شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري - الصفحة 4 - ملتقى الشفاء الإسلامي
 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4421 - عددالزوار : 858753 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 3953 - عددالزوار : 393152 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 12535 - عددالزوار : 215583 )           »          مشكلات أخي المصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 59 )           »          المكملات الغذائية وإبر العضلات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 50 )           »          أنا متعلق بشخص خارج إرادتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 48 )           »          مشكلة كثرة الخوف من الموت والتفكير به (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 50 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 49 )           »          اضطراباتي النفسية دمرتني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 52 )           »          زوجي مصاب بالفصام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 47 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث

ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #31  
قديم 27-03-2024, 05:01 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

(31) حادثة الإفــك( 1 )

اعداد: الفرقان



الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
باب في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ} (النور: 11).
2153. عَنْ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَعَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ [ حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِمَّا قَالُوا: وَكُلُّهُمْ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ حَدِيثِهَا وَبَعْضُهُمْ كَانَ أَوْعَى لِحَدِيثِهَا مِنْ بَعْضٍ وَأَثْبَتَ اقْتِصَاصًا، وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْحَدِيثَ الَّذِي حَدَّثَنِي وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا، ذَكَرُوا: أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ [ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ [ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ سَفرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ [ مَعَهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا فَخَرَجَ فِيهَا سَهْمِي، فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ [ وَذَلِكَ بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ، فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي وَأُنْزَلُ فِيهِ مَسِيرَنَا، حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ [ مِنْ غَزْوِهِ وَقَفَلَ، وَدَنَوْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ، آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ مِنْ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَى الرَّحْلِ فَلَمَسْتُ صَدْرِي فَإِذَا عِقْدِي مِنْ جَزْعِ ظَفَارِ قَدْ انْقَطَعَ، فَرَجَعْتُ فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ، وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يَرْحَلُونَ لِي فَحَمَلُوا هَوْدَجِي فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِيَ الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ، وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنِّي فِيهِ. قَالَتْ: وَكَانَتْ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا لَمْ يُهَبَّلْنَ وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ، إِنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِنْ الطَّعَامِ، فَلَمْ يَسْتَنْكِرْ الْقَوْمُ ثِقَلَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَحَلُوهُ وَرَفَعُوهُ، وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ، فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا وَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ، فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ، فَتَيَمَّمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، وَظَنَنْتُ أَنَّ الْقَوْمَ سَيَفْقِدُونِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ قَدْ عَرَّسَ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ، فَادَّلَجَ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي....».
الشرح: هذا الحديث هو في تفسير « سورة النور» وقد أورد فيها حديث الإفك المشهور، وهو تفسير لقوله تبارك وتعالى فيها: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (النور: 11) إلى تمام عشر آيات من سورة النور، والتي أنزل الله سبحانه وتعالى فيها براءة عائشة الصديقة أم المؤمنين، زوج النبي [ في آيات تتلى إلى يوم القيامة.
وقد روى هذا الحديث عن الزهري وهو محمد بن شهاب ابن مسلم الزهري المدني رحمه الله، من أفاضل التابعين، ومن أوائل من دوّن حديث النبي [، وجمعه بأمر من أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد.
قال: «أخبرنا سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعلقمة ابن وقاص، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عائشة رضي الله عنها»، فهؤلاء كلهم سمع من الزهري حديث عائشة رضي الله عنها، ويقول: كلهم حدثني طائفة من حديثها، وكان بعضهم أوعى لحديثها من بعض، وأثبت اقتصاصا « يعني هؤلاء الرواة بعضهم أوعى وأثبت وأحسن إيراداً وسردا للحديث من بعضهم، وقد وعيتُ حديث كل واحد منهم الذي حدثني، وبعض حديثهم يصدّق بعضه. وهذا الذي فعله الزهري من جمعه الحديث عنهم وسياقه سياقا واحداً جائزٌ لا شيء فيه؛ لأن الحديث يبيّن بعضُه بعضا، وهؤلاء الأربعة الذين ذكرهم الزهري كلهم أئمة وحفاظ وثقات، ومن أجل التابعين منزلة، فجمع حديثهم وحدث به، وسرده مسرداً واحدا.
قالوا: « ذكروا أن عائشة زوج النبي [ قالت: كان رسول الله [ إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين نسائه، فأيّتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله [ معه « وهذا دليلٌ لمشروعية العمل بالقرعة بين الزوجات، إذا أراد الزوج السفر بواحدة منهن لمصلحته هو، فيقرع بينهن إذا كان لا يستطيع أن يأخذهن جميعا، والعمل بالقرعة جائز شرعا، في القسم بين الزوجات وفي العتق والوصايا والقسمة، وقد جاءت فيه أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما، كحديث الرجل الذي مات وله ستة أعبد - أي ستة عبيد - فأعتقهم عند موته، فأقرع بينهم النبي [ فأعتق اثنين وأرق أربعا. وقد أعتق اثنين وأرقّ الباقي؛ لأن الميت له الثلث فقط بعد موته، وهذا داخل في الوصية وداخل في العتق.
وهو قول الأئمة الثلاثة والجمهور من أهل العلم.
قال ابن المنذر: استعمالها كالإجماع، ولا معنى لقول من ردها.
وكان أبو حنيفة لا يرى القرعة من الأمر المشروع أو العمل الشرعي، وينقل عنه إجازته القرعة.
وقال أبو عبيدة: عمل بها - يعني بالقرعة - ثلاثة من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: يونس وزكريا ومحمد صلى الله عليه وسلم ، يونس عليه السلام كما جاء في كتاب الله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ} (الصافات: 141)، فاقترع أهل السفينة لما هاج البحر أن يلقوا رجلا من أهل السفينة، فوقعت القرعة على يونس عليه الصلاة والسلام، فأعادوا القرعة فوقعت على يونس ثلاثا، فعند ذلك ألقى بنفسه في البحر. وأما زكريا عليه السلام فلما تنازع بنو إسرائيل أيهم يكفل مريم عليها السلام، اقترعوا كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (آل عمران: 44)، فألقى بنو إسرائيل أقلامهم في الماء،وكان كلٌ قد كتب اسمه على القلم الذي كان يكتب به التوراة، فألقوها في الماء، وقالوا: الذي يقف قلمه ولا يجري مع الماء هو الذي يكفل مريم، فيأخذها في كفالته ويربيها في حجره، فوقف قلم زكريا عليه الصلاة والسلام، فعند ذلك كفلها، كما قال عز وجل: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً} (آل عمران: 37) الآية .
وأما محمد [ فالأحاديث عنه كما سبق في العمل بالقرعة كثيرة، ومنها هذا الحديث: أنه [ كان إذا أراد السفر أقرع بين نسائه.
وعن مالك في رواية عنه: أن له أن يسافر بمن شاء منهن بلا قرعة، إذا كانت أنفع له في طريقه والأخرى أنفع له في بيته وماله. والصحيح أن العمل بالقرعة هو الوارد في السنة، إلا أن يكون هناك ضرورة بحيث أنه يقدّم ويؤخر للضرورة ، ورجحان العمل بالقرعة هو لورود السنة الصحيحة بها، ومتى صحّت السنة النبوية، فلا حاجة بنا إلى القياس ولا إلى الاجتهاد كما هو معلوم.
قالت عائشة: « فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول الله [، وذلك بعدما أنزل الحجاب، فأنا أحمل في هودجي « تقول عائشة: إن النبي [ غزا غزوة وأقرع بين نسائه فخرج سهمها، أي خرج اسمها، فخرجت مع الرسول [ وسافرت معه، وكان ذلك بعدما أُنزل الحجاب، أي: بعد نزول فريضة الحجاب على النساء، أي بعد نزول آية الأمر بالحجاب، وهي قول الله سبحانه وتعالى {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} (الأحزاب: 59).
قولها: « فأنا أحمل في هودجي» والهودج هو ما يوضع على البعير لتركب فيه المرأة، له أعواد ويغطى بالقماش، وتجلس المرأة فيه، ليكون أستر لها عن نظر الرجال.
قولها: «وأنزل فيه مسيرنا» أي إذا نزلوا في أثناء الطريق، كانت عائشة رضي الله عنها وأرضاها تبقى فيه ولا تخرج.
قولها: «حتى إذا فرغ رسول الله [ من غزوه وقفل « قفل أي رجع» ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل « آذن ويصح أن يقال: أذن، هو الإعلان، والأذان هو الإعلان، أي: إن النبي [ لما نزل هذا المنزل في أثناء الطريق، أبلغ الصحابة أنه سيرحل، وذلك ليستعد الناس للرحيل والرجوع.
والجيش كما تعلمون عدد كثير، فإذا نزلوا بمحل ونام الناس فيه أو أكلوا، أو استراحوا وقضوا حاجاتهم، أو صلوا، فيحتاجون بعد ذلك أن يؤذن فيهم مؤذن، يعلمهم أنهم سيرحلون بعد قليل.
قولها: « فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرحل، فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع» تقول: لما آذنوا بالرحيل، وعلم الناس أنهم سيرحلون قريبا، جاوزت الجيش قليلا، أي تنحيت عنهم حتى قضيت حاجتي، ولما رجعت إلى الهودج – أي إلى الرحل- لمست صدري وإذا العقد، يعني القلادة التي كانت تلبسها، وهي من جزع ظفار، والجزع بفتح الجيم، هو عقد من الخرز، وظفار بلد معروف بين اليمن وعُمان، تجلب منه قلائد تلبسها النساء، قيل: هو سواد وبياض، أي هذا الخرز سواد وبياض تلبسه النساء.
فهي رضي الله عنها لما وصلت إلى الرحل، افتقدت العقد الذي كانت تلبسه، فرجعت تلتمس العقد أو القلادة، رجعت إلى المكان الذي قضت فيه حاجتها لتبحث عنه.
قولها: « فحبسني ابتغاؤه» أي: مكثت أبحث عنه، وهذا أخذ مني وقتا.
قولها: «وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي، فحملوا هودجي فرحّلوه على بعيري» فهي لما كانت تبحث عن العقد جاء الرهط أثناء ذلك - والرهط هم الجماعة دون العشرة - جاءوا إلى الهودج وحملوه من الأرض ووضعوه على البعير الذي كانت تركبه، وهم لا يشعرون أنه خال، تقول: وهم يحسبون أني فيه، أي هم يظنون أني في الهودج.
قالت: « وكانت النساء إذ ذاك خفاف لم يهبلن « يُهَبلن فيها أكثر من ثلاث لغات، يقال: يُهَبلن أو يَهبَلن بفتح الياء أو ضمها، يعني لم يثقلن باللحم والشحم، والمقصود أن النساء إذ ذاك خفاف؛ لقلة الزاد والحاجة، فيصيبهن الجوع كثيرا، كما جاء في الصحيح: أن النبي [ كان يمر عليه الشهر والشهران، ولا يوقد في بيته نارٌ [. وكانوا يعيشون على التمر والماء، فهذه عامة عيشتهم، وصبروا على هذا العيش الغليظ الشديد، وكانوا يرددون: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة.
وفي رواية البخاري: «لم يثقلن» وكانت النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلن.
قولها: «ولم يغشهن اللحم إنما يأكلن العلقة» أي الشيء القليل أو البلغة، أي كانت المرأة تأكل الشيء القليل من الطعام؛ ولذا لم يستنكر القوم خفة الهودج حين رحلوه ورفعوه.
قولها: «وكنت جارية حديثة السن» وأيضا هي كانت صغيره السن، والجارية هي البنت الصغيرة، ولا يتطرق إليها ثقل البدن لأنها كانت حديثة السن.
قولها: «فبعثوا الجمل وساروا ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فتيممت منزلي» أي: لما رحلوا البعير وبعثوه، أي قام، والبعث هو القيام، وساروا بجملها، كانت قد وجدت عقدها بعدما استمر الجيش، أي بعدما مشى الجيش وفارق المكان الذي كانت فيه، فلما جاءت عائشة رضي الله عنها إلى مكان الجيش ومنازلهم، وإذا هي ليس بها داع ولا مجيب، الداعي: هو المنادي، أي ليس بها مَن ينادي، وليس بها من يجيب فيقول: نعم، أي ليس فيها من يقول: يا فلان، فيقول له المجيب: لبيك يا فلان، فلا داعي ولا مجيب.
قالت: «فتيممت منزلي» تعني قصدته، أي رجعت إلى المكان الذي كنت أجلس فيه. «وظننت أن القوم سيفقدونني فيرجعون إلي» ظنت أن القوم في أثناء الطريق سيفقدونني وسيشعرون أن الهودج خال ليس فيه أحد، فيرجعون إلي ويبحثون عني.
قولها: «فبينا أنا جالسة في منزلي فغلبتني عيني فنمت» أي بينما هي جالسة تنتظر أن يرجع إليها الجيش نامت رضي الله عنها.
قولها: «وكان صفوان بن المعطل السلمي» صفوان بن المعطل: بفتح الطاء بلا خلاف، كذا ضبطه أبو هلال العسكري. والذكواني منسوب إلى ذكوان بن ثعلبة، وهو صحابي فاضل، شهد الخندق والمشاهد .
قولها: « قد عرّس من وراء الجيش، فادلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان» أي إن صفوان بن المعطل كان ممن وضعه النبي [ بمؤخرة الجيش، فيأتي آخر الجيش ليتفقد منازلهم، لعله يجد سلاحاً قد وقع من بعضهم، أو يجد متاعا لهم سقط من أحدهم، وأدلج بمعنى سار آخر الليل، فأصبح عند منزلي، أي لما جاء الصباح فإذا هو عندي. « فرأى سواد إنسان « أي رأى شخصا نائما «فعرفني حين رآني وقد كان يراني قبل أن يضرب الحجاب» أي قبل نزول فرض الحجاب عليهن . وللحديث بقية.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #32  
قديم 28-03-2024, 07:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(32)

حادثة الإفك (2)

