الإسراء والمعراج في القرآن الكريم - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الاعتكاف والنقلة الإيجابية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          قيمة العلماء في الإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          جُهْدُ اَلطَّاقَةِ فِي بِرِّ الْأُمِّ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 37 )           »          اغتنموا يوم الجمعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          صور من محن علماء المسلمين عبر التاريخ ..... يوميا فى رمضان . (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 20 - عددالزوار : 2777 )           »          تأملات قرآنية وتدبرية .....يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 20 - عددالزوار : 2443 )           »          المجموع شرح المهذب للنووي(كتاب الصيام)يوميا فى رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 20 - عددالزوار : 2284 )           »          مواعظ رمضانية... يوميا فى شهر رمضان المبارك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 20 - عددالزوار : 2951 )           »          الهمم الشبابية العالية والنفحات الإلهية والإيمانية في رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 20 - عددالزوار : 2818 )           »          أكلات رمضانية شهية بالصور والمقادير --- وصفات وأطباق رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 20 - عددالزوار : 2034 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 07-02-2025, 10:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 149,116
الدولة : Egypt
افتراضي الإسراء والمعراج في القرآن الكريم

الإسراء والمعراج في القرآن الكريم (1-2)



كتبه/ علاء بكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد اختلف العلماء حول تعيين السَّنة التي وقعت فيها رحلة الإسراء والمعراج على أقوال عديدة، والأقرب أنها وقعت بين السنة العاشرة من البعثة وبين بيعة العقبة الأولى، والتي كانت في موسم الحج في السنة الثانية عشرة من البعثة، أو أنها وقعت بين البيعتين الأولى والثانية، والتي كانت في موسم الحج في السنة الثالثة عشرة. والله أعلم. (راجع في ذلك: "الرحيق المختوم" لصفي الرحمن المباركفوري - ط. المكتب الجامعي الحديث، الإسكندرية، ص 138).
قال حافظ بن أحمد حكمي في (معارج القبول): "والإسراء والمعراج ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، فلا تأثير لاختلاف أهل السير في تاريخه وتعيين سنته ووقته؛ غير أن الراجح فيه كونه بين عاشر البعثة وبين هجرته -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، وعلى قول من يقول: إن خديجة -رضي الله عنه-ا أدركت فريضة الصلوات، فالمعراج في سنة عشر أو قبلها، والله أعلم؛ لأنها توفيت هي وأبو طالب في ذلك العام" (راجع: "معارج القبول" للشيخ حافظ بن أحمد حكمي - مركز الهدى للدراسات - ط. أولى، 1418 هجريًا - 1997م، 4/ 177).
وعن الزهري -رحمه الله- قال: كان الإسراء قبل الهجرة بسنة، وكذا قال عروة. وقال السدي: بستة عشر شهرًا. (راجع تفسير ابن كثير لسورة الإسراء). وقال ابن عبد البر وغيره: كان بين الإسراء والهجرة سنة وشهران. (راجع: "زاد المعاد" لابن القيم).
ولعل أنسب ما قيل في تعليل هذه الرحلة العجيبة هو ما جاء في قوله -تعالى-: (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) (الإسراء:?). وهذه من سنن الله -تعالى- مع رسله، قال الله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (الأنعام:??)، فالمقصود: (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)، فبعد رؤية الآيات يحصل للأنبياء عين اليقين، فيتحملون في سبيل الله -تعالى- ما لا يتحمله غيرهم. وقال الله -تعالى- في حق موسى -عليه السلام-: (لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى) (طه:??).
ويقوي هذا التعليل: أن تلك المعجزة وقعت بعد وفاة خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها-، وكانت خير عون للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وبعد وفاة عمه أبي طالب، وكان يحمي النبي -صلى الله عليه وسلم- من أذى قريش، وكلاهما قد توفي في السنة العاشرة من البعثة، والذي أُطلِق عليه (عام الحزن)؛ لشدة أثره على نفسية النبي -صلى الله عليه وسلم-.
رحلة الإسراء في القرآن الكريم:
ورد الحديث عن رحلة الإسراء في القرآن الكريم بالنص عليها أول سورة الإسراء، في قوله -تعالى-: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء:?).
قوله -تعالى-: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا):
قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: "يمجِّد -تعالى- نفسه ويعظم شأنه، لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه؛ فلا إله غيره ولا رب سواه" (تفسير ابن كثير).
وقوله -تعالى-: (أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا): المراد بعبده النبي -صلى الله عليه وسلم-، و(لَيْلًا): أي في جنح الظلام. وكان الإسراء بروحه وجسده معًا، وإلا لم يكن في ذلك آية كبرى ومنقبة عظيمة.
قال ابن كثير -رحمه الله-: "والحق أنه أسري به يقظة لا منامًا من مكة إلى بيت المقدس راكبًا البراق". والإسراء في اللغة من السُّرى، وهو السير ليلًا، يقال: سرى وأسرى، وقوله: (لَيْلًا) أي: في جزء من الليل، فلم يسر به الليل كله، كما في قوله -تعالى-: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) (هود:??). والله -تعالى- أعلم.
- وأكثر العلماء -وهو الصواب- أنه أسري به -صلى الله عليه وسلم- ببدنه وروحه يقظة لا منامًا، لأمورٍ عديدةٍ؛ منها:
1- بداية الآية -آية سورة الإسراء- بالتسبيح (والتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام؛ فلو كان منامًا لم يكن فيه شيء كبير، ولم يكن مستعظمًا، ولما بادرت كفار قريش إلى تكذيبه، ولما ارتدت جماعة ممن كان قد أسلم) (راجع تفسير ابن كثير).
