إِذًا ) أي: إن أخذنا غير من وجد في رحله ( لَظَالِمُونَ ) حيث وضعنا العقوبة في غير موضعها.

فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) .

أي: فلما استيأس إخوة يوسف من يوسف أن يسمح لهم بأخيهم ( خَلَصُوا نَجِيًّا ) أي: اجتمعوا وحدهم، ليس معهم غيرهم، وجعلوا يتناجون فيما بينهم، فـ ( قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ ) في حفظه، وأنكم تأتون به إلا أن يحاط بكم ( وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ ) ، فاجتمع عليكم الأمران، تفريطكم في يوسف السابق، وعدم إتيانكم بأخيه باللاحق، فليس لي وجه أواجه به أبي.
( فَلَنْ أَبْرَحَ الأرْضَ ) أي: سأقيم في هذه الأرض ولا أزال بها ( حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي ) أي: يقدر لي المجيء وحدي، أو مع أخي ( وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ).
ثم وصَّاهم بما يقولون لأبيهم، فقال: ( ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ ) أي: وأخذ بسرقته، ولم يحصل لنا أن نأتيك به، مع ما بذلنا من الجهد في ذلك. والحال أنا ما شهدنا بشيء لم نعلمه، وإنما شهدنا بما علمنا، لأننا رأينا الصواع استخرج من رحله، ( وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ) أي: لو كنا نعلم الغيب لما حرصنا وبذلنا المجهود في < 1-404 > ذهابه معنا، ولما أعطيناك عهودنا ومواثيقنا، فلم نظن أن الأمر سيبلغ ما بلغ.
( وَاسْأَلِ ) إن شككت في قولنا ( الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ) فقد اطلعوا على ما أخبرناك به ( وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ) لم نكذب ولم نغير ولم نبدل، بل هذا الواقع.
فلما رجعوا إلى أبيهم وأخبروه بهذا الخبر، اشتد حزنه وتضاعف كمده، واتهمهم أيضا في هذه القضية، كما اتهمهم في الأولى، و ( قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) أي: ألجأ في ذلك إلى الصبر الجميل، الذي لا يصحبه تسخط ولا جزع، ولا شكوى للخلق، ثم لجأ إلى حصول الفرج لما رأى أن الأمر اشتد، والكربة انتهت فقال: ( عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ) أي: يوسف و "بنيامين" وأخوهم الكبير الذي أقام في مصر.

( إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ ) الذي يعلم حالي، واحتياجي إلى تفريجه ومنَّته، واضطراري إلى إحسانه، ( الْحَكِيمُ ) الذي جعل لكل شيء قدرا، ولكل أمر منتهى، بحسب ما اقتضته حكمته الربانية.

وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (86) .

أي: وتولى يعقوب عليه الصلاة والسلام عن أولاده بعد ما أخبروه هذا الخبر، واشتد به الأسف والأسى، وابيضت عيناه من الحزن الذي في قلبه، والكمد الذي أوجب له كثرة البكاء، حيث ابيضت عيناه من ذلك.
( فَهُوَ كَظِيمٌ ) أي: ممتلئ القلب من الحزن الشديد، ( وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ ) أي: ظهر منه ما كمن من الهم القديم والشوق المقيم، وذكرته هذه المصيبة الخفيفة بالنسبة للأولى، المصيبة الأولى.
فقال له أولاده متعجبين من حاله: ( تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ ) أي: لا تزال تذكر يوسف في جميع أحوالك. ( حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا ) أي: فانيا لا حراك فيك ولا قدرة على الكلام.
( أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ) أي: لا تترك ذكره مع قدرتك على ذكره أبدا.
( قَالَ ) يعقوب ( إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي ) أي: ما أبث من الكلام ( وَحُزْنِي ) الذي في قلبي ( إِلَى اللَّهِ ) وحده، لا إليكم ولا إلى غيركم من الخلق، فقولوا ما شئتم ( وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) من أنه سيردهم علي ويقر عيني بالاجتماع بهم.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #246  
قديم 06-12-2019, 04:29 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (246)
تفسير السعدى
سورة يوسف
من الأية(87) الى الأية(95)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة يوسف بن يعقوب عليهما الصلاة والسلام
وهي مكية

يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِي نَ (88) .

أي: قال يعقوب عليه السلام لبنيه: ( يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ ) أي: احرصوا واجتهدوا على التفتيش عنهما ( وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ) فإن الرجاء يوجب للعبد السعي والاجتهاد فيما رجاه، والإياس: يوجب له التثاقل والتباطؤ، وأولى ما رجا العباد، فضل الله وإحسانه ورحمته وروحه، ( إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) فإنهم لكفرهم يستبعدون رحمته، ورحمته بعيدة منهم، فلا تتشبهوا بالكافرين.
ودل هذا على أنه بحسب إيمان العبد يكون رجاؤه لرحمة الله وروحه، فذهبوا ( فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ ) أي: على يوسف ( قَالُوا ) متضرعين إليه: ( يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ) أي: قد اضطررنا نحن وأهلنا ( وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ ) أي: مدفوعة مرغوب عنها لقلتها، وعدم وقوعها الموقع، ( فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ ) أي: مع عدم وفاء العرض، وتصدق علينا بالزيادة عن الواجب. ( إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِي نَ ) بثواب الدنيا والآخرة.
فلما انتهى الأمر، وبلغ أشده، رقَّ لهم يوسف رقَّة شديدة، وعرَّفهم بنفسه، وعاتبهم.

قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَئِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
( قال هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ ) أما يوسف فظاهر فعلهم فيه، وأما أخوه، فلعله والله أعلم قولهم: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ أو أن الحادث الذي فرَّق بينه وبين أبيه، هم السبب فيه، والأصل الموجب له. ( إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ) وهذا نوع اعتذار لهم بجهلهم، أو توبيخ لهم إذ فعلوا فعل الجاهلين، مع أنه لا ينبغي ولا يليق منهم.
فعرفوا أن الذي خاطبهم هو يوسف، فقالوا: ( أَئِنَّكَ لأنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ) بالإيمان والتقوى والتمكين في الدنيا، وذلك بسبب الصبر والتقوى، ( إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ ) أي: يتقي فعل ما حرم الله، ويصبر على الآلام والمصائب، وعلى الأوامر بامتثالها ( فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) فإن هذا من الإحسان، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
( قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا ) أي: فضلك علينا بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وأسأنا إليك غاية الإساءة، وحرصنا على إيصال الأذى إليك، والتبعيد لك عن أبيك، فآثرك الله تعالى ومكنك مما تريد ( وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ) وهذا غاية الاعتراف منهم بالجرم الحاصل منهم على يوسف.
فـ ( قَالَ ) لهم يوسف عليه السلام، كرما وجودا: < 1-405 > ( لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ) أي: لا أثرب عليكم ولا ألومكم ( يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) فسمح لهم سماحا تاما، من غير تعيير لهم على ذكر الذنب السابق، ودعا لهم بالمغفرة والرحمة، وهذا نهاية الإحسان، الذي لا يتأتى إلا من خواص الخلق وخيار المصطفين.

اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) .