اعداد: الفرقان


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله،صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
تكلمنا في الحلقة الماضية عن حادثة الإفك وهي في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ} (النور: 11) وأن هذه الآية وما بعدها من الآيات نزلت في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم، حين قال فيها أهل الإفك والنفاق ما قالوا، فبرأها الله سبحانه وتعالى مما قالوا.
وذكرنا أنها كانت قد خرجت مع النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة المريسيع وأنها في رجوعهم للمدينة خرجت لتقضي حاجتها، ثم انقطع عقد لها فرجعت إلى البحث عنه، فجاء من وكل بهودجها فحملوه وهم يظنون أنها فيه، فلما جاءت لم تجد أحدا فبقيت تنتظر في مكانها، حتى جاءها الصحابي صفوان بن معطل السلمي.
ونواصل إن شاء الله تعالى الكلام على شرح الحديث:
قولها: «وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ قَدْ عَرَّسَ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ، فَادَّلَجَ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي، فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ فَأَتَانِي فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي، وَقَدْ كَانَ يَرَانِي قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ الْحِجَابُ عَلَيَّ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي، فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي، وَوَاللَّهِ مَا يُكَلِّمُنِي كَلِمَةً، وَلَا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ، حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطِئَ عَلَى يَدِهَا فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِيَ الرَّاحِلَةَ، حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَ مَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ فِي شَأْنِي، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَاشْتَكَيْتُ حِينَ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ شَهْرًا، وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ، وَلَا أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ يَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لَا أَعْرِفُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ [ اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي، إِنَّمَا يَدْخُلُ رَسُولُ اللَّهِ [ فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ: كَيْفَ تِيكُمْ؟ فَذَاكَ يَرِيبُنِي وَلَا أَشْعُرُ بِالشَّرِّ، حَتَّى خَرَجْتُ بَعْدَ مَا نَقَهْتُ وَخَرَجَتْ مَعِي أُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ، وَهُوَ مُتَبَرَّزُنَا وَلَا نَخْرُجُ إِلَّا لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا، وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الْأُوَلِ فِي التَّنَزُّهِ وَكُنَّا نَتَأَذَّى بِالْكُنُفِ أَنْ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوتِنَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ وَهِيَ بِنْتُ أَبِي رُهْمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَأُمُّهَا ابْنَةُ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ خَالَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَابْنُهَا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَبِنْتُ أَبِي رُهْمٍ قِبَلَ بَيْتِي حِينَ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا، فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا، فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ، فَقُلْتُ لَهَا: بِئْسَ مَا قُلْتِ؟! أَتَسُبِّينَ رَجُلًا قَدْ شَهِدَ بَدْرًا؟ قَالَتْ: أَيْ هَنّتَاهْ، أَوْ لَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ؟ قُلْتُ: وَمَاذَا قَالَ؟ قَالَتْ: فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ؛ فَازْدَدْتُ مَرَضًا إِلَى مَرَضِي.
- الشرح: قولها « فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان» أي: رأى شخص إنسان نائم. «فأتاني فعرفني حين رأني وكان يراني قبل أن يُضرب الحجاب علي، فاستيقظت باسترجاعه» تقول: إن صفوان بن المعطل لما جاء رأى سواد إنسان نائم، فلما اقترب رآني فعرفني، وكان يراني قبل أن يفرض الحجاب. وفي هذا دليل على أن الحجاب كان أولا أن تغطي المرأة جميع بدنها إلا وجهها، ثم بعد ذلك نزل الحجاب الذي فيه الأمر بتغطية الوجه، وهذا في قوله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} (الأحزاب: 59).
فالله سبحانه وتعالى أمر نبيه أن يأمر أزواجه وبناته بالحجاب، ثم بعد ذلك يأمر نساء المؤمنين به، وهذا فيه تنبيهٌ على أن الإنسان إذا أراد أن يأمر بمعروف بدأ بنفسه أولا ثم بأهل بيته، فيصلح من شأنه أولا، ثم من شأن أهل بيته، قبل أن يدعو البعيد، وقبل أن يدعو بقية الناس.
فهذا من أولويات الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف وفي النهي عن المنكر، وأخذ العلماء من هذا أيضا: البدء بالأهداف القريبة قبل الأهداف البعيدة، والبدء بالشيء اليسير قبل الشيء العسير، فهذا الفقه في الدعوة تقرره هذه الآية الكريمة.
والأمر الثاني: أنك لو بدأت بالبعيد والأجنبي عنك، وتركت أهل بيتك، لقال الناس: مُر أهلك أولاً قبل أن تأمرنا! وانظر إلى ابنك فلان وإلى زوجتك فلانة وإلى كذا... وهم بعيدون عما تقول! فهذا مما يعاب به الداعية والخطيب، وفيه صد عن سبيل الله؛ ولذا قال شعيب عليه السلام: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله } فلا بد أن يبدأ الإنسان بنفسه أولا فينهاها عن الشر، ثم ينهى أهل بيته، ويأمرهم بالمعروف، ثم يتوجه للخلق بالنصح.
والحديث يدل أيضا: على أن الحجاب فرض على جميع نساء الأمة، على أمهات المؤمنين وعلى من دونهن من نساء المؤمنين، فليس هو خاصا بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، لأن هناك من قال بخصوصية الحجاب! وأن هذه الآية خاصة بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا الآية التي يقول الله عز وجل فيها: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ} (الأحزاب: 53).
فهذه الآية وإن كانت تتحدث عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، لكن قد قال الله عز وجل في التعليل فيها: {ذلكم أطهرُ لقلوبكم وقلوبهن} أي: لقلوب أمهات المؤمنين وقلوب الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ونحن أحوج إلى الطهر والبعد عن الفتنة بالنساء، ومعلوم أن وجه المرأة هو مجمع الفتنة، وهو أصل الحسن والجمال، وبه تغنى الشعراء، والإنسان إذا أراد أن يخطب امرأة نظر إلى وجهها أولا، فمن الحكمة العظيمة التي جاء بها الشرع أن تحتجب المرأة عن الرجال الأجانب، وتستر وجهها، فهذا الحديث دليل على وجوب تغطية المرأة البالغة لوجهها؛ لأنها قالت «وكان يراني قبل أن يضرب الحجاب».
وكذا قولها: « فخمرت وجهي» أي: غطيته، وهو دليل واضح أيضا على أن المرأة تغطي وجهها، كما قال الله عز وجل: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}، فالخمار غطاء يخمّر به الرأس، يضرب من الرأس على الوجه، ويغطى به الجيب الذي هو فتحة الثوب التي يدخل منها الرأس، هذا هو الخمار الشرعي.
قولها: «فاستيقظت باسترجاعه» تعني: انتبهت من نومي لما قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. «ووالله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه» تقول عائشة: والله ما كلمني كلمة واحدة، وهذا من حيائه وتوقيره واحترامه لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
قولها: « حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها فركبتها» أناخ بعيره أي جعله يجلس كي تستطيع أن تركب عليه. قالت: «فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش، بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة» أي: بعد أن ركبت الراحلة، انطلق يقودها بزمامها حتى أتينا الجيش، تعني حتى لحقوا بالجيش الذي كان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة، موغرين: أي في وقت الوغرة وهي شدة الحر، وفي نحر الظهيرة أي حين بلغت الشمس غايتها من الارتفاع، حتى كأنها وصلت إلى النحر الذي هو أعلى الصدر، وهذا وقت القائلة التي هي وقت شدة الحر.
قولها: « فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولى كبره عبد الله ابن أبي ابن سلول» أي لما جئت إلى الجيش وصفوان بن المعطل هو الذي يقود الراحلة، انتهز من كان في قلبه مرض الفرصة، وهم الحاقدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الإسلام والمسلمين، انتهزوا الفرصة للطعن في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهلك من هلك في شأني، أي افترى علي فهلك من كذب علي من المنافقين، وكان الذي تولى كبره، أي كان الذي يتولى بشاعة هذا الأمر وتعظيمه وبثّه في كل مجلس وناد وفي كل مكان، عبد الله بن أبي ابن سلول، وأبي اسم أبيه، أما سلول فهو اسم أمه، وكان يعرف بها، وعبد الله بن أبي إنما كان سبب نفاقه حب الدنيا، وحب الرياسة والمنصب؛ إذ لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان عبد الله بن أبي يوشك أن يكون ملكا على المدينة أو أميرا عليها، وقال من قال: كان أهل المدينة ينظمون له الخرز في التاج الذين يريدون أن يتوجوه به، فلما جاء النبي عليه الصلاة والسلام بطلت عنه تلك الرياسة، وانفض عنه ذلك الملك الذي كان يحلم به، وصارت الأمور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الواجب عليه أن يسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأن منصب النبوة والرسالة والوحي لا يعدله شيء من ملك الدنيا كلها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقارن بغيره من الناس، فلا يقارن بالملوك ولا بالرؤساء ولا بالأمراء؛ لأنه مرسل من عند الله، وقال سبحانه: {ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول}، وقال عز وجل: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله}، وهو يوحى إليه بالأوامر والنواهي والتشريعات في سائر شؤون الناس، مأمور بأمر الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم}، فكان الواجب عليه التسليم، ولكنه كما قيل: شرق بذلك! وأضمر حقدا وحسدا عظيما؛ ولهذا كان يحوك الدسائس، ويقود المؤامرات ضد النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه سراً وفي الظلام، وتارة جهرا وعلانية، لا يستحيي من ذلك ولا يخاف الله رب العالمين! حتى هلك وهو على ذلك، ونزل فيه ما نزل من الآيات، وهو قوله جل في علاه: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ} (التوبة: 84)، ولما أراد النبي [ أن يصلي عليه نهاه عمر، وقال له: أتصلي عليه يا رسول الله وهو القائل يوم كذا،كذا وكذا؟! فنزل بعد ذلك القرآن موافقاً لعمر ].
وهذه الآية فيها تصريح بنفاقه وبكفره - والعياذ بالله تعالى - ونهت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عليه وعلى أمثاله.
تقول عائشة: « فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمنا المدينة شهراً » أي: لما رجعوا للمدينة اشتكت عائشة أي مرضت وظلت في مرضها شهراً، والناس يفيضون في قول أهل الإفك، ويخوضون في عرضها ويتكلمون، والإفك أي الكذب الذي افتراه أهل النفاق وأهل الحقد والشقاق على رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجه.
تقول: « وما أشعر بشيء من ذلك» والسبب أنها كانت في بيتها مريضة لا تخرج ولا تخالط الناس، وربما أيضا حاول أهلها أن يخفوا ذلك عنها لمرضها ، كما سيأتي، وفي حال لا يسمح لها بسماع مثل هذا الخبر السيئ. فتقول: لكن شعرت بشيء، وهذا الشيء خفي يلمح، وذلك أن الزوجة تعرف زوجها بحكم العلاقة الوطيدة بينها وبين زوجها، والمحبة العظيمة التي بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إنه سئل من أحب الناس إليك؟ فقال: عائشة.
هذه منزلة عائشة أم المومنين رضي الله عنها عند النبي صلى الله عليه وسلم، وما ذاك إلا لطيبها وفضلها وإيمانها ودينها، وحبها لعلم الكتاب والسنة؛ ولذلك أحبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عليه الصلاة والسلام لا يحب عبثا ولا مجرد هوى وشهوة، ولا يصرف الحب لغير أهله، بل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يضع الشيء في موضعه بأمر الله سبحانه.
تقول: « وهو يريبني» بفتح الياء أو يريبني بالضم، يجوز الوجهان، تقول: لكن الذي أرابني، أي جعلها مرتابة وفي شيء من الحيرة والشك « في وجعي» أي في مرضي « أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أعرف منه حين أشتكي» أي كانت إذا مرضت، تشعر بلطف رسول الله صلى الله عليه وسلم وعطفه وحنانه، أما ما رأته في تلك الحال فهو بخلاف ذلك، إذ كان يتكلم معها قليلا، ولا يظهر منه من العطف ولا الحنان الذي كانت تشعر به سابقا، قالت: « إنما يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ » أي: كيف حالكم، وتيكم هي إشارة إلى المؤنث.
قولها: « فذاك يريبني ولا أشعر بالشر « الشر الذي كان يشيعه أهل الإفك» حتى خرجت بعدما نقهت « بفتح القاف وكسرها لغتان، والفتح أشهر، والناقه هو الذي خرج من المرض وبرأ منه قريبا، ولم يسترد كمال صحته.
قولها: « وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا « وهي مواضع خارج المدينة كانوا يتبرزون فيها « ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل « وهذا من حبهم للتستر « وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا « الكنف جمع كنيف وهو موضع قضاء الحاجة في البيت، تقول: « وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا « أي من أجل الرائحة.
قولها: «فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ وَهِيَ بِنْتُ أَبِي رُهْمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَأُمُّهَا ابْنَةُ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ خَالَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَابْنُهَا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ الْمُطَّلِبِ» فهم قرابة لأبي بكر الصديق رضي الله عنهم.
قولها: «فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَبِنْتُ أَبِي رُهْمٍ قِبَلَ بَيْتِي حِينَ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا، فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا» المرط كساء من صوف» فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ» بفتح العين وكسرها، ومعناها: عثر، أو هلك، وقيل: لزمه الشر، وغيره. ومسطح هو ابن أثاثة «فَقُلْتُ لَهَا: بِئْسَ مَا قُلْتِ؟! أَتَسُبِّينَ رَجُلًا قَدْ شَهِدَ بَدْرًا؟» قَالَتْ: أَيْ هَنَتَاهْ، أَوْ لَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ؟» هنتاه أي: يا هذه، « قُلْتُ: وَمَاذَا قَالَ؟ قَالَتْ: فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ؛ فَازْدَدْتُ مَرَضًا إِلَى مَرَضِي» وذلك لهول الخبر عليها وشدته عليها رضي الله عنها. يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #33  
قديم 28-03-2024, 07:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم – (33)

حادثة الإفــك ( 3 )