2- إن العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد، وقد قال -تعالى-: (أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا).
3- إن اعتراض كفار قريش وعدم تصديقهم للإسراء والمعراج دَلَّ على أن الإسراء والمعراج كان كما أخبرهم به النبي -صلى الله عليه وسلم- بالروح والبدن وفي اليقظة، فلو كان في المنام أو بالروح فقط لما كذبوه وأنكروا عليه.
4- وقد قال -تعالى- عن رحلة الإسراء والمعراج في سورة النجم: (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى) (النجم: ??)، والبصر من آلات الذات لا الروح.
5- إنه -صلى الله عليه وسلم- حُمِل على البراق، وهو دابة بيضاء براق لها لمعان، وإنما يكون الحمل للبدن لا للروح؛ لأنها لا تحتاج في حركاتها إلى مركب تركب عليه. والله أعلم. (راجع تفسير ابن كثير).
6- إنه ظاهر القرآن فلا يصرف عنه إلى غيره.
قوله -تعالى-: (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ):
بمكة (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى)، وهو: بيت المقدس الذي بإيلياء بالشام.
وقوله -تعالى-: (الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) أي: بكثرة الزروع والثمار والأشجار، والخصب الدائم. ومن بركته تفضيله على غيره من المساجد سوى المسجد الحرام ومسجد المدينة، وأنه يشد إليه الرحال للعبادة والصلاة فيه، وأنه -تعالى- اختصه محلًّا لكثيرٍ من أنبيائه وأصفيائه. (لِنُرِيَهُ) أي: النبي -صلى الله عليه وسلم-. (مِنْ آيَاتِنَا) أي: العظام.
وقوله -تعالى-: (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي: السميع لأقوال عباده مؤمنهم وكافرهم، مصدقهم ومكذبهم (الْبَصِيرُ) بهم، فيعطي كلًّا منهم ما يستحقه في الدنيا والآخرة.
- قال ابن كثير في تفسيره بعد إيراده الأحاديث النبوية الواردة في الصحيحين وغيرهما الوارد فيها قصة الإسراء والمعراج: "وإذا حصل الوقوف على مجموع الأحاديث صحيحها وحسنها وضعيفها، فحصل مضمون ما اتفقت عليه من مسرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى بيت المقدس، وأنه مرة واحدة، وإن اختلفت عبارات الرواة في أدائه؛ زاد بعضهم فيه أو نقص منه".
- وأضاف أيضًا: "قال الحافظ أبو الخطاب عمر بن دحية في كتابه: (التنوير في مولد السراج المنير)، وقد ذكر حديث الإسراء من طريق أنس وتكلم عليه فأجاد وأفاد، ثم قال: وقد تواترت الروايات في حديث الإسراء عن عمر بن الخطاب، وعلي، وابن مسعود، وأبي ذر، ومالك بن صعصعة، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وابن عباس، وشداد بن أوس، وأُبَي بن كعب، وعبد الرحمن بن قرط، وأبي حبة وأبي ليلى الأنصاريين، وعبد الله بن عمرو، وجابر وحذيفة وبريدة، وأبي أيوب وأبي أمامة، وسمرة بن جندب، وأبي الحمراء، وصهيب الرومي، وأم هانئ، وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر -رضي الله عنهم أجمعين-؛ منهم مَن ساقه بطوله ومنهم من اختصره، على ما وقع في المسانيد، وإن لم تكن رواية بعضهم على شرط الصحة؛ فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون، وأعرض عنه الزنادقة والملحدون (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (الصف: 8)" (تفسير ابن كثير - ط مكتبة الصفا المحققة - 1425 هجريًّا - 2004 م، 5/ 29).
- ولا غرابة مطلقًا في قدرة الله -تعالى- على الإسراء بنبيه من مكة إلى إيلياء، والعروج به من هناك إلى السماء، ثم العودة بعد ذلك إلى مكة في نفس الليلة -بل في جزء منها-؛ فهذا في قدرة الله -عز وجل- يسير جدًّا، يتم في زمن يسير للغاية، والله -عز وجل- لا يعجزه شيء، وهو على كل شيء قدير. وإنما كان أكثر زمن الرحلة فيما رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- خلالها من أحداث كالتقائه بالرسل والأنبياء والصلاة بهم، وكلامه مع بعض منهم خلال مروره في السماوات، ورؤية الجنة والنار، وتلقي فرض الصلوات الخمس من الله -تعالى- مباشرة، وغير ذلك.
- والشواهد النقلية والعقلية على صحة ذلك كثيرة؛ منها:
- إن الله -تعالى- هو الذي أخبر أنه أسرى بالنبي -صلى الله عليه وسلم- من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ولم يقل النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أسرى بنفسه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وهذا في قدرة الله -تعالى- أمر هين ليس بالأمر الصعب، ولكنه في قدرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وبإمكانيات عصره هو أمر صعب عليه للغاية، وشتان بين الأمرين.
- ما ذكره أبو بكر الصديق لما أخبره المشركون بقصة إسراء النبي ومعراجه؛ فذكر أنه يصدقه فيما هو أكبر من ذلك من تلقي الوحي من ربه عن طريق جبريل -عليه السلام-، فنزول جبريل لمخاطبة النبي لمرات كثيرة تردد فيها بين الله -عز وجل- وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- ليتلو عليه آيات القرآن الكريم الذي نزل عليه منجمًا، وكذلك نزول جبريل على النبي -صلى الله عليه وسلم- بحسب الأحداث والنوازل، كلها دالة على قدرة الله -تعالى- على الإسراء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- والعروج به متى شاء، فإن الله -تعالى- لا يعجزه شيء.