أي: قال يوسف عليه السلام لإخوته: ( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا ) لأن كل داء يداوى بضده، فهذا القميص - لما كان فيه أثر ريح يوسف، الذي أودع قلب أبيه من الحزن والشوق ما الله به عليم - أراد أن يشمه، فترجع إليه روحه، وتتراجع إليه نفسه، ويرجع إليه بصره، ولله في ذلك حكم وأسرار، لا يطلع عليها العباد، وقد اطلع يوسف من ذلك على هذا الأمر.
( وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ) أي: أولادكم وعشيرتكم وتوابعكم كلهم، ليحصل تمام اللقاء، ويزول عنكم نكد المعيشة، وضنك الرزق.
( وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ ) عن أرض مصر مقبلة إلى أرض فلسطين، شمَّ يعقوب ريح القميص، فقال: ( إِنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ ) أي: تسخرون مني، وتزعمون أن هذا الكلام، صدر مني من غير شعور، لأنه رأى منهم من التعجب من حاله ما أوجب له هذا القول.
فوقع ما ظنه بهم فقالوا: ( تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ ) أي: لا تزال تائها في بحر الحبّ لا تدري ما تقول.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #247  
قديم 06-12-2019, 04:30 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (247)
تفسير السعدى
سورة يوسف
من الأية(96) الى الأية(103)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة يوسف بن يعقوب عليهما الصلاة والسلام
وهي مكية


فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) .

( فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ ) بقرب الاجتماع بيوسف وإخوته وأبيهم، ( أَلْقَاهُ ) أي: القميص ( عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا ) أي: رجع على حاله الأولى بصيرا، بعد أن ابيضت عيناه من الحزن، فقال لمن حضره من أولاده وأهله الذين كانوا يفندون رأيه، ويتعجبون منه منتصرا عليهم، متبجحا بنعمة الله عليه: ( أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) حيث كنت مترجيا للقاء يوسف، مترقبا لزوال الهم والغم والحزن.
فأقروا بذنبهم ونجعوا بذلك و ( قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ) حيث فعلنا معك ما فعلنا.
فـ ( قَالَ ) مجيبا لطلبتهم، ومسرعا لإجابتهم: ( سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) أي: ورجائي به أن يغفر لكم ويرحمكم، ويتغمدكم برحمته، وقد قيل: إنه أخر الاستغفار لهم إلى وقت السحر الفاضل، ليكون أتمَّ للاستغفار، وأقرب للإجابة.

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) .

أي: ( فَلَمَّا ) تجهز يعقوب وأولاده وأهلهم أجمعون، وارتحلوا من بلادهم قاصدين الوصول إلى يوسف في مصر وسكناها، فلما وصلوا إليه، و ( دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ) أي: ضمهما إليه، واختصهما بقربه، وأبدى لهما من البر والإكرام والتبجيل والإعظام شيئا عظيما، ( وَقَالَ ) لجميع أهله: ( ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ) من جميع المكاره والمخاوف، فدخلوا في هذه الحال السارة، وزال عنهم النصب ونكد المعيشة، وحصل السرور والبهجة.
( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ) أي: على سرير الملك، ومجلس العزيز، ( وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ) أي: أبوه، وأمه وإخوته، سجودا على وجه التعظيم والتبجيل والإكرام، ( وَقَالَ ) لما رأى هذه الحال، ورأى سجودهم له: ( يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ ) حين رأي أحد عشر كوكبا والشمس والقمر له ساجدين، فهذا وقوعها الذي آلت إليه ووصلت ( قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ) فلم يجعلها أضغاث أحلام.
( وَقَدْ أَحْسَنَ بِي ) إحسانا جسيما ( إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ ) وهذا من لطفه وحسن خطابه عليه السلام، حيث ذكر حاله في السجن، ولم يذكر حاله في الجب، لتمام عفوه عن إخوته، وأنه لا يذكر ذلك الذنب، وأن إتيانكم من البادية من إحسان الله إلي.
فلم يقل: جاء بكم من الجوع والنصب، ولا قال: "أحسن بكم" بل قال ( أَحْسَنَ بِي ) جعل الإحسان عائدا إليه، فتبارك من يختص برحمته من يشاء من عباده، ويهب لهم من لدنه رحمة إنه هو الوهاب. ( مِنْ بَعْدِ أَنْ نزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ) فلم يقل "نزغ الشيطان إخوتي" بل كأن الذنب والجهل، صدر من الطرفين، فالحمد لله الذي أخزى الشيطان ودحره، وجمعنا بعد تلك الفرقة الشاقة.
( إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ ) يوصل بره وإحسانه إلى العبد من حيث لا يشعر، ويوصله إلى المنازل الرفيعة من أمور يكرهها، ( إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ ) الذي يعلم ظواهر الأمور وبواطنها، وسرائر العباد وضمائرهم، ( الْحَكِيمُ ) في وضعه الأشياء مواضعها، وسوقه < 1-406 > الأمور إلى أوقاتها المقدرة لها.

رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) .

لما أتم الله ليوسف ما أتم من التمكين في الأرض والملك، وأقر عينه بأبويه وإخوته، وبعد العلم العظيم الذي أعطاه الله إياه، قال مقرا بنعمة الله شاكرا لها داعيا بالثبات على الإسلام:
( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ) وذلك أنه كان على خزائن الأرض وتدبيرها ووزيرا كبيرا للملك ( وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ ) أي: من تأويل أحاديث الكتب المنزلة وتأويل الرؤيا وغير ذلك من العلم ( فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا ) أي: أدم عليّ الإسلام وثبتني عليه حتى توفاني عليه، ولم يكن هذا دعاء باستعجال الموت، ( وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) من الأنبياء الأبرار والأصفياء الأخيار.

ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) .

لما قص الله هذه القصة على محمد صلى الله عليه وسلم قال الله له: ( ذَلِكَ ) الإنباء الذي أخبرناك به ( مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ ) الذي لولا إيحاؤنا إليك لما وصل إليك هذا الخبر الجليل، فإنك لم تكن حاضرا لديهم ( إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ ) أي: إخوة يوسف ( وَهُمْ يَمْكُرُونَ ) به حين تعاقدوا على التفريق بينه وبين أبيه، في حالة لا يطلع عليها إلا الله تعالى، ولا يمكن أحدا أن يصل إلى علمها، إلا بتعليم الله له إياها.
كما قال تعالى لما قص قصة موسى وما جرى له، ذكر الحال التي لا سبيل للخلق إلى علمها إلا بوحيه وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ الآيات، فهذا أدل دليل على أن ما جاء به رسول الله حقا.
وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) .

يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ ) على إيمانهم ( بِمُؤْمِنِينَ ) فإن مداركهم ومقاصدهم قد أصبحت فاسدة، فلا ينفعهم حرص الناصحين عليهم ولو عدمت الموانع، بأن كانوا يعلمونهم ويدعونهم إلى ما فيه الخير لهم، ودفع الشر عنهم، من غير أجر ولا عوض، ولو أقاموا لهم من الشواهد والآيات الدالات على صدقهم ما أقاموا. ولهذا قال:
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #248  
قديم 06-12-2019, 04:31 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (248)
تفسير السعدى
سورة يوسف
من الأية(104) الى الأية(111)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة يوسف بن يعقوب عليهما الصلاة والسلام
وهي مكية

وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107) .

(وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) يتذكرون به ما ينفعهم ليفعلوه، وما يضرهم ليتركوه.
(وَكَأَيِّنْ) أي: وكم (مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا) دالة لهم على توحيد الله (وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ).
ومع هذا إن وجد منهم بعض الإيمان فلا (يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) فهم وإن أقروا بربوبية الله تعالى، وأنه الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور، فإنهم يشركون في ألوهية الله وتوحيده، فهؤلاء الذين وصلوا إلى هذه الحال لم يبق عليهم إلا أن يحل بهم العذاب، ويفجأهم العقاب وهم آمنون، ولهذا قال:
(أَفَأَمِنُوا) أي: الفاعلون لتلك الأفعال، المعرضون عن آيات الله (أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ) أي: عذاب يغشاهم ويعمهم ويستأصلهم، (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) أي: فجأة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي: فإنهم قد استوجبوا لذلك، فليتوبوا إلى الله، ويتركوا ما يكون سببا في عقابهم.

قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) .

يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ ) للناس ( هَذِهِ سَبِيلِي ) أي: طريقي التي أدعو إليها، وهي السبيل الموصلة إلى الله وإلى دار كرامته، المتضمنة للعلم بالحق والعمل به وإيثاره، وإخلاص الدين لله وحده لا شريك له، ( أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ) أي: أحثُّ الخلق والعباد إلى الوصول إلى ربهم، وأرغِّبهم في ذلك وأرهِّبهم مما يبعدهم عنه.
ومع هذا فأنا ( عَلَى بَصِيرَةٍ ) من ديني، أي: على علم ويقين من غير شك ولا امتراء ولا مرية. ( وَ ) كذلك ( مَنِ اتَّبَعَنِي ) يدعو إلى الله كما أدعو على بصيرة من أمره. ( وَسُبْحَانَ اللَّهِ ) عما نسب إليه مما لا يليق بجلاله، أو ينافي كماله.
( وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) في جميع أموري، بل أعبد الله مخلصا له الدين.
ثم قال تعالى ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا ) أي: لم نرسل ملائكة ولا غيرهم من أصناف الخلق، فلأي شيء يستغرب قومك رسالتك، ويزعمون أنه ليس لك عليهم فضل، فلك فيمن قبلك من المرسلين أسوة حسنة ( نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ) أي: لا من البادية، بل من أهل القرى < 1-407 > الذين هم أكمل عقولا وأصح آراء، وليتبين أمرهم ويتضح شأنهم.
( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ ) إذا لم يصدقوا لقولك، ( فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) كيف أهلكهم الله بتكذيبهم، فاحذروا أن تقيموا على ما أقاموا عليه، فيصيبكم ما أصابهم، ( وَلَدَارُ الآخِرَةِ ) أي: الجنة وما فيها من النعيم المقيم، ( خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ) الله في امتثال أوامره، واجتناب نواهيه، فإن نعيم الدنيا منغص منكد، منقطع، ونعيم الآخرة تام كامل، لا يفنى أبدا، بل هو على الدوام في تزايد وتواصل، ( عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) ( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) أي: أفلا تكون لكم عقول تؤثر الذي هو خير على الأدنى.

حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) .

يخبر تعالى: أنه يرسل الرسل الكرام، فيكذبهم القوم المجرمون اللئام، وأن الله تعالى يمهلهم ليرجعوا إلى الحق، ولا يزال الله يمهلهم حتى إنه تصل الحال إلى غاية الشدة منهم على الرسل.
حتى إن الرسل - على كمال يقينهم، وشدة تصديقهم بوعد الله ووعيده - ربما أنه يخطر بقلوبهم نوع من الإياس، ونوع من ضعف العلم والتصديق، فإذا بلغ الأمر هذه الحال ( جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ ) وهم الرسل وأتباعهم، ( وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ) أي: ولا يرد عذابنا، عمن اجترم، وتجرأ على الله ( فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ ) .
( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ ) أي: قصص الأنبياء والرسل مع قومهم، ( عِبْرَةٌ لأولِي الألْبَابِ ) أي: يعتبرون بها، أهل الخير وأهل الشر، وأن من فعل مثل فعلهم ناله ما نالهم من كرامة أو إهانة، ويعتبرون بها أيضا، ما لله من صفات الكمال والحكمة العظيمة، وأنه الله الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له.
وقوله: ( مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى ) أي: ما كان هذا القرآن الذي قص الله به عليكم من أنباء الغيب ما قص من الأحاديث المفتراة المختلقة، ( وَلَكِنْ ) كان ( تصديق الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ) من الكتب السابقة، يوافقها ويشهد لها بالصحة، ( وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ) يحتاج إليه العباد من أصول الدين وفروعه، ومن الأدلة والبراهين.
( وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) فإنهم - بسبب ما يحصل لهم به من العلم بالحق وإيثاره - يحصل لهم الهدى، وبما يحصل لهم من الثواب العاجل والآجل تحصل لهم الرحمة.