اعداد: الفرقان


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
مع الحلقة الثالثة في شرح « حديث الإفك» وما جرى لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعن أبيها فيها.
قولها : « فأقبلت أنا وبنت أبي رهم قبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها « المرط : هو الثوب الطويل أو الدرع الذي تلبسه المرأة، وعادة يكون من الصوف، وقد يكون من غيره، فلما عثرت قالت : تعس مسطح، وتعس دعاءٌ عليه بالتعاسة، والتعاسة هي الشر، وقيل : الهلاك، وقيل : سقط على وجهه، فلما سمعت عائشة رضي الله عنها هذا القول، قالت لها : « بئس ما قلت؟! أتسبين رجلا قد شهد بدرا ؟!».
وهذا من حسن أدبها، وأمرها بالمعروف، ونهيها عن المنكر رضي الله عنها وأرضاها، أي: كيف تقولين تعس مسطح وتسبينه؟! وهو دعاء عليه من أمه إذ تدعو عليه بالتعاسة وعدم التوفيق، والأمر الآخر : أنه رجل قد شهد بدرا، ومن شهد بدرا من الصحابة له منزلة خاصة عندهم، كما جاء في الحديث الصحيح : أن جبريل عليه الصلاة والسلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم : «ما تعدون من شهد بدرا منكم؟» قال : « ذلك من أفاضل أصحابنا» فقال: «كذلك من شهد بدرا من الملائكة»، وهذا يدل على عظم الحسنة لمن شهد بدرا، فمن شهد بدرا فقد أتى حسنة عظيمة.
وكذا ورد في حديث حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه لما أفشى شيئا من سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له عمر : يا رسول الله، دعني أضرب عنقه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « إنه قد شهد بدرا؟ وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم» فدمعت عينا عمر رضي الله عنه.
أي : من كان شهد بدراً، فإنه مهما عمل من سيئات بعدها، لم تضره، سبحان الله! فمثله كمثل من كان عنده ملايين الأموال، وخسر ألفا أو ألفين أو ثلاثة أيضره ذلك؟! لا يضره.
أما نحن فالذنوب اليسيرة تؤثر فينا؛ لأن الحسنات عندنا قليلة، كمثل الإنسان الذي يعيش على راتبه القليل، فلو حصل له أي أزمة مالية لتأثر.
قولها: « فقالت أي هنتاه» هذه كلمة تقال للأنثى، ومعناها : يا هذه أو يا امرأة، وكأنها تقول لها : أنت لا تدرين عن شيء، لا تدرين عن مكائد الناس وشرورهم، أو تقول لعائشة: أما بلغك ما حصل؟
قولها: « قلت : وماذا قال؟» لأنها لم تكن تدري ما أشاعه المنافقون عنها وروجوا له، حتى راج على بعض المؤمنين الغافلين؛ لأن مسطحا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وممن شهد بدرا، فليس هو من المنافقين، ولكن كما قلنا وقع ذلك عن غفلة وسهو منه.
وهذا فيه تنبيهٌ على أن أهل الشر قد ينصبون حبالهم فيقع فيها بعض المؤمنين، لا عن عمد، ولا كراهية لله ورسوله، ولا رغبة في المعصية، وإنما بغفلة، وهذا ما حصل في هذه الحادثة، فأهل النفاق كانوا يروجون لهذا الإفك والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أهل بيته، فوقع فيه بعض المؤمنين مثل مسطح بن أثاثه ابن خالة أبي بكر، ووقع في ذلك أيضا -كما قال أهل التفسير وأهل السير - : حسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش وجماعة من المؤمنين الذين جلدهم النبي صلى الله عليه وسلم حدّ القذف، بعد أن نزلت براءة عائشة رضي الله عنها من السماء، وقد تابوا إلى الله سبحانه وتعالى بعد ذلك وحسنت توبتهم، ومن أعظمهم توبة حسان بن ثابت ]، الذي كان بعدها ينافح عن رسول الله [، ويدافع عنه وعن عرضه وعن أهل بيته، بل عن دينه وعن كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم ينصب له منبراً في مسجده الشريف، فينشد فيه الأشعار التي فيها الدفاع عن الإسلام، وعن رسول الإسلام وعن الدين والإيمان، والشعر كما تعلمون سلاح عظيم في ذلك الزمن، وهكذا الكلمة التي تبنى على العلم والحكمة والمعرفة، لها أثر عظيم في الناس اليوم، وهي أشد من أثر السلاح والسهام، كما قال صلى الله عليه وسلم لحسان : « هَاجِهم ورُوحُ القُدُس معك، فَوالذي نفسي بيده لكأنما ما تَرميهم به رَشَق النَّبل» متفق عليه.
يعني: كانت قصائد حسان أشد على المشركين من رشق النبل، أي رشق السهام، وهذا تعظيم لدور الإعلام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فالشعر كان كوكالة الأنباء أو الصحيفة التي تنشر فيها الأخبار في الجزيرة العربية، والشاعر بقصيدة منه يستطيع أن يرفع قومه إلى السماء، ويمكن أن يهجو قوماً فيلحقهم بأراذل الخلق.
وهكذا سلاح الإعلام في هذا العصر سلاح خطير؛ ولذلك أعداء الله اليهود انتبهوا إلى ذلك، فامتلكوا وسائل الإعلام تقريبا في العالم كله، وتدخلوا حتى في الإعلام العربي والإسلامي إلا القليل منه، وهكذا أشباههم من أعداء الأمة، والمفسدون في الأرض.
قولها: « أخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا إلى مرضي» لأنها لا تزال ناقهة، خرجت للتو من المرض، تقول: « فلما رجعت إلى بيتي فدخل علي رسول صلى الله عليه وسلم فسلم ثم قال: كيف تيكم؟ « قلت : أتأذن لي أن آتي أبويّ» أي: تأذن لي أن أزور أبوي وأذهب إليهما.
قالت : «وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما» أي أنا أريد بهذه الزيارة أن أستوثق وأتيقن من الخبر الذي سمعته من أم مسطح، بشان الإفك والكذب الذي أشاعه عني المنافقون، قالت : فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أبوي فقلت لأمي: يا أمتاه، ما يتحدث الناس؟ قالت: يا بنيه هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأةٌ قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها» «وضيئة» على وزن «عظيمة»، أي جميلة، من الوضاءة، والوضاءة: الحسن والجمال، وهكذا كانت عائشة رضي الله عنها، ووقع في رواية: « لقلما كانت امرأة حظية» من الحظ وهو الوجاهة وارتفاع المنزلة، وضرائر جمع ضرّة وهي زوجة الرجل الأخرى، فزوجات الرجل ضرائر؛ لأن كل واحدة تتضرر بالأخرى، بالغيرة وبالقسم في البيات وما أشبه ذلك، ومعنى أكثرن أي أكثرن من القول في عيبها وتنقصها.
قالت: «قلت: سبحان الله»؟! وقد تحدث الناس بهذا؟» أي كانت صدمة عظيمة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، ما كانت تتصور أن الناس يمكن أن يقولوا في عرضها ما قالوا، وأن يتجرأوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته هذه الجرأة العظيمة.
تقول: «فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت، لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم» لا يرقأ أي: لا ينقطع دمعها، تقول جرح لا يرقأ، أي ينزف ولا يقف دمه، ولا أكتحل بنوم أي بسبب شدة الكرب والهم والغم طار النوم عنها، وأوجب لها السهر والبكاء .
قولها : « ثم أصبحت أبكي، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله» أي إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أبطأ عليه الوحي، ولم ينزل عليه فيها شيء، دعا بعض خاصته ومن هو قريب منه، فدعا علياً رضي الله عنه وهو صهره وابن عمه، وأسامة بن زيد رضي الله عنهما وهو حِبه، أي من أحب الناس إليه، هو وأبوه رضي الله عنهما، يستشيرهما في فراق أهله، أي : أيفارق عائشة رضي الله عنها أم لا ؟ بسبب الكلام الحاصل بين الناس فيها وما يشيعه عنها أهل النفاق بما هي بريئة منه، كما برأها الله عز وجل.
قالت : «فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يعلم من براءة أهله» هو لا يعلم عنهم إلا كل خير، فيعلم أنهم برآء مما قيل فيهم، والأصل أن الإنسان بريء، وأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، أي حتى تقوم الأدلة على أنه مدان، وأنه فعل الجريمة، وإلا فالأصل البراءة.
قولها: « فأخبر أسامة بما يعلم من براءة عائشة رضي الله عنها، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود والمحبة» أي إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكن لعائشة من الودّ والمحبة ما الله به عليم، وكان الصحابة يعرفون ذلك، حتى إنه عليه الصلاة والسلام لما سُئل : من أحب الناس إليك؟ قال : «عائشة» رواه البخاري؛ أو إن المقصود بقوله «بالذي يعلم في نفسه لهم من الود « هو أسامة، فأسامة كان يجل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ويعرف لها فضلها ومنزلته؛ لذلك قال: « يا رسول الله هم أهلك» أي مجرد أن تضاف عائشة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا يكفي في عفتها؛ ولذلك قال: هم أهلك، أي إذا كانت تضاف إلى بيت النبوة، وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم زوجة وحليلة، فما هو الظن اللائق بها رضي الله عنها وأرضاها إلا العفة والطهر والنقاء، والبعد عن مثل هذه القاذورات؟!
« ولا نعلم إلا خيراً» أي: ونحن لا نعلم عنها رضي الله عنها إلا كل خير.
وأما علي ] فقال: «لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير» علي ] لما رأى شدة كرب النبي صلى الله عليه وسلم بسبب هذا الأمر وتكدر خاطره منه، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما ضيق الله عليك في النساء، إن أحببت أن تفارقها فالنساء غيرها كثير، أراد بذلك أن يفرج عن النبي صلى الله عليه وسلم ويخفف عنه، وأن الأمر ليس بمستغلق، بل لك أن تفارقها وأن تتزوج غيرها، ولم يقصد بذلك سوءا، ولم يكن يضمر شيئا لعائشة رضي الله عنها، لكن عليا ] أراد أن يشير على النبي صلى الله عليه وسلم بشيء فيه تخفيف وتفريج لكربته.
قوله: « وإن تسأل الجارية تصدقك» أي إذا سألت الجارية التي تخدم عائشة وتلازمها صباح مساء تصدقك القول؛ لأنها قريبة منها بحكم المخالطة اليومية للخدمة، والإنسان يستطيع أن يتعرف عليك وعلى محاسنك وعيوبك وطبائعهم، ويعرف مدخلك ومخرجك من خلال ذلك.
ومن البلاء المستطير اليوم وجود بعض الخدم بيننا الذين لا يتقون الله تعالى، فيعرفون أسرار البيوت التي يعملون بها، وإذا ما التقوا فيما بينهم تناقلوا أسرار البيوت، ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ لأن هؤلاء لا يعرفون الآداب الشرعية، ولا يراعون حرمات البيوت فينقلون الأسرار العائلية حتى تصل إلى آخر الحي! وربما كان الخادم سببا لوصول الشر إلى أهل البيت، فيسهل مثلا للسراق واللصوص، أو يسهل لأهل الفاحشة، بحكم معرفته لأهل البيت وأسرارهم، فإنه يطلع على ما لا يطلع عليه غيره؛ ولهذا قال علي ]: وإن تسأل الجارية تصدقك، أي لأنها تعرف عنها ما لا نعرفه نحن.
قالت: «فدعا رسول الله [ بريرة» وبريرة جارية أعتقتها عائشة رضي الله عنها وصار لها الولاء عليها، أي أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بكلام علي ] وإشارته فدعاها، فقال: «أي بريرة، هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟» يَريبك ويُريبك بضم الياء وفتحها كلاهما جائز، أي: هل رأيت من شيء فيه ريبة أو شك؟ قالت بريرة: «والذي بعثك بالحق، إن رأيت عليها أمرا قط أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله» تقول بريرة: أقسم بالله الذي بعث رسول الله [ بالحق، إن رأيت، أي ما عليها أمرا قط، أما الأمر الذي أغمصه عليها، أي أراه نقصا في حقها، أو أراه خطأ يحصل منها، أنها هي جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، أي تعجن العجين ثم يغلبها النوم فتأتي الداجن فتأكله، والداجن: هي الشاة التي يربيها الناس في البيوت لأجل الدر والحليب، ولا تخرج للمرعى فتكون من دواجن البيت.
فالعيب الذي كانت تراه على عائشة هو هذا، أن عائشة قد تغفل أو تنام عن بعض تدبير أمور البيت من الطبخ والعجن وما أشبه ذلك بسبب صغر سنها.
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #34  
قديم 28-03-2024, 07:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

شرح كتاب التفسير من مختصر مسلم (34)

حادثـة الإفـك (4)

اعداد: الفرقان


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
ذكرنا في الحلقة السابقة: أن النبي صلى الله عليه وسلم استشار بعض أصحابه فيما قيل في حق أم المؤمنين، ونستكمل بقية الشرح للحديث.
قالت: « فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر» بعد هذه الاستشارة وبعد الشعور بشيء من الطمأنينة من كلام أهله، ومن كلام أقرب الناس إلى عائشة وهي بريرة مولاتها، قام صلى الله عليه وسلم على المنبر.
قولها: « فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول « استعذر يعني قال: من يعذرني ، فطلب العذر ، قال: « يا معشر المسلمين ، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي «من يعذرني يعني: من يقوم بعذري وينصفني إن عاقبته على فعله، وأقمت عليه ما ينبغي أن يؤدب به، وقيل: معنى من يعذرني، أي من ينصرني ، والعذير هو الناصر ، لكن المعنى الأول أقوى.
قوله: «فو الله ما علمتُ على أهلي إلا خيراً» وهذا هو الأصل براءة الناس وسلامتهم ، ولا يتحول عن هذا الأصل إلا بشهودٍ أو بينة أو اعتراف أو ما أشبه ذلك ، وإلا فالأصل أن الإنسان بريء حتى تثبت إدانته.
قوله: «ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً» وأيضا هم اتهموا رجلا معروفا بالخير والصلاح ، ومعروفا بالعدالة ، وهو كما ذكرنا رجل من البدريين، أي ممن شهد بدرا.
قوله: « وما كان يدخل على أهلي إلا معي» أي: لم يحصل له خلوة ، فلم يحصل شيء من ريبة من تصرف مريب ، ولم يشهد عليه أحدٌ بشيء، وهو رجل صالح فمن أين تأتي التهمة ؟! ومن أين يأتي الظن السيئ؛ ولذا قال الله تبارك وتعالى: {لولا إذْ سمعتموه ظنّ المؤمنُون والمؤْمنات بأنفسِهم خيراً وقالوا هذا إفكٌ مبينٌ لولا جَاؤوا عليه بأربعةِ شُهداء فإذْ لم يأتوا بالشّهداء فأؤلئك عند اللهِ هم الكاذبون}، (النور : 12-13) فأهل الإيمان والصلاح والاستقامة والعفاف يظن بهم الخير ، كما أرشد الله في الآية الكريمة.
قوله: « فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله»، وهاهنا إشكالٌ في الحديث ، وهو ذكر سعد بن معاذ وهو سيد الأوس [ وأرضاه ، في هذه القصة في غزوة بني المصطلق المسماة بغزوة : المريسيع، وكانت هذه الغزوة سنة ست للهجرة ، والمعلوم من السيرة أن سعد بن معاذ رضي الله عنه مات بعد غزوة الخندق ، وقد كانت سنة أربع ، فكيف يحضر هذا المجلس وهذا الموقف فيتكلم وهو قد مات قبله؟!
ولهذا قال القاضي عياض: قال بعض شيوخنا : ذكر سعد بن معاذ في هذا وهم ، والأشبه أنه غيره، فقيل: هو أسيد بن الحضير، ومنهم من قال : إنّ غزوة المريسيع كانت سنة أربع، يعني في سنة الخندق، لكن الأشهر أنها كانت بعد غزوة الخندق ، كما ذكر غير واحد أن المريسيع كانت سنة خمس أو سنة ست.
قوله: «إن كان من الأوس ضربنا عنقه « يعني قال : أنا أعذرك منه يا رسول الله ، أي أنا أعطيك العذر بأن تقتله إن كان من الأوس؛ لأنه كان سيد الأوس، ويملك ذلك. قوله : « وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك»؛ لأنه ليس له ولاية على الخزرج ، إنما الولاية العامة للرسول صلى الله عليه وسلم ، فله الأمر على الجميع ، أي إن كان من الخزرج تأمرنا نحن فنفعل به ما تشاء.
قالت : «فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحاً ، ولكن اجْتَهلته الحمية» وأكثر رواة مسلم رووه بهذا اللفظ : «اجتهلته» يعني استخفته الحمية وأغضبته وحملته على الجهل ، وفي رواية البخاري : «احتملته» يعني أغضبته الحمية.
والحمية هي العصبية ، والعصبية - عافانا الله وإياكم - إذا طرأت على الإنسان غطت على قلبه وعقله، وصار الإنسان يتصرف دون عقل وشرع، وهذا من أعظم المخاطر والمنكرات التي حذر منها الشرع الحنيف، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « من قاتل تحت راية عُمّيّة ، يغضبُ لعَصَبة، أو يدعو إلى عَصبة ، أو يَنصر عَصبة ، فقتل، فقتلته جاهلية» رواه مسلم ( 3/1476).
فالذي يدعو إلى العصبة ، أو يقاتل على العصبة - والعصبة هم أقرباء الرجل من جهة الأب - فهذا إن مات وهو كذلك فميتته جاهلية؛ لأنه يقاتل لا لنصرة الدين ، ولا لنصرة الحق، بل لأجل العصبة والعشيرة! ومحض الهوى والتعصب! كما كان أهل الجاهلية يفعلون.
لكن سعد بن عبادة رجل صالح، ومن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، بل من أصحاب بيعة العقبة ، أي من السابقين إلى الإسلام من الأنصار ، لكن احتملته العصبية على الوقوع في هذا الخطأ، ] وعن الصحابة وأرضاهم أجمعين.
قوله : « فقال لسعد بن معاذ : كذبتَ ، لعمر الله لا تقتله، ولا تقدر على قتله» أي : إن كان من الخزرج فما لك عليه ولاية ، فلا تقتله ولا تقدر على قتله، والأوس والخزرج قبيلتان كانتا تسكنان المدينة كما هو معلوم، وبينهما عداوات قديمة كانت في الجاهلية، فتثور هذه العداوات بعض الأحيان بينهم، وفي بعض المواقف بتحريش الشيطان أو المنافقين، فيحصل بينهم ما يحصل بين البشر، لكنهم رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا سريعا ما يعودون إلى الحقّ والصلح ، ويندمون ويتعانقون وينسون ما حصل بينهم من خلاف ، ويحمدون الله سبحانه وتعالى على نعمة الإسلام ، وأخوة الإيمان ، وائتلاف القلوب بعد التنافر الذي كانوا عليه في الجاهلية ، كما قال سبحانه وتعالى:{ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، (آل عمران : 10).
قوله: «قال أسيد بن الحضير وهو ابن عم سعد بن معاذ» أسيد بن حضير أيضا هو من أصحاب بيعة العقبة الأولى ، وممن بايع رسول الله [ فيها، فقال أسيد بن حضير وكان حاضرا، قال لسعد بن عبادة: «كذبت لعمر الله» لعمر الله: قسم بحياة الله تعالى، وهي صفة من الصفات الإلهية ، وقال : « كذبت لعمر الله لنقتلنه؛ فإنك منافق تجادل عن المنافقين « قوله : إنك منافق ، لا يريد بهذا النفاق النفاق الاعتقادي ، إنما يريد النفاق العملي، كأنه يقول له: كيف تدّعي أنك مسلم وتحبنا، ثم تعادينا هذه العداوة ، وتظهر لنا المودة والمصافاة ثم في مثل هذا الموقف تظهر لنا العداوة، كأنك منافق أو هذا أشبه بحال المنافق ، وهذا كما قلنا كان في موقف حمية وغضب وعصبية ، فحصل منهم ما حصل، ومثل هذه المواقف والأقوال لا تنقص من قدر الصحابة وفضلهم؛ لأنهم على كل حال بشر ، والبشر معرضون للخطأ، والصحابة رضي الله عنهم وإن كانت لهم مثل هذه الأخطاء ، لكنها يسيرة وقليلة ، ومغمورة في بحار حسناتهم رضي الله عنهم وأرضاهم ، التي قدموها في سبيل الله ، والأعمال التي نصروا بها الله عز وجل ودينه ورسوله [، والأموال التي أنفقوها في نصرة الإسلام، فلم تكن هذه إلا مجرد عارض يحصل للإنسان الضعيف ، الذي يعتريه ما يعتري غيره من الغضب والانفعال والتوتر والانزعاج.
قولها : « فثار الحيان الأوس والخزرج » بعد هذا السجال والجدال الذي حصل بين سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وأصحابهما ، ثار الحيان، أي الأوس والخزرج ، وحصل لهم نوع من الحمية، « حتى هموا أن يقتتلوا » حتى هموا أن يحصل بينهم عراك أو تشابك بالأيدي، أو بالعصي وما أشبه ذلك.
قولها: « ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر فلم يزل يخفّضهم « أي يأمرهم بتخفيض الصوت، ويسكتهم، حتى سكتوا جميعا وسكت صلى الله عليه وسلم ، فقد كادت تنشب فتنة بين الصحابة وفرقة، وهذه الفتن حاكها أهل النفاق والدسائس، أرادوا بها الإيقاع بين المؤمنين ، وتهييج العداوات بين المسلمين ، وهذا لا شك أنه هدف لأعداء أمة الإسلام في كل عصر ومصر ، فهم دائما يحاولون إيجاد ما يثير العداوات بين المسلمين ، وما يردهم إلى العصبيات الجاهلية ، وإلى مبادئ أو حضارات إن تمسكوا بها فرقتهم بعد أن جمعهم الإسلام على قلب رجل واحد. قال عز وجل ممتنا أيضا على رسوله :{وألّف بين قُلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم}، (الأنفال:63) .
فالله سبحانه وتعالى ألف بينهم بدينه وبالإيمان وبشرائع الإسلام وبرسوله صلى الله عليه وسلم ، ولو أنفقت ذهب الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم، لكن الذي ألف بينهم هو الله سبحانه وتعالى. فأعداء الإسلام يريدون تفريق الأمة، وإذا تفرقت الأمة ضعفت وسهل التغلب عليها، مثل العصي إذا تفرقت سهل تكسرها، كما قال القائل:
تأبى الرماحُ إذا اجتمعنَ تكسرا ...
فإذا افترقن تكسرت آحادا
فالحزمة القوية لا يمكن أن يكسرها الإنسان، لكن إذا تفرقت الأعواد كسر كل عود وحده، وهذا هو المقصود في قول أعداء الله : «فرق تَسُد» يتبع.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #35  
قديم 29-03-2024, 04:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(35)