- ما ثبت في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه وصف بيت المقدس لكفار قريش، مما أراه الله -تعالى- له ليكون دليلًا دامغًا على صدقه فيما أخبر به، بل أخبرهم -صلى الله عليه وسلم- بأمور رآها في طريقه وتأكدوا منها؛ ففي الصحيحين قال -صلى الله عليه وسلم-: (لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فِي الْحِجْرِ -أي: حجر إسماعيل -عليه السلام- فَجَلَّى اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ) (متفق عليه). وعند مسلم قال -صلى الله عليه وسلم-: (لقد رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ، فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا فَكَرَبْتُ كُرْبَةً مَا كَرَبْتُ مِثْلَهَا قَطُّ) قال: (فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ) (رواه مسلم).
قال ابن القيم -رحمه الله-: "فلما أصبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قومه أخبرهم بما أراه الله -عز جل- من آياته الكبرى؛ فاشتد تكذيبهم له، وآذاهم واستضرارهم عليه، وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس، فجلاه الله له حتى عاينه، فطفق يخبرهم عن آياته ولا يستطيعون أن يردوا عليه شيئًا، وأخبرهم عن عيرهم في مسراه ورجوعه، وأخبرهم عن وقت قدومها، وأخبرهم عن البعير الذي يقدمها، وكان الأمر كما قال، فلم يزدهم ذلك إلا نفورًا، وأبى الظالمون إلا كفورًا" (زاد المعاد).
- ما ورد في القرآن الكريم عن قدرة الجن على نقل الأشياء لمسافات كبيرة في زمن قصير للغاية، كما في قصة سليمان -عليه السلام-؛ قال -تعالى- عن سليمان: (قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ . قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ . قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل: 28-40)، فإذا كانت تلك قدرة عفاريت الجن؛ فكيف بقدرة الخالق لها -عز وجل-؟!
- ما وصلت إليه قدرة البشر حاليًا من الانتقال جوًّا بالطائرات المحملة بالبشر والبضائع الثقيلة لآلاف الكيلومترات في ساعات قليلة تعد على الأصابع بسرعات فائقة، وعلى ارتفاعات شاهقة، فلم تعد رحلة جوية من مكة إلى القدس من الأمور التي تحتاج إلى أوقات طويلة، بل يمكن الذهاب من مكة إلى القدس والعودة لمكة بالطائرة خلال جزء من ليلة، فإذا كانت تلك قدرة البشر؛ فكيف بقدرة الله -تعالى-؟!
- وقد ذكر ابن كثير في تفسيره لسورة الإسراء تحت عنوان: (فائدة حسنة جليلة)، ما رواه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتاب دلائل النبوة بسنده عن قصة لقاء هرقل عظيم الروم وأبي سفيان المشهور بالشام لسؤاله عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال أبو سفيان في سياق الحديث: "والله ما منعني أن أقول عليه قولًا أسقطه من عينه إلا أني أكره أن أكذب عنده كذبة يأخذها علي ولا يصدقني في شيء. قال: حتى ذكرت قوله: ليلة أسري به، قال: قلتُ: أيها الملك ألا أخبرك خبرًا تعرف أنه قد كذب؟ قال: وما هو؟ قال: قلت: إنه يزعم لنا أنه خرج من أرضنا أرض الحرم في ليلة، فجاء مسجدكم هذا مسجد إيلياء ورجع إلي إلينا تلك الليلة قبل الصباح! قال: وبطريق إيلياء عند رأس قيصر فقال بطريق إيلياء: قد علمت تلك الليلة. قال: فنظر إليه قيصر، وقال: ما علمك بهذا؟ قال: إني كنت لا أنام ليلة حتى أغلق أبواب المسجد فلما كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد غلبني فاستعنت عليه بعمالي ومن يحضرني كلهم فعالجته فغلبنا فلم نستطع أن نحركه، كأنما نزاول به جبلًا فدعوت، إليه النجاجرة فنظروا إليه فقالوا: إن هذا الباب سقط عليه النجاف والبنيان، ولا نستطيع أن نحركه حتى نصبح فننظر من أين أتي، قال فرجعت وتركت البابين مفتوحين، فلما أصبحت غدوت عليهما فإذا الحجر الذي في زاوية المسجد مثقوب وإذا فيه أثر مربط لدابة، قال: فقلت لأصحابي ما حبس هذا الباب إلا عن نبي، وقد صلى الليلة في مسجدنا..." وذكر تمام الحديث. (راجع: تفسير ابن كثير).
- قال صفي الدين المباركفوري: "يرى القارئ في سورة الإسراء: أن الله ذكر قصة الإسراء في آية واحدة فقط ثم أخذ في ذكر فضائح اليهود وجرائمهم، ثم نبههم بأن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، فربما يظن القارئ أن الآيتين ليس بينهما ارتباط، والأمر ليس كذلك، فإن الله -تعالى- يشير بهذا الأسلوب إلى أن الإسراء إنما وقع إلى بيت المقدس؛ لأن اليهود سيعزلون عن منصب قيادة الأمة الإنسانية لما ارتكبوا من الجرائم التي لم يبقَ معها مجال لبقائهم على هذا المنصب، وأن الله سينقل هذا المنصب فعلًا إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ويجمع له مركزي الدعوة الإبراهيمية كليهما، فقد آن أوان انتقال القيادة الروحية إلى أمة تتدفق بالبر والخيرات، ولا يزال رسولها يتمتع بوحي القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم" (الرحيق المختوم).