فصل في ذكر شيء من العبر والفوائد التي اشتملت عليها هذه القصة العظيمة التي قال الله في أولها ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ) وقال ( لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ ) وقال في آخرها ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأولِي الألْبَابِ ) غير ما تقدم في مطاويها من الفوائد.
فمن ذلك، أن هذه القصة من أحسن القصص وأوضحها وأبينها، لما فيها من أنواع التنقلات، من حال إلى حال، ومن محنة إلى محنة، ومن محنة إلى منحة ومنَّة، ومن ذل إلى عز، ومن رقٍّ إلى ملك، ومن فرقة وشتات إلى اجتماع وائتلاف، ومن حزن إلى سرور، ومن رخاء إلى جدب، ومن جدب إلى رخاء، ومن ضيق إلى سعة، ومن إنكار إلى إقرار، فتبارك من قصها فأحسنها، ووضحها وبيَّنها.
ومنها: أن فيها أصلا لتعبير الرؤيا، وأن علم التعبير من العلوم المهمة التي يعطيها الله من يشاء من عباده، وإن أغلب ما تبنى عليه المناسبة والمشابهة في الاسم والصفة، فإن رؤيا يوسف التي رأى أن الشمس والقمر، وأحد عشر كوكبا له ساجدين، وجه المناسبة فيها: أن هذه الأنوار هي زينة السماء وجمالها، وبها منافعها، فكذلك الأنبياء والعلماء، زينة للأرض وجمال، وبهم يهتدى في الظلمات كما يهتدى بهذه الأنوار، ولأن الأصل أبوه وأمه، وإخوته هم الفرع، فمن المناسب أن يكون الأصل أعظم نورا وجرما، لما هو فرع عنه. فلذلك كانت الشمس أمه، والقمر أباه، والكواكب إخوته.
ومن المناسبة أن الشمس لفظ مؤنث، فلذلك كانت أمه، والقمر والكواكب مذكرات، فكانت لأبيه وإخوته،.ومن المناسبة أن الساجد معظم محترم للمسجود له، والمسجود [له] معظم محترم، فلذلك دل ذلك على أن يوسف يكون معظما محترما عند أبويه وإخوته.
ومن لازم ذلك أن يكون مجتبى مفضلا في العلم والفضائل الموجبة لذلك، ولذلك قال له أبوه: ) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ) < 1-408 > ومن المناسبة في رؤيا الفتيين، أنه أول رؤيا، الذي رأى أنه يعصر خمرا، أن الذي يعصر في العادة، يكون خادما لغيره، والعصر يقصد لغيره، فلذلك أوَّله بما يؤول إليه، أنه يسقي ربه، وذلك متضمن لخروجه من السجن.
وأوَّل الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه، بأن جلدة رأسه ولحمه، وما في ذلك من المخ، أنه هو الذي يحمله، وأنه سيبرز للطيور، بمحل تتمكن من الأكل من رأسه، فرأى من حاله أنه سيقتل ويصلب بعد موته فيبرز للطيور فتأكل من رأسه، وذلك لا يكون إلا بالصلب بعد القتل.
وأوَّل رؤيا الملك للبقرات والسنبلات، بالسنين المخصبة، والسنين المجدبة، ووجه المناسبة أن الملك، به ترتبط أحوال الرعية ومصالحها، وبصلاحه تصلح، وبفساده تفسد، وكذلك السنون بها صلاح أحوال الرعية، واستقامة أمر المعاش أو عدمه.
وأما البقر فإنها تحرث الأرض عليها، ويستقى عليها الماء، وإذا أخصبت السنة سمنت، وإذا أجدبت صارت عجافا، وكذلك السنابل في الخصب، تكثر وتخضر، وفي الجدب تقل وتيبس وهي أفضل غلال الأرض.
ومنها: ما فيها من الأدلة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، حيث قصَّ على قومه هذه القصة الطويلة، وهو لم يقرأ كتب الأولين ولا دارس أحدا.
يراه قومه بين أظهرهم صباحا ومساء، وهو أمِّيٌّ لا يخط ولا يقرأ، وهي موافقة، لما في الكتب السابقة، وما كان لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون.
ومنها: أنه ينبغي البعد عن أسباب الشر، وكتمان ما تخشى مضرته، لقول يعقوب ليوسف يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ومنها: أنه يجوز ذكر الإنسان بما يكره على وجه النصيحة لغيره لقوله: فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا .
ومنها: أن نعمة الله على العبد، نعمة على من يتعلق به من أهل بيته وأقاربه وأصحابه، وأنه ربما شملتهم، وحصل لهم ما حصل له بسببه، كما قال يعقوب في تفسيره لرؤيا يوسف وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ ولما تمت النعمة على يوسف، حصل لآل يعقوب من العز والتمكين في الأرض والسرور والغبطة ما حصل بسبب يوسف.
ومنها: أن العدل مطلوب في كل الأمور، لا في معاملة السلطان رعيته ولا فيما دونه، حتى في معاملة الوالد لأولاده، في المحبة والإيثار وغيره، وأن في الإخلال بذلك يختل عليه الأمر، وتفسد الأحوال، ولهذا، لما قدم يعقوب يوسف في المحبة وآثره على إخوته، جرى منهم ما جرى على أنفسهم، وعلى أبيهم وأخيهم.
ومنها: الحذر من شؤم الذنوب، وأن الذنب الواحد يستتبع ذنوبا متعددة، ولا يتم لفاعله إلا بعدة جرائم، فإخوة يوسف لما أرادوا التفريق بينه وبين أبيه، احتالوا لذلك بأنواع من الحيل، وكذبوا عدة مرات، وزوروا على أبيهم في القميص والدم الذي فيه، وفي إتيانهم عشاء يبكون، ولا تستبعد أنه قد كثر البحث فيها في تلك المدة، بل لعل ذلك اتصل إلى أن اجتمعوا بيوسف، وكلما صار البحث، حصل من الإخبار بالكذب، والافتراء، ما حصل، وهذا شؤم الذنب، وآثاره التابعة والسابقة واللاحقة.
ومنها: أن العبرة في حال العبد بكمال النهاية، لا بنقص البداية، فإن أولاد يعقوب عليه السلام جرى منهم ما جرى في أول الأمر، مما هو أكبر أسباب النقص واللوم، ثم انتهى أمرهم إلى التوبة النصوح، والسماح التام من يوسف ومن أبيهم، والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة، وإذا سمح العبد عن حقه، فالله خير الراحمين.
ولهذا - في أصح الأقوال - أنهم كانوا أنبياء لقوله تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وهم أولاد يعقوب الاثنا عشر وذريتهم، ومما يدل على ذلك أن في رؤيا يوسف، أنه رآهم كواكب نيرة، والكواكب فيها النور والهداية الذي من صفات الأنبياء، فإن لم يكونوا أنبياء فإنهم علماء هداة.
ومنها: ما منَّ الله به على يوسف عليه الصلاة والسلام من العلم والحلم، ومكارم الأخلاق، والدعوة إلى الله وإلى دينه، وعفوه عن إخوته الخاطئين عفوا بادرهم به، وتمم ذلك بأن لا يثرب عليهم ولا يعيرهم به.
ثم برُّه العظيم بأبويه، وإحسانه لإخوته، بل لعموم الخلق.
ومنها: أن بعض الشر أهون من بعض، وارتكاب أخف الضررين أولى من ارتكاب أعظمهما، فإن إخوة يوسف، لما اتفقوا على قتل يوسف أو إلقائه أرضا، وقال قائل منهم: لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ كان قوله أحسن منهم وأخف، وبسببه خف عن إخوته الإثم الكبير.
ومنها: أن الشيء إذا تداولته الأيدي وصار من جملة الأموال، ولم يعلم أنه كان على غير وجه الشرع، أنه < 1-409 > لا إثم على من باشره ببيع أو شراء، أو خدمة أو انتفاع، أو استعمال، فإن يوسف عليه السلام باعه إخوته بيعا حراما لا يجوز، ثم ذهبت به السيارة إلى مصر فباعوه بها، وبقي عند سيده غلاما رقيقا، وسماه الله شراء ، وكان عندهم بمنزلة الغلام الرقيق المكرم.
ومنها: الحذر من الخلوة بالنساء التي يخشى منهن الفتنة، والحذر أيضا من المحبة التي يخشى ضررها، فإن امرأة العزيز جرى منها ما جرى، بسبب توحّدها بيوسف، وحبها الشديد له، الذي ما تركها حتى راودته تلك المراودة، ثم كذبت عليه، فسجن بسببها مدة طويلة.
ومنها: أن الهمَّ الذي همَّ به يوسف بالمرأة ثم تركه لله، مما يقربه إلى الله زلفى، لأن الهمّ داع من دواعي النفس الأمارة بالسوء، وهو طبيعة لأغلب الخلق، فلما قابل بينه وبين محبة الله وخشيته، غلبت محبة الله وخشيته داعي النفس والهوى. فكان ممن خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، أحدهم: "رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله" وإنما الهم الذي يلام عليه العبد، الهم الذي يساكنه، ويصير عزما، ربما اقترن به الفعل.
ومنها: أن من دخل الإيمان قلبه، وكان مخلصا لله في جميع أموره فإن الله يدفع عنه ببرهان إيمانه، وصدق إخلاصه من أنواع السوء والفحشاء وأسباب المعاصي ما هو جزاء لإيمانه وإخلاصه لقوله. ( وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) على قراءة من قرأها بكسر اللام، ومن قرأها بالفتح، فإنه من إخلاص الله إياه، وهو متضمن لإخلاصه هو بنفسه، فلما أخلص عمله لله أخلصه الله، وخلصه من السوء والفحشاء.
ومنها: أنه ينبغي للعبد إذا رأى محلا فيه فتنة وأسباب معصية، أن يفر منه ويهرب غاية ما يمكنه، ليتمكن من التخلص من المعصية، لأن يوسف عليه السلام -لما راودته التي هو في بيتها- فر هاربا، يطلب الباب ليتخلص من شرها، ومنها: أن القرائن يعمل بها عند الاشتباه، فلو تخاصم رجل وامرأته في شيء من أواني الدار، فما يصلح للرجل فإنه للرجل، وما يصلح للمرأة فهو لها، إذا لم يكن بينة، وكذا لو تنازع نجار وحداد في آلة حرفتهما من غير بينة، والعمل بالقافة في الأشباه والأثر، من هذا الباب، فإن شاهد يوسف شهد بالقرينة، وحكم بها في قد القميص، واستدل بقدِّه من دبره على صدق يوسف وكذبها.
ومما يدل على هذه القاعدة، أنه استدل بوجود الصُّواع في رحل أخيه على الحكم عليه بالسرقة، من غير بينة شهادة ولا إقرار، فعلى هذا إذا وجد المسروق في يد السارق، خصوصا إذا كان معروفا بالسرقة، فإنه يحكم عليه بالسرقة، وهذا أبلغ من الشهادة، وكذلك وجود الرجل يتقيأ الخمر، أو وجود المرأة التي لا زوج لها ولا سيد، حاملا فإنه يقام بذلك الحد، ما لم يقم مانع منه، ولهذا سمى الله هذا الحاكم شاهدا فقال: ( وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا ) .