– حادثة الإفك (5)

اعداد: الفرقان


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
نستكمل شرح حديث حادثة الإفك:
قَالَتْ : «وَبَكَيْتُ يَوْمِي ذَلِكَ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، ثُمَّ بَكَيْتُ لَيْلَتِي الْمُقْبِلَةَ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، وَأَبَوَايَ يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي ، فَبَيْنَمَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي، اسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَأَذِنْتُ لَهَا فَجَلَسَتْ تَبْكِي قَالَتْ : فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ، دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ [ فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ ، قَالَتْ : وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ لِي مَا قِيلَ، وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي بِشَيْءٍ، قَالَتْ: فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ [ حِينَ جَلَسَ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبٍ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ، عَلَيْهِ قَالَت:ْ فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ [ مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً فَقُلْتُ لِأَبِي: أَجِبْ عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ [ فِيمَا قَالَ فَقَال:َ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ [، فَقُلْتُ لِأُمِّي : أَجِيبِي عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ [، فَقَالَتْ : وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ [، فَقُلْتُ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لَا أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنْ الْقُرْآنِ : إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ بِهَذَا حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ ، فَإِنْ قُلْتُ لَكُمْ : إِنِّي بَرِيئَةٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لَا تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ ، وَلَئِنْ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُونَنِي ، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَّا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}.
- قَالَتْ: ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي، قَالَتْ: وَأَنَا وَاللَّهِ حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ يُنْزَلَ فِي شَأْنِي وَحْيٌ يُتْلَى وَلَشَأْنِي كَانَ أَحْقَرَ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا، قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَجْلِسَهُ وَلَا خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَحَدٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنْ الْبُرَحَاءِ عِنْدَ الْوَحْيِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنْ الْعَرَقِ فِي الْيَوْمِ الشَّاتِي مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ، قَالَتْ: فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّه ِصلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَضْحَكُ فَكَانَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ: «أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ، أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ بَرَّأَكِ»، فَقَالَتْ لِي أُمِّي: قُومِي إِلَيْه،ِ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَقُومُ إِلَيْهِ وَلَا أَحْمَدُ إِلَّا اللَّهَ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتِي، قَالَتْ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} عَشْرَ آيَاتٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ بَرَاءَتِي».
الشرح :
تقول عائشة: «وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم « لا يرقأ أي لا ينضب ولا يقف دمعي، ولا تنام عينها، «ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم « أي: تواصل عليها الهم والغم والبكاء والسهر»، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي» أي: ما يفلق الكبد ويقطعه، أو يحصل لها مرض عضال في الكبد؛ لأن الكبد يتأثر بمثل هذا الهم الشديد والغم، كما هو معلوم.
- قولها: « فبينما هم جالسان عندي وأنا أبكي، استاذنت عليّ امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكي» أي مواساة لها وتسلية، فالإنسان إذا كان في همٍ وغم ومصيبة، وجاء من يجلس عنده ويسليه، خفّف عنه شيئا من المصاب.
- قَالَتْ : « فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ، دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، قَالَتْ : وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ لِي مَا قِيلَ ، وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي بِشَيْءٍ « أي مرّ شهر عليها وما جلس عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لعظم هذه الفرية والإشاعة الخبيثة المنفرة، وتأخر نزول الوحي في هذه الحادثة شهراً، وهو من الابتلاء العظيم لرسول اللهصلى الله عليه وسلم ولأهل بيته.
قَالَتْ: «فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ جَلَسَ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ» قالت: بعد أن جلس تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تشهد أي: قال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد عبده ورسوله، وهي عادته صلى الله عليه وسلم ، كان إذا أراد أن يتكلم ، تشهد وحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله.
ثم قال: «أما بعد» وهي كلمة تقال لأجل الانتقال من موضوع إلى آخر، واختلف فيمن قالها أولاً ؟ فمنهم من قال: أول من قالها من العرب: قس بن ساعدة، خطيب العرب، وقيل غيره.
- قولها: « قال : يا عائشة ، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا» وهذه أول مرة يكلمها النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر منذ حصل ما حصل، وإنما كان يدخل عليها كما مر معنا ويقول لها: كيف تيكم؟ أي كيف حالكم، فقط، وما كان يزيد على ذلك، لكن قال لها في هذا اليوم: « إنه قد بلغني عنك كذا وكذا» يعني كناية عما رُميت به من الإفك والبهتان». فإن كنت بريئة فسيبرئك الله» أي: بالوحي ينزله الله عز وجل يعلن فيه براءتك.
ثم قال: «وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله « ألممت من الإلمام، كما في قول الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ } (النجم : 32).
فاللمم كما يقول أهل العلم: هو الذّنب الذي يقع دون قصد، وهذا حال أهل الإيمان وأهل الاستقامة والصلاح، فالذنب منهم يقع بغفلةٍ دون قصد ولا عمد، وبعدم إصرار ، فقال لها: إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله، يعني إن فعلت ذنبا فاستغفري الله وتوبي إليه، فإنّ العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب ، تاب الله عليه، وهذه بشارة عظيمة للمذنبين، كما جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى في قوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر : 53).
وفي قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى } (طه: 82).
فالنبي صلى الله عليه وسلم هاهنا يبشر ويصرح بقبول توبة الله للمذنب، إن هو تاب واعترف بذنبه، وندم على فعله ، فان الندم والتوبة كفيلان بمغفرة الذنوب من الرحمن الرحيم سبحانه وتعالى.
- قالت: « لما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته، قَلَص دمعي وجفّ ، حتى ما أحس منه قطرة» قلص أي ارتفع ، وذلك لأنها سمعت كلاما مؤثرا عظيما ، وتحفزت للرد والدفاع عن نفسها، والإنسان إذا تحفز للدفاع عن نفسه يحصل له شيء من القوة.
- قولها: « فقلت لأبي: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال» أي : قالت لأبيها أبي بكر ]: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا من أدبها رضي الله عنها، أنها فوّضت الكلام لأبيها، وتفويض الكلام للكبير في المجلس أدبٌ إسلامي كريم، فلا يبدأ الصغير بالكلام قبل الكبير، وهذا الأدب الرفيع ينبغي أن يؤدب عليه الأبناء والبنات، وخصوصاً إذا حضروا في الأمر الخطير أو العظيم؛ لأن الكبير أعرف وأعلم بالقول، وكيف يرد الرد اللائق.
فقال أبو بكر ]: « والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟» أي: ليس عندي شيء أقوله» قالت: «فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم » يعني أن أبا بكر وأم عائشة رضي الله عنهم ليس عندهما شيء زائد على ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يزال الأمر فيه غموض، فليس هناك ما يحسمه ويبرئ ساحة عائشة رضي الله عنها، أو يقوي كلامها وموقفها، فالوحي لم ينزل بعد، لكن حسن الظن لا يزال موجوداً بابنته رضي الله عنها.
- قالت: « فقلت: وأنا جارية حديثة السن» فعائشة رضي الله عنها في هذا الموقف كانت في سن الثانية عشرة أو الثالثة عشرة ، فهي لا تزال بنتا صغيرة، لا تكاد تستطيع إتقان الكلام، وتجميع القول. قالت : « لا أقرأ كثيرا من القرآن» بمعنى: لا أحفظ كثيرا من القرآن وآياته.
- قالت : « إني والله لقد عرفتُ أنكم قد سمعتم بهذا حتى استقرّ في أنفسكم، وصدقتم به» هذا قولها وهي جارية حديثة السن، وهو يدل على رجاحة عقلها، ولا سيما أنها من بيت علم وفهم وأدب، فهذا الخطاب الذي دافعت به عن نفسها، ليس بالقول السهل فقد جاء في كلامها: فإن قلت لكم إني بريئة - والله يعلم أني بريئة - لا تصدقوني بذلك، لماذا؟ لأن الأمر قد شاع وانتشر حتى صدقه البعض، قالت: ولئن اعترفت لكم بأمر - والله يعلم أني بريئة – لتصدقونني، أي لقبلتم ذلك، وكان هذا أقرب عندكم، مع بعده عن الحقيقة؟!
- قولها: «وإني والله ما أجدُ لي ولكم مَثَلا إلا كما قال أبو يوسف» وفي بعض الروايات أرادت أن تقول: يعقوب عليه السلام، فغاب عن بالها اسم يعقوب، فقالت: أبو يوسف، وذلك أن الإنسان في حال الحزن الشديد أو الهم والكرب ، أو الغضب، ينسى بعض الكلام وبعض الحجج، فهي أرادت أن تقول يعقوب فما تذكرت اسمه، فقالت: أبو يوسف.
- قولها: « كما قال أبو يوسف {َفصَبْرٌ جَمِيلٌ} (يوسف : 18)، والصبر الجميل كما قال أهل العلم: هو الصبر الذي لا جَزع فيه، ولا شكوى معه ، فلا يشكو معه الإنسان إلى الخَلق، بل يشكو حاله إلى الله، والشكوى إلى الله لا تنافي الصبر الجميل، كما قال تعالى عن يعقوب عليه الصلاة والسلام أنه قال: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ } (يوسف : 86)، إنما الشكوى للخلق هي التي تنافي الصبر الجميل، {وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} أي استعين الله على ما تذكرون وتصفون عني، وهو عز وجل يعلم براءتي، وهو نعم المعين على ذلك.
- قَالَتْ: «ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي، قَالَتْ: وَأَنَا وَاللَّهِ حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ يُنْزَلَ فِي شَأْنِي وَحْيٌ يُتْلَى، وَلَشَأْنِي كَانَ أَحْقَرَ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا» أي: ما كانت تظن أن ينزل فيها قرآنٌ كريم يقرؤه المؤمنون، ويتلى في الصلوات، وفي المساجد إلى يوم القيامة ، يذكر الله تعالى فيه براءتها ، ويرد على الكاذبين عليها من المنافقين وغيرهم؛ لأنها كانت ترى أنها ليست بذاك الأمر المهم، وهذا من تواضعها رضي الله عنها وهضمها لنفسها مع أنها زوجة أفضل رسل الله على الإطلاق ، وسيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام، لكن كانت ترجو أن يبرئها الله برؤيا يراها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منامه، ورؤيا الأنبياء حقٌ ووحي من الله سبحانه ، كما هو معلوم ، فيعرف الناس أنها بريئة.
- قَالَتْ: « فَوَاللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَجْلِسَهُ» رام أي: ما فارق مجلسه « وَلَا خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَحَدٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم » أي : أنزل عليه جبريل عليه السلام بالقرآن.
- قالت: « فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنْ الْبُرَحَاءِ عِنْدَ الْوَحْيِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنْ الْعَرَقِ فِي الْيَوْمِ الشَّاتِيِ، مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْه» البرحاء بضم الباء هي الشدة والكرب، ليتحدّر أي: ليتصبّب، والجمان هو الدُر واللؤلؤ، شبهت قطرات عرقه صلى الله عليه وسلم بحبات اللؤلؤ في الصفاء والحسن.
- قَالَتْ: فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « أي : كُشِف عنه « وَهُوَ يَضْحَكُ فَكَانَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ : « أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ ، أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ بَرَّأَكِ» « أي ضحك صلى الله عليه وسلم فرحا بما أنزل الله تعالى عليه من الآيات في براءتها، وأعلن ذلك فوراً لأهل المجلس، وخاطب به عائشة رضي الله عنها قائلا: أبشري يا عائشة، أي أبشري بالفرج والبراءة وزوال المحنة.
- فَقَالَتْ لِي أُمِّي : قُومِي إِلَيْهِ» أي : قومي إليه واشكريه، وقَبِّلي رأسه.
- فَقُلْتُ: « وَاللَّهِ لَا أَقُومُ إِلَيْهِ وَلَا أَحْمَدُ إِلَّا اللَّهَ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتِي» وهذا كما قال أهل العلم: من إدلالها على زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها تعلم حبه لها ، ومن عتبها عليه وعلى أهلها لكونهم شكّوا فيها وارتابوا، مع علمهم بجميل أخلاقها، وارتفاعها عن هذا المنكر والباطل الذي اتهمت به ظلماً.
- قَالَتْ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلّ:َ {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تحَسبوه شراً لكم بل هو خيرٌ لكم... } عَشْرَ آيَاتٍ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ بَرَاءَتِي . (يتبع).

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #36  
قديم 29-03-2024, 04:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

شرح كتاب التفسـير من مختصر صحيح مسلم للمنذري ( 36 )

- حديث الإفك (6)