- في قوله -تعالى-: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) (الإسراء: 60)، ذهب البعض إلى أن المراد بالرؤيا في الآية الرؤية المنامية، فكلمة الرؤيا لا تأتي مصدرًا إلا لرأى الحلمية، رأي المنام، لأن البصرية يقال فيها: رأيت رؤية، والمنامية يقال فيها: رأيت رؤيا، ونص القرآن: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) أي: أنها منامية، أي: أن الإسراء والمعراج كان منامًا لا يقظة. والأصح -كما ذكرنا-: أن الإسراء والمعراج كانا يقظة لا منامًا.
ويمكن أن يُجاب عما قالوه بما يلي:
- بأنه إن كانت رؤيا منامية؛ فكيف تكون فتنة للناس؟! ومعنى فتنة الناس أن بعضهم يصدق وبعضهم يكذب، ولو كانت رؤيا منامية فلا يناقشها أحدٌ؛ لا تصديقًا ولا تكذيبًا، وإلا فهل اختلف الناس مع واحد من الناس رأى رؤيا؟! وبأي شكل رآها؟! وبأي سرعة؟! وأي منظر؟! وما دامت الرؤيا جعلت فتنة؛ فهذا دليل على أنها لم تكن رؤيا منامية.
- بأن الرؤيا وردت في اللغة أيضًا للرؤية البصرية للأشياء، لكن في الأشياء الغريبة العجيبة التي مما لا يُدرك إلا فيما يشبه الأحلام، فكأنها منام لا يقظة.
ومن ذلك قول الشاعر:
فـكـبر للرؤيا وهـشَّ فـؤاده وبشـَّر نفسًا كان قبل يلومها
ومن ذلك قول المتنبي -وإن كان ممن لا يُستشهد بشعره إلا أنه يُستأنس به-: "ورؤياك في العينين أحلى من الغمض" (راجع في ذلك: "الإسراء والمعراج" للشيخ محمد متولي الشعراوي، ط. دار الشروق ط. أولى 1974، تقديم أحمد فراج، ص 44- 46).
- قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في تفسير الآية المذكورة: "هي رؤيا عين أُريها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليلة أُسري به" (راجع تفسير ابن كثير).
- إن الفعل جعل إذا جاء متعديًا لمفعول به واحد، كان بمعنى خلق من عدم، كما في قوله -تعالى-: (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) (النساء: 1)، أما إذا جاء متعديًا لمفعولين، فيكون بمعنى حوّل شيئًا موجودًا إلى آخر، مثل جعلت الخشب مكتبًا، فيكون: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً) أي: فجعل الرؤيا (مفعول به أول)، فتنة (مفعول به ثاني)، وكيف تصير الرؤيا حقيقة؟ لا مانع أن يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد رأى الإسراء رؤيا منامية ثم رآه يقظة، كما جاء في قوله -تعالى-: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ) (الفتح: 27)؛ إذ رأى الأمر في الرؤيا المنامية ورؤيا الأنبياء حق، ثم صارت حقيقة وواقعًا، فما الذي يمنع أن يكون رسول الله آنس الله روحه فرأى منامًا هذه المشاهد، وبعد ذلك رآها حقيقة، كما رأى أنه دخل المسجد الحرام رؤية وأصحابه محلقين ومقصرين، وبعد ذلك رآها حقيقة، وتكون (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي رَأَيْتَهَا أَنْتَ فِي الْمَنَامِ إِلَّا فِتْنَةً) أي: واقعًا يفتن فيه الناس، بعد أن كانت كذا صارت كذا، إذا فلا مانع أن يكون الرسول تعرض لحدث الإسراء منامًا، تعرض له روحًا وتعرض له يقظة، والسيدة عائشة أخبرت أنه ما رأى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح، فإذا كان قد رأى رؤيا فهي إذًا حقيقة. (راجع في ذلك: "الإسراء والمعراج" للشعراوي، ص 46 - 48).
- أما قوله -تعالى-: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا . أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا . أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا . أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا . وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا) (الإسراء: 90-94)؛ فهذا كله إخبار عن تعنت الكفار لا الطلب الصادق للآيات البينات وإلا فقد جاءهم منها ما يكفي وزيادة. ولا تنافي هذه الآيات النص في القرآن والسنة الصحيحة على وقوع معجزة الإسراء والمعراج، لكنها جاءت كما أراد الله -تعالى- مخالفة لأهوائهم وتعنتهم.
قال ابن كثير في تفسيره: (أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ) أن تصعد في سلم ونحن ننظر إليك، (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ)، قال مجاهد: أي مكتوب فيه إلى كل واحد واحد صحيفة: هذا كتاب من الله لفلان ابن فلان تصبح موضوعة عند رأسه. وقوله -تعالى-: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا) أي: سبحانه و-تعالى- وتقدَّس أن يتقدم أحد بين يديه في أمر من أمور سلطانه وملكوته، بل هو الفعال لما يشاء، إن شاء أجابكم إلى ما سألتم وإن شاء لم يجبكم، وما أنا إلى رسول إليكم أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم، وقد فعلت ذلك، وأمركم فيما سألتم إلى الله -عز وجل-" (تفسير ابن كثير).
وقال السعدي -رحمه الله- في تفسيره عن حال هؤلاء الكفار: "وجعلوا يتعنتون عليه باقتراح آيات غير آياته يخترعونها من تلقاء أنفسهم الظالمة الجاهلة".