ومنها: ما عليه يوسف من الجمال الظاهر والباطن،.فإن جماله الظاهر، أوجب للمرأة التي هو في بيتها ما أوجب، وللنساء اللاتي جمعتهن حين لمنها على ذلك أن قطعن أيديهن وقلن ( مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ ) وأما جماله الباطن، فهو العفة العظيمة عن المعصية، مع وجود الدواعي الكثيرة لوقوعها، وشهادة امرأة العزيز والنسوة بعد ذلك ببراءته، ولهذا قالت امرأة العزيز: ( وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ) وقالت بعد ذلك: ( الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) وقالت النسوة: ( حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ) .
ومنها: أن يوسف عليه السلام اختار السجن على المعصية، فهكذا ينبغي للعبد إذا ابتلي بين أمرين - إما فعل معصية، وإما عقوبة دنيوية - أن يختار العقوبة الدنيوية على مواقعة الذنب الموجب للعقوبة الشديدة في الدنيا والآخرة، ولهذا من علامات الإيمان، أن يكره العبد أن يعود في الكفر، بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار.
ومنها: أنه ينبغي للعبد أن يلتجئ إلى الله، ويحتمي بحماه عند وجود أسباب المعصية، ويتبرأ من حوله وقوته، لقول يوسف عليه السلام: ( وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) .
ومنها: أن العلم والعقل يدعوان صاحبهما إلى الخير، وينهيانه عن الشر، وأن الجهل يدعو صاحبه إلى موافقة هوى النفس، وإن كان معصية ضارا لصاحبه.
< 1-410 > ومنها: أنه كما على العبد عبودية لله في الرخاء، فعليه عبودية له في الشدة، فــ "يوسف"عليه السلام لم يزل يدعو إلى الله، فلما دخل السجن، استمر على ذلك، ودعا الفتيين إلى التوحيد، ونهاهما عن الشرك، ومن فطنته عليه السلام أنه لما رأى فيهما قابلية لدعوته، حيث ظنا فيه الظن الحسن وقالا له: ( إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) وأتياه لأن يعبر لهما رؤياهما، فرآهما متشوفين لتعبيرها عنده - رأى ذلك فرصة فانتهزها، فدعاهما إلى الله تعالى قبل أن يعبر رؤياهما ليكون أنجح لمقصوده، وأقرب لحصول مطلوبه، وبين لهما أولا أن الذي أوصله إلى الحال التي رأياه فيها من الكمال والعلم، إيمانه وتوحيده، وتركه ملة من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، وهذا دعاء لهما بالحال، ثم دعاهما بالمقال، وبين فساد الشرك وبرهن عليه، وحقيقة التوحيد وبرهن عليه.
ومنها: أنه يبدأ بالأهم فالأهم، وأنه إذا سئل المفتي، وكان السائل حاجته في غير سؤاله أشد أنه ينبغي له أن يعلمه ما يحتاج إليه قبل أن يجيب سؤاله، فإن هذا علامة على نصح المعلم وفطنته، وحسن إرشاده وتعليمه، فإن يوسف - لما سأله الفتيان عن الرؤيا - قدم لهما قبل تعبيرها دعوتهما إلى الله وحده لا شريك له.
ومنها: أن من وقع في مكروه وشدة، لا بأس أن يستعين بمن له قدرة على تخليصه، أو الإخبار بحاله، وأن هذا لا يكون شكوى للمخلوق، فإن هذا من الأمور العادية التي جرى العرف باستعانة الناس بعضهم ببعض، ولهذا قال يوسف للذي ظن أنه ناج من الفتيين: ( اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ) .
ومنها: أنه ينبغي ويتأكد على المعلم استعمال الإخلاص التام في تعليمه وأن لا يجعل تعليمه وسيلة لمعاوضة أحد في مال أو جاه أو نفع، وأن لا يمتنع من التعليم، أو لا ينصح فيه، إذا لم يفعل السائل ما كلفه به المعلم، فإن يوسف عليه السلام قد قال، ووصى أحد الفتيين أن يذكره عند ربه، فلم يذكره ونسي، فلما بدت حاجتهم إلى سؤال يوسف أرسلوا ذلك الفتى، وجاءه سائلا مستفتيا عن تلك الرؤيا، فلم يعنفه يوسف، ولا وبخه، لتركه ذكره بل أجابه عن سؤاله جوابا تاما من كل وجه.
ومنها: أنه ينبغي للمسئول أن يدل السائل على أمر ينفعه مما يتعلق بسؤاله، ويرشده إلى الطريق التي ينتفع بها في دينه ودنياه، فإن هذا من كمال نصحه وفطنته، وحسن إرشاده، فإن يوسف عليه السلام لم يقتصر على تعبير رؤيا الملك، بل دلهم - مع ذلك - على ما يصنعون في تلك السنين المخصبات من كثرة الزرع، وكثرة جبايته.
ومنها: أنه لا يلام الإنسان على السعي في دفع التهمة عن نفسه، وطلب البراءة لها، بل يحمد على ذلك، كما امتنع يوسف عن الخروج من السجن حتى تتبين لهم براءته بحال النسوة اللاتي قطعن أيديهن، ومنها: فضيلة العلم، علم الأحكام والشرع، وعلم تعبير الرؤيا، وعلم التدبير والتربية؛ وأنه أفضل من الصورة الظاهرة، ولو بلغت في الحسن جمال يوسف، فإن يوسف - بسبب جماله - حصلت له تلك المحنة والسجن، وبسبب علمه حصل له العز والرفعة والتمكين في الأرض، فإن كل خير في الدنيا والآخرة من آثار العلم وموجباته.
ومنها: أن علم التعبير من العلوم الشرعية، وأنه يثاب الإنسان على تعلمه وتعليمه، وأن تعبير المرائي داخل في الفتوى، لقوله للفتيين: ( قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ) وقال الملك: ( أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ ) وقال الفتى ليوسف: ( أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ ) الآيات،.فلا يجوز الإقدام على تعبير الرؤيا من غير علم.
ومنها: أنه لا بأس أن يخبر الإنسان عما في نفسه من صفات الكمال من علم أو عمل، إذا كان في ذلك مصلحة، ولم يقصد به العبد الرياء، وسلم من الكذب، لقول يوسف: ( اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) وكذلك لا تذم الولاية، إذا كان المتولي فيها يقوم بما يقدر عليه من حقوق الله وحقوق عباده، وأنه لا بأس بطلبها، إذا كان أعظم كفاءة من غيره، وإنما الذي يذم، إذا لم يكن فيه كفاية، أو كان موجودا غيره مثله، أو أعلى منه، أو لم يرد بها إقامة أمر الله، فبهذه الأمور، ينهى عن طلبها، والتعرض لها.
ومنها: أن الله واسع الجود والكرم، يجود على عبده بخير الدنيا والآخرة، وأن خير الآخرة له سببان: الإيمان والتقوى، وأنه خير من ثواب الدنيا وملكها، وأن العبد ينبغي له أن يدعو نفسه، ويشوقها لثواب الله، ولا يدعها تحزن إذا رأت أهل الدنيا ولذاتها، وهي غير قادرة عليها، بل يسليها بثواب الله الأخروي، وفضله العظيم لقوله تعالى: ( وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ) .
ومنها: أن جباية الأرزاق - إذا أريد بها التوسعة على الناس من غير ضرر يلحقهم - لا بأس بها، لأن يوسف أمرهم بجباية الأرزاق والأطعمة في السنين المخصبات، للاستعداد للسنين المجدبة، وأن هذا غير مناقض للتوكل على الله، بل يتوكل العبد على الله، < 1-411 > ويعمل بالأسباب التي تنفعه في دينه ودنياه.
ومنها: حسن تدبير يوسف لما تولى خزائن الأرض، حتى كثرت عندهم الغلات جدا حتى صار أهل الأقطار يقصدون مصر لطلب الميرة منها، لعلمهم بوفورها فيها، وحتى إنه كان لا يكيل لأحد إلا مقدار الحاجة الخاصة أو أقل، لا يزيد كل قادم على كيل بعير وحمله.
ومنها: مشروعية الضيافة، وأنها من سنن المرسلين، وإكرام الضيف لقول يوسف لإخوته ( أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ) .
ومنها: أن سوء الظن مع وجود القرائن الدالة عليه غير ممنوع ولا محرم، فإن يعقوب قال لأولاده بعد ما امتنع من إرسال يوسف معهم حتى عالجوه أشد المعالجة، ثم قال لهم بعد ما أتوه، وزعموا أن الذئب أكله ( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا ) وقال لهم في الأخ الآخر: ( هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ ) ثم لما احتبسه يوسف عنده، وجاء إخوته لأبيهم قال لهم: ( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا ) فهم في الأخيرة - وإن لم يكونوا مفرطين - فقد جرى منهم ما أوجب لأبيهم أن قال ما قال، من غير إثم عليه ولا حرج.
ومنها: أن استعمال الأسباب الدافعة للعين أو غيرها من المكاره، أو الرافعة لها بعد نزولها، غير ممنوع، بل جائز، وإن كان لا يقع شيء إلا بقضاء وقدر، فإن الأسباب أيضا من القضاء والقدر، لأمر يعقوب حيث قال لبنيه: ( يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ) .
ومنها: جواز استعمال المكايد التي يتوصل بها إلى الحقوق، وأن العلم بالطرق الخفية الموصلة إلى مقاصدها مما يحمد عليه العبد، وإنما الممنوع، التحيل على إسقاط واجب، أو فعل محرم.
ومنها: أنه ينبغي لمن أراد أن يوهم غيره، بأمر لا يحب أن يطلع عليه، أن يستعمل المعاريض القولية والفعلية المانعة له من الكذب، كما فعل يوسف حيث ألقى الصُّواع في رحل أخيه، ثم استخرجها منه، موهما أنه سارق، وليس فيه إلا القرينة الموهمة لإخوته، وقال بعد ذلك: ( مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ ) ولم يقل "من سرق متاعنا"وكذلك لم يقل "إنا وجدنا متاعنا عنده"بل أتى بكلام عام يصلح له ولغيره، وليس في ذلك محذور، وإنما فيه إيهام أنه سارق ليحصل المقصود الحاضر، وأنه يبقى عند أخيه وقد زال عن الأخ هذا الإيهام بعد ما تبينت الحال.

يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #249  
قديم 06-12-2019, 04:32 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

ومنها: أنه لا يجوز للإنسان أن يشهد إلا بما علمه، وتحققه إما بمشاهدة أو خبر من يثق به، وتطمئن إليه النفس لقولهم: ( وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا ) .
ومنها: هذه المحنة العظيمة التي امتحن الله بها نبيه وصفيه يعقوب عليه السلام، حيث قضى بالتفريق بينه وبين ابنه يوسف، الذي لا يقدر على فراقه ساعة واحدة، ويحزنه ذلك أشد الحزن، فحصل التفريق بينه وبينه مدة طويلة، لا تقصر عن خمس عشرة سنة، ويعقوب لم يفارق الحزن قلبه في هذه المدة ( وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ) ثم ازداد به الأمر شدة، حين صار الفراق بينه وبين ابنه الثاني شقيق يوسف، هذا وهو صابر لأمر الله، محتسب الأجر من الله، قد وعد من نفسه الصبر الجميل، ولا شك أنه وفى بما وعد به، ولا ينافي ذلك، قوله: ( إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ ) فإن الشكوى إلى الله لا تنافي الصبر، وإنما الذي ينافيه، الشكوى إلى المخلوقين.
ومنها: أن الفرج مع الكرب؛ وأن مع العسر يسرا، فإنه لما طال الحزن على يعقوب واشتد به إلى أنهى ما يكون، ثم حصل الاضطرار لآل يعقوب ومسهم الضر، أذن الله حينئذ بالفرج، فحصل التلاقي في أشد الأوقات إليه حاجة واضطرارا، فتم بذلك الأجر وحصل السرور، وعلم من ذلك أن الله يبتلي أولياءه بالشدة والرخاء، والعسر واليسر ليمتحن صبرهم وشكرهم، ويزداد - بذلك - إيمانهم ويقينهم وعرفانهم.
ومنها: جواز إخبار الإنسان بما يجد، وما هو فيه من مرض أو فقر ونحوهما، على غير وجه التسخط، لأن إخوة يوسف قالوا: ( يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ ) ولم ينكر عليهم يوسف.
ومنها: فضيلة التقوى والصبر، وأن كل خير في الدنيا والآخرة فمن آثار التقوى والصبر، وأن عاقبة أهلهما، أحسن العواقب، لقوله: ( قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) .
ومنها: أنه ينبغي لمن أنعم الله عليه بنعمة بعد شدة وفقر وسوء حال، أن يعترف بنعمة الله عليه، وأن لا يزال ذاكرا حاله الأولى، ليحدث لذلك شكرا كلما ذكرها، لقول يوسف عليه السلام: (( وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ ) .
< 1-412 > ومنها: لطف الله العظيم بيوسف، حيث نقله في تلك الأحوال، وأوصل إليه الشدائد والمحن، ليوصله بها إلى أعلى الغايات ورفيع الدرجات.
ومنها: أنه ينبغي للعبد أن يتملق إلى الله دائما في تثبيت إيمانه، ويعمل الأسباب الموجبة لذلك، ويسأل الله حسن الخاتمة، وتمام النعمة لقول يوسف عليه الصلاة والسلام: ( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) .
فهذا ما يسر الله من الفوائد والعبر في هذه القصة المباركة، ولا بد أن يظهر للمتدبر المتفكر غير ذلك.
فنسأله تعالى علما نافعا وعملا متقبلا إنه جواد كريم.

تم تفسير سورة يوسف وأبيه وإخوته عليهم الصلاة والسلام، والحمد لله رب العالمين.

الحلقة (249)
تفسير السعدى
سورة الرعد
من الأية(1) الى الأية(7)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الرعد



" المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون "(1)
يخبر تعالى: أن هذا القرآن, هو آيات الكتاب الدالة, على كل ما يحتاج إليه العباد من أصول الدين وفروعه, وأن الذي أنزل إلى الرسول من ربه, هو الحق المبين.
لأن إخباره صدق, وأوامره, ونواهيه, عدل, مؤيدة بالأدلة والبراهين القاطعة.
فمن أقبل عليه, وعلى علمه, كان من أهل العلم بالحق, الذي يوجب لهم علمهم به, العمل بما أوجب الله.
" وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ " بهذا القرآن, إما جهلا, وإعراضا عنه, وعدم اهتمام به, وإما عنادا وظلما.
فلذلك أكثر الناس, غير منتفعين به, لعدم السبب الموجب للانتفاع.

" الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون " (2)
يخبر تعالى عن انفراده بالخلق والتدبير, والعظمة والسلطان, الدال على أنه وحده المعبود, الذي لا تنبغي العبادة إلا له فقال: " اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ " على عظمها واتساعها, بقدرته العظيمة.
" بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا " أي ليس لها عمد من تحتها, فإنه لو كان لها عمد, لرأيتموها.
" ثُمَّ " بعد ما خلق السماوات والأرض " اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ " العظيم الذي هو أعلى المخلوقات, استواء يليق بجلاله, ويناسب كماله.
" وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ " لمصالح العباد ومصالح مواشيهم وثمارهم.
" كُلِّ " من الشمس والقمر " يَجْرِي " بتدبير العزيز العليم.
" إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى " بسير منتظم, لا يفتران, ولا ينيان, حتى يجيء الأجل المسمى وهو طي الله هذا العالم, ونقلهم إلى الدار الآخرة, التي هي دار القرار.
فعند ذلك يطوي الله السماوات, ويبدلها, ويغير الأرض ويبدلها.
فتكور الشمس والقمر, ويجمع بينهما, فيلقيان في النار, ليرى من عبدهما أنهما غير أهل للعبادة فيتحسر بذلك أشد الحسرة, وليعلم الذين كفروا, أنهم كانوا كاذبين.
وقوله " يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ " هذا جمع بين الخلق والأمر.
أي: قد استوى الله العظيم على سرير الملك, يدبر الأمور في العالم العلوي والسفلي.
فيخلق ويرزق, ويغني, ويفقر, ويرفع أقواما, ويضع آخرين, ويعز ويذل, ويخفض ويرفع, ويقيل العثرات, ويفرج الكربات, وينفذ الأقدار في أوقاتها, التي سبق بها علمه, وجرى بها قلمه.
ويرسل ملائكته الكرام, لتدبير ما جعلهم على تدبيره.
وينزل الكتب الإلهية على رسله, ويبين ما يحتاج إليه العباد من الشرائع, والأوامر والنواهي, ويفصلها غاية التفصيل, ببيانها, وإيضاحها وتمييزها.
" لَعَلَّكُمْ " بسبب ما أخرج لكم من الآيات الأفقية, والآيات القرآنية.
" بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ " فإن كثرة الأدلة وبيانها ووضوحها, من أسباب حصول اليقين, في جميع الأمور الإلهية, خصوصا في العقائد الكبار, كالبعث والنشور والإخراج من القبور.
وأيضا, فقد علم أن الله تعالى, حكيم لا يخلق الخلق سدى, ولا يتركهم عبثا.
فكما أنه أرسل رسله, وأنزل كتبه, لأمر العباد ونهيهم, فلا بد أن ينقلهم إلى دار, يحل فيها جزاؤه, فيجازى المحسنين بأحسن الجزاء, ويجازى المسيئين بإساءتهم.

" وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون "(3)
" وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ " أي: خلقها للعباد, ووسعها, وبارك فيها, ومدهها للعباد, وأودع فيها من مصالحهم ما أودع.
" وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ " أي: جبالا عظاما, لئلا تميد بالخلق.
فإنه لولا الجبال, لمادت بأهلها, لأنها على تيار ماء, لا ثبوت لها, ولا استقرار, إلا بالجبال الرواسي, التي جعلها الله أوتادا لها.
وجعل فيها " وَأَنْهَارًا " , تسقي الآدميين وبهائمهم وحروثهم.
فأخرخ بها من الأشجار والزروع والثمار, خيرا كثيرا ولهذا قال: " وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ " أي: صنفين, مما يحتاج إليه العباد.
" يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ " فتظلم الآفاق, فيسكن كل حيوان إلى مأواه, ويستريحون من التعب والنصب في النهار.
ثم إذا قضوا مأربهم من النوم, غشي النهار الليل, فإذا هم مصبحون ينتشرون في مصالحهم وأعمالهم في النهار.
" ومن رحمته, جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه, وتبتغوا من فضله, ولعلكم تشكرون " .
" إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ " على المطالب الإلهية " لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ " فيها, وينظرون فيها نظرة اعتبار دالة على أن الذي خلقها ودبرها, وصرفها, هو الله الذي لا إله إلا هو, ولا معبود سواه, وأنه عالم الغيب والشهادة, الرحمن الرحيم, وأنه القادر على كل شيء, الحكيم في كل شيء, المحمود على ما خلقه وأمر به, تبارك وتعالى.

" وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون " (4)
ومن الآيات على كمال قدرته, وبديع صنعته, " وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ " فيها أنواع الأشجار " مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ " وغير ذلك.
والنخيل التي بعضها " صِنْوَانٌ " أي: عدة أشجار في أصل واحد.
" وَغَيْرُ صِنْوَانٍ " بأن كان كل شجرة على حدتها.
والجميع " يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ " وأرضه واحدة " وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ " لونا, وطعما, ونفعا, ولذة.
فهذه أرض طيبة, تنبت الكلأ والعشب الكثير, والأشجار والزروع.
وهذه أرض تلاصقها, لا تنبت كلاء, ولا تمسك ماء.
وهذه تمسك الماء, ولا تنبت الكلأ.
وهذه تنبت الزرع والأشجار, ولا تنبت الكلأ.
وهذه الثمرة حلوة, وهذه مرة, وهذه بين ذلك.
فهل هذا التنوع, في ذاتها وطبيعتها؟ أم ذلك تقدير العزيز الرحيم؟ " إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ " أي: لقوم لهم عقول تهديهم إلى ما ينفعهم, وتقودهم إلى ما يرشدون به ويعقلون عن الله, وصاياه وأوامره ونواهيه.
وأما أهل الإعراض, وأهل البلادة, فهم في ظلماتهم يعمهون, وفي غيرهم يترددون.
لا يهتدون إلى ربهم سبيلا, ولا يعون له قيلا.

" وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " (5)
يحتمل أن معنى قوله " وَإِنْ تَعْجَبْ " من عظمة الله تعالى, وكثرة أدلة التوحيد.
فإن العجب - مع هذا - إنكار المكذبين, وتكذيبهم بالبعث.
وقولهم " أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ " أي: هذا بعيد في غاية الامتناع بزعمهم, أنهم بعد ما كانوا ترابا, أن الله يعيدهم.
فإنهم - من جهلهم - قاسوا قدرة الخالق بقدرة المخلوق.
فلما رأوا هذا ممتنعا, في قدرة المخلوق, ظنوا أنه ممتنع على قدرة الخالق.
ونسوا أن الله خلقهم أول مرة, ولم يكونوا شيئا.
ويحتمل أن معناه: وإن تعجب من قولهم وتكذيبهم للبعث, فإن ذلك من العجائب.
فإن الذي توضح له الآيات, ويرى من الأدلة القاطعة على البعث, ما لا يقبل الشك والريب, ثم ينكر ذلك, فإن قوله من العجائب.
ولكن ذلك لا يستغرب على " أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ " وجحدوا وحدانيته, وهي أظهر الأشياء وأجلاها.
" وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ " المانعة لهم من الهدى " فِي أَعْنَاقِهِمْ " حيث دعوا إلى الإيمان, فلم يؤمنوا, وعرض عليهم الهدى فلم يهتدوا.
فقلبت قلوبهم وأفئدتهم, عقوبة على أنهم لم يؤمنوا به أول مرة.
" وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " لا يخرجون منها أبدا.

" ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب " (6)
يخبر تعالى, عن جهل المكذبين لرسوله, المشركين له, الذين وعظوا فلم يتعظوا, وأقيمت عليهم الأدلة, فلم ينقادوا لها.
بل جاهروا بالإنكار, واستدلوا بحلم الله الواحد القهار عنهم, وعدم معاجلتهم بذنوبهم, أنهم على حق, وجعلوا يتعجلون الرسول بالعذاب, ويقول قائلهم: " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك, فأمطر علينا حجارة من السماء, أو ائتنا بعذاب أليم " .
والحال أنه " وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ " أي: وقائع الله وأيامه في الأمم المكذبين, أفلا يتفكرون في حالهم, ويتركون جهلهم.
" وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ " أي: لا يزال خيره إليهم, وإحسانه, وبره, وعفوه نازلا إلى العباد.
وهم لا يزال شركهم, وعصيانهم إليه صاعدا.
يعصونه فيدعوهم إلى بابه, ويجرمون, فلا يحرمهم خيره وإحسانه.
فإن تابوا إليه, فهو حبيبهم, لأنه يحب التوابين, ويحب المتطهرين وإن لم يتوبوا, فهو طبيبهم, يبتليهم بالمصائب, ليطهرهم من المعايب " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا, إنه هو الغفور الرحيم " .
" وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ " على من لم يزل مصرا على الذنوب, قد أبى التوبة والاستغفار والالتجاء إلى العزيز الغفار.
فليحذر العباد عقوباته بأهل الجرائم, فإن أخذه أليم شديد.

" ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد " (7)
أي: ويقترح الكفار عليك من الآيات, التي يعينون ويقولون: " لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ " ويجعلون هذا القول منهم.
عذرا لهم في عدم الإجابة إلى الرسول.
والحال, أنه منذر, ليس له من الأمر شيء, والله هو الذي ينزل الآيات.
وقد أيده بالأدلة البينات, التي لا تخفى على أولي الألباب, وبها يهتدي من قصده الحق.
وأما الكافر, الذي - من ظلمه وجهله - يقترح على الله الآيات, فهذا اقتراح منه, باطل وكذب وافتراء.
فإنه لو جاءته أي آية كانت, لم يؤمن ولم ينقد, لأنه لم يمتنع من الإيمان, لعدم ما يدله على صحته, وإنما ذلك, لهوى نفسه, واتباع شهوته.
" وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ " أي: داع يدعو إلى الهدى, من الرسل وأتباعهم.
ومعهم من الأدلة والبراهين, ما يدل على صحة ما معهم من الهدى.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #250  
قديم 06-12-2019, 04:33 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (250)
تفسير السعدى
سورة الرعد
من الأية(8) الى الأية(14)
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسير سورة الرعد



" الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار " (8)
يخبر تعالى, بعموم علمه, وسعة اطلاعه, وإحاطته بكل شيء فقال: " اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى " من بني آدم وغيرهم.
" وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ " أي: تنقص مما فيها, إما أن يهلك الحمل, أو يتضاءل أو يضمحل.
" وَمَا تَزْدَادُ " الأرحام وتكبر الأجنة التي فيها.
" وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ " لا يتقدم عليه ولا يتأخر, ولا يزيد ولا ينقص إلا بما تقتضيه حكمته وعلمه.

" عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال " (9)
فإنه " عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ " في ذاته, وأسمائه, وصفاته " الْمُتَعَالِ " على جميع خلقه, بذاته وقدرته, وقهره.
" سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار " (10)
" سَوَاءٌ مِنْكُمْ " في علمه وسمعه, وقهره.
" مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ " أي: مستقر بمكان خفي فيه.
" وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ " أي: داخل سربه في النهار, والسرب هو: ما يستخفى فيه الإنسان, إما جوف بيته, أو غار, أو مغارة, أو نحو ذلك.

" له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال " (11)
" لَهُ " أي للإنسان " مُعَقِّبَاتٌ " من الملائكة, يتعاقبون في الليل والنهار.
" مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ " أي: يحفظون بدنه وروحه, من كل من يريده بسوء, ويحفظون عليه أعماله, وهم ملازمون له دائما.
فكما أن علم الله محيط به, فالله قد أرسل هؤلاء الحفظة على العباد, بحيث لا تخفى أحوالهم ولا أعمالهم, ولا ينسى منها شيئا.
" إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ " من النعمة والإحسان, ورغد العيش " حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ " بأن ينتقلوا من الإيمان إلى الكفر, ومن الطاعة إلى المعصية.
أو من شكر نعم الله إلى البطر بها, فيسلبهم الله إياها عند ذلك.
وكذلك إذا غير العباد, ما بأنفسهم من المعصية, فانتقلوا إلى طاعة الله, غير الله عليهم, ما كانوا فيه من الشقاء, إلى الخير والسرور والغبطة والرحمة.
" وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا " أي: عذابا وشدة, وأمرا يكرهونه, فإن إرادته, لا بد أن تنفذ فيهم.
فـإنه " فَلَا مَرَدَّ لَهُ " ولا أحد يمنعهم منه.
" وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ " يتولى أمورهم, فيجلب لهم المحبوب, ويدفع عنهم المكروه.
فليحذروا من الإقامة على ما يكره الله, خشية أن يحل بهم من العقاب ما لا يرد عن القوم المجرمين.

" هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال " (12)
يقول تعالى: " هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا " أي: يخاف منه الصواعق والهدم, وأنواع الضرر, على بعض الثمار ونحوها, ويطمع في خيره ونفعه.
" وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ " بالمطر الغزير, الذي به نفع العباد والبلاد.

" ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال " (13)
" وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ " وهو الصوت, الذي يسمع من السحاب المزعج للعباد, فهو خاضع لربه, مسبح بحمده.
" و " تسبح " الْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ " أي: خشعا لربهم, خائفين من سطوته.
" وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ " وهي هذه النار, التي تخرج من السحاب.
" فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ " من عباده, بحسب ما شاءه وأراده " وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ " أي: شديد الحول والقوة, فلا يريد شيئا إلا فعله, ولا يتعاصى عليه شيء, ولا يفوته هارب

" له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال " (14)
فإذا كان هو وحده, الذي يسوق للعباد الأمطار والسحب, التي فيها مادة أرزاقهم, وهو الذي يدبر الأمور, وتخضع له المخلوقات العظام, التي يخاف منها, وتزعج العباد, وهو شديد القوة - فهو الذي يستحق أن يعبد وحده ولا شريك له.
ولهذا قال: " لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ " إلى " إِلَّا فِي ضَلَالٍ " .
" لَهُ " أي: لله وحده " دَعْوَةُ الْحَقِّ " وهي: عبادته وحده لا شريك له وإخلاص دعاء العبادة, ودعاء المسألة له تعالى.
أي: هو الذي ينبغي أن يصرف له الدعاء, والخوف, والرجاء, والحب, والرغبة, والرهبة, والإنابة, لأن ألوهيته, هي الحق, وألوهية غيره, باطلة.
" وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ " من الأوثان, والأنداد, التي جعلوها شركاء لله.
" لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ " أي: لمن يدعوها ويعبدها, بشيء قليل ولا كثير, لا من أمور الدنيا, ولا من أمور الآخرة.
" إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ " الذي لا تناله كفاه لبعده.
" لِيَبْلُغَ " ببسط كفيه إلى الماء " فَاهُ " , فإنه عطشان, ومن شدة عطشه, يتناول بيده ويبسطها إلى الماء الممتنع وصولها إليه, فلا يصل إليه.
كذلك الكفار, الذين يدعون مع الله آلهة, لا يستجيبون لهم بشيء, ولا ينفعونهم في أشد الأوقات إليهم حاجة, لأنهم فقراء, كما أن من دعوهم فقراء, لا يملكون مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء وما لهم فيها من شرك, وما له منهم من ظهير.
" وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ " لبطلان ما يدعون من دون الله.
فبطلت عبادتهم ودعاؤهم, لأن الوسيلة تبطل ببطلان غايتها.
ولما كان الله تعالى, هو الملك الحق المبين, كانت عبادته حقا, متصلة النفع بصاحبها في الدنيا الآخرة.
وتشبيه دعاء الكافرين لغير الله, بالذي يبسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه من أحسن الأمثلة.
فإن ذلك تشبيه بأمر محال, فكما أن هذا محال, فالمشبه به محال.
والتعلق على المحال, من أبلغ ما يكون في نفي الشيء كما قال تعالى " إن الذين كفروا وكذبوا بآياتنا لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط " .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 279.50 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 273.67 كيلو بايت... تم توفير 5.83 كيلو بايت...بمعدل (2.08%)]