اعداد: الفرقان


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
هذه الحلقة الأخيرة في شرح حديث الإفك الذي وقع على أشرف النساء مطلقا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها.
قالت : فأنزل الله عز وجل: {ِإنَّ الَّذِينَ جَاؤوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (النور : 11).
قوله {إن الذين جاؤوا بالإفك} : وهذا شروع في بيان الآيات النازلة في شأن عائشة رضي الله عنها، وهي تقريبا ثماني عشرة آية، تنتهي بقول الله تعالى: {أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (النور : 26).
والإفك: هو أقبح الكذب وأفحشه، وهو مأخوذ من أفك الشيء، إذا قلبه عن وجهه، فالإفك هو الحديث المقلوب، وهو ما اتهمت به عائشة رضي الله عنها، وهو إفك وكذب عظيم ، وقد حاول بعض أهل البدع أن يزعم أن هذه الآيات ليست نازلة في عائشة؟ فيكذّب - والعياذ بالله - بالأحاديث الصحيحة الواردة في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم وفي المسند وفي السنن وغيرها؟! وهذا إفكٌ جديد يضاف إلى ما اتهمت به عائشة رضي الله عنها من الإفك والكذب العظيم، وهو أيضا مخالف لإجماع المسلمين والمحدثين، وقد ذكر غير واحد من أهل التفسير : إجماع المسلمين على أن المراد بهذه الآيات هي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، وقصتها مشهورة في ذلك مستفيضة، وأن الله عز وجل برأها مما قاله فيها أهل النفاق؛ ولذا قال: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ} والعصبة: هم من الثلاثة إلى العشرة، وقيل: من العشرة إلى الخمسة عشر، وقيل غير ذلك، فالعصبة المقصود بها هنا: الجماعة الذين يتعصب بعضهم لبعض {منكم} أي ناسٌ ينتسبون إليكم، فمنهم الصادق الغافل؛ لأن بعض المؤمنين كما ذكرنا اغتر بما أشاعه أهل النفاق ، فوقع فيما وقعوا فيه، ومنهم من هو منتسبٌ لكم في الظاهر، ولكنه منافق في الحقيقة ، {لا تحسبوه شراً لكم } أي : بل هو خيرٌ لكم ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولعائشة وأبي بكر وصفوان بن المعطل رضي الله عنهم وكل من تأذى بما حدث، وهو تسلية لهم، فيقول لهم الله تعالى: لا تحسبوا هذا الأمر شراً لكم ، بل هو خيرٌ لكم، وقد يقول قائل : كيف يكون خيرا لهم وهو اتهام وقذف ورمي لعائشة رضي الله عنها؟!
- والجواب كما قال أهل العلم: إن الخير هو ما زاد نفعه على ضره ، والخير الذي حصل للنبي صلى الله عليه وسلم وعائشة وأبي بكر وغيرهم هو الثواب العظيم، الذي هو ثواب الصبر على هذه المصيبة، وكونه مما يتضايق منه الإنسان ويهتم له ويبكي، وهذا أيضا فيه تكفير للسيئات ، ورفع للدرجات ، ثم ما نزل من بيان براءة عائشة رضي الله عنها بنت الصديق ]، ودفاع الله عنها ، وأنها في غاية الشرف والفضل، وهذه تزكية لأم المؤمنين عائشة أولا، ثم لبقية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الله تعالى لا يختار لنبيه صلى الله عليه وسلم إلا الصالحات العفيفات الكريمات.
- وقوله تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} أي : لكل امرئ من هذه العصبة التي تكلمت بالإفك والكذب، ما اكتسب من الإثم، أي لكل واحد منهم نصيب من الإثم والذنب بسبب كلامه، {والذي تولى كبره} أي: الذي حمل معظمه وكان يشيعه ويذيعه منهم ، له عذاب عظيمٌ ، والمقصود بذلك عند عامة أهل التفسير : عبد الله بن أبي ابن سلول كبير المنافقين لعنه الله ، فهو الذي أشاع هذا الإفك وروّج له ، وخدع به بعض الناس ، ولذا فله عذابٌ عظيم في الدنيا والآخرة ، زيادة على غيره ، وقد توعد الله المنافقين بأنهم {في الدّركِ الأسفل من النار ولن تجدَ لهم نَصيرا}.
- قولها «عشر آيات ، فأنزل الله عز وجل هذه الآيات ببراءتي» أي : أنزل الله تعالى في شأن قصتها عشر آيات فيها ببراءتها.
- قالت: «فقال أبو بكر ] - وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره- : والله لا أنفق عليه شيئا بعد الذي قال في عائشة» مسطح كما قلنا هو ابن خالة أبي بكر رضي الله عنهما، وكان ينفق عليه لقرابته وفقره، فإنه كان من فقراء المهاجرين، وبعدما أنزل الله عز وجل براءة عائشة قال أبو بكر - بعدما وقع فيها واتهمها - أنا أنفق عليه، وأحسن إليه ، وهو يقابلني بالإساءة ؟؟! والله لا انفق عليه ، فأنزل الله عز وجل هذه الآيات: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النور: 22) ولا يأتل : أي لا يحلف ، كما قال عز وجل :{لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ} (البقرة : 226). يُؤْلُونَ : أي يحلفون ألا يقربوا نساءهم.
{أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ} يعني أبا بكر ]؛ لأنه كان تاجراً وكان عنده مال وسعة { أن يؤتوا أولي القربى} أي: لا يحلف أولو الفضل منكم والغنى ألا يعطوا ويتصدقوا على أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله تعالى.
- ثم قال سبحانه: {أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} يعني بسبب صدقاتكم وعطفكم عليهم، وبصفحكم عن المسيئين منهم لكم، فإنّ الجزاء من جنس العمل ، فكما تغفر للناس إساءتهم، يغفر الله تعالى لك إساءتك، وكما تصفح عنهم يصفح الله عنك.
- قال حبان بن موسى قال: قال عبد الله بن المبارك: هذه أرجى آية في كتاب الله سبحانه وتعالى، يعني: أعظم آية يرجو بها الإنسان ثواب الله ومغفرته وفضله.
- قولها : «فقال أبو بكر : والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه ، وقال : لا أنزعها منه أبدا» أي : لما نزلت هذه الآية: {أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} قال أبو بكر عفا الله عنه ذلك طلبا لمغفرة الله سبحانه، ورغبة فيما عند الله عز وجل، ولا شك أن هذا أمر فيه شدةٌ على النفس، ويحتاج إلى الصبر، كما قال الله: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (فصلت : 35). وقال الله عز وجل قبلها :{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(فصلت : 34).
فإذا أساء إليك أحد فقابل الإساءة بالإحسان؛ فإن ذلك يقلب العداوة إلى صداقة ، فأنت إذا أحسنت إلى الإنسان ملكت قلبه ، وصار أخا لك ، كما قال القائل: أحسنْ إلى الناس تَستعبدْ قُلوبهم
- فطالما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ، فالله عز وجل لما قال : {أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} رجع أبو بكر عن يمينه وارجع النفقة التي كان ينفقها على مسطح، وقال : لا أنزعها منه أبدا.
- قالت عائشة : «وكان النبي صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن أمري : «ما علمتِ» أو «ما رأيتِ»؟ وهذا لم يذكر فيما سبق من الحديث ، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سأل زينب بنت جحش وهي من أمهات المؤمنين سألها عن عائشة ما تقول فيها ؟ أو ماذا تعلم عن عائشة؟ هل علمت شيئا أو هل رأت شيئا؟ فقالت زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها : «أحمي سمعي وبصري» أي: لم أسمع شيئا بأذني، ولم أر شيئا بعيني، فلذلك أصون جوارحي عنه، فلا أتكلم بشيء؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا} (الإسراء : 36) أي لا تقل: رأيتُ، وأنت لم تر، وسمعتُ، وأنت لم تسمع ، وعلمتُ، وأنت لم تعلم.
- ثم قالت : «والله ما علمت إلا خيرا» أي إنها على البراءة من ذلك فيما سبق. قولها: «وهي التي كانت تساميني من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم » أي أن زينب كانت تفاخرها وتضاهيها بجمالها ومكانتها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو أن غيرتها وهواها غلبا دينها وورعها، لتكلمت في عائشة؛ لأن الإنسان أحيانا إذا أبغض إنسانا ربما تكلم فيه بغير حق، كما أنه إذا أحب إنسانا مدحه بغير حق ، والواجب العدل كما قال الله عز وجل: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الأنعام : 152).
- وقال عز وجل: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة : 8).
فلا يحملك البغض لجماعة أو لقوم، أو لطائفة، أو لقبيلة، على ألا تقول فيهم بالعدل، بل اعدل ولو كانوا أعداءك، فهذا دين الله سبحانه وتعالى، بل ولو كانوا كفارا فقل فيهم بما تعلم من الحق؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الحق ويحب الحق ويأمر بالحق، ويكره الباطل.
- قولها: «فعصمها الله بالورع» فزينب بنت جحش ضرة عائشة، ومعلوم ما يكون بين الضرائر من الغيرة والكراهية، لكن حماها الله وعصمها بتقواها وورعها، من أن تقول بما قاله أهل الإفك من القذف.
- قولها : «وطفقت أختها حمنة بنت جحش تحارب لها» أي إن أخت زينب وهي حمنة بنت جحش وقعت فيما قال أهل الافك؛ لأنها غارت لأختها وأخذتها الحمية فتكلمت في عائشة تعصبا لأختها ، فهلكت فيمن هلك، وحدّها النبي صلى الله عليه وسلم حد القذف.
- يقول الزهري: «هذا ما انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط» يعني إلى هنا انتهى الحديث الذي حدثه به الرهط الذين سبق ذكرهم رحمهم الله تعالى.
وهذا الحديث فيه فوائد ومباحث كثيرة، ذكرها الحافظ ابن حجر في فتح الباري وذكرها الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم ، وذكرنا كثيرا منها ، ولعلنا نذكر ما تيسر من كلام الإمام النووي هنا مختصرا مع التعليق عليه: إحداها: جواز رواية الحديث الواحد عن جماعة؛ لأن الزهري قد سمع حديث الجماعة ورواه عنهم قطعة واحدة.
- الثانية: صحة القرعة بين النساء، يعني: عند السفر وفي العتق وتقدم الكلام عليه.
- الثالثة : وجوب الاقتراع بين النساء عند إرادة السفر ببعضهن.
- والرابعة: لا يجب قضاء مدة السفر للنسوة المقيمات ، أي بعد القرعة ، وهذا مجمع عليه إذا كان السفر طويلا ، وحكم القصير حكم الطويل على المذهب الصحيح ، وخالف فيه بعض الشافعية.
- الخامسة: جواز سفر الرجل بزوجته سواء في الغزو أو في غيره.
- السادسة: جواز غزوهن، أي غزو النساء مع الرجال.
- السابعة: جواز ركوب النساء في الهوادج.
- الثامنة: جواز خدمه الرجال لهن في تلك الأسفار، بأن يحمل الرجال الهودج.
- التاسعة: ارتحال العسكر يتوقف على أمر الأمير، فهو الذي يأمر بالارتحال ويأمر بالنزول.
- العاشرة: جواز خروج المرأة لحاجة الإنسان بغير إذن الزوج . وهذا من الأمور المستثناة ، أي المرأة إذا أرادت أن تقضي حاجتها وتذهب إلى الخلاء ، لا تحتاج أن تستأذن الزوج في هذا الأمر.
- الحادية عشرة : جواز لبس النساء القلائد في السفر كالحضر.
- الثانية عشرة : أن من يُركب المرأة على البعير وغيره لا يكلمها إذا لم يكن محرما ، إلا لحاجة؛ لانهم حملوا الهودج ولم يكلموا من يظنونها فيه.
- الثالثة عشرة : فضيلة الاقتصاد في الأكل في النساء وغيرهن، وألا يكثر منه بحيث يهبله اللحم، أي يحمل اللحم الكثير بسبب كثرة الأكل.
وهذا كان حال النساء والرجال في زمن المختار [.
- الرابعة عشرة: جواز تأخر بعض الجيش ساعة، ونحوها لحاجة تعرض للجيش إذا لم يكن ضرورة في الاجتماع.
- الخامسة عشرة: إعانة الملهوف ، وعون المنقطع ، وإنقاذ الضائع ، وإكرام ذوي الأقدار ، لما فعل صفوان [ في هذا كله.
- السادسة عشرة: حسن الأدب مع الأجنبيات، ولا سيما في الخلوة بهن عند الضرورة في برية أو غيرها، كما فعل صفوان رضي الله عنه من إبراكه الجمل من غير كلام ولا سؤال، وأنه ينبغي أن يمشي أمامها ، لا بجنبها ولا وراءها؛ وذلك حتى لا ينظر إليها ويفتن بها.
- السادسة عشرة: استحباب الإيثار للركوب ونحوه ، كما فعل صفوان.
- السابعة عشرة: استحباب الاسترجاع عند المصائب - يعني قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون - سواء كانت في الدين أو الدنيا ، وسواء كانت في نفسه أم من يعز عليه.
- الثامنة عشرة : تغطية المرأة وجهها عن نظر الأجنبي ، سواء كان صالحا أو غيره ، فصفوان صحابي بدري من البدريين ، ومع ذلك عائشة غطت وجهها عنه؛ لأن المرأة فتنة ويخشى على الصالحين أيضا من فتنة النساء، فالرجل رجل يخاف عليه الفتنة ، وليس فتنة النساء قاصرة على غير الصالحين.
- التاسعة عشرة جواز الحلف من غير استحلاف، أي أن يحلف حتى لو لم يستحلفه الجليس، إذا كان يريد أن يؤكد كلامه.
- العشرون: يستحب أن يستر عن الإنسان ما يقال فيه، إذا لم يكن فيه فائدة ،كما كتموا عن عائشة هذا الأمر شهرا ، ولم تسمع بعد ذلك إلا بعارض عرض, وهو قول أم مسطح : تعس مسطح. فإذا سمعت ما يقال في أخيك شيئا يكرهه ، فلا تبلغه إياه ، إذا لم كان هناك فائدة ؛ لأنه يضيق الصدر ويجلب الهم والغم.
- الحادية والعشرون: استحباب ملاطفة الرجل زوجته وحسن المعاشرة؛ لأن عائشة تقول: فقدت اللطف الذي كنت أجده من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
- الثانية والعشرون : أنه إذا عرض عارض يقلل من اللطف بأن سمع عنها شيئا أو نحو ذلك يقلل من اللطف ونحوه ؛ لتفطن هي أن ذلك لعارض فتسأل عن سببه فتزيله. فإذا تفطنت المرأة لضيق زوجها تسأل عن السبب الذي قلل هذا العارض، فإذا كان سببا من جهتها ، فلتبادر في إزالته.
- الثالثة والعشرون: استحباب السؤال عن المريض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان دائما فيقول: «كيف تيكم؟».
- الرابعة والعشرون: يستحب للمرأة إذا أرادت الخروج لحاجة، أن يكون معها رفيقة تستأنس به ، ولئلها يتعرض لها أحد.
- الخامسة والعشرون : كراهة الإنسان لصاحبه أو قريبه إذا آذى أهل الفضل ، أو فعل غير ذلك من القبائح ، كما فعلت أم مسطح في دعائها عليه. أي أن أم مسطح دعت على ابنها عندما آذى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهذا من الحب في الله والبغض في الله عند الصحابة رضي الله عنهم.
- السادسة والعشرون: فضيلة أهل بدر والذب عنهم، كما فعلت عائشة في ذبها عن مسطح؛ فقد دافعت عنه، فقالت : أتسبين رجلا من أهل بدر؟!
- السابعة والعشرون : أن الزوجة لا تذهب إلى بيت أبويها إلا بإذن زوجها، كما قالت عائشة للرسول عليه الصلاة والسلام: أتأذن لي أن آتي أبوي؟
- الثامنة والعشرون: جواز التعجب بلفظ التسبيح، أي أن يقول المسلم : سبحان الله، إذا تعجب.
- التاسعة والعشرون: استحباب مشاورة الرجل بطانته وأهله وأصدقاءه فيما ينوبه من الأمور.
- الثلاثون: جواز البحث والسؤال عن الأمور المسموعة عمن له به تعلق، أما غيره فمنهيٌ عنه، وهو تجسس وفضول.
أي شيء يخصك أنت ، يجوز لك أن تسأل عنه وتتحرى، أما ما يخص غيرك فلا تبحث عنه؛ لأنه يدخل في التجسس، أو في الفضول، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
- الحادية والثلاثون: خطبة الإمام عند نزول أمر مهم؛ إذ إن النبي [ صعد المنبر وخطب في الناس في الحادثة.
- الثانية والثلاثون: اشتكاء ولي الأمر إلى المسلمين من تعرض له بأذى في نفسه أو أهله أو غيره ، واعتذاره فيما يريد أن يؤذيه به.
فولي أمر المسلمين إذا تعرض له بعض الناس بالأذى في عرضه وغيره، فله أن يقول للناس: هناك أناس يؤذونني بكذا وكذا ، فلا تلوموني إن عاقبتهم وآذيتهم.
- الثالثة والثلاثون: فضائل ظاهرة لصفوان ابن المعطل رضي الله عنه بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بما شهد، وبفعله الجميل في إركاب عائشة وحسن أدبه في جملة القضية.
- الرابعة والثلاثون: فضيلة لسعد بن معاذ وأسيد بن حضير رضي الله عنهما.
وذلك لما أخذتهما الحمية مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وقالوا: مرنا بما تشاء إن كان منا نقتله، قالوه حبا لرسول الله [.
- الخامسة والثلاثون: المبادرة لقطع الفتن والخصومات والمنازعات، وتسكين الغضب.
- السادسة والثلاثون: قبول التوبة والحث عليها.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قبل توبة هؤلاء بعد الحد، وكذلك قبل أبو بكر توبة مسطح.
- السابعة والثلاثون: تفويض الكلام إلى الكبار دون الصغار لأنهم أعرف.كما جاء في كلام عائشة رضي الله عنها.
- الثامنة والثلاثون: جواز الاستشهاد بآيات القرآن العزيز، ولا خلاف أنه جائز ، فلا مانع من الاستشهاد بآية مشابهة لحالك ، للحاجة للاستدلال.
- التاسعة والثلاثون : استحباب المبادرة بتبشير من تجددت له نعمةٌ ظاهرة ، أو اندفعت عنه بلية ظاهرة.
- الأربعون : براءة عائشة من الإفك ، وهي براءة قطعية بنص القرآن العزيز ؛ فلو تشكك فيها إنسان - والعياذ بالله - صار كافرا مرتدا بإجماع المسلمين.
- يقول الإمام النووي: لو تشكك فيها إنسان - والعياذ بالله - صاركافرا مرتدا بإجماع المسلمين، فأي إنسان يشكك في براءة عائشة بعد نزول آيات القرآن فهذا كافر مرتد بإجماع المسلمين؛ لأن الذي يشك في كلام الله يكون مكذبا له، ومشككا في صدق الله، والعياذ بالله، وهذا كله ردة عن الدين وكفر.
- قال ابن عباس وغيره : لم تزن امرأة نبيٍ من الأنبياء عليهم السلام، وهذا إكرام من الله تعالى لهم. وقد تكون المرأة كافرة لكن الله تعالى يكرم نبيه من أن تقع امرأته في فاحشة.
- الحادية والأربعون : تجديد شكر الله تعالى عند تجدد النّعم.
- الثانية والأربعون : فضائل لأبي بكر الصديق بقوله تعالى: {ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة ... } الآية.
- الثالثة والأربعون: استحباب صلة الأرحام وان كانوا مسيئين. كما فعل أبو بكر مع مسطح.
- الرابعة والأربعون: العفو والصفح عن المسيء.
- الخامسة والأربعون: استحباب الصدقة والإنفاق في سبيل الخيرات.
- السادسة والأربعون: أنه يستحب لمن حلف على يمين ، ورأى غيرها خيرا منها ، أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه.
- فإذا حلف شخص فقال: والله لا أعطيه شيئا ، ثم رأى المصلحة خلاف هذا، فإنه يكفّر عن يمينه ويفعل الذي هو خير ، ولا يحتج باليمين ولا يقول أنا حلفت ، كما قال تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ} (البقرة : 224).
- السابعة والأربعون : فضيلة زينب أم المؤمنين رضي الله عنها، لما أمسكت لسانها وحمت سمعها وبصرها.
- الثامنة والأربعون: التثبت في الشهادة.
- التاسعة والأربعون: إكرام المحبوب بمراعاة أصحابه ومن خدمه وأطاعه، كما فعلت عائشة بمراعاة حسان وإكرامه ؛ إكراما للنبي [. وذلك أن حسان بن ثابت ] ذُكر في الأحاديث والسيرة أنه هو ممن تكلم ووقع فيما قاله بعض المنافقين، لكن النبي [ أكرمه ومدحه ، فكانت عائشة تكرمه وتمدحه بعد ذلك إكراما لرسول الله وكرامته.
- الخمسون : أن الخطبة تبدأ بحمد الله تعالى، والثناء عليه بما هو أهله.
- الحادية والخمسون : أنه يستحب للخطيب أن يقول بعد الحمد والثناء والصلاة على النبي [ والشهادتين: أما بعد، وقد كثرت فيه الأحاديث الصحيحة.
- الثانية والخمسون: غضب المسلمين عند انتهاك حرمة أميرهم، واهتمامهم بدفع ذلك؛ لأنه مثل أعلى للرعية ، فإذا تجرأ الناس، وصار كل يتكلم في عرضه أو ينال منه في المجالس، فإن ذلك يضيع هيبة السلطان، ويضعف الأمر إذا صدر منه، أو يضعف الطاعة، وهذا كله خلاف ما جاء في الأحاديث النبوية.
- الثالثة والخمسون: جواز سب المتعصب لمبطل ،كما سب أسيد بن حضير سعد بن عبادة لتعصبه للمنافق، وقال: إنك منافق تجادل عن المنافقين . وأراد: أنك تفعل فعل المنافقين ، ولم يرد النفاق الحقيقي.
هذا آخر الفوائد الذي ذكرها الإمام النووي رحمه الله تعالى.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #37  
قديم 30-03-2024, 10:01 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(37)