وأضاف أيضًا: "ولما كانت هذه تعنتات وتعجيزات، وكلام أسفه الناس وأظلمهم، المتضمنة لرد الحق وسوء الأدب مع الله، وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو الذي يأتي بالآيات، أمره الله أن ينزهه، فقال: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي) عما تقولون علوًّا كبيرًا، وسبحانه أن تكون أحكامه وآياته تابعة لأهوائهم الفاسدة وآرائهم الضالة (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا) ليس بيده شيء من الأمر" (تفسير السعدي).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 25-02-2025, 11:17 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 149,116
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الإسراء والمعراج في القرآن الكريم

الإسراء والمعراج في القرآن الكريم (2-2)



كتبه/ علاء بكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فلم يأتِ في القرآن الكريم النصُّ الصريح على العروج بالنبي -صلى الله عليه وسلم- إلى السماوات في ليلة الإسراء والمعراج، ولكن وردت الآياتُ في سورة النجم التي فيها ذكر أمور من لوازمها وقوع العروج. وقد جاءت حادثة الإسراء، التي أُقيمَ الدليلُ على وقوعها على الأرض، لتفتح الطريق واسعًا للتصديق برحلة المعراج إلى السماء؛ فالتسليمُ بحدوث الإسراء مقدمةٌ نتيجتها التصديق بحدوث المعراج، فالذي خرق قانونَ قطع المسافات على الأرض قادرٌ على خرق قانون الارتفاع إلى السماء، فمن صنع الحدثَ المُعجِزَ الأول على الأرض قادرٌ على صنع الحدث المُعجِزَ الثاني في السماء.
فالمعراجُ تقف عنده العقولُ متحيرةً، لكنها تعلم أن اللهَ -تعالى- لا يعجزه شيء؛ لذا تُرِك الإيمانُ به لقوة إيمان العبد وتصديقه بالغيبيات، وإلا فإننا لم نرَ (سدرةَ المنتهى)، ولا (جنةَ المأوى) اللتين ورد في القرآن عروجُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- إليهما؛ لذا قال العلماء: من كذَّب بالإسراء كفر؛ لأنه كذَّب بالنص القرآني الصريح: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء: 1)، ولكن من شكَّ في أمر المعراج فلا يكفر بذلك، بل هو ضالٌّ يَفسق؛ إذ ثبت المعراجُ في القرآن بدلالة الالتزام -كما سنبين-، كما ثبتت تفاصيلُه في السُّنَّة النبوية الصحيحة عند البخاري ومسلم، وغيرهما، وهي وإن لم تبلغ حد التواتر، لكن تلقتها الأمة قاطبةً جيلًا بعد جيلٍ بالتسليم والقبول: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (النساء: 115). والعقلُ إذا تأمَّل وتدبَّر وآمن، وبلغ قمةَ اليقين؛ وجب عليه التصديق والالتزام بكل ما يُخبَر به بعد ذلك من الأمور الغيبية التي لا مجال للعقل فيها، وهذه من صفات المتقين: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْب) (البقرة: 2، 3)؛ لذا قالوا: إن هذا من رحمة الله بخلقه، فالإسراءُ الذي أُقيم الدليلُ الماديُّ للناس عليه أتى به القرآنُ صراحةً فلا عذرَ فيه.
أما الأمر الذي قد تحتار فيه العقولُ بعضَ الشيء فقد تُرك لمدى اليقين الإيماني، أو مدى التسليم بالمقدمة التي تليها النتيجة الأخرى؛ أما أهل الكفر والعناد فلا رجاء فيهم ولو عُرِجَ بهم أنفسهم إلى السماء: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ . لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) (الحجر: 14-15).
آيات المعراج في سورة النجم:
قال الله -تعالى- في صدر سورة النجم: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى . مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى . وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى . عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى . ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى . وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى . ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى . فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى . فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى . مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى . أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى . وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى . عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى . عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى . إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى . مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى . لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) (النجم: 1-18).
- قوله -تعالى-: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى): قسم بالنجم إذا سقط وغرب. عن مجاهد: يعني بالنجم الثُّرَيَّا إذا سقط مع الفجر، وكذا رُوِي عن ابن عباس وسفيان الثوري، واختاره ابن جرير.
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وهذه الآية كقوله -تعالى-: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ . وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ . إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ . فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ . لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (الواقعة: 75-79). وقال الشعبي وغيره: "الخالق يقسم بما شاء من خلقه، والمخلوق لا ينبغي له أن يقسم إلا بالخالق".
- وقوله -تعالى-: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى): "هذا هو المقسوم عليه، وهو الشهادة للرسول -صلى الله عليه وسلم- بأنه راشد تابع للحق ليس بضالٍّ. والضالُّ: هو الجاهل الذي يسلك على غير طريق بغير علم، والغاوي: هو العالم بالحق العادل عنه قصدًا إلى غيره. فنزَّه الله رسوله وشرعه عن مشابهة أهل الضلال"؛ ولهذا قال -تعالى-: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى) (النجم: 3) أي: ما يقول قولًا عن هوى وغرض، (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَى) (النجم: 4) أي: إنما يقول ما أُمِرَ به، يبلِّغه إلى الناس كاملًا موفورًا من غير زيادة ولا نقصان.
كما روى أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأُرِيدُ حِفْظَهُ فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ، وَقَالُوا: ‌تُكْتَبُ ‌كُلَّ ‌شَيْءٍ ‌تَسْمَعْهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الرِّضَاءِ وَالْغَضَبِ؟، قَالَ: فَأَمْسَكْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: (اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَرَجَ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
- وقوله -تعالى-: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى): يخبر -تعالى- عن رسوله ? أن علمه الذي جاء به إلى الناس علَّمه إياه شديد القوى، وهو جبريل -عليه السلام-، كما قال -تعالى- في سورة التكوير عن جبريل: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ . ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ . مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) (التكوير: 19-21).