باب في سورة النور

اعداد: الفرقان

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
2154. عَنْ أَنَسٍ : أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُتَّهَمُ بِأُمِّ وَلَدِ رَسُولِ اللَّهِ [، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ [ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ : «اذْهَبْ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ» فَأَتَاهُ عَلِيٌّ فَإِذَا هُوَ فِي رَكِيٍّ يَتَبَرَّدُ فِيهَا، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ : اخْرُجْ، فَنَاوَلَهُ يَدَهُ فَأَخْرَجَهُ، فَإِذَا هُوَ مَجْبُوبٌ لَيْسَ لَهُ ذَكَرٌ، فَكَفَّ عَلِيٌّ عَنْهُ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ [ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ [ إِنَّهُ لَمَجْبُوبٌ مَا لَهُ ذَكَرٌ.
الشرح : هذا باب من سورة النور أيضا، وأورد فيه حديثاً عن أنس ]، وقد أخرجه الإمام مسلم في آخر كتاب التوبة، وبوب عليه النووي باب : براءة حرم النبي [ من الرّيبة.
- قال عن أنس ]: « أن رجلا كان يُتهم بأم ولد رسول الله [» يعني كان يتهم بالدخول على أم ولد النبي [، أي شوهد أنه يدخل عليها في بيتها، وأم الولد هي الجارية المملوكة إذا ولدت لسيدها، وهذه الجارية هي «مارية » التي أهداها المقوقس صاحب الإسكندرية في مصر في زمنه مع أختها سيرين، وذلك سنة سبع من الهجرة للنبي [، فكان يطؤها بملك اليمين، فولدت له ابنه إبراهيم عليه السلام، فصارت أم ولده ( انظر الإصابة لابن حجر 4/185 ).
- فقال رسولُ اللَه [ لِعليٍّ : «اذْهَبْ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ» وهذا يدل على أن من حصل منه إيذاء للنبي [ بأي صورة من الصور، سواء كان لعرضه [ أم لأهله فإنه مستحقٌ للقتل؛ ولذلك قال أهل العلم : من قذف نبياً من الأنبياء فانه يكفر؛ لأن هذا فيه مهانة وغضاضة على النبي من أنبياء الله، وكذلك من اتهم نبياً في عرضه، أي في زوجة من زوجاته، اتهمها بالفاحشة فإنه يُقتل؛ لأن هذا في غضاضة أيضا لمقام النبوة، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً} (الأحزاب : 53).
- أي : ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله [ بأي نوع من أنواع الإيذاء، ومنها أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا، أي تتزوجوا بهن، فإذا كان نكاح زوجات النبي [ بعد موته محرما - وهذا من باب حماية فراش الرسول [ والبعد عن تدنيسه - فكيف إذا تعرض شخصٌ لعرض النبي [ أو اتهمه بفاحشة أو بشيء ؟! إلا من اتهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فإنه يكفر بالاتفاق؛ لأن من اتهم عائشة رضي الله عنها بشيء بعد نزول براءتها فهو مكذّب لله، والمكذب لله كافر مرتد بلا شك.
وكذلك من اتهم غيرها من زوجات النبي [، فإنه يكفر.
وهكذا من اتهم أم نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإنه يكفر، كما فعلت اليهود، وذلك أنهم اتهموا مريم عليها السلام بالفاحشة، فكفّرهم الله عز وجل، فقال فيهم: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} (النساء : 156)، فحكم عليهم بالكفر وقول البهتان العظيم، والله سبحانه وتعالى يقول عنها مدحا: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا } (الأنبياء : 91)، فالله سبحانه وتعالى قد برّأ مريم عليها السلام من كل سوء ومن كل فاحشة، فمن ادعى عليها القبائح بعد ذلك، فإنه كافرٌ مرتد يضرب عنقه.
وقد قال رجل من النصارى للإمام الأوزاعي : إن زوجة نبيكم قد اتهمت بالزنى؟!
- فقال له : هما امرأتان اتهمتا، فدافع الله عنهما في كتابه، أولهما مريم أم عيسى عليهما السلام، وثانيهما : عائشة رضي الله عنها زوج النبي [، فبهت النصراني؟!
فلما شوهد هذا الرجل يدخل على مارية أم ولد النبي [، اتهم بها، فقال النبي [ لعلي : «اذهب فاضرب عنقه» أي اذهب فاقتله.
- قوله: «فجاءه علي فإذا هو في ركي يتبرّد فيها» والرّكي هي البئر التي بُنيت، فالبئر إذا بنيت بالحجارة فإنها تسمى ركيا، وجمعها: ركايا.
- وقوله: «يتبرد فيها» يعني أنه كان ينزل فيها ويجلس في الماء يتبرد به؛ لأن الجو حار؛ قوله: «فقال له علي: اخرج، فناوله يده فأخرجه فإذا هو مجبوبٌ ليس له ذكر» أي جاءه علي ] وهو جالس في البئر، فأمره بالخروج منها، فلما خرج وكان عارياً ليس عليه ثياب.
- قوله: «فإذا هو مجبوبٌ ليس له ذكر» والمجبوب هو مقطوع الذكر، وهو كما تعلمون لا يمكنه أن يجامع، وهذا يدل على أنه بريء من الزنى، وأنه لا يحصل منه جماع النساء ولا الزنى؛ ولهذا لا يستحق القتل.
ولهذا لما رآه علي كذلك، عرف أنه لا يستحق القتل، حتى ولو دخل على زوج النبي [، أو دخل على غيرها من بيوت النبي [، فإنه كالمخنّث الذي لا رغبة له في النساء، ولا يمكنه أن يفعل شيئا لأن ذكره لا يقوم خِلقةً، وهؤلاء يجوز دخولهم على النساء شرعا، كما قال الله تبارك وتعالى في بيان من يحل للمؤمنة أن تكشف زينتها أمامهم: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن} إلى قوله: {أوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ } (النور : 31)، يعني الذين لا أَرب لهم في النساء، أي ليس لهم رغبة في النساء، وهذا رجل مجبوبٌ ليس له ذكر أصلا، وهو من باب أولى أنه يجوز دخوله عليهن، وهذا يدل على علم علي ] بأحكام الشرع وعقله وفقهه؛ ولذا كفّ عن قتله بهذه البينة الواضحة.
- ثم أتي النبي [ فقال : «يا رسول الله، إنه لمجبوب ما له ذكر» أي هذا يدل على انتفاء الزنى عنه، وهذه بينه واضحة في نفيه عنه.
وهكذا لو اتهم الإنسان بفاحشة الزنى، ثم قامت البينة الواضحة على براءته، لا يستحق الحد الذي وجب عليه؛ لأن هذا مما يدفع عنه حد الزنى، والتعرض لعرض النبي [، فلا يستحق القتل لا ردّة ولا حدّاً، والله أعلم.
باب في قول تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ}.
2155. عَنْ جَابِرٍ : أَنَّ جَارِيَةً لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ يُقَالُ لَهَا : مُسَيْكَةُ، وَأُخْرَى يُقَالُ لَهَا : أُمَيْمَةُ، فَكَانَ يُكْرِهُهُمَا عَلَى الزِّنَى، فَشَكَتَا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ [، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} إِلَى قَوْلِهِ:{غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
الشرح: باب في قول تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} وأورد فيه حديث جابر [.
وهذا الحديث هو في آخر كتاب التفسير من صحيح مسلم.
وجابر [ هو جابر بن عبدالله بن حرام الأنصاري، صحابي جليل ابن صحابي، وهو ممن أكثر الرواية عن النبي [، فروى عنه أكثر من ألف حديث.
- قوله : «إن جارية لعبدالله بن أبي ابن سلول» وهو كبير المنافقين في المدينة، وقائل الأقوال الكفرية الخبيثة التي حكاها عنه القرآن، كقوله: {لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا} (المنافقون : 7)، وقوله: {لئنْ رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذل } (المنافقون : 8) وغيرها من الأقوال المروية عنه، التي تدل على نفاقه العقدي القلبي - والعياذ بالله تعالى - وهذا الرجل له أيضا أفعال وأخلاق سيئة وقبيحة، حتى بعد مجيء الإسلام للمدينة، فقد كان يعمل بأعمال الجاهلية؛ إذ كان له جوارِ أي إماء مملوكات له، ومنهن جاريتان يقال لإحداهما: مسيكة والأخرى أميمة، وكان يكرههما على الزنى بالأجرة ؟ كعادة أهل الجاهلية، وأهل الجاهلية لا خُلق ولا دين يمنعهم من ارتكاب الفواحش، فكان الرجل منهم يقول لجاريته : اذهبي وابتغي لنا، أي يرسلها لتزني بالأجرة لتأتيه بالمال، أو يضرب عليها ضريبة بأن تخرج له كل يوم كذا من المال، من أي سبيل تكسبه، هذا كان حال أهل الجاهلية كما قلنا، وقد قال النبي [: «ثمنُ الكلب خبيثٌ، ومهر البغي خبيث، وكسبُ الحجّام خبيث» رواه مسلم في المساقاة ( 3/1199).
وقال [: «شر الكسب مهر البغي...».
- وأيضا ورد في الحديث عن أبي مسعود الأنصاري : «أنه نهى [ عن ثمنِ الكلب، ومهرِ البغي، وحُلوان الكاهن » رواهما مسلم.
فمهر البغي هو ما تأخذه الزانية على الزنى، وسماه مهراً لكونه على صورته.
وحلوان الكاهن هو ما يدفع للكاهن مقابل الكهانة أو التكهن والرجم بالغيب، كأن يقول له : أنت ستسافر أو ستتزوج وسيحصل لك كذا وكذا، ويتكهّن له، فيعطيه مالاً مقابل هذه الكهانة، ومثله أصحاب الأبراج وتحليل الشخصية بالخط.
فمهر البغي هو الذي ورد ذكر منعه وتحريمه في هذه الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } (النور : 33)، فالبغاء هو الزنى يقال : بغت المرأة تبغي بغاء، إذا زنت وفجرت، وهذا مختص بالنساء، فلا يقال للرجل إذا زنى : بغى، والجمع: بغايا، فنهى الله عز وجل عنه وقال: {ولا تُكرهوا فتياتكم على البغاء } الإكراه هو الإجبار، أي لا تجبروهن على الزنs لأنه مما حرم الله ونهى عنه: {إنْ أردن تحصنا} أي : إذا أرادت إحداهن التحصن والعفة عنه، وهذا ليس فيه استثناء ولا قيد، وإنما خرج مخرج الغالب، وإلا فإنه لا يجوز دفعهن إلى الزنى بالأجرة ولو رضين بذلك، فليس معنى قوله تعالى: { إن أردن تحصنا} أنهن إذا لم يردن تحصنا يجوز هذا العمل، وهذا يسمى عند أهل الأصول وأهل اللغة : بالقيد الكاشف، يعني الذي يكشف المعنى ويوضحه.
وهذا له أمثال في القرآن كقول الله سبحانه وتعالى: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} بغير حق، يعني أنه لا يمكن أن يقتل النبي بحق، لكن لأنّ كل من قتل نبياً فقد قتله بغير حق، ذكّر السامع بذلك، فهذا مما يكشف المعنى، وكذا قول الله تعالى: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } (المؤمنون : 117)، ومعلوم أن كل من يدعو ويعبد مع الله إلها آخر، فليس له برهان ولا دليل، لكن هذا من باب البيان أن من دعا مع الله عز وجل إلها آخر أنه دعاه بغير علم ولا برهان.
ولا شك أن المرأة إذا أرادت التحصن وأجبرها سيدها على البغاء، يكون الأمر أقبح مما لو كانت المرأة راضيةً به، لكن لو أنها رضيت فهو مما لا يجوز أيضا.
- وقوله تعالى: {لتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (النور : 33)، أي الدافع لكم على هذا العمل القبيح الرغبة في المال، والرغبة في الدنيا، وهكذا اليوم نجد أن هذه التجارة الخبيثة الخسيسة القبيحة رائجة، ويسمونها : تجارة الرقيق الأبيض؟! وهي المتاجرة بالنساء وأجسادهن وصورهن العارية؟ وهي تجارة رائجة في العالم للأسف الشديد؟؟! في الصحف والمجلات الساقطة، وفي الفضائيات الماجنة الخبيثة التي همّها وقصدها جذبُ أكبر عددٍ من المشاهدين، والاستفادة من أموال الاتصالات والرسائل النصية منهم ؟! وغير ذلك مما يجنونه من المال السحت، والكسب الحرام عن هذا الطريق الخبيث القبيح، وكل ذلك من أجل المال والدنيا الفانية، ويغرون الناس بارتكاب الفاحشة والخيانة، والعلاقات الآثمة، ويقولون بعد ذلك : العالم المتحضر ؟؟! وهو في الحقيقة واقع فيما هو أقبح وأوسع مما كان عليه أهل الجاهلية السابقون من الإثم والفساد ؟! فتجارة الرقيق اليوم أخبث مما كان عليه الناس في الجاهلية وأوسع انتشارا.
- وقوله: {وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي : لو أكرهت المرأة على ذلك فلا إثم عليها، والإكراه يكون بالضرب الشديد، أو يكون بالأذى الشديد الذي لا تطيقه المرأة، أو التهديد بالقتل ونحوه، فلو أكرهت على هذا الطريق بذلك، فهي معذورة عند الله، وهذا جار على قاعدة المكره والمجبر فإنه لا إثم عليه كما هو معلوم.
وقيل: المعنى : من فعل ذلك منكم وأكرههن على الزنى، فليتب إلى الله تعالى، وليقلع عما صدر منه مما يغضب الله.
وإن فعلته وهي مختارة، ثم تابت وندمت وعملت صالحاً، تاب الله سبحانه وتعالى عليها.
- وقوله سبحانه: {فتياتكم} الفتيات هنا هن: الإماء، تسمى الأَمة المملوكة: فتاة، ويسمى العبد: فتى، وهذا من أسماء العبيد والإماء.
والله تعالى أعلم.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #38  
قديم 30-03-2024, 10:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