- قوله -تعالى-: (ذُو مِرَّةٍ): أي: ذو قوة. قاله مجاهد والحسن وابن زيد. وقال ابن عباس: ذو منظر حسن. وقال قتادة: ذو خُلُقٍ طويل حسن. قال ابن كثير: "ولا منافاة بين القولين؛ فإنه -عليه السلام- ذو منظر حسن وقوة شديدة. وقد ورد في الحديث الصحيح من رواية ابن عمر وأبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (‌لَا ‌تَحِلُّ ‌الصَّدَقَةُ ‌لِغَنِيٍّ، ‌وَلَا ‌لِذِي ‌مِرَّةٍ ‌سَوِيٍّ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني).
- وقوله: (فَاسْتَوَى): يعني جبريل -عليه السلام-؛ قاله الحسن ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس.
- وقوله: (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى . ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى): يعني جبريل استوى في الأفق الأعلى؛ قاله عكرمة وغير واحد. قال عكرمة: والأفق الأعلى الذي يأتي منه الصبح. وقال مجاهد: هو مطلع الشمس. وقال قتادة: هو الذي يأتي من النهار، وكذا قال ابن زيد وغيرهم.
- وقوله -تعالى-: (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ): قال ابن كثير: "أي: فاقترب جبريل إلى محمد لما هبط عليه إلى الأرض حتى كان بينه وبين محمد -صلى الله عليه وسلم- قاب قوسين؛ أي: بقدرهما إذا مُدَّا؛ قاله مجاهد وقتادة. وقد قيل: إن المراد بذلك بعد ما بين وتر القوس إلى كبدها".
- وقوله: (أَوْ أَدْنَى) أي: على مسافة قريبة جدًّا من النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن كثير: "هذه الصيغة تُستعمل في اللغة لإثبات المخبر عنه ونفي ما زاد عليه، كقوله -تعالى-: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) (البقرة: 74)؛ أي: ما هي بألين من الحجارة، بل هي مثلها أو تزيد عليها في الشدة والقسوة. وكذا قوله: (يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) (النساء: 77)، وقوله: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) (الصافات: 147)، أي: ليسوا أقل منها، بل هم مائة ألف حقيقة ويزيدون عليها؛ فهذا تحقيق للمخبر عنه، لا شك ولا تردد، فإن هذا ممتنع ههنا. وهكذا هذه الآية: (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) (النجم: 9). وهذا الذي قلناه من أن هذا المقترب الداني الذي صار بينه وبين محمد -صلى الله عليه وسلم- إنما هو جبريل -عليه السلام-، هو قول أم المؤمنين عائشة، وابن مسعود، وأبي ذر، وأبي هريرة.
- وقوله: (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى): معناه: فأوحى جبريل إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما أوحى، أو فأوحى الله إلى عبده ما أوحى بواسطة جبريل، وكلا المعنيين صحيح.
- وقوله: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى): قال ناصر السعدي: "أي: اتفق فؤاد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ورؤيته على الوحي الذي أوحاه الله إليه، وأنه تواطأ عليه سمعه وقلبه وبصره. وهذا دليل على كمال الوحي الذي أوحاه الله إليه، وأنه تلقاه منه تلقِّيًا لا شك فيه، ولا شبهة، ولا ريب، فلم يكذب فؤاده ما رأى بصره، ولم يشكَّ بذلك. ويحتمل أن المراد بذلك ما رأى -صلى الله عليه وسلم- ليلة أُسري به من آيات الله العظيمة، وأنه تيقنه حقًّا بقلبه ورؤيته".
- وقوله -تعالى-: (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى): أي: أفتجادلونه.
- وقوله -تعالى-: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى): أي: هذه هي المرة الثانية التي رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها جبريل على صورته التي خلقه الله عليها، وكانت في ليلة الإسراء.
وعند مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال في قوله -تعالى-: (وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى): رأى جبريل -عليه السلام-.
وروى أحمد بسند جوَّده ابن كثير عن ابن مسعود مرفوعًا: "رأيت جبريل على سدرة المنتهى وله ستمائة جناح"، وروى أحمد أيضًا مرفوعًا: "رأيت جبريل وله ستمائة جناح ينثر منه ريش التهاويل من الدر والياقوت"، قال ابن كثير: "وهذا إسناد جيد قوي".
وعن ابن مسعود موقوفًا بسند حسنه ابن كثير قال: "رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جبريل في صورته وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق، يسقط من جناحه من التهاويل من الدر والياقوت ما الله به أعلم.
وقال مجاهد: رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جبريل في صورته مرتين.
وكذا قال قتادة والربيع بن أنس وغيرهم.
وقد جاء التأكيد على هذا الأمر باستخدام (لام التأكيد)، و(قد)؛ أما المرة الأولى التي رأى فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- جبريل -عليه السلام- على صورته التي خلقه الله -تعالى- عليها فمذكورة في سورة التكوير: (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) (التكوير: 23).
قال ابن كثير: "يعني: ولقد رأى محمد جبريل الذي يأتيه بالرسالة عن الله -عز وجل- على الصورة التي خلقه الله عليها، وله ستمائة جناح، (بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) أي: البين. وهي الرؤية الأولى التي كانت بالبطحاء، وهي المذكورة في قوله: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى . ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى . وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى . ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى . فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى . فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) (تفسير ابن كثير).
- وقوله -تعالى-: (عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى): وهي في السماء السابعة، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها. قال الشيخ ناصر السعدي: "وهي شجرة عظيمة جدًّا فوق السماء السابعة، سميت سدرة المنتهى؛ لأنه ينتهي إليها ما يعرج من الأرض، وينزل إليها ما ينزل من الله من الوحي وغيره، أو لانتهاء علم الخلق إليها؛ أي: لكونها فوق السماوات والأرض، فهي المنتهى في علوها أو لغير ذلك، والله أعلم. فرأى النبي -صلى الله عليه وسلم- جبريل في ذلك المكان".
- والسِّدْر -بسين مكسورة مشددة والدال ساكنة-: هو شجر النبق. واحدته: سدرة (المعجم الوجيز). وفي حديث المعراج في الصحيح مرفوعًا: (‌ثُمَّ ‌رُفِعَتْ ‌إِلَيَّ ‌سِدْرَةُ ‌الْمُنْتَهَى، ‌فَإِذَا ‌نَبْقُهَا ‌مِثْلُ ‌قِلَالِ ‌هَجَرَ، وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ) (متفق عليه). والقلال: جمع قلة، وهَجَر: بفتح الهاء والجيم قرية قريبة من المدينة.
- وقوله -تعالى-: (عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى): أي: عند تلك الشجرة. (جَنَّةُ الْمَأْوَى) أي: الجنة الجامعة لكل نعيم، بحيث كانت محلًّا تنتهي إليه الأماني وترغب فيه الإرادات، وتأوي إليها الرغبات. وهذا دليل على أن الجنة في أعلى الأماكن، وفوق السماوات السبع.
وقد قال -تعالى-: (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة: 19).
- وقوله (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى): أي: يغشاها من أمر الله -تعالى- شيء عظيم لا يعلم وصفه من الملائكة والنور والألوان. روى مسلم وأحمد عن عبد الله بن مسعود موقوفًا: "لما أسري برسول الله -صلى الله عليه وسلم- انتهى إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السابعة، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط منها فيقبض فيها (إِذْ يُغْشِى السِّدْرَةَ مَا يُغْشِى)، قال: فراش من ذهب، قال: وأعطي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثًا: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك بالله شيئًا من أمته المقحمات -أي: الكبائر-".
ومع بلوغ سدرة المنتهى أصبح النبي -صلى الله عليه وسلم- مهيأً لتلقي كلام الرب -عز وجل- مباشرة.
- وقوله (مَا زَاغَ الْبَصَرُ): قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "ما ذهب يمينًا ولا شمالًا". (وَمَا طَغَى) أي: ما تجاوز البصر ما أمر به. وهذه صفة عظيمة في الثبات والطاعة. "وهذا من كمال الأدب منه -صلوات الله وسلامه عليه- أن أقام مقامًا أقامه الله فيه، ولم يقصر عنه ولا تجاوزه ولا حاد عنه. "وهذا أكمل ما يكون من الأدب العظيم الذي فاق فيه الأولين والآخرين؛ فإن الإخلال بأن يكون أحد هذه الأمور: إما أن لا يقوم العبد بما أمر به، أو يقوم به على وجه التفريط، أو على وجه الإفراط، أو على وجه الحيدة يمينًا وشمالًا، وهذه الأمور كلها منتفية عنه" (تفسير السعدي).
وفي ذلك قال الشاعر:
رأَى ‌جَنَّةَ ‌المَأوَى ‌وَمَا ‌فَوْقَها وَلَو رَأى غــَـيـرُهُ مـا قَـد رَآه لـتَـاهَـا
- وقوله -تعالى-: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى): من الأمور التي رآها في ليلة الإسراء والمعراج على الأرض وفي السماوات، وهذا كقوله -تعالى-: (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) أي: الدالة على قدرتنا وعظمتنا. قال ابن كثير: "وبهاتين الآيتين استدل من ذهب من أهل السنة أن الرؤية تلك الليلة لم تقع -يعني رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ببصره-؛ لأنه قال: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى)، ولو كان رأى ربه لأخبر بذلك ولقال ذلك للناس".
وقد أوردت الأحاديث الصحيحة في الصحيحين وغيرهما بعض تفاصيل ما رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- في السماوات وما فوقها في تلك الليلة.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "أُسْرِيَ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- بجسده على الصحيح من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، راكبًا على البراق صحبة جبريل -عليهما الصلاة والسلام-، فنزل هناك وصلى بالأنبياء إمامًا، وربط البراق بحلقة باب المسجد. ثم عُرج به تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء الدنيا، فاستفتح له جبريل ففتح له، فرأى هنالك آدم أبا البشر، فسلم عليه فرحب به، ورد عليه السلام، وأقر بنبوته، وأراه الله أرواح الشهداء عن يمينه وأرواح الأشقياء عن يساره. ثم عُرج به إلى السماء الثانية فاستفتح له، فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى ابن مريم، فلقيهما وسلم عليهما، فردا عليه ورحبا به، وأقرا بنبوته. ثم عُرج به على السماء الثالثة، فرأى فيها يوسف فسلم عليه، ورحب به وأقر بنبوته. ثم عُرج به إلى السماء الرابعة فرأى فيها إدريس، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته. ثم عُرج به إلى السماء الخامسة، فرأى فيها هارون بن عمران، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته. ثم عُرج به إلى السماء السادسة، فلقى فيها موسى بن عمران، فسلم عليه ورحب وأقر بنبوته. فلما جاوز بكى موسى، فقيل له ما يبكيك؟ فقال: أبكي لأن غلامًا بُعث من بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي. ثم عُرج به إلى السماء السابعة، فلقى فيها إبراهيم عليه السلام، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته. ثم رفع إلى سدرة المنتهى، ثم رفع إليه البيت المعمور. ثم عُرج به إلى الجبار جل جلاله فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى، وفرض عليه خمسين صلاة، فرجع حتى مر على موسى، فقال له: بم أمرك؟ قال: بخمسين صلاة. قال: إن أمتك لا تطيق ذلك، ارجع إلى ربك فسأله التخفيف لأمتك، فالتفت إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك، فأشار: أن نعم إن شئت، فعلا به جبريل حتى أتى به الجبار -تبارك وتعالى-، فوضع عنه عشرا، ثم أنزل حتى مر بموسى فأخبره، فقال: ارجع إلى ربك فسأله التخفيف، فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله -عز وجل-، حتى جعلها خمسًا، فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف، فقال: قد استحييت من ربي، ولكن أرضى وأسلم، فلما بعد نادى منادٍ: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي" (زاد المعاد).