شرح كتاب التفسير من مختصر مسلم للمنذري – 38

(سورة الفرقان ) اتساع باب التوبة

اعداد: الفرقان

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

باب في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} (الفرقان: 68).
2156- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا، ثُمَّ أَتَوْا مُحَمَّدًا[ فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو لَحَسَنٌ، وَلَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً ، فَنَزَلَ {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا}، وَنَزَلَ {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}.
الشرح:
هذا الحديث في سورة الفرقان ، وهي سورة مكية، وقد أخرجه الإمام مسلم في كتاب الإيمان، وبوب عليه النووي: كون الإسلام يهدم ما قبله، وكذا الحج ، والهجرة، الإسلام يهدم ما قبله، الحج يهدم ما قبله، الهجرة تهدم ما قبلها.
يقول ابن عباس رضي الله عنه: «إن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا» يعني: أسرفوا على أنفسهم في القتل، والزنا، وارتكاب الفواحش، والمحرمات والكبائر.
قوله: «ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: إن الذي تقول وتدعوا إليه لحسن» دعوتك والإسلام الذي تدعو إليه أمر حسن ، وأمر جميل ، ودين عظيم ، ولو تخبرنا أن لما فعلنا أو لما علمنا كفارة ، لأسلمنا وآمنا، ودخلنا في دينك، وهذا سائغ في اللغة العربية وهو أن يحذف جواب السؤال، إذا كان معلوما للسامع، كما ورد ذلك في كثير من الآيات، كما في قوله تعالى مثلا: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يرجع بعضهم إلى بعضهم القول..} (سبأ : 31} ولم يذكر تعالى الجواب؟ والجواب: لو رأيت حالهم، لرأيت أمرا عظيما وجللا.
وكذا قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ}.
وقوله عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} (الأنعام: 93}، يعني: لرأيت أمرا مهولا عظيما، فهذا وأشباهه جائز وسائغ في اللغة العربية، وهو أن يحذف الجواب إذا كان معلوما.
فهؤلاء قالوا: لو تخبرنا أن لما عملنا من الآثام كفارة لأسلمنا، يعني هم كانوا يرغبون بالتوبة، وقد أحبوا الإسلام، ودين الإسلام، لكن ردهم عنه أنهم أكثروا من الكبائر، وأسرفوا على أنفسهم ، فنزلت الآية الكريمة: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ..} (الفرقان: 68)، وهذه كبائر الذنوب وعظائم الأمور ، فالشرك هو فساد الأديان، والقتل فساد الأبدان، والزنا فساد الأعراض والنسل، وكلها كبائر عظيمة تتعلق بالضروريات الخمس التي بها قوام حياة الناس، ولا تتم مصالح بني آدم إلا بها، وهي: حفظ الدّين، وحفظ النفس، وحفظ العرض، وحفظ المال، وحفظ النسل، ولهذا خصها الله سبحانه وتعالى بالذكر في الآية، فقال: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ..} (الفرقان: 68) {لا يدعون} يعني: لا يسألون ويطلبون، فالدعاء بمعنى السؤال والطلب والإلتجاء إلى غير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، فهم لا يشركون بالله عز وجل، بل يخلصون له العبادة {ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق }؛ فلا يعتدون على الأنفس المعصومة، من مسلم أو كافر معاهد {إلا بالحق} أي: بالقصاص النفس بالنفس، وقتل الزاني المحصن، والمرتد عن دينه : { وَلَا يَزْنُونَ} لا يقعون في جريمة الزنا، {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} قال ابن عمرو: هو واد في جهنم، وقيل: يجازى جزاءً شراً لآثامه التي ارتكبها ، وهو ما ذكره بقوله: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُيَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: يغلّظ عليه ويكرّر {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} (الفرقان: 68 - 69)، يخلد في العذاب ، والخلود هو البقاء الطويل، وهو أبدي سرمدي إذا جمع هذه الثلاث، إذا جمع بين الشرك والقتل والزنا، خلد في نار جهنم، وكذا إذا اقتصر على الشرك، لكن إذا بريء من الشَّرك لا يخلد في نار جهنم، ولو زنا أو سرق، وهذا بنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية ، قال تعالى: { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 48 ، 116).

فالخلود هو لأهل الشرك والكفر، وأما أهل الكبائر ، فإنهم لا يخلدون في النار.
وقوله: {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} (الفرقان: 70) أي من تاب إلى الله عز وجل توبة صادقة، تاب الله عليه، وان كان قد أشرك بالله تعالى، وإن كان قد قتل، وان كان قد سرق، أو زنا أو شرب الخمر، فمن تاب وندم وأقلع عن ذنبه ورجع إلى الله سبحانه وتعالى فان الله يتوب عليه.
ونزل أيضا جواباً لهؤلاء الذين جاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: «إن الذي تدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما فعلنا كفارة» نزل قول الله تعالى في سورة الزمر: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر : 53)، وهذه الآية في الحقيقة فيها تلطفٌ عظيم بالعصاة وأصحاب الكبائر ، وأول ما يدل على اللطف فيها: أن الله عز وجل ناداهم ونسبهم إلى نفسه ، فقال (قل يا عبادي) فهذا ترفقٌ بهم منه سبحانه وتعالى، أي فأنتم عبادي وأنتم خلقي، والله سبحانه وتعالى هو خالقكم وهو الذي يناديكم سبحانه، فيقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} (الزمر : 53) يعني بالغوا في ارتكاب الذنوب والمعاصي والسيئات، وأكثروا وكرروا إلى حد الإسراف في هذا الباب: {لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} لا تيأسوا من رحمة الله، والقنوط هو اليأس {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} لمن تاب إليه وهو حي، فمن تاب إليه وهو حي فان الله يغفر ذنبه كله، ولو كان قد أشرك بالله أو كفر، أما بعد الموت فان الله لا يغفر للمشرك أبدا، كما قال تعالى أيضا: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} (المائدة: 72).
وقوله: {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، {الغفور}: كثير المغفرة وهذه صيغة مبالغة، والرحيم البالغ الرحمة، فهذا من الترهيب للذي كانوا على الكفر والشرك والكبائر وأرادوا العودة إلى الله عز وجل رغبهم بهذه الترغيبات نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا.
سورة ألم تنزيل السجدة
باب : في قوله تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (السجدة : 17).
2157- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه[: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ، ذُخْرًا بَلْهَ مَا أَطْلَعَكُمْ اللَّهُ عَلَيْهِ ثُمَّ قَرَأَ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُن}.
الشرح:
سورة السجدة وتسمى أيضا بسورة : ألم تنزيل السجدة، تميزا لها عن بقية السور المتشابهة التي افتتحت بـ ألم وروى فيها حديثان ولذلك قال باب في قوله تعالى: {فلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} وهذا الحديث: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قد أورده الإمام مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها.
قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يقول الله عز وجل...» أي أن الحديث حديث قدسي يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل.
قوله: يقول الله عز وجل: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت» أي: لم تر عينٌ ما أعددت لعبادي الصالحين، ولم تسمع أذن بما أعددت لعبادي، ولا خطر على قلب بشر ما أعددت لعبادي، وهذا نفيٌ عام، فلا توجد عين رأت ما أعد الله لعباده الصالحين في جنات النعيم، وهذا العام مخصوص بما رآه النبي صلى الله عليه وسلم من رؤيا العين في ليلة المعراج، وما رآه النبي صلى الله عليه وسلم في منامه مما قصه على الصحابة في حديث الرؤيا الطويل، ورؤيا الأنبياء حق، فربنا سبحانه وتعالى قد أعد في الجنان مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
قوله: «ذخرا» أي ادخر لهم ذلك، يعني ادخره الله سبحانه وتعالى لهم في الآخرة قوله: «بله ما أطلعكم عليه» بله: يعني دع عنك ما أطلعكم عليه «فإن الذي لم يطلعكم الله عليه أعظم». وفي رواية: «بله ما أطلعتكم عليه» يعني ما أطلعكم الله عليه مما ذكره لكم في القرآن والسنة، هو شيء يسير مما ادخره الله للصالحين، والصالحون هم الذين جمعوا بين الإيمان الصحيح، والعمل الصالح المخلص، الذي يصدق فيه صاحبه، ثم قرأ قول الله تعالى: {فلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (السجدة: 17)، وفي رواية أخرى قال: مصداق ذلك في كتاب الله: {َفلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ}، وقوله تعالى: {فلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} النفس هنا جاءت أيضا منكرة، أي: فلا تعلم أي نفس من النفوس، أي نفس كانت، ما أخفاه الله لأولئك الذين تقدم لكم صفتهم، فإن الله سبحانه وتعالى قال قبل هذه الآية: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (السجدة: 16)، تتجافى جنوبهم يعني : تتباعد جنوبهم عن المضاجع ، يعني عن الفرش، أي أنهم يتركون لذيذ النوم على الفراش، ويقومون لصلاة الليل، لأن الصلاة عندهم ألذ ، والقراءة عندهم أشهى، وهذا الأمر في العادة لا يعلم به الناس؛ لأن التجافي عن الجنوب وترك النوم عادة يكون في البيوت . وقال بعض أهل التفسير: أنهم لا ينامون قبل صلاة العشاء، لأن من نام قبل صلاة العشاء في العادة تفوته صلاة العشاء، ولذلك هم يصبرون ولا ينامون حتى يصلون العشاء، وورد في حديث البخاري: «أن النبي[ كره النوم قبل العشاء، والسمر بعدها»، لأن النوم قبل العشاء في العادة يضيع العشاء، والسهر بعد العشاء قد يضيع صلاة الفجر، ويضيع قيام الليل، فمن سهر بعد صلاة العشاء طويلا فانه تفوته صلاة الفجر وصلاة الليل في الغالب، فالنبي صلى الله عليه وسلم كره هذا وهذا، وهذه الكراهة تصل إلى التحريم فمن علم أنه من نفسه أنه إن نام قبل صلاة العشاء ستفوته صلاة العشاء حتما، فإنه يحرم عليه النوم، وكذلك السهر، فمن علم أن هذا السهر يضيع عليه صلاة الفجر، فإنه يحرم عليه هذا السهر.
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} من الزكوات والنفقات الواجبة، والصدقات المستحبة، سرا وعلنا.
وهؤلاء لما كانوا يقومون ولا يشعر بهم أحد، كان الجزاء من جنس العمل، فقال الله تعالى: {فلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ}، يعني ما تقر به الأعين من النعيم، (فلا تعلم) يعني على وجه التفصيل، أما على وجه الإجمال فنحن نعلم أن هناك جنات وأشجار وثمار، وقصور وبيوت، ولباس من الحرير والسندس، وحلي من الذهب، وأواني من الذهب والفضة، ومآكل ومشارب رفيعة وغيرها، لكن هذا كله على وجه الإجمال بالنسبة للحقيقة، فمن حيث التفصيل نحن لا نعلم ما أعد الله تعالى للمؤمنين من النعيم، أما من حيث الإجمال فنحن نعلم جزاء ما كانوا يعملون، مما ذكر الله تعالى من أعمالهم الصالحة التي تقدم ذكرها.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #39  
قديم 31-03-2024, 10:34 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(39)

العـذاب الأدنـى

اعداد: الفرقان


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
باب في قوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ}.
2158- عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَ: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ}، قَالَ: مَصَائِبُ الدُّنْيَا، وَالرُّومُ وَالْبَطْشَةُ أَوْ الدُّخَانُ - شُعْبَةُ الشَّاكُّ: فِي الْبَطْشَةِ أَوْ الدُّخَانِ.
الشرح:
- الحديث الثاني في سورة السجدة في قوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لعلهم يرجعون}، هذا الحديث حديث أبي بن كعب رضي الله عنه رواه الإمام مسلم في كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، وأورده الإمام المنذري هاهنا في كتاب التفسير.
- يقول أُبَي بن كعب في قوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} (السجدة: 21)، قال: مصائب الدنيا، يعني: ما يعذبهم به في الدنيا من المصائب قبل الآخرة: {لعلهم يرجعون} إلى الله، أي لعلهم يتوبون، ولعلهم يتعظون ويتذكرون، وهذه الآية شبيهة بقوله تبارك وتعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الروم: 41)، ظهر الفساد، يعني: بان النقص في الخيرات في البر والبحر، هذا معنى الفساد ها هنا، يعني نقص الخيرات والقحط والآفات التي تصيب الزروع والثمار في البر، أو الآفات التي تصيب البحار فتنقص خيرات البحر من الأسماك والحيوانات، هذا النقص سببه ما كسبت أيدي الناس من المعاصي والآثام: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، أي: إلى الله تعالى، فالإنسان إذا أخذ بالفقر ونقص الأموال، أو بالأمراض أو بالشدائد؛ فإنه يرجع إلى الله سبحانه وتعالى ويتوب من معاصيه.
- وقال أبو العالية: من عصى الله فقد أفسد في الأرض؛ لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة.
- ولهذا ثبت في الصحيحين: «أن العبدَ الفاجر إذا مات، يَستريح منه العبادُ والبلاد والشجر والدواب».
- والله تبارك وتعالى قال هاهنا: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى}، العذاب الأدنى يعني الأقرب وهو ما قبل الموت، فالعذاب الذي يعذبون به قبل الموت دون العذاب الأكبر، فهو عذاب الدنيا . وقيل: {العذاب الأدنى} إقامة الحدود؛ فالإنسان إذا أتى كبيرة من الكبائر كالسرقة أو شرب الخمر أو الزنى وأقيم عليه الحد؛ فهذا نوعٌ من العذاب المعجّل له. وأيضا: أنواع ما يبتلى به الإنسان من الهموم والغموم والأحزان ، هذا كله من العذاب الذي يعجله الله تعالى للناس، حتى يتذكروا قبل الممات، ولا يصيبهم العذاب الأكبر الذي يكون يوم القيامة، فما يصيب الناس في دنياهم هو من الرحمة الربانية، فالله تعالى لو ترك العاصي يفعل ما يشاء ولم يعذبه بشيء، ولم يرده عنه، ولم يسلط عليه أي شي، كان هذا شر له ليس بخير، فإن الشر للإنسان أن يترك يفعل ما يشاء حتى يأتيه الموت ثم يجازي بكل أعماله، فهذا شر له وليس بخير.
- ولذلك لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : إن فلانا لا يصيبه صداع ولا تصيبه حمى، قالصلى الله عليه وسلم : «أف، هذا من أهل النار» رواه أحمد.
فالذي لا يصيبه شيء، هذا يدل -والعياذ بالله– على أن الله تعالى ما أراد به خيراً، فالعذاب الأدنى إذن يشمل كل مصائب الدنيا.
- وقوله: «الروم والبطشة»، يعني أن هذا أيضا داخل في عذاب الله الأدنى، والبطشة: هي ما حصل من القتل والجراح للمشركين يوم بدر، وقيل: البطشة ما أصاب أهل مكة من السنين التي هي سنو الجوع والجدب والقحط، حتى أكلوا الجيف والعظام من شدة الحاجة، فأذاقهم الله تعالى هذا العذاب المؤجل.
- وقوله: «شك شعبة هل هو الروم أو الدخان» يعني هل ما جاء في أول سورة الروم، أو ما جاء في الدخان الذي ذكره ربنا عز وجل بقوله: {يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} (الدخان: 11)، لكن الأول هو الأقوى. وقيل: العذاب الأدنى هو عذاب القبر؛ لأن عذاب القبر دون العذاب الأكبر الذي يكون يوم القيامة، لكن هذا التفسير غير صحيح بدليل أن الله سبحانه وتعالى قال: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، والذي يعذب في قبره ليس له فرصة في أن يرجع عن عمله السيئ، إذاً لا يصلح أن تفسر الآية بعذاب القبر والله تعالى أعلم.
- وفي عذاب القبر آيات أخر كقوله سبحانه وتعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (غافر: 46).
- وفي قوله سبحانه عن قوم نوح: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً} (نوح: 25) هذه الآية تدل أيضا على عذاب القبر، فبعد الغرق جاءهم الحرق في النار في قبورهم، والعياذ بالله تعالى.
غزوة الأحزاب
باب في قوله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ}.
2159- عَنْ عَائِشَةَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ}، قَالَتْ: كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ.
الشرح:
هذا الحديث في سورة الأحزاب، وقد رواه الإمام مسلم في كتاب التفسير أيضا، وهو في تفسير قوله تعالى من سورة الأحزاب الآية العاشرة، قال سبحانه: {إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} (الأحزاب: 10)، وهذا إخبار من الله تعالى عما حصل لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وتذكير لهم بالنعمة، كما قالت عائشة رضي الله عنها: «كان ذلك يوم الخندق»؛ لأن هذه الآية {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} كان أن جاءت جنود يوم الخندق {مِنْ فَوْقِكُمْ} قالوا: أي من أعلى الوادي، وهم غطفان وسيدهم عيينة بن حصن، وهوازن وسيدهم عوف بن مالك، وأهل نجد وسيدهم طليحة بن خويلد الأسدي، وانضم إليهم من اليهود بنو النضير من المدينة، فهؤلاء كلهم جاءوا: {من فوقكم} يعني من جهة المشرق.
- {ومن أسفل منكم} أي: من جهة الغرب من ناحية مكة، وهم قريش ومن معهم من الأحابيش وهي القبائل المجتمعة، وسيدهم أبو سفيان بن حرب، وجاء معهم الأعور السلمي ومعه حيي بن أخطب اليهودي في يهود بني قريظة من وجه الخندق ومعهم عامر بن الطفيل، ومعنى الأحزاب: أي الذين تحزبوا لحرب النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه واجتمعوا عليهم من أهل نجد والحجاز.
- وقوله: {وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}، زاغت الأبصار، يعني: مالت وعدلت عن كل شيء، فلم تنظر إلا إلى عدوها.
- وقيل: {زَاغَتْ} أي شخصت بسبب الدهشة والهول والحيرة، فالإنسان إذا أصابه الفزع فإن عينه لا تكاد تطرف؛ بل ينظر ويحدق بالهول الذي أمامه من شدته، وهذا بسبب تعاون الأعداء على النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه .
{وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ} الحناجر جمع حنجرة، ومعروف أنها تكون في الحلقوم، وهي التي يتكلم بها الإنسان، فالوصف القرآني يقول: إن القلوب بلغت الحناجر يعني أن القلوب وصلت إلى الحلقوم من شدة الخوف والفزع، وهذا تصوير لما حصل لبعض الناس الذين كانوا في المدينة، وليس لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الكبار الذين يعرفون بالشجاعة والبسالة والرأي والإقدام رضي الله عنهم وأرضاهم، بل هو إخبار لما حصل لبعض الناس الذين كانوا في المدينة من ضعاف الإيمان، ولاسيما أهل النفاق الذين وصفهم الله عز وجل بأنهم {يحسبون كل صيحة عليهم} المنافقون. وقال عز وجل عنهم: {فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} (الأحزاب: 19)، وهذا من شدة الخوف، فالمعنى: أن القلوب كأنها ارتفعت من مكانها ووصلت إلى الحلقوم وإلى الحناجر، ولولا أن الحنجرة وقفت في طريقها لخرجت القلوب، لكن ضيقت الحناجر على القلوب، وإلا لكانت انخلعت الأفئدة وخرجت من أماكنها! هذا من شدة الفزع عافانا الله جميعا منه.
- وقوله: {وتظنون بالله الظنونا}، أي: الظنون بالله تعالى مختلفة، فأما أهل الإيمان فقالوا كما أخبر الله: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيما} (الأحزاب: 22)، فهذا حال أهل الإيمان والصلاح من الصحابة رضي الله عنهم، وأما أهل النفاق فجزعوا وخافوا وذهب صبرهم، فقالوا: {يا أهل يثربَ} نادوهم باسم الوطن!! إشارة إلى أنهم لا يبالون بأخوة الدين، ولا يقدرون الإيمان قدره.
- وقوله: {هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا} بهذه الفتنة الشديدة، كان الاختبار بها عظيما، لكن ظهر إيمانهم ويقينهم بالله بما فاقوا به الأولين والآخرين، فرضي الله عنهم جميعا.
- وقوله: {لا مُقام لكم فارجعوا} أي: ما بقي أحد في موضعكم الذي خرجتم إليه، وهؤلاء الأعداء سيستأصلون كل الناس فلا يبقى منهم أحد، فارجعوا إلى المدينة! فهذا ظنهم السيئ بالله تبارك وتعالى؛ لنفاقهم ولعدم يقينهم، إلا أن الله سبحانه وتعالى ناصر عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم أولاً وآخرا.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #40  
قديم 31-03-2024, 10:38 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري

شرح كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم للمنذري(40)

بيان شيء من عظمة الله عز وجل وصفاته

اعداد: الفرقان




الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، [ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
سورة يس
باب في قوله تعالى {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} (يس: 38)
2160. عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قَالَ: «مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ».
الشرح: سورة «يس» أورد فيها حديث أبي ذر ]، وقد رواه الإمام مسلم في كتاب الإيمان، في باب بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان.
وأبو ذر هو جندب بن جنادة الغفاري الصحابي المشهور، مات سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان ].
قوله: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} قال: مستقرها تحت العرش» وهذا الحديث سبق لنا شرحه عند قوله تبارك وتعالى من سورة الأنعام: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً}(الأنعام: 158)، وتكلمنا عن مستقر الشمس الذي ذكره الله تبارك وتعالى، وأن له معنيين:
الأول: أن معنى مستقرها، أي: تحت العرش، فإنها إذا غربت كل يوم استقرت تحت العرش، فهذا المستقر المكاني.
الثاني: أن معنى مستقرها هو المستقر الزماني: فهي تستأذن في الخروج كل يوم، فيقال لها: اطلعي كما كنت تطلعين، فتصبح طالعة من المشرق، حتى يقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، في اليوم الذي حدّده الله سبحانه وتعالى لها، ويغلق عندها باب التوبة، فمعناه أنها تجري إلى وقت لها وأجل لا تتعداه وهذا التفسير الثاني لقوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا}، فالتفسير الأول يتكلم عن المستقر المكاني، أن مكان الشمس كل ليلة يكون تحت العرش، أما التفسير الثاني فهو أن المستقر هو يوم القيامة فالشمس تظل تجري كل يوم تشرق وتغرب، حتى يأتي يوم القيامة الذي هو الأجل الذي ينتهي فيه سير الشمس وذلك عند قرب انقضاء الدنيا.
وأيضا فالشمس لها منازل تنتهي إلى آخرها كل عام، فالشمس لها في كل يوم منزل تطلع منه ومنزل تغرب فيه، وهي منازل متعددة خلال العام وتسمى بالبروج، وهناك اثنى عشر برجا في كل شهر تنتقل السماء إلى برج منها.
سورة الزمر
باب في قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}
2161. عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: جَاءَ حَبْرٌ إِلَى النَّبِيِّ [ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ - أَوْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ - إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَجُّبًا مِمَّا قَالَ الْحَبْرُ، تَصْدِيقًا لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
الشرح: سورة الزمر وأورد فيها حديث ابن مسعود ] المتعلق بهذه الآية من سورة الزمر، والذي أخرجه الإمام مسلم في صفة القيامة والجنة والنار.
يقول عبدالله بن مسعود: «جاء حبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم » والحبر بفتح الحاء وكسرها، والفتح أفصح، هو العالم من اليهود وغيرهم.
فقال: «يا محمد، أو قال يا أبا القاسم» ولم يقل: يا نبي الله أو يا رسول الله، وهذا إما من استكبارهم عن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم والتصديق برسالته، ومن العناد والمكابرة التي كان عليها أهل الكتاب في زمنه صلى الله عليه وسلم ، وإلا فهم يعلمون أنه رسول الله، كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (البقرة: 146) يكتمون الحق وهو الشهادة له بالنبوة وبالرسالة، وهم يعلمون في قرارة أنفسهم أنه رسول الله، وأنه نبي الله المبعوث آخر الزمان، فهو لم يسم النبي صلى الله عليه وسلم باسم النبوة أو باسم الرسالة، وإنما قال: يا محمد، وهذا مما نهيت عنه الأمة المسلمة، فالله تبارك وتعالى نهى هذه الأمة عن مناداة الرسول صلى الله عليه وسلم باسمه، كما في قوله سبحانه: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضاً} (النور: 63) يعني لا تجعلوا مناداة الرسول فيما بينكم كمناداة بعضكم لبعض؛ لأن مقام النبوة مقام عظيم وشريف، فينبغي أن يحترم وأن يوقر ويكرم؛ لأن تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وتوقيره واحترامه من شعائر الله، وهو دال على الإيمان، كما قال سبحانه: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}(الفتح: 9)، والتعزير معناه: النصرة لدينه، ولهديه ولسنته، وتوقروه والتوقير هو الاحترام والتبجيل، فهذا من واجب المؤمنين والمؤمنات تجاه نبيهم.
قوله: «إن الله يمسك السموات يوم القيامة على إصبع، والأرضين على إصبع» وهذا فيه أن السموات سبع، والأرضون سبع أيضا، كما قال الله تبارك وتعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ}(الطلاق: 12)، وأما كيفية هذه الأرضين السبع؟ فقال بعضهم: هي سبع طبقات للأرض، كل طبقة تحتها طبقة، وهكذا إلى سبع طبقات. وقال بعض أهل العلم: الأرضون السبع هي القارات السبع، فيكون هذا من علامات النبوة، وإلا فما الذي عرف النبي صلى الله عليه وسلم وهو من العرب أن هناك سبع قارات؟! وهذا ربما لم يعلم إلا بعد ألف سنة، وهذا من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله: «والجبال والشجر على إصبع» أي إن الله عز وجل يحمل كل جبال الأرض وشجرها، هذه الجبال الرواسي الصم العظيمة الشامخة، مع الشجر الذي في الأرض في الغابات وغيرها كلها يحمله على إصبع.
وقوله: «والماء والثرى على إصبع» الماء الذي في الأرض كله، والأرض أكثرها ماء، بل ثلاثة أرباع الأرض ماء، ويحمل الثرى الذي هو التراب، تراب الأرض كله والماء يحمله سبحانه وتعالى على إصبع من أصابعه.
قوله: «وسائر الخلق على إصبع» وسائر الخلق من الناس ومن الجن والحيوان والطير وغيرها كله يحمل على إصبع، وهذا من عظمة الله سبحانه وتعالى، ومن تمام قدرته وقوته، وهو سبحانه وتعالى كما وصف نفسه، قوي عزيز، واسع عليم، كبير متعال، وغيرها من الأسماء التي تدل على السعة والعظمة والكبرياء، الذي لا يحيط به الإنسان علما.
وإذا أمسك هذه الخمسة على أصابعه سبحانه وتعالى: «يهزهن فيقول: أنا الملك أنا الملك» وهذا دليل السلطان والسيادة العليا المطلقة، التي لا تساوي أي سلطة أو سيادة، فهذه المخلوقات كلها يمسكها الله عز وجل يوم القيامة، السموات السبع والأرضين السبع والجبال والشجر والماء والثرى وسائر الخلق من الإنس والجن وغيرهم من مخلوقات الله سبحانه وتعالى، يمسكها الله كلها على أصابعه، ثم يقول عز وجل: أنا الملك أنا الملك، أي: أنا الملك وبيدي الأمر كله، وإلي يرجع الأمر كله، فالتدبير لي والأمر والنهي لي، والملك والخلق والإيجاد لي، فالله سبحانه وتعالى هو الملك حقا، وكل ملك وكل مُلك فهو زائل لا محالة، أما الملك الباقي فهو ملك الله سبحانه وتعالى، وأما أملاك الناس فكلها ستزول.
وهذا الحديث من أحاديث الصفات، ومذهب أهل السنة والجماعة تصديقها والإيمان بها، وعدم التعرض لها ولا ردها، وإجراؤها على ظاهرها لا يتأولون شيئا منها ولا يفسرونه بغير ظاهره، ولا يشبهون الله تعالى بشيء من مخلوقاته.
قال الإمام النووي: « هذا الحديث من أحاديث الصفات، وفيه مذهبان: التأويل، والإمساك عنه مع الإيمان بها، مع اعتقاد أن الظاهر منها غير مراد؟! فعلى قول المتأولين يتأولون الأصابع فيها على الاقتدار؟! أي: خلقها مع عظمها بلا تعب ولا ملل، والناس يذكرون الأصابع في مثل هذا للمبالغة والاحتقار، يقول أحدهم: بإصبعي أقتل زيدا، أي: لا كلفة علي في قتله. وقيل: يحتمل أن المراد أصابع بعض مخلوقاته؟ وهذا غير ممتنع والمقصود أن يد الجارحة مستحيلة؟!».
هذا كلام النووي، ولا شك أنه غلط يخالف مذهب أهل السنة والجماعة، أما مذهب التأويل فهو مذهب المتكلمين وهو مذهب مردود، لم يأذن الله سبحانه وتعالى فيه، وفيه نوع من تكذيب الكتاب والسنة الصريحة، التي ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وقد قال أهل العلم: إن المتأول لآيات الصفات أو أحاديث الصفات يقع في محظورين اثنين:
المحظور الأول: تعطيل الصفات، فالمؤول يعطل الصفة ويقول: ليس المراد من الأصابع هو كذا، ولا شك أن هذا تعطيل للصفة.
المحظور الثاني: أنه جاء بتفسير من عنده للصفة الربانية.
فيكون ارتكب خطأين اثنين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم إننا نقول: أين أقوال الصحابة في هذه التأويلات؟ هل ورد عن الصحابة أنهم قالوا: إن الأصابع هي القدرة، أو إن الأصابع هي أصابع بعض مخلوقاته؟ أو إن اليد هي القدرة؟ وإن الوجه هو الذات؟ وهكذا إلى غير ذلك من التأويلات الفاسدة التي فيها تعطيل لصفات المولى جل جلاله، وقدست أسماؤه، وليس فيها التنزيه، بل فيها التعطيل.
أما تنزيه أهل السنة والجماعة فهو مبني على عدم التمثيل للصفات، فنقول: إن لله سبحانه وتعالى الصفات العلا دون تمثيل، كما قال الله تبارك وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} فليس كمثله شيء، نفي للمماثلة، وقوله: {وهو السميع البصير}، إثبات للصفات، أما هؤلاء الذين عطلوا صفات الله تبارك وتعالى وأخروها عن الكمال والجلال والجمال، فعطلوا ربنا عز وجل أن يوصف بصفات الجمال وصفات القوة والعظمة، وصفات الكمال، فيأتي إنسان مخلوق جاهل بربه فيعطل هذه الصفة أو تلك، فإذا عطل هذه الصفة يكون قد أخلى الله عن صفات كماله التي وصف بها نفسه في كتابه الكريم أو على لسان رسوله الأمين، وهذه جرأة عظيمة على الله تعالى!
كما أن مذهب الإمساك عن إثبات الصفات أيضا مذهب باطل، فالذي يقول أنا أقرأ الحديث والآية، دون أن أتعرض لبيانها وتفسيرها وفهمها وأفوض علم معناها إلى الله! فليس هذا المذهب موافقا لمذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان؛ لأننا لو سألنا الصحابي عن معنى قول الله تعالى: {يد الله}، فإنه لا يقول: لا أدري ما اليد؟! وإذا قلنا للصحابي: ما معنى «إن الله يمسك السموات على إصبع» ما الإصبع؟ فإنه لا يقول: لا أدري؟ فالصحابي لا يمكن أن يقول هذا الكلام، بل الصحابي يعرف معنى الإصبع ويعرف معنى الوجه واليد، ويعرف معنى صفات الرحمة والسمع والبصر والكلام؛ لأن هذه كلها لها معان واضحة في لغتهم العربية التي خاطبهم الله سبحانه وتعالى بها في الكتاب والسنة.
كذلك إقرار النبي صلى الله عليه وسلم للحبر كما في قول الصحابي عبدالله بن مسعود وهو الإمام الحبر من الصحابة قال: «فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبا مما قال الحبر تصديقا له» فهذا يدل على الموافقة لا المخالفة؟ فلم يخالف صلى الله عليه وسلم الحبر، ولم يقل له: كلامك باطل! أو كلامك فيه تجسيم أو هذا سوء أدب مع الله، أبدا ما قال ذلك صلى الله عليه وسلم ذلك، بل النبي صلى الله عليه وسلم تعجب وضحك؛ لأن هذا يوافق القرآن الكريم، والدليل أنه عليه الصلاة والسلام قرأ تصديقا لقول الحبر قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (الزمر: 67)، فهذه الآية توافق كلام الحبر؟ وقول الصحابي هنا: تصديقا له، لا يقال كما قال بعض المتكلمين: هو من كلام الراوي، أو من فهم الراوي، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ضحك ردا لقوله وتعجبا من جرأته على الله؟! فهذا في الحقيقة إعراض عن الرواية وليٌّ لعنقها بغير دليل ولا برهان، فكلام الحديث واضح وكلام الصحابي واضح وفعل النبي صلى الله عليه وسلم واضح، ولا يفهم من كلام الله تعالى التجسيم، ولا يفهم من كلام رسوله صلى الله عليه وسلم التمثيل؟! بل ربنا سبحانه وتعالى منزه ومقدس عن التمثيل وعن التشبيه، ولا يجوز للإنسان أن يتأول الصفات بتأويلات بعيده ويحملها على محامل بعيدة أو يأتي باحتمالات فاسدة؛ لأن هذا كما قلنا تكذيب لله تعالى، وجحد لأسمائه وصفاته.
وقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} خطاب للمشركين الذين لم يعظموا الله حق التعظيم، ولم يعطوه حقه من التبجيل والتقديس والتنزيه؛ إذ جعلوا معه آلهة أخرى لا تخلق ولا ترزق، ولا تقدر على الحياة ولا على الموت ولا على النشور، بل لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا.
وقوله: {والأرض جميعا قبضته يوم القيامة} ورد في الصحيحين: في حديث أبي هريرة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ليقبض الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟!».
ملوك الأرض في الدنيا نازعوا الله في ملكه، وحصل منهم تجاوز وطغيان وعدوان على خلق الله، واستكبار واستعلاء، فالله سبحانه وتعالى يخصهم بالذكر يوم القيامة ويناديهم في هذا الموقف الرهيب المهيب، فيقول: أين ملوك الأرض؟ فلا يجيبه أحد، ولا يجرؤ على الكلام بين يديه ملك منهم، فهؤلاء الذين تكبروا على عباد الله وفعلوا الأفاعيل وطغوا وبغوا، إذا ناداهم الله سبحانه وتعالى صمتوا وخرسوا، نعوذ بالله من الظلم والطغيان.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 228.56 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 222.73 كيلو بايت... تم توفير 5.83 كيلو بايت...بمعدل (2.55%)]