ويدل ذلك على منزلة الصلاة؛ إذ هي العبادة الوحيدة التي تم التكليف بها من الله -تعالى- مباشرة بلا واسطة. وكذلك الدلالة على جواز نسخ الحكم الشرعي قبل التمكن من الفعل، إذ نسخ الفرض من خمسين صلاة إلى خمس صلوات قبل فعل الخمسين صلاة.
وفي مراجعة موسى عليه السلام للنبي -صلى الله عليه وسلم- في شأن الخمسين صلاة دلالة على أن التجربة أقوى في تحصيل المطلوب؛ إذ استفاد موسى -عليه السلام- من تجربته مع قومه في التعرف على أحوال الناس وأنهم لن يتحملوا إلا ما هو أقل من ذلك بكثير. وفيه التنبيه بالأعلى على الأدنى. والله أعلم.
ومن الفوائد أيضًا:
- فضل السفر ليلًا.
- إن للسماوات أبوابًا حقيقية، عليها حفظة موكلين بها.
- بيان آداب الاستئذان عند القدوم وقبل الدخول.
- استحباب تلقي أهل الفضل بالبشر والترحاب والثناء والدعاء.
- جواز المدح للشخص عند أمن الافتتان.
- جواز النصح وإن لم يستشر الناصح.
قال صفي المباركفوري في "الرحيق المختوم": "وقد وقع شق صدره -صلى الله عليه وسلم- هذه المرة أيضًا. وقد رأى ضمن هذه الرحلة أمورًا عديدة: عرض عليه اللبن والخمر فاختار اللبن، فقيل: هديت الفطرة أو أصبت الفطرة. ورأى أربعة أنهار في الجنة نهران ظاهران ونهران باطنان. أما الباطنان فنهران في الجنة، والظاهران هما النيل والفرات".
قال المحدث الأستاذ محمد شاكر (نقلًا من "الإسراء والمعراج" للشعراوي - ط. دار الشروق، هامش 19): "مما لا يرتاب فيه عاقل أن هذا مجاز يراد به ما في هذين النهرين من العذوبة والحسن والبركة. وقرينة المجاز هنا قرينة عقلية بديهية: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلم بالمشاهدة علم اليقين، ويعلم سامعوه ذلك، أن الفرات في الجهة الشرقية من الحجاز وأن النيل في الجهة الغربية منه، وبينه وبينهما مفاوز شاسعة، فلا يمكن أن يراد جمع أصليهما من مكان واحد في الأرض، أما في السماء مما وراء المادة فذلك غيب نؤمن به، ولا نتأول ولا ننكر، هذا شيء بديهي. فدع عنك تكذيب المكذبين واعتراض المعترضين من أهل هذا العصر، الذين رباهم أستاذوهم من الإفرنج المبشرين وغيرهم من الملحدين المنكرين على الجرأة على السنة النبوية، بل على أصل الدين" (راجع صحيح ابن حبان بتحقيق الأستاذ أحمد محمد شاكر، ص 196).
ورأى مالك خازن النار، وهو لا يضحك وليس على وجهه بشر ولا بشاشة، وكذلك رأى الجنة والنار. ورأى أكلة أموال اليتامى ظلمًا لهم مشافر كمشافر الإبل يقذفون في أفواههم قطعًا من نار كالأفهار -الفهر: حجر ناعم صلب-، فتخرج من أدبارهم. ورأى أكلة الربا لهم بطون كبيرة لا يقدرون لأجلها أن يتحولوا عن مكانهم، ويمر بهم آل فرعون حين يعرضون على النار فيطؤونهم. ورأى الزناة بين أيديهم لحم سمين طيب إلى جنبه لحم غث منتن، يأكلون من الغث المنتن ويتركون الطيب السمين. ورأى النساء اللاتي يدخلن على الرجال من ليس من أولادهن رآهن معلقات بثديهن" (راجع في ذلك الرحيق المختوم). ورأى قومًا لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم، وهم الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم.
ورؤية أصحاب هذه الكبائر وجزاؤهم الأخروي عليها كان كما هو معلوم قبل نزول تحريم هذه الكبائر، الذي تم بعد ذلك في المدينة، وهذا من باب التنفير منها ببيان جزائها الأخروي قبل نزول أحكامها التكليفية بالتحريم. والله -تعالى- أعلم.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 91.37 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 89.29 كيلو بايت... تم توفير 2.08 كيلو بايت...بمعدل (2.28%